ما مستقبل أمريكا؟:
ما مستقبل أمريكا؟

المحرر   في السبت ١٨ - أكتوبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً


قال تشرتشل: 'ان الديمقراطية هي أسوأ نظم الحكم، فيما عدا جميع النظم التي جربها الانسان من قبل'.
ونظام الانتخابات الامريكية لمنصب الرئيس، الذي هو في الواقع امبراطور العالم، هو اكثر النظم الانتخابية تعقيدا وطولا وتكلفة واجهادا.. فهو ماراثون سياسي واعلامي واجتماعي وجسدي ونفسي معا- بل هو حلبة ملاكمة مفتوحة وقائمة وعلنية يتابعها العالم كله على مدى حوالي عامين اي نصف مدة الاربع سنوات التي يقضيها الرئيس الامريكي في كل دورة. وهي نموذج للديمقراطية العلنية الشفافة في اوج عنفوانها ونصاعتها وتشوهاتها معا. وتدخل في صراعها قطاعات عديدة من القوى السياسية والثقافية والدينية والاعلامية في المجتمع الامريكي الهائل الهادر. وتتحدد على اثرها موازين ومراكز القوى لهذه القطاعات واجندتها للعمل طوال الدورة التالية. كما تتحدد بها موازين القوى العالمية والصراعات الاقتصادية الجبارة وكذلك مصير بلاد وشعوب قد تدمر او تزول او تجوع في دوامة الحروب والقلاقل والتحولات التي تنشأ إثر قرار من الجالس على عرش العالم في المكتب البيضاوي بالبيت الابيض.
ولعل حظنا السعيد ـ او التعس ـ اننا نعيش في هذه الايام اشد هذه الانتخابات خطورة وتأثيرا على مستقبل امريكا والعالم لسنوات عديدة قادمة.
فأمريكا والنظام الرأسمالي الذي تتزعمه يمر بأزمة هيكلية هي الأخطر منذ الكساد العالمي الشهير عام 29 من القرن الماضي. ونشاهد المؤسسات المالية والمصرفية الأمريكية العريقة تتهاوى فجأة وتصبح لاتساوي شيئا في خلال ساعات قليلة وتتبخر معها ادخارات العمر لملايين من الامريكيين الذين وضعوا مدخراتهم في اسهم هذه المؤسسات العملاقة.
يحدث هذا الصدع الخطير للرأسمالية الامريكية الجبارة، بينما ما تزال القوة العسكرية الامريكية بترسانتها الهائلة موحولة في العراق وافغانستان، في مطاردة عبثية لقوى شبحية مجهولة من الرجال الحفاة المقيمين في كهوف فعلية ورمزية - زمانية ومكانية - معا. ومع ذلك فقد عجزت الماكنة العسكرية الاعظم في العالم حتى اليوم عن وضع نهاية لتلك القوى. وبعد نزيف هائل ومستمر في الدم والمال والمكانة العالمية لانجد نهاية في الافق.
اما الخطر الحقيقي فهو في الصعود الصاروخي للتنين الصيني الذي اصبح على وشك مضاهاة القوة الاقتصادية الامريكية ومن المتوقع له ان يتفوق عليها في اقل من عشرين عاما اخرى. وقد كان هذا التنين ينمو وزنا وحجما وهو يبتلع كافة الصناعات العالمية ليصبح هو الماكنة الصناعية الاوحد للعالم كله ، في غفلة من ادارة امريكية كانت وماتزال مشغولة كلية بمطاردة بضع مئات من الرجال الحفاة في كهوف جبلية نائية!

مرشحان متواضعا الخبرة والذكاء

هذه هي الحالة البالغة الخطورة التي تجري فيها انتخابات عام 2008 والتي افرزت مرشحين للحزبين الديمقراطي والجمهوري صار قطاع كبير من الامريكيين يستغرب كيف لم يستطع نظام الانتخاب الطبيعي الامريكي الا يفرز الا هذين!!
فالمرشح الديمقراطي للرئاسة ، باراك اوباما، الذي صعد بسرعة صاروخية على المسرح السياسي لايملك خبرة تذكر في ادارة اي شيء ولم يكن محافظا او حاكما لمدينة او لولاية وبعد اشهر قليلة من انتخابه سيناتور عن ولاية الينوي وبها مدينة شيكاغو العملاقة ـ وهو انجازه الاكبر- قرر ترشيح نفسه للرئاسة الامريكية مرة واحدة ونجح في ذلك العمل الذي يدل على جرأة وثقة نادرة بالنفس ولكن يدل ايضا على خلل اساسي هيكلي في نظام الانتخاب داخل كل حزب، ساشرحه بعد قليل. وقد اضطر لكي يعادل ضعفه في الخبرة ان يختار معه السيناتور المخضرم جو بايدن الذي يحظى باحترام كبير من معظم المعتدلين في الحزبين.
اما المرشح الجمهوري ـ جون ماكين- فلم يكن اصلا هو المرشح المفضل لدى حزبه الجمهوري نفسه الذي رأى فيه شخصا ليبراليا الى حد ما ولايتفق مع الاتجاه المحافظ التقليدي للحزب ولم تكن القاعدة الجمهورية متحمسة له رغم انه من اجل ارضائها راح يتخذ مواقف اكثر تشددا مما اتخذه في تاريخه. ولم يكن له كثير من المتحمسين بين المستقلين ايضا فقد رأوا فيه سياسيا مخضرما كبير السن يتفق مع الرئيس بوش في موقفه من حرب العراق بل راح يزايد عليه بقوله انه مستعد للبقاء بالعراق لمدة مائة عام اذا لم تحدث خسائر في ارواح الجنود الامريكيين! وهو ايضا ليست له خبرة في ادارة اية مؤسسة او مدينة او ولاية امريكية.
وكان منافسه اوباما متفوقا عليه بنقاط كثيرة في استطلاعات الرأي بما يمثله ويدعو له من 'تغيير' تجاوب معه الكثير من الامريكيين خاصة الشباب. وقد استطاع ماكين ان يقلب المعادلة باختياره لسيدة متوسطة العمر هي سارة بولين حاكمة ولاية الاسكا لتكون هي المرشحة لمنصب نائب الرئيس. وقد منحه هذا دفعة مبدئية جعلته يتفوق على اوباما لاسبوعين او ثلاثة في استطلاعات الرأي حتى بدأت سارة بولين تظهر في بعض المقابلات التلفزيونية المحدودة وبدأ تاريخها يتضح اكثر ليكتشف الناس ان معلوماتها السياسية شديدة الضحالة ومواقفها شديدة المحافظة اكثر محافظة من ماكين نفسه كما بدا من اسلوب حديثها وتفكيرها انها تتمتع بعقلية قد تكون اقل من عقلية جورج بوش الابن نفسه وهو امر مخيف حقا.
وهكذا يعود التساؤل في اذهان الكثيرين من الامريكيين المعتدلين ومن قطاعات لايستهان بها داخل الحزبين ايضا: كيف افرزت العملية الانتخابية هذه الشخصيات متواضعة الخبرة او الذكاء لتكون هي الوحيدة التي علينا ان نختار من بينها رئيس ونائب رئيس اقوى دولة على الارض؟ ان امريكا تستحق افضل بكثير من هذا ولديها بلا شك شخصيات عظيمة القيمة والذكاء والخبرة والقيادة كان المفروض ان تكون هي التي نختار بينها. فما الذي اوصلنا الى هذا المأزق الرديء الذي نضطر فيه الى اختيار اقل الشرين او اقل الخطرين؟

عيبان اساسيان للنظام الانتخابي

يدفعنا هذا الى اعادة التأمل في نظام الانتخاب الامريكي الذي قد اثبت تاريخيا انه الانجح بين ديمقراطيات الغرب - وبالطبع لاوجه للمقارنة مع الانظمة الاخرى- فالولايات المتحدة هي اقدم جمهورية متواصلة الحكم على الارض منذ ان وضع خطوطها الاباء المؤسسون بحكمة ودقة بالغة بعد مناقشات وحوارات فكرية عميقة بين مجموعة من العقول السياسية النادر ان تجتمع في التاريخ ومنها فرانكلين وجيفرسون وهاملتون وآدمز ويكفي ان بنجامين فرانكلين وحده كان سياسيا ومفكرا واديبا وعالما ومخترعا في نفس الوقت.
ولكن هذا لايعني ان نظام الانتخاب الامريكي بلا عيوب فبه عيبان اساسيان الاول هو تأثير المال على العملية الانتخابية اذ يتطلب الامر مبالغ طائلة للإعلانات ولجيش العاملين في الحركة الانتخابية لكل مرشح.
اما العيب الاخر فهو في طبيعة عملية الترشيح والانتخاب داخل كل من الحزبين الجمهوري والديمقراطي (هناك احزاب اخرى كثيرة وصغيرة لكن لايكاد ان يكون لها وجود شعبي).
فالذي يحدث ان المتشددين والمتطرفين داخل كل حزب هم الذين يشكلون ما يسمى بالقاعدة اي تلك المجموعة من المتحمسين والمتطوعين والنشطاء العاملين والمنتخبين الذين يملكون الوقت والهمة والحماس والنشاط والعقيدة الحزبية الملتزمة الملتهبة التي تمكنهم من التواجد الاكبر والاكثر والاعلى صوتا داخل الجهاز الحزبي واروقته ودهاليزه وابوابه.
فتكون النتيجة الطبيعية هي ان هؤلاء هم من يدفعون بالسفينة الحزبية الضخمة في الاتجاه الذي يريدونه وهو بالطبيعة الاتجاه الاكثر تشددا او تطرفا من اتجاهات الملايين الاعضاء في الحزب التي لاتملك الوقت ولا الجهد ولا الحماس الكافي لمنافسة الاقلية المتشددة.
وهكذا يضطر كل مرشح الى ان يغالي في مواقفه ويقترب بها من درجة التشدد حتى يحظى بأصوات الفاعلين داخل حزبه لكي يكون هو مرشحهم في النهاية.
هكذا بينما يكون حوالي ثلث الناخبين الامريكيين من المستقلين غير المنتمين الى اي من الحزبين الرئيسيين يكون هؤلاء خارج اللعبة في تلك المرحلة الاولية وبذلك لاتؤثر اصواتهم الوسطية المعتدلة في العملية الانتخابية في مرحلتها الاولى. بينما ينتخب الثلث الجمهوري مرشحا يكون عادة متشددا و محافظا وينتخب الثلث الديمقراطي مرشحا يكون عادة متحررا و متشددا. وفي المرحلة الثانية تقع المنافسة بين مرشحي الحزبين فيكتشف المعتدلون والمستقلون ان عليهم الاختيار بين اقصى اليسار واقصى اليمين.
هذا هو العيب الهيكلي الاساسي في نظام الاستقطاب الحالي بين الحزبين الرئيسيين وهذا يدفعنا الى تأمل طبيعة وتاريخ ومواقف كل من هذين الحزبين الرئيسيين رغم اخطار التعميم:

الحزب الديمقراطي

بشكل عام يقدم الحزب الديمقراطي نفسه- ويشفع له تاريخه ومواقف قياداته ونوابه ومن جاء منهم من رؤساء لامريكا واهمهم في التاريخ المعاصر روزفلت وجون كنيدي وجونسون وكارتر وكلينتون - انه حزب الفقراء والعاملين والطبقة الوسطى وأولوياته عادة هي العدالة الاجتماعية والتكافل والتضامن الاجتماعي والترحيب بالمهاجرين الجدد والمطالبة بحقوق الاقليات والمظلومين والضعفاء واهم انجازاته هي المشروعات العامة التي اقامها روزفلت فخلق بها ملايين فرص العمل للفقراء ثم قرارا ت الحقوق المدنية للسود والمرأة التي بدأها جون كنيدي واكملها ووسعها خليفته جونسون، فمنحت السود والمرأة حقوقا واسعة لاول مرة في التاريخ الامريكي، وعادة ما يعمل الحزب على فرض ضرائب على الاغنياء لمصلحة مشروعات اجتماعية ضخمة تفيد متوسطي الدخل والفقراء ولهذا كله فكان من الطبيعي ان يقدم الحزب الديمقراطي اول مرشحة امرأة لمنصب نائب الرئيس وهي جيرالدين فيرارو مع مانديل الذي لم ينجح وكان ايضا هو الحزب الذي حاول الترشيح له عدد من المرشحين السود من قبل ولم ينجحوا حتى نجح هذا العام لاول مرة باراك اوباما.
وعادة مايقوم النواب والمرشحون الديمقراطيون بمهاجمة خصومهم عن الحزب الجمهوري متهمين ذلك الحزب بأنه حزب الاغنياء المعادي للفقراء ومتوسطي الدخل والمهاجرين والمناصر للشركات الامريكية الكبرى التي يعمل بها او يمثلها الكثير من قادته كما يتهمونه بانه حزب المتشددين من المحافظين الذين يريدون اقحام الدين في السياسة ويعادون العلم ويريدون تطبيق وتدريس القصص الدينية عن خلق العالم وآدم وحواء بدل نظرية النشوء والارتقاء وهو مايتهمون به ساره بولين حاليا.

الحزب الجمهوري

بشكل عام يقدم الحزب الجمهوري نفسه- ويشفع له تاريخه ومواقف قياداته ونوابه ومن جاء منهم من رؤساء واهمهم ترومان وآيزنهاور ونيكسون وريغان وبوش الاب والابن -على انه الحزب المدافع عن الرأسمالية ونظام السوق الحر والمناصر للأعمال الحرة وللقيم العائلية والدينية والمدافع عن الجنين غير المولود ضد الاجهاض والمحافظ على التقاليد الامريكية وعلى امريكا كقوة عالمية عظمى والمهتم بتعظيم قوتها العسكرية والمحافظ على امنها وسلامتها وأولوياته هي الحرية الفردية وحرية المال والاعمال وتقليص الجهاز الحكومي وتخفيض الضرائب بشكل متساو على الجميع وزيادة الانفاق العسكري ومعاداة القوى غير الرأسمالية وغير الديمقراطية في العالم.
وهناك خيط قوى في نسيج هذا الحزب له تاريخ عنصري معاد للسود والاسبان والمهاجرين والاقليات وكل من ليس ابيض السحنة واشقر الشعر وكان الحزب معارضا لقوانين الحقوق المدنية للسود ولتحرير المرأة ناظرا الى هذه على انها تقويض لاسلوب الحياة الامريكية التقليدي والى اليوم تصدر من بعض اقطاب ونواب الحزب تصريحات او زلات لسان او مواقف تنم عن عنصرية ضد السود وضد غير المسيحيين. كما ان لهذا الحزب علاقات عضوية بكبرى الشركات الامريكية وخاصة شركات البترول وشركات الصناعات الحربية التي تقوم بتسليح الجيش الامريكي.
كما يتعاطف الحزب مع حق المواطنين في حمل السلاح دون تشديد في الرقابة على ذلك ويقوم اقطابه بامتلاك السلاح وهواية الصيد ومنهم ديك تشيني وساره بولين فهناك تعاطف مع شخصية الكاوبوي باعتباره النموذج الامريكي الاصيل المغامر والقوي وكان ريغان مثالا لذلك وايضا بوش الابن والان ساره بولين.
وعادة مايهاجم الجمهوريون خصومهم في الحزب الديمقراطي متهمين ذلك الحزب بأنه ليس قويا بما يكفي في مواجهة اعداء امريكا وليس قادرا على حماية البلاد عسكريا لضعف رؤيته العسكرية للعالم ويتهمونه ايضا بتساهله مع المهاجرين غير الشرعيين وبان افكاره ليبرالية حتى نجحوا في تحويل هذه الكلمة الى تهمة وكثيرا مايقرنونها بكلمة 'يساري' كما يتهمون الديمقراطيين احيانا بضعف الوطنية.

اليسار الشمولي واليمين الاصولي

في النهاية بين طرفي النقيض من هذين الحزبين وبين دفع المتشددين في كل منهما مرشحينهم لاتخاذ مواقف متطرفة لنيل اصواتهم لتمثيل الحزب نجد ان حوالي نصف الناخبين الامريكيين الذين يمثلون الوسط المعتدل لايرون امامهم سوى احد خيارين افضلهما مر - اما مرشح اليسار الشمولي الذي يريد حكومة ضخمة ويرفع شعارات العدالة الاجتماعية دون اهتمام كبير بالحرية الفردية - واما مرشح اليمين الاصولي الذي يريد جيشا ضخما يدفعه الى حروب عبثية ويرفع شعارات الحرية والسوق الحر دون اهتمام كبير بالعدالة الاجتماعية والطبقات الكادحة.
وهكذا وصل بنا الحال الى باراك اوباما ومعه بايدن امام جون ماكين ومعه بولين. فندهش و يعود التساؤل: مامستقبل أمريكا؟

فرانسو باسيلى

'كاتب من مصر يقيم في نيويورك

اجمالي القراءات 10193
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق