رجال الأمن ينصبون أنفسهم أوصياء على حياة المواطنين

في الجمعة ١٥ - ديسمبر - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

رجال الأمن ينصبون أنفسهم أوصياء على حياة المواطنين

  • يعتبر قطاع الأمن من أكثر القطاعات حساسية وارتباطًا بصفة مباشرة بالمواطن في المجتمع، غير أن العلاقة لم تكن يوما على ما يرام بسبب تراكمات على مدى سنين طويلة طبعت علاقة الطرفين وحوّلت رجل الأمن إلى “جلاد” والمواطن إلى “متهم”.

صورة الأمني مشوشة ومشوهة

تونس - تعجّ مختلف وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بأخبار وحوادث عن تجاوزات رجال الأمن بحق المواطنين.

ربما يكون الأمر حوادث ولا يقاس عليه، إلا أن الكثيرين ممن تحدثوا إلى “العرب” عجزوا عن محو ذكريات سببها قمع رجال الأمن وقسوتهم، وجعلهم يخشون أن يكون وراء وجه كل رجل أمن قناع آخر لا يسهر صاحبه على راحة المواطن وأمنه، بقدر ما يستغل سلطته لينكّل به ويحط من كرامته.

 

إخلالات كثيرة

 

كان الفصل صيفا، اقترب وقت الغروب، كانا جالسين على شاطئ البحر في ضاحية المرسى كالعشرات من المحبين الذين تفرقوا هنا وهناك.

الأمر يبدو طبيعيا، حتى لاحت سيارة الحرس الوطني وترجّل منها أمنيان “تأبطا شرّا”، وفق تعبير السيدة “م”.

بدآ في طلب الهوية الوطنية من الجميع، في إجراء “غير عادي”، وحينما وصلا بجانبهما أخبرتهما أنها نسيت هويتها. طلبا منهما مرافقتهما إلى قسم الشرطة.

تقول إنه رغم مرور خمس سنوات على الحادثة فكأنها البارحة تعرّضت يومها لعنف بدني ولفظي لم يسبق أن تعرّضت له في حياتها.

سألت الرائد “س”، الذي استدعاه الأمنيون، ليتمكّنوا من أخذها إلى مركز الأمن بوشوشة، لإتمام التحقيقات معها وتوقيفها لأنها دافعت عن نفسها وصفعت أحدهم.

أبدت رغبتها في تقديم شكوى ضد الأمنيين المعتدين، بعد أن استغرب الرائد من تصرف الأعوان خاصة أنها عكس ما صور له.

قال لها الرائد يومها عندما سألته عن سبب تصرف الأمنيين إن الأمر عادي من هؤلاء لأنهم يشعرون بـ”نقص عميق وشحنات سلبية يفرغونها عادة في المواطنين بسبب ظروفهم الاجتماعية القاسية”.

في تونس تبدو العلاقة معقّدة جدا بين رجال الأمن والمواطنين حتى أن تونس تصنّف قبل الثورة في خانة الدولة البوليسية.

بالنسبة إلى أسماء بالضياف فما زالت الحادثة التي تعرّضت لها على أيدي البوليس في بلادها تنغّص حياتها، بل جعلتها تحمل في ذهنها صورة مشوّهة عن رجال الأمن.

تقول أسماء لـ”العرب” “كنت أعتقد أن رجال البوليس يمثّلون مصدر حماية للناس، وأنظر إليهم باحترام وتقدير كبيرين لأنهم في نظري الساهرون على حمايتنا، ولكنني للأسف صدمت صدمة كبيرة ومريرة”.

وتضيف “ذاكرتي ما زالت مشحونة بالألم لهول ما رأيت على أيديهم إبان ثورة 14 يناير، لقد عذبوني وكادوا يغتصبوني لو لا أبناء الحلال أنقذوني، ومن ظهر معي في الصورة التي التقطتها إحدى الوكالات هو من ساعدني على الإفلات من قبضتهم”.

وتواصل “عندما دخلت البلاد في فوضى لم أجد وبعض الصديقات من شدة الخوف حلا سوى الاختباء في طابق عمارة، إلا أن البوليس عوض أن يحمينا عنّفنا وكان طوال أدرج العمارة الثلاثة يصفعني بكل ما أتي من قوة ويشتمني ويسبني، من دون أن أرتكب أي ذنب، الحمد لله لقد كان من بينهم رجل شهم حاول حمايتي منهم”.

رجل الأمن جلاد حتى يثبت العكس

 

وتوضح بالضياف “لم ينته الأمر عند ذلك الحد فقد استلمني بعضهم وحاولوا مرة أخرى تجريدي من ملابسي واغتصابي، لكن من ألطاف الله أن تدخّل بعض أولاد الحلال وأنقذوني منهم، لقد انهرت يومها تماما وفقدت الوعي ولم أستفق إلا بعد ثلاثة أيام فوجدت نفسي في المستشفى، وأُصبت على إثر تلك الحادثة بانهيار عصبي وانتهى بي الأمر إلى العلاج عند طبيب نفسي، ورغم ذلك لم أتقدّم دعوى للمحكمة للقصاص منهم لأنني أعرف أنها ستكون خاسرة، القانون سيحميهم ولن يحميني، ولذلك أكتفي بالقول حسبي الله ونعم الوكيل”.

 

ترميم العلاقة

 

يقول شاب تحدث لـ”العرب”، “هل عليّ أن أضع أولئك الأمنيين الذين يضحون بحياتهم لأجل أمن تونس مع أولئك الذي لا عمل لهم سوى ‘التحايل’ على المواطن البسيط لابتزاز مبلغ عشرة أو عشرين دينارا منه”.

ويعبّر رجل آخر عن احترامه لرجال الأمن. ويقول “عندما أكون نائما يكون رجل الأمن في الشارع ساهرا ليلا على حمايتي، نحن نتجنّى إن أغفلنا الإيجابيات.. لولا رجال الأمن لعمّت الفوضى”.

ويحظى سلك الأمن في جزء منه باحترام التونسيين بعد التضحيات التي قدّمها في وجه الإرهاب، لكن ما إن تهدأ الأمور حتى تعود العلاقة المتوترة بين الجانبين وترجع الاتهامات للأمنيين “الذين يخنقون الأنفاس ويحددون الحريات ويضيقون ما في الحياة من فسحة شاسعة”.

ولا يختلف الوضع كثيرا في تونس عن الدول العربية وغالبية دول العالم.

ويؤكد الجميع على ضرورة ترميم العلاقة بين المواطن والأمن.

ويقول مصدر في وزارة الداخلية التونسية إن الوزارة أقرّت إجراءات جديدة للقطع مع الأساليب القديمة في التعامل مع المواطن فتم غلق غرف التوقيف بمقر الوزارة والسعي إلى احترام آجال التحفظ واحترام حقوق المحتفظ به والالتزام بالقانون، كما تسعى وزارة الداخلية إلى إقامة علاقات جديدة مع المواطن من خلال وسائل الإعلام، والعمل على عدم إخفاء المعلومة ومصارحة الرأي العام بما يجري دون تزيين ومازال الإصلاح متواصلا.

ويقرّ بأن هذه الإصلاحات تستوجب الكثير من الوقت والاستقرار في البلاد.

يقول الدكتور النفسي التونسي وحيد قوبع إن العلاقة بين الأمن والمواطن هي علاقة حاجة وكره في نفس الوقت، أي أنّ المواطن التونسي في حاجة إلى الأمن لكن هو في نفس الوقت يكرهه بسبب تراكمات سنين طويلة من القمع، إذ لطالما مثل رجل الأمن الجلاد بالنسبة إلى المواطن.

ويقول أمنيون إن الصورة التي يتم التركيز عليها هي صورة “أحادية الجانب” تحاول دوما أن تصوّر رجل الأمن على أنه يستخدم العنف ويقمع الحريات، وهي صورة فيها تجنّ على رجل الأمن.

فرجل الأمن مواطن بالدرجة الأولى، وليس مرتزقا ‘يبتزّ’ البعض في عشرة دنانير”، وهو يقوم بتطبيق القوانين. وخرجت المؤسسة الأمنية بعد الثورة من 23 سنة من السطو على الشارع الذي كانت تعدّه ملكا مطلقا لها، وهو ما يستدعي التحلّي بالصبر لتغيير العقيدة الأمنية، وبدء صفحة جديدة في العلاقة مع المواطن.

ويؤكد “هادي. م” أحد المتخرجين الجدد من المدرسة الوطنية للحرس الوطني أنّ التكوين في تحسّن، إذ يراوح بين المهارات الحربية والعسكرية وبين ما هو قانوني يبرز علاقة الأمني بالمواطن في إطار نموذج الشرطة المجتمعية التي تخدم المواطن.

يذكر أن قطاع الأمن في تونس يشغّل حوالي 83 ألف أمني يتكونون من الشرطة والحرس الوطني وأعوان السجون والإصلاح والديوانة والحماية المدنية والفوج الوطني لمكافحة الإرهاب، وفق إحصائيات تعود إلى لعام 2014.

وتشرف وزارة الداخلية على مختلف أصناف قوات الأمن الداخلي، وتهتم بتنظيم كيفية انتدابهم وتكوينهم وتوزيعهم على مراكز العمل.

مختار جماعي: أصبح رجل الأمن في مخيلة المواطن التونسي أداة النظام المستبد

 

 

سطوة تطرح نقاشا

 

دائمًا ما تطرح علاقة الأمني بالمواطن نقاشًا كبيرًا وإن يستثنى من هذه العلاقة التي يتجاذبها التوتر أحيانًا والتفهم أحيانًا أخرى رجال الحماية المدنية نظرًا لطبيعة وظيفتهم الحمائية البحتة؛ فإن بقية أصناف قوات الأمن الداخلي كثيرًا ما تثير التساؤل حول علاقتها بالمواطن من ناحية مدى احترام الأمني لحقوق الإنسان.

وقد تميزت علاقة رجل الأمن بالمواطن بانتهاك كبير لحقوق الإنسان في فترة ما قبل 14 يناير 2011 صاحبه تضييق على الحريات.

وقد ساهمت الثورة في كسر حاجز خوف المواطنين من سطوة الأمن.

وتتأرجح صورة رجل الأمن بين صورتين: من جهة أولى تبدو الصورة القديمة التي طبعت علاقة رجل الأمن بالمواطن طيلة العشرات من السنين التي كانت غاية الأمني فيها الحفاظ على مصالح النظام الحاكم، وذلك بسبب الإرادة السياسية التي كانت عاملًا رئيسيًا في بلورة هذه الصورة.

ومن جهة ثانية يحاول الأمني التعبير عن صورته الجديدة التي وقع تكريسها دستوريًّا بوصفه أمنًا جمهوريًا في دستور 27 يناير 2014 في الفصل 19 منه الذي ينصّ على أنّ “الأمن الوطني أمن جمهوري قواته مكلفة بحفظ الأمن، والنظام العام وحماية الأفراد والمؤسسات والممتلكات وإنفاذ القانون في كنف احترام الحريات وفي إطار الحياد التام”.

وترتكز علاقة عون الأمن بالمواطن في ثلاثة مجالات؛ الأول ميدان التراتيب وذلك بإنجاز بطاقات التعريف والجوازات وعدّة خدمات أخرى والعلاقة في هذا المجال الأول ممتازة رغم إشكاليات طول الانتظار.

المجال الثاني هو ميدان المرور وهو ما يعتبر معضلة كبيرة لتفشّي ظاهرة الرشوة وهي خطر فعلي على أمن تونس. أما المجال الثالث فهو الميدان العدلي وفيه عدة تجاوزات.

 

ما بالطبع لا يتغير

 

يقول الأستاذ مختار جماعي المحامي بتونس “لم تكن علاقة المواطن التونسي برجل الأمن مستقرّة فقد كان تأسيس سلك الحرس الوطني مرحلة أولية من مراحل بناء الدولة التونسية الحديثة وتكوّنت نواته من مجموع المقاومين، وكان عمادا قويا لاستقرار الدولة ومارس مهامّا اجتماعية خدماتية أكثر منها أمنية، وبذلك حاز حب المواطن التونسي واحترامه”.

ويشير “لكن بسبب عوامل كثيرة وخلق فرق جديدة من قبيل غرف حفظ النظام العام وفرق التدخل السريع وصولا إلى أمن الدولة ونحو ذلك، أصبح رجل الأمن في مخيلة المواطن التونسي أداة النظام المستبد في قمع الحرية وحماية الدكتاتورية وحصنها القوي ضد مجموع الحريات العامة، وخرج الأمني من الطابع الجمهوري المحايد إلى المتدخّل في أدقّ تفاصيل حياة المواطن التونسي، وكانت مواجهات الخميس الأسود ضد الحركة النقابية وأحداث الخبز ضد التحركات الاجتماعية مرورا بقمع الحراك اليساري والعروبي خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي، والإسلامي في الثمانينات والتسعينات، كلّها عوامل خلقت الفجوة بين المواطن والأمني لتبلغ تلك الفجوة مداها مع استغلال هذا المرفق العمومي من طرف الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في بسط نفوذه وحماية دكتاتوريته، وزاد الصورة قتامة التصرفات اللامسؤولية من طرف أعوان في ممارسة الفساد المالي والأخلاقي”.

ويضيف في تصريحاته لـ”العرب”، “لكن حصلت المصالحة خلال فترة الثورة خاصة بانضمام هذه الأسلاك إلى صف الشعب بعد أن فشلت تلك الأسلاك نفسها في قمع الثورة في جميع نقاط التوتّر، وتناسى الشعب تلك الجرائم بعد أن حوّلتها المحاكمات العسكرية إلى تصرّفات فردية غير ممنهجة”.

ورغم ذلك عاد الجماعي ليؤكد “يبدو أنّ ما بالطبع لا يتغيّر، إذ عادت البعض من الممارسات بالصورة إلى قتامتها سواء من خلال البعض من الأحداث، أو من خلال التصرّفات التي تكشف البعض من التواطؤ، وخاصة من خلال تمظهرات العمل النقابي الذي تحوّل إلى مساجلات سياسية وتصفية حسابات داخل المرفق الأمني”.

أصيبت أسماء بالضياف بعد الحادثة بانهيار عصبي وانتهى بها الأمر إلى العلاج عند طبيب نفسي، ورغم ذلك لم تتقدم بدعوى للمحكمة للقصاص لأنها "تعرف أنها ستكون خاسرة، القانون سيحميهم ولن يحميني"، وفق تعبيرها.

 

ويقول “وعي المواطن التونسي ونضجه جعل علاقته برجل الأمن تتمتّن كلما شاهد نزوعا لهذا الأخير نحو إرساء مفهوم الأمن الجمهوري الحامي للديمقراطية والداعم للدولة المدنية، وتنقلب كلّما أحسّ بارتداد هذا المرفق إلى الأداة الطيّعة لحماية الدكتاتورية”.

يذكر أنه بعد الثورة، تم إقرار الحق النقابي الأمني بمقتضى المرسوم عدد 42 لسنة 2011 في 25 مايو 2011، ثم تمّ تكريس هذا الحق دستوريًّا فتم تكوين الاتحاد الوطني لنقابات قوات الأمن التونسي.

ويدور نقاش حامي الوطيس حول مشروع قانون يستهدف حماية رجال الأمن حاملي السلاح ويحمل تسمية “قانون زجر الاعتداءات على الأمنيين”.

ويفرض مشروع القانون نفسه على التونسيين في الشوارع والمقاهي والمنازل وحتى السينما، إذ بعد الثورة لا يمرّ عام إلا ويعرض في القاعات للجمهور فيلما أو أكثر عن علاقة المواطن برجل الشرطة.

ويستند مؤيدو مشروع القانون، الذي تقدّمت به وزارة الداخلية منذ أبريل 2015 وعجزت عن تمريره إلى الآن، إلى إحصاءات ووقائع تفيد استفحال الاعتداء على رجال الأمن بسبب وأثناء ممارسة عملهم في السنوات الأخيرة.

من جانبها، انتقدت ممثلة الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان يسرى فراوس مشروع القانون الذي يعفي قوات الأمن من أي مساءلة قانونية أو قضائية في حالة استعمال القوة المميتة حتى وإن كان ذلك فقط لحماية المنشآت والتجهيزات التابعة لهم، بمعنى أنه “لقوات الأمن الحق أن تزهق أرواحا دون أي محاسبة”.

وتؤكد أن “الترسانة القانونية التونسية، وخاصة المجلة الجزائية ومجلة المرافعات العسكرية، لا تخلو من الفصول التي تحمي قوات إنفاذ القانون من اعتداءات المواطنين”. وتنتقد “لقد مررنا في تونس بدولة البوليس، ولكنها كانت دولة البوليس بالممارسة، ولم تكن كذلك بالقانون. أما اليوم وبعد سبع سنوات من الثورة، فإننا نجد أنفسنا أمام محاولة جدية للانتقام من منجز الثورة الأهم وهو إزالة حاجز الخوف”. 

اجمالي القراءات 917