موسم الأخلاق و«البدلة الميري» فى الدراما المصرية

في الثلاثاء ١٢ - يونيو - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

قبل أيام من انطلاق الموسم الدرامي الرمضاني، شعَر الجمهور والمتابعون للدراما المصرية بوجود أزمة مفاجئة وغامضة، تمثّلت في خروج مفاجيء لعدد من المسلسلات من موسم العرض لأسباب مختلفة، منها ما اعتاد عليه صنّاع الدراما كعدم اكتمال التصوير أو ضعف التسويق على الفضائيات. ولكن السبب الجديد هو تدخُّل الدولة الصريح في جدول عرض المسلسلات على القنوات، قبل أن يتضح تدخلها في محتوى هذه المسلسلات أيضًا، وهو ما جعل الأزمة تتخطى مشكلة عدم العرض، لمشاكل أخرى، جعلت هذا الموسم هو الأسوأ منذ عدة سنوات.

هذه الأزمة ليست وليدة الموسم الحالي، فقد ظهرت بوادرها منذ عامين تقريبًا، بسيل تصريحات من الرئيس السيسي، وأجهزة الدولة، توضِّح عدم رضاها عما يقدم في الفن المصري عمومًا والمسلسلات تحديدًا. وهي التصريحات التي تحوّلت إلى خطوات عملية للسيطرة على صناعة الفن والإعلام، بدأت باستحواذ الأجهزة السيادية ورجال الأعمال التابعين لها على القنوات الفضائية التي تعتبر أساس صناعة الدراما، من خلال شركات «فالكون»، و«إعلام المصريين»، وأخيرًا «إيجل كابيتال»، ما جعل المسلسلات ترزخ تحت رحمة مُلَّاك هذه القنوات.

بعد ذلك أخذت الدولة خطوة أبعد بإنشاء المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، ولجنة الدراما التابعة له، وبدأ المجلس مهامه سريعًا بممارسة رقابة «تالية» للعرض، وإصدار أوامر القنوات الفضائية بحذف مشاهد معينة من الأعمال رغم الموافقة عليها رقابيًا، مثلما حدث مثلًا مع مسلسل «سابع جار».

بخلاف السيطرة على منصات العرض بشراء القنوات الفضائية، وعلى المضمون بزيادة حجم دور الرقابة، حاولت الدولة السيطرة على اقتصاد صناعة الدراما نفسها، باستحواذ المنتج تامر مرسي على النسبة الأكبر من المسلسلات، وتوليه في الوقت نفسه رئاسة شركة «إعلام المصريين» المالكة لشبكة قنوات «On» والتي لها أسهم بقنوات أُخرى. صاحبت تلك التطورات قرارًا غريبًا من الشركة بالاتفاق مع بقية القنوات بعدم التعاقد على مسلسلات تتعدى ميزانيتها 70 مليون جنيه.

هذا العام نشهد وجود طرف جديد في الأزمة، وهو جهات الإنتاج والعرض السعودية، والتي بسبب رغبتها في إفراد المساحة للقنوات السعودية الجديدة للتواجد على خريطة المنافسة، تسببت في عدم عرض مسلسلات «أرض النفاق» و«لدينا أقوال أُخرى» على القنوات المصرية، وبالطبع صاحبت تلك الخطوة تدخلات رقابية سعودية في مضمون المسلسلات، مثل حذف دور إبراهيم عيسى من مسلسل «أرض النفاق» لآرائه المعارضة لسياسات السعودية.

الرقابة إلى مستوى جديد

قدَّمت الدراما في السبع سنوات الأخيرة، التي تراها الدولة فترة فوضى وتدهور في الفن المصري؛ موضوعات جريئة ومستوى جديد في الحوار والصورة والتمثيل والإنتاج. نذكر مثلًا أعمال كـ «بدون ذكر أسماء»، و«موجة حارة»، و«ذات»، و«سجن النسا»، و«تحت السيطرة»، و«هذا المساء»، و«السبع وصايا»، و«العهد»، و«حارة اليهود»، و«سابع جار». وفي الكوميديا كان هناك «الرجل العناب»، وانعكس هذا التطور الكبير على طريقة تفاعل الجمهور مع المسلسلات، كالاهتمام بملاحظة مستوى الصورة والديكورات والإكسسوارات والموسيقى التصويرية والأداء التمثيلي.

كل تلك الأعمال الهامة، كان من الجائز جدًا عدم حصولها على موافقة رقابية من الأساس، إذا قدمت هذا العام، تحت الوصاية المتشددة للجهات الرقابية في الوقت الحالي، بسبب لغة حوارها ومشاهدها.

بتعدد الجهات الرقابية، كالجهات الدينية ممثلة في الأزهر، والجهات السيادية ممثلة في وزارة الداخلية، والمجلس الأعلى للإعلام، والنقابات الفنية، ومُلاّك القنوات الفضائية في مصر والسعودية، بجانب الجهات التقليدية  كجهاز الرقابة على المصنفات الفنية -الذي أصبح أكثر الجهات الرقابية رحمة لصنّاع المسلسلات-، لم يكن غريبًا أن تدور معظم مسلسلات رمضان هذا العام حول رجال الشرطة والجيش وأن تصبح جملة «ابن الكلب» مثلًا من الخطوط الحمراء في الدراما في عام 2018.

رجل الشرطة أو الرجل الخارق في دراما رمضان

كانت أولى نتائج هذه السيطرة العام الماضي ظهور أول مسلسل يصنع برعاية وزارة الداخلية وهو «كلبش» لأمير كرارة، والذي استوحى قصته من تعليمات لجنة الدراما بإبراز بطولات رجال الشرطة من خلال قصة ضابط شرطة يكافح الفساد، ويطارد الإرهابيين، ويساعد المواطنين، ويتعرض للظلم في الوقت نفسه من منصات التواصل الاجتماعي، والنشطاء، بجانب تواجد عدة نماذج أُخرى في الدراما، تطلبها الدولة، كمجند الجيش الذي يرعى أسرته ويستشهد في سيناء.

أيضًا شهدنا الموسم الماضي عودة مسلسلات المخابرات المصرية كـ «الزيبق» و«الجماعة 2»، وكان من المقرر تواجد هذا النوع من الأعمال العام الحالي أيضًا قبل تأجيل «الزيبق 2» و «الصعود إلى الهاوية» و «الضاهر».

اعتقد البعض أن الدولة ستكتفي بوجود عمل أو اثنين يتوافقان مع رؤيتها وأهدافها، ولكن ما حدث العام الحالي كان مفاجئًا بظهور نسخ متكررة من «كلبش» في معظم مسلسلات رمضان.

تضم 80% من مسلسلات هذا العام ضباط شرطة يحملون الصفات نفسها. الضباط كما يظهرون في الدراما، هم رجال بشوارب وعضلات ضخمة يتمتعون بالشجاعة والإخلاص، لا يخطئون، ولا ينامون الليل من الأرق والتفكير في المخاطر التي تواجه البلاد. وأبرز هذه النماذج نجدها في مسلسلات «مليكة»، و«رحيم»، و«أمر واقع»، وبالطبع «نسر الصعيد» الذي يعتبر المسلسل الرسمي للدولة بعد أن حصلت شركة «العدل جروب» على حق إنتاج المسلسل بالاتفاق مع القوات المسلحة رغمًا عن قناة «mbc» التي كانت متعاقدة مع محمد رمضان بطل المسلسل، بحجة ارتباطه بأداء الخدمة العسكرية، وعدم أحقية القناة في العمل معه بدون موافقة الجيش، ووصل الأمر إلى تهديد المنتج جمال العدل للقناة باللجوء للقضاء العسكري في حال إصرارها على تفعيل تعاقدها مع رمضان، بحسب ما ذكره لجريدة «الوطن» المصرية، وهو الأمر الذي يحدث للمرة الأولى في الخلافات الإنتاجية.

يحمل مسلسل «نسر الصعيد» كل المقومات للشكل الذي تحبه الدولة للدراما المصرية: وجود بطل شجاع وذكي وخارق «زين القناوي» يحارب أعداء الوطن في الداخل، وممثل هؤلاء الأعداء شخص يسمى «هتلر»، في حين يحارب ابن عمه «منصور» أعداء الوطن في الخارج في سيناء.  ووسط هذه المعارك التي لا تختلف عن المواد التي تنتجها الشئون المعنوية لتدريبات الجيش، أو المواد التي تنتجها الداخلية، تأتي الرسائل الاجتماعية التي تريدها الدولة في بقية أحداث المسلسل، وهي الرسائل غير المتصلة بالضرورة مع الحبكة الرئيسية بالعمل، كتماسك الأسرة والطلاق والزواج وأُسس التربية وغيرها.

وبسبب تشابه الكاتالوج الذي تنقل منه كل المسلسلات، تتكرر بعض الأحداث بحذافيرها، من مسلسل لآخر، مثل حدث تعرض «زين القناوي» لاتهام ظالم بقتل أحد المساجين ما يجعل السوشيال ميديا تتلقف هذه الواقعة باعتبارها دليلًا على ظلم الشرطة. وهو نفس ما حدث مع «سليم الأنصاري» ضابط مسلسل «كلبش».

أما المسلسلات التي لا يكون بطلها الأساسي ضابط شرطة،  فهي تدور في الفلك نفسه. ففي «عوالم خفية» يقدم عادل إمام صورة للصحافة التي تريدها الدولة، فرغم أنه يظهر كصحفي «معارض»، إلا أن هذا  مجرد ستار أو تكئة درامية لإظهار صورة الصحافة التي تشجعها الدولة، وكأنها غير متعمدة. فالصحافة النموذجية هي التي تساندها، وتكشف فساد مرشحي الرئاسة، وتتبنى الهجوم على قضايا تحاربها الدولة كحقوق المثليين مثلًا. كما لا يعدم المسلسل وجود نموذج مشرِّف لرجل الشرطة، مثل الضابط رؤوف الذي يؤدي دوره فتحي عبد الوهاب.

غياب البطولات الجماعية وورش الكتابة وعودة للنجم الواحد

في المواسم الماضية شهدنا حضورًا كبيرًا للبطولة الجماعية في المسلسلات، والتي اعتبرت مؤشرًا على التطور الفني والإنتاجي، لكن هذا العام نشهد عودة لبطولة الفرد الواحد، الذي يسمى العمل باسمه وتدور كل الأحداث حوله، وهي دلالة واضحة على الفقر الفني والمادي كأعمال: «رحيم»، و«نسر الصعيد»، و«طايع»، و«أيوب»، و«مليكة»، و«قانون عمر»، و«لعنة كارما»، و«أبو عمر المصري» وغيرها.

غياب البطولات الجماعية مقابل الاهتمام بالبطل الأوحد للمسلسل فقط هو نتيجة طبيعة للأزمات المالية والرقابية والفنية، حيث تذهب ميزانية العمل إلى نجم المسلسل وما تبقى منها يذهب إلى بقية العناصر، ما يؤدي لإهمال العديد من العناصر الفنية للمسلسل، وينعكس عل" width="500">

هكذا وُجِّهت ضربات متلاحقة إلى صناعة الدراما بجميع عناصرها؛ قيود على شركات الإنتاج بتحديد ميزانية المسلسلات، وعلى الفنانين بتحديد أجورهم أيضًا، وعلى المؤلفين بتحديد الموضوعات المسموح تناولها، بل وإجبار البعض على سيناريوهات مُعدَّة سلفًا، هذا بخلاف التعنت الرقابي، والسيطرة على جهات العرض بامتلاك القنوات الفضائية، ليصبح الموسم الدرامي الحالي هو الأضعف من الناحية الفنية والتسويقية، ولتخسر الدراما المصرية معظم مكاسبها الاقتصادية والفنية في السبع سنوات الماضية، والتي جعلتها من أهم الصناعات المصرية، وأكثرها تطورًا واستقلالية قبل أن ينتهي كل شيء في موسم واحد.

فبسيطرة جهات بعينها على الإنتاج والعرض تُغيّب المنافسة، لذلك فإن المواسم المقبلة لن تكون أحسن حالًا من الموسم الذي قارب على الانتهاء، وقد يشهد تدهورًا مثيلًا في عدد المسلسلات وعدد شركات الإنتاج المتواجدة، وكذلك تدهورًا في المستوى الفني للأعمال.

اجمالي القراءات 1998