مستقبل العالم ليس ديمقراطيا شمس الليبرالية تغرب مع فقدان الناس الأمل في السياسة،

في الأربعاء ٢١ - مارس - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

   مستقبل العالم ليس ديمقراطيا

شمس الليبرالية تغرب مع فقدان الناس الأمل في السياسة، وصعود ترامب انعكاس لتقدم روسيا والصين على حساب الديمقراطية.
الليبرالية

لندن – أين يتجه العالم في ظل صعود سريع لروسيا والصين، مقابل تراجع حاد لتأثير الكتلة الغربية وقوتها الناعمة المنبثقة من الليبرالية الديمقراطية المنتصرة في الحرب الباردة؟
أي مستقبل لليبرالية؟ وكيف ستواجهها القوى المعادية لها، التي تعتبرها أيديولوجيا العصر، بعد أن خسرت الشيوعية التي كانت تمثّل أيديولوجيا مضادة، وحائط صد من الممكن الدفاع من خلاله على تماسك هذه القوى؟
في جذور أغلب الصراعات التي يعاني منها العالم اليوم نجد مطالب قومية لمجموعات متمردة أو غاضبة. من الكتالونيين في إسبانيا إلى الأكراد في العراق والأسكتلنديين في بريطانيا، إلى ما يسمّى الدولة الإسلامية (داعش)، إلى ناخبي الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وداعمي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، وزعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان، كل هذه القوى تعكس مصالح هويات وطنية نائمة أو مقموعة أو صيغت حديثا.
ويمثل ذلك رفضا متفرّقا لنظام قائم طوال عقود، لكنه لم يتمكن في أي وقت من الوصول إلى مرحلة الاستقرار النهائي القائم على اندماج هذه المجموعات أو الأقليات في مجتمعاتها الحاضنة. وظلت مشاعر الرفض قائمة تحت السطح، لكنها لم تشكّل في أيّ مرحلة تهديدا آنيا لليبرالية والمشروع الديمقراطي كما تفعل الآن. وتعزز هذه الانقسامات في المعسكر الغربي من وضع روسيا والصين، الدولتين اللتين تحوّلتا إلى واجهة المقاومة في وجه الليبرالية برمّتها.
وقال جاكوب ليفي، أستاذ النظريات السياسية في جامعة ماكجيل الأميركية وصاحب كتاب “العقلانية، التعددية، الحربة”، إن “انهيار الثقة في الواقع المؤسسي هو المسؤول عن صعود شكل الترامبية السلطوية، ونموذج السياسة الشعبوية للمجتمع المنغلق في الولايات المتحدة وأماكن أخرى من العالم”.

 

منذ عام 2016 يشهد العالم تبعات صعود شعبوي كبير وانحسار لمبادئ الليبرالية الديمقراطية، التي اعتقدت أنها قد تفوّقت بشكل ساحق منذ انتهاء الحرب الباردة، لكنها على ما يبدو تشهد غضبا شعبويا وفقدان ثقة من الناس العاديين، في ظل جمود النظم الحزبية التقليدية وسيطرة سلطات ما فوق الدولة على سيادتهم

وتساءل “ماذا يشرح بالضبط ظاهرة ترامب؟ كيف جاء اليوم الذي يصبح فيه لدينا رئيس مثل ترامب؟ هل الأمر متعلّق فقط بمزاج لدى الناخبين لهزّ الطبقة الحاكمة، أم أن المسألة أعمق بكثير؟ كيف يفكر ترامب؟ كيف يصنع قراراته؟”.

حرب على الليبرالية

تلجأ الحكومتان الروسية والصينية إلى الجذور الوطنية لدعم الحكم الداخلي والسياسة الخارجية الدولية. وكان خطاب الرئيس الصيني شي جينبينغ، الثلاثاء، واضحا في دفع الصينيين لتبنّي مشاعر قومية أخذت في التراجع منذ عصر ماوتسي تونغ، في وقت يعمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشكل حثيث على ترسيخ روح سوفييتية كانت قد انتهت بعد انتهاء الحرب العالمية، وتعزيز النظرة المعادية للغرب.
وتساعد التكنولوجيا على تعبئة النزعات القومية، حيث يصل الناس الذين أصبح لديهم المزيد من الوقت والموارد لاكتشاف ميولهم ونزعاتهم، وتعريفها والعمل وفقا لها.
ويقول يوشا مونك، المحاضر في أساليب الحكم بجامعة هارفارد الأميركية وصاحب كتاب “الشعب ضد الديمقراطية”، إن “صبر المواطنين نفذ منذ زمن من السياسة، وصاروا متعبين وغاضبين تجاهها. الأحزاب صارت مجمدة، واليوم الشعبويون يصعدون في كل مكان، من الولايات المتحدة إلى أوروبا وآسيا وأستراليا”.
وأضاف “في السابق كره الناخبون أحزابا أو سياسيين أو حكومات بعينها، واليوم صار أغلبهم غير مستعد للتعاطي مع الليبرالية الديمقراطية نفسها”.
كل هذه الحركات تقريبا تعارض الليبرالية في شكل دول أو مؤسسات أو نفوذ، ومازالت لم تجتمع بعد حول رؤية لمعايير عالمية غير ليبرالية، لكن إمكانية حصول ذلك باتت أقرب للتحقق من أي وقت مضى.
أغلب الحركات القومية ترتكز على مميزات تقليدية من إثنية ودين وإقليم له حدود وأساليب فلكلورية أو تاريخ عائلات حاكمة. وهذه العناصر تمنح أفراد المجموعة شعورا بالتضامن تساعد الأوطان على الاستمرار والمنافسة. بيد أن الأوطان المرتكزة على التقاليد تواجه مشكلتين كبيرتين: أولا، أي هوية تقليدية تقوم على بعض الأساطير الوطنية المؤسسة، في وقت يخفف فيه التفكير العلمي المعاصر من امتدادها دون تمييز.
وثانيا، لا يمكن لمثل هذه المجتمعات أن تكون لها مصالح مشتركة حقا، فهي تعرّف نفسها على أساس أنها مختلفة عن بعضها البعض، ومن ثم فإن الحرب تبقى إمكانية قابلة للتحقق. وإضافة إلى ذلك، بعد آلاف السنين من الحروب تحتوي الكثير من البلدان عددا من القوميات المهزومة، وأصبح لدى الأفراد الآن الوسائل والميول إلى التنقيب عن الهويات القديمة، وهو ما يحيي الصراعات المحتملة حيث كان السلام المدني قائما من قبل.
وأحد ردّات الفعل على خطر الحرب الدائمة تتمثل في إيجاد قواعد كونية لحكم كيانات سيادية (أي الدول). وكانت الاشتراكية أبرز محاولة في هذا المجال في التاريخ الحديث، ولكن بزعامة الشيوعية السوفييتية اتخذت شكلا قمعيا ثم أخفقت في بلورة مشروعها التقدمي.
ونشرت الصين إلى حدود القرن التاسع عشر المعايير الكونفشيوسية عبر آسيا، ولكن هذه المعايير الأخلاقية كانت أداة لهيمنة بلد واحد، وبضعف الصين على أيدي الغرب، سقطت تلك الأخلاقيات مع سفينتها الصينية.

 

الزمن الجميل
الزمن الجميل

 

ومن جهته ادعى تنظيم “الدولة الإسلامية” السلطة الكونية للأمة الإسلامية، لكن شأنها شأن المنظومة الصينية، لا يمكن لذلك أن يخدم إلا هوية واحدة.
وكان الرد الأكثر ليبرالية إنشاء سلطات فوق وطنية. ويمثل الاتحاد الأوروبي المثال الذي ينظم المصالح الوطنية في أوروبا من أجل السلم والرخاء، إذ تدفع مساعيه مخلفات حروب القرن العشرين. كما تطمح الأمم المتحدة إلى أن تتطوّر لكي تتحوّل في النهاية إلى سلطة دولية. وفي نهاية المطاف تعتمد كل هذه الكيانات على تنازل كل الأعضاء عن سيادتهم التقليدية، لكن إن مارست السلطة بقوة مفرطة فهي تجازف بتخلي الأعضاء عنها على شاكلة قرار البريطانيين الخروج من صفوف الاتحاد “بريكست”. وفي المقابل إن فشلت في الحفاظ على النظام يكون مآلها الفناء مثل عصبة الأمم.
هذه المعضلة متوطنة وخاصة بالليبرالية. وفي حين أن المذاهب والأيديولوجيات الأخرى تصف الحقيقة، فإن الليبرالية توكل الأمر للأفراد لكي يحددوا معاييرهم وقوانينهم الخاصة بهم، لذا فإن الحكومة الليبرالية تتطلب موافقة المحكومين أولا.
وترفض الحكومة الليبرالية القمع، وهي نظرية كونية لكنها ضعيفة من حيث سلطة الحكم، مما يجعلها عرضة للفوضى بين مكوّناتها وإساءة استخدام السلطة من قبل من هم في الحكم.
ويقدّم الدّاعون للمجموعات غير الليبرالية الحجة السياسية القائلة بأنه بالرغم من تظاهر الليبراليين بامتلاكهم مبادئ كونية مجردة ومحايدة، فإن الأمم الغربية التي احتضنت هذه الأخلاقيات كثيرا ما تستشهد بهذه القيم، بينما تتعدى على سيادة الآخرين وتهيمن على الموارد وتقوّض النظام في بلدان أخرى.
وترى روسيا والصين والدولة الإسلامية وغيرها نفوذ الليبرالية مجرد رداء للغطرسة الغربية، أي أيديولوجيا إضافية تستعمل للهيمنة على العالم لا تختلف عن “الجهاد” لدى الدولة الإسلامية أو الكونفشيوسية الصينية إلا في نجاحها.

هزيمة الليبرالية!

لكن في النهاية لم يبق أمام زعماء الأنظمة غير الليبرالية إلا أن يعارضوا الليبرالية من منطلق فلسفي فقط، لأن القوة الأخلاقية للديمقراطية والمساواة والحريات المدنية والإنجاز الفردي يقوّض حكمهم. ويقدّم هؤلاء الزعماء الحجة القائلة بأن الناس كائنات أنانية وفاقدة للحس الأخلاقي وتحتاج سلطة خارجية للمحافظة على النظام. ولدعم كلامهم يستشهدون بالعادات الجنسية والفضائح المالية والجريمة والاحتجاجات الشعبوية.

 

جاكوب ليفي: انهيار الثقة في الواقع المؤسسي هو المسؤول عن صعود نموذج السياسة الشعبوية وانغلاق المجتمع
جاكوب ليفي: انهيار الثقة في الواقع المؤسسي هو المسؤول عن صعود نموذج السياسة الشعبوية وانغلاق المجتمع

 

بينما ترى النظريات الليبرالية هذه الأمثلة على أنها اختلالات تصحب التغيير، أو اضطرابات ناتجة عن أحداث سيئة أو غياب في الاستقرار.
يعطي الليبراليون قيمة للاندفاعات البشرية “غير المنتظمة” التي تعمل كمحفّزات لفهم جديد ولتكنولوجيات جديدة ومبادلات جديدة. والاعتراف الكوني بهذه الاندفاعات وتقديرها يساعد على شرح انتشار الليبرالية في أنحاء متفرقة من العالم.
والمهمة المنوطة بعهدة الليبراليين ليست هزم النزعات القومية غير الليبرالية، إذ أن محاولة فعل ذلك لا يؤدي إلا إلى دعم الادعاءات الروسية والصينية ضد الليبرالية الغربية بشكل عام. وحتى السعي إلى التوافق الليبرالي هو الدخول في نفس لعبة الأيديولوجيات المتنافسة.
والتحدي أمام الليبرالية بدلا من ذلك هو البرهنة على فوائد تحرير كامل إمكانيات الطبيعة البشرية، وتجنّب الإضرار بتطوّر الأمم الأخرى، وممارسة سياسة الواقع فقط في حالة دفاع صادق. وسيكون الناس أحرارا، حسب اعتقاد الليبراليين.
ويرتبط مصير الليبرالية بسلوك الولايات المتحدة. في إعلان استقلالها أسست الولايات المتحدة نوعا نادرا وغير تقليدي من القومية يرتكز على المبدأ المجرد “لحقوق غير قابلة للتصرف” وحكومة وجدت من أجل “ضمان هذه الحقوق”. وحتى الليبرالية المترسّخة للمملكة المتحدة تطوّرت عبر القرون بصفتها ميزة وطنية، من الماغنا كارتا إلى الحرب الأهلية الإنكليزية فصاعدا. أما وطنية الولايات المتحدة الأميركية فقد أحدثت من قطعة قماش كاملة، ولم ترتكز إلا على مبادئ الليبرالية. إذا تجاهل البلد هذه المبادئ فهو يقوّض قوميته ذاتها، لكن إذا جسّدت الولايات المتحدة مبدأها التأسيسي فهي بذلك تدعم موقف الليبرالية.
ويقول ياشا مونك “انتخاب دونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدة هو أكثر الظواهر وضوحا لأزمة الديمقراطية الليبرالية، كما أنه من الصعب لأي متخصص أن يبالغ بأهمية صعوده، لكن هذا الصعود في النهاية ليس قضية منعزلة”.
وتنبّه قنوات التواصل الجديدة الجميع في كافة أرجاء العالم بالتوتر الموجود بين الهويات التقليدية والعقيدة الليبرالية. ويمكن للقوميات أن تتحوّل إما إلى ليبرالية أكبر، كما هو الحال في ألمانيا الحديثة، وإما تبتعد عنها، مثلما هو الحال في روسيا والمجر. إن القوميات سواء الجديدة أو القديمة أو المعاد إحياؤها يمكن أن تقلل من قيمة المثل الليبرالية إذا اتبعت الوجهة الأخيرة. والمجتمعات الليبرالية التي تحمي الحرية وتبيّن مزاياها من خلال سلوكها الخاص تكون في موقع أفضل لإلهام الآخرين لتقدير الحقوق الفردية.

اجمالي القراءات 1095