مجلس الدولة.. حامى الحريات:
مجلس الدولة.. حامى الحريات

المحرر   في الإثنين ٠٨ - ديسمبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً


مجلس الدولة.. حامى الحريات

  بقلم   د.يحيى الجمل    ٨/ ١٢/ ٢٠٠٨

بعض الفقهاء الفرنسيين يطلق على مجلس الدولة اسم «قاضى الحريات» على اعتبار أن مجلس الدولة هو الذى يحمى الأفراد من تجاوزات الإدارة، وهو الذى يتصدى لقرارات السلطة التنفيذية المخالفة للقانون ويحكم بإلغائها لعدم مشروعيتها.

والحقيقة أن مجلس الدولة فى فرنسا وعلى مدى ما يقرب من قرنين من الزمان كان بالفعل قاضى الحريات وحاميها.

وقد أخذنا فى مصر فى أعقاب الحرب العالمية الثانية بالنظام الفرنسى واستحدثنا فى عام ١٩٤٦ نظام القضاء الإدارى وأنشأنا مجلس الدولة.

ومن الإنصاف أن نقرر أن مجلس الدولة عندنا ولد كبيراً، وأن محكمة القضاء الإدارى - وهى المحكمة الأم فى مجلس الدولة - قد أصدرت من الأحكام فى السنوات الأولى من عمرها ما يعد مفخرة قضائية بكل المعايير. وليس من المبالغة أن نقول إن مجلس الدولة عندنا سبق شقيقه الأكبر فى بعض الأمور، ذلك أنه استشعر فى حالات كثيرة أنه يقف وحده فى الساحة حامياً حقوق الأفراد وحرياتهم من طغيان الإدارة وعسفها، ذلك على حين أن مجلس الدولة الفرنسى كان يدرك أن الرأى العام والبرلمان يقفان معه وقبله دفاعاً عن الحقوق والحريات ولعل هذا هو ما جعل المجلس عندنا أكثر استشعاراً لدوره.

فى عام ١٩٤٨ قرر مجلس الدولة المصرى حق القاضى فى الامتناع عن تطبيق القانون المخالف للدستور، وأصدر فى ذلك حكماً تاريخياً قبل أن يوجد عندنا قضاء دستورى بعدة عقود. فى الوقت الذى لم يصل فيه مجلس الدولة الفرنسى إلى إقرار مثل هذا المبدأ، نتيجة أوضاع تتعلق بالنظام القانونى الفرنسى، واعتبار أن البرلمان عندهم هو المعبر عن «الإرادة العامة la volonle generale» التى لا يجوز للقضاء أن ينقض ما شرعته.

أقول هذه المقدمة بمناسبة ما صدر عن محكمة القضاء الإدارى بمجلس الدولة من أحكام تاريخية رائعة فى الفترة القصيرة الماضية.

هى أحكام تضىء تاريخ القضاء المصرى كله وليس قصاراها أنها أحكام تعلى من هامة القضاء الإدارى إلى أعلى عليين. وهى من الناحية القانونية المجردة على أعلى مستوى من الحرفية ومن التمحيص القانونى بحيث يتعذر فى تقديرى كمشتغل بفقه القانون العام وبالقضاء الإدارى منذ قرابة نصف قرن أن تتعرض هذه الأحكام للإلغاء. ومع ذلك فهذا رأيى ولا يجوز لى أن أصادر على رأى أحد. وكل رأى هو مجرد اجتهاد ولكن الحقيقة القانونية هى ما تنطق به أحكام القضاء.

وسأشير فى هذا المقال الذى أكتبه للمثقف العام الذى يهتم بالشأن العام فى بلده ولا أكتبه بطبيعة الحال لأساتذة القانون وقضاته ومحاميه. خطاب هؤلاء المتخصصين له مكان آخر ولغة أخرى - سأشير فى هذا المقال إلى أربعة أحكام صدرت عن عدد من دوائر محكمة القضاء الإدارى فى الفترة من ٤ سبتمبر ٢٠٠٨ إلى ٢٥ نوفمبر ٢٠٠٨- والحكم الأول من هذه الأحكام هو المتعلق بقضية التأمين الصحى وما أصدره رئيس الوزراء من قرار ينشئ الشركة المصرية القابضة للرعاية الصحية، لكى تقوم هى بمهام التأمين الصحى والرعاية الصحية للمواطنين.

والذين رفعوا الدعوى أسسوها على أن الحكومة عندما لجأت إلى هذا الطريق إنما تكشف عن تخلى الدولة عن وظيفة أساسية من وظائفها، هى حماية وتعزيز الحق فى صحة المواطنين التى ألزمها به الدستور. وأن الدولة بذلك تنسحب خطوة خطوة من وظائفها الأساسية وتترك ذلك لمؤسسات خاصة لا رقابة عليها من ممثلى الشعب ولا من السلطة القضائية بدعوى آليات السوق الحرة التى بدأت قواعدها تهتز نتيجة الأزمة الاقتصادية الأخيرة التى عصفت بكل الثوابت. وفى حكم مطول تعرضت محكمة القضاء الإدارى لهذه المشكلة قائلة: «إن كفالة حق المواطن فى الرعاية الصحية ليست مجرد إقرار لحق أساسى من حقوق الإنسان ولكنها ضمانة لتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية»، وأحالت المحكمة إلى نص المادتين ١٦ و١٧ من الدستور وانتهت المحكمة إلى «الحكم بوقف تنفيذ قرار رئيس مجلس الوزراء» بإنشاء الشركة التى أريد بها أن تقوم بمهام التأمين الصحى نيابة عن الدولة.

أما الحكم الثانى فقد صدر بناءً على دعوى قدمها عدد من المواطنين ضد الحكومة، لأنها لم تسمح لهم بتسيير قافلة إغاثة إلى قطاع غزة بدعوى حماية الأمن العام وبعد أن استعرضت المحكمة دفاع المدعين ودفاع الحكومة انتهت إلى وقف تنفيذ قرار السلطة التنفيذية فيما تضمنه من منع المدعين من التنقل داخل الوطن حتى رفح المصرية مع ما يترتب على ذلك من آثار أخصها تسليم ما يحملونه من معونات إنسانية غير محظورة لأهل غزة المحاصرين. واعتمدت المحكمة فى حكمها على أنه: «من حيث إن البين من ظاهر الأوراق أن المدعين والمنضمين إليهم - وهم من فئات مختلفة من هذا الشعب - قد ساءهم الصمت الدولى إزاء الحصار الإسرائيلى الظالم لأكثر من مليون ونصف مليون عربى فلسطينى يتعرضون منذ ما يقرب من عامين لعقاب جماعى يتعارض مع جميع المواثيق والأعراف الدولية، وترتكب فى حقهم أبشع جرائم انتهاك حقوق الإنسان على وجه الأرض، بحصار قطاع غزة، ومنع وصول الدواء والغذاء لأهله وحرمانهم من حقهم فى الصحة والتعليم والأمن والحرية داخل أرضهم، فكان أن جمع المدعون القليل من التبرعات الغذائية والدوائية وأرادوا التوجه بها حتى رفح المصرية لتسليمها إلى الأهل المحاصرين فى غزة، فى تحرك رمزى إنسانى، الهدف منه إغاثة هؤلاء المحاصرين المظلومين، ولفت أنظار العالم إلى معاناتهم، ولكن الجهات الأمنية - وحسب الظاهر من الأوراق - قد منعتهم من مواصلة مسيرتهم داخل إقليم الوطن حتى الحدود دون سند قانونى أو مبرر مشروع، فى مخالفة صريحة لأحكام الدستور والقانون، وإساءة لاستعمال السلطة، وتعارض واضح مع مواقف مصر السياسية المعلنة التى تأبى أن يجوع الشعب الفلسطينى أو يحرم من حقه الطبيعى فى الحياة الكريمة الآمنة داخل وطنه».

ليس هناك أروع من هذه العبارات القوية الواضحة التى استند إليها هذا القضاء العظيم.

وبتاريخ ١٨ نوفمبر ٢٠٠٨ أصدرت ذات الدائرة حكماً تاريخياً آخر «بإيقاف تنفيذ القرار القاضى بتصدير الغاز الطبيعى المصرى لإسرائيل».

واستندت المحكمة إلى أنه: «لما كان الثابت من أوراق الدعوى أنه بموجب الطعن يتم بيع الغاز الطبيعى المصرى بثمن لا يتناسب ألبتة مع السعر العالمى السائد على نحو ما ذكره المدعى ولم تجحده جهة الإدارة أو تعقب عليه،

 ومن شأن ذلك إهدار جزء من ثروات مصر وعوائدها التى كان يمكن لو أحسن التصرف فى هذه الثروة - أن تعود على المدعى وغيره من المنضمين إليه وغيرهم من المواطنين المصريين بارتفاع فى دخولهم ومستوى معيشتهم، وتحسين فى الخدمات التى تؤديها الدولة،

وخاصة ما تعلق منها بتأمين المجتمع والعمل على تطويره الأمر الذى يكون معه للمدعى والمتدخلين انضمامياً إليه مصلحة جدية تبرر لهم اللجوء إلى القضاء ومنازعة مسلك جهة الإدارة بغية القضاء لهم بالطلبات التى أبدوها انتصاراً لمبدأ المشروعية وسيادة القانون ومراعاة الصالح العام، ومن ثم تقضى المحكمة برفض الدفع بعدم قبول الدعوى شكلاً والدفع بعدم قبولها لانتفاء الصفة والمصلحة».

وقضت المحكمة بوقف تنفيذ هذا الذى ارتكبته السلطة التنفذية بالمخالفة للدستور والقانون. ولاشك أننا أمام حكم عظيم آخر يدرك مصالح الوطن العليا ويحافظ على أحكام الدستور.

أما الحكم الرابع الآخر والذى صدر بتاريخ ٢٥/١١/٢٠٠٨ فهو الحكم الخاص بتطهير الحرم الجامعى من مكاتب الأمن التابعة لوزارة الداخلية والموجودة داخل أسوار الجامعة.

 وقد رفع هذه الدعوى رئيس نادى أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة وعدد آخر من الأساتذة الجامعيين وانضم إليهم لفيف كبير من المواطنين وقد استندت المحكمة فى قضائها إلى أن وجود هذه القوات من رجال وزارة الداخلية داخل الحرم الجامعى ينال من استقلال الجامعة الذى كفله الدستور والقانون.

إنها أحكام أربعة تاريخية وعظيمة وإنها دلالة قوية على مدى ما يتمتع به القضاء المصرى من هيبة وقوة واستقلال. رعى الله قضاءنا العظيم وطهره من أى شائبة. وحمى مصر من الخنوع والهوان والذل الذى يؤدى إلى إصدار مثل هذه القرارات التى أوقف تنفيذها قضاؤنا العظيم.

والله المستعان

اجمالي القراءات 11573
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق