الفرق بين الشعب وقطيع الماعز!

عادل حمودة   في الخميس ١٩ - يونيو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً


يتحكم في مصير مصر نوعان من البشر.. نوع يترك محركات طائرته الخاصة جاهزة للهروب لينجو بنفسه من الجحيم.. لو اشتعلت الفوضي.. فهم فئران السفينة.. أكثر من يأكل.. وأسرع من يفر.. ونوع مختلف تماماً.. يؤمن بأنه لن يقع من علي " السرير " لأنه ينام علي الأرض.. وهو الذي سيشعل نيران الفوضي.. ويتلذذ بها.



والنوع الأول هو سبب الفوضي.. فقد شفط كل خيوط الماء وترك الجفاف.. ومص كل الفرص وخلف الغضب.. ونهب كل المال وأفرز الرغبة في الدمار والانتحار.

إن شعاره المقدس الذي يردده قبل النوم وبعده.. وقبل الأكل وبعده.. وقبل الجنس وبعده.. وقبل السلطة وبعدها.. هو "سيطر علي حكم مصر كأنك ستبقي أبداً.. وانهبها بقدر ما تستطيع كأنك ستهرب منها غداً".. قوة مزمنة لا تريد أن تغادر.. وثروة متضخمة لا تريد أن تشبع.. وعلاقة غير شرعية بينهما أنجبت كل ما نعاني من مصائب ومتاعب.

أما النوع الثاني الذي اكتشفوا بعد ضربه علي عينه أنها «خسرانه.. خسرانه».. فلم يعد لديه ما يفقده.. فقد أخذوا منه بيته وخبزه وثوبه وجسده وشرفه وحلمه ومستقبله وباعوه بالجملة للشركات المتعددة الجنسيات (مالتي ناشيونال) فراح يستعجل يوم القيامة ويحرض عليه ويستعد للمشاركة فيه.

وقد تجلت العلامات والإشارات الصغري ليوم القيامة في مصر بأحداث وقعت في المحلة والبرلس والقاهرة وملوي تجاوزت دورها إلي مرتبة الإنذار.. ولكن.. لا أحد توقف عندها للبحث والفحص.. فقد عميت الأبصار بعد أن جفت القلوب.. وتاهت العقول بعد أن ماتت الضمائر.. ونسي النظام نفسه بعد أن نسيه الناس.

أصبحت الثورة علي طرف أنف الفقراء والبسطاء.. لم يعد أحد منهم يحتمل.. فالكل يعيش تحت الحد الأدني.. شربة ماء وكسرة خبز وخرقة بالية.. بعدها الموت.. لكن.. ما دام الموت هو ما تبقي فليكن موتا شجاعا.. يخسر فيه النظام سمعته واستقراره واستمراره قبل أن نخسر نحن حياتنا.. مادمنا لم نتعادل في الحياة فلنتعادل في الموت.. "علينا وعلي أعدائنا".

ساعتها لن يجلجل صوت سدنة حزب الطاووس الوطني الحاكم.. ستموت نبرة التحدي والغرور لتحل محلها نبرة الأسي والانكسار.. وسيلملم الطائر المتكبر والمزهو بنفسه جناحيه وينطوي علي ذاته ليشرب دموعه في صمت.

إن المسافات الهائلة بين قصور القطامية وعشش الصفيح والكرتون سيقطعها العشوائيون الغاضبون الحانقون المتمردون في لمح البصر.. لن يشعروا بطول الطريق فسوف يستمتعون بحرق وتكسير وتخريب كل ما يصادفهم.. ولن يخشوا فرق الأمن المركزي فجنونهم أقوي من قوته.

والمشهد المتوقع ليس جديدا علي مصر.. ولن يكون مفاجأة لها.. فقد سبق ان احترقت القاهرة أكثر من مرة.. في يناير 1952 بسبب فساد الحكم وعجزه عن التغيير.. وفي يناير 1977 بسبب مظاهرات الجوع وصراخ الطبقات المحتاجة من ارتفاع الأسعار.. وفي فبراير 1986 بسبب تمرد فصائل من الأمن المركزي.

ويسهل تكرار المشهد.. فأعواد الحطب الجاف لا تحتاج سوي شرارة تخرج من صدر الأغلبية الصارخة المتمردة التي لم تعد صامتة ولا ساكنة.. كل خبراء السياسة ومستشاري الأمن القومي في الداخل والخارج يؤكدون ذلك.. ويمسكون بيد النظام ليعدوا علي أصابعها أسباب الحريق القادم الذي بدأت رائحة شياطه تفوح في الجو منافسة السحابة السوداء.

لقد جاء برونو كريسكي (مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر للأمن القومي) إلي القاهرة منذ شهور وذهب إلي حديقة فندق ماريوت ليأكل الكباب والكفتة وليستمتع برائحة دخان المعسل الذي لا يدخنه وسمعنا عنه تشخيصا مكثفا للسرطان السياسي الذي نعاني منه.

إن مصر في عينيه تعاني من ثلاث كوارث تتفاقم ولا تتراجع.. تصاعد الطائفية.. وغياب العدالة الاجتماعية.. وزيادة الفجوات الطبقية.. وهو نفس ما قاله لي مسئول كبير محترف يعرف ما يقول.. ويضع مصر في بؤرة عينيه.. لكنه.. يضيف إلي ثالوث المأساة بعداً رابعاً.. التنظيمات الدينية الكامنة تحت لحاف المشاركة السياسية.. فإذا ما شاءت قفزت من الفراش وهي تطلق النيران.. إنها تبدأ صباحها بتقمص شخصية مهدي عاكف وتنهي يومها ببيان متهور علي طريقة أسامة بن لادن.

لم يعد في مصر تسامح بين مسلمين ومسيحيين.. كل طرف يبتسم للطرف الآخر ابتسامة صفراء.. تنتظر اللحظة المناسبة أو غير المناسبة للانقباض.. وبين معركة ومعركة حرب نفسية.. عنصرية.. أثنية.. تجهز النعوش والمدافن للضحايا القادمين.

لم يعد في مصر تسامح.. ومهما كانت الكلمات طيبة ورقيقة فإنها لا تخفي ما في القلب.. ما في القلب في القلب.. إن أمتاراً قليلة من الأرض الصحراوية الجرداء في المنيا كفيلة بإعلان القتال بين كرات الدم البيضاء وكرات الدم الحمراء في الشرايين المصرية.. وهو أمر طبيعي.. لا يدخل في باب المصادفات.. إنه ثأر متصاعد بين طائفتين.. وسفر بين موتين.. وبكاء علي هاويتين.

لقد فاحت رائحة الطائفية كما تفوح رائحة الجسد الفاقد للحياة.. ونمت عليها طبقة سميكة من العفن لأن التسامح لم يعد يري الشمس.. وأصبح معرضا للتحلل والتفسخ.. ولم يعد يصلح معه «النفتالين».

ومن الغباء الاعتقاد أن هذه الحرب ستكون ذات أجل مسمي.. أو أن الطرفين سيتقيان الوطن.. فكيف يتقيان ما لا وجود له في ضمائرهما؟.

لكن.. الوطن علي الجانب الآخر لم يعد يؤمن بالمساواة بين أبنائه.. يعطي شريحة رفيعة منهم كل شيء.. التين والعنب والبلح والكريز.. ويحرم الباقي من كل شيء.. إلا حقه في العنف.. والغيظ.. والغضب.. ولذلك ليس غريباً أن تتكرر حالات التمرد والاحتجاج لأتفه الأسباب.. فمن يزرع الريح يحصد العاصفة.

والعاصفة لها مليون وجه ووجه.. فمرة تتكلم بلسان أيمن الظواهري في شرم الشيخ.. ومرة تطلق النار علي صائغ في الزيتون في عز الظهر.. مرة تغتصب فتاة مريضة نفسياً في مستشفي العباسية.. ومرة تتاجر في الأطفال الرضع بعيداً عن إعلانات الوسيط.. مرة ترشو وزيراً وتتركه ينجو من العقاب.. ومرة تقلب سفينة صغيرة عليها شباب مصري مهاجر من الفقر إلي القهر.

ولو كانت مصادات الرياح الأمنية قادرة علي سحق العمليات الإرهابية فإنها لا تقدر علي مواجهة العمليات الجنائية.. فقد تحولت التنظيمات السرية إلي عصابات دولية.. عصابات «مالتي ناشيونال».. وهي الأخطر والأسوأ.

إن سبب كل ما يجري وسيجري لنا هو عدم التمييز بين مصالح فئة ومصالح أمة.. بين مستقبل شخص ومستقبل وطن.. بين تعاليم السماء ومن يتاجرون فيها.. لنصل بعد ذلك إلي غياب التفرقة الأكبر والأهم بين الديمقراطية وثمرة الباذنجان.. بين الشعب وقطيع الماعز.
 

اجمالي القراءات 9274
التعليقات (3)
1   تعليق بواسطة   فوزى فراج     في   الخميس ١٩ - يونيو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً
[23176]

فعلا من اجمل المقالات التى قرأتها وتستحق القراءة

للأسف لا اعرف من هو عادل حمودة ومن المحتمل ان لا اكون قد قرأت له من قبل, ولكن عند قراءة هذا المقال رأيت انه قد وضع اصبعه على الجرح تماما, بل ويمكن ان نقول ان المقال كله قد لخص فى الفقرة الأخيره منه فى بلاغة ودقة تصف ما يحدث فى مصر, فيقول ( إن سبب كل ما يجرى وسيجرى لنا هو عدم التمييز بين مصالح فئة ومصالح أمة, بين مستقبل شخص ومستقبل وطن, بين تعاليم السماء ومن يتاجرون فيها, لنصل بعد ذلك الى غياب التفرقة الأكبر والأهم بين الديموقراطية وثمرة الباذنجان, بين الشعب وقطيع الماعز. )  , فهل من الممكن ان تؤدى قراءة هذا المقال وإستيعابه الى شيئ , هل من الممكن ان تؤدى قراءة هذا المقال ولو حتى الى ان يستطيع البعض ان يفرقوا بين الديموقراطية والباذنجان!!!!!  شكرا يا أستاذ عادل حمودة اكثر الله من أمثالك.


2   تعليق بواسطة   عمرو اسماعيل     في   الجمعة ٢٠ - يونيو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً
[23179]

عادل حمودة ..

كان رئيسا لتحرير روز اليوسف قبل أختطافها من الحزب الحاكم ولجنة السياسات .. من جيل الجامعات في نهاية الستينات وبداية السبعينات .. المرتبط أساسا بالتنطيم الطليعي وقضي عليه السادات بالجماعات الاسلامية المرتبطة بالاخوان .. يساري قديم تحول الي ليبرالي .. وهذه التوليفة أخي فوزي .. هي أمل مصر إن وصلت الي السلطة .. في رأيي .. لماذا .. لأنها تؤمن بالعدالة الاجتماعية .. بقدر إيمانها بالحرية والديمقراطية .. هذه التوليفة قضي عليها للأسف تحالف جماعة الإخوان والحرس القديم من الحزب الوطني ..


3   تعليق بواسطة   آحمد صبحي منصور     في   الجمعة ٢٠ - يونيو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً
[23191]

عادل حمودة..من الشموع المضيئة فى الليل المصرى ..الحزين ..!!

من اجمل الأقلام الصحفية فى مصر عادل حمودة.


هى كوكبة متنوعة كان منها فى روز اليوسف صلاح حافظ ثم جيل عادل حمودة و ابراهيم عيسى ، وفى الأهالى  فيليب جلاب وصلاح عيسى وعبد العال الباقورى ونبيل زكى، وفى مدرسة أخبار اليوم و الأهرام أنيس منصوروأحمد بهاء الدين ..أما فى مجال الفكر فيقف شامخا فرج فودة..وفى الجيل الحالى تجد نبيل شرف الدين وآخرين .. وأسماء كثيرة .. وأعتذر عن النسيان..


 أستمتع بقراءة هؤلاء ، ومن حسن الحظ أننى تعرفت بهم وصادقت معظمهم ما عدا صلاح حافظ وأحمد بهاء الدين فلم يسعدنى الحظ بلقائهما.


عادل حمودة فتح لى أبواب روز اليوسف وتحمل الكثير حتى  أستمر فى النشر ، وبخروجه من روز اليوسف فقدت بريقها و أوصدت ابوابها أمام دعاة التنوير .


تحية من المنفى الى عادل حمودة و بقية رواد التنوير والاصلاح فى مصر.



أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق