كاتب السلطة المتخفى

عثمان محمد علي   في الثلاثاء ٢١ - أبريل - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً


كاتب السلطة المتخفى

بقلم د. عمار على حسن ٢١/ ٤/ ٢٠٠٩
هاتفنى قارئ مصرى يعيش فى الخارج وسألنى بغتة: ما رأيك فى فلان؟ فلذت بصمت قصير وقبل أن أفتح فمى بأول حرف فى الإجابة عاد الرجل يقول: أنا فى حيرة، لقد كنت أحسبه مع الناس لكن قبوله منصبا فى إحدى المؤسسات الصحفية القومية أوقعنى فى حيرة شديدة، وزاد من حيرتى ما سمعته منه فى أكثر من محطة فضائية على مدار الشهور الأخيرة، لقد انقلب الرجل الذى طالب بالقصاص من ممدوح إسماعيل ورفاقه غرقا فى المكان نفسه الذى ابتلع فيه الموج أكثر من ألف مصرى إلى بوق للنظام. ثم استطرد: «والكاتب الآخر الذى كان يتقلب يمينا ويسارا، لكنى كنت أحسب أن هذا من باب تمرد المبدعين، حتى منحوه هو الآخر منصبا».

مقالات متعلقة :


وقلت للرجل: «فى العموم فإن كل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه، ولا تزر وازرة وزر أخرى. وفى الخصوص فإن كل كاتب مسؤول عما يكتب ويتخذ من مواقف، ويقبل من مناصب صغيرة أو كبيرة». لكنه عاجلنى قائلا: «سأكون صريحا معك، أنا أصبحت أشك فى الجميع»، فابتسمت وقلت له يا أخى هناك قاعدة ذهبية تقول: «يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال»، فقال: أريد توضيحا أكثر، فقلت له: لا أريد أن أكلفك أكثر من ذلك، أنت تجرى مكالمة دولية، أرسل لى إيميلك، وسأفصّل لك الأمر فى رسالة مطولة.

أغلقت الهاتف وجلست حزينا، على بعض منا أساء إلينا جميعا، حين تقلب وتبدل بين عشية وضحاها، وبدا لى الرد على هذا القارئ الكريم غاية فى الأهمية، إذ إن الناس إن فقدوا الثقة فى قادة الرأى وفيمن يعولون عليهم من الساسة والرموز الاجتماعية والثقافية، استسلموا لضيق العيش وفساده، ورضخوا تحت نير الاستبداد، وفقدوا البوصلة الصحيحة التى تشير إلى الاتجاه الأفضل والأكثر تقدما.

كما بدا لى، وللأسف الشديد، أن المتبجحين فى الدفاع عن النظام الحاكم أفضل من المنافقين الذين يخدمونه فى الخفاء، ويظهرون، إلى حين، عكس ما يبطنون، وتذكرت المقولات العلمية التى تزداد رسوخا فى الأكاديميات الغربية الآن من أن الموضوعية فى العلوم الإنسانية هى أن يعلن الكاتب فى بداية بحثه أو دراسته عن هويته الفكرية وانحيازه السياسى.

ودارت رأسى بما سمعت، واستدعيت كل ما أعرفه عن الذين باعوا عن قصد، والذين سقطوا فى منتصف الطريق، وكتبت إلى صاحبنا قائلا: «هناك يا أخى العزيز من يعارض حتى يرفع من ثمن شراء السلطة له. وهناك من يعارض لأنه لم يجد له مكانا فى ركاب هذه السلطة ورحابها بعد أن أزاحه أو لفظه الملتفون حولها. وهناك من يعارض لأنه لم يحصل على كل ما كان يتمناه من اقترابه من الحكم. وهناك من يعارض جناحا فى السلطة لحساب جناح آخر، ويهاجم رجل أعمال معينا لصالح منافسيه فى السوق.

وهناك من يعارض فى سبيل تحصيل شهرة منساقا وراء مبدأ: خالف تعرف. لكن كل هؤلاء لا يحجبون عنا حقيقة ناصعة كشمس ظهيرة صيف تقول بجلاء: هناك فى مصر شرفاء كثيرون، يعارضون لأنهم غاضبون من الفساد الذى استشرى والاستبداد الذى تزداد وطأته، ولأنهم حالمون بغد أفضل لوطنهم، ومدركون أن عليهم واجب تبصير الناس إلى ما فيه خير العباد والبلاد، ومؤمنون أن المكان الحقيقى للمثقف هو أمام الأمير يرشده إلى الصالح، وليس خلفه، يبرر له سياساته مهما انحرفت، وسلوكياته مهما اعوجت».

وبعثت الرسالة فجاءنى السؤال: كيف نكتشف كاتب السلطة المتخفى؟ واسترجعت كل ما وقر فى ذهنى من معلومات عن هؤلاء وأجبته: «هناك من لم ينقطع الحبل السرى الذى يربطه بأجهزة الأمن وبعض رجال السلطة، حتى لو كتب ما يعتقد بعض المتعجلين أنه ينطوى على معارضة. وهناك من يدخل أهل الحكم على خطه يهاتفونه ويساومونه ويقدمون له الإغراءات فيلهث وراءها أو يتوعدونه فيخاف، وهنا تجد كتاباته بدأت تأخذ طريقها إلى التغير، وتشم من بين سطورها رائحة التواطؤ المتدرج.

وهناك من يعمل لحساب أكثر من طرف فى وقت واحد، وهذا تكشفه من تناقض كلماته، فتجد مقالا فى الشرق وآخر فى الغرب، دون اتساق ولا انسجام يتوافر دوما وحتما لمن تنبع أفكارهم من رؤوسهم. ويوجد الكاتب الذى يُفرط فى الحديث عن نزاهته واستقامته، وهذا تحذر منه، قياسا على الحكمة المتداولة والمنسوبة إلى أرسطو والتى تقول: «احذر المرأة التى تتحدث كثيرا عن الشرف».

ويوجد الكاتب الذى يرسم لنفسه طريقا مع السلطة على المدى الطويل، فيتقرب إليها بقدر بسيط ومدروس، ويضىء لها من آن إلى آخر الضوء الأخضر الذى يقول لها «أنا جاهز وفى الخدمة» فإن برق فى عينيها وفهمت ما يرومه والتقطته ذهب إليها بكل كيانه، وإن عميت عن إبصار هذا الضوء الذى لا ينقطع، يكون صاحبنا لم يتوغل فى الاسترخاص، ولا تزال بينه وبين القراء جسور عامرة بالثقة حتى ولو كانت ضيقة، فيعود بصمت من حيث أتى.

وبعثت الرسالة فجاءنى سؤال آخر: اذكر لى أمثلة؟ وأغمضت عينى فصففت من وجوههم بقدر ما أسعفتنى الذاكرة، وابتسمت قليلا، وقمت إلى جهاز الكمبيوتر وكتب إليه مطمئنا: اتبع ما قلته لك بقدر ما وعيت من حيل هؤلاء وطرق تخفيهم، وتابع ما يكتب فى الصحف بانتظام، ستكتشفهم بنفسك بعد قليل، وستعرفهم بأسمائهم وسيماهم كما يعرفهم أى قارئ ذكى.

اجمالي القراءات 7090
التعليقات (2)
1   تعليق بواسطة   نورا الحسيني     في   الإثنين ٢٧ - أبريل - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[37699]

الحجر الداير لابد عن لطشه

فعلا وصف دقيق لكاتب السلطة المتخفي  وصدق كاتب المقال في سرده لأنواع وسمات هؤلاء الكتاب فهذا المقال مهم جدا في الإجابة على أسئلة تحير القارئ الذي  يفاجأ من انقلاب في فكر كاتب وتحوله من النقيض إلى النقيض  من قبل كان يدافع عن المظلومين وضحايا الاستبداد فيصبح مخبر مقيم  في موقعه   ويعمل بجد  أو  يدافع عن ضحايا العبارة  فيصبح متخصص في نقد المغضوب عليهم من النظام فقط  ،ضاربا عرض الحائط بكل قضايا الفساد !! مهما أظهر غير ذلك فهما كلمتين لزوم التصوير يخدع بهم البسطاء ولكن ، الحجر الداير لابد عن لطشه   ،كما يقول المثل الشعبي  ولابد من يوم حيعود تترد فيه المظالم  أبيض على كل مظلوم أسود على كل ظالم  


2   تعليق بواسطة   ايناس عثمان     في   الإثنين ٢٧ - أبريل - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[37716]

ثقافة دفع الثمن ..

بالفعل كلما اتمعن فيما اشاهده على الفضائيات او اقرأه فى الصحف المطبوعة العادية منها او الالكترونيه اجد هذه الحقيقة تزداد شيئا فشيئا نعم كثر المنافقين والافاقين والمتاجرين بكل شئ وزاد عدد المخادعين والفاسدين بنحو غير مسبوق، نعم هناك احساس عام يتسيد بفقدان الثقة فى الكثير مما يحسبون من المثقفبن واصحاب الراى.. لكن مع كل ذلك لاتخلو مصر من مثقفين ومناضلين شرفاء يدفعون الثمن ولا يزالزن فكم منهم داخل سجون التعذيب وكم منهم خارجها ولا يزال على موقفه وكم منهم مات على نضاله نعم قد يكونوا فى الان قلة لكن مادامت هذه القلة تدفع الثمن فمهما زاد عدد المتحولين او المخبرين ومهما تنوعت اشكالهم وطرق اخبارهم واساليب تواجدهم فهم الى " سلة مهملات التاريخ "  والنصر فى النهاية للشرفاء ولننظر الى كل شعوب العالم المحترمة الان ماذا كانت فى السابق شعبا ومثقفين .. وماذ اصبحت بعد دفع الثمن .. فلابد من دفع الثمن ..


أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق