جاكوبين»: كيف صار رئيسًا؟ تعرف إلى الأزمة التي وصل بسببها بوتين إلى حكم روسيا

في الخميس ١٣ - سبتمبر - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

التحسينات المادية المتوسطة التي عاشها الروسيّون العاديّون منذ 1999 وصاعدًا أسهمت كثيرًا في شهرة بوتين اللاحقة.

نشرت مجلة «جاكوبين» مقالًا يستعرضُ قصة صعود بوتين للسلطة، والظروف السياسية والاقتصادية التي هيّأت له سيطرته الحاليّة على السياسة الروسيّة. أعد المقال توني وود، مهتمٌ بالشأن الروسي، وله كتابٌ عن روسيا وبوتين. وتاليًا الترجمة الكاملة للمقال:

رغمَ مرورها دونَ الالتفات لها جدد أغسطس (آب) 2018 الذكرى السنوية العشرين لحدثٍ كان مفصليًا في إعادة تشكيل روسيا الحديثة. لا يريد الروس إحياء ذكرى انهيار الروبل عام 1998 لأسباب واضحة. كان لهذا الحدث وتداعياته تأثير أكبر على سياسة البلاد واقتصادها وشؤونها الخارجية، أكبر مما يُقدّر اليوم.

يُنظر لتسلّم بوتين الرئاسة من بوريس يلتسين ليلةَ رأس السنة عام 1999 كأهم نقطة تحوّل في تاريخ روسيا الحديثة. ويُعزّز مكانة اللحظة – كلحظة تحوّل تاريخي – تزامنها مع الدخول في قرن جديد، ولكن الأسس لصعود بوتين للسلطة وُضعت من جوانب مهمّة مختلفة قبل ذلك بأكثر من عام: في صيف 1998. ستساعدنا مراجعة تلك الأحداث على فهم ما جعلَ هيمنة بوتين الطويلة ممكنةً من الأصل.

فوضى اقتصادية

سدَّ عمال مناجم فحمٍ طريقَ السكك الحديدية العابرة لسيبيريا في مناطق
مختلفة؛ احتجاجًا على أجور غير مدفوعة، مُثيرين بذلك احتمالية وقوع اضطرابات
أوسع.

انهيار الروبل عام 1998 كانَ في حد ذاته نتيجة مؤجلة من آثار الأزمة المالية الآسيوية التي بدأت قبل ذلك بعام، ولشهور كافحت الحكومة الروسية لاحتواء تأثيرات الأزمة من اضطرابتها في الشرق. كانت البلاد عالقةً في ركود اقتصادي استمر لعدّة أعوام.

تكثَّفت آثار ما بعد الانهيار السوفيتي بـ«العلاج بالصدمة»، وانتشر الفقر والبطالة في منتصف التسعينات، وانخفض متوسط الأعمار، وبدت علامات الانهيار الاجتماعي ظاهرة. وفي مايو (أيار) 1998 سدَّ عمال مناجم فحمٍ طريقَ السكك الحديدية العابرة لسيبيريا في مناطق مختلفة؛ احتجاجًا على أجور غير مدفوعة؛ مُثيرين بذلك احتمالية وقوع اضطرابات أوسع.

صبّت إدارة يلتسين الموارد لدعم قيمة الروبل وسطَ هذه الكارثة الوطنية، وعاندت المستثمرين الدوليين وصندوق النقد الدولي بأنّ قيمة الروبل لن تتراجع. ورغم ذلك أعلنت الحكومة في النهاية عن تراجع في قيمتها في 17 أغسطس 1998، مع تخلّف عن سداد الديون المحلية، وتعليق لدفعات الديون الخارجية. خسرت الروبل في الشهر الذي تلاه ثلثي قيمتها، وتصاعد التضخّم، وتابع الفقر والبطالة انتشارهما أكثر فأكثر.

ملايين العمال الروس – حتى قبل الأزمة – عملوا دون رواتب لأسابيع أو شهور في ذلك الوقت. وبعد انهيار الروبل زاد وطالَ هذا «التأخر». ولو أن الكلمة الصحيحة «سرقة الأجور»، ولكن سريعًا ما هدأت آثار الأزمة بالنسبة لمعظم سكان روسيا مع بدء الانتعاش الاقتصادي. انخفاض 1998 لعب دورًا أساسيًا في رفع كلفة الواردات؛ ما حفّز المُنتجين المحليين.

لأزمة الروبل آثار أبعد من ذلك: سبّبت دمارًا شديدًا في القطاع البنكي والمالي أمالَ نمط النمو الاقتصادي نحو قطاعات أخرى وبعيدًا عن موسكو، حيث رُوكمت بكثافة ثروة روسيا في التسعينات. هذه التحولات وفّرت الأساسات لقفزة النمو في العقد الأول من القرن الحالي؛ ارتفعَ إجمالي الناتج المحلي الروسي بمعدّل 7% سنويًا مع ارتفاع أسعار النفط، وحتّى الأزمة الاقتصادية العالمية عامَ 2008.

غيّرت هذه التحولات في بنية النخبة الروسية أيضًا. أثناء التسعينات كدَّس حيتان السوق ثروات ضخمة بفضل تملكهم للبنوك، مثل بوريس بيريزوفسكي، وميخائيل خودوركوفسكي، وفلاديمير جوسينسكي. لكن انهيار 1998 خلق فجوةً في ميزانياتهم، ولم يستعد القطاع المالي الروسي أهميته التي امتلكها سابقًا.

مصادر الثروة تقعُ في مكانٍ آخر، وفوق كلّ شيء في قطاع الموارد الطبيعية: النفط والغاز والفحم والمعادن. القلة القابضة في هذه الصناعات حافظت على مكانها في القمّة. وبشكل متزايد مطلعَ الألفية الثانية ظهرت أسماء أخرى، في معظم الأحيان من خارج موسكو، في تصنيف «فوربس» لأصحاب المليارات، مثلَ رومان إبراموفيتش، وهو قطبٌ في النفط والألمنيوم، وفلاديمير بوغدانوف مالك شركة «Surgutneftegaz» النفطيّة، وألكسي مورداشوف مالك شركة «Severstal»، وعشرات آخرين.

كما يشير استفحال الثراء الجديد هذا إلى أن توزيع الدخل في روسيا بعد انهيار 1998 ليسَ أكثر عدالةً منه قبله. ما زالت الثروة تُنقل فوق سلم الدخل بمعدلات هائلة. انتفعت روسيا كدولة رئيسة منتجة للنفط من ارتفاع أسعار الموارد الطبيبعية بعدَ 1999، مع وفرٍ لديها في الغاز والفحم والمعادن. بدون انهيار 1998 لتوزّعت العوائد على نطاق أضيق مما حصلَ لاحقًا.

حتّى التحسينات المادية المتوسطة التي عاشها الروسيّون العاديّون منذ 1999 وصاعدًا أسهمت كثيرًا في شهرة بوتين اللاحقة، مُتيحةً له بناء قاعدة انتخابية ظلَّت كبيرةً رغمَ التزوير الذي لا شكّ في أنه وقع بعد ذلك.

تمرّد مُفاجئ

وضعت عواقب انهيار 1998 دلالات سياسيّة لما ستكون عليه الأمور في عهد بوتين أيضًا. رغمَ أن تأثير الأزمة الاقتصادية أخذَ وقتًا ليظهر، إلّا أن التداعيات السياسية كانت فورية. أقال يلتسين في 23 أغسطس 1998 رئيسَ وزرائه الذي عيّنه قبل خمسة شهور، سيرجي كيرينكو، وبدأ عملية تعيين خلفه فيكتور تشيرنوميردين ليُواجه معارضةً غير متوقعة من البرلمان الروسي.

اعتادَ مجلس «الدوما» على ختمِ قرارات يلتسين دونَ اعتراض. بدأ هذا النمط منذ أكتوبر (تشرين الأول) 1993 بانتهاء مواجهةٍ بين الرئيس وما كان يسمى آنذاك «مجلس نواب الشعب»، بإرسال يلتسين دبابات لتُفجّر المجلس ليخضع له. وقُلّصت سلطة المجلس جذريًا تحت الدستور الجديد المُوافق عليه في ديسمبر (كانون الأول) 1993، وأُعيدت تسميته بـ«الدوما»، وتم تجاهل أعضاء المجلس التشريعي بيسر شديد.

ومن بعد الخضوع تمرّد المجلس، ومع ظروف أزمة 1998 رفضَ مرتين الموافقة على تعيين تشيرنو ميردين. حذرًا من حلّ المجلس والدعوة إلى انتخابات جديدة، اضطرَ يلتسين أن يرشّح الخيار المُفضّل للمجلس، وزير الخارجية آنذاك: «يفكيني بريماكوف». استمرت رئاسة بريماكوف شهورًا قليلة؛ فقد تولّى مهامه في سبتمبر (أيلول) 1998، وأزاحه يلتسين عن كرسيّه في مايو 1999، ورغمَ قصر ولايته، إلا أنها أظهرت القوة السياسية لخطٍ أكثر دوليّة (خط سياسي يؤمن بقوّة الدولة وسلطتها). بالطبع أحدثَ بيرماكوف تغييرًا محليًا وفي الشؤون الخارجية بعمله مراسلًا سابقًا لصحيفة «برافدا» في الشرق الأوسط ورئيسًا للاستخبارات الخارجية في الاستخبارات السوفيتية.

في سنوات عمله وزيرًا للخارجية منذ 1996-1998، ابتعد عن موقف يلتسين الداعم للغرب ساعيًا لتطوير العلاقات مع الصين، والهند ودولٍ أخرى غير غربيّة؛ بهدف إيجاد توازن أمامَ نفوذ الولايات المتحدة وحلفائها. ثمّ حافظ على موقفه عندما صارَ رئيسًا للوزراء. (لم يكن تعيينه مرغوبًا في الغرب: في سبتمبر 1998 هاتَف وليام سافير من «نيويورك تايمز» الزعيم الليبرالي الروسي جريجوري يافلينسكي ليغمغم قائلًا: هل أنتم مجانين؛ لمّا صارت روسيا في أشدّ حاجة للغرب وضعتم مُعادٍ أبدي للحرية؟) عندما بدأ قصف الناتو لصربيا في مارس (آذار) 1999 كانَ بيرماكوف في طائرته نحو واشنطن؛ فأمر مباشرةً بالرجوع. لم تكن هذه مجرّد إشارة رمزيّة فحسب، ولكن يصعبُ تخيّل أيّ من سابقي بيرماكوف يُقدمون على هذا الفعل، سواءٌ من عهد يلتسين أو جورباتشوف.

أولُ تحركات بيرماكوف المحليّة كانت بإعطاء الأولوية لدفع الأجور والمعاشات المتأخرة. وأبطأ وتيرة الخصخصة وطرحَ احتمالية مراجعة الصفقات السابقة – معروفٌ على نطاق أنها تمّت بشكل غير سَوي – أو حتّى التراجع عنها. هذه الإجراءات، مع جرعة من خطاب معادٍ للأوليجاركية (حكم القلّة)، أكسبت بيرماكوف سريعًا شهرةً واسعةً جعلت محاولة الوصول للرئاسة عام 2000 محاولة معقولة.

احتمالية أن يصلَ بيرماكوف للسلطة تُهدد نتيجة التحوّل نحو الاقتصاد الحر في التسعينات، وتُقلق يلتسين وداعميه الغربيين. والأسوأ حقيقةُ وجود احتمالية لإعدام يلتسين بعد تركه لمنصبه. ومع مرور شهور على الأزمة أصبح واضحًا ليلتسين أن عليه البحث عن خلفٍ يضمنُ له حصانته.

توليفة بوتين

هَنْدَسَت زمرةٌ حول يلتسين صعود بوتين المذهل للسلطة في أغسطس 1999 – فاجأت الجميع ترقية رجل غير معروف من رئيس جهاز الأمن الفيدرالي إلى رئيس للوزراء – بهدفٍ واضحٍ لهذا الصعود. ليسَ صدفةً أن أوّل إجراء اتخذه بوتين بوصوله للرئاسة في 31 ديسمبر 1999 توقيعهُ على مرسوم تحصين يلتسين من الإعدام.

ولكن كان واضحًا منذ دخوله الكرملين أن بوتين يمثّل مشروعًا سياسيًا جديدًا، وأنه هو أيضًا تعلّم دروسًا مهمة من فترة الاضطراب التي تلت انهيار الروبل. لم يعد واقعيًا بعد 1998 تخيّل أن نموذج السوق الحرة غير المقيدة يمكن – ببساطةٍ – أن يستمر. وبدا مستحسنًا قدرٌ معين من إشراف الدولة، خاصةً في القطاعات المهمة استراتيجيًا. محليًا اللحظةُ تدعو لخطاب مُعادٍ للأوليجاركيّة، وفي عالم السياسة الخارجية دفاعٌ أشد عن المصالح الروسية خلقَ حسًا سياسيًا أوضح.

على كل هذه الجبهات، فإن السياسات التي تبناها بوتين بعد عام 2000 لوحظت في المجالات التي اكتسبت هيمنة بداية في أعقاب انهيار الروبل، ولكن هنالك فروقٌ مهمّة وحقيقية. فكلُّ خطابات بوتين المبكرة كانت عن «تصفية» الأوليجاركيين كطبقة، ولكن أعدادهم تضاعفت بشكل ملحوظ في ولايتيه الأُوَل: لم يكن في البلاد عامَ 2000 مليارديرٌ واحد، وفي 2008 وصل العدد إلى 82 ملياردير.

وافقَ بوتين على توسيع دور الدولة في بعض القطاعات وفتحَ الباب للسوق في قطاعات أخرى، مخصخصًا المزيد من شركات الدولة، ومجموعةً من خدمات التعليم والإسكان. وفي السياسة الخارجيّة بدأ رئاسته بتوجه مؤيد للغرب أكثر بكثير من بيرماكوف، بل عبر عن اهتمام روسيّ بالانضمام للناتو. وبعد أحداث 11 سبتمبر عرض على الولايات المتحدة المساعدةَ في «حربها على الإرهاب»، ووافق بسرور على إنشائها لقواعد في دول الجوار في آسيا الوسطى للهجوم على أفغانستان.

كل هذا عنى أن توترًا كان في أجندة بوتين الأولى للحكم، بينَ دوليّتها، وعنصر معاداة الأوليجاركية، وبينَ عناصرها الداعمة للسوق وللغرب. إلى حدّ ما كان هذا منتجًا للفجوة المعتادة بين الوعود الخطابيّة وجوهر السياسة، وهذا ما استطاعت الحكومة الجديدة استغلاله بنجاح.

ولكن هنالك تناقض أيديولوجي أصيلٌ في النظام نفسه، ثنائية تجمعُ بين السمات التي جعلت بريماكوف مشهورًا، والتزامٌ ضمنيّ بحماية الإصلاحات الرأسمالية لحكومة يلتسين. هذه الازدواجية في البوتينية المُبكرة لم تكن لتُوجد لولا انهيار الروبل. وفي ضوء ذلك جعلت أزمة 1998 التوليفة البوتينية ضرورةً سياسية.

وليد أزمة

استلم بوتين السلطة في روسيا رئيسًا أو رئيسًا للوزراء منذ 19 عامًا من أصل 20 عامًا منذ انهيار الروبل. أوشك أن يصبح مُعرّفا مع الدولة الروسية – بل البلاد ككل – لدرجة أنه صعب على المحللين الغربيين مقاومة محاولة تفسير التطورات الروسية من خلال منظور شخصيته.

 

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

ولكن العديد من أهمّ السمات التي تميّز حكمه لم تنتج عن نَفَسه الشخصيّ، وإنما عن التحولات الدراميّة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تقع من حوله. رغم أنه أصبح تقليدًا التأكيد على الأثر التكويني للاتحاد السوفيتي على البوتينيّة، إلا أنّ اضطرابات التسعينيات – وتحديدًا الفترة التي تلت انهيار الروبل عام 1998 – لها أثرٌ أبعد بكثير على مشروعه السياسي. فهي الأحداث التي رمت يلتسين داخل الأزمات دافعة للبحث عن خليف له فانتهت بصعود بوتين. وبعدَ سقوط العملة انتشرت بنجاح لأول مرة مقولات بوتين الأيديولوجية الرئيسة. ومهّدت التتمة الاقتصادية لأحداث 1998 الأرضيةَ لنمو مستدام عزّز شعبيته الثابتة. ومن هذه النواحي يدين بوتين لأزمة 1998 بأكثر مما يقبل مؤيدوه ومنتقدوه –وكلا الطرفين يركّز على شخصية الرئيس – أن يعترفوا به.

اجمالي القراءات 1272