عبد الفتاح القصري.. «ابن الذوات» الذي أضحك الجميع وبكى وحيدًا

في الجمعة ١٣ - أبريل - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

عبد الفتاح القصري هو أحد نجوم الكوميديا بلا منازع، من طريقة كلامه وأدواره في السينما تظن أنه أُمي لم ينل من العلم نصيبًا، لكن بالنظر لسيرته سوف تتفاجأ أنه خريج مدرسة القديس يوسف (الفرير) الفرنسية بالخرنفش، تلك المدرسة التي لم يكن يدخلها في ذلك الوقت إلَّا «أولاد الذوات» كما كان يطلق عليهم.

يرجع تاريخ عائلة القصري إلى العهد الفاطمى، كان والد «عبد الفتاح» تاجر مجوهرات كبيرًا أراد أن يسلك ابنه نفس مسلكه، ويدير تلك التجارة المقدرة بالآلاف، لكن الابن كان واقعًا في حيرة كبيرة من أمره، فهو عاشق للتمثيل يود أن يمتهنه بأي شكلٍ كان وفي أقرب وقت ممكن، لم يتردد عبد الفتاح القصري في اتخاذ قراره، رغم تهديد أبيه له أنه إذا عمل بالتمثيل سوف يُحرم من الميراث، غير أنه لم يكترث لهذا الوعيد وأعد العدة وبدأ الطواف على مسارح القاهرة المعمورة.

الفشل أوّل طريق النجاح

أول الأمر استقر «القصري» في فرقة عبد الرحمن رشدي، تلك الفرقة التي شيدها محب وعاشق للمسرح من الدرجة الأولى ومؤلف يُشهد له بالكفاءة. وقد وافق رشدي على تعيين «القصري» في الفرقة، وكان يزامله حينها عباقرة من رواد المسرح مثل: (محمد عبد القدوس، وزكي طليمات، ونجيب سليمان)، لم تدم سعادة عبد الفتاح القصري بعمله كثيرًا، إذ قامت الضرائب بالحجز على المسرح وإعلان إفلاس الفرقة وتسريحها، وهذا بعد يومين فقط من عمله.

بعد أن غادر «القصري» مسرح «رشدي» مُرغمًا أكمل سعيه وبدأ البحث عن فرقة جديدة يعمِّر معها أكثر مما عمر مع سابقتها، اهتدى في النهاية إلى مسرح جورج أبيض (دارس الفنون المسرحية في باريس ببعثة من الخديوي عباس) بعد أن شاهده قبل ذلك في مسرحية سياسية مترجمة بعنوان «برج نيل».

دخل القصري على جورج أبيض في مكتبه وبدأ يحادثه بلغةٍ فرنسية طليقة، فأعجب به ورأى فيه شخصية جديدة محبة للمسرح تود الحصول على فرصة، فعينه في الفرقة وأعطاه دورًا في مسرحية درامية من ذلك النوع الذي اشتهرت به الفرقة.

حفظ «القصري» الدور جيدًا وعلى المسرح بدأ يؤدي دوره، لكن تفاجأ بالجمهور يضحك بدلًا من التأثُّر، ذهل كما ذهل جورج أبيض وباقي الفرقة مما يحدث.

تكرَّر الأمر مرة واثنتين وثلاثة ونفس الأمر يحدث، يحفظ «القصري» الدور ويخرج لخشبة المسرح ليؤديه لكن الجمهور يضحك بدلًا من أن يتأثر بالنص المسرحي وبالممثل. فهم جورج أبيض سريعًا أن «القصري» لن ينجح في هذا الدور وأن الدراما لا تناسبه،  وحتى لا تغلق الفرقة أبوابها قام بطرده.

اكتشاف «الجوهرة المكنونة»

سمع «الريحاني» عن ذلك الشاب وما يفعله بالمسارح محولًا الدراما إلى كوميديا، وبعد البحث عنه التقى به في مسرحه، وعلم أنهما تخرجا في نفس المدرسة (مدرسة الفرير الفرنسية) فقدمه الريحاني للفرقة قائلًا: عبد الفتاح القصري «جزويتي» آخر معنا، -وكلمة «جزويتي» تطلق على متحدثي اللغة الفرنسية بطلاقة-.

من ساعتها لم يفترق الاثنان حتى وفاة الريحاني، بعد أن قدمه الريحاني إلى الفرقة وأصبح ممثلًا رئيسيًا يأتي المشاهدون خصوصًا له، وقد أسند إليه دورًا في فيلم «سي عمر» -تأليف الريحاني بالاشتراك مع بديع خيري-، ومع تلك الكوكبة المشاركة في الفيلم مثل: (ستيفان روستي، زوزو شكيب، ميمي شكيب، سراج منير، ماري منيب) أبدع القصري تاركًا خلفه دورًا لا ينسى بشخصية «عبد المجيد ساطور».

بعد ذلك أسند إليه الريحاني دورًا آخر في فيلم «لعبة الست» ، ليجمع «الريحاني» فيه «القصري» مع تحية كاريوكا وماري منيب وبشارة واكيم وسليمان نجيب، وعزيز عثمان، ليخرج الفيلم في النهاية «قنبلة سينمائية» في كُلّ شيء من الإخراج للتأليف لأداء الممثلين، خصوصًا «القصري» في دور «إبراهيم نفخوا» فإذا ذكر هذا الاسم سوف تتذكر عبد الفتاح القصري على الفور. وبعد نجاح الفيلم، انطلق القصري في السينما بشخصيته الكوميدية وطريقة كلامه التي تصيب الجميع بنوبات لا تتوقف من الضحك.

«سُمعة» و«القصري» المبارزة الكوميدية

بعد وفاة «الريحاني» في المستشفى اليوناني وهو لم يكمل بعد تصوير دوره في فيلم «غزل البنات» توجه عبد الفتاح القصري إلى مسرح إسماعيل ياسين بدعوة منه بعد أن علم أن القصري لا يعمل من فترة كبيرة بعد وفاة الريحاني.

وفي المسرح وجد القصري نفسه أكثر، ونضج كوميديًا بشكل أكبر، فكانت هذه الشرارة التي انطلق منها وتوافدت عليه الأفلام والمسرحيات، وبدأ يظهر بشخصيات مختلفة ومتنوعة وفى كُلّ مرَّة يكسب التحدي بكوميديته الخاصة التي صنعها لنفسه من أيام مسرح جورج أبيض مرورًا بالريحاني، حتى المحطة الأخيرة : مسرح إسماعيل ياسين الذي يعد أحد أبرز المسارح الكوميدية وبوابة لكثير من النجوم.

علاقة إسماعيل ياسين «سُمعة» بعبد الفتاح القصري كانت عبارة عن «مبارزة كوميدية» من العيار الثقيل، الفائز فيها هو المشاهد دون شك، وهب الاثنان نفسيهما للمسرح والسينما فأبدعا كوميديا من نوعٍ خاص، كوميديا مهما طال عمرها لا تعتبر قديمة أو غريبة الشكل أو الطابع، بل أصيلة في محتواها وقادرة على أن تمتد لسنين أخرى.

قدَّمَ «القصري» مع «سُمعة» أجمل وأروع الأفلام و«الإفيهات» التي ما زالت تستخدم حتى الآن، فهي تعد علامة بارزة في تاريخ السينما بشكل عام وفي فن الكوميديا بشكلٍ خاص.

شارك إسماعيل ياسين «القصري» عددًا كبيرًا من الأفلام والمسرحيات، أشهرهم: «إسماعيل ياسين في متحف الشمع»، «حرام عليك» وهو فيلم مقتبس عن قصة «المستذئب وفرانكشتاين»، «فايق ورايق» والقصري كان بشخصية «المعلم كوارع» شخصية المعلم ابن البلد الذي برع القصري في أدائها واشتهر بها، «بيت النتاش» بشخصية «المعلم سعدون»، مسرحية «يا الدفع يا الحبس»، وأيضًا مسرحية «الحبيب المضروب»، وعددًا كبيرًا من المسرحيات التي -رغم تسجيلها جميعًا- إلَّا أن موظفًا بالتلفزيون قد  قام بمسحها عن طريق الخطأ.

أما فيلم «ابن حميدو» فقد بلغت فيه المبارزة الكوميدية بين إسماعيل ياسين والقصري ذروتها، ومعهما زينات صدقي، فكان لزامًا أن يخلد هذا الفيلم وتخلد معه «الإفيهات» الخاصة به، كما خلدت شخصياته كشخصية المعلم حنفي التي لعبها عبد الفتاح القصري.

«أنا مش شايف».. كيف تحوّلت الكوميديا إلى مأساة بين ليلة وضحاها

ومن حوَّل الدراما إلى كوميديا على مسرح جورج أبيض يصاب بالعمى على مسرح إسماعيل ياسين بطريقةٍ درامية. ففي أحد الفصول على خشبة المسرح و«المبارزة الكوميدية» مشتعلة بين الاثنين، انفجر القصري صارخًا: «أنا مش شايف!» يضحك الجمهور معتقدًا أن ما يحدث ضمن المسرحية، حتى أدرك إسماعيل ياسين أن هناك أمرًا جللاً ألمَّ برفيقه، فهذا ليس ضمن النص المتفق عليه، فرد سُمعة على صرخته سريعًا بطريقة كوميدية: ألف سلامة عليك يا حبيبي، ثم سحبه للداخل، من بعدها لم يغادر القصري منزله وحلَّت عليه النكبات من كل حدبٍ وصوب.

بعد إصابته بالعمى طلبت منه زوجته الطلاق وأرغمته على بيع كُلّ ما يمتلكه لها، لكن لم تنته المأساة عند هذا الحد فقد ارتبطت طليقته بابنه بالتبني وقررا العيش معه في نفس الشقة.

لم ينعم القصري بشقته كثيرًا بعد أن شاركته فيها طليقته وزوجها، حيث قامت البلدية والتنظيم بهدم البيت، وأصبحوا في الشارع لا حول لهم ولا قوة، علمت ماري منيب ونجوى سالم بذاك الخبر، لتذهب نجوى سالم الممثلة المصرية وصديقة القصري من فترة طويلة في المسرح والسينما إلى مبنى المحافظة، وعرضت الأمر على المحافظ شارحة حالة عبد الفتاح القصري ليوفر له المحافظ شقة في الدور الأول بحي الشرابية  إيجارها 280 قرشًا.

لم ينتهِ الموضوع هنا، كأن قدر عبد الفتاح أن تلازمه طليقته أينما حل فشاركته هي وزوجها الشقة، ليزداد الأمر بؤسًا بالنسبة إليه ويلازم غرفته. فالكوميديا التي لازمته كثيرًا في حياته، تخلَّت عنه في نهاية المطاف، لتلحق به التراجيديا وتلازمه حتى مماته.

استقرَّ القصري في شقته بحي الشرابية لا يهتم به أحد، ولا يتناول أدويته! وبين فترة وأخرى كانت ماري منيب ونجوى سالم تزوره، حتى أتت زيارة لم تسمح فيها طليقته لها برؤيته وبعد مشاحنات مع طليقته سمحت لهما بالدخول، دخلت ماري ونجوى عليه في غرفته وقد ازدادت حالته سوءا، كانت تسلِّم عليه ولا يرد، لم يعرفها، ارتعبت من ذلك وقامت بأخذه لمستشفي الدمرداش، وبعد بعض الفحوصات تأكد أنه أُصيب بالألزهايمر! بدأت ماري منيب بعد استقرار حالته نوعا ما  بتجميع مبالغ مادية للقصري، فتبرع فريد الأطرش بمبلغ 100 جنيه وعبد الحليم حافظ بمبلغ 50 جنيهًا وشادية بمبلغ 20 جنيهًا لكن تلك المبالغ التي تم تجميعها تم صرفها على جنازته فيما بعد.

قبل وفاته بيومٍ واحد وحين قامت ماري منيب ونجوى سالم بزيارته، طلب منهما أن يحققا له أمنية واحدة وهي: أن يشاهد مسرحية، وأن يذهب للمسرح، فاصطحبتاه على كرسي متحرك  لمسرح نجيب الريحاني، حيث كانا يشاركان في مسرحية «إلا خمسة» أمام عادل خيري، ومن خلف الكواليس شاهد المسرحية كاملة وبعد انتهائها قامت ماري مسرعةً بإخراجه لخشبة المسرح، وما إن رآه الجمهور قام بالتصفيق لمدة ربع ساعة تحية له وهم وقوف، حتى قام القصري من على كرسيه تحية لهم. وفي اليوم الثاني توفي القصري.

اجمالي القراءات 2860