مجدى خليل يكتب عن البابا شنودة

في الإثنين ٢٦ - مارس - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

البابا شنودة معلم الشعب

مجدى خليل

فى 4 نوفمبر 2001 ، وبمناسبة مرور ثلاثين عاما على جلوسه على كرسى مارمرقس الرسول، كتبت فى جريدة وطنى مقالا بعنوان " البابا شنودة معلم الشعب" وقلت وقتها أن أفضل وصف يمكن أن يدخل به قداسته التاريخ الكنسى بجدارة هو " معلم الشعب"، والآن وقد غادر قداسة البابا شنودة عالمنا إلى مواضع النياح والراحة والفرح أعيد التأكيد على أن هذا هو أنسب القاب قداسة البابا ويترجم أهم أنجازاته منذ أن كان أسقفا للتعليم، وهو تعليم الرعية والوصول للناس العاديين والبسطاء فى كل مكان.

 

من تقاليد الكنيسة القبطية هى صبغ بعض البطاركة المتميزين بالقاب محددة، مثل البطريرك الأول ومؤسس الكنيسة نقول عنه الشهيد مار مرقس الأنجيلى والرسول لأنه كاتب لأنجيل مرقس وأحد رسل المسيح السبعين وكذلك أستشهد فى الأسكندرية بعد كرازته للمصريين، هناك أيضا البابا أثناسيوس الرسولى لأنه أرتقى لمستوى الرسل بعد أن دافع عن لاهوت المسيح بجدارة فى مؤتمر نيقية  عام 325 م.فى مواجهة بدعة أريوس، ويعود للبابا أثناسيوس الرسولى الفضل فى كتابة قانون الأيمان المسيحى المتفق عليه من جميع المسيحيين فى العالم كله حتى الآن، وهناك مثلا القديس كيرلس عمود الدين لأنه دافع عن الإيمان المسيحى بعمق وقوة حتى حاز هذا اللقب، وهناك البابا كيرلس الرابع المعروف بأبو الأصلاح لأنه أول من أسس المدارس القبطية وأدخل تعليم البنات فى مصر كلها والعديد من الإصلاحات الأخرى، وهناك البابا كيرلس السادس رجل المعجزات لأن الله أعطاه موهبة عمل المعجزات بغزارة.

 

البابا شنودة يمكن أن يوصف بأشياء كثيرة، فهو الأديب والفيلسوف، والكاتب غزير الأنتاج، والمثقف الموسوعى، والمفكر الكبير، والوطنى النبيل بل وضمير الوطن،والواعظ المفوه، والراعى الصالح، والثائر فى الحق، والوديع الهادئ، والمتأمل العميق، والناسك الروحانى، وفم الذهب، والقديس، وشاعر النسكيات ،والقائد الحازم، ومعلم الآجيال، والآب الحنون،والصامد الصابر،وسجين الضمير كما وصفته منظمة العفو الدولية.... ولكن رغم كل هذا يبقى لقب معلم الشعب هو الأفضل والأنسب لماذا؟.

اولأ: لأن قداسة البابا هو أول اسقف فى تاريخ الكنيسة القبطية للتعليم وللمعاهد الدينية والتربية الكنسية، وهو أيضا الأسقف الوحيد الذى أخذ هذه الرتبة فى تاريخ الكنيسة كله.

 

ثانيا: أن قداسة البابا شنودة كان حساسا جدا لمسألة التعليم والرعاية الروحية ويعتبرهما مهمة البطريرك الرئيسية، وخاصة التعليم الأرثوذكسى الصحيح والمسلم من الرسل، ولهذا كان يخشى دائما أن يكون مقصرا من ناحية أداء هذه المهمة وتوصيلها إلى كل فرد فى رعيته.

 

ثالثا:أنا لأ أعرف ولا أتذكر فى التاريخ القبطى كله بطريركا قام بكل هذا المجهود المكثف من العمل التعليمى بقدر ما أعرفه عن قداسة البابا شنودة، فعلى مدى خمسة عقود منذ رسامته أسقفا للتعليم فى 30 سبتمبر 1962، قام بمجهودا خرافيا من آجل نشر التعليم عبر كافة الوسائل، سواء الوعظ أو الكتابة والنشر أو الصحف والمجلات أو التليفزيونات أو شرائط الكاسيت،أو الأقراص المدمجة،أو الإذاعة عبر الأنترنت، أو الأنتشار فى الفضائيات المسيحية،  أو الأهتمام بالمعاهد التعليمية.

 فقد بدأ النشر فى مجلة الحق عام 1947، وفى سنة 1949 أصبح رئيسا لتحرير مجلة مدارس الأحد حتى رهبنته فى يونيه 1954.فى يناير 1965 أصدر العدد الأول من مجلة الكرازة والتى رأس تحريرها حتى أنتقاله بسلام إلى الأبدية. ومنذ عام 1966 أيضا وهو يكتب مقالا أسبوعيا رئيسيا فى جريدة وطنى وحتى نياحته. وكان حتى نياحته ولسنيين يكتب مقالا أسبوعيا لجريدة الأهرام، وكتب أيضا فترة من الزمن مقالا أسبوعيا لجريدة الجمهورية. هو أيضا أكثر بطريرك فى تاريخ الكرازة أجاب على أسئلة الناس خلال محاضراته ولقاءته ، وهو أكثر بطريرك يزور رعاياه فى كافة دول العالم التى يوجد بها أقباط ويباركهم ويعظهم ويجيب على أستفساراتهم ويهدئ هواجسهم. هو أيضا كان يلتقى بالشعب يوم الجمعة اسبوعيا فى محاضرة حاشدة ويوم الثلاثاء فى محاضرة لطلبة الاكليريكية، وبعد عودته من الاحتجاز فى دير أنبا بيشوى تغير يوم الجمعة إلى يوم الأربعاء. هو أيضا المؤلف الذى كتب حوالى مائتى كتاب تناولت كافة أوجه النواحى الدينية، وهو أيضا المحاضر فى العديد من الندوات والمؤتمرات والمقابلات الإعلامية رأفعا مبدأ تبسيط التعليم وتعميق المعانى وشمولية المنهج وعمق الرسالة  وبلاغة اللفظ مع تكثيف أستخدام آيات الكتاب المقدس.

 

رابعا: هو أيضا البطريرك الذى أرتقى بمستوى تعليم الكهنة إلى أقصى مدى، فكان يحاول اختيار الأفضل تعليما والأكثر إيمانا والمحبوب والمرشح من شعبه، وقد أحدث قداسته نقلة نوعية فيما يتعلق بتعليم الكهنة.

 

خامسا: هو أيضا الحاصل على جائزة أفضل معلم وواعظ فى العالم للدين المسيحى لسنة 1987 من مؤسسة بروننج الأمريكية، وأكثر معلم وواعظ يستخدم آيات الكتاب المقدس .

 

سادسا: هو أيضا أحد أعمدة مدارس الأحد منذ تأسيسها على يد المصلح الكبير حبيب جرجس ،وكان مؤسسا لفرعها فى شبرا عام 1940 ثم  عضوا فى لجنتها العليا، وكان أقرب تلاميذ المعلم العظيم حبيب جرجس والذى كتب عنه بعد نياحته مقالا مؤثرا بعنوان " حبيب جرجس رائد التعليم الدينى فى جيلنا"، وقد أستلم قداسة البابا الريادة من حبيب جرجس وتوسع وأكمل ما بدأه بشكل غير مسبوق، وهو أيضا تأثر كثيرا بوداعة وطريقة حبيب جرجس وروحه المرحة المحبة للجميع.

 

سابعا:هو أيضا البابا الوحيد فى تاريخ الكرازة المرقسية الذى حصل على هذا العدد الكبير من الدكتوروهات الفخرية على سبيل المثال من بلومفيلد بنيوجيرسى(21ابريل 1997)، وسان بيتر بجرسى سيتى( 22 مايو 1977)،وسان فانسان ببتسبرج(28 سبتمبر 1989)،وبون (17 نوفمبر 1990)، ونورث بارك بشيكاغو (30 ابريل 2001)،وناشوتا هاوس بوسكنسن (2 مايو 2001)، وتوليدو بأوهايو ( 30اغسطس 2002)، ولورانس ميتشجان( أغسطس 2007)، وبوادبست بالمجر ( 20 أغسطس 2011).

 

ثامنا: هو أيضا الذى وسع خدمة الرعاة والرعية ليشمل 116 أسقفا رسمهم بيديه الطاهرتين واكثر من 2000 كاهن وأكثر من 400 كنيسة حول العالم وفى قاراته الستة، وذلك بخلاف الكنائس فى مصر، وفى كل هذه الأحداث دشن وعلم ووعظ وارشد ونصح وشجع واحتضن وساند، وشق طرقا للرعاية والتعليم وسط المشاكل الكثيرة ، وكان له كلمة شهيرة لمن يشتكى له من معوقات ومشاكل هى " خليك فى الطرق السالكة"، ناصحا الجميع بتجاوز المشاكل بالإنجازات وتراكم العمل الذى يجعل الإنسان ليس لديه وقت للمشاكل.

 

تاسعا: وهو أيضا البطريرك الذى خرجت منه مئات الجمل التعليمية القصيرة والبليغة، لا يتسع المجال هنا لذكرها طبعا، والتى تعتبر كل منها عظة متكاملة مكثفة ، ولكن لا مانع من نقل عبارات ذهبية مما قاله مثل "كل فضيلة خالية من الحب لا تحسب على الاطلاق فضيلة"،" إن كنت لا تستطيع أن تحمل عن الناس متاعبهم فعلى الأقل لا تكن سببا فى اتعابهم"، "الجسد حتما سينتهى فياليته ينتهى من آجل عمل صالح"، "إن ضعفت يوما فأعرف أنك نسيت قوة الله"، "ليس القوى من يهزم عدوه وأنما من يربحه"، "مصر ليست وطنا نعيش فيه بل وطن يعيش فينا، " حيثما يوجد البابا يكون المقر البابوى" ، " لم يحدث أن الشمس اخفت وجهها عن الأرض وأنما الأرض هى التى أدارت ظهرها للشمس"، "لا اريد شيئا من هذا العالم لأن العالم أفقر من أن يعطينا شيئا" ، "الله يسمع صوت صمتنا"، " احفظ المزامير تحفظك المزامير" " ربنا موجود... كله للخير... مسيرها تنتهى"..........

 

عاشرا: فى كافة مجالات الخدمة والرعاية والتعليم والمعاهد التعليمية والعمل المسكونى والزيارات كان يهتم جدا بنوعية التعليم من حيث البساطة والسلاسة والوضوح والمباشرة والتركيز والتعليم الصحيح، فهو لا يكتب لكى يتفلسف على الناس وأنما لتعليم العامة، وهو لا يكتب للآهوتيين المتخصصين وأنما لشعبه الذى يرغب فى ربحه للملكوت، ولا يكتب باسلوب الأسهاب والحشو واللغو وأنما بالأسلوب السهل الممتنع المركز الذى يسير إلى الهدف مباشرة، ولا يعظ لعلية القوم أو صفوة المتعلمين وأنما للإنسان البسيط والمتوسط وما تحت المتوسط لأنه راع مسئول عن رعية وعن خراف المسيح.

 

نعم البابا شنودة هو معلم الآجيال وهو حبيب الملايين وهو الكثير والكثير ، ولكن اللقب الذى يستحق أن يدخل به التاريخ الكنسى هو " معلم الشعب"، لأنه فعل كل ما فعل من آجل الشعب، من آجل الناس بكافة طبقاتهم ومستوياتهم التعليمية وتواجدهم الجغرافى وتنوعهم العمرى والنوعى، من آجل الإنسان، من آجل الخطاة كسيده، من آجل المحتاج للتعليم،من آجل البسطاء كمعلمه المسيح الذى جال فى كل مكان يصنع خيرا معلما ومرشدا ومضمدا جراح المتألمين وداعيا الناس إلى ملكوت أبيه.

لقد صدق قداسة البابا فى قوله: ليس لى سكنا إلا فى قلوبكم الممتلئة حبا، وقد بادله الشعب هذا الحب بصدق فصار حبيب الملايين.

وداعا معلمنا الكبير... وداعا أبى وأستاذى وحبيبى وصديقى.... وداعا معلم الشعب

 

magdi.khalil@hotmail.com

 

اجمالي القراءات 2010