دعاة أم معتدون؟: من أسلمة العصر الي عصرنة الاسلام

فرانسوا باسيلي   في الأربعاء ٢٨ - فبراير - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً


لم تمر علي قيام ثورة الخميني الاسلامية في ايران بضعة أشهر حتي بدأ قادتها يعملون علي تصدير ثورتهم الي دول الجوار في الخليج العربي والعراق. وقد عاينت محاولة التصدير هذه شخصيا اذ كنت اعمل مع شركة بكتل الأمريكية في مشروع الجبيل في شمال شرق المملكة العربية السعودية. وكان لي زميل مهندس مصري بارع في اللغات، كان يستمع الي اذاعة الثورة الاسلامية، وقال لي ان الاذاعة الايرانية تحض الشعوب العربية علي الثورة علي حكامها واعلان ثورة اسلامية تطيح بهم كما أطاح الايرانيون بالشاه. ووصل الامر ان بعض هذا التحريض كان يحدد للمستمعين ساعة معينة بعد صلاة الجمعة يدعوهم فيها الي الصعود فوق اسطح منازلهم للتكبير والتهليل واعلان الثورة الاسلامية. مما ادي في النهاية الي لجوء دول الخليج ـ مؤيدة بالولايات المتحدة ـ الي صدام حسين لكي يقوم بدور حامي حمي الخليج والمدافع عن العرب ضد الفرس، وهكذا اضطر صدام في النهاية الي الدخول في حرب ضد ايران دفاعا عن حكمه وعن بقية النظم الحاكمة في الخليج بالاضافة الي الدفاع عن المصالح الأمريكية الهائلة بالمنطقة. ووقفت الولايات المتحدة بقوة خلف صدام ـ وأرسلت رامسفيلد لمقابلته في بغداد ووافقت علي حصوله علي أسلحة دمار شامل كيماوية يستخدمها ضد ايران، وهي نفس الأسلحة التي راحت بعد ذلك بربع قرن تبحث عنها وتؤكد وجودها وتستخدمها ذريعة لاحتلال العراق وملاحقة صدام ثم اعدامه.
ومن المهم هنا امام هذا المسلسل الكئيب من التحريض والهجوم والدفاع والحروب والاحتلال، وكل ما صاحب هذه كلها من خراب هائل ودمار شامل وملايين من الضحايا من البسطاء من جميع الاطراف، ملاحظة ان الخطوة العدوانية الأولي التي أدت الي هذه الدومينو الدموية الما تزال تنزف الي اليوم هي تلك الشهوة الآكلة التي دفعت بآيات الله من قادة الثورة الاسلامية في ايران الي تصدير ثورتهم الي الخارج.
وقد قاموا بهذا الفعل العدواني ضد الآخرين قبل تحقيق اي انجازات داخلية لشعوبهم. فتركيزهم هنا لم يكن علي النهوض بالمستوي الانساني الحضاري الاجتماعي الاقتصادي او حتي الديني لملايين الايرانيين، وانما تحول التركيز بمجرد نجــــاح الثورة الي التوسع الخــــارجي، هذه الشهوة الآكلة في نشر الدعوة خارج الحدود وفرضها علي الآخرين ـ وهي شهوة تبلغ حد الهوس والمرض معا لأنها غير مبررة ولا تستند علي واقع قوي يمنحها شرعية جلبت علي الشعبين الايراني والعراقي خـــرابا ودمارا هائلين.
ويمكن للانسان العاقل السوي ان يتخيل حال المنطقة كلها اليوم لو كانت الثورة الاسلامية قد تفرغت للنهوض بشعبها وتوفير اسباب الحياة الكريمة له ومكنته من الابداع والخلق والابتكار والعمل الجاد مثل شعوب اخري في الهند والصين وكوريا الجنوبية ـ علي سبيل المثال ـ ولو فعلت لما احتاج العراق لمهاجمة الكويت في نزاع علي موارد آبار النفط بعد افلاس خزينته في حربه مع ايران، ولما وصل الحال الي الدمار الذي نراه اليوم في هذه المنطقة.
هذه الشهوة المهووسة بتصدير رؤية معينة للاسلام وفرضها علي الآخرين تحول الداعين من دعاة الي معتدين وتحول جهود قادة العمل الاسلامي من مهمة النهوض باحوال المؤمنين وتحديث وعصرنة الاسلام الي شطحات ومغامرات عدوانية خارجية تريد أسلمة الآخرين وأسلمة العصر.
دعوة أم عدوان؟

الهرولة التي راح آيات الله يندفعون بها بلا مبرر ولا منطق في تصدير ثورتهم الي دول الجوار ليست ظاهرة ينفرد بها الاسلاميون الايرانيون. اذ نجد نفس الظاهرة قبل ذلك لدي الجماعات الاسلامية في مصر. فهذه الجماعات بلا استثناء لا تكتفي بالدعوة بالتي هي أحسن لمبادئ الدين والحياة الفاضلة الكريمة وانما تبدأ وتنتهي دائما بنفس الشهوة الآكلة في فرض رؤيتها الدينية علي بقية المجتمع بالاكراه وبالعنف اذا لزم الامر. فبعض هذه الجماعات ـ كالتكفير والهجرة ـ يكفر المجتمع كله ويصفه بالجاهلية، وما دام المجتمع كافرا في عرفهم فتستوجب محاربته حتي يعدل عن كفره ويدخل في الاسلام الصحيح الذي هو اسلامهم وحدهم وبشروطهم هم وحدهم. ولذلك قامت هذه الجماعات بعمليات ارهابية ضد المجتمع القائم ورموزه السياسية والأمنية والدينية، فاغتالوا الشيخ الذهبي وحاولوا اغتيال نجيب محفوظ ودخلوا في صراع عنيف دموي ضد رجال الشرطة المصرية وضد الأقباط وضد السياح وضد اصحاب بعض المحلات والفنادق والملاهي، وطريقهم الي هذا لم يكن الوعظ والارشاد وانما القتل والاغتيال بالرصاص والسكين، فالدعوة قد تحولت علي ايديهم الي عدوان، والدعاة صاروا في حركاتهم معتدين وسفاكي دماء.
نلاحظ هنا أنه في كل مجتمع، بما في ذلك المجتمع الأمريكي، توجد جماعات تختلف في رؤيتها الدينية عن الرؤية الدينية السائدة، وأحيانا تجد هذه الجماعات نفسها غير قادرة علي معايشة المجتمع بأفكاره وأساليبه السائدة فتختار ان تنعزل عنه ـ او تهاجر منه بلغة جماعة التكفير والهجرة ـ ويحدث هذا في الولايات المتحدة نفسها، فنجد الكثيرين يكونون نوعا من العيش المشترك في أماكن نائية يمارسون فيها رؤيتهم الدينية المختلفة التي يرتاحون اليها، دون محاولة منهم للاعتداء علي المجتمع او ممارسة العنف ضد أفراده. ولكن الجماعات الاسلامية المصرية لم تفعل هذا، فهي حتي حينما تهجر المجتمع فهي لا تبتعد عنه الا لكي تدبر في ليل للتآمر ضده وممارسة العنف والقتل ضد رموزه وضد من تتصورهم اعداء لها. فهذه الجماعات ليس هدفها نشر دعوتها للنهوض بالمؤمنين الذين يشاركونها نفس الرؤية الدينية، وانما هدفها الاساسي هو نشر الدعوة خارج اطار اتباعها وفرض دعوتها فرضا واكراها علي الآخرين، علي المجتمع بأكمله حولها، وعلي العالم كله خارجها.
ورغم وجود نص صريح ان لا اكراه في الدين فان قادة هذه الجماعات يتجاهلون ذلك تماما ويعتبرون ان من واجبهم الديني تحويل المجتمع قسرا اذا لزم الامر الي مجتمع اسلامي كامل فاضل بحسب رؤيتهم هم للكمال والفضيلة. فالاكراه والعنف والحرب الدائمة حتي يخضع الآخر الكافر ويرضخ ويرضي الدخول في اسلامهم الصحيح ويرجع عن اسلامه المنحرف هو أسلوبهم الذي ارتضوه وطبقوه ولو كان مخالفا للنص الصريح الذي يحرم الاكراه في الدين.
وليس صدفة ان شعار الاخوان المسلمين حتي هذه اللحظة هو القرآن والسيف وعبارة وأعدوا المأخوذة من الآية القرآنية وأعدوا لهم ما استطعم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم . وهكذا اختارت هذه الجماعات الاسلامية بمختلف مشاربها ان تحول الدعوة الي عدوان، فهي لا تجد من بين مختلف الآيات التي يحض الكثير منها علي الرحمة والتعارف والحسني والمودة سوي تلك التي تشير للحروب. وكانت جماعة الاخوان المسلمين تطلب من المنضمين اليها ان يقسموا علي المصحف ومعه مسدس! وكانت للاخوان جماعة سرية مسلحة جاهزة للعنف قام بعضها بعمليات اغتيال ومحــــاولات اغتيال مثبوتة تاريخيا.

حل دماء البشر

من اكثر الظواهر بشاعة ودموية لدي الجماعات الدينية بل ولدي بعض كبار قادتها انفسهم، ظاهرة او فكرة حل دم الآخر سواء كان هذا الاخر فردا ام شعبا كاملا. وهي ظاهرة لا نجد لها مثيلا اليوم لدي اية جماعة دينية أخري. فلا نسمع عن احد آخر يصرح علنا بحل دم شخص او جماعة في عصرنا هذا سوي ما نسمعه من قيادات لجماعات وحركات اسلامية، بدأت بفتوي الخميني الشهيرة بحل دم كاتب بريطاني من أصل هندي مسلم بسبب كتاب قيل ان به اهانة للاسلام، الي كتيب اصدره قائد لاحدي الجماعات الاسلامية المصرية يحل فيه دم الاقباط ـ هكذا بالجملة! ومفهوم هذه الفكرة ـ حل الدم ـ هو انه يحل لأي شخص في اي مكان واية ساعة وبدون الرجوع الي احد آخر ان يقتل المهدور دمه اينما وجده! وهذه الفكرة تعود بلا شك الي ما قبل فكرة الدولة والمدينة. اي الي ما قبل مصر القديمة الفرعونية التي أقامت اول دولة في التاريخ البشري. فبقيام الدولة أصبحت هي وحدها المخولة قانونيا بالحكم علي انسان بالاعدام والاشراف علي تنفيذ هذا الحكم تحت ضوابط صارمة. فالاخلال بهذا النظام الحضاري المدني باباحة حق قتل الآخر ومنحه لأي شخص هو عودة الي ما قبل المدنية اي الي الهمجية التي كان يعيش فيها الانسان الاول في بدائيته ووحشيته. ولكننا نري قيادات معروفة ومشهورة لحركات اسلامية وثورات اسلامية تنادي وتمارس فكرة حل دم الآخرين وكأننا لم نعرف نظام الدولة بعد!
هذا الفكر القادم الينا من ظلمات الماضي السحيق قبل مدنية الانسان وتحضره ما يزال يطل برأسه بين وقت وآخر حتي اليوم. وها هو مفكر اسلامي مشهور ـ د. محمد عمارة ـ يؤلف كتابا تطبعه وتوزعه له وزارة الاوقاف المصرية يقول فيه قول داعية اسلامي كبير آخر هو الغزالي ان النصاري كفار وبالتالي تستحل دماؤهم! والسؤال هو: في أي عصر يقيم هؤلاء؟
هل حقا تنتمي عقولهم وافكارهم الي زمننا الحالي؟ هل هنالك منطق او لغة او فكر يمكن لنا ان نتفاهم به مع هكذا عقول وافكار؟ فبأي منظور يمكن التفاهم او التحاور مع من يؤمن بفكرة حل دمك او حل دم اي انسان؟

الهوس بالآخر

نجد لدي هؤلاء الدعاة الذين هم في حقيقتهم معتدون ـ نجد هوسا غريبا بالآخر وليس بالذات. فالدكتور عمارة مهووس بالنصاري وكتابهم المقدس، ولا يحلو له الا ان يدبج المقالات التي ينشرها في جرائد مصر القومية ! ـ اي جرائد الاقباط والمسلمين معا ـ يتلذذ فيها بالحديث عن تحريف الكتاب المقدس وضلال الذين يتبعون هذا التحريف، وما داموا ضالين فهم مشركون وكفار، وما داموا كفارا فليقاتلهم الله ونقاتلهم معه! حتي وصل به الامر الي كتابه الاخير وفي كل مرة يقدم اعتذارا للأقباط! والسؤال للدكتور عمارة وغيره من الدعاة المعتدين هو: لماذا تشغل بالك كل هذا الانشغال بما يعتقده الاقباط او غيرهم؟ لماذا لا تنشغل باصلاح حال امتك واهل بيتك؟ الا تري مدي الفساد الذي استشري في مجتمعك حولك في كل مكان علي كافة المستويات؟ الا يؤلمك حال المصري الفقير المطحون الذي تضطره تكاليف الحياة وطلبات الاولاد ان يساوم نفسه ويغافل ضميره بشكل يومي فيقبل ان يرتشي او يسرق او يكذب او يشهد بالزور او ينهب او ينافق او يبطش ويعذب اخوته البسطاء المطحونين مثله؟
لماذا لا تكتب في اسباب هذا كله وكيفية معالجته؟ ما هذا الهوس بالنصاري؟ ولماذا عينك علي الآخر دائما وليست علي نفسك؟ اليس الأحري بك قبل ان تشير الي القذي في عين غيرك ان تخرج الخشبة التي في عينك؟
من نفس منطق العدوان علي الآخر تحت شعار نشر الدعوة طلع علينا مرة في قناة الجزيرة احد الاسلاميين المصريين من لندن، بلحية سوداء كثة تصل الي صدره ووجه غاضب محتقن صارخ يبعث الرعب بلا شك في قلوب الاطفال وراح يصرخ قائلا انه لن يهدأ لهم بال ولن تغمض عين حتي ترتفع راية الاسلام فوق داوننغ ستريت والبيت الابيض! والسؤال هنا مرة أخري: لماذا هذا الجنون والشهوة الآكلة لفرض دينك علي الاخرين؟ لماذا تحولون الدعوة الي عدوان؟ اليس الاجدي قبل الاهتمام بفرض دعوتك علي الآخرين ان تعمل علي رفع مستوي المؤمنين بها أولا؟ اليس أعظم تشريف للاسلام هو ان تحقق الشعوب المسلمة انجازات عظيمة في المجالات الحضارية المختلفة من اجتماع وقانون واقتصاد وعلوم وطب وتكنولوجيا وحقوق انسان وحرية سياسية؟
الا ترتفع راية الاسلام تلقائيا ـ بلا حروب ولا صراخ ولا جهاد ـ لو تحولت الدول العربية الي تايوان اخري او كوريا جنوبية اخري او يابان او صين اخري؟ اليس التقدم الحضاري والعلمي هو القادر علي رفعــــة الأمة ورفعة دينها؟
ان الرؤية الدينية التي اصبحت سائدة اليوم في مصر وغيرها من البلاد العربية قد اصبحت ـ بسبب نجاح الاخوان المسلمين في فرض مفهومهم المتزمت الملتبس علي الشارع المصري ـ العربي ـ رؤية سلفية لا تفهم العصر ولا تتكلم لغته اذ ما تزال تعيش لغة وفكر قرون غابرة، وهي بالتالي غير قادرة علي النهوض بالأمة في اي مجال من المجالات، بما في ذلك المجال الديني نفسه الذي تركب موجته وتدعي التحدث باسمه وبرسالته.
بدلا من تصدير الثورة الاسلامية وفرض الدعوة وتكفير المجتمعات والجماعات والاقليات وهدر دماء البشر والتعدي علي معتقدات الاخرين والهوس بالآخر ومهاجمته وشتمه والانشغال بمحاولة اسلمة الاخرين واسلمة العصر، الاجدي للجميع ان يقوم الدعاة بالعمل علي عصرنة الاسلام، فهناك الكثير من المفاهيم السائدة تستحق التحديث. وهو ما قام به المصلحون في اديان اخري كاليهودية والمسيحية بدءا من حركة الاصلاح الديني والي اليوم، حتي استطاعت المجتمعات الغربية ان تصل الي معادلة دقيقة باهرة، امكن فيها للمواطنين التمتع بحرية العبادة، بينما اعترف الجميع بأهمية ابتعاد رجال الدين عن الحكم والسياسة، وعندها فقط تحررت طاقات الانسان الغربي بشكل مذهل وراح يبدع في كل مجال حتي اقام حضارة مذهلة الأبعاد حيث للانسان كرامة وحرية لم يعرف لها التاريخ مثيلا.
نريد دعاة لا معتدين يفيدون امتهم بأن يكفوا عن محاولات أسلمة العصر ويجتهدوا في محاولات عصرنة الاسلام.

ہ كاتب من مصر يقيم في نيويورك
8
اجمالي القراءات 9302
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق

اخبار متعلقة