المسئولية الشعبية للمفكرين في مصر:
المسئولية الشعبية للمفكرين في مصر

  في السبت ٢٧ - سبتمبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً


المسئولية الشعبية للمفكرين في مصر طباعة ارسال لصديق
27/09/2008
د. محمد  رؤوف حامد
في زمن سابق أطلق عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين تعبير " التعليم كالماء  والهواء" . بعدها تحول هذا التعبير إلي صيحة تاريخية، تجسمت عمليا في قوة دفع كبري للتغيير في الفهم و الممارسة بشأن " التعليم " كوسيلة وغاية في حياة مصر وجميع المصريين.
كان طه حسين من خلال صيحته هذه، ومن خلال جهاده في سبيلها، يمارس مسئوليته كمفكر تجاه عموم بني وطنه. إنها " المسئولية الشعبية للمفكر".
معني ممارسة المفكر مسئوليته هذه، أنه يستخدم أحسن ما لدي الإنسان، وهو العقل (الذي هو أيضا قاعدة انطلاق المفكر في أدائه لمهامه)، من أجل الاكتشاف والترشيد والصياغة والحل، بخصوص مشكلة ( أو مشكلات) عامة تواجه مجتمعه ويتوقف عليها مستقبل عامة الشعب.
في هذا الخصوص نجد أن مصر والمصريين بحاجة قصوي ملحة لممارسة المفكرين مسئولياتهم الشعبية.
لقد بلغت دواعي هذا الاحتياج من الشدة درجة عالية تبلغ حد القسوة. ويكفي للتدليل علي هذه القسوة (القسوة في شدة الاحتياج) الإشارة إلي الجوانب التالية:
*إن المسألة لا تختص بأزمة واحدة أو كارثة واحدة ، إنما هي كوارث متعددة تتسارع في إيقاع حدوثها، وتكشف عن سلبيات مزمنة ( أي نمت وأتت فعلها علي مدي زمني طويل) تتمثل في تشابكات وتداخلات بين كل من : (أ) ضعف مخز في أداء منظومة الدولة ككل ، (ب) تدني القدرات السياسية والإدارية للمسئولين  الكبار في الدولة ، (ج) تفشي الفساد بأشكاله الرئيسية  الثلاثة، السياسي و الإداري والمالي.
*استعاضة قيادات الدولة عن التصحيح الحقيقي بالمواجهات والقيود أمنية الطابع ، بالتوازي مع المناورات السياسية والتنفيذية (مثلما حدث بخصوص التعديلات الدستورية ومثلما يحدث في التعامل مع الحركات والتوجهات الاحتجاجية).
*تدهور مكانة و أوضاع مصر والمصريين مقارنة بالآخر ( في دول المنطقة والدول النامية).
*عدم الأخذ بأساليب العلم والتكنولوجيا، ولا بالمنهج العلمي في التفكير في تسيير شئون الدولة، وفي استشراف المستقبل.
لقد بلغت القسوة في الأوضاع الراهنة حد ممارسة أصحاب  السلطة والمال مهامهم وشئون حياتهم كما لو كانوا هم أصحاب البلد، وما الناس و المؤسسات وعلاقات العمل إلا " أشياء تابعة" لهم يفعلون بها ما يشاءون، وفي سياق ذلك يساء - عن عمد- استخدام المهام الرسمية، والوظائف، واللوائح والقوانين، والعلاقات  الإدارية. ولأن الكوارث التي تدفع إلي الحاجة القصوي القاسية لممارسة المفكرين  مسئوليتهم الشعبية تعتبر غير عادية في خصائصها ، حيث هي كوارث مركبة  في أسبابها ومكوناتها، وشديدة  في حدة تداعياتها، ومتواصلة في تكرار وقوعها، ومترامية في تنوع مجالات حدوثها وفي انعكاساتها زمنيا واجتماعيا وجغرافيا؛فإن القصد الرئيسي من إعمال الفكر بشأن هذه الكوارث يتمثل في أمرين: أولاً: التوصل إلي تحديد الإطار المشترك للسببية ( أو للأسباب) التي أدت إلي حدوثها.
ثانيا : اكتشاف ( أو إبداع) السبيل إلي المواجهة المناسبة، والتي لا بد وأن ترتكز علي الإطار المشترك للأسباب، ومن ثم يكون لها طابع الكلية والتكاملية Wholeness and    .
الحكمة وراء العمل الفكري المحض للمفكرين من أجل تحديد الإطار  المشترك للأسباب واكتشاف ( أو ابتداع) المواجهة الكلية والتكاملية تتلخص في أن الطبيعة التشابكية للكوارث، التي تعبر عنها خصائصها المشار إليها أعلاه ، تجعل من العبث ( بل من البلاهة أيضا) محاولة التوصل إلي حلول لهذه الكوارث من خلال التعامل معها كأجزاء منفصلة عن بعضها، وإيجاد حل لكل جزء علي حدة، أو من خلال التوصل إلي حلول جزئية.
دواعي تجنب المنهج التجزيئي
السبب وراء وصم التعاملات الجزئية مع هذه الكوارث بالعبث وعدم الحصافة يرجع، ليس فقط لطبيعتها التشابكية الواضحة في خصائصها التي أُشير إليها أعلاه؛ وإنما أيضا إلي أسباب أخري نشير إلي بعضها كالتالي:
*إن الاعتماد علي مجرد المواجهة من خلال الجزئيات يكاد يكون مستحيلا، طالما أن هناك أسبابا رئيسية مشتركة ومتشابكة. وحتي في حالة نجاح المواجهة في بعض الجزئيات، فإن هذا النجاح سيكون غالي التكلفة جداً (من حيث الزمن والجهد). إضافة إلي أنه في الأغلب سيكون نجاحا مؤقتاً، تعود بعده الأوضاع إلي أسوأ مما كانت عليه.
*أن الفساد الذي أدي إلي هذه الكوارث قد بلغ حد امتلاك القدرة علي القيام بالمبادرات والمناورات، باستخدام ميكانيزمات إفسادية علي كل الجزئيات من خلال تناغم كبير في التواطؤ الإفسادي.
أي أن الفساد صارت له قدرات عليا تتسم بالكلية ، ومن ثم لن تنجح مواجهته في غيبة ميكانيزمات مواجهة تكون كلية وتكاملية.
إن المواجهة الكلية التكاملية، إذا ما وضعت أسسها وجري تفعيلها، ستكون لها قيمة مضافة كبيرة ومتصاعدة، تأتي من ثلاثة أبعاد. البعد الأول هو تآزر متوقع في الفهم والمشاركة من المواطنين الشرفاء المضادين للفساد، والتواقين إلي إحداث تقدم وطني. وأما البعد الثاني، فيتشكل من تدارك وتضافر من قيادات وطنية محترمة توجد في جميع المجالات والمستويات في الدولة، وتشتاق إلي فرصة لمعالجة حقيقية صحيحة للكوارث، فضلاً عن منعها. بعد ذلك يأتي البعد الثالث، الذي يتمثل في حدوث ارتقاء متوافق في المعالجات والمجابهات علي كافة الجزئيات - تقريباً ? وفي وقت واحد، مما يجعل المجابهة الكلية شديدة الفاعلية مع أدني احتمالات الارتداد.
 نقطة الانطلاق
المدخل إذن هو أن يتحرك المجتمع من خلال عقله أي من خلال قيام مفكريه باستنهاض الفكر من أجل المجابهة الكلية للفساد. المنتج الأول (بفتح التاء) لعملية إعمال الفكر في هذا الخصوص هو التحديد الفكري الموجز للمطالب       ( و/أو الركائز و/أو القيم) الخاصة بالتطوير والتغيير. هذا التحديد هو نقطة الانطلاق في ممارسة المسئولية الشعبية للمفكرين.
المطالب (أو الركائز أو القيم) المحددة ستكون بمثابة " الناقوس" الذي يكتسب المصداقية عند الملايين من أبناء الوطن ممن يريدونها مصر الأحسن، سواء هم من نشطاء الشارع السياسي الجديد ( والمتمثل في الحركات الاحتجاجية بأطيافها المتنوعة وفئات الشباب والنساء ورجال الأعمال الشرفاء) ، أو الشارع السياسي  التقليدي.
حجر الزاوية هنا هو "المصداقية "، حيث إن اكتساب المطالب ( أو الركائز أو القيم المحددة) للمصداقية الشعبية هو المدخل الحرج إلي التحول، والذي نعني به تحول هذه المطالب إلي عزم ( أي قوة)، ثم إلي فعل.
سيكون ذلك تفكيراً واقعياً وليس مثالياً، إذا ما كانت المخرجات الرئيسية للعمل الفكري ( والمتمثلة -أساسا - في المطالب أو الركائز أو القيم المحددة) معبرة بالفعل وبالكامل عن الاحتياجات الأساسية للعمل السياسي المصري الجديد.
سيتحقق ذلك عندما تأتي كل واحدة من هذه المخرجات بسيطة ومفهومة ومعبرة تماماً، علي غرار صيحة طه حسين " التعليم كالماء والهواء". عندها ستتجسم الحاجة القصوي للتحول تجسما إيجابياً، يقود المجتمع كله إلي جعل مصر أجمل وأكمل.
المسألة إذن أن عنق الزجاجة المؤدي إلي إحداث التغيير يتمثل في ممارسة المفكرين مسئوليتهم الشعبية، وأن ذلك لن يكون عبر دراسة طويلة مهما كانت تفاصيلها ودقتها وموضوعيتها، وإنما من خلال التوصل إلي تحديد المطالب    و/أو الركائز و /أو القيم الخاصة بالتغيير.
عندما يحس الإنسان العادي بهذه المطالب، ويستوعبها ويصدقها، خاصة بفعل مصداقية المفكرين الذين أعدوها، فإنه سيتبناها في سياق جماعي.
وهكذا، ممارسة المفكرين مسئوليتهم الشعبية تعتبر عملا سياسيا قوميا مبدعا، من شأنه أن يكون مرشداً للشعب، كما هو أيضا منبه ومرشد للقيادات السياسية.
من هنا، من خلال ممارسة المفكرين مسئوليتهم الشعبية، يمكن لمصر أن تتغير إيجابيا ( فيما بعد كفاية والحركات الاحتجاجية ).
إنه المابعد الخاص بحركية مصر الوطن والمواطنين ككل، تماما مثل ذلك المابعد الخاص بالصين وماليزيا، ومن قبل اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة ....إلخ.
وتبقي اعتبارات منهجية methodological  مهمة. المفكرون لابد أن يتعاملوا مع مسئوليتهم الشعبية من خلال " الأنا الجماعي" وليس الأنا الفردي ، كما أن اختيارهم لهذه المهمة الجماعية لابد أن يعتمد علي حيثية واضحة ومعلنة ومقبولة. ذلك فضلا عن أن العمل برمته يتطلب الشفافية والمنهجية والاستفادة برؤي وآراء من لم يشتركوا في التوصل إليه
اجمالي القراءات 7392
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق