دفاع عن الحديث :
أضواء على السنة المحمدية 1

محمد البارودى   في الثلاثاء ٠٨ - سبتمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً


 

بسم الله الرحمن الرحيم
 كتاب أعجبني:
اهلا و سهلا بكم أهل القرآن  فى باب (كتاب اعجبني)
ويتخصص هذا الباب بعرض أهم الكتب القيمة والنادرة التي تشكل علامة بارزة فى تطور المسلمين الفكرى ، نقوم بتجميعها و اعادة نشرها هنا فى موقعنا أهل القرآن على حلقات .
و نحب ان ننوه اننا ننشر هذة الكتب للدراسه والتعليق عليها ، ولا يعني ذلك اننا على اتفاق تام على ما فيها ،  فمنهجنا واضح و صريح و معلن فى أن معظم هذه الكتب هى محاولة لتنقية الحديث و إصلاح ما يعرف بالسنة . وهى محاوله استهلكت جيل المصلحين فى القرن الماضى ، خصوصا فى مدرسة الامام محمد عبده .
ولقد تجاوزنا ـ نحن أهل القرآن ـ هذه المرحلة ، بمعرفة الطريق الصحيح وهو أن نولى وجهنا للقرآن الكريم نكتشف كنوزه المنسية ، ونحتكم اليه فى اصلاح المسلمين ، مؤمنين بما جاء فيه من أن الحديث الوحيد الذى يجب الايمان به هو حديث الله جل وعلا فى القرآن الكريم ، وأن السّنة الواجبة الاتباع والتى كان يتبعها خاتم المرسلين هى سنة الله جل وعلا فى القرآن الكريم .وما عدا ذلك فهو فكر المسلمين بكل ما فيه من صواب وخطأ.
ولكن يبقى أن يتسع وقتنا للنظر فى المرحلة السابقة التى تجاوزناها ، مرحلة الاصلاح من داخل السنة ، وأن نعرض بعض تراثها العلمى هنا للنقاش ، حيث لا تخلو من فائدة معرفية ، وحيث يكون من الأسلم فى بنائنا الثقافى و الفكرى ان نتعرف على التطور الفكرى الذى نقف على قمته .
من أجل هذه ندعو أهل القرآن لمناقشة تلك المؤلفات ، ونعرض كل كتاب على حلقات ، ونتوقف مع كل حلقة بالنقاش لمدة أسبوع ، ثم تاتى الحلقة التالية ، وهكذا الى أن نفرغ من الكتاب فيأتى الذى يليه .
ونبدأ بكتاب الاستاذ محمود ابوريه ( أضواء على السنة المحمدية )
وكل عام وانتم بخير
رمضان 1430
سبتمبر 2009 .
محمد البارودى
 
الأخوة و الأخوات الأحباء فى الله
نبدأ فى نشر كتاب اسمه اضواء على السنه المحمديه و ايضا يسمى دفاع عن الحديث للكاتب الأستاذ محمود ابو رية وهو كتاب قيم للغايه ومليئ بالمعلومات التى يجب على كل مسلم باحث عن الحق الألمام بها.
و هذا الكتاب طبع و نشر فى مصر عن طريق دار المعارف المصريه و لشدة الأقبال على الكتاب و نفاذ النسخ من الأسواق فقد تم اعادة الطبع سته مرات و من حسن حظ الكاتب ان هذا الكتاب قد نشر و طبع فى فتره الخمسينات من القرن الماضى وكانت من سمات هذه الحقبه الزمنيه التفتح العقلى و كثرة القراءه و عدم الحجر على الرأى كما لم تكن هناك اى نفوذ تذكر للوهابيه و السلفية و المتصوفة و لذلك لقى الكتاب رواجا فى الشارع المصرى و العربى و تصوروا لو اراد الأستاذ محمود ابو رية نشر هذا الكتاب فى زمننا الحالى لكان وجد من فتاوى التكفير و التحريم واباحة قتله لدرجة انه سيفكر مليا قبل نشر الكتاب خوفا على حياته.
 
و سنبدا الجزء الأول من هذه الحلقات بالتعريف بالكاتب والأهداء و تعليق الدكتور طه حسين على الكتاب و مقدمة الكتاب
اولا التعريف بالكاتب:
ولد  الأستاذ الشيخ محمود أبو ريّة ـ وهو من علماء مصر المحققين البارزين ـ فيمدينة كفر المندرة مركز اجا في محافظة القهليةعام 1889م، وقد جمع بين الدراسة المدنيةبالمدارس الابتدائية والثانوية والمعاهد الدينية. من آثاره «عليّ وما لقيه من أصحابالرسول ـ مخطوط» و«أضواء على السنة المحمديّة» و«أبو هريرة شيخالمضرة» و«السيد البدوي» وكتاب «حياة القرى» و«صيحة جمال الدينالأفغاني» و«رسائل الرافعي» «ودين الله واحد» وقصة الحديث المحمدي .
وقد توفي الأستاذ محمود ابو رية في جيزة القاهرة عام 1970م.
 ومن أقواله المأثورة:
ومن عجيب أمر هؤلاء الذين يقفون في سبيلالحق حتّى لا يظهر ، ويمنعون ضوء العلم الصحيح أن يبدو، لا يعلمون مقدار ما يجنون منوراء جمودهم، وأن ضرر هذا الجمود لا يقف عند الجناية على العلم و الدين فحسب ؟ بليمتد إلى ما وراء ذلك.
فإن الناشئين من المسلمين وغير المسلمين الذين بلغوابدراستهم الجامعية العلمية ..قد انصرفوا عن الإسلام لما بدى لهم على هذه الصورة المشوهة التي عرضها هؤلاء الشيوخعليهم، من أجل ذلك كله كان من الواجب الحتم على العلماء المحققين الذين حررواأعناقهم من أغلال التقليد، وعقولهم من رقّ التعبد للسلف، أن يشمروا عن سواعد الجد،ويتناولوا تاريخنا بالتمحيص، وان يخلصوه من شوائب الباطل والعصبيّات، ولا يخشون فيذلك لومة لائم.  ( 
الأهداء:
إلى ولدي العزيز مصطفى (1) كانت سعادتي في وجودك، وحياتي تستضئ بنورك، فلما أفل بدرك، وغاب عن عيني شخصك، أطبقت على الدنيا بأحزانها وبأسائها، وأصبحت غريبا فيها وإن كنت من أبنائها. فإليك يا ولدي العزيز أهدي هذا الكتاب الذي ما قصدت بتأليفه إلا وجه الحق الذي فطرك الله عليه، وكنت دائما تؤثره وتسكن إليه، وخدمة العلم الذي أخلصت له نفسك، وأفنيت فيه عمرك، وجاهدت حق الجهاد في تحصيله، وقضيت نحبك في سبيله. وإني والله يا بني لعلي ما عهدت من حب عميق لك لم يظفر بمثله أحد غيرك، ومكانك من قلبي لا تدنو منه نفس سواك. لئن غبت عن عيني وشط بك النوى * فأنت بقلبي حاضر وقريب خيالك في وهمي، وذكرك في فمي * ومثواك في قلبي فأين تغيب؟ أما الأسى لك، والحزن عليك، فلا ينال منهما مرور الأيام، ولا يخففهما تطاول الأعوام، إذ لا صبر عليك ولا سلوان عنك. كيف أرجو شفاء ما بي، وما بي * دون سكناي في ثراك شفاء شطر نفسي دفنت، والشطر باق * يتمنى! ومن مناه الفناء
القاهرة - الجيزة
محمود أبو ريه
 (1) هو ولدي العزيز مصطفى صادق، ترقبه القضاء وهو يتهيأ للخروج إلى الحياة بعد إتمام دراسته الهندسية الكهربائية بجامعة القاهرة فعاجله بسهم مسموم نفذ إلى (صدره) فتلقته مصحة حلوان ليعاني فيها برحاء المرض، ويتلوى من غرز الإبر ثلاث سنين سويا، ثم فاضت روحه إل بارئها، وكان ذلك في فجر يوم الخميس غرة رمضان سنة 1359 - 3 أكتوبر سنة 1940 ولما يتجاوز الثانية والعشرين من عمره، ولم يدعني القضاء أتجرع الفجيعة التي قصمت ظهري فثنى بسهم آخر أصاب (كبد) أمه بعد أن ابيضت من الحزن عليه إحدى عينيها، فخرت صريعة بيني وبين أولادها. وقد أضرحت لها مع عزيزها لتأنس به ويأنس بها. وغادراني بعدهما في حزن مقيم وعذاب أليم، إلى أن يلحقني الله بهما. (*)
 
 
 رأى الدكتور طه حسين فى الكتاب:
هذا كتاب بذل فيه مؤلفه من الجهد ما لا يبذل مثله إلا الأقلون الذين يمكن إحصاؤهم في هذه الأيام التي انتشر فيها الكسل العقلي، وعم فيها إيثار الراحة والعافية على الجد والمشقة والعناء. والذين يقرأون هذا الكتاب قراءة المتدبر المستأني سيلاحظون مقدار هذا الجهد العنيف الذي مكن المؤلف من أن يصبر نفسه السنين الطوال على قراءة طائفة ضخمة من الكتب التي لا يكاد الباحثون يطيلون النظر فيها لكثرة ما يتعرضون له من كثرة الأسانيد وتكرارها وتعدد الروايات واضطرابها وإعادة الخبر الواحد مرات كثيرة في مواطن مختلفة. وأقل ما يوصف به النظر في هذه الكتب أنه يعرض صاحبه لكثير من الملل والضيق، فليس قليلا أن يأخذ الإنسان نفسه بقراءة المعروف من كتب السنة والموازنة بين ما روى فيها من الحديث في النص وفي الأسانيد التي روى بها هذا النص والبحث بعد ذلك عن الرجال الذين تتألف منهم هذه الأسانيد في الكتب المخصصة لذلك. * * *  ويكفي أن نذكر أن المؤلف قرأ كتاب الموطأ لمالك رحمه الله وصحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داوود وكتاب الترمذي، وكتاب ابن ماجة ومسند أحمد ابن حنبل، ونظر مع ذلك في شروح طوال لبعض هذه الكتب وفي كتب كثيرة أحرى منها الطوال ومنها القصار كتبت في تفسير نصوص الحديث وفي رجال الأسانيد وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وفي الطبقات. وهو قد أثبت أسماء الكتب التي قرأها والتي أطال النظر فيها أو رجع إليها في كتابه في آخر الكتاب، ويكفي أن تنظر إلى هذه الأسماء لتعرف مقدار ما أخذ المؤلف نفسه من الصبر والأناة والتعمق لما قرأ. فهذا وحده يدل على جهد عنيف وعبء ثقيل لا ينهض بهما في هذه الأيام إلا الأقلون جدا كما قلت آنفا.
 وهذه هي المزية الأولى التي تسجل لمؤلف هذا الكتاب، وقد قرأته مرتين، وأشهد أنه قد ذكر في أثناء كتابه كل الكتب التي أثبتها أو أشار إليها. وإذا كانت لهذا دلالة فهو يدل على أنه لم يبالغ ولم يتكثر حين أثبت هذه الكتب في مراجعه وإنما انتفع بها جميعا أدق الانتفاع وأقواه. وموضوع الكتاب خطير حقا وقيم حقا لا يقف الناس عنده في هذه الأيام وإنما يشفقون منه أشد الإشفاق يخافون أن تزل أقلامهم أو أن يثيروا سخط المحافظين الذين قرروا أن هذا النحو من العلم قد أصبح شيئا مقدسا أو كالمقدس لا ينبغي التعرض له إلا بالنقل والاستشهاد. فأما النقد والتعمق وإصدار الأحكام فأشياء لا يستقيم الخوض فيها لأحد. فقد أضاف المؤلف إذن إلى مزية الصبر والأناة وأخذ النفس بالعنف في سبيل البحث والإستقراء مزية أخرى وهي الشجاعة على البحث عن الحق والجهر به متى اطمأن إليه عقله لا يخاف في ذلك لوما ولا اعتراضا. وإنما هو مستعد للجدال عن آرائه والنضال عما استقر في نفسه أنه الحق. * * * الموضوع إذن خطير قيم وهو نقد ما وصل إلينا من الحديث الذي يحمل عن النبي صلى الله عليه وسلم وتمييز الصحيح من غيره ليطمئن المسلمون إلى ما يروى لهم عن رسول الله.
 وقد ألح المؤلف في تبيين أشياء تحمل على النبي وليست من كلامه في شيء وإنما دست عليه لأغراض مختلفة بعضها دسه جماعة من اليهود أظهروا الإسلام والورع واخترعوا أشياء من عند أنفسهم أضافوا بعضها إلى النبي وأضافوا بعضها إلى التوراة. وليست هي من كلام النبي ولا من التوراة في شيء. وبعضها دس أثناء الوعظ والقصص أريد بها دعوة الناس إلى الفضائل وحب الخير واجتناب الآثام فرغبوا ورهبوا ولم يتحرجوا من إضافة أشياء إلى النبي يرون أن الناس يتأثرون بها أكثر مما يتأثرون بكلام الوعاظ والقصاص. وأشياء أخرى دست تملقا للخلفاء ورجال الحكم والتماسا للحظوة عندهم، وأشياء أخرى اخترعها المختصمون في الكلام والفقه دفاعا عن آرائهم في هذين النوعين من العلم، وأشياء دست لنشر الدعوة لبعض الأحزاب السياسية في العصور الأولى. ذلك إلى أفراد من الناس أكثروا من اختراع الحديث ليلقوا في روع العامة وبعض الخاصة أنهم أصحاب علم غزير ومعرفة دقيقة بأقوال النبي وأعماله. وكان لهذا كله أثر أي أثر في إفساد العقول والانحراف بآراء كثير من الناس عن الاستقامة في فهم الدين وتصور النبي كما ينبغي أن يتصوره المسلمون منزها عن هذا السخف الكثير الذي حمل عليه وهو منه برئ. (وكان هذا أيضا مطمعا لكثير من خصوم الإسلام وأعدائه في نقد الدين والتحامل عليه وعلى الرسول الذي جاء به ظلما وبهتانا). * * * وقد فطن المحدثون القدماء لهذا كله واجتهدوا ما استطاعوا في التماس الصحيح من الحديث وتنقيته من كذب الكذابين وتكلف المتكلفين، وكانت طريقتهم في هذا الاجتهاد إنما هي الدرس لحياة الرجال الذين نقلوا الحديث جيلا بعد جيل حتى تم تدوينه. فكانوا يتتبعون كل واحد من هؤلاء الرجال ويتحققون من أنه كان نقي السيرة صادق الإيمان بالله ورسوله شديد الحرص على الصدق في حديثه كله وفي حديثه عن النبي خاصة. وهو جهد محمود خصب بذله المتقنون من علماء الحديث وأخلصوا فيه ما وجدوا إلى الإخلاص سبيلا. ولكن هذا الجهد على شدته وخصبه لم يكن كافيا، فمن أعسر الأشياء وأشدها تعقيدا أن تتبع حياة الناس بالبحث والفحص والتنقيب عن دقائقها، فمن الممكن أن تبحث وتفحص وتنقب دون أن تصل إلى حقائق الناس ودقائق أسرارهم وما تضمر قلوبهم في أعماقها وما يمعنون في الاستخفاء به من ألوان الضعف في نفوسهم وفي سيرتهم أيضا.
ولم يكن بد من أن يضاف إلى هذا الجهد جهد آخر وهو درس النص نفسه، فقد يكون الرجل صادقا مأمونا في ظاهر أمره بحيث يقبل القضاة شهادته إذا شهد عندهم. ولكن الله وحده هو الذي إختص بعلم السرائر وما تخفيه القلوب أو تستره الضمائر، وقد يكون الرجال الذين روى عنهم حديثه صادقين مأمونين مثله يقبل القضاة شهادتهم إن شهدوا عندهم، ولكن سرائرهم مدخولة تخفي دخائلها على الناس. فلا بد إذن من أن نتعمق نص الحديث الذي يرويه عن أمثاله من العدول لنرى مقدار موافقته للقرآن الذي لا يتطرق إليه الشك ولا يبلغه الريب من أي جهة من جهاته لأنه لم يصل إلينا من طريق الرواة أفرادا أو جماعات وإنما تناقلته أجيال الأمة الإسلامية مجمعة على نقله في صورته التي نعرفها. وهذه الأجيال لم تنقله بالذاكرة وإنما تناقلته مكتوبا، كتب في أيام النبي نفسه، وجمع في خلافة أبي بكر وسجل في المصاحف وأرسل إلى الأقاليم في خلافة عثمان. فاجتمعت فيه الرواية المكتوبة والرواية المحفوظة في الذاكرة وتطابقت كلتا الروايتين دائما فلا معنى للشك في نص من نصوص القرآن لأنها وصلت إلينا عن طريق لا يقبل فيها الشك. * * * وكذلك طائفة من أعمال النبي لم ينقلها فرد أو جماعة وإنما تناقلتها الأمة الإسلامية كلها جيلا عن جيل كالصلوات الخمس المكتوبة التي أمر الله بها ولم يفصلها ففصلها النبي حين صلى بأصحابه وتناقلتها الأمة على نحو ما أداها النبي. وقل مثل ذلك في الزكاة والحج وصيام رمضان الذي فصل الله في القرآن بعض أحكامه وفصلها النبي بصيامه وتعليم أصحابه كيف يصومون، فإذا وصل إلينا حديث عن النبي فينبغي أن ندرس نص هذا الحديث ونتبين أنه لم يناقض القرآن ولم يناقض ما تواتر من أعمال النبي.. فإن كان فيه مناقضة قليلة أو كثيرة رفضناه واطمأنت قلوبنا إلى رفضه لأن النبي إنما كان مفسرا للقرآن ومفصلا للمجمل من أحكامه. وكذلك كانت عائشة رحمها الله تفعل، فقد نقل إليها أن بعض الصحابة يقولون إن النبي رأى ربه ليلة المعراج، فقالت لمن نقل إليها ذلك: لقد قف شعري مما قلت.. وقرأت الآية الكريمة " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ".
ونقل إليها عن بعض أصحاب النبي أن النبي قال إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، فرفضت هذا الحديث، وقرأت قول الله تعالى: " ولا تزر وازرة وزر أخرى ". وكان الصالحون من أصحاب النبي يتحرجون أشد التحرج من رواية الحديث عن النبي، وكان عمر رحمه الله يشتد على من أكثر الحديث عن النبي وربما ضربهم بدرته كما فعل عمر مع أبي هريرة وأنذره بالنفي عن المدينة إلى أرض قومه في اليمن إن عاد إلى الحديث. ويروى أن النبي نفسه نهى عن كتابة أقواله وكره أن يكتب المسلمون عنه شيئا غير القرآن. وهذا كله سجله المؤلف في كتابه ولكنه يبتكره من عند نفسه وإنما هو شيء كان المتقنون من علماء المسلمين يقولونه ويذيعونه في كتبهم كما فعل ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما. ولكن المحدثين نسوا هذا أو أعرضوا عنه فاختلطت على الناس أمور الحديث وكان فضل المؤلف في إظهارها في هذا العصر ليقرأها الذين يحبون أن يصلح دينهم ويعصم من التخليط الكثير. ولكن المؤلف مع ذلك قد أسرف على نفسه في بعض المواطن، ولست أريد أن أذكر هذه المواطن كلها تجنبا للاسراف في الإطالة وإنما اكتفى بضرب الأمثال. فمنها مثلا هذه المؤامرة التي دبر فيها مقتل عمر بن الخطاب رحمه الله وشارك فيها كعب الأحبار وهو يهودي أسلم أيام عمر.
والرواة يحدثوننا بأن كعبا هذا أنبأ عمر بأنه مقتول في ثلاث ليال. فلما سأله عمر عن ذلك زعم أنه يجده في التوراة، فدهش عمر لأن اسمه يذكر في التوراة، ولكن كعبا أنبأه بأنه لا يجد اسمه في التوراة وإنما يجد صفته. ثم غدا عليه في اليوم الثاني لهذا الحديث. فقال له: بقي يومان. ثم غدا عليه في اليوم الثالث فقال له مضى يومان وبقي يوم: وإنك مقتول من غد. فلما كان الغد في صلاة الصبح أقبل ذلك العبد الأعجمي فطعنه وهو يسوي الصفوف للصلاة، والمؤلف يؤكد أن عمر إنما قتل نتيجة لمؤامرة دبرها الهرمزان وشارك فيها كعب ويؤكد أن هذه المؤامرة ثابتة لا يشك فيها إلا الجهلاء. وأريد أن أؤكد أنا للمؤلف أني أنا أحد هؤلاء الجهلاء لأني أشك في هذه المؤامرة أشد الشك وأقواه ولا أراها إلا وهما. فقد قتل ذلك العبد المشؤوم نفسه قبل أن يسأل. وتعجل عبيد الله بن عمر فقتل الهرمزان دون أن يسأل، وعاش كعب الأحبار هدا سبعة أعوام أو ثمانية دون أن يسأله أحد أو يتهمه أحد بالاشتراك في هذه المؤامرة، وكان كثيرا ما يدخل على عثمان، ثم ترك المدينة وذهب إلى حمص فأقام فيها حتى مات سنة اثنتين وثلاثين للهجرة، فمن أين استطاع المؤلف أن يؤكد وقوع هذه المؤامرة أولا ومشاركة كعب فيها ثانيا مع أن المسلمين قد غضبوا حين تعجل عبيد الله ابن عمر حين قتل الهرمزان جهلا عليه ولم يقدمه إلى الخليفة ولم يقم عليه البينة لأنه شارك من قريب أو من بعيد في قتل أبيه. وقد ألح جماعة من المسلمين من أصحاب النبي على عثمان أن يقيم الحد على عبيد الله لأنه قتل مسلما دون أن يقاضيه إلى الإمام ودون أن يثبت عليه قتل عمر بالبينة. فعفا عنه عثمان مخافة أن يقول الناس قتل عمر أمس ويقتل ابنه اليوم.
وعد الثائرون على عثمان هذا العفو أحد أغلاطه، وكان علي حين تولى الخلافة مزمعا معاقبة عبيد الله على فعلته تلك. ولكنه هرب من علي ولجأ إلى معاوية فعاش في ظله وقتل في موقعة صفين. ولم يسأل عثمان كعبا عن شيء ولم يتهمه أحد بشيء وقد ذهب من المدينة إلى الشام ومعاوية أمير عليها فعاش فيها حتى مات فلم يسأله عن شيء، فمن أين يأتي هذا التأكيد الذي ألح فيه المؤلف حتى لعن كعبا ولم يكن له ذلك، فالمعروف من أمر كعب أنه أسلم والمعروف كذلك أن لعن المسلمين غير جائز. ومثل آخر في الصفحة 154 حين زعم أن أبا هريرة رحمه الله لم يصاحب النبي محبة له أو طلبا لما عنده من الدين والهدى وإنما صاحبه على ملء بطنه. كان مسكينا وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطعمه. والمؤلف يروي لإثبات ذلك حديثا رواه أحمد بن حنبل ورواه البخاري أيضا، ولكن مسلما روى هذا الحديث نفسه عن أبي هريرة. ونص الحديث عند مسلم أصرح وأوضح من نصه عند البخاري وابن حنبل فقد كان أبو هريرة يقول فيما روى مسلم أنه كان يخدم النبي على ملء بطنه. وفرق بين من يقول إنه كان يخدم ومن يقول إنه كان يصاحب، وحسن الظن في هذه المواطن شر من سوئه، وما أظن أبا هريرة أقبل من اليمن مع من أقبل منها إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا ليؤمن به ولا ليأخذ عنه الدين بل ليملأ بطنه عنده. هذا إسراف في التأويل وفي إساءة الظن. والمؤلف شديد على أبي هريرة شدة أخشى أن يكون قد أسرف فيها شيئا.
فنحن نعلم أن أبا هريرة كان كثير الحديث عن النبي وأن عمر شدد عليه في ذلك وأن بعض أصحاب النبي أنكروا بعض حديثه وأنه أخذ كثيرا عن كعب الأحبار. وكان المؤلف يستطيع أن يسجل هذا كله تسجيلا موضوعيا كما يقال دون أن يقحم فيه غيظا أو موجدة. فهو لا يكتب قصة ولا يكتب أدبا فيظهر شخصيته بما ركب فيها من الغضب والغيظ والموجدة وإنما يكتب عالما وعالما يتصل بالدين وأخص مزايا العلماء ولا سيما في هذا العصر أنهم ينسون أنفسهم حين يكتبون العلم وأنهم يبحثون ويقررون بعقولهم لا بعواطفهم. فمن الظلم لأبي هريرة أن يقال إنه لم يصاحب النبي إلا ليأكل من طعامه. والذي نعلمه أنه أسلم وصلى مع النبي وسمع منه بعض أحاديثه. فليقل فيه المؤلف إنه لم يصاحب النبي إلا ثلاث سنين وقد روى من الحديث أكثر مما روى المهاجرون الذين صحبوا النبي بمكة والمدينة، وأكثر من الأنصار الذين صاحبوا النبي منذ هاجر إلى المدينة حتى آثره الله بجواره. وهذا يكفي للتحفظ والاحتياط بإزاء ما يروى عنه من الحديث. وأخرى أريد أن أثبتها هنا وهي أن المؤلف يقول في حديثه الطويل عن أبي هريرة إنه لحرصه على الأكل ورغبته في الطيبات كان يأكل عند معاوية ويصلي مع علي ويقول إن الأكل مع معاوية أدسم أو بعبارة أدق إن المضيرة عند معاوية أدسم، والمضيرة لون من الحلوى، وأن الصلاة مع علي أفضل.
وأريد أن أعرف كيف كان يجتمع لأبي هريرة أن يأكل عند معاوية ويصلي مع علي وقد كان أحدهما في العراق والآخر في الشام أو أحدهما في المدينة والآخر في الشام إلا أن يكون قد فعل ذلك أثناء الحرب في صفين. وما أحسبه كان يسلم لو فعله أثناء الحرب إذن لاتهمه أحد الفريقين بالنفاق والتجسس. وإنما هذا كلام قيل في بعض الكتب وكان يجب على الأستاذ المؤلف أن يتحقق منه قبل أن يثبته. فهذا أيسر ما يجب على العلماء. وبعد فالمؤلف يطيل في تأكيد ما اتفقت عليه جماعة المسلمين من أن الأحاديث التي يرويها الأفراد والآحاد كما يقول المحدثون لا تفيد القطع وإنما تفيد الظن وحده، ومن أجل ذلك لا يستدل المسلمون بهذه الأحاديث على أصول الدين وعقائده وإنما يستدلون بها أحيانا على الأحكام الفرعية في الفقه وعلى فضائل الأعمال ويستعان بها على الترغيب في الخير والتخويف من الشر، وكل الأحاديث التي اعتمد عليها المؤلف في المواضع التي ضربنا لها الأمثال إنما هي أحاديث رواها الأفراد والآحاد فهي لا تفيد قطعا ولا يقينا، فما باله يرغب عن الإفراط في الثقة بهذه الأحاديث ثم يستدل بها هو ليتهم الناس بأشياء لا سبيل له إلى إثباتها. وملاحظة أخيرة أختم بها هذا الحديث الذي أراه على طوله موجزا، وهي أن المؤلف قد أخذ في كتابه وهو يؤمن فيما يظهر بأنه لن يظفر برضى الناس عنه ولن يظفر برضى فريق من رجال الدين خاصة فعرض بهم أحيانا، واشتد عليهم أحيانا أخرى ووصفهم بالجمود حينا وبالتقليد حينا وبالحشوية أحيانا فأغرى هؤلاء الناس بنفسه وسلطهم على كتابه وخيل إليهم أنه يبغضهم ولا يراهم أهلا للبحث القيم والمحاولة لاستكشاف حقائق العلم. ولو أنه صبر حتى يخرج كتابه ويقرأه الناس ويسمع رأيهم فيه ونقدهم له لكان هذا الصبر خيرا له وأبقى عليه. وأنا بعد ذلك أجدد اعترافي للمؤلف بجهده العنيف الخصب في تأليف هذا الكتاب وإخلاصه الصادق للعلم والحق في بحثه عن الحديث. ولا بأس عليه من هذه الهنات التي أشرت إلى بعضها فالذين يبرؤون من النقص والتقصير أو الهفوات أحيانا لا يكادون يوجدون. وصدق بشار حين قال: إذ أنت لم تشرب مرارا على القذى * ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه!
 طه حسين .
هذه هي الكلمة النفيسة التي تفضل الدكتور طه حسين فنشرها عن كتاب (أضواء على السنة المحمدية " بعد ما قرأه. وإذا كان قد وجب علي أن أقدم له أخلص الشكر وأعمقه - أن أولى كتابي هذا من بالغ العناية ما جعله يقرؤه غير مرة. فإن مما يسرني - وأحمد الله عليه - أن سيادته وهو العالم الجليل، والناقد العظيم. لم يجد شيئا يتجه إليه النقد بين مختلف مواضيع الكتاب - وهي خطيرة - لم يسبق أن حملها كتاب من قبل، وأن ما بدا من نقده إنما كان " هنات لا بأس علي منها " كما صرح بذلك في كلمته. أما هذه الهنات فإني أضع على هامشها هذا التعليق الوجيز، وأرجو أن ينال من لدنه رضا وقبولا. كانت أولى هذه الهنات أن الدكتور قد شك في مؤامرة قتل عمر، وفي أن كعب الأحبار كان ممن اشتركوا فيها، ولقد ابتسمت عندما قرأت كلامه في ذلك، وقلت كيف يغيب علم هذا الأمر عن مثله وهو العالم النقاب وارتقبت كتابه " الشيخان " لأنظر ما سيقول في مقتل عمر، وما كدت أقرأ ما كتبه في ذلك حتى اطمأننت بما ذكرته في كتابي وحمدت الله أن ألفيت الشك الذي كان قد اعترى الدكتور في أمر مؤامرة قتل عمر قد زال والحمد لله
. أما الهنة الثانية فهي أني قد أسرفت في التأويل عندما قلت: إن أبا هريرة قد أسلم ليملأ بطنه. وأني لم أذكر ذلك إلا لأنه قد اعترف بنفسه في كتب الحديث الكثيرة، ففي رواية البخاري: صاحبت النبي على ملء بطني، ورواية مسلم خدمت النبي على ملء بطني، والاعتراف كما يقول أئمة القانون سيد الأدلة، فأنا لم أتأول ولم أسرف في التأويل، على أن تاريخ أبي هريرة يؤيد اعترافه هذا، فقبل إسلامه يروي ابن سعد عنه: أنه كان أجيرا لابن عفاف وابنة غزوان بطعام بطنه، وبعد إسلامه عندما كان نزيلا على الصفة جرى منه ما جرى مما بينه البخاري نفسه وغيره ولا داعي لبيانه هنا.
أما الهنة الثالثة وهي الأخيرة فهي شك الدكتور فيما رويناه من أن أبا هريرة كان يأكل المضيرة عند معاوية ويصلي خلف علي - وكيف يفعل أبو هريرة. ذلك ويأمن على نفسه من أن يتهمه أحد الفريقين بالنفاق والتجسس!. وإني قبل كل شيء أقول إن هذا الخبر قد ورد في مصادر كثيرة للمؤرخين وكبار العلماء مثل: شذرات الذهب للعماد الحنبلي، والسيرة الحلبية لبرهان الدين الحلبي، والزمخشري في ربيع الأبرار وأساس البلاغة، وبديع الزمان الهمذاني الذي لم يكن من كبار الكتاب فحسب وإنما كان كما يعلم من تاريخه ثقة في الحديث يعرف الرجال والمتون، والثعالبي في المضاف والمنسوب، ولا نستوفي ذكر كل المصادر التي حملت هذا الخبر، على أنه إن يفعل ذلك لا يخشى ضررا لأنه كان معروفا بأنه لا في العير ولا في النفير ولم يكن من المحاربين بل ظل طوال حياته رجلا سلما. أما ما لاحظه الدكتور على أسلوبي من الشدة، فلو أنه عرف ما قوبلت به من شتائم وسباب من يوم أن نشرت ما نشرت من فصول هذا الكتاب في مجلة الرسالة قبل أن يطبع الكتاب لعذرني فيما كتبت. على أني قد رجعت إلى كل ما رأيته شديدا فيما كتبت فحذفته من هذه الطبعة وآثرت أن أدفع بالتي هي أحسن وأن أتبع قول الله فأمر على كل ما ينالني مرا كريما، وأن يكون خطابي لمن يسوءني سلاما سلاما. أما الشدة على أبي هريرة التي أشار إليها الدكتور فليست منا، وإنما هي شدة الأدلة التي أحاطت به. هذه سطور وجيزة عن الهنات التي رآها الدكتور طه حسين في كتابي، وإني لمغتبط كثيرا من أن سيادته لم يلاحظ شيئا على أي موضوع من مواضيع الكتاب وهي كثيرة وخطيرة لم يسبق أن نشرت في كتاب جامع وأن يسمى ما وجده هنات ويقول في صراحة: " ولا بأس عليه من هذه الهنات التي أشرت إلى بعضها فالذين يبرؤون من النقص والتقصير أو الهفوات أحيانا لا يكادون يوجدون ". حفظه الله.
 محمود أبو ريه
مقدمة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
 [والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله. لهم البشرى، فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. أولئك الذين هداهم الله. وأولئك هم أولو الألباب] (آية 17، 18 من سورة الزمر)
مما لا يكاد يختلف فيه اثنان، أو يحتاج في إثباته إلى برهان، أن للحديث المحمدي من جلال الشأن وعلو القدر ما يدعو إلى العناية الكاملة به، والبحث الدقيق عنه، حتى يدرس ما فيه من دين وأخلاق، وحكم وآداب، وغير ذلك مما ينفع المسلمين في دينهم ودنياهم. وعلى أنه بهذه المكانة الجليلة، والمنزلة الرفيعة، فإن العلماء والأدباء لم يولوه ما يستحق من العناية والدرس، وتركوا أمره لمن يسمون رجال الحديث يتداولونه فيما بينهم. ويدرسونه على طريقتهم - وطريقة هذه الفئة التي اتخذتها لنفسها قامت على قواعد جامدة لا تتغير ولا تتبدل. فترى المتقدمين منهم وهم الذين وضعوا هذه القواعد قد حصروا عنايتهم في معرفة رواة الحديث والبحث - على قدر الوسع - في تاريخهم. ولا عليهم بعد ذلك إن كان ما يصدر عن هؤلاء الرواة صحيحا في نفسه أو غير صحيح. معقولا أو غير معقول. ذلك بأنهم وقفوا بعلمهم عند ما يتصل بالسند فحسب، أما المعنى فلا يعنيهم من أمره شيء. ثم جاء المتأخرون منهم فقعدوا وراء الحدود التي أقامها من سبقهم، لا يتجاوزونها ولا يحيدون عنها، وبذلك جمد علم الرواية منذ القرون الأولى لا يتحرك ولا يتغير.
ووقف هؤلاء وهؤلاء عند ظواهر الحديث كما أدت إليه الرواية مطمئنين إليها، آخذين بها من غير بحث فيها ولا تمحيص لها. وعلى أنهم قد بذلوا أقصى جهدهم في دراسة علم الحديث من حيث العناية بسنده حتى قيل: " إن علم الحديث قد نضج واحترق. فإنهم قد أهملوا جميعا أمرا خطيرا كان يجب أن يعرف قبل النظر في هذا العلم ودرس كتبه - ذلك هو البحث عن حقيقة النص الصحيح لما تحدث به النبي صلوات الله عليه. وهل أمر بكتابة هذا النص بلفظه عند إلقائه - كما فعل بالقرآن الكريم. أو تركه ونهى عن كتابته؟ وهل دونه الصحابة ومن بعدهم، أو انصرفوا عن تدوينه؟ وماذا كان أمرهم - ومن تبعهم - عندما أخذوا في روايته؟ وهل ما روي منه قد جاء مطابقا لحقيقة ما نطق به النبي - لفظا ومعنى - أو كان مخالفا له؟ وما هي العوامل التي تدسست إليه من نزعات أعدائه، والمؤثرات التي أصابته من أغراض أوليائه، حتى شيب بما ليس منه، وتسرب إليه ما هو غريب عنه؟ ثم في أي زمن دون ما حملته الرواية منه؟ وهل اتخذ التدوين طريقة واحدة لم تتغير على مد العصور وتوالي الأجيال؟ وفي أية صورة خرج أخيرا إلى الناس في كتبه التي اعتمد عليها الجمهور؟ وماذا كان موقف علماء الأمة منه؟ وما مبلغ ثقتهم به، ومدى اختلافهم فيه، بعد أن عراه ما عراه وتأثر بما تأثر به؟ وما إلى ذلك من الأمور المهمة التي يجب أن يعرفها كل مسلم أو باحث في الدين الإسلامي قبل النظر فيه، والأخذ بما تؤدي إليه ألفاظه ومعانيه. أما هذا كله وغيره مما يتصل - بحياة الحديث وتاريخه - فقد انصرف عنه العلماء والباحثون، وتركوه أخبارا في بطون الكتب مبعثرة، وأقوالا بين ضمائر الأسفار مستترة، لا يضم نشرها كتاب ولا يعنى بتصنيفها باحث نقاب. ولقد كان يجب عليهم قبل أن يشتغلوا بعلم الحديث أن يعرفوا تاريخ هذا العلم. ذلك بأن العلماء قد أوجبوا معرفة تاريخ كل علم قبل دراسته فقالوا: إن تاريخ كل مادة يقع منها موقع البصر من الجسم.
أسباب تصنيف هذا الكتاب:
 لما أنشأت أدرس ديني درس العقل والفكر، بعد أن تلقيته تلقينا من نواحي العاطفة والتقليد، رأيت أن أرجع إلى مصادره الأولى وأسانيده الصحيحة، ولما وصلت من دراستي إلى كتب الحديث المعتمدة لدى الجمهور، ألفيت فيها من الأحاديث ما يبعد أن يكون - في ألفاظه أو معانيه أو أسلوبه - من محكم قوله، وبارع منطقه صلوات الله عليه، ومما راعني أني أجد في معاني كثير من الأحاديث ما لا يقبله عقل صريح، ولا يثبته علم صحيح، ولا يؤيده حس ظاهر، أو كتاب متواتر. ووجدت مثل ذلك في كثير من الأحاديث التي شحنت بها كتب التفسير والتأريخ وغيرها! ومما كان يثير عجبي أني إذا قرأت كلمة لأحد أجلاف العرب أهتز لبلاغتها، وتعروني أريحية من جزالتها، وإذا قرأت أكثر ما ينسب إلى النبي من قول لا أجد له هذه الأريحية، ولا ذلك الاهتزاز، وكنت أعجب كيف يصدر عنه صلوات الله عليه - مثل هذا الكلام المغسول من البلاغة والعاري عن الفصاحة - وهو أبلغ من نطق بالضاد، أو يأتي منه مثل تلك المعاني السقيمة وهو أحكم من دعا إلى رشاد!! وما كان هذا العجب إلا لأني كنت أسمع من شيوخ الدين - عفا الله عنهم - أن الأحاديث التي تحملها كتب السنة قد جاءت كلها على حقيقتها، بألفاظها ومعانيها، وأن على المسلمين أن يسلموا بكل ما حملت ولو كان فيها ما فيها!! ولما قرأت حديث " من كذب علي - متعمدا - فليتبوأ مقعده من النار " غمرني الدهش لهذا القيد الذي لا يمكن أن يصدر من رسول جاء بالصدق وأمر به، ونهى عن الكذب وحذر منه، إذ ليس بخاف أن الكذب هو الإخبار بالشئ
على خلاف ما هو عليه سواء أكان عن عمد أم غير عمد. وظللت على ذلك حتى حفزني حب عرفان الحق إلى أن أبحث عن أصل الحديث وروايته، وتاريخ حياته من المصادر الصحيحة، والأسانيد الوثيقة، لعلي أقف على شيء يذهب بما يحيك في صدري من حرج، ويصرف ما يغمر نفسي من ضيق. وذلك لأن هذا الأمر الجليل - لم يفرد من قبل بالتأليف الجامع الذي يشبع نهم الباحث، ويحقق بغية الطالب. ولبثت زمنا طويلا أبحث وأنقب فلا أدع كتابا يمكن أن يستفاد منه كلمة لما أنا بسبيله إلا قرأته في طلبها، لا آلو في ذلك جهدا، ولا أطاوع النفس عندما تسكن إلى الراحة، مما يدركها من ملل أو يغشاها من تعب، بل آخذها بالصبر والأناة والمطاولة، حتى انتهيت إلى حقائق عجيبة ونتائج خطيرة! ذلك أني وجدت أنه لا يكاد يوجد في كتب الحديث كلها مما سموه صحيحا، أو ما جعلوه حسنا - حديث - قد جاء على حقيقة لفظه ومحكم تركيبه، كما نطق الرسول به، ووجدت أن الصحيح منه على اصطلاحهم إن هو إلا معان مما فهمه بعض الرواة! وقد يوجد بعض ألفاظ مفردة بقيت على حقيقتها في بعض الأحاديث القصيرة وذلك في الفلتة والندرة، وتبين لي أن ما يسمونه في اصطلاحهم حديثا " صحيحا " إنما كانت صحته في نظر رواته، لا أنه صحيح في ذاته، وأن ما يقال عنه " متفق عليه " ليس المراد أنه متفق على صحته في نفس الأمر، وإنما المراد أن البخاري ومسلم قد اتفقا على إخراجه - وليس من شروط الحديث الصحيح أن يكون مقطوعا به في نفس الأمر لجواز الخطأ والنسيان والسهو على الثقة، ومن أجل ذلك جاءت الأحاديث وليس عليها من ضياء بلاغته صلوات الله عليه إلا نور خافت أو شعاع ضئيل. ولا أحصى هنا كل ما انكشف لي، لأنه كثير جدا قد فصلناه في كتابنا هذا تفصيلا. كان أول ما بان لي من هذه الحقائق، أن النبي صلوات الله عليه لم يجعل لحديثه كتابا يكتبونه عندما كان ينطق به كما جعل للقرآن الحكيم، وتركه ينطلق من غير قيد إلى أذهان السامعين، تخضعه الذاكرة لحكمها القاهر، الذي لا يستطيع إنسان مهما كان أن ينكره أو ينازع فيه، من سهو أو وهم، أو غلط أو نسيان.
وبذلك تفكك نظم ألفاظه وتمزق سياق معانيه، ولم يدع صلوات الله عليه الأمر على ذلك فحسب، بل نهى عن كتابته، فقال فيما رواه مسلم وغيره: " لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه. " وقد استجاب أصحابه لهذا النهي فلم يكتبوا عنه غير القرآن، ولم يقف الأمر بهم عند ذلك بل ثبت عنهم أنهم كانوا يرغبون عن رواية الحديث وينهون الناس عنها، ويتشددون فيما يروى لهم منها. وقد كان أبو بكر وعمر لا يقبلان الحديث من الصحابي مهما بلغت منزلته عندهما، إلا إذا جاء عليه بشاهد يشهد معه أنه قد سمعه من النبي، وكان علي يستحلف الصحابي على ما يرويه له رضي الله عنهم جميعا. وكان ذلك في عصر الصحابة فترى ماذا يكون الأمر بعد ذلك؟! رواية الحديث بالمعنى: ولما رأى بعض الصحابة أن يرووا للناس من أحاديث النبي، وذلك في المناسبات التي تقتضي روايتها، وقد يكون ذلك بعد مضي سنين طويلة على سماعها، ووجدوا أنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بالحديث على أصل لفظه، كما نطق النبي به، استباحوا لأنفسهم أن يرووا على المعنى، ثم سار على سبيلهم كل من جاء من الرواة بعدهم، فيتلقى المتأخر عن المتقدم ما يرويه عن الرسول بالمعنى ثم يؤديه إلى غيره بما استطاع أن يمسكه ذهنه منه، وهذا أمر معلوم لا يمتري فيه أحد حتى لقد قال وكيع كلمته المشهورة: " إذا لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس " وقال سفيان الثوري: " إن قلت إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني! فإنما هو المعنى ". وهكذا ظلت الألفاظ تختلف والمعاني تتغير بتغير الرواة. فيهم - كما قال السيوطي: الأعاجم والمولدون وغيرهم ممن ليسوا بعرب ولهجتهم العربية ليست خالصة! وكان البخاري - وهو شيخ رجال الحديث، وكتابه، كما هو مشهور بين الجمهور - أصح كتاب بعد كتاب الله كما يقولون، يروي على المعنى! ولقد كان لرواية الحديث بالمعنى - ولا جرم - ضرر كبير على الدين واللغة والأدب، كما ستراه فيما بعد.
وكذلك أباحوا لأنفسهم أن يأخذوا الحديث إذا أصابه اللحن أو اعتراه الخطأ أو اختل نظمه بالتقديم والتأخير، وأن يأخذوا ببعض الحديث ويدعوا بعضا. وسيتبين ذلك كله في مواضعه من هذا الكتاب إن شاء الله. حديث من كذب علي: وقد عنيت بالبحث عن حقيقة هذا الحديث حتى وصلت بعد طول السعي إلى أن كلمة " متعمدا " لم تأت في روايات كبار الصحابة. ويبدو أن هذه الكلمة قد تسللت إلى هذا الحديث من سبيل " الادراج " المعروف عند رجال الحديث لكي يتكئ عليها الرواة فيما يروونه عن غيرهم من جهة الخطأ أو الوهم، أو الغلط أو سوء الفهم، ليدرأوا بذلك عن أنفسهم إثم الكذب، ولا يكون عليهم في الرواية أي حرج، ذلك بأن المخطئ غير مأثوم - أو أن هذه الكلمة قد وضعت ليسوغ بها الذين " يضعون الأحاديث " عن غير عمد عملهم، ليسندوا بها أقوالهم، وليثق الناس فيهم.
 الموضوعات: لم يرزأ الإسلام بشيء في حياته كلها مثل ما رزئ بتلك الموضوعات التي تولى كبرها أعداء الإسلام وأحباؤه على السواء لأسباب كثيرة بيناها في موضعها، وناهيك بالأسرائيليات التي بثها اليهود، أمثال كعب الأحبار، ووهب بن منبه وغيرهما. وكذلك المسيحيات وغيرها مما تسلل إلى الدين من الأديان والنحل غير الإسلامية وقبلها المسلمون من غير أن يبحثوا فيها، أو يفطنوا لها.
 أبو هريرة: ولما كان أبو هريرة أكثر الصحابة رواية عن رسول الله على حين أنه لم يصاحب النبي إلا سنة واحدة وتسعة أشهر، كما حققناه في كتابنا (شيخ المضيرة) وفي رواياته ما فيها من مشكلات بقيت على وجه الدهر، وستبقى، فقد أفردنا له ترجمة خاصة أدينا فيها حق العلم وتحرينا وجه الحق فأوردنا فيها ما له وما عليه بغير أن نخشى أحدا في إظهار الحق، أو نتحرج من شيء في بيان العلم، ذلك بأن الحق أولى من أبي هريرة وأكبر من أبي هريرة. جمع القرآن وتدوينه: وقد رأينا قبل تفصيل القول في تدوين الحديث أن نوطئ بفذلكة صغيرة في تدوين القرآن أتينا فيها على خلاصة كاملة من أمر هذا التدوين حتى يتجلى للناس كيف كانوا يتحرون الدقة التامة والتثبت الفائق في جمع القرآن، وبذلك جاء كله " متواتر " يكفر من جحد شيئا منه. ولو أن الحديث قد دون في عصر النبي كما دون القرآن، واتخذ له من وسائل التحرى والدقة مثل ما اتخذ للقرآن، لجاء كله " متواتر " كذلك ولما اختلف المسلمون فيه هذا الاختلاف الشديد الذي لم يستطع أحد - على مد العصور - تلافيه. كتابة الحديث: ومما كشف عنه البحث أن كتابة الحديث لم تقع إلا في القرن الثاني، أي بعد انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى بأكثر من مائة سنة، ولم يكن ذلك بدافع من الرواة، وإنما كان بوازع من الولاة، إذ كانوا يتحرجون من كتابته خشية أن يقعوا فيما نهى النبي عنه - وقد كانت هذه الكتابة أول ما بدأت غير كاملة ثم تقلبت في أطوار مختلفة، إلى أن خرجت في صورتها الأخيرة حول منتصف القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجري. ولقد كان لتأخير كتابة الحديث ضرر كبير بيناه في موضعه من الكتاب.
 نشأة علم الحديث: ولما كان علم الحديث يتصل ببحثنا، فقد أتينا بإلمامة صالحة منه يهتدي بها من يريد معرفته. وتكلمنا عن كتب الحديث المشهورة لنبين حقيقتها وما استدرك عليها وقيل فيها، وألمعنا إلى أمر الجرح والتعديل واستطردنا من ذلك إلى " عدالة الصحابة " واختلاف العلماء فيها، وإلى درجاتهم في العلم والفضل، وخلصنا من ذلك كله إلى المذهب الحق الذي يجانب ناحيتي الإفراط والتفريط في هذه العدالة. علماء الأمة إزاء الحديث: ولأن الحديث لم ينشأ تدوينه إلا في القرن الثاني كما قلنا وكتبه المشهورة بين جمهور أهل السنة - وهي البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي - لم تظهر إلا في القرنين الثالث والرابع، وما فيها من الأحاديث قد روي من طريق الآحاد الذي لا يعطي إلا الظن، فإن علماء الأمة لم يتلقوا أحاديثها بمحض التسليم والاذعان، كما تلقوا ما جاءهم من آيات القرآن، ولا اعتبروها من الأخبار المتواترة التي يجب الأخذ بها، ولا يجوز لأحد أن يخالف عن أمرها، وإنما طاروا عليها بددا واختلفوا فيها طرائق قددا. فالمتكلمون وعلماء الأصول - لما كان الخبر عندهم ينقسم إلى " متواتر وآحاد "، والمتواتر هو الذي يعطي العلم اليقيني ويؤخذ به في العقائد فحسب، والآحاد لا يعطي إلا الظن، والظن لا يغني من الحق شيئا، وببحثهم - لم يجدوا في كتب الحديث خبرا ينطبق عليه حكم التواتر فتكون دلالته يقينية. وإن علماء الحديث لم يعرضوا للبحث فيه لأنه خارج عن علمهم. ورأوا ما يأتي من طريق الآحاد - الذي هو ظني الدلالة ولا يجوز البناء في العقائد على الظن، فقد ردوا كل حديث لا يتفق مع ما ذهبوا إليه من أصول، وما وضعوه من قواعد - ومما اتفق عليه جميع النظار: أن أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في العقائد مهما قويت أسانيدها وتعددت طرقها. وأما مقلدة المذاهب الذين يسمون أنفسهم علماء الفقه فقد كبلهم التقليد فلم يعنوا بكتب الحديث التي ظهرت بعد موت أئمتهم، ولم يعطوها حقها من البحث والدرس كما أعطوا كتب شيوخهم، ولم يجعلوها من أدلتهم في أ"> كلمة عامة: لما انكشف لي ذلك كله وغيره مما يحمله كتابنا - وبدت لي حياة الحديث المحمدي في صورة واضحة جلية تتراءى في مرآة مصقولة، أصبحت على بينة من أمر ما نسب إلى الرسول من أحاديث، آخذ ما آخذ منه ونفسي راضية، وأدع ما أدع وقلبي مطمئن، ولا علي في هذا أو ذلك أي حرج أو جناح. ولا يتوهمن أحد أني بدع في ذلك، فإن علماء الأمة لم يأخذوا بكل حديث نقلته إليهم كتب السنة فليسعني ما وسعهم، بعد ما تبين لي ما تبين لهم، وهذا أمر معلوم لذوي البصائر لا يختلف فيه عالم، اللهم إلا الحشوية الذين يؤمنون بكل ما حمله سيل الرواية سواء أكان صحيحا أم غير صحيح، ما دام قد ثبت سنده على طريقتهم، قال ابن أبي ليلى: " لا يفقه الرجل في الحديث حتى يأخذ منه ويدع ". وقال عند الرحمن بن مهدي: " لا يكون إماما في الحديث، من تتبع شواذ الحديث، أو حدث بكل ما يسمع أو حدث عن كل أحد ". والأمثلة على ذلك كثيرة تجدها في مواضعها من كتابنا.
 وهذا البحث لم يعن به أحد من قبل - كما قلنا - وكانت دراسته واجبة قبل النظر في كتب الحديث والتفسير والفقه والأصول والتأريخ والنحو وكل ما إليها مما يتصل بالدين الإسلامي، وكان يجب أن يفرد بالتأليف منذ ألف سنة عند ما ظهرت كتب الحديث المعروفة بعد انتشار المذاهب الفقهية بين المسلمين حتى توضع هذه الكتب في مكانها الصحيح من الدين، ويعرف الناس حقيقة ما روي فيها من أحاديث ليكونوا منها في أمرهم على يقين، ولو أنني ألفيت أمامي في المكتبة العربية على سعتها كتابا قد انطوى على هذا الأمر الخطير الذي يجب على كل مسلم أن يحيط به علما - لانحط عن كاهلي هذا " العبء الثقيل الذي احتملته في سبيل البحث والتنقيب بين مئات الكتب والأسانيد التي أطلعت عليها، ورجعت إليها، ثم أخذت منها، ونقلت عنها، ولما أنفقت ما أنفقت من سنين طوال في اقتحام هذا الطريق الشاق، الذي لم يعبد من قبل ولم يضع له أحد فيما سبق منارا يهتدى به - حتى تسنى لي أن أعثر على تلك المواد الغزيرة التي مكنتني من أن أسوي منها هذا الكتاب الجامع الذي يعد الأول في موضوعه، وأن أذيعه في الناس حتى يكونوا على بينة من أمر الحديث المحمدي، يدرسونه على نور العلم، ويفهمونه بمنطق العقل. ولأن هذا البحث - كما قلنا - طريف وغريب، وقد ينبعث له من يتطال إلى معارضته من بعض الحشوية والجامدين، استكثرت فيه من بعض الأدلة، التي لا يرقى الشك إليها، وأتزيد من الشواهد التي لا ينال الضعف منها، وقد يتكرر بعض هذه الأدلة بين الأبواب المناسبة تقتضيها أو سبب يدعو إليها، أو لأن الكلام معقود بها وسياق المعنى لا يتم بدونها، وما يتقدمها أو يليها من الكلام مفتقر إليها. وبرغمي أن أنصرف في هذا الكتاب عن النقد والتحليل، وهي الأصول التي يقوم التأليف العلمي الصحيح في هذا العصر عليها. وقد اضطررت إلى ذلك لأن قومنا حديثو عهد بمثل هذا البحث على أني أرجو أن يكون قد انقضى ذلك الزمن الذي لا يشيع فيه إلا النفاق العلمي والرياء الديني، ولا ينشر فيه إلا ما يروج بين الدهماء ويرضى عنه من يزعمون للناس أنهم من المحدثين أو العلماء، وأن يكون قد أظلنا عهد لا يثبت فيه غير القول الحق ولا يستقر به إلا العمل الصالح، ولا يقبل فيه إلا العلم النافع الذي يمكث في الأرض. وأرجو كذلك - وقد حسرت النقاب عن وجه الحق في أمر الحديث المحمدي الذي جعلوه الأصل الثاني من الأدلة الشرعية، بعد السنة العملية، واتخذوا منه، أسانيد لتأييد الفرق الإسلامية، ودلائل على الخرافات والأوهام، وقالوا بزعمهم إنها دينية، وكشفت القناع عما خفي على الناس من أمره، وعرضت لهم صورة صادقة من تاريخه - أرجو أن أكون قد وفقت إلى إصابة الغرض الأول الذي بذلت كل ما بذلت من أجله، وأنفقت من عمر وتعب في سبيله، وهو الدفاع عن السنة القولية وحياطتها مما يشوبها، وأن يصان كلام الرسول من أن يتدسس إليه شيء من افتراء الكاذبين أو ينال منه كيد المنافقين وأعداء الدين، وأن تنزه ذاته الكريمة من أن يعزى إليها إلا ما يتفق وسمو مكانتها وجلال قدرها، إذ لم يكن صلوات الله عليه - وهو في أعلى أفق من العلم والحكمة والبلاغة - ليصدر عن جهل، أو ينطق عن هوى. وإذا كان هذا الكتاب سيغير - ولا ريب - من آراء كثير من المسلمين فيما ورثوه من عقائد، وما درسوه من أحكام، فإنه سيقفهم إن شاء الله على حقائق كثيرة تزيدهم تبصرة وعلما بدينهم، ويحل لهم مشاكل متعددة مما تضيق به صدورهم، ويدفع شبهات مما يتكئ عليها المخالفون، والصادون عن دينهم، وبذلك يستقيم النظر لي معرفة أصول الدين، ويعتدل الرأي في فهم أغراضه من المسلمين، وغير المسلمين.
 وسيبقى هذا الكتاب - إن شاء الله - منارة عالية تهدي إلى معالم تاريخ الحديث المحمدي على مد التاريخ كله ما دام هذا الحديث يقرأ أو يدرس بين الناس في الأرض. وإني لأتوجه بعملي هذا - بعد الله سبحانه وله العزة - إلى المثقفين من المسلمين خاصة، وإلى المهتمين بالدراسات الإسلامية عامة، ذلك بأن هؤلاء وهؤلاء هم الذين يعرفون قيمته ويدركون قدره. والله أدعو أن يجدوا فيه جميعا ما يرضيهم ويرضى العلم والحق معهم. وأتضرع إليه سبحانه أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه، وأن يكتب له توفيقا وتأييدا من عنده، حتى يبلغ ما أرجو له من خدمة الدين، وإظهار الحق، ونفع الناس أجمعين إنه سميع الدعاء.
 عن جيزة الفسطاط في يوم السبت 5 من جمادى الأولى سنة 1377 7 من ديسمبر 1957 محمود أبو ريه
 
انتهى الجزء الأول.
       
اجمالي القراءات 23879
التعليقات (6)
1   تعليق بواسطة   آحمد صبحي منصور     في   الثلاثاء ٠٨ - سبتمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[41930]

شكرا للاستاذ محمد البارودى على إحيائه هذا الباب المنسى فى الموقع

 جزاك الله تعالى خيرا استاذ محمد البارودى على اخلاصك و عملك الدءوب فى خدمة الاسلام و القرآن الكريم .


ولى مع كتاب ( أضواء على السنة المحمدية ) وقفة ، فالواضح أن المؤلف الاستاذ محمود أبو رية تاثر كثيرا مثلى بكتابات استاذ الأساتذة (أحمد أمين ) فى سلاسل ( فجر الاسلام ) و( ضحى الاسلام ) و( ظهر الاسلام ) . وفى اعتقادى فإن أحمد أمين أعظم عقلية اسلامية ومصرية فى القرن العشرين ، لم أره ولكن تعلمت على كتبه وأدين له بالفضل ، و كررت ذلك لأبنيه الاستاذ حسين أحمد أمين والدكتور جلال أمين ، وحفيدته التى تقوم بتحضير رسالة فى الاسلاميات ، واستشارتنى فكان معظم ردى عليها تقريظا فى جدها (أحمد أمين ) يرحمه الله جل وعلا .


فى اعتقادى أن أبا رية قد بنى على ما قاله استاذنا ـ أحمد أمين ـ فى موضوع الحديث ، مع أن أحمد أمين ناقش كل مناحى العقلية و التراث لدى المسلمين . قام ابو رية بتطوير و تعميق البحث فيما كتبه أحمد أمين عن السنة و الحديث . واتبع نفس المنهج ، منهج مدرسة الامام محمد عبده ، فى محاولة التنقية ، ولكن الجديد هنا أن التنقية طالت بالنقد أبا هريرة ، وهو أشهر الصحابة فى الحديث وأكثر الرواة تقديسا وأكثرهم كذبا و دناءة . ألمح أحمد أمين الى ابى هريرة ، وبسبب طبيعته الهادئة فان الأستاذ أحمد أمين لم يرد التعمق فى أبى هريرة حتى لا يظهر مساوئه ، ولكن قام بهذه المهمة خير قيام تلميذه أبو رية ، إذ قام بتشريح أبى هريره فى شخصيته وفى رواياته ، وفى كل ذلك لم يتقول عليه ،بل نقل المكتوب عنه من التراث السنى نفسه ، هذا بالاضافة الى نواحى أخرى ناقشها بجرأة فى علم الحديث . ثم اشتد الهجوم عليه بسبب ما فعله بأبى هريرة فرد عليهم بأن خصص كتابا عن أبى هريرة تحت عنوان ( شيخ المضيرة ) جمع فيه ما قاله عنه فى (أضواء على السنة  ) وأضاف اليه ، فاشتد الهجوم على الاستاذ أبى رية . ولا يزال .


رأيي فى اجتهاد أبى رية أنه يدخل ضمن منهج اصلاح الدين السنى من الداخل ، وهو منهج قد تجاوزناه كما قال الاستاذ محمد البارودى ، ولكن يظل الفضل لأبى رية ومن قبله أستاذنا أحمد أمين فى أنهما قاما بضرب المعول الأول فى الحائط السنى فترسخ الشك فى كثير من الأحاديث و كثير من الرواة . ثم جاء الفكر القرآنى فأثبت بالقرآن وبالتراث نفسه أنها مجرد دين أرضى كاذب مصنوع يعادى الاسلام .


ظهر كتابا أبى رية قبل تسلط االنفوذ السعودى الوهابى على مصر ، فقامت دار المعارف المصرية الحكومية بطبع ونشر الكتاب ، ثم جاء نفوذ الأعراب السعوديين الوهابيين فمنعوا  دار المعارف من طبع المزيد من كتابى أبى رية ، وتكفلت بنشرها لبنان .


وحين كنت مسجونا تحت الاستجواب استشهدت بكتاب (أضواء على السّنة ) لأقنع رئيس النيابة أن هناك من سبقنى فى نقد السنة و نقد الصحابة ، وأن الدولة المصرية طبعت كتبه . 


2   تعليق بواسطة   آحمد صبحي منصور     في   الأربعاء ٠٩ - سبتمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[41952]

أنتظر من أهل القرآن الاهتمام بهذا الباب والتعليق على حلقاته

 لا نريد أن ننعزل عما يحيط بنا ،أو أن نجهل فضل من سبقنا فى التنوير ، وجئنا فبنينا على ما أقاموه. نريد أن نعايش العصر و نتفاعل معه ، وكلما زادت معرفة الباحث القرآنى بعصره وكلما زادت قراءاته ومعلوماته أصبح أكثر قابلية لفهم القرآن وادراكا لعظمته.


أدعوكم الى الاهتمام بهذا الباب الجديد ، بالقراءة و التعليق .


وكل عام وانتم بخير 


3   تعليق بواسطة   محمد البارودى     في   الخميس ١٠ - سبتمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[41978]

الدكتور احمد منصور

جزاك الله كل خير لرعايتك وحماسك لهذا الباب من الموقع و ان شاء الله سيتم تفعيله و سيكون كمكتبه مستقله للموقع بحيث بمكن لأى باحث او كاتب الرجوع اليها فى ابحاثه و مقالاته و ايضا فهى لزيادة معلوماتنا و للتعرف على ما وصل اليه الذين حاولوا من قبلنا و لنتعلم منهم و نستفيد من تجاربهم


ان كتاب أضواء على السنة المحمدية كتاب شيق و ممتع و غنى بالمعلومات التى يجب على كل قرآنى التعرف عليها و ايضا هو كتاب نادر و يصعب الحصول على نسخة مطبوعة منه


وان شاء الله سننشر كل اسبوع جزءا من الكتاب و نطلب من الجميع ان يشاركونا و يمدونا بتعليقاتهم و أرائهم سواء كانت بالنقد او التأييد و تكون حلقة نقاش الكل يستفيد منها ان شاء الله


 


4   تعليق بواسطة   آحمد صبحي منصور     في   الجمعة ١١ - سبتمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[42007]

اين تعليقات أعمدة (أهل القرآن ) على هذا الباب

كاد الأسبوع ينقضى ، ولم يعلق أحد بعد . وسيأتى المقال التالى ، ونخشى ان يمر بلا اهتمام .


أين تعليقات الأساتذة فوزى فراج و محمد صادق وعز الدين نجيب و ابراهيم دادى و عثمان ودندن  وحواش و زهير قوطوش والحداد و البطاوى و جلغوم والبرقاوى ومصطفى فهمى و أنيس صالح و نشاشيبى وأحمد شعبان وجمال أبو ريا و نور الدين بشير ..وبقية الأحبة ..


رمضان كريم .. كريم جدا ..


5   تعليق بواسطة   محمد دندن     في   الأحد ١٣ - سبتمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[42041]

الحمد لله الذي هدانا لهذا و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله

دكتور منصور---السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

بدأت رحلتي مع(لماذا و كيف) مذ كنت في منتصف العشرينيات من عمري. و جزى الله خيراً كل من كان له باعاً،كثر أو قل،في ترسيخ التوجيه الرباني لدي المتمثل في قوله تعالى...أفلا يعقلون...أفلا يتدبرون...أفلا يبصرون...و مثل ذلك كثير...و ينوبك من هذا الدعاء ما يعلم الله تعالى ما تستحقه

سيدي العزيز...جسر البخاري ،فقد عبرته و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

.فكما حصل معك و مع كثير منا ممن ترعرع في أحضان (عن أبي هريرة أن رسول الله قال)،حصل معي كذلك،ذلك التحول التدريجي،و أصبح صحيح البخاري و مغلوطه و مختلقه، مجرد كتاب كما كتاب كليلة و دمنة لإبن المقفع أو كتاب الأغاني للأصفهاني، أتصفحه فأجد فيه الحكم و الأمثال أستفيد منها،كما أجد فيه من الترهات والسفاهات و السفاسف ما أهز رأسي تعجباً، كيف يتقبلها البعض أنها من أقوال الرسول عليه السلام.

سيدي ..حماك الله...أجد صعوبة في تنقية كوب من السكر مُزج بكوب من الملح...فإذا أراد أو أصر شخص ما على نفاذ عمره في التعديل و التجريح والتشريح و التحنيط ،فما عساني فاعل بمن تأخذه إلى بئر ماء ليشرب و هو يرفض الشرب؟ أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم

 


6   تعليق بواسطة   آحمد صبحي منصور     في   الأحد ١٣ - سبتمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[42048]

شكر ا أخى الحبيب الاستاذ محمد دندن وجزاك الله تعالى خيرا

 أتمنى أن تتوفر لنا الامكانات التى تجمعنا معا كل الأحبة من (أهل القرآن ) ، فى مؤتمر  أو ندوة ، حتى ألقى أولئك الأحبة ، والذين إزداد عددهم بانضمام  الاستاذ محمد دندن .


تمتاز تعليقات الاستاذ دندن بالسمو الخلقى والاحسان ( بمعنى التسامح و الغفران ) كما إن عباراته وجيزة و مختصرة و معبّرة .


ولا زلت أتمنى أن يكتب لنا مقالات ، وقد وعد ، ونحن فى إنتظار تحقيق الوعد .


جزاك الله جل وعلا خيرا أخى الحبيب محمد دندن على ما تقدمه لموقع أهل القرآن .


خالص محبتى 


أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق




مقالات من الارشيف
more