المخزون الحضارى لشعب عريق

عثمان محمد علي   في الإثنين ٢١ - فبراير - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً


 

المخزون الحضارى لشعب عريق

  بقلم   د. يحيى الجمل    ٢١/ ٢/ ٢٠١١

أستعيد هذه الأيام عبارتين، عبارة سمعتها وعبارة قلتها.. أما العبارة التى سمعتها من سيدة فرنسية تكررت زياراتها لمصر وأحبتها وأحبت شعبها فكانت تقول: إننى أحس وأنا فى مصر أن وراء هذا الشعب المصرى تاريخاً حضارياً طويلاً يمتد لأكثر من خمسة آلاف عام، خاصة عندما كنت أتخاطب مع بعض من أهل مصر العليا (الصعيد) كان ذلك منذ قرابة الأربعين عاماً عندما كنت أعمل مستشاراً ثقافياً بالسفارة المصرية فى باريس، وأسعدتنى تلك الكلمة فى وقتها سعادة غامرة، ولم يكن ذلك هو رأى تلك السيدة الفرنسية وحدها وإنما كان رأى الكثيرين من السياح والزائرين الأجانب.

وأما العبارة التى قلتها فى حوار تليفزيونى مع الإعلامى الكبير مفيد فوزى فهى: أن الشعب المصرى شعب فراز، ومن الصعب أن يخدعه أحد، قد يصبر طويلاً ولكنه لا ينسى الإساءة ولا الإحسان، هاتان العبارتان أتذكرهما فى هذه الأيام الرائعة التى نعيشها بعد انطلاق ثورة شباب مصر فى الخامس والعشرين من شهر يناير الماضى، تلك الثورة التى أعادت الروح لمصر ونقلتها نقلة غير مسبوقة وأنجزت فى أقل من عشرين يوماً ما لم تنجزه ثورات كبرى فى أضعاف أضعاف هذه المدة. والذى يجعلنى أستعيد العبارتين اللتين أشرت إليهما هو السلوك الحضارى الرائع، الذى سار عليه ذلك الشباب الثائر، الثورات يصاحبها الانفعال والانفعال يقود إلى نوع من العصبية، والعصبية قد تحرف السلوك، ولكن ذلك كله لم يتحقق فى ثورة شباب مصر.

من كان يصدق أن يسلك هذا الشباب الذى كنا نتهمه باللامبالاة وعدم الانتماء هذا السلوك الحضارى العظيم. من كان يصدق أن مئات الآلاف يتجمعون فى ميدان واحد أو عدة ميادين فى عديد من مدن مصر، ولا تحدث حادثة واحدة مخلة بالآداب، كنا نسمع كل يوم بحوادث التحرش الجنسى فى الأتوبيسات والشوارع ومرت هذه الأيام الرائعة ولم نسمع بحادث واحد من هذا القبيل.

كانت الميادين تضم المحجبة بل والمنتقبة والسافرة وتضم المسيحيين والمسلمين والأغنياء والفقراء والشباب والكبار وكانوا جميعاً يحسون بمصر ويتحدثون عن مستقبل مصر، ويمارسون نوعاً من الحوار المتحضر، الذى غاب عن حياتنا منذ سنين، وأهم من ذلك كله كان هناك الإصرار الواعى على إسقاط النظام ورأس النظام.

وأستطيع أن أقول العبارة التى قلتها بعد أيام قليلة من الثورة إن تلك الثورة أسقطت شرعية النظام وفتحت الباب واسعاً أمام التغيير واجتثت -ولا تزال- جذور الفساد. من كان يصدق أن ثورة هؤلاء الشباب ستسوق حبيب العادلى وأحمد عز وآخرين كثيرين إلى مكتب النائب العام، يحملون على أكتافهم أسوأ الأوزار. ومن كان يصدق أن الأموال الطائلة التى نهبها هؤلاء وغيرهم من أموال الشعب سوف تجمد، تمهيداً لردها لصاحبها: شعب مصر العظيم.

من كان يصدق أن شيئاً من ذلك كله سيحدث فى بضعة أيام بفضل إرادة هذا الشباب النقى الطاهر، ووراءه شعب مصر العظيم.

وقد استطاع هذا الشباب بنقائه وتصميمه أن يكسب تعاطف جيش مصر الوطنى، وقد كرر المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى كل بياناته أنه ليس بديلاً عن الشرعية الشعبية، وإنما هو يساندها ويضمنها، وكرر المجلس أيضاً أنه بعد المرحلة الانتقالية التى لن تتعدى ستة أشهر ستنتقل مصر إلى دولة مدنية ديمقراطية، وقد تكررت هذه المعانى فى كل بيانات المجلس، على نحو لا يقبل اللبس أو التأويل.

وإذا كانت المرحلة الانتقالية ستشهد استفتاءً لتعديل بعض مواد الدستور، فإنه من المتصور بعد عودة الحياة الطبيعية والدخول فى مرحلة الدولة المدنية الديمقراطية أن يعاد النظر فى أمر الدستور كله، ذلك أن دستور ١٩٧١ فى أصل وضعه كان دستوراً جيداً، ولكن ما أدخل عليه من تعديلات، بدءاً من أول تعديل للمادة ٧٧ من الدستور، والتى كانت تنص على أن ولاية رئيس الجمهورية تنحصر فى مدتين، وجاء التعديل ليطلق هذه المدد إلى ما لا نهاية هذا التعديل عودة للوراء لأنه يقضى على مبدأ تداول السلطة وهو مبدأ أساسى فى الحياة الديمقراطية. لقد قلت مراراً وتكراراً إن وجود رئيس جمهورية سابق ضمانة من ضمانات الحكم الديمقراطى، لأن الذى يشغل منصب رئيس الجمهورية ويعرف أنه بعد مدة معينة سيسير فى الأسواق بين الناس بغير سلطان لا يحميه إلا القانون وأعماله فى فترة رئاسته، سيكون سلوكه غير سلوك رئيس، يتصور أنه مخلد فى مكانه.

وأستطيع أن أقول وأنا مرتاح الضمير العلمى، إن كل ما أدخل من تعديلات على الدستور فى عامى ٢٠٠٥ و٢٠٠٧ كان تعديلات إلى الوراء، تعديلات تخالف المبادئ الدستورية العامة المستقرة والتى تفترض أن الدستور هو سياج للحريات وقيد على السلطة وجاءت هذه التعديلات على عكس هذه المبادئ تماماً. تقديرى أن مصر بدأت مرحلة جديدة من حياتها السياسية وهى مرحلة توحى بكثير من الأمل. وأن الشعب الذى فجر ثورة ٢٥ يناير لن يستكين إلا إذا تحققت مطالبه فى حياة مدنية ديمقراطية تكفل فيها حريات كل المواطنين وحقوقهم. ليس هذا فقط بل إن الثورة المصرية أحدثت زلزالاً فى المنطقة كلها بعد أن كان الركود يخيم عليها، وبعد أن ظن كثيرون أن منطقتنا تستعصى على التقدم على عكس بلاد العلم كله.

وأحب قبل أن أختم هذا المقال أن أشير إلى أمرين.

أما الأمر الأول فهو ضرورة الإسراع بالإفراج عن أى شاب من الشباب الطاهر، الذى أعاد الحياة والروح إلى مصر، وأعتقد أنه لم يعد هناك مبرر لمصادرة حرية أى منهم.

إنهم يستحقون التكريم وليس الاعتقال، وفى نفس الوقت سرعة إنهاء التحقيق مع الذين شوهوا وجه الثورة بعد ما ارتكبوه يوم الأربعاء الأسود من عمليات إجرامية تخريبية قيل إن وراءها بعض رجال حبيب العادلى. لابد من تحقيق ناجز.

هذا من ناحية

من ناحية أخرى، فإنى أناشد المواطنين جميعاً أن يدركوا الأوضاع القاسية التى يمر بها الاقتصاد المصرى، وأن هذا ليس وقت المطالبة الفئوية - مع شرعية كثير منها- هذا وقت يجب أن نفكر فيه فى إعادة الأمن والنظام إلى الشارع المصرى ونعيد فيه كل مرافق الإنتاج إلى مزيد من الإنتاج ومزيد من العمل.

هل يدرك هؤلاء المواطنون مدى الخسائر التى أصابت الاقتصاد المصرى؟

أظن أنهم لا يدركون.

هل يعرف هؤلاء المواطنون -المعذورون- أن السياحة التى كانت من أهم موارد الدخل فى مصر قد توقفت تماماً وأن كثيراً من الفنادق والقرى السياحية قد أغلقت أبوابها.

تعالوا جميعا نفكر فى مصر رعاها الله وحماها.

اجمالي القراءات 6332
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق