الإرهاب الهجين في أفريقيا: تشابك الديني والقبلي مع الجريمة المنظمة

في الثلاثاء ١٢ - سبتمبر - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

الإرهاب الهجين في أفريقيا: تشابك الديني والقبلي مع الجريمة المنظمة

  • تشتد أوزار الحرب ضد الإرهاب وتضرب القوى الدولية بقوة في مناطق تمركزه وملاجئه، من جهة لقصقصة أجنحة جماعاته وتنظيماته، ومن جهة أخرى لحماية مصالحها أو تبرير تدخّلها سياسيا أو عسكريا في دولة أو منطقة ما تحت شعار الحرب على الإرهاب. في المقابل، عملت الجماعات الجهادية على التأقلم مع تطورات الحرب ودوافعها، فطورت دفاعاتها وأساليبها خصوصا في العمق الأفريقي حيث توجد كل أسباب انتعاش هذه الجماعات من صراعات وفساد وعدم استقرار وانتشار للجريمة المنظمة وتعدد الأعراق والطوائف. وكان أن استغلت الجماعات الجهادية هذه الأوضاع ووظفتها ضمن شبكة مصالح متداخلة خلقت أخطر أنواع الإرهاب، وهو “الإرهاب الهجين” حيث يتشابك العامل الديني بالعرقي والسياسي والقبلي ويتخذ من الجريمة المنظمة مصدر تمويل.

الحرب على الإرهاب تزيد من خطورته عوض القضاء عليه

القاهرة - عزّزت مطالبات خبراء باعتماد خطة مارشال، أو برنامج مخصص للديون يتيح لدول الساحل والصحراء التزود بالتجهيزات المناسبة لمواجهة التحديات الأمنية وتنسيق خطط التنمية المشتركة، الاتجاه الأفريقي المتصاعد في السنوات الأخيرة لتدويل مكافحة الإرهاب من أجل جذب موارد مالية لسد العجز في أنظمة الدفاع والأمن، بما يضمن مراقبة الحدود الهشة.

لكن الاتجاه التدويلي يثير تساؤلا حول مدى فعاليته في مكافحة الإرهاب، لا سيما وأن الشق الأمني والدفاعي على أهميته قد لا يكون كافيا لمواجهة العوامل المتشابكة، والتي أفضت إلى التوالد المستمر للجماعات الجهادية في الساحل والصحراء وظهور نوع متطور من الإرهاب، هو "الإرهاب الهجين"، حيث تتشابك مصالح الجماعات الجهادية.

ليس بالإمكان عزل ظهور بوكو حرام في شمال شرقي نيجيريا، أو جماعة أنصار الإسلام في شمال بوركينا فاسو، أو الجماعات الجهادية في شمالي مالي عن عوامل التهميش السياسي والتنموي والاجتماعي ومأزق الهوية الدينية في هذه المناطق الأفريقية التي تعثرت دول ما بعد الاستقلال في مجابهتها، فموارد تلك البلدان، كالنفط، واليوارنيوم، والذهب وغيرها تحولت إلى أيدي نخب سياسية وقبلية بعينها، تحت وطأة الزبائنية السياسية والفساد المتفشي وهيمنة القبلية.

وبينما تعد نيجيريا أكبر اقتصاد في القارة السمراء، فإن غالبية سكّانها وخاصة في الشمال ترزح تحت خط الفقر، كذلك الأمر في مالي وبوركينا فاسو اللتين استأثرت بمواردهما نخب قبلية جنوبية، على مدار الأنظمة السياسية المتعاقبة منذ الاستقلال.

القوى الكبرى صارت تتجه أكثر لمنطق الاعتماد على وكلاء إقليميين يتم دعم تحالفاتهم لمكافحة الإرهاب

يمثل استحضار دول المنطقة للدعم الخارجي، عبر الترويج لخطة مارشال، وكأنها ستنقذ تلك الدول من أزماتها الأمنية والتنموية، على غرار ما فعلته الولايات المتحدة مع أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، مدخلا للمزيد من التكالب الغربي على موارد القارة ولكن عبر بوابة تدويل مكافحة الإرهاب، ولا يمكن استبعاد الدوافع الاقتصادية المتعلقة بالتنافس الغربي – الصيني في مالي، عن مسارعة فرنسا في يناير 2013 إلى التدخل العسكري في هذا البلد لطرد التحالفات الطارقية – الجهادية التي سيطرت على إقليم أزواد، بل وإطلاق باريس لعملية برخان في العام ذاته لملاحقة الجهاديين في المنطقة.

لم يأت تدويل قضية بوكو حرام منذ العام 2014 فقط كردة فعل للرأي العام العالمي على اختطاف أكثر من 200 فتاة في أبريل من هذا العام، لكن لتمدد هذه الجماعة أيضا تارة إلى شمال الكاميرون، حيث استهدفت شركات صينية بالمنطقة، وتارة أخرى إلى تشاد والنيجر.

صحيح أن الدعم الدولي ساعد نسبيا نيجيريا على تقليص سيطرة بوكو حرام على أراض في شمال شرقي نيجيريا، خلال العامين الماضيين، وتحديدا منذ صعود الرئيس محمد بخاري إلى السلطة في العام 2015، لكن ذلك لم يقض نهائيا على هذه الجماعة، بل على العكس حولها إلى عصابات خطرة متنقلة عبر الحدود تمارس الخطف والسلب وتجنيد الأطفال والفتيات الانتحاريات.

حارس إقليمي

لم يحدّ التدخل الفرنسي في شمال مالي من انتشار تهديدات الجهاديين في الساحل والصحراء، خاصة أنهم فروا إلى الجبال ولم يتم القضاء عليهم نهائيا، ما أسهم في انتقال الإرهاب إلى بوركينا فاسو المجاورة حدوديا.وشهد هذا البلد في العامين الماضيين هجمات إرهابية متصاعدة منفذوها ما بين جماعات محلية مثل، أنصار الإسلام في شمال البلاد، وأخرى إقليمية مثل، تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي.

وأدى تدويل بعض الأزمات الأفريقية إلى انتشار الإرهاب، مثل أزمة ليبيا منذ أكثر من ست سنوات. ولم يؤد تدخل حلف الناتو لإسقاط نظام القذافي إلى استقرار هذا البلد، بل على العكس خلّف وراءه بيئة خصبة تنامت فيها الجماعات الإرهابية، لتتحول ليبيا إلى معضلة أمنية إقليمية طالت تأثيراتها الجوار الحدودي، سواء مصر أو أفريقيا جنوب الصحراء وشمال كل من التشاد والنيجر.

الاتجاه التدويلي يثير تساؤلا حول مدى فعاليته في مكافحة الإرهاب، لا سيما وأن الشق الأمني والدفاعي على أهميته قد لا يكون كافيا لمواجهة العوامل المتشابكة

ما يلفت النظر أن تدويل الإرهاب الأفريقي ترافق معه اتجاه آخر لـ"الأقلمة”، انطوى مضمونه على تحويل دول الساحل والصحراء إلى ما يشبه “الحارس الإقليمي" ليس فقط لأمن الأنظمة الحاكمة، لكن للمصالح الغربية، لا سيما وأن بعض القوى الكبرى مثل، فرنسا، والولايات المتحدة صارت تتجه أكثر إلى منطق الاعتماد على وكلاء إقليميين يتم دعم تحالفاتهم لمكافحة الإرهاب، كي تتجنب إفرازات التدخل الخارجي وخسائره الميدانية، بخلاف ما تتلقاه من انتقادات الرأي العام الداخلي والأفريقي.

يبرز ذلك في حالة مبادرة دول الساحل الأفريقي (بوركينا فاسو، تشاد، النيجر، مالي، موريتانيا) التي اتفق قادتها خلال قمة حضرها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في يوليو الماضي على تشكيل قوة إقليمية لمكافحة الإرهاب، لكنها تنتظر استكمال تمويلها (423 مليون يورو) من جهات أوروبية ودولية لتنطلق نهاية العام الجاري. لكن، معضلة تلك المبادرات الإقليمية التي تخضع لرعاية دولية أنها قد تفشل تحركات نظيرة أخرى نابعة من السياق الأفريقي، مثل، التنافس بين مبادرتي الساحل الأفريقي ودول الميدان، فبينما ظهرت الأولى في نواكشوط منذ فبراير العام 2014 عبر الدعم الفرنسي، فإن الثانية تأسست في العام 2010، حيث تضم الجزائر، ومالي، وموريتانيا والنيجر.

تداخل جهادي

ثمة جانب رئيسي من معضلة تدويل الإرهاب الأفريقي، يكمن بالأساس في تغير طبيعة تلك الظاهرة، وبرز ما يسمى بـ”الإرهاب الهجين” الذي تتجاوز ملامحه الفهم المختزل للتنظيمات الجهادية، على أنها تعبير عن تيارات متطرفة تنشد تحقيق غايات دينية وهوياتية، وبدت ظاهرة الإرهاب التي ينتجها الجهاديون أكثر تداخلا مع جماعات قبلية، وأخرى تتعلق بالجريمة المنظمة.

ولعل سيطرة تحالف طارقي جهادي على شمال مالي في 2012 عكس تلاقي العوامل الدينية والقبلية في إقليم أزواد، وتحالفت آنذاك جماعة أنصار الدين التي يقودها إياد أغ غالي من قبيلة الإيفوغاس الطوارقية، مع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي الذي يحوي مقاتلين أجانب ومحليين.

بعض القوى الكبرى مثل، فرنسا، والولايات المتحدة صارت تتجه أكثر إلى منطق الاعتماد على وكلاء إقليميين يتم دعم تحالفاتهم لمكافحة الإرهاب، كي تتجنب إفرازات التدخل الخارجي وخسائره الميدانية

اللافت أن إياد أغ غالي، الذي انتقل من الفكر القومي إلى الديني المتشدد الداعي إلى تطبيق حكم الشريعة، استطاع التكيف لاحقا مع ضغوط التدخل الفرنسي، عبر توحيد أربع جماعات جهادية (إمارة منطقة الصحراء الكبرى، وتنظيم المرابطين، جماعة أنصار الدين، جبهة تحرير ماسينا) في مارس 2017 ضمن جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين" التي تعبر عن مزيج من العناصر الجهادية والقبلية، وتدين بالولاء لتنظيم القاعدة.

يبرز مثل هذا التشابك الجهادي- القبلي أيضا في بنية بوكو حرام، وأن بروزها في شمال نيجيريا عام 2009، لم يكن تعبيرا وحسب عن التهميش وتنامي المد السلفي على حساب الصوفي. كما أن تلك الجماعة تعتمد على عرقية الكانوري المسلمة التي ترفض هيمنة الهوسا- الفولاني على السلطة في ولايات الشمال، ولعرقية الكانوري تلك امتدادات عابرة للحدود في تشاد والنيجر والكاميرون استطاعت بوكو حرام توظيفها مثلما وظفت كذلك تحول الجهاد العالمي من القاعدة إلى داعش في العام 2014 عبر مبايعة تنظيم الدولة الإسلامية.

وأضيف لتداخل العاملين الهوياتي والقبلي عامل آخر يتعلق بالجريمة المنظمة في الساحل والصحراء، لتأمين تمويل الأنشطة الإرهابية، سواء عبر تجارة الرهائن والتهريب عبر الحدود، مثل جماعة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا التي شكلت واجهة جهادية لتجارة المخدرات، عبر رجال أعمال قبليين.

المنطق ذاته للإرهاب الهجين يتجلى في شمال بوركينا فاسو، وترتكز جماعة أنصار الإسلام على قبائل الفلان، والتي بدورها لها امتدادات داخل شمال مالي وتمثل أيضا العناصر الأساسية لجبهة تحرير ماسينا.

ويجمع بين هاتين الحركتين حلم استعادة الإمبراطورية الفلانية لتطبيق الشريعة، مثلما تسعى بوكو حرام هي الأخرى إلى استعادة الحدود القديمة للمملكة الإسلامية القديمة التي حملت اسم (كانم برونو)، وضمت مناطق في نيجيريا والنيجر والكاميرون وتشاد.

يضاف إلى كل ذلك، تأثر جماعات الإرهاب بالأوضاع السياسية الداخلية، فمثلا ثمة اتهامات لجنود قوة الحرس الرئاسي للرئيس السابق بليز كومباري الذي أطيح به في بوركينا فاسو في العام 2014 بأنها تلعب دورا في دعم جماعة أنصار الإسلام، كما أن أحد تفسيرات نشأة بوكو حرام ترجعها إلى الصراع السياسي على السلطة في ولاية برونو شمال شرقي نيجيريا، حيث تشير تحليلات غربية إلى أن مودو شريف أحد الحكام السابقين للولاية، كون مجموعة مسلحة مثلت الأساس لبوكو حرام،.

يظل “الإرهاب الهجين” بما يحمله من تشابكات معقدة، يفرض مقاربات مختلفة أكثر شمولا في الساحل والصحراء تستدعي معالجة جذرية للعوامل الهوياتية والأمنية والسياسية والاقتصادية للظاهرة الجهادية، وليس فقط احتواء تأثيراتها أمنيا، ثم لا تلبث أن تعود مجددا إذا توفرت لها المحفزات، كما يبدو من مقاربات تدويل الإرهاب الأفريقي.

اجمالي القراءات 1741