«ابن المؤسسة» و«ابن الرئيس»

عبدالله السناوى   في السبت ٢١ - يونيو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً


لا أحد يعرف بالضبط: ماذا جرى فى «لقاء الأحد» بين «توماس فريدمان» و«جمال مبارك».. لكن الأغلب أن نجل الرئيس، الطامح إلى خلافة والده على كرسى رئاسة الجمهورية، سعى فى هذا اللقاء، الذى لم يعلن عنه، إلى استكشاف «مرحلة ما بعد بوش»، وما قد يطرأ على السياسات الأمريكية فى المنطقة من تغييرات قد تطول مواقفها من النظم العربية الموصوفة بـ«الاعتدال».. خاصة أن الإدارة الأمريكية المقبلة سوف يتحدد فى فترة ولايتها مصير الحكم فى مصر. ويعتقد كثيرون من المقربين من نجل الرئيس أن «توماس فريدمان» قريب من «المؤسسة الأمريكية» ويعبر عن توجهاتها الرئيسية، ومطلع بصورة كبيرة -من موقعه كأبرز كتاب الأعمدة فى صحيفة «النيويورك تايمز»- على خفاياها وحساباتها المعقدة. غير أن «فريدمان» له اهتمامات أخرى وأجندة خاصة، فهو من المناصرين لمشروع «الشرق الأوسط الجديد»، الذى تقوم فيه إسرائيل بدور محورى فى قيادة تفاعلاته السياسية والاستراتيجية والاقتصادية، ومؤيد للسياسات الإسرائيلية، ومدافع عنها، ويتبنى فى العادة مواقف متشددة تتماهى مع «الرؤى الليكودية»، وإن بدا -أحياناً- أن له ملاحظات عليها، ولكنها ملاحظات «من داخل البيت».
بدا «فريدمان» فى لقاءاته القاهرية مقتنعاً بأن «الدور المصري» فقد وزنه وبريقه وتأثيره فى محيطه، وغير معنياً بالسؤال عن تفاصيله، ولم يبد قلقاً على مستقبله، ففى اعتقاده أن هذا الدور -ولسنوات طويلة مقبلة- سوف يظل منضوياً تحت الأفق الاستراتيجى الأمريكى.
قد تبرز -أحياناً- بعض الاحتقانات على خلفية ضغوط أمريكية بصورة متقطعة فى ملف الإصلاح السياسى، ولكنها لا تغير من طبيعة العلاقة ولا مسارها العام.
ومن أفكار «فريدمان» الشائعة أن الإصلاح السياسى فى مصر يؤهلها لبناء نموذج ديمقراطى فى المنطقة يمنحها -مجدداً- دوراً أكبر فى تفاعلات المنطقة، ولكنه يطلب هذا الدور لأجندة الولايات المتحدة ومصالحها. ولا يعهد عنه أدنى تفهم لمشكلة الفقر أو فكرة العدالة الاجتماعية، فهو أحد الداعين إلى نوع من «العولمة المتوحشة» التى تؤكد هيمنة المصالح الأمريكية على العالم.. وكشأن الإدارة الأمريكية الحالية لا يعنيه التحول الديمقراطى وإرساء مبادئ حقوق الإنسان إلا بقدر استخدامها لتطويع النظم العربية الحليفة لمقتضيات الاستراتيجية الأمريكية فى المنطقة.
ويدرك «فريدمان» -كما قال لمحاوريه- أن مصر «ضعيفة» ولكنها بلد له قيمته، وأياً كانت أوضاعه الحالية، فإن حذف أدواره من خرائط المنطقة والتفاعلات فيها يصعب تصوره على مدى طويل. ولم يبد «فريدمان» أية مخاوف من تحولات دراماتيكية فى المستقبل القريب.. وبشكل أو بآخر يعتقد أن خلفاء مبارك -أياً كانوا- مجبرين على المضى فى السياسات ذاتها، أو أنه ليست هناك فرصة لصعود قوى راديكالية تعيد ترتيب الأوراق المصرية وتستخدمها فى مواجهة السياسات الأمريكية على مدى منظور.
وعادة يتجنب الأمريكيون الخوض فى مسألة خلافة مبارك، فالملف معقد، وما يعنيهم هو ضمان ولاء النظام للاستراتيجيات والمصالح الأمريكية، وأن يكون على رأس الدولة شخصية لها قدر من النفوذ والقوة تمكنها من خدمة تلك الاستراتيجيات والمصالح.. وتميل الحسابات الإسرائيلية فى ذات الملف -بحسب ما هو منشور ومعلن- إلى إبداء قدر من الإعجاب بتوجهات نجل الرئيس، ولكنها تعتقد أنه لن يصل للحكم.. والإسرائيليون أكثر عناية من الأمريكيين بالتفاصيل فيما يتعلق بمستقبل نظام الحكم فى مصر، فهى الدولة العربية الأكبر، ومصدر التهديد الرئيسى فى أية حسابات مستقبلية واستراتيجية، و«فريدمان» قريب من المؤسستين، ويدرك التعقيدات فى الحسابات، ويدرك -مثل الإسرائيليين- أن «جمال مبارك» يناسب حساباتهم، ولكنه يدرك -أيضاً- أن اللعبة السياسية فى مصر تتحكم فيها قواعد تمنح لمؤسسات القوة موقعاً فريداً، ويصعب تصور أن تمنح تلك المؤسسات تأييدها لنجل الرئيس، أو أن يمتد منسوب الولاء بذات درجة الارتفاع من الأب إلى الابن. وهذه الحقائق يدركها الرئيس الذى لا يبد تحمساً للتنازل عن الرئاسة لنجله، غير أن «ابن الرئيس»، وبعض رجال الأعمال حوله، يتصورون أن الأفكار التى يحملونها والمصالح التى يدافعون عنها كفيلة بفتح الأبواب المغلقة للصعود للسلطة بدعم من الولايات المتحدة وإسرائيل من خلفها، ويدرك نجل الرئيس أن الولايات المتحدة سوف يكون لها دور مؤثر، مستمد من طبيعة النظام المصرى الحالى، فى اختيار رئيس الجمهورية المقبل، ولا يكف عن السعى لاستكشاف مواقفها والتقرب من مراكز القرار فيها.. ويدخل فى هذا الإطار زيارته الباريسية الأخيرة للحوار مع قيادات «الحزب الديجولي» الذى ينتسب إليه الرئيس الحالى «نيكولا ساركوزي»، وهى زيارة تختلف فى أهدافها عن زيارة سابقة لـ«حزب العمال البريطاني» أثناء حكم رئيس الوزراء السابق «تونى بلير».. ففى الثانية بدا الهدف المعلن تنظيمياً لاكتساب الخبرات فيما سمى تجديد «الحزب الوطني»، وكان من بين الأهداف الاطلاع على خبرة «العمليات القذرة»، وهى خبرة استخدمت عملياً فى التنكيل بالمعارضين السياسيين.. أما الزيارة الباريسية فقد غلب عليها الطابع السياسى المباشر، أو تقديم نجل الرئيس للطبقة السياسية الفرنسية.
ومشكلة «جمال مبارك» أن أحداً فى الغرب غير مستعد للرهان عليه، فسجل «الحزب الوطني»، الذى يترأس لجنة سياساته، فى تزوير الانتخابات العامة مخجل، وسجل النظام كله فى ملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان يدفع من حين إلى آخر إلى مواجهات إعلامية تجد طريقها -فى بعض الحالات- إلى البرلمان الأوروبى، ولكن الأطراف الأوروبية، والأمريكية بطبيعة الحال، تجد نفسها مدفوعة للتعاطى معه، والاستماع إليه، فهو من مكونات الحاضر والقوى اللاعبة على واجهة مسارحه، ولكن ذلك لا يعنى بالضرورة، ولا على أى نحو، القبول به وريثاً للعرش الجمهورى فى مصر، فتلك حسابات أخرى.. و«فريدمان» مطلع -بموقعه وقربه أيضاً من المؤسسة الإسرائيلية- على تلك الحسابات، ولديه ذات المخاوف من أن يؤدى ضعف مؤسسة الرئاسة فى مصر، بافتقاد نجل الرئيس للقبول العام، إلى الإضرار بالمصالح والاستراتيجيات الأمريكية والإسرائيلية على مدى منظور، ولكنه تجنب الحديث فى الملف الشائك، حام حوله، ولكنه لم يبت فيه.
وقد بدا «فريدمان» فى لقاءاته القاهرية مقتنعاً وداعياً إلى اعتبار جوهر الصراع الحالى فى المنطقة وعليها هو المواجهة الأمريكية الإيرانية.. وفى تقديره أن إيران اللاعب الإقليمى الرئيسى فى مواجهة الاستراتيجيات الأمريكية، قد تكون هناك بعض التفاهمات والصفقات فى الكواليس، لكنها تفاهمات وصفقات لضبط الصراع، حسب مصالح كل طرف وحساباته الاستراتيجية، ولا تنفى عوامل الصدام الجوهرية فيه. تبدو تصورات ودعاوى «فريدمان» انعكاساً مباشراً لخيارات «المؤسسة الأمريكية» -فى ظل بوش وما بعده- فصلب الصراع والهدف الاستراتيجى فيه هو تقليم أظافر إيران ودفعها للانكفاء داخل حدودها، بوسائل الضغط السياسى أو بأية وسائل أخرى قد تذهب إليها، ومن بينها الوسائل العسكرية، ويتلخص الهدف محدداً فى تفكيك التحالف السورى الإيرانى، وإخراج إيران من الساحة اللبنانية، ومن المشرق العربى بصورة عامة، وإنهاء دعمها لـ«حزب الله» و«حماس».
تحدث «فريدمان» طويلاً وكثيراً مع محاوريه فى القاهرة عن مقومات ما يسميه بالصراع السنى - الشيعى، وأنه من ملامح تفاعلات المنطقة التى تحدد مصائرها ومستقبلها، ولكنه تغافل الأضرار الفادحة والكارثية التى ألحقتها الاحتلالات الأمريكية والإسرائيلية بالمنطقة، ولكن هذه أولوياته، وأولويات الإدارة الأمريكية الحالية، وعلى سلم الأولويات تأخرت القضية الفلسطينية، فهى غير ملحة أو مطروحة على الأجندة الآن، إيران هى الهدف الرئيسى، ونقطة التنشين، والأطراف العربية على خرائط المنطقة ليست ذات اعتبار كبير، ومصر -بالذات- خارج الحسابات الآنية.
لا أحد مشغول بمصر، وهو نفسه لم يزرها منذ (5) سنوات، وفى هذه الزيارة أراد أن يعاين مجدداً بنفسه -كصحفى وسياسي- حقيقة الأوضاع فى مصر، وقد بدا مقتنعاً أنه لا أخبار فيها، فالأخبار التى تعنى العالم تقتضى أن تكون عواصمها فاعلة ومؤثرة فى محيطها، أما أن تثبت الصورة على مدى (8) سنوات على ذات الكادر وعلى ذات الوجوه، وبذات السؤال: «من يخلف مبارك..؟»، فإن الركود فى السياسة يؤدى -بالطبيعة- إلى انصراف الاهتمام العالمى عن البلد.
ومن المثير أن بعض ما تنشره الصحف القومية قد يوحى إليك أن العالم لا ينام أو يصحو إلا على أخبار القاهرة وحكمة رئاستها، وهو خداع للنفس قبل أن يكون خداعاً للآخرين، فالعالم يدرك الحقائق ويتعامل معها، ويدرك أن «المريض المصري» استعصت حالته، وبات مشغولاً بطوابير خبزه، وأزماته المتلاحقة، وسيل التشريعات، التى وصفها وزير مقرب من «جمال مبارك» لرئيس تحرير سابق أن الهدف من «الهرجلة» فى إقرارها من مجلس الشعب الانتهاء من «كل ما هو سيئ السمعة.. ويفتقر إلى الشعبية» قبل نهاية حكم الرئيس مبارك وانتقال السلطة إلى نجله حتى «لا يزعل منا أحد عندما يصعد جمال للرئاسة»، ولكن المشكلة فى مثل هذه التصورات والاقترابات من «الملفات الخارجية» و«الملفات الداخلية» أنها تجعل من مثل هذا الوصول للسلطة العليا مغامرة مجهولة العواقب، فالقنوات السياسية والاجتماعية مسدودة، والمجتمع فى حالة اختناق، وهذا ما لاحظه «فريدمان» نفسه، وعوامل الانفجار مرشحة للذهاب بـ«المريض المصري» إلى أزمات ومصائر أفدح وأخطر، والمعضلة الكبرى التى لا سبيل لحلها أن مصير مصر أكبر من أن يحدده كاتب أمريكى، أو نجل رئيس يتطلع لأن يكون رئيساً على أنقاض بلد منهك ويائس، فالحوارات على النيل قد تغرى على مشهد من مياهه التى تتحرك بوداعة أن كل شيء يمضى رتيباً إلى مصائره، وما لم يلحظه «فريدمان» أن للنهر الخالد كلمة أخرى، فـ«النيل لا ينسى كما كنا نظن» - على ما أنشد ذات يوم الشاعر الفلسطينى الكبير محمود درويش.

اجمالي القراءات 7121
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق