حصار الحرم وحرق الكعبة ـ صفحة من التاريخ الأسود للسلف الصالح

آحمد صبحي منصور في الخميس ١٠ - مارس - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

حصار الحرم وحرق الكعبة  ـ صفحة من التاريخ الأسود للسلف الصالح

أولا : الحصار الأول لابن الزبير فى مكة

1 ـ كان معاوية عند وفاته قد حذر ابنه يزيد من عبد الله بن الزبير بالذات ، وأوصى ابنه أن يأخذ ابن الزبير بالشدة . كما حذره من عصيان اهل المدينة ، وأوصاه إن فعلوا فليبعث لهم بمسلم بن عقبة لأنه يثق فى إخلاصه . وفعلا فقد اعلن عبد الله بن الزبير نفسه خليفة ، وتحصّن بالبيت الحرام رافضا ان يذهب الى العراق فينتهى قتيلا مثل ( على ) وابنه ( الحسين ). يبدو أن ابن الزبير قد ظن أن حُرمة البيت ستجعل الأمويين يتحرجون من بعث جيش اليه فينتهك حُرمة البيت الحرام . والواقع أن الأمويين بعد قتل الحسين قد وصلوا الى نهاية الشوط ، فلم يعوددوا يتحرجون من شىء ولا يتوقفون عن شىء ، ولا تأخذهم فى إحتفاظهم بمُلكلهم لومة لائم . وفعلا فإن الأمويين أرسلوا جيشهم فى الشهر ( الحرام  ) ليهاجم ابن الزبير الثائر المستجير بالبيت ( الحرام  ). مسئولية ابن الزبير تعادل ـ إن لم تتفوق على ــ مسئولية الأمويين ، لأنه هو الذى وضع البيت الحرام فى هذا الموضع ، إختار أن يجعله مركزه الحربى وحصنه الذى يتحصّن به. فإذا كان حراما حمل السلاح فى الحرم فكيف بتحويل الحرم الى ثكنة عسكرية ، تقول لأعدائها تعالوا حاربونى . ؟ .

2 ـ ويذكر الطبرى أن ابن الزبير عندما أعلن ثورته فى مكة بعث يزيد بن معاوية الى الوالى عبيد الله بن زياد فى العراق يأمره بغزو ابن الزبير فى الحرم ، فرفض ابن زياد وقال : ( لا أجمعهما للفاسق أبدا ، أقتل ابن بنت رسول الله وأغزو البيت )؟!.. برفض ابن زياد أمر يزيد بن معاوية ( مسلم بن عقبة ) أن يغزو ابن الزبير بعد أن يفرغ من المدينة . وانتصر مسلم بن عقبة على المدينة ، وتركها وإستخلف عليها ( روح بن زنباغ الجذامى )، وتحرك بالجيش قاصدا ابن الزبير فى مكة . وحضره الموت فى الطريق فى آخر المحرم عام 64 ، وعلى فراش الاحتضار دعا الحصين بن نمير السكونى وقال له :( يا برذعة الحمار ، أما لو كان لى هذا الأمر ما وليتك هذا الجند ، ولكن أمير المؤمنين ولاك .وليس لأمره مترك .) ثم أوصاه فقال : (  أسرع المسير ،وعجل الوقاع ( أى الاشتباك الحربى ) ، وعم الأخبار ( يعنى انشر عيونك وجواسيسك يأتوك بالأخبار ) ، ولا تمكّن قرشيا من أذنك ،ولا تؤخر ابن الزبير ثلاثا حتى تناجزه ( أى تقاتله ) ، وقال له : (  إنك تقدم بمكة ولا منعة لهم ولا سلاح . ولهم جبال تشرف عليهم ، فانصب عليهم المنجنيق ، فإنهم بين جبلين ، فإن تعوذوا بالبيت فارمه واتجّه على بنيانه‏.)‏ أى أمره برمى الكعبة بالمنجنيق لو إستجار ابن الزبير به . ثم قال :( اللهم إني لم أعمل عملًا قط بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ، أحب إلي من قتل أهل المدينة ولا أرجى عندي في الآخرة‏. ) ‏واوصى لأهله بضيعته فى حوران ، واوصى الى جاريته بداره ومافيها. ومات فدفن بالمشلل‏.‏ 

2 ـ  ووقع حصار البيت (الحرام ) فى شهر محرم ( الحرام ) عام 64 .

وجاء الخوارج بقيادة نجدة بن عامر الحنفى للدفاع عن البيت الحرام ، وخرجت من المدينة جموع اتجهوا الى مكة لمساعدة ابن الزبير إنتقاما لما حدث لهم فى موقعة الحرة . وجاء معهم المنذر بن الزبير مناصرة لأخيه عبد الله بن الزبير وصل الجيش الأموى الى مكة وباشر حصارها ، وأرسل عبد الله بن الزبير أخاه المنذر بمجموعة إشتبكت مع جيش الأمويين ، واستمر القتال ساعة ، ثم إن رجلا من أهل الشام دعا المنذر إلى المبارزة  ، فخرج إليه المنذر فضرب كل واحد منهما صاحبه ضربة خر صاحبه لها ميتا ، فجثا عبدالله بن الزبير على ركبتيه يدعو على الذي بارز أخاه.  ثم إن أهل الشام شدوا على ابن الزبير شدة منكرة وهرب أصحابه ، وعثرت بغلته،  فقال " تعسا " ثم نزل وصاح بأصحابه إلي نجدته ، فأقبل إليه جماعة منهم المسور بن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة ومصعب بن عبدالرحمن بن عوف الزهري ، فقاتلوا حتى قتلوا جميعا ، واستمر القتال حتى الليل ،ثم يستأنفونه فى الصباح . وهكذا من شهر المحرم وصفر حتى الأيام الأولى من شهر ربيع الأول .   

3 ـ ثم بدأ الجيش الأموى يقذف البيت الحرام بالمنجنيق يوم السبت الثالث من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين. وفى هذا اليوم إشتعلت النيران فى الكعبة . وظلوا يقذفون البيت بالصخور المحماة ،وهم ينشدون شعرا يقولون :        

خطارة مثل الفنيق المزبد     نرمي بها أعواد هذا المسجد

وكانوا يقولون :

 كيف ترى صنيع أم فروه   تأخذهم بين الصفا والمروه ؟

وأم فروة يعني المنجنيق.

4 ـ وهناك من يروى أن شرارة نار من أتباع ابن الزبير كانت السبب ، تقول الرواية للواقدى : ( كانوا يوقدون حول الكعبة ، فاقبلت شررة هبت بها الريح فاحترقت ثياب الكعبة واحترق خشب البيت يوم السبت لثلاث ليال خلون من ربيع الأول ) ( حدثني عروة بن أذينة قال قدمت مكة مع أمي يوم احترقت الكعبة قد خلصت إليها النار ، ورأيتها مجردة من الحرير ورأيت الركن قد اسود وانصدع إلى ثلاثة أمكنة ، فقلت ما اصاب الكعبة ؟ فأشاروا إلى رجل من اصحاب عبدالله بن الزبير،  قالوا : "هذا احترقت بسببه ، أخذ قبسا في رأس رمح له ، فطيرت الريح به ، فضربت أستار الكعبة ما بين الركن اليماني و الحجر الأسود  "). إذا كان هذا صحيحا وأن الحريق بسبب إهمال شائن من واحد من اتباع ابن الزبير لم يتعمد إحراق البيت ، ، فلماذا لم يبادروا بإطفاء الحريق ؟ ولماذا سكتوا عليه الى أن أحرق الكعبة ؟ . هذه مسئولية ابن الزبير الذى إحتمى بالكعبة خوفا من مصير الحسين ، ومع ذلك أهمل فى حراستها ، وحين إشتعلت فيها النار لم يبادر بإطفائها . وهناك رواية تقول أنابن الزبير ترك النار تحرق الكعبة ليحرض الناس على الأمويين ويشنع عليهم .  وقال الواقدي  : ( احترقت الكعبة يوم السبت لثلاث ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين قبل أن يأتي نعي يزيد بن معاوية بتسعة وعشرين يوما . وجاء نعيه لهلال ربيع الآخر ليلة الثلاثاء ) أى مات يزيد بن معاوية فى دمشق أثناء قصف جيشه للكعبة بالمنجنيق .

4 ـ  ولما هلك يزيد بن معاوية مكث الحصين بن نمير وأهل الشام يقاتلون ابن الزبير وأصحابه بمكة أربعين يوما قد حصروهم حصارا شديدا وضيقوا عليهم ، ثم بلغ ابن الزبير وأصحابه موت يزيد بن معاوية قبل أن يعرف به  الحصين بن نمير قائد الجيش الأموى . وعندما علم ابن الزبير بموت يزيد صاح بالجيش الأموى : ( إن طاغيتكم قد هلك فمن شاء منكم أن يدخل فيما دخل فيه الناس فليفعل فمن كره فليلحق بشأمه ) . فلم يصدقوه ، واستمروا فى قتاله ، فظل يناديهم هو وأهل مكة : ( علام تقاتلون قد هلك طاغيتكم ) وهم لا يصدقونه ( إذ مات يزيد فى عنفوان شبابه ) . ثم قدم ثابت بن قيس النخعي من أهل الكوفة في رؤوس أهل العراق ، فمر بالحصين بن نمير ، وكان له صديقا وكان بينهما صهر، فسأل عن الخبر فأخبره بهلاك يزيد. ! .. فبعث الحصين بن نمير إلى عبدالله بن الزبير فقال : ( موعد ما بيينا وبينك الليلة بالأبطح  ) فالتقيا . فقال له الحصين : ( إن يك هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس بهذا الأمر ، هلم فلنبايعك ، ثم اخرج معي إلى الشام ، فإن هذا الجند الذين معي هم وجوه أهل الشام وفرسانهم ، فوالله لا يختلف عليك اثنان، وتؤمن الناس وتهدر هذه الدماء التي كانت بيننا وبينك والتي كانت بيننا وبين أهل الحرة. ) فقال ابن الزبير :  ( أنا أهدر تلك الدماء ؟ أما والله لا أرضى أن أقتل بكل رجل منهم عشرة . ) وأخذ الحصين يكلمه سرا وهو يجهر جهرا ، وأخذ يقول : لا والله لا أفعل . فقال له الحصين بن نمير : ( قبح الله من يعدك بعد هذه داهيا قط أو أديبا . قد كنت أظن أن لك رأيا .  أكلمك سرا وتكلمني جهرا، وأدعوك إلى الخلافة وتعدني القتل والهلكة . ) ثم قام فخرج وصاح في الناس فأقبل فيهم نحو المدينة . فكان سعيد بن عمرو يقول عن ابن الزبير وحمقه وجبنه : (والله لو سار معهم حتى يدخل الشام ما اختلف عليه منهم اثنان ) .

5 ــ وندم ابن الزيير ،  فأرسل إلي الحصين بن النمير يقول : ( أما أن أسير إلى الشام فلست فاعلا وأكره الخروج من مكة . ولكن بايعوا لي هنالك فإني مؤمنكم وعادل فيكم ) يعنى لا يزال محتفظا بجبنه ، يريدهم أن يحاربوا من أجله وهو متعلق بأستار الكعبة محتميا بها . وردّ عليه  الحصين : ( أرايت إن لم تقدم بنفسك ووجدت هنالك ( فى الشام ) أناسا كثيرا من أهل هذا البيت يطلبونها ويجيبهم الناس ، فما أنا صانع ؟ ) .

ثانيا : الحصار الثانى ومقتل ابن الزبير عام 73

1 ـ لما احترقت الكعبة حين غزا أهل الشام عبد الله بن الزبير أيام يزيدتركها ابن الزبير حتى إحترقت ليشنع بذلك على أهل الشام . ، كانت قد مالت حيطانها من حجارةالمنجنيق.  فلما مات يزيد واستقر الأمر لابن الزبيرهدمها حتى سواها بالأرض ، ثم أعا بناءها . و‏ كانت عمارتها سنة أربع وستين.

2 ـ وفى عام 73 : قتل عبد الملك بن مروان (مصعبا بن الزبير ) ً والى الكوفة لأخيه عبد الله بن الزبير . وبذلك أصبح ابن الزبير محصورا فى الحجاز. ولم يبق أمام عبد الملك إلا القضاء عليه . فأرسل اليه الحجاج بن يوسف فى بضعة آلاف . وبعث عبد الملك مع الحجاج كتاب أمان لابن الزبير ومن معه إن أطاعوا . ووصل جيش الحجاج الى الطائف ، ولم يعرض للمدينة ، وجرت مناوشات بين الجيش الأموى وجيش ابن الزبير كان النصر فيها للأمويين .   ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في دخول الحرم وحصر ابن الزبيرويخبره بضعف ابن الزبير وتفرق أصحابه عنه ، ويطلب المزيد من الجنود ، فأرسل اليه عبد الملك مددا ، وضم المدينة ، واتجه الحجاج بجيشه الى مكة ، بعد أن أذن له عبد الملك بن مروان بانتهاك الحرم . وحاصر الحجاج مكة ، ونصب المنجنيق على أبيقبيس ورمى به الكعبة. والطريف أن عبد الملك إحتج على يزيد عندما ضرب جيشه الكعبة بالمنجنيق ، فلما ولى الخلافة فعل نفس المنكر . وحج ابن عمر تلك السنة فأرسل إلى الحجاج: أن اتقالله واكفف هذه الحجارة عن الناس فإنك في شهر حرام وبلد حرام وقد قدمت وفود الله منأقطار الأرض ليؤدوا فريضة الله ويزدادوا خيراً، وإن المنجنيق قد منعهم عن الطواف،فاكفف عن الرمي حتى يقضوا ما يجب عليهم بمكة. فبطل الرمي حتى عاد الناس من عرفاتوطافوا وسعوا، ولم يمنع ابن الزبير الحاج من الطواف والسعي، فلما فرغوا من طوافالزيارة نادى منادي الحجاج: ( انصرفوا إلى بلادكم فإنا نعود بالحجارة على ابن الزبيرالملحد.).

3 ـ واستمر القتال مع حصار مكة ، فغلت الأسعار عند ابن الزبير، وأصاب الناس مجاعة شديدة حتى ذبح فرسه وقسملحمها في أصحابه، وبيعت الدجاجة بعشرة دراهم ، وكانت بيوت الزبير مملوءة قمحاً وشعيراً وذرة وتمراً، وكان يحفظ ذلك ولا ينفق منه إلا ما يمسك الرمق، ويقول: أنفس أصحابي قوية مالم يفن.فلما كان قبيل مقتله تفرق الناس عنه وخرجوا إلى الحجاج بالأمان، خرج منعنده نحو عشرة آلاف، وكان ممن فارقه ابناه حمزة وخبيب، وأخذا لأنفسهما أماناً من الحجاج .  ولما تفرق أصحابه عنه دخل ابن الزبير لأمه أسماء بنت أبى بكر فقال: ( يا أماهقد خذلني الناس حتى ولدي وأهلي ولم يبق معي إلا اليسير ومن ليس عنده أكثر من صبرساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ ) فقالت: ( أنت أعلم بنفسك، إن كنتتعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له فقد قتل عليه أصحابك ولا تمكن من رقبتك يتلعببها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك ومن قتلمعك، وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين،كم خلودك في الدنيا! القتل أحسن! ) فقال: ( يا أماه أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوابي ويصلبوني. ) قالت: ( يا بني إن الشاة لا تتألم بالسلخ إذا ذبحت، فامض على بصيرتكواستعن بالله.). وخرج ابن الزبير فقاتل حتى قُتل فى يوم الثلاثاء من جمادى الآخرة وله ثلاث وسبعون سنة، وتولى قتله رجل من مراد، وحملرأسه إلى الحجاج فسجد شكرا.

4 ـ وبعث الحجاج برأسه ورأسعبد الله بن صفوان ورأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى المدينة أولا ،  ثم الى دمشق إلى عبد الملكبن مروان.  وأخذ الحجاج جثته فصلبها على الثنية اليمنى بالحجون.

اجمالي القراءات 39947