المحكمة الجنائية الدولية.. وسيادة الدول

د.يحيى الجمل   في الثلاثاء ٢٩ - يوليو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً


منذ أن طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، القبض علي الرئيس عمر البشير، رئيس جمهورية السودان، بدعوي ارتكابه جرائم إبادة في حق سكان دارفور، وهذا الأمر يثير جدلاً واسعاً وجاداً، وكان طبيعياً ومنطقياً أن تقف الجامعة العربية ضد هذا القرار وتدعو إلي إبطاله، وكان طبيعياً أن تتباين ردود الأفعال بين السلطات الرسمية وتيارات من القوي الشعبية والحركات المؤيدة لضرورة احترام حقوق الإنسان.

مقالات متعلقة :


وقد كتب الصديق العزيز الدكتور محمد سليم العوا، مقالاً في «المصري اليوم»، يؤكد فيه خطأ قرار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، وعدم اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بمحاكمة الرئيس عمر البشير، تأسيساً علي أن السودان ليس طرفاً في المعاهدة التي أنشأت هذه المحكمة، وأن المعاهدات لا تلزم غير الموقعين عليها، ومادام السودان لم يوقع علي هذه المعاهدة شأنه في ذلك شأن الغالبية من الدول العربية، فإنه غير ملتزم بأحكام المعاهدة، ومن ثم فإن طلب المدعي العام للمحكمة القبض علي الرئيس عمر البشير ومحاكمته أمام المحكمة التي أنشأتها هذه المعاهدة، هو طلب مخالف لقواعد القانون الدولي.

والتأسيس القانوني الذي ذهب إليه الدكتور العوا في مقاله القيم، يتفق مع معطيات وأحكام القانون الدولي التقليدي، ومع نظرية السيادة التقليدية.

ولكن ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وقيام هيئة الأمم المتحدة، فإن التنظيم الدولي يمر بتطور عميق وجذري، وإن لم يبلغ غايته بعد.

كيف كان ذلك؟

كانت القاعدة المستقرة في القانون الدولي منذ عدة قرون، أن سيادة الدولة مطلقة، وأن الدول لا تلتزم إلا بإرادتها ولكن هذه القاعدة بدأت تهتز في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ودخول التنظيم الدولي مرحلة جديدة بإقرار ميثاق الأمم المتحدة والميثاق العالمي لحقوق الإنسان، والعهدين الدوليين للحقوق المدنية والاجتماعية، والتسليم بإمكانية اتخاذ قرارات دولية ملزمة حتي لدول لم توافق علي هذه القرارات، وذلك وفقاً للباب السابع من الميثاق الذي أعطي لمجلس الأمن الحق في اتخاذ قرارات تصون الأمن والسلم الدولي ضد دول لم توافق علي هذه القرارات.

ولكن التنظيم الدولي في المرحلة الراهنة يعيش نوعاً من التناقض في قضية السيادة، وإمكانية التزام الدول علي غير إرادتها، فقد نص الميثاق علي إعطاء الدول الخمس الكبري دائمة العضوية في مجلس الأمن، حقوقاً فوق حقوق سائر الدول الأخري الأعضاء في المجلس، والأعضاء في المنظمة الدولية، تتمثل في حق النقض «الفيتو» الذي يؤدي إلي تعطيل قرارات مجلس الأمن، حتي وإن صدرت بأغلبية أربعة عشر صوتاً ضد صوت واحد من الدول ذات العضوية الدائمة.

ولعل هذا الأمر «الفيتو» وما أدي إليه من شلل في وظيفة مجلس الأمن، هو ما أدي إلي استصدار القرار الشهير من الجمعية العامة للأمم المتحدة، والمعروف باسم قرار التجمع من أجل السلم، والذي صدر مرتين في تاريخ المنظمة المرة الأولي بناء علي اقتراح الولايات المتحدة الأمريكية أثناء حرب كوريا والمرة الثانية بناء علي اقتراح الاتحاد السوفيتي إبان أزمة السويس، وهذا القرار يؤدي بإجراءات خاصة إلي نقل اختصاص مجلس الأمن إلي الجمعية العامة، عندما يفشل المجلس في اتخاذ قرار يتعلق بالسلم والأمن الدولي.

وقد أصبح هذا القرار من المسلمات في القانون الدولي المعاصر نتيجة التقاء القوتين العظميين عليه، وإقراره من غالبية المجتمع الدولي.

وإلي جوار ذلك فقد بدأ القانون الدولي الإنساني ينمو ويشتد عوده ولا يسمح للأنظمة المستبدة الفاسدة - وهي الغالبية في الوطن العربي والحمد لله - بأن تستمر في تسلطها وفسادها إلي النهاية، بل إن انتظار يوم حسابها لن يطول كثيراً، سواء علي يد المجتمعات المعنية، أو علي يد المجتمع الدولي نفسه، إن عجزت المجتمعات المعنية - نتيجة القهر وبطش الأمن - عن مواجهة هذا الفساد والاستبداد، الذي يحرص علي أن يستأثر بالسلطة والثروة دون الناس جميعاً، وفقاً لقاعدة الاستحواذ علي كل شيء وإقصاء كل الناس عن كل شيء.

المهم أن ندرك أن القانون الدولي يتغير في أسسه تغيراً جذرياً، خاصة في العقود الأخيرة من القرن الماضي وبداية هذا القرن.

وقد أدي هذا الوضع إلي أن أحد كبار الفقهاء الفرنسيين - موريس ديفرجيه - يقول إن العالم المعاصر ليس فيه سوي دولتين اثنتين فقط تتمتعان بالسيادة الكاملة هما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي - آنذاك - وإن بقية دول العالم منقوصة السيادة، وخاضعة لقواعد التنظيم الدولي المعاصر.

ونستطيع أن نقرر أنه لولا انحراف الإدارة الأمريكية الحالية عن الإيمان بسيادة القانون نتيجة التوجهات الصهيونية واتخاذها أكثر من معيار في معاملاتها الدولية، لكان القانون الدولي الإنساني، ولكان التنظيم الدولي في وضع أفضل بكثير مما دفعه إليه غطرسة الولايات المتحدة الأمريكية، وانفرادها بسقف العالم بحسبانها القوة العظمي الوحيدة، ولكن كل الدلائل تقول إن هذا الوضع لن يستمر، وإن العالم قد بدأ يشاهد ظاهرة تعدد الأقطاب من جديد، ولن يقتصر الأمر علي تطبيق اثنين فقط كما كان في النصف الثاني من القرن الماضي، وإنما ستتغير الأقطاب وتتنوع.

وسيؤدي هذا إلي أن تفقد الولايات المتحدة قبضتها علي العالم تلك القبضة التي أدت إلي مرحلة هي أسوأ مراحل التاريخ الإنساني المعاصر من حيث ضياع هيبة القانون وتعددية وازدواجية المعايير، والدخول في مرحلة من الإيمان بالأساطير التوراتية التي لا دليل عليها من تاريخ أو برهان إلا سيطرة الصهيونية علي رأس الإدارة الأمريكية الأخيرة.

كل هذه التطورات في النظام الدولي وفي القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني، لابد أن تدفع كثيراً من الحكام وكثيراً من أنظمة الحكم، إلي مراجعة سياستها التي تقوم علي الاستبداد بشعوبها، والاستئثار بالسلطة والثروة وكل غنائم الفساد، والتمسك بقهر كل صور المعارضة والتعددية السياسية.

إننا نعيش في زمن لم ولن يسمح بذلك طويلاً.

اجمالي القراءات 10635
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق