تونس : قرن من الشعر

عثمان محمد علي   في الثلاثاء ٢٤ - مارس - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً


تونس : قرن من الشعر

الشابي لم يكن يتيما بل ثمة في الغابة أشجار مثمرة

بقلم : عبدالله القاسمي تونس

كم أتألم وأنا أتصفح كتب نقد الشعر العربي أو كتب تاريخ الأدب العربي الحديث ذلك أن ما تعلق بالشعر التونسي لا يتجاوز ذكر الشابي وكأنه هو الشاعر الوحيد الذي أنجبته تونس الخضراء خلال قرن ونيف من الشعر حتى بدا المشهد الشعري التونسي وكأنه يحتضن شاعرا يتيما يحلق خارج السرب . ولكن الحقيقة عكس ذلك فتونس لم تكن يوما عقيمة بل كانت الولاّدة التي أثرت الأدب العربي قديمه وحديثه برجال ساهموا في رسم ملامح الأدب العربي واللغة العربية بصفة عامة ويمكن أن نذكر هنا بعض النماذج كابن رشيق القيرواني صاحب العمدة أو ابن منذور القفصي صاحب لسان العرب دون أن ننسى الحصري شاعر القيروان هذا قديما أما حديثا فان المشهد الشعري التونسي ظل زاخرا بشعراء أسهموا بدرجات متفاوتة في تأثيث البيت الشعري التونسي غير أنهم لم يجدوا الحظوة التي لقيها الشابي ولعل وراء ذلك أسباب عديدة أهمها قدرة الشابي على الانتشار عربيا في حين آثر الآخرون الاكتفاء بالنشر في تونس .

وحتى لا يكون كلامنا مجرد حكما انطباعيا سنحاول أن نتتبع أهم مراحل الشعر التونسي وأعلامه طيلة قرن ونيف من الزمن أي سنقف في رصد هذا الشعر منذ بداية مدرسة الإحياء الذي يكاد يجمع النقاد على إنها قد انحصرت في المشرق العربي بين مصر وسوريا والعراق ولبنان خاصة .

ذلك أن المتأمل في مسار القصيدة العربية في تونس يجد الكثير من الشعراء الذين لم يكون اقل موهبة أو قدرة على القول الشعري ضمن مدرسة الإحياء عن نظرائهم المشارقة ذلك انه لما تمت مبايعة احمد شوقي أميرا للشعراء في مصر كان الشاذلي خزندار قد بويع بإمارة الشعر في تونس. وبحق هو شاعر الشعب والوطن و خير دليل من قصيدته التي قالها اثر المؤتمر الافخارستي والتي عارض فيها الدعوة للتجنيس حيث أصبحت هذه القصيدة بمثابة الحجة التي يرد بها الوطنيين على دعاة التجنيس دون أن ننسى قصائده التي كانت تتفاعل مع الواقع السياسي في تونس زمن الاستعمار رغم كونه سليل أسرة تركية مالكة . ولم يكن خزندار وحده في تلك الفترة بل عرفت تونس شعراء كبار من أمثال الشيخ سالم بوحاجب الذي قدم كاتب المويلحي " حديث عيسى ابن هشام " والذي أثنى عليه الشيخ محمد عبده .دون أن ننسى شاعر آخر هو محمد الباجي المسعودي الذي كتب روائع في وصف الوطن . زيادة عن شعراء آخرين .

وبانتشار الأدب الرومنطيقي في أنحاء الوطن العربي وتأثر العرب به عرفت تونس نقلة نوعية في الشعر والأدب بصفة عامة وكما في المشرق العربي تكونت الجماعات الأدبية حيث ظهرت جماعة تحت السور وجماعة العالم الأدبي وتعدد الشعراء والقصاصون من أمثال زين العابدين السنوسي ومحمد الحليوي ومحمد البشروش وعلى الدوعاجي والطاهر الحداد وأبو القاسم الشابي وغيرهم ونشطت حركة النشر وبعثت المجلات الأدبية وتنافس الشعراء وكثرت المراسلات الأدبية بينهم كمراسلات الشابي والحليوي والبشروش غير أن هذه الجماعة لم يكتب لها الانتشار خارج تونس باستثناء الشابي على اعتبار أنه استطاع أن يربط صلات خارج تونس وتحديدا مع جماعة ابولو المصرية وينشر معهم قصائده ويصبح فردا منهم بل يقدم ديوان زكي أبو شادي في حين أن في الداخل كانا الحليوي والسنوسي هما اللذان يقدمان الشابي .

وبالحديث عن كسر عمود الشعر العربي وظهور التحديث ففي الحقيقة كان الشعراء التونسيين هم السباقون إلى ذلك ذلك إذ إننا وقفا تاريخيا على توزيع جديد للشعر العربي قام به العروسي المطوي في أول أربعينات قبل ان يظهر ذلك لدى شعراء الحداثة . ومع ظهور الشعر العربي الحديث كان التونسيين متفاعلين مع من حولهم فظهرت موجة جديدة من الشعراء من أمثال محسن بن حميدة والميداني بن صالح ونورالدين صمود . ومنور صمادح صاحب تجربة قد تفوق في عمقها ما قام به الرواد حيث استطاع هذا الشاعر أن يستلهم كل تجارب عصره ويؤسس تجربة فريدة لا تقل في جماليتها وثرائها عن تجربة الرواد العرب من أمثال السياب والبياتي وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن عدم نيل هذا الشاعر المكانة التي يستحقها فهو برأي كل من اطلع على تجربته شاعر كبير مؤسس . وهو لا يقل قيمة عن الشابي ذلك أن هذا الأخير استطاع أن يستوعب مرحلة شعرية كاملة ويطفو على سطحها كذلك منور صمادح فهو صوت متفرد في الشعر التونسي والعربي .

و بظهور دعاة قصيدة النثر في الشرق العربي نصل إلى محطة لها قيمة كبيرة في الثورة على المنجز الشعري العربي ألا وهي تجربة جماعة الطليعة في تونس أو ما يسمّى حركة غير العمودي والحر . هذه الحركة التي تطاولت على الوزن الخليلي وألغته وسعت إلى بعث إيقاع جديد للشعر لا يرتبط بالشعر العمودي المتعارف أو بالشعر الحر أي شعر التفعيلة ودون أن تحاكي جماعة شعر بل سعت إلى تفجير طاقات إيقاعية جديدة للغة حيث استفادت أحيانا من تقنيات كتابة الشعر الفرنسي . والطريف لدى هذه الجماعة أنها كانت مزودة بجهاز نظري تجسد في كتابات روادها من أمثال الطاهر الهمامي والزناد ومن عاصرهم وانظم إليهم غير أن ما يعاب على هذه الجماعة انتمائها للفكر اليساري وارتباطها بالواقع حد وأد الشعري لتقديم المعنى السياسي وفي الحقيقة لم تكن هذه الجماعة نتاجا فرديا بل هي إفراز لحركة سياسية داخل الجامعة خاصة زمن تنامي الفكر اليساري في تونس . غير أن هذه الحركة لم تتواصل في الأجيال القادمة وإنما انحصرت عند روادها الذين بدورهم تراجعوا عنها وعاد الطاهر الهمامي مثلا مؤخرا لكتابة الشعر العمودي

وأمام تراجع تلك الحركة ظهرت المدرسة الكونية التي تزعمها جماعة القيروان والتي من أهم أعلامها المنصف الوهايبي ومحمد الغزي وقد حاولت هذه المدرسة أن تنفتح على الموروث الشعري العربي فتأثر جماعتها بالشعر الصوفي ونوعوّا عليه وباتت تجاربهم من أروع ما قيل في الشعر العربي غير أن هذه المدرسة لم تشمل كل الشعراء التونسيين بل ظهرت حركة الأدباء الشبان والتي استطاع عدد من شعرائها أن يضيفوا بشكل رائع للقصيدة التونسية فكانت تجربة القهواجي وسوف عبيد وغيرهم لننتقل في الثمانينات إلى تجربة أخرى يمكن وتسمها بتجربة الواقعية الجديدة التي من أعلامها المنصف المزغني والصغير أولاد احمد عبدالله مالك القاسمي و يمكن القول أن هذه المدرسة قد صححت أخطاء جماعة الطليعة حيث أعادت للكلمة الشعرية بريقها دون أن تهمل الواقع وذلك بإعادة تشكيله على نحو فني . لكن هذه المدرسة لن تستمر باعتبار أن أعلامها سيطورون تجاربهم ويطلعوا على المنجز الشعري العالمي ويضيع تصنيفها عند ذلك كما عرفت تلك الفترة ظهور مجموعة من الشعراء جلبوا إليهم الأنظار عربيا وداخليا في الثمانينات من أمثال يوسف رزوقة و حافظ محفوظ ومحجوب العياري وكمال بوعجيلة وآخرين والتي يمكن من خلالها أن نعلن بحق اكتمال القصيدة العربية في تونس فنيا . وتتطور القصيدة التونسية أكثر بظهور جيل التسعينات أو شعراء البيانات وأعلنوا ثورتهم على ما سبق وباتت قصائدهم تأسيسا لتيار جديد سماه البعض جماعة قتل المعنى إلا أن المتأمل في هذه التجارب يرى قدرتها على التطور وقدرتها على انجاز نص مغايرا وبات هاجسهم ليس التغاير مع المنجز الشعري في تونس بل تجاوز كل ما أسسه الرواد العرب وتأسيس نص ينحو إلى العالمية وقد تمكن هذا الجيل من الانتشار عربيا وكان الحاضر بقوة في كل المسابقات الأدبية .

كما أن المشهد الشعري في تونس الآن يبشر بخير ذلك أن المراحل الشعرية السابقة كانت تعرف اسما يسطتيع هظها ويكبر على حسابها ثم تنتهي من دون أن تتواصل في التجارب اللاحقة غير أن شعراء التسعينات استطاعوا أن يؤسسوا ألفة مع شعراء الألفين ليتواصلوا معهم لنحت قصيدة عربية في تونس تستحق القراءة والدراسة .

وهكذا نرى أن المشهد الشعري في تونس ثري ولم يكن عقيما ولم يكن الشابي شاعر تونس الأوحد بل لقد عرفت تونس شعراء كبار يستحقون التبجيل والاحتفاء شأنهم في ذلك شأن الشابي واعتقد أن أسماء كثيرة مما ذكرت لم تطور النص الشعري في تونس بل النص الشعري العربي بصفة عامة لذلك ندعو مثلا إلى دراسة منور صمادح بمثل الكيفية التي درس بها الشابي فسنكتشف شاعرا كبيرا

وعلينا أن لا نقف عند حدود الشاعر الشابي بل علينا أن لا نجعله "الشجرة التي تحجب الغابة " فثمة في الغابة ما يثير الفضول بل ثمة نصوص شعرية عظيمة . لذلك نرجو أن نحيد الشابي ونظر ما تحتوي الغابة فربما ثمة شجرة جميلة تستحق العناية .

عبدالله القاسمي

تونس

اجمالي القراءات 10866
التعليقات (1)
1   تعليق بواسطة   لطفية سعيد     في   الجمعة ٠٣ - أبريل - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[36469]

وجهة نظر

وجهة نظر جديرة  بالدراسة  للأستاذ عبدالله  القاسم  .. وإن كنا تعودنا  على مدح كل ما هو قديم ، سواء   في الشعر أو في باقي المجالات.  بلغة ينتصر فيها التعميم على ما عداه من آراء ، ونظن أن تطور العرب فقط في رجوعهم إلى الوراء!!  ففي ذلك يكمن  تميزهم و تفردهم  المطلق  !!


أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق