الدولة المذعورة..!

Abdullah El-Senawy   في الثلاثاء ١٥ - أبريل - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً


الصور -وحدها- تكشف عمق الأزمة التى تواجه الدولة المصرية بلا غطاء سياسى أو مسحة شرعية، ولعلها من المرات النادرة فى تاريخنا الحديث التى تتدهور فيها صورة الدولة إلى حدود تقارب صورة الاحتلال - وهذه مأساة بحد ذاتها، منذرة بما هو أفدح وأخطر، وليس بوسع أحد أن يتوقع -جازماً- ما يمكن أن تندفع إليه الأحداث، ولكن عوامل الانفجار تلوح فى الأفق، وتبدو الأرضية الاجتماعية مهيأة له بدواعى اليأس والإحباط، وغياب الأمل فى أى تغيير سلمى، والمحرض الرئيسى على الانفجار سياسات نظام الحكم الحالى وما آلت إليه من فشل بدا صريحاً وجلياً فى طوابير الخبز ولحوم الحمير النافقة وارتفاعات الأسعار بصورة خطيرة تدفع لمجاعة عامة، وأن يرفق ذلك كله تغول فى "الحلول الأمنية" واستبعاد أية حلول سياسية تعمل على مراجعة السياسات والخيارات، وتلافى انسداد يكاد أن يكون شاملاً فى القنوات السياسية والاجتماعية.

مقالات متعلقة :

ومن السيناريوهات المرجحة أن نجد أنفسنا أمام "يناير جديد"، أو مظاهرات جوع مليونية، تغيب عنها قوى سياسية مؤثرة تحكم مطالبها وتقود حركتها، فقد جرى شبه تعقيم للبلاد من السياسة، بتزوير الإصلاح السياسى والدستورى، وتمديد "الطوارئ" باسم "قانون مكافحة الإرهاب"، وإلغاء الإشراف القضائى على الانتخابات العامة، وإحالة الأخيرة إلى "كوميديا هابطة" البطل الأول فيها الأمن، بحيث تمكن حزبه الذى يترأسه رأس الدولة من حصد أكثر من "99%" من مقاعد المحليات، واليأس يولد الانفجار ويقود إليه، وندرك أن فى شوارع القاهرة نحو (2) مليون مشرد، يطلق عليهم مجازاً وصف أطفال الشوارع، والبداية دائماً "بلطجة أمنية"، ضرب وسحل واعتقالات، ومشاهد عربات الأمن المركزى فى قلب العاصمة دليل على أزمة الشرعية، فالنظام لا يثق فى مواطنيه، والمواطنون يبادلونه الكراهية، وغياب القنوات السياسية، مع توحش الفقر، وتغول الأمن، كلها مقدمات انفجار اجتماعى واسع. وعندما تطارد الدولة دعوات الإضراب والاعتصام والتظاهر السلمى، فإنها تفتح الطريق واسعاً لانفجار بلا قيادة سياسية توجه وترشد، والدولة المذعورة من الإضرابات ساهمت بقدر كبير فى نجاح إضراب (6) أبريل، فقد استدعت سلطات الأمن عمداء الكليات ومديرى المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية ورؤساء المصالح الحكومية وقيادات المصانع للتحذير من الإضراب والمشاركة فيه، وأثارت بذعر الدولة ذعراً عاماً، دفع قطاعات واسعة من المواطنين للامتناع عن الذهاب للعمل، باعتقاد أنه يوم للصدام والمجازر، وأن الدولة متأهبة للخوض فى دم المجتمع.
الدولة المذعورة لم تستخلص النتائج الحقيقية من أحداث المحلة وما جرى بعدها، وأخذت تنكل وتضرب وتعتقل وتصطنع القضايا مثل اتهام جورج إسحاق مع اثنين آخرين، أحدهما مسيحى، بالدعوة للإضراب والتخريب، مع اتهام الإخوان المسلمين -فى ذات الوقت- بذات التهم، رغم أنهم ناهضوا الإضراب، وربما لم يتوقعوا أن ينجح وأن يؤثر وأن يستقطب مشاعر الرأى العام. والإفراج عن إسحاق بكفالة خطوة إيجابية لاستعادة بعض الرشد ولكنها غير كافية لردع طوفان "جنون التحريض"
وبدا فى المشهد الذى تلى الأحداث العاصفة فى المحلة أن الدولة المذعورة، التى لا تريد أن تصدق أن مجتمعها يئس منها وأخذ يبادلها الكراهية ويمزق صور رموزها، تحرض بعض منابرها الإعلامية الملتاثة على الحريات العامة، وبدا الشعار: "اضرب.. اسحل.. اعتقل.. صادر"، وهذه هيستيريا تؤذى نظام الحكم قبل أى طرف آخر، فالناس ضجرة فعلاً، ويائسة حقاً، ولا تصدق التصريحات الرسمية، ومتأهبة للمشاركة فى أى انفجار قادم، أياً كانت النتائج، فلا أحد يطلب من جائع أن يكون حكيماً، أو ألا يخرج للشارع حاملاً سيفه، وهذه مسئولية حكم أفقر الأغلبية الساحقة من شعبه، بينما قطاعات محدودة أخرى تحظى بالثروة والسلطة ومتع الحياة بصورة مترفة لم يسبق لها مثيل فى التاريخ المصرى كله.
وهذا يعنى -فى أى قراءة سياسية جادة- أن الشعب المصرى شريك رئيسى فى التحريض على الحركة إضراباً أو انفجاراً، وأن التذمر الواسع هو الأرضية الاجتماعية لما جرى أو سوف يجرى من أحداث عاصفة خلال عام 2008. وأن الدولة المذعورة تساهم بدورها فى دفع الأمور إلى منتهاها.
وقبل سنوات، فى ذكرى انتفاضة الخبز فى يناير (1977)، فكرنا فى ملف يتناول الأحداث، وأن نسجل فيه شهادة وزير الداخلية الأسبق اللواء حسن أبو باشا، غير أن جهات أمنية استمعت إلى اتصال هاتفى بيننا، فسارعت بإرسال أحد تلاميذه فى جهاز أمن الدولة إليه فى منزله، وكان على سرير المرض فى أيامه الأخيرة لا يقوى على الكلام لمدة طويلة، وكانت الرسالة: "الوقت لا يسمح.. يا أفندم". وفى صباح اليوم التالى أرسل إلينا إنذاراً من محاميه بعدم نشر أية مقتطفات من كتابه، أو الإشارة إلى أى تصريحات يكون قد أدلى بها لزميلى مجدى عبد الرسول، ولكن الرجل بدا متألماً، فهو يعتقد أن استخلاص النتائج السياسية والاجتماعية لما جرى فى عام (1977)، والأخطاء الفادحة التى وقعت فيها الرئاسة وأجهزة الأمن، ضرورة لتلافى تكرارها، وهو ما دعاه -لاحقاً- إلى أن يفسر ما جرى، بأنه كان فوق طاقته، غير أن شبح يناير مازال يلوح فى الأفق السياسى والاجتماعى المصرى الملبد، وقد يتجاوزه إلى حريق قاهرة جديد، لا أحد يطلبه، وفواتيره فادحة، ولكن الدولة المذعورة تدفع إليه، وتجرف البلد كله إلى "داهية"، وكنا نقول دائماً إن البلد مقبلة عليها، ولكن يبدو الآن أننا قد دخلناه فعلاً. وهذه الأجواء قد تدفع -فى سيناريو آخر- إلى "سبتمبر جديد"، أو حملة اعتقالات واسعة تطال رموز العمل السياسى والوطنى من جميع الاتجاهات، وإغلاق منابر الرأى والتعبير، غير أن الرئيس مبارك يدرك -بخبرته المباشرة- النتائج الوخيمة التى يمكن أن تترتب على هذه الاعتقالات الواسعة، ومع ذلك فقد تندفع الأحداث إليها، فالدولة المذعورة، بأزمة الثقة مع مجتمعها، تندفع لـ"الحلول الأمنية"، وتغييب السياسة، ومحاصرة الأحزاب، أو إلى تكرار ما حدث فى المحلة من مواجهات مفتوحة دوت فيها طلقات رصاص حى من قوات الأمن، قتلى ومصابون، حرائق وسلب ونهب على نطاق واسع هناك من يعتقد أن للأمن يداً فيها لتسويغ إرهاب الدولة ضد مواطنيها، ولو أنك لم تكن تعرف أن الصور التقطت فى مدينة المحلة، قلعة الصناعة المصرية، فربما خيّل إليك أنها من أرشيف "غزة" أو "الفلوجة"، ولا يعقل فى دولة لديها الحد الأدنى من الرشد أن تضع أمنها فى مواجهة مجتمعها، دون أن تكون هناك وسائل سياسية تسمح بمراجعة الخيارات التى أدت إلى الفشل، والإمعان فيه إلى حد تحلل مؤسسات الدولة والروح العامة فيها. والخطير أن ذات اللغة الأمنية التى استخدمت فى أحداث "يناير" أو "سبتمبر" تستخدم الآن على نطاق واسع فى افتتاحيات الصحف الرسمية، من استهانة بالغضب الشعبى ودلالاته، كأنه لم تكن هناك رسائل سياسية فى أحداث المحلة، كاشفة لعمق الأزمة فى المجتمع كله، وتكاد تلك الصحف أن تستعيد مصطلحات الرئيس السابق أنور السادات فى وصف أحداث (1977) بأنها: "انتفاضة حرامية"، وأن المشاركين فيها مجموعة من "البلطجية" ذوى الأغراض المشبوهة، وقد تكون هناك أعمال بلطجة قد حدثت فعلاً، للشرطة دور فيها، أو لصبية الأحياء الأكثر فقراً ويأساً، ولكن العنف البادى الذى طال منشآت عامة وخاصة، هو من جراء تجريم الإضراب السلمى والاستخفاف بحقوق الناس ومطالبهم المشروعة.
ولا أحد يطلب الفوضى أو يدعو إليها، ولكن السياسات المعتمدة تدفع فى اتجاهها، ولا تريد أن تعترف بعواقبها، فعندما يصل الانسداد السياسى والاجتماعى إلى ذروته، لابد أن يحدث الانفجار، والحلول الأمنية فاشلة مقدماً، ولا يمكن لعاقل أن يتوقع نجاحاً فى ترميم شرعية النظام، ورد اعتبار الدولة وهيبتها واحترامها، بالترويع الأمنى، أو مطاردة أصحاب الرأى بتهم التحريض على الإضراب، وهو حق مشروع ودستورى، أو تعقب المدونين على مواقع الإنترنت، أو التضييق على البرامج السياسية فى الفضائيات المصرية، والتهديد بإغلاق مكاتب فضائيات عربية مثل "الجزيرة"، والرئيس مبارك يدرك، وقد كان نائباً للرئيس السادات فى سبتمبر (1981)، عواقب "الهيستيريا السياسية والإعلامية" عندما تستبد بالدولة وما تؤدى إليه من عنف. وقد يكون مؤسياً أن يكون الدرس الرئيسى الذى استخلصه الرئيس مبارك من "أحداث المنصة" هو إحكام قبضة الأمن والتشدد فيها، حتى أنه يقال إن الرئيس لا يسمع لغير الأمن، غير أن وضع الأمن فى مواجهة مجتمعه، ودفعه لارتكاب جرائم منظمة ضد مواطنيه، يسحب من الأمن دوره واعتباره، فلا أمن بلا سياسة، ولعله قد تناهى إلى مسامع الرئيس ما تقوله -علناً الآن على شاشات الفضائيات- قيادات أمنية سابقة من أن "الأمن شايل الشيلة"، أو ما تردده قيادات حالية فى كواليسها من أنها غير مستعدة للمضى فى مجزرة محتملة مع مجتمعها لصالح ديناصورات لجنة السياسات، وهذه من علامات أزمة الشرعية عندما تستحكم، أو من مقدمات النهاية المؤكدة، فالدول تحميها مجتمعاتها وقواعد القبول العام بسلطتها، والمعنى فى كل ذلك يتجاوز "الأمن" إلى "السياسة". وقد بدا واضحاً -من الرئاسة إلى الحكومة إلى الوطنى ولجنة سياساته ومشروعات التوريث فيه والصحافة الرسمية- أن الأزمة عميقة، والأداء السياسى متهافت، والأحداث مباغتة ورد الفعل عليها لا يتجاوز الحسابات الأمنية المباشرة، غير أن الصدمة، وحدث (6) أبريل من الأحداث الكبرى الكاشفة، قد تدفع لإزاحة حكومة نظيف، وهناك الآن اتجاه تتزايد احتمالاته من يوم لآخر بمثل هذه الإزاحة، أو أن "يشيل الشيلة"، ولكن تلك الإزاحة الوشيكة لا قيمة لها أو اعتبار ما لم ترتبط بإعادة نظر جذرية فى توجهات الحكم والسياسات التى أدت إلى الكارثة، وهذه هى المسألة الحقيقية، فقد تعتقد بعض الأطراف فى لجنة السياسات وما حولها أن إزاحة نظيف، مع الإبقاء على ذات التوجهات العامة، هو نوع من إدارة الأزمة يسمح بتسكينها أو تجاوز احتمال نجاح إضراب متوقع فى (4) مايو، والرهان -هنا- أن مثل هذا التسكين قد يزكيه انخفاض محدود فى أسعار بعض السلع الرئيسية مثل "الأرز"، أو تحسن ملحوظ فى توفير الخبز المدعوم، مع حملة اعتقالات، وربما تلفيق قضايا لبعض النشطاء السياسيين، بتهم التحريض على العنف والتخريب.
وهذا كله تفكير يدور حول الاعتبارات الأمنية أو الآنية، غير مدرك لحقيقة ما جرى يوم (6) أبريل وعمق الأزمة فى بنية النظام، وهو يوم له ما بعده، غير أن أحداً لا _يعرف ما قد يحدث فى اليوم التالى، فمقدمات الانفجار بيئتها الاجتماعية جاهزة للاشتعال، والدولة المذعورة تدفع إليه، وتلوح -الآن فى الأفق القريب- بشائره ومخاوفه وسط سحب داكنة.

اجمالي القراءات 7311
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق

اخبار متعلقة



مقالات من الارشيف
more