صراعات الحاشية في كواليس الرئيس!

ا/ عـادل حمـودة   في الخميس ٠٦ - ديسمبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً


السلطة امرأة شهية.. شهوانية.. قوية.. قادرة.. لا تعترف بكلمة "الشبع".. ولا توقع معاهدة "جنتلمان" مع التقاعد إلا بالشديد القوي.
لو كان سيجموند فرويد علي قيد الحياة لاعترف بأن نظريته النفسية التي تفسر كل سلوكيات البشر تفسيرا جنسيا تتكسر وتتفتت وتتبخر إذا ما شم شخص جرعة من السلطة.. فهي متعة يصعب الشفاء من إدمانها.. وهي لذة تصبح بعدها لذة التلاحم مع أجمل نساء الجنة نوعا من الزهد والتقشف.



إن الوزير الذي يجبر علي ترك منصبه يموت كمدا قبل أن يموت مرضا.. والرئيس الذي تنتهي فترة صلاحيته كالطاووس الذي يسقط ريشه وينكسر جناحه وتنهمر دموعه مع كل كلمة يكتبها في مذكراته التي تشعره بأنه علي قيد الحياة.. أو علي قيد السلطة.. ولا يتردد أكثر الحكام وداعة في أن يقتلوا اقرب الناس إليهم إذا ما شعروا بالخوف منهم علي عروشهم.. فغالبية دساتير البقاء كتبت بدماء عائلية.. مجلدات التاريخ تقول ذلك.. فلو كان هناك من هو مستعد لتسليف زوجته فلا أحد مستعد للتنازل عن سلطته حتي لمن هو من لحمه ودمه.. نظريات علم النفس السياسي تجمع علي ذلك.

وفي كواليس القصور الحاكمة تتصارع الحاشية فيما بينها كي تزيح الأقوياء وتسيطر علي الضعفاء دون أن تكف عن تقديم فروض الطاعة والولاء.. فالقريب من السلطان سلطان.. لكن.. الضعفاء والبسطاء والفقراء يقولون العكس.. قصر ذيل.. وعنب بعيد لا نطوله لابد أن يكون حصرما.

ومهما تطورت نظم العمل في القصور الحاكمة ووضعت مهمة محددة ودقيقة وصارمة لكل من فيها فإن الطبع يغلب التطبع وشهوة التكويش تتجاوز قناعة التعايش وحمي الصدام تتفوق علي الرغبة في السلام.

كنت علي طائرة الرئيس في رحلته الأخيرة إلي هيوستن للقاء جورج بوش في مزرعته القريبة من تكساس عندما سمعت من أحد رجاله المسئولين عن البروتوكول: "إن الغلطة الأولي في الرئاسة هي الغلطة الأخيرة".

لكن.. الغلطة الأولي قد تكون مدبرة ومرسومة كي يقع فيها من تقرر التخلص منه.. إن ذلك هو ما يقوله ويدلل عليه مروان كنفاني مساعد الرئيس ياسر عرفات ومترجمه الشخصي ومستشاره السياسي في مذكراته التي نشرت في القاهرة منذ أسبوعين تحت عنوان "سنوات الأمل".

لقد اختفي مروان كنفاني من علي وجه السلطة الفلسطينية مع اختفاء أبو عمار.. ولم يبق له سوي أن يستعيد ما كان فيه بكتابة مذكراته.. ولعلها سخرية القدر ألا يجد هذا الرجل الذي شارك في غالبية مفاوضات السلام مع الإسرائيليين ما يفعله ومؤتمر أنابوليس في شدة سخونته سوي أن يجلس مع بعض أصدقائه في بار الفورسيزونز يدردشون قليلا ويتابعون كثيرا تدفق نجمات السينما المصرية والعالمية اللاتي جئن في حفل افتتاح المهرجان وهن في قمة الشياكة والجاذبية.. ولعل وجودهن ذكره بنجومية زوجته الأولي وأم ولديه نجوي إبراهيم التي تزوجها عندما كان في القاهرة يحترف لعبة كرة القدم قبل أن يتركها ليحترف لعبة أخري هي لعبة الكرة الأرضية.

كان مكان مروان كنفاني الدائم علي يمين أبو عمار ليساعده في الترجمة ويشير إليه أحيانا بما يقصده الطرف الآخر القادم من خارج الحدود.. كان يفعل ذلك في كل المناسبات واللقاءات والمفاوضات منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي.. لكن.. ذات يوم في عام 1997 جاء دنيس روس مبعوث الرئيس الأمريكي بيل كلينتون للقاء أبوعمار فتغيرت الصورة وانقلبت الآية.

اقترح دنيس روس علي أبو عمار أن يجلس مكان مروان كنفاني مترجم اللغة العربية الرسمي للرئيس الأمريكي ووزيرة الخارجية والمبعوث الأمريكي نفسه جمال هلال وهو ينتمي لعائلة صعيدية من أسيوط.. وساد الصمت الغرفة بكاملها.. لم يتحدث أو يعلق أو يعترض أحد من الوفد الفلسطيني علي ذلك.

همست للرئيس عرفات أنه من غير المعروف في العلاقات السياسية أن يقوم واحد من الفريق الآخر بالترجمة للرئيس، ولم يجب ابو عمار ثم قلت له إنه إذا كان هناك اعتراض من روس علي قيامي شخصيا بهذا الدور فيمكن أن يجلس مكاني أحد زملائي من الوفد الفلسطيني ليقوم بهذه المهمة.. أجابني الرئيس عرفات هامسا: "لابأس يا مروان دعه يجلس بجانبي هذه المرة".. انتقلت من مكاني حيث جلس إلي جانب الرئيس عرفات لأول مرة ولفترة طويلة تلت ذلك المترجم الرسمي للحكومة الأمريكية".

في جلسة بعد ظهر ذلك اليوم جلست كعادتي إلي جانب الرئيس عرفات ولكن عندما دخل روس انتفض قائلا: "كلا كلا جمال سوف يجلس في ذلك المكان" ولم يعلق مرة أخري أحد من وفدنا علي ذلك.. وأصبح جمال هلال بعد ذلك مترجما رسميا ومستشارا وجهة اتصال رئيسية ومبعوثا في أحيان كثيرة في زيارات منفردة مع الرئيس عرفات.. وترددت كثيرا في التصديق بأن هذا العمل من قبل روس لم يكن قد جرت مناقشته مسبقا مع أعضاء الوفد الفلسطيني ذاته".

إن "العمل في الدائرة الضيقة المحيطة بالرئيس.. أي رئيس.. تتمتع بمزايا هائلة من النفوذ والقرب والتأثير أحيانا في عملية صنع القرار".. ولكن.. أشخاص هذه الدائرة من جهة أخري يتعرضون دائما لدوامات متلاحقة متكررة من محاولات العزل والدس والوقيعة في سباق التنافس والتفرد والقرب من الرئيس.

تبدو تلك الصورة كموجات بحر متلاحقة تحمل كل منها تحالفات وقتية متغيرة ضد الأقرب فالأقرب من قلب وأذن الرئيس وتفرض بالتالي علي أولئك الذين تتاح لهم فرصة التواجد في تلك الدائرة الحرص والحذر عبر أي وسيلة ممكنة من أن يصبحوا ضحايا لتلك الموجات التي لا تكل ولا ترحم".. ويرحب الرؤساء بطريقة مستورة وغير مباشرة بذلك لضمان الولاء المطلق لهم.. ويحافظون علي عدم الانسجام والتوافق بين المحيطين بهم حتي لا يتحدوا عليهم.

كانت الدائرة المحيطة بالرئيس عرفات مغرقة في التنافس والتناحر ولا تتورع في استخدام جميع الطرق واللجوء إلي كل الأساليب في حربها الأهلية ضد بعضها البعض بغض النظر عن صدقها أو طبيعتها أو أخلاقياتها، وهي تنهش الذمم وتشوه الكفاءة والنزاهة والوطنية بل وهي تنهش الأعرض أيضا.

كان مروان كنفاني يعمل في نيويورك عندما تلقي دعوة سفر إلي باريس لحضور حفل خطبة ابن زميلة فلسطينية قديمة هي سلوي ابو خضرا وبعد أن انتهي الحفل البسيط زار مقر منظمة التحرير الفلسطينية هناك.. لكن.. ما إن عاد إلي نيويورك حتي اتصل به الدكتور عصمت عبد المجيد مندوب مصر الدائم في الأمم المتحدة وطلب لقاءه في مبني المنظمة الدولية لأمر مهم.

قال له عصمت عبد المجيد الذي يصفه بالدبلوماسي المتمرس والشخصية المغرقة في الدماثة والحكمة إنه تلقي إشارة كان واضحا أن مصدرها أجهزة الأمن المصرية عن زيارته إلي باريس قالت إنه ذهب إلي العاصمة الفرنسية للمشاركة في ترتيب مؤامرة لاغتيال الرئيس أنور السادات الذي سيزور باريس بعد أيام. لم يجد مروان كنفاني ما يرد به علي التهمة سوي أنه لا يعلم شيئا عن زيارة الرئيس أنور السادات.. وأغلب الظن أن عصمت عبد المجيد صدقه فقد كان رئيسا للجنة الإعلامية العربية لمجلس السفراء العرب في نيويورك وكان مروان كنفاني ممثلا لفلسطين فيها.. ويبدو أن أزمة قد ثارت بعد زيارة الرئيس أنور السادات للقدس فتبرع زملاء له بإبلاغ الجهات المصرية المعنية بوجود مؤامرة باريس لاغتيال الرئيس المصري. وتأكد عصمت عبد المجيد وتأكد محمد رياض الأمين العام المساعد للشئون السياسية في الجامعة العربية بأن "تلك المعلومات الكاذبة لم تكن بعيدة عن مصادر فلسطينية" أرادت التخلص منه.. إن صراعات ومؤامرات الحاشية يمكن أن تكون قاتلة أحيانا. وفي عام 1996 قام مروان كنفاني بزيارة للقاهرة مرافقا لياسر عرفات لمقابلة الرئيس حسني مبارك.. وبينما كانا في غرفة الاستقبال الملحقة بقصر الأندلس (قصر الضيافة الرسمي الذي كان ينزل فيه الرئيس الفلسطيني) بانتظار موعد الانتقال إلي القصر الرئاسي، جاء السفير الفلسطيني زهدي القدرة.. والدكتور أسامة الباز.. مستشار الرئيس.. وصديقه القديم منذ وجوده المبكر في القاهرة.. وجري نقاش سياسي بينهم.. اختلفوا فيه.. فانفجر الدكتور أسامة الباز في وجه مروان كنفاني وهو يتهمه بأنه كان ضالعا في مؤامرة لاغتيال ابنه باسل في وقت كان هو وابنه في نيويورك.

ومرة أخري دافع مروان كنفاني عن نفسه بأنه لم يكن يعرف أن للدكتور أسامة الباز ابنا في نيويورك خلال وجوده هناك.. وتدخل أبو عمار بعد أن احتد النقاش والصراخ لتهدئة الخواطر بين الرجلين قائلا: "إن مروان ليس من ذلك النوع من الرجال".. وانتهي الموضوع عند هذا الحد وإن تسبب في برودة العلاقات بينهما حتي الآن.

ويقول مروان كنفاني: إنني متأكد أن مصادر معلومات الدكتور أسامة الباز عن تلك المؤامرة المزعومة لاغتيال ابنه كانت غير بعيدة عنا نحن الفلسطينيين أيضا.

وفي عام 1997 كان مروان كنفاني يزور لندن مرافقا للرئيس ياسر عرفات وطلبت منه هيئة الإذاعة البريطانية في اتصال تليفوني جري في وجود أبو عمار في غرفة الاستقبال الملحقة بالجناح الرئاسي المشاركة في برنامج سياسي حول مفاوضات كانت جارية بينهم وبين الإسرائيليين.. وأومأ أبو عمار بالقبول وطلب من مسئول فلسطيني بالبعثة الدبلوماسية اصطحابه لإنجاز المهمة.. وبعد أن انتهي الحوار مع التليفزيون الحكومي البريطاني عاد إلي الفندق وكان عليه أن يحضر لقاء بين الرئيس والسفير السوري في لندن.. لكنه شعر بأن الرئيس لا يريده ان يحضر اللقاء لسبب لا يدركه.

بعد انتهاء اللقاء عاد مروان كنفاني إلي الجناح الرئاسي فوجد عرفات يجلس وحده فبادره قائلا: " الله يسامحك يا مروان لقد أجبرتني علي تقديم اعتذار رسمي للسفير السوري علي ما قلته في الحوار التليفزيوني عن الرئيس حافظ الأسد ".. ولم يكن الرجل قد تعرض في حديثه لأي رئيس عربي فطلب من المسئول الذي رافقه وتابع الحوار معه جالسا في غرفة البث التليفزيوني إطلاع الرئيس علي مضمون ما قاله ثم طلب شريطا مسجلا للحوار، ما إن وصل حتي أمر الرئيس بإرساله فورا للسفير السوري الذي عاد ليتصل معتذرا وأبلغ الضحية أن أحد أفراد الوفد المرافق للرئيس هو الذي أدلي بتلك المعلومات وذكر اسمه.

إن ما يعرضه مروان كنفاني من نماذج صادمة لصراعات الحاشية في الكواليس الرئاسية يتكرر بصورة أو بأخري في غالبية الكواليس المشابهة للحكام علي اختلافهم.. بل ربما كانت الوقائع التي ذكرها رجل ياسر عرفات في مذكراته أقل حدة وشراسة من التي يمكن أن نعثر عليها في مصر لو نقبنا فيما حدث خلال السنوات البعيدة في رئاسة الجمهورية.. إن قصة التخلص من الدكتور مصطفي الفقي وإخراجه من سكرتارية المعلومات هي دليل علي ذلك.. وهناك بالقطع عشرات من الأدلة الأخري سيأتي يوم وتجد من ينشرها في مذكراته علي طريقة مروان كنفاني.

اجمالي القراءات 8697
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق