: جدلية الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم
جدلية الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم

أولا :
1 ـــ فى الستينيات – عصر الصحوة القومية العربية – بدأ الدكتور جمال الفندى يكتب من واقع تخصصه العلمى فى الفلك عن الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم ، وتبعه الدكتور عبدالرزاق نوفل الذى تشعب وأشار إلى الإعجاز العددى والحسابى فى القرآن الكريم ، وتبعهم أخرون .
كان جهدا فرديا يقوم به متخصصون فى العلوم الطبيعية ، ليس لهم خلفية فى التراث السنى أو الفقهى ، بل كانوا يدخلون على القرآن الكريم بعقليتهم العلمية المحايدة يحاولون فهم الآيات فى ضوء التشابه أو التطابق بينها وبين حقائق العلم الحديث ، وقد أفلحوا ليس فقط فى ريادة هذا الموضوع ، ولكن أيضا فى تأكيد حقيقة الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم .
2 ـــ سقطت الدعوة للقومية العربية فى حرب يونيو 1976 ، وقد تم دفنها بالكامل فى حرب الخليج الثانية باحتلال صدام للكويت ، واحتل مكان القومية الإنتماء السلفى الوهابى السنى الذى سيطر بفعل قطار النفط السريع على التعليم والأعلام والثقافة فظهرت " أسلمة العلوم " و " أسلمة البنوك " بعد أسلمة الأعلام وأسلمة الثياب بالجلباب والحجاب والنقاب .
وتأثرت قضية الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم بهذا المناخ الجديد ، فاتسعت وأصبحت حرفة دخلها الأدعياء والمرتزقة ، وتطورت من ناحية الكم لتشمل ما عرف بـــ " الطب النبوى " ، وأصبح يطلق عليها " الأعجاز العلمى فى القرآن والسنة " ،ولم يبق إلا أن يقال عنها " الأعجاز العلمى فى القرآن والسنة و السلفية والوهابية والسعودية " وتعمقت نوعيا لترتبط بالإسلام الذى إحتكر السلفيون لأنفسهم الحديث عنه .
3 ـــ أحدث هذا التطور النوعى والكمى خصومة كاملة مع المنهج العلمى والمنهج القرآنى ؛فالمحترفون الجدد من المؤلفين فى الأعجاز العلمى فى " القرآن والسنة " دخلوا على فهم القرآن الكريم من خلال المصطلحات التراثية ، فالملاحظ فيما كتبه " زغلول النجار" مثلا كثرة إستشهاده بالتراث فى فهم معانى الآيات القرآنية ، ثم يقرؤها فى ضوء الحقائق العلمية كى ينسب إعجازا علميا إلى تلك الأحاديث أو ما يعرف بالسنة النبوية.
الخطأ يتجلى هنا فى أن فهم القرآن الكريم من خلال التراث يوقع فى الأختلاف والإنتقاء ، ويصبح القرآن الكريم متهما بأنه " حمال أوجه" أى تختلف معانى الآية وتتحمل التفسيرات المتناقضة ، وبالتالى لا يكون كما قال تعالى " كتاب مبين " ، " كتاب أحكمت آياته " .
فالمنهج العلمى فى فهم القرآن الكريم لا يكون إلا بفهم مصطلحات القرآن الكريم نفسه وليس من خلال ثقافات لاحقة ومصطلحات تم تداولها بعد نزول القرآن الكريم بقرون.
ثم إن الدخول على القرآن الكريم وفهمه من خلال ما قاله أئمة التراث ينسف قضية الأعجاز العلمى فى القرآن من أساسها، فأولئك الأئمة التراثيون غفلوا عن الأعجاز العلمى فى القرآن الكريم ، وتعاملوا مع الآيات القرآنية ذات المحتوى العلمى بإخضاعها لثقافتهم ومذاهبهم ، وأكثر من هذا صاغوا لها تأويلات وصنعوا لها أحاديث مفتراه نسبوها ظلما وزورا للنبى محمد عليه السلام بعد موته بقرنين وأكثر من الزمان،فكيف يتم بناء الإعجاز العلمى على ما قاله هؤلاء الأئمة ؟
إنهم لو كانوا قد فهموا الأيات العلمية فى القرآن الكريم – وهى واضحة ومباشرة – لاختلف تاريخ البشرية ، ولتوصل العرب والمسلمون فى العصر العباسى إلى ما اكتشفه الغرب بعدهم بعدة قرون.!..
كان من الممكن إختصار ألف عام من التخلف والقرون المظلمة مرّت بها البشرية لو أنهم :
*ـ ألتفتوا إلى منهج القرآن الكريم فى البحث العلمى التجريبى وطبقوه..
*ـ قصروا الايمان بالغيب على ما جاء فى القرآن الكريم فقط دون غيره.
*ـ استفادوا بما أورده القرآن الكريم من حقائق علمية تسبق عصرها.
*ـ أطاعوا القرآن الكريم فى التعقل و التبصر والابتعاد عن الخرافات والأساطير.
لم يفعلوا ذلك فأصابوا الاسلام فى الصميم ، وتحولوا الى أنصاف آلهة فى قلوب أتباعهم .. ولا يزالون ، بدليل تلك الاتهامات التى لا تزال تلاحق الاسلام بسبب ما فعلته به الوهابية و السلفية. وحتى عندما التفت بعض المسلمين المتخصصين فى العلوم الطبيعية الى الاعجاز العلمى للقرآن الكريم ما لبث أن تدخل فيها السلفيون بما يحملونه على ظهورهم من أسفار و تراث فأفسدوا القضية بأكملها، وهم ـ فى الواقع ـ ما دخلوا فى شىء إلا أفسدوه .. وكذلك يفعلون..!! ..
4 ـــ على أن هذه الخصومة مع العلم والعقل والقرآن لم تعطل مسيرة السنيين والوهابيين والسلفيين فى تدعيم قضية " الإعجاز العلمى فى القرآن والسنة " بل تحولت بنفوذهم وبترولهم إلى تجارة رائجة تنشأ من أجلها الجمعيات وتنعقد بسببها المؤتمرات وتتسع لها الفضائيات والصحف والدوريات ومواقع الإنترنت . وكان من الطبيعى أن يمتد الإرتزاق إلى الدجل ، وأن يمتد الدجل ليس فقط فيما يكتبون وما يقولون ولكن أيضا فى الربط بين الإعجاز العلمى وبين الطب .
5 ـ فقد انتشر ما يعرف بالطب النبوى ، وذاع ـ مثلا ـ أساطير عن الحبة السوداء " ،وتم إفتتاح عشرات العيادات التى تداوى بالقرآن الكريم . وتوثقت العلاقة بينها وبين حلقات الزار والتداوى من المس الشيطانى والربط الجنسى وكتابات المحبة و التأليف بين القلوب.
وبهذا أعيد لنا فى العصر الحالى ما ساد من خرافات فى العصرين المملوكى والعثمانى مما كان يعرف بالطب الروحانى والتداوى بلمسة من الشيخ المقدس أو تراب ضريحه أوفضلات المجاذيب ومخلفات الأولياء الصالحين .
صحيح أن الغرب عرف " الطب البديل " و" التداوى بالأعشاب " والتحرز من إستعمال المركبات الكيماوية فى الطعام والدواء، ولكنه يمارس ذلك فى ظل منهجية علمية بحثية صاومة .
صحيح أن لكل شعب تجاربه الطبية وخصوصا أصحاب الحضارات القديمة التى لا تزال حية ومستعملة فى ثقافة أبنائها مثل الحضارة الصينية وهى التى قدمت تراثها الطبى وانتفع به العالم ، ومنه ما اصطلح على تسميته بـ " الأبر الصينية " ، ولكن الصحيح أيضا أن تلك الموروثات يتم التعامل معها بمنهجية علمية علمانية ، بمعنى أنهم لا ينسبونها للدين ولا يلصقونها بالأنبياء والوحى .
ولكن أساس التخلف ـ الذى نسعد به دائما ـ أننا نغطى ثقافتنا الإجتماعية والطبية بعباءة الدين ، فيصبح تراثنا القديم فى التداوى " طبا نبويا " ثم نتجرعه بالتسليم، ونموت به لندخل الجحيم.!!
قد يوجد الصحيح والفاسد فى أى تراث طبى،ولا عيب فى هذا، العيب هو أن ينسب ذلك للإسلام ولرسول الأسلام عليه السلام .
ثانيا :
1ـ النفوذ الكبير للفكر السلفى الوهابى قوبل بمعارضة علمانية مفتونة بمنجزات الغرب الحضارية، فحدث إستقطاب بين التيارين السلفى الرجعى التقليدى والعلمانى الحداثى ، وامتد هذا الأستقطاب من ميادين السياسة والحكم والأدب إلى قضية الأعجاز العلمى فى القرآن .
التطرف السلفى فى إسناد إعجاز علمى متوهم للسنة والأحاديث والطب النبوى قوبل بتطرف علمانى يستنكر أو يسخر من وجود إعجاز علمى حتى فى القرآن نفسه . أى أن الخطأ السلفى ووجه بخطأ أخر، وكلاهما يخاصم العلم وينكر حقائق ثابتة ملموسة .
2 ـــ ليس كل الذين يهاجمون الأعجاز العلمى فى القرآن الكريم ممن يكرهون القرآن الكريم وينطبق عليهم قوله تعالى "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ: محمد 9 " ، ولكنهم كلهم ليست لهم علاقة وثيقة بالقرآن ومصطلحاته ومناهجه تمكنهم من فهم إعجازاته العلمية،وهذا ما سنتعرض له فى الحلقات القادمة .
وهم مع إنتسابهم للعلم إلا أنهم سطحيون فى رؤيتهم العلمية للعلم نفسه،ولكنهم بما يعلمون مغرورون، وليس هذا إتهاما ولكنه توصيف مستمد من القرآن الكريم نفسه .
3 ـ يقول تعالى عن سطحيتهم هم وامثالهم من أكثرية البشر" وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ . يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ : الروم 7:6 " .أى يعلمون مجرد القشور والظواهر من الحياة الدنيا ، أما الأخرة فهم عنها غافلون .
أولئك السطحيون مبهورون بالتقدم العلمى متناسين أننا نستخدم ما نكتشفه دون أن نعلم حقيقته وماهيته شأن كل ما سخره الله تعالى لنا.
وللتدليل على ذلك لنبدأ مع الانسان الأول حين إكتشف النار واستخدمها ولا يزال يستخدمها حتى الأن ، ولكنه حتى الآن لا يفهم كنه النار وطبيعتها وماهيتها، ولا يعرف مستقرها أو مستودعها، ومن أين أتت والى أين تعود ، ثم استخدم الماء فى النقل البحرى وحتى الأن لا يفهم ماهية الماء.
وخلال مسيرة البشرية فى تقدمها العلمى أكتشفت الكهرباء والجاذبية والمغناطيس ، واستخدم الانسان كل هذا القوى الطبيعية ولكنه لم يصل إلى حقيقة وكنه وماهية الكهرباء والمغناطيس والجاذبية، بل حتى لا يستطيع رؤية أحداها . أى أنهم يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ...
4 ـ أكثر من ذلك .
أقرب شىء إلى الأنسان نفسه التى تسيطر على جسده وتسيره ... أين هى فى الجسد ؟ وما هى ؟ ومن أين أتت وإلى أين تمضى عند النوم ، وكيف تعود؟
بل الحياة ذاتها ـ فينا وحولنا ـ تستعصى على التحليل؛ فلا يستطيع أحد تحليل الخلية الحية إلا بعد موتها ، أما ( الحياة )ذلك الجزء الغامض فيها الذى به تتحرك وتتكاثر وتتغذى لا يمكن رؤيته . ينطبق ذلك على أدنى درجات الحياة ، وهى تفاعل المركبات الكيماوية فى الجمادات إلى الحياة المتوسطة فى الفيروسات التى تكون بلورات ثم تتحول بالماء إلى حياة ، إلى البكتيريا والجراثيم والفطريات إلى الحشرات وبقية المخلوقات ؛كل هذه الحيوات التى تحيط بنا وتتخللنا لا نعرفها ، وإن كنا نتعامل معها ونستخدمها ونحاربها وتحاربنا ...
الله سبحانه وتعالى هو الأعلم بها "أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ : الملك 14 " .
فإذا ذكر الخالق جل وعلا بعض الحقائق عما خلق فإن أكثر الذين لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا يسارعون بالإستهزاء والسخرية ...
والناس دائما أعداء ما جهلوا ..
5 ـ وهنا ندخل على سمة أخرى من سماتهم وهى الغرور المقترن بالإستهزاء.
الأمم السابقة كان لهم أيضا علم وحضارات ـ ولا تزل لها آثار باقية ، وقد أصيبت بغرور العلم وقال تعالى عنهم "فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون :غافر 83". هو نفس ما نشهده الأن من كتابات بعض السطحيين الذين ينظرون للقرآن الكريم بنصف عين ، وبعضهم يصل به الغرور إلى درجة الإستهزاء المشار إليه فى الأية الكريمة السابقة ، فيتساءل ساخرا عن كلام الهدهد لسليمان وكلام سليمان مع النمل وعن يأجوج ومأجوج وعرش ملكة سبأ..وكل هذا سنتعرض له فى حلقات قادمة بعونه جل وعلا..
ولكن هذا يدخل بنا على قضية مفصلية فى الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم ، وهى التدرج العلمى فى المستوى العلمى للبشر خلال مسيرتهم التاريخية على هذا الكوكب .

-----------
وهو موضوعنا القادم .
بسم الله الرحمن الرحيم
د . أحمد صبحى منصور
أول رمضان عام 1428 الموافق 13 سبتمبر 2007 .
الليل و النهار فى الاعجاز العلمى للقرآن
مقدمة
فى موقعنا ( أهل القرآن) http://www.ahl-alquran.com/arabic/main.php
طرح الاستاذ ابراهيم دادى فى مقال له دعوة للمناقشة حول قوله تعالى ( ثم أتموا الصيام الى الليل ) متسائلا حول تحديد قرآنى لموعد بدء الافطار فى رمضان ، أو موعد الليل المقصود فى الآية الكريمة. وكنت على وشك التعليق على مقاله لاثبات أن موعد الافطار فى رمضان هو مع بداية الليل أى مع غروب الشمس ، ولكن حين بدأت الكتابة دخلت فى تحليل (يولج الليل فى النهار ) فتشعب الموضوع الى بعض وجوه الاعجاز العلمى فى القرآن الكريم ثم تفرع الى مناقشة تخلف المسلمين عما جاء به القرآن الكريم من إعجاز علمى والسبب فى ذلك تاريخيا ، وفى النهاية أصبح لزاما أن يتحول الموضوع الى عدة حلقات تحت عنوان (الليل و النهار فى الاعجاز العلمى للقرآن ).
وهذه هى الحلقة الأولى :
المنهج القرآنى للفكر الإسلامى:
نقطة البداية لأى فكر إنسانى تتمثل فى المنهج الذى يقوم عليه ذلك الفكر، فالمنهج هو الأساس الذى يقرر منذ البداية مدى صلاح ذلك الفكر ومدى استمراريته. وغالباً ما ينبثق المنهج الفكرى لأى حضارة من عقيدة دينية، فالإنسان حيوان متدين بغض النظر عن نوعية الدين الذى يدين به، حقاً كان أم باطلاً توحيداً أو شركاً.
والمنهج الفكرى للحضارة الإسلامية أتى به القرآن الكريم الذى جاء تبياناً لكل شىء وما فرط الله فيه من شىء، والمنهج الفكرى القرآنى للحضارة الإسلامية انبثق من عقيدة التوحيد الإسلامية التى تقصر الألوهية والتقديس على الله تعالى وحده فلا مجال لتقديس بشر أو حجر أو كوكب أو شجر، فالله وحده هو الإله القيوم على كل شىء وما من شىء إلا هو آخذ بناصيته مسيطر عليه، و﴿ليس كمثله شىء﴾ من مخلوقاته ﴿وهو السميع البصير﴾ و﴿لاّ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ أما باقى الخلق فهم عبيد قدرته وتحكمه كائناً من كانوا، ملائكة أم رسلاً أم بشراً أم حيوانات أم جمادات.
فالانفصال قائم بين وحدة الخالق المهيمن المسيطر الذى ليس كمثله شىء وبين وحدة المخلوقات التى صنعها الخالق ولا يمكن أن تشبه الخالق بأى حال من الأحوال وللخالق عليها حق العبودية والخضوع والاستسلام طوعاً أو كرها ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ (آل عمران 83) فكل ما خلق الله أسلم وخضع له وسجد لعظمته، سبح بحمده كل المخلوقات، كل الأشياء من أحياء وجمادات لا خالق لها إلا الله ولا يستحق التقديس والعبادة إلا هو تعالى ولا واسطة بين الخالق والمخلوق. ومن هذه العقيدة التوحيدية انبثق المنهج القرآنى للفكر والعلم والتربية، وقد صاغ ذلك المنهج رب العزة تعالى وهو الأعلم بخلقه ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾.
ويعتمد ذلك المنهج القرآنى للفكر الإسلامى على أساس من الحكمة فى خلق الإنسان والكون. فالله تعالى خلق الإنسان ليكون خليفة فى الأرض يطبق فيها منهج الله القائم على الحق والخير وعدم الفساد. ولأن الإنسان مخلوق ليكون خليفة فى الأرض فإن الله تعالى سخر له كل ما فى الأرض وما فى السماوات ﴿وَسَخّرَ لَكُمْ مّا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ﴾ (الجاثية 13) وسخر بمعنى ذلل وأخضع، أى أن كل ما فى السماوات والأرض من جماد وحيوان ونبات وأشعة وطاقة سخره الله للإنسان كى ينتفع بها كيفما يشاء ﴿هُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النّشُورُ﴾ (الملك 15). ومن هنا فإن البحث فى الأشياء المادية التى يمكن أن تقع عليها حواس الإنسان رهين بسعى الإنسان وكفاحه كى يتمكن من الاستفادة مما سخره الله له على أتم وجه.
من هنا أيضاً أمر الله تعالى الإنسان أن يسير فى الأرض ويبحث فيها ليرى عظمة الخالق فى خلقه ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِيءُ اللّهُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ. قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمّ اللّهُ يُنشِىءُ النّشْأَةَ الاَخِرَةَ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (العنكبوت 19: 20).
فالبحث العلمى فى مخلوقات الله التى سخرها للإنسان فريضة إسلامية لها وسائل ولها أهداف. فوسائلها السعى والسير والنظر بالعقل والعين واللمس والتحقق والتفكر، ويستخدم الإنسان فى سعيه كل حواسه من يد وعين وأذن وقدم وعقل ﴿قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنّذُرُ عَن قَوْمٍ لاّ يُؤْمِنُونَ﴾ (يونس 101) ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِيَ أَنفُسِهِمْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُ الْحَقّ﴾ (فصلت 53) ﴿وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ. وَفِيَ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾ (الذاريات 20: 21) ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوَاْ إِلَى السّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيّنّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ. وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. تَبْصِرَةً وَذِكْرَىَ لِكُلّ عَبْدٍ مّنِيبٍ﴾ (ق 6: 8).
والآيات السابقة التى دعت للبحث العلمى فى الكون تحوى إعجازاً علمياً أثبته العصر الحديث بعد أن اتبع المنهج العلمى القرآنى فى البحث والتجربة والسعى والسير..
ويكفى أن الله تعالى جعل من صفات المتقين أولى الألباب والعقول أنهم يذكرون الله ويتفكرون فى خلقه (آل عمران 190: 191) بينما جعل من صفات المشركين الإعراض عن آيات الله فى الكون ﴿وَكَأَيّن مّن آيَةٍ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ (يوسف 105).
باختصار فالإسلام يدعو المسلمين إلى البحث العلمى التجريبى فى الكون المادى الذى سخره الله تعالى للإنسان، وغاية ذلك البحث التجريبى أن يصل الإنسان إلى عظمة الخالق تعالى وإبداعه، وأنه يستحيل على من خلق وأبدع أن يكون له شريك أو معه ولى أو معين، وحينئذ يزداد العالم خشية لله تعالى وخضوعاً له.
ويعزز ذلك أن القرآن الكريم دعا للعلم واستعمال العقل والنظر، وتكررت فيه عبارات ﴿أفلا تعقلون﴾ ﴿أفلا تبصرون﴾ بل وارتبط فيه لفظ العلم بالتقوى والخشية ﴿أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النّاسِ وَالدّوَآبّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر 27: 28) أى أن التفكر والبحث العلمى فى بديع الخلق من إنزال المطر واختلاف الشجر والبشر والحجر من صفات العالم الحقيقى المؤمن الذى يدعو له الإسلام، يقول تعالى ﴿أَمّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الاَخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنّمَا يَتَذَكّرُ أُوْلُو الألْبَابِ﴾ (الزمر 9).
ويلاحظ أن الحضارة الغربية الحديثة اتفقت مع الإسلام فى وسائل البحث العلمى التجريبى، فهى تسعى فى الكون وتسير فى الأرض فتمكنت من اكتشاف آلاء الله فى الكون، وكان المسلمون أحق بهذا الاكتشاف لو اتبعوا منهج القرآن الكريم، ولكنهم هجروا القرآن الكريم وانشغلوا بصناعة أحاديث نسبوها زورا وبهتانا لخاتم النبياء عليهم السلام ، وتشاجروا فى إسنادها و الحكم على رواتها ، بل وجعلوا من تلك الأحاديث وعاء يمتلىء بخرافاتهم وجهلهم فأصبح الجهل والخرافة جزءا من تلك الأديان الأرضية لا يصح الاعتراض عليه أو نقده فقد تحصنت ضد النقد باسنادها ونسبتها الى النبى محمد عليه السلام .
وظل انشغال المسلمين ـ عن القرآن الكريم ـ بأديانهم الأرضية و أحاديثهم الى أن نهض الغرب و اكتشف الكون متبعا طريقة المنهج العلمى التجريبى التى سبق لها القرآن . وفوجىء المسلمون فى عصرنا بأن بعض ما يكتشفه الغرب قد جاءت إشارات له فى القرآن فهللوا وتفاخروا دون أن يحسوا بالخجل ودون أن يتساءلوا اين كان أسلافهم واين كانوا هم حين هجروا القرآن وهو معهم يتكلم بلغتهم يدعوهم الى تدبره ويحذرهم من اتخاذه مهجورا. ومن أسف أن أولئك ( المسلمين ) لا يزالون فى غيهم يعمهون ، ولا يزالون بتلك الخرافات العباسية و المملوكية يتمسكون ، وهم على نسبة تلك الأحاديث الكاذبة لخاتم النبيين عليه السلام يدافعون .وتلك قضية أخرى سنعرض لها فى مقالات قادمة بعونه جل وعلا.
المهم أن الحضارة الغربية اتبعت المنهج العلمى التجريبى ووسائله ولكن اختلف الهدف، فالهدف من البحث التجريبى فى الإسلام هو الوصول إلى عظمة الله وقدرته ليزداد الإنسان خشية لله وعبادة له وينشر الخير ويكون لله خليفة فى الأرض بما وهبه الله تعالى من عقل وفطرة سليمة. أما الهدف من البحث التجريبى فى الحضارة الغربية فكان فى بعض الأحيان استخدام العلم فى خدمة الشيطان باختراع أسلحة الموت والدمار وتوجيه التقدم العلمى لتدمير الحضارة الإنسانية وإشاعة القلق والخوف والفقر والحروب والدماء والآلام..
قلنا أن القرآن دعا المسلم إلى البحث فيما سخره الله له، أى أن الله تعالى جعل تلك الأشياء المادية مسخرة خاضعة لحواس من تلك الإنسان وعقله وفى إمكان طاقته، ويستطيع بالعقل الذى وهبه الله له أن يخترع من تلك الأشياء المسخرة ما يمكن أن يفيده أو يضره، ويتوقف ذلك على الهدف، فإن كان الهدف طاعة الله كانت المخترعات فى صالح الإنسان وسعادته، أما إن كانت الأخرى فهو التدمير والبؤس والفقر.
وتبقى قضية أخرى.
أن الله تعالى سخر الكون للإنسان، ومن هنا كان من حق الإنسان بل من واجبه أن يبحث فيما سخره الله له، ولكن خلق الله تعالى الإنسان لعبادة ربه فيستحيل أن يتمكن الإنسان المخلوق لعبادة الله من أن يتخذ الله تعالى مادة لبحثه..
فالله تعالى هو الذى خلق الإنسان ويستحيل على المخلوق أن يتعرف على كنه الخالق، والله تعالى هو الذى خلق عقل الإنسان وصممه على أساس أن يبحث فقط فى الأشياء التى سخرها الله له، وليس بإمكان ذلك العقل كما خلقه الله أن يسمو للبحث فى ذات الخالق جل وعلا.
ويستحيل على الإنسان أن يبحث فى ذات الله تعالى والله تعالى وصف ذاته بأن ﴿ليس كمثله شىء﴾ ومعنى ذلك أن أى شىء من المخلوقات لا يمكن أن يشبه الله تعالى، وكلمة (شىء) مفعول مطلق من كلمة (شاء) فالله تعالى أراد أو شاء شيئاً فكانت كل المخلوقات أشياء وكل المخلوقات أو الأشياء لا تشبه الله تعالى بأى حال من الأحوال، فلا يستطيع الإنسان أن يتخيل كنه الله تعالى، فعقل الإنسان لا يفهم إلا فى الأشياء المخلوقة مثله، والله تعالى أكبر من كل شىء.. وحواس الإنسان لا تدرك إلا ما سمح به الله تعالى، والله تعالى جل أن تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، بل أن مشيئة الله قضت أن يحجب عن أعين الناس بعض مخلوقاته، والإنسان الحديث آمن بأنه لا يرى كل شىء من الأشعة والموجات وإن أمكنه أن يستغلها فى الراديو والتليفزيون واللاسلكى، والله تعالى يقول للبشر ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ. وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ﴾ (الحاقة 38: 39) والله تعالى أخبر بأن الجن يرون البشر ولا يمكن البشر أن يروهم ﴿إِنّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ﴾ (الأعراف 27).
وإذا كانت بعض الأشياء المخلوقة محجوبة عن عين الإنسان لا يمكن أن يراها فى هذا العالم المادى فكيف يطمح الإنسان إلى رؤية خالق الأشياء ومبدعها سبحانه وتعالى؟ وإذا كان ممنوعاً من الرؤية فكيف يبحث فيما لا يستطيع رؤيته؟
على ذلك فإن العالم له شقان بالنسبة للإنسان، عالم الشهادة، أو المحسوسات المشاهدة من الكون والطبيعة وقد عرفنا منهج الإسلام فيها من حيث الوسائل والهدف، أما عالم الغيب أو السمعيات فهى خارج نطاق المحسوسات، وتخرج عن نطاق بحث الإنسان، ومطلوب من الإنسان ألا يبحث فيها ولكن يؤمن بها، فالإيمان بالغيب من أولى صفات المتقين ﴿الَمَ. ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتّقِينَ. الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ (البقرة 1: 3).
على أن يكون معروفاً أن ذلك الغيب الذى نؤمن به هو غيب الله تعالى الذى أخبر به فى كتابه الكريم خاصاً بالله تعالى والملأ الأعلى من الملائكة والجنة والنار والآخرة والحساب والحشر ثم الجن والشياطين. وكلها أمور غيبية غير مشاهدة أخبر بها الله تعالى ومطلوب أن نؤمن بها.
على أن الإيمان الإسلامى لا يقبل القسمة على اثنين، فالمؤمن بالله وحده يؤمن بغيب الله وحده ولا مجال لديه للإيمان بخرافات الأولياء وأكاذيب العامة والدهماء. هذا هو الإيمان المطلوب، إيمان بالله وحده وكفر بما عداه ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا﴾ (البقرة 256).
ووضح ما سبق أن القرآن حدد المنهج التجريبى العلمى للبحث فى عالم المشاهدة والكون والمادة المسخر للإنسان، ودعا للإيمان والتسليم والتصديق بعالم الغيب الذى يذكره الله تعالى فى كتابه فقط وما عداه من كلام فى الغيب إنما هو خرافة، حيث أن النبى محمداً نفسه لا يعلم الغيب، ومن هنا تضيق فجوة الإيمان بالغيب على قدر ما جاء فى القرآن فقط، ويتسع المجال أمام العقل كى يخترع ويبتكر فى عالم الشهادة.
ذلك ما ينبغى أن يكون، وذلك ما كان يجدر بالمسلمين اتباعه، ولكن المفروض شىء والواقع شىء آخر، فالذى حدث أن الحضارة (الإسلامية) لم ترتبط بالمنهج القرآنى وإنما سارت على أساس منهج آخر مخالف، هو المنهج اليونانى فكانت الحضارة (الإسلامية) ترديداً فى معظمها للحضارة اليونانية أو ترجمة لها بالعربية.
لقد أثمر الفتح العربى تكوين دولة (إسلامية) مترامية الأطراف شملت أجناساً متباينة من فرس وأنباط ومصريين وبربر، واعتبرهم العرب الفاتحون (موالى ) أى مواطنين من الدرجة الثانية . وأولئك الموالى كانت لهم إسهاماتهم فى الحضارة الإسلامية بل هم الذين سيطروا عليها، وكان من الطبيعى أن يسيروا بالمنهج الفكرى الذى تعودوه قبل الإسلام وهو المنهج اليونانى.
المنهج الفكرى للحضارة اليونانية:
تشابهت عقائد الشرق الهندية والغرب اليونانية ، وأدى غزو الإسكندر الأكبر لامتزاج الحضارتين الشرقية والغربية فيما يعرف بالثقافة الهلينية، ومن الطبيعى حينئذ أن تتطابق عقائد الشرق والغرب. ووحدة الوجود التى هى أساس عقائدهم الوثنية لا ترى فارقاً أساسياً بين الخالق والكون، والحضارة اليونانية كانت تعلى من شأن العقل بقدر ما تحتقر العمل اليدوى، من هنا كان العقل المجرد أساساً للبحث اليونانى فى فترته الأولى.
فالعقل اليونانى كان الأساس فى بحث الطبيعة وما فيها من مواد وأجسام، كما كان نفس العقل أساساً للبحث فيما وراء الطبيعة من سمعيات كالألوهية والقضاء والقدر ومشكلة الشر ونشأة العالم..
ومن الطبيعى أن يفشل العقل فى بحث الأمور الطبيعية التى لابد لها من المنهج التجريبى القائم على السير فى الأرض والنظر والتفكر وإجراء التجارب كما أشار لذلك القرآن الكريم.
ومن الطبيعى أيضاً أن يفلس العقل فى بحث ما هو فوق طاقته من ذات الله تعالى وصفاته وقضائه وقدره وجنته وناره. وأدى إفلاس المنهج العقلى إلى البحث عن منهج آخر، وكان البديل منبثقاً عن نفس عقيدة وحدة الوجود، وتم ذلك الانقلاب الجديد على يد أفلوطين السكندرى الذى نشر مذهب الأفلاطونية الحديثة وقد استوحاها من نظرية الفيض الإلهى التى قال بها أفلاطون.
فأفلاطون قال بإمكانية صعود النفس للعقل الإلهى حيث تخلص إلى عالم البقاء وذلك إذا تخلصت النفس من عجز الجسد والمادة، وقد استوحى أفلوطين السكندرى من تلك المقالة نظريته الجديدة فى المنهج الفكرى فطالما أن بإمكان النفس أن تتحد بالعقل الإلهى فيمكنها حينئذ أن تشرق فيها المعرفة الإلهية وتأخذ العلم من لدن الله.
من هنا بدأت مقولة العلم اللدنى فى الوسط المسيحى وأدت إلى تعزيز سيطرة رجال الكهنوت المسيحى الذين اتخذهم الناس أرباباً من دون الله فأصبح من حقهم وحدهم بالرياضات الروحية والأذكار والطقوس أن يصلوا إلى العلم الإلهى حيث لا مجال للاعتراض أو المناقشة أو الحوار مع علم يزعمون أنه من لدن الله تعالى.
ومن الطبيعى حينئذ أن تتوقف الحياة العلمية العقلية التى أظهرتها مناقشات المنهج العقلى الذى ساد قبلاً، فالعلم اللدنى ينظر أصحابه إلى العلم الآخر (العلم الظاهر) نظرى احتقار لأنه علم بشرى مكتسب، ويشترطون فيما يتصدى للحصول على العلم الإلهى اللدنى أن يكون قلبه فارغاً من العلم البشرى وصالحاً لتقلى العلم الإلهى وذلك بوسائل أبعد ما تكون عن تحصيل العلم (الظاهر) والسعى إليه، ثم إذا وصل صاحبنا بزعمه إلى العلم الإلهى فلا اجتهاد مع وجود نص، ولا مجال لمناقشته أو الاعتراض عليه بل يجب أن يؤمن الناس بما يقوله وأن يسمعوا ويطيعوا.
وهكذا كانت مقولة العلم اللدنى هى القاضية على الحياة العلمية، وحين بدأت الفتوحات العربية (الإسلامية) كانت المدارس اليونانية فى الشام والعراق وآسيا الصغرى تعانى من تسلط الكهنوت المسيحى صاحب العلم اللدنى وخرافاته ومزاعمه.
وبهذا انتهى المنهج اليونانى، إلى لا شىء. وكان لابد أن ينتهى إلى نفس النتيجة كل من يتأسى بالمنهج اليونانى، وذلك ما حدث مع الحضارة العربية (الإسلامية).

المنهج الفكرى للمسلمين:
لم يرتبطوا بمنهج القرآن الذى أوضحناه فى بداية المبحث وإنما التزموا منهج اليونان الذى عايشوه قبل الفتح الإسلامى بقرون.
أثر الموالى:
ويرجع ذلك إلى أن الموالى- أبناء البلاد المفتوحة- هم الذين سيطروا على الحياة العلمية حيث انشغل العرب بالسياسة والحكم والحرب والفتن، والعرب أساساً ليسوا أصحاب حضارة ومنهج فكرى، أما الموالى فهم أصحاب حضارة قديمة ولديهم الفراغ حيث لا انقطاع للسياسة أو الحكم، ولديهم أيضاً الدافع للتفوق والامتياز على العرب فى مجال العلم الذى يجيدونه ويتفوقون فيه، ثم لديهم دافع آخر هو توجيه الحضارة الإسلامية إلى ما ألفوه فى سابق حياتهم، ولدى بعضهم حقد على الإسلام وحرص على حربه، ووسيلته للانتقام هى تحريف عقيدة الإسلام بعقائد الشرك تحت ستار الأحاديث و السنن والتشيع والتصوف والحب والوجد، وليس مستغرباً أن يكون رواد الحديث والتشيع والتصوف من الأعاجم ، بل من أصحاب الحرف أحط طبقات المجتمع وقتها.
نظرتهم للقرآن:
والموالى قادة الحضارة الإسلامية سواء كانوا حسنى النية أو سيئى النية نظروا للقرآن الكريم نظرة قاصرة، اعتبروه معجزاً للعرب فى الفصاحة فقط، فحولوه إلى نص فصيح يستشهدون به فى أمور البلاغة والبيان والإعراب، ولا تزال تلك النظرة الخاطئة سارية حتى الآن، وكانت النتيجة أنهم حرموا أنفسهم والعالم والمسلمين من الاستفادة بالقرآن الكريم فى منهجه وحقائقه التشريعية والعلمية التى كانت فى متناول المسلمين منذ أكثر من عشرة قرون دون أن يستفيدوا منها، لأنهم استغرقوا فى إعراب آيات القرآن الكريم وتبين أوجه البلاغة فيها دون فهم حقيقى لمضمونها ومقصودها.
ثم كانت المصيبة الأخرى التى فرض بها الموالى آراءهم على القرآن الكريم وتسللوا بها لتحريف معانيه وتشريعاته وهى اختراع علم (التفسير) ومعلوم أن لفظ (التفسير) لا يناسب أن يرتبط بالقرآن الكريم، فالقرآن الكريم ليس بحاجة لتفسير، فالتفسير إنما يكون للكلام الغامض المستغلق على الفهم، أما القرآن فهو ﴿كتاب مبين﴾ يسره الله تعالى للذكر ﴿وَلَقَدْ يَسّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ﴾ (القمر 17) ﴿فَإِنّمَا يَسّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ﴾ (مريم 97) ﴿فَإِنّمَا يَسّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ﴾ (الدخان 58).
وحقيقى فإن من إعجاز القرآن هو سهولته واقترابه من مدارك الشخص العادى إذا تدبر وتعقل معناه مع كونه فى أعلى درجات الفصاحة المعجزة، ويكفى أنه أعجز العرب الجاهلين فى فصاحته ولا يزال بيننا ميسراً للذكر، هذا مع أننا لو قرأنا شعراً جاهلياً رقيقاً فى الغزل لعجزنا عن فهمه لجزالة لفظة وغرابة معناه، فاللغة كائن حى يتطور حسب ظروف كل مجتمع، ولكن القرآن الكريم فهمه العرب الجاهليون كما فهمه أبناء القرن العشرين. والقرآن الكريم لا يحتاج إلى تفسير لأنه يفسر بعضها بعضاً، فهو كتاب مثانى يجنح للتكرار المعجز، يقول تعالى ﴿وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً﴾ (الفرقان 33) فآيات القرآن هى أحسن تفسيراً لآيات القرآن، والباحث فى القرآن لا يفسره وإنما يتدبر الآيات فى الموضوع المبحوث بمنهج عقلى غير منحاز، وكذلك يجمع الآيات ويستعين ببعضها على البعض ليتوصل إلى حقائق جديدة وليس ذلك بالتفسير، وإنما هو التعقل والتدبر، وتدبر القرآن فريضة إسلامية.
وإذا جاز التسامح فى إطلاق لفظ التفسير على البحث فى كتاب الله تعالى فإنه لا يمكن التسامح مع استخدام ذلك التفسير لفرض آراء البشر على كلام الله تعالى، فهنا يتحول التفسير إلى تحريف، وذلك مع الأسف هو ما ارتبط بعلم التفسير حيث تسللت الإسرائيليات إليه وأفسدت عقائد المسلمين وأفكارهم، ولازلنا حتى اليوم لا نعترف بالآية القرآنية إلا إذا كانت أقوال المفسرين شفيعاً لها، وذلك منتهى الظلم لله تعالى ولكتابه الكريم، وإلى الموالى يرجع ذلك التردى الذى لا زلنا نعيشه فى نظرتنا للقرآن الكريم وتعاملنا معه.
والموالى قادة الحضارة الإسلامية طالما نظروا للقرآن الكريم هذه النظرة فلا يمكن أن يخضعوا له فى منهجهم العلمى ولابد أن تحدث الفجوة بين منهج القرآن والمنهج الذى سارت عليه الحضارة الإسلامية بفعل قادتها من الموالى.
ومن الموالى جاء أئمة الفقه و الحديث و التفسير وما يعرف بعلم الكلام أو العقائد والفلسفات ..
وقاد الموالى الحركة العلمية فى العصرين الأموى و العباسى ، أى عصر البداية وعصر الازدهار، ثم سار على أثرهم اللاحقون فى عصر التقليد والجمود .
وجاءت الوهابية فأعادت للمسلمين ـ فى العصر الحديث والمعاصر ـ أكثر المذاهب تخلفا وتشددا ، ونجحت فى نشره بقوة البترول ، وبأكذوبة أنه ( سنة نبوية )..
ويكفى ان بعض المسلمين فى عصر ثورة المعلومات والاتصالات لا يزالون يتبعون فى تحديد أول رمضان تلك الأكذوبة القائلة ( صوموا لرؤيته..)ويتطلع بعض الشيوخ العميان الى الفضاء لاستطلاع هلال رمضان ، أو يعتمدون شهادة إعرابى يزعم أنه رأى الهلال بين ساقى ناقته، ويريدون فرض (رؤيتهم ) على كل المسلمين ليصوموا تبعا لهم .
هذا مع أن القرآن العظيم أشار الى الحساب الفلكى وسبق به العلم الحديث..
والتفاصيل ستاتى في الحلقات القادمة عما يخص الاعجاز القرآنى فى ( الليل و النهار ).
والله جل وعلا هو المستعان.

-------------------------------------------


سبتمبر 19 ‏7 من رمضان 1428 هـ الأربعاء

منكرو الأعجاز العلمى للقرآن وقضية التدرج العلمى
أولا
المجال الظاهرى للعلم
1 ـــ قلنا فى الحلقة السابقة أن منكرى الأعجاز العلمى فى القرآن الكريم ينطبق عليهم قوله تعالى "يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ : الروم 7" ، وقوله تعالى "فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون : غافر 83 " .أى أنهم بما لديهم من علم سطحى أصابهم الغرور فنظروا بإستخفاف وإستهزاء إلى قضية الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم.
2 ـ واقترب من موقفهم هذا بعض المؤمنين الذين أزعجهم الاحتراف السلفى فى قضية الاعجاز العلمى فى القرآن ( والسنة )،وبعضهم يقلق أن ينجلى الأمر عن إكتشاف أخطاء فى القرآن الكريم حين عرضة على حقائق العلم ، ونسوا أنه إذا حدث خطأ فهو من الباحث نفسه وليس من القرآن الكريم، ولقد تحمل القرآن الكريم أوزار أئمة ما يعرف بالتفسير وخرافاتهم وأكاذيبهم ، والأنصاف يقتضى تبرئة القرآن من أخطاء " المفسرين " وتبرئته أيضا من أخطاء من يتعرض للتدبر فى القرآن الكريم وتحليل قضايانا العلمية والشرعية والخلافية فى رؤية قرآنية. وكل منا يخطىء ، وما أكتبه بالطبع يحتمل الخطأ قبل الصواب ، وإن أخطأت فهى مسئوليتى ولا شأن للقرآن العظيم بخطئى وخطاياى.

3 ـــ وقلنا فيما سبق أن الأنسان يستخدم الماء والكهرباء والقوى المغناطيسية والجاذبية دون أن يفهم ماهيتها ، ونضيف إى ذلك الإنترنت وما سيأتى من مخترعات فى وسائل الإتصالات والمواصلات ، وقلنا أن الأنسان حتى لا يدرى ماهية النفس- أى ذاته وأقرب الأشياء إليه ولا يدرى حقيقة الحياة من أبسط درجاتها " التفاعل الكيماوى فى الجمادات " إلى أعقدها فى الثدييات والأنسان .
ونضيف هنا أن الله تعالى قد حدد للأنسان المجال الخاص به للسمع والرؤية فلا يستطيع أن يرى أقرب الأشياء إليه ، كما لا يستطيع أن يرى كل ما يحيط من أشعة منظورة وغير منظورة وموجات معروفة وغير معروفة والله تعالى يقول "فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ :الحاقة 39:38 " أى ما تستطيعون رؤيته فى المجال البصرى المتاح لكم ، وما لا تستطيعون رؤيته فى المجال البصرى المتاح وخارج نطاقة. أى يقسم الله تعالى بكل المخلوقات و يقسمها الى نوعين بالنسبة للرؤية البشرية ، ما يمكن رؤيته وما لا يمكن رؤيته حتى لو كان فى مجال القدرة البصرية.
ويحاول الانسان بعقله وبمنهجية علمية تجريبية ـ سبق أن دعا اليها القرآن الكريم ـ أن يستفيد مما سخره الله تعالى له بالاختراع كى يعوض النقص فى حواسه ،وليصل برؤيته وسمعه الى أدق وأقصى ما يستطيع الوصول اليه ، من خلال الميكروسكوب و المناظير الفضائية. ومع ذلك يظل هناك ما يستحيل عليه رؤيته ، وقد تكون أقرب المخلوقات اليه كالملائكة التى تسجل عمله ، والقرين الذى يزين له سوء عمله.
ولا يستطيع الانسان أن يسمع كل الأصوات بدءا من احتكاك الذرات والتفاعل الكيماوى بين العناصروالمواد الى زحزحة القارات وانفجارات النجوم وتحولها الى ثقوب سوداء تبتلع وتلتهم داخلها فى جوفها الأسود بلايين النجوم و الكواكب.
وبعض الحشرات و الحيوانات يتسع مجالها البصرى والسمعى ويتفوق على الانسان ، ومن هنا تتعرف على مقدمات الزلازل وتحس به قبل الانسان ، وبدأ الانسان يستفيد من تفوقها عليه ويتعلم منها.
كل هذا اكتشفه الانسان حديثا ، وأدرك أن هناك عوالم هائله غير مرئية تؤثر فى حياته و تغلف جسده ، ويمكن أن يتجنب شرها و يستفيد منها. وبهذا دخل الانسان فى طفرة التكنولوجيا ، وتلك كانت مرحلة هامة بعد المرحلة الأولى من اتباعه المنهج التجريبى ـ فى القرن التاسع عشرـ التى تطرف فيها العلماء فى انكار كل ما لا يمكن لهم أن تصل اليه ايديهم وحواسهم واخضاعه ماديا للتجربة الطبيعية.
ومع التقدم العلمى الحالى فان نتائجه وتوقعاته المستقبلية قلصت الفوارق بين الحقيقة والخيال، وبعد الانترنت والتليفون المتنقل بالصوتوالصورة والانترنت لم يبق للانسان إلا ان ينتقل بجسده متجاوزا الجاذبية الأرضية وسرعة الضوء، أو أن يتحقق بالعلم ذلك الموروث الشعبى الخيالى ( طاقية الاخفاء ) التى يلبسها الانسان فلا يراه احد.
قد يبدو هذا مضحكا ولكن يتخذه العلماء بجدية ساعين الى تحقيقه ، ولو تحقق فلن يكون مجالا للسخرية.
لو قيل لأجدادنا منذ قرنين من الزمان أنه يمكن نقل الصوت والصورة كما يحدث الان فى الانترنت والفاكس والتليفون والقنوات الفضائية لأتهموا القائل بالجنون وأصبح مثار السخرية.. ولكن أصبح هذا الان شيئا عاديا .. ونتطلع للمزيد.
إذن فلماذا يسخر بعضهم من حديث القرآن الكريم عن حقائق علمية لم نكتشفها بعد ؟
ومنها مثلا المعجزة التى حدثت أمام سليمان عليه السلام ، حين قام الذى عنده علم من الكتاب بنقل عرش ملكة سبأ من اليمن الى فلسطين فى أقل من طرفة عين ، أى بأسرع من الضوء ؟
ثانيا
التدرج العلمى فى تاريخ البشرية
1 ـ ومنهج القرآن الكريم فى إيراد الحقائق العلمية سنتعرض له بالتفصيل فى حلقة قادمة ولكن نضطر للتوقف مع أحدى خصائصها وهى قضية التدرج العلمى فى السياق القرآنى نظرا لأنه أساس فى الأعجاز العلمى فى القرآن الكريم.
التدرج العلمى فى التاريخ البشرى ليس خطا مستمرا يجمع البشرية فى صف واحد يتقدم باضطراد فى مضمار العلم والحضارة ، ولكن هذا التدرج عانى فى التاريخ القديم من انعزال المجموعات البشرية وتقطع الاتصال بينها ، فتقدمت حضارات وسادت ثم بادت بينما ظلت مجموعات اخرة رهينة التخلف ، ثم تقدمت أو تمسكت بتخلفها، الى ان دخل العالم كله فى الاتصال والتعرف على بعضه البعض فأخذ التدرج الحضارى ـ حاليا ـ ينحو بالبشرية الى الامام ، بعد ما كان يعتريه فى الماضى البعيد من انحسار و انكسار .
2 ـ هناك حضارات سابقة بائدة تحدث عنها القرآن الكريم منها الحضارة الفرعونية التى لا تزال آثارها تتحدى الزمن. ، وأدى إهلاك هذه الحضارات الى عدم استفادة اللاحقين بمنجزاتهم العلمية والتكنولوجية . بعض تلك الحضارات نشأ وتطور فى شبه الجزيرة العربية مثل قوم عاد وقوم ثمود ، ولا تزال آثارهم تحت رمال الصحراء ، يستطيع التقدم العلمى المعاصر ان يكشف عنها ، يقول تعالى عن جبروت قوم عاد (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ) (فصلت 15 ) ولقد كان النبى هود عليه السلام يقول لقومه عاد (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ) ( الشعراء 128 ـ ) وهذه الايات وما بعدها تشير الى تقدم هائل فى العمران و الزراعة و الصناعة والقوة الحربية ، ويقاربه ما قاله النبى صالح عليه السلام لقومه ثمود (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) ( الشعراء 146) ويقول تعالى عن قوم عاد وثمود غيرهم من الأمم البائدة(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ) ( الفجر 6 ـ )
وبعد قرون طويلة من اهلاكهم ظلت آثارهم ظاهرة مرئية ـ حتى عصر نزول القرآن فى القرن السابع الميلادى ـ تدل على ما كانوا عليه من تقدم ، ولذلك كان الله تعالى يدعو قريشا الى السير فى الأرض لرؤية تلك الآثار للاتعاظ بما حاق باهلها الذين كانوا أكثر قوة و حضارة من قريش برغم أنهم عاشوا قبل قريش بقرون كثيرة ، يقول تعالى (أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ ) (غافر 21) (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(الروم 9)
وفى ضوء الانعزال البشرى وانقطاع التواصل بين الأمم فى التاريخ البشرى القديم فلم يوجد اتصال حضارى مستمر ومستقر يسمح للبشرية بانتاج حضارة عالمية تأخذ فى التطور كما يحدث الان ، بل لم يعرف البشر أبعاد الكرة الأرضية ووجود العالم الجديد فى استراليا و الامريكيتين إلا بحركة الكشوف الجغرافية و ما نتج عنها من استعمار و اكتشاف البخار والدخول فى عصر المخترعات التى اسهمت فى تدعيم وسائل الاتصال بين البشر، الى أن وصلنا الى القرية الكونية الواحدة.
3 ـ إن نزول القرآن ـ كمعجزة أو آية للبشر جميعا ـ هو الذى أعلن بداية تلك المرحلة العالمية كآخر مرحلة فى الوجود البشرى على هذا الكوكب قبل قيام الساعة ، ليس فقط فى انه رسالة الله جل وعلا الأخيرة للعالم كله يخاطب فيها الانسان من عصر محمد عليه السلام الى قيام الساعة ، ولكن أيضا لأن القرآن الكريم يحوى إعجازا علميا يلاحق كل عصر الى قيام الساعة.
وبالتالى يظل فى القرآن بعض الإعجاز العلمي الذى لم يصل اليه عصرنا لأنه موجه للمستقبل ،فلا يصح أن يتندر الغافلون السطحيون عن إشارات علمية لم يأت أوان الكشف عنها بعد لأن تدرج البشر المعرفى و الحضارى فى عصرنا لم يصل الى تلك المرحلة.
4 ـ ولأن القرآن الكريم هو كلمة الله جل وعلا النهائية للبشر الى قيام الساعة فقد أورد قصص السابقين ـ وهو غيب ماض لم نكن لنعلمه لولا أنه جاء فى القرآن الكريم ـ وقص أيضا بعض أحوال المستقبل ، ومنه ما سيحدث من علامات للساعة و قبيل قيامها و مظاهر حدوثها عندما ينفجر العالم و يتم تدميره لتأتى سموات أخرى وأرض أخرى.
ومن حديث القرآن الكريم عن ملمح من ملامح البشرية قبيل قيام الساعة نعرف الآن أن تقدم البشرية سيتطور علميا الى درجة يظنون فيها أنهم متحكمون فى الأرض ممسكون بزمامها ، او بتعبير رب العزة ( قادرون عليها ) ، يقول تعالى عن إحدى علامات الساعة (حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) ( يونس 24).
ولم نصل لهذه المرحلة بعد فلازلنا نغرق فى تسونامى ولا زلنا نصرخ من ثقب الأوزون ولا زلنا عاجزين عن عقد الصلح بين التقدم العلمى و سلامةالبيئة وتوازنها .
إن مرحلة " ان نظن أننا" ( قادرون عليها ) تستلزم الشعور بالثقة فى السيطرة على جموح الطبيعة من الزلازل و البراكين والأعاصير والأوبئة والمجاعات والاستبداد و الفساد، ولن يتحقق هذا إلا قبيل قيام الساعة ، حين ( يظن ) الانسان أنه قادر على التنبؤ بالزلازل فيفاجأ بالزلزال الأكبر الذى يدمر الأرض و العالم (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ) ( الزلزلة 1: 4 ).
وحتى الوصول الى هذه المرحلة يستلزم وفقا للآية الكريمة أن يكون وصولا بالبشر جميعا ـ وعلى قدم المساواة ـ الى هذه الدرجة من التقدم العلمى ـ اى بدون فوارق حضارية ومعرفية بين سكان غابات أفريقيا والقاطنين فى غابات كندا ، أو بتعبير القرآن الكريم (وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ)، أى أهل الأرض جميعا. أى عندها سيتقدم العرب الى مستوى الشعوب الغربية..
أى أنه حين يتقدم العربان ستقوم الساعة..!! يا للهول..!!
5 ـ إذن كان هناك انقطاع فى التطور المعرفى و الحضارى للبشر فى العصور البائدة ، ثم دخلت البشرية فى مجتمع بشرى واحد يتبنى حركة علمية حضارية واحدة أخذت فى التقدم تدريجيا ، وهى فى حركتها الموحدة فى التقدم تكتشف وتخترع المزيد الى ان تأتى الساعة والأرض قد أخذت زخرفها وازينت وظنت البشرية أنها قادرة على التحكم فى الأرض بما فيها من رياح و محيطات و جليد وصحارى و غلاف جوى ..
وطالما لم يصل عصرنا ـ بعد ـ الى تلك المرحلة فستظل هناك إعجازات فى ضمير الغيب ـ و سيظل ما جاء عنها من حقائق أو إشارات علمية فى القرآن موجها الى أحفادنا فى المستقبل ، ومن الخطأ أن ننظر الى تلك الآيات القرآنية باستهزاء لمجرد اننا لا نعرف ولا نعلم.
6 ـ إن الله جل وعلا يقول عن ذاته (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء ) ( البقرة 255) أى إنه جل وعلا يعلم كل ما يحيط بنا ، وكل ما سبقنا وكل ما سيأتى بعدنا فى نفس الوقت الذى لا نعلم شيئا من علمه إلا بالقدر الذى يريده رب العزة ، وطبقا لمشيئته. وعليه فإن الله تعالى يعلم تدرج البشر فى المعرفة ـ وما يتعرض له هذا التدرج من توقف أو نكسات وتأخر و تخلف ـ وفى نفس الوقت فإنه جل وعلا قد حدد المتاح و المقدر للبشر علمه خلال هذا التدرج . وجاء القرآن الكريم باشارات علمية تؤكد هذا التدرج فى ماضى البشر وفى مستقبلهم لأن الذى أنزل الكتاب يعلم الماضى و الحاضر و المستقبل ، وهو الشاهد على من سبق ومن سيأتى ، وهو جل وعلا على كل شىء شهيد.
فإذا أنزل الله جل وعلا إشارات علمية أو حقائق علمية فى كتابه فهى مكرمة الاهية لنا تحفزنا الى العمل ، أولا من أجل تدبرها ، وثانيا لكى نستفيد منها علميا وتكنولوجيا ، فنصبح لائقين لأن نحيط بشىء من علم الله تعالى الذى أنزل بعضه فى القرآن وصاغ على أساسه هذا الكون.
ثالثا
الغيب والتدرج العلمى للبشر
1 ـ نعود إلى قوله تعالى فى تقسيم المخلوقات إلى قسمين : ما نبصره وما لا نبصره "فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ : الحاقة 38- " وهو أقرب للتقسيم القرآنى القائل بعالم الغيب وعالم الشهادة، والله تعالى وحده هو عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ( الرعد :9) .أما بالنسة لنا فالقضية أكثر تعقيدا، فهناك ما لا نبصره ويكون غيبا لكننا نستخدمه لأنه مسخر لنا مثل الكهرباء والمغناطيسية والموجات المختلفة.
2 ـ وهذا يدخل بنا على تحديد ماهية الغيب، وطبقا للقرآن الكريم فهناك نوعان من الغيب :الغيب الجزئى والغيب الكلى .
الغيب الكلى نوعان:
*نوع يستحيل رؤيته مطلقا وهو ما يتعلق بالله عز وجل الذى يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار " لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ : الأنعام 103" *ونوع تستحيل رؤيته فى هذا العالم الدنيوى فقط مثل الجن والملائكة والشياطين " إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ: الأعراف 27 " لا نستطيع رؤيتهم فى الدنيا ولكن نرى الملائكة عند الموت وفى اليوم الأخر "إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ : ق 18:17 ، وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ : 22:21" ، "(أيضا : الزخرف 38:36 و الأنعام 128) .
الغيب الأخر الجزئى هو المتاح رؤيته فى هذا العالم . فأنت مثلا فى القاهرة وأخوك فى روسيا . ما يفعله أخوك غيب بالنسبة لك ، وما تفعله فى القاهرة غيب بالنسبة له . هذا الغيب الجزئى يتقلص مع التقدم العلمى البشرى فى وسائل الإتصالات والمواصلات . فى القرون الوسطى كان ما يحدث فى مكة يعرف فى طنجة فى خلال عدة أشهر يظل خلالها معرفة ذلك الحدث فى إطار الغيب الجزئى المتاح . الآن تلاشى الزمن وأصبح الخبر ينقل بالصوت والصورة فى نفس الدقيقة . ونتحدث هنا عن نقل الخبر عن الحدث وليس الحدث نفسه . لأن نقل الحدث ذاته ماديا وعضويا يستلزم تحييد الجاذبية الأرضية وتلك مرحلة متاحة ولكن لم نصل إليها بعد ، وإن كان القرآن الكريم قد أشار إليها فى قصة عرش سبأ وسليمان .
هذا الغيب الجزئى هومسرح التدرج العلمى للبشر،ولقد تقلص هذاالغيب الجزئى بالإكتشافات العلمية وتطبيقاتها التكنولوجية من إستعمال الدواب إلى السفن الشراعية إلى قوة البخار إلى الكهرباء والموجات فوق الصوتيه وإستخدام الطاقة الشمسية .
(عالم الغيب والشهادة) جل وعلا هو وحده الذى يعلم الماضى والحاضر والمستقبل ، ويعلم مقدما مسيرة الحضارة البشرية . ومدى ما يحققه كل جيل من تقدم أو تأخر . وقد أخبر أن نهاية هذا العالم ستأتى يوم تصل الحضارة البشريه إلى نهاية زخرفها وتقدمها ، ( يونس 24).
ونحن الأن نسير لهذا المصير حيث بدأ الاحساس بالقرية الكونية الواحدة والمجتمع العالمى والحلم فى حكومة عالمية موحدة وتدعم الاهتمام الجماعى بكوكب الأرض ، وعقد مؤتمرات قمة لبحث سلامة الكرة الأرضية. وبدأت الأرض تتزين وتتزخرف، وزحف التقدم على جزء كبير من المعمورة ، وأصبح الأنسان يحلم بالوصول الى مرحلة يظن فيها أنه قادر ومتحكم فى هذا الكوكب..
لم نصل لنهاية المطاف ، ومعناه أن هناك من عناصر التقدم والقوة والمكتشفات العلمية ما لم نصل إليه، وان كنا نحاول ذلك بدليل البحث عن موارد طاقة متجددة من الشمس والماء تكون اكثر سهولة وأكثر صداقة للبيئة .. وأحلام أخرى كثيرة ستمكننا من الوصول الى مرحلة (وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ)، والذى أخبر عن نهاية المطاف فى الأية الكريمة السابقة هو جل وعلا الذى أشار فى القرآن إلى حقائق علمية لم نكتشفها ولا تزال مدخرة لتكون إعجازا للأجيال التالية ، بالضبط كما اصبحت آيات القرآن الكريم عن خلق العالم وغيرها إعجازا لعصرنا بعد أن عرفناها.
رابعا
التدرج العلمى و معجزات الأنبياء

1 ـ بعض الأعجاز العلمى أورده القرآن الكريم فى سياق قصص الأنبياء فى الإعجاز الخاص بهم . ومصطلح الإعجاز بمفهومه المستعمل الأن ليس من مصطلحات القرآن فالمصطلح القرآنى هو كلمة " آية " .
والآيات التى وردت فى قصص الأنبياء تنقسم إلى نوعين :نوع للتحدى مثل القرآن الكريم والآيات المعطاة لموسى ، ونوع للإكرام أو الإنقاذ مثل إنقاذ إبراهيم من النار ، والإسراء بمحمد من المسجد الحرام للمسجد الأقصى ، ومثل الآيات التى أعطاها الله تعالى لداود وسليمان – عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام .
2 ـ بعض هذا الإعجاز أو الأيات الواردة فى قصص الأنبياء يدخل ضمن الغيب الممكن ، أو الحدث الممكن ، أو الشىء الممكن عمله لولا أنه جاء سابقا لزمانه ووقته .
وعلى سبيل المثال لو افترضنا أنك سافرت خلال الزمن إلى الماضى ورجعت إلى عصر النبى إبراهيم عليه السلام ومعك جهاز كومبيوتر أوالتلفاز أو نزلت إليهم من طائرة أو حتى دراجه ... لأصبحت ذلك آية لك ، مع أن تلك الآيات هى منجزات بشرية إلا أنها سبقت عصرها .
نفس الحال مع – بعض – الآيات والمعجزات التى جاءت فى قصص بعض الأنبياء .
فالأسراء أو السفر ليلا أو خلال ليلة واحدة كان آية فى عصر النبى محمد عليه السلام ، لكنه ليس آية فى عصرنا . حيث أن بمقدورنا أن نسير نفس المسافة ونعود فى نفس الليلة .
فى عصرنا الحالى ليس مستبعدا أن يوضع أنسان فى نار تتأجج دون أن تمسه النار ، وأن يخرج منها سليما معافى كما خرج إبراهيم علي السلام "قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ : الأنبياء 69".
فى عصرنا الحالى أصبح من الممكن جدا شفاء الأبرص الذى كان شفاؤه معجزة لعيسى عليه السلام "وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ : آل عمران 49 " .
شفاء الأكمه – أى المولود أعمى- قد لا يكون مستحيلا فى عصرنا ، ولكن أن يخبرهم عيسى بما يأكلونه وما يدخرونه فى بيوتهم فهذا يدخل ضمن الغيب الجزئى وهو ممكن فى عصرنا بإستخدام أجهزة التصنت . واسألوا أجهزة أمن الدولة فى كل دول العالم .
3 ـ المستحيل فى عصرنا وفى كل عصر هو خلق الطير من الطين وإحياء الموتى، فتلك المعجزة أو الآية أعطاها الله تعالى للمسيح عليه السلام لا يمكن لأى تقدم علمى أن يأتى بها أو حتى الإقتراب منها ، مثلها فى ذلك مثل آية موسى فى تحويل الحبال والعصى إلى ثعابين حقيقية وليست سحرية .
4 ـ لنترك جانبا ما يستحيل على البشر تحقيقة فى إنجازاتهم العلمية ومسيرتهم على هذا الكوكب ونتوقف مع ما يمكنهم تحقيقه منها ..
وطبقا للنسق القرآنى فيما يخص معجزات أو آيات الأنبياء نجد تلك الممكنات نوعين : منها ما أنجزه البشر فعلا فى تقدمهم العلمى مثل الأسراء وشفاء الأبرص وتحييد النار ، ومنها ما لم ينجزه البشر بعد وهو متروك لهم لتحقيقة فى المستقبل.

--------------------------------------------------------


ومن النوع الأخير بعض آيات ومعجزات داوود وسليمان .
وننتظركم فى الحلقة القادمة .
بسم الله الرحمن الرحيم
د. أحمد صبحى منصور
الحلقة الرابعة

الأربعاء 10 أكتوبر2007م، 28 رمضان 1428 هـ

الإعجاز العلمى ومعجزات داود وسليمان عليهما السلام

طبيعة الرسالة

أقام النبى داود دولة بنى إسرائيل وحكمها بعده أبنه سليمان ، وكلاهما من أنبياء الله تعالى ، وقد كان إبتلاؤهما بالنعمة وليس بالشدائد . وقد تركزت عقيدة " لا إله إلا الله " فى بنى إسرائيل فى هذا العهد بتوالى الرسل والكتب السماوية من هارون وموسى عليهما السلام إلى إقامة دولة بنى إسرائيل ، ولذلك فإن الكتاب السماوى الذى نزل على داود عليه السلام لم يركز على الدعوة إلى " لا إلى إلا الله " بقدر تركيزه على النواحى العلمية التى تجلت فى الأعجازات التى أعطاها الله تعالى لداود وورثها أبنه سليمان عليهما السلام ضمن الكتاب السماوى " الزبور" الذى ورثه سليمان عن أبيه.

الزبور
يقول تعالى "إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا : النساء 163" ، أى هنا تميز فى مجال الوحى والكتاب المنزل ، يتجلى فى أن الله تعالى ذكر داود وحده فى نهاية الآية، حيث ذكر أنه أوتى الزبور . وتكرر نفس المعنى فى قوله تعالى " وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا : الإسراء 55" . أى أن الله تعالى قد ميز وفضًل داود عليه السلام بإعطائه الزبور.

مصطلح الزبور فى القرآن الكريم

وكلمة الزبور فى اللغة العربية يعنى الكتاب ، وفى الجمع يقال " الزبر " أى الكتب .
وفى مصطلحات القرآن يطلق الزبور على :
1 ـــ وصف للكتب السماوية على العموم "فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ : آل عمران 184 " ، " وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ : النحل44:43 " . أى أرسلناهم بالكتب البينات والزبر اى الكتب .
ويقول تعالى عن القرآن الكريم : "وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ : الشعراء 196 " "أى أن ما جاء فى القرآن الكريم جاء سابقا فى الكتب السماوية السابقة ، كما قال تعالى " مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ": فصلت 43"
2 ـ الكتب المزيفة فى الدين والتى تقوم على أساسها الأديان الأرضية ، وبها يختلف أتباع الدين الإلهى الواحد إلى فرق وأحزاب، ولكل حزب كتاب مقدس أو عدة كتب مقدسة ، يقول الله تعالى عن الرسل السابقين والأمم السابقة فى وحدة الكتاب ووحدة الدين " يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ : المؤمنون 52:51" هنا كلام عام عن الأصل النقى لكل الرسالات السماوية ، ولكن يحدث دائما أن يختلف الأتباع وينحرفون عن المنهاج القويم ويفترقون إلى جماعات وأحزاب . لكل منهم كتاب مقدس ، لذا يقول تعالى فى الآية التالية:" فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ : المؤمنون 53 ". وهنا تكرار موجز لتاريخ كل الرسالات السماية فى مرحلة الدين الحق ، ومرحلة التفرق و تكوين الأديان الأرضية لكل دين أرضى كتابه المقدس أو كتبه المقدسة أو الزبزر أو الزبر الخاصة به . وقد تكرر نفس المعنى فى قوله تعالى " إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ : الأنبياء 93:92".
وهذا بالضبط ما حدث للمسلمين حين أقاموا لهم أديانا أرضية ولكل منها كتاب مقدس . ليس أولها " البخارى " وليس آخرها " كشف الشبهات ".
3 ـــ ويأتى بمعنى كتاب الأعمال التى تسجلها الملائكة تسجيلا جماعيا لكل قوم وتسجيلا فرديا لكل شخص " وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ : القمر 52".
4 ـــ ووردت أشارة إلى الزبور فى قصة يأجوج ومأجوج وذى القرنين الذى حصرهم داخل جوف الأرض مستعملا ما أعطاه الله جل وعلا من إمكانات علمية وتقنية متقدمة لم نصل اليها فى عصرنا، كان منها " زبر الحديد " أى كتاب الحديد ، يقول تعالى " آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا : الكهف 96". وسنتوقف مع موضوع يأجوج ومأجوج ضمن الإعجاز العلمى المدخر للمستقبل فى القرآن الكريم .
5 ـ وأيضا يطلق الزبور على الكتاب العلمى الذى أعطى لداود وسليمان ، وهو كتاب لم يخل من آيات التوحيد والإخبار عن المستقبل ، وقد أورد القرآن الكريم بعض آياته فقال تعالى " وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ : الأنبياء 106:105 "
الزبور ومعجزات داود وسليمان :

تحدث رب العزة عن آيات ومعجزات داود وسليمان فى أربعة مواضع :-
1 ـ يقول تعالى " فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ : الأنبياء 82:79 "
2 ـ ويقول تعالى " وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ـ " : النمل 15 ـ"
3 ـ ويقول أيضا جل وعلا " وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ :سبأ 13:10 "
4 ـ وأخيرا يقول تعالى " اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ : ص 20:17"
أى أن داود قد أعطاه الله تعالى معجزات إدراك تسبيح الطير والجبال وصناعة الحديد . أما أبنه سليمان فقد أعطاه الله تعالى تسخير الريح وتسخير الشياطين والجن ومعرفة منطق الطير أو لغة الطيور وإسالة أو إذابة عين القطر (النحاس ).
وواضح أن هناك من تلك المعجزات ما يقع خارج إمكانات البشر مثل تسخير الشياطين والجن ومعرفة تسبيح الطير والجبال،وإن منها ما يقع فى إمكانات البشر مثل صناعة الحديد وإذابة النحاس ، والزبور أو ذلك الكتاب العلمى الإلهى هو الذى مكن داود من ذلك التسخير وتلك المعرفة .
وعندما ورث أبنه سليمان ذلك الكتاب توسع فى الأستفادة به ، بل كان هناك من المحيطين به من يستطيع إستعمال نفس الكتاب " الزبور" وقد استطاع به أن يحضر عرش ملكة سبأ فى أقل من لمح البصر ، أى كانت له قدرة الإفلات من قبضة الجاذبية الأرضية وإستحضار الأشياء بأسرع من سرعة الضوء. وتلك مرحلة يتمنى البشرالوصول إليها فى المستقبل القريب.
نقل عرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين :
يقول الله تعال فى قصة سليمان وملكة سبأ " قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ : النمل 40:38".
أى أن الذى عنده علم من الكتاب " أى المتخصص فى الزبور"أستطاع أن ينقل عرش الملكة قبل أن يرتد طرف سليمان إليه ، أى بأسرع من الضوء، وتلك كانت ولا تزال معجزة حتى عصرنا ، وإن كانت تقع فى إطار الممكن علميا وتكنولوجيا حين يصل البشر إلى معرفة كيفية تحييد الجاذبية الأرضية .
لست متخصصا فى العلوم الطبيعية ، وعملى هنا هو فى تحليل النصوص القرآنية التى تحوى إعجازا علميا تاركا المجال للمتخصصين فى العلوم الطبيعية ليبحثوا محتواها العلمى ،وقد أذكر بعض المعلومات العلمية ، وهى تحتاج من المتخصصين للتصحيح و الشرح ، فهم الذين يستطيعون ـ فيما يخص موضوعنا الآن ـ توضيح تحكم الجاذبية وقوة الطرد المركزية فى دوران الأرض فى مدارها الثابت حول الشمس وحول نفسها، وفى إمكانية إنتقال الإنسان والدواب فوق سطح الأرض وفق سرعات تتفاوت ولكن لا يمكن أن تصل الى سرعة الضوء ، لأنها الحد الأقصى للسرعات المكتشفة حتى الان ـ ولا يمكن أن تصل اليها المادة إلا إذا تحولت الى طاقة ضوء.
هذا مبلغ علمى ، وبقدر ما أعلم فانه إذا تم تحييد الجاذبية الأرضية ، أوالخروج عن سيطرتها أمكن للمواد والأنسان أن ينتقل من مكان لأخر بأسرع من سرعة الضوء.
وهذا ما حققه "الذى عنده علم من الكتاب ".
الزبور و السلطان
المعنى المفهوم أن هذا الكتاب " الزبور " هو ( السلطان) الذى به يمكن الإفلات من قبضة الزمن والجاذبية ، أى بهذا السلطان يستطيع الانسان ـ والجن ـ الخروج من أقطار السماوات والأرض مصداقا لقوله تعالى "يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ : الرحمن 33" . وبدون هذا السلطان يتعرض البشر للإحتراق والمحو فى طبقات الفضاء ، يقول تعالى ِ :" يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ "."الرحمن 35".
لو كان هذا مستحيلا على البشر لما جاء رب العزة بالإستثناء ( إلا بسلطان ) أى أنه فى نطاق الممكن وفى إطار مشيئة الرحمن يمكن للبشر الوصول الى الاحاطة ببعض علم الله تعالى فى هذا الكون ، يقول تعالى " يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء ": البقرة 255 ".
وربما يستطيع البشر تحقيق ذلك قبيل قيام الساعة حين تأخذ الأرض زخرفها وتتزين ويظن أهلها أنهم قادرون عليها " حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ : يونس 24 " .
وفى كل الأحوال فهو إعجاز علمى مدخر للمستقبل ، وهو إعجاز علمى يشجع البشر على الطموح إلى تحقيق هذا الممكن المشار إليه فى القرآن الكريم ...

وقدر فى السرد

إذا كان نقل عرش بلقيس بأسرع من الصوت يفوق أمكانياتنا الحالية ، فهو بالتالى كان آية فى عصر سليمان منذ أكثر من 25 قرنا من الزمان .
المعجزة الكبرى فى كتاب الزبور أنه لم يخبر فقط عن معلومات أو حقائق علمية سابقة لعصرها كما يحدث فى القرآن الكريم ، وإنما كان يتبعها تطبيق تلك الحقائق على أرض الواقع ؛ فالمكتوب فى " الزبور " عن تسخير الجاذبية والأفلات منها تم تطبيقه فى نقل عرش ملكة سبأ ،والمذكورعن الحديد وعن النحاس تم تطبيقة عمليا فى الصناعة، وهكذا فى تسخير الجن والشياطين والكلام مع الطيور والنمل .
ويقول تعالى عن أحدى التطبيقات التى تدخل فى إطار الممكن لنا "وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ : سبأ 12" ، والحديث هنا عن معجزة سليمان فى إذابة أو إسالة ليس النحاس ولكن " عين النحاس " أى التحكم فى خصائصة الذرية بالإذابة .
ويقول تعالى عن إستعمال داود عليه السلام لعنصر الحديد " وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ : سبأ 10 " ليس إذابة الحديد وتسييله ، ولكن إلانته وتطويعه بطريقة باردة يمكن بها تحويل الحديد إلى ثياب لدنة لينة مريحة يرتديها البشر ، يقول تعالى :" وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ":سبأ 10 :11"أى أن إعمل من الحديد دروعا حديدية تغطى الجسد كله يرتديها الإنسان فلا تعوق حركته ولا تبطئها، أى هو حديد لين كالقماش الخفيف .
وهذا كله فى إطار الممكن لنا وسنصل إليه فى المستقبل المحدد لنا سلفا ليكون تطبيقا لإشارة علمية جاءت فى القرآن الكريم .
وهذا التطبيق التكنولوجى للحقائق العلمية التى جاء بها الزبور كان سابقا لعصره وعصرنا.
وحتى نفهم طبيعة التدرج العلمى فى التاريخ فلنتدبر قوله تعالى لداود " وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ".
التقدير هو الحساب أو عمل خطة يتم على أساسها تطبيق حقيقة علمية . أنها أشبه لما نعرفه الأن بدراسة الجدوى التى لابد منها لأقامة مشروع ما . هذا التقدير يتعامل مع الواقع البشرى والواقع المادى بكل تعقيداته وظروفه لأنه يؤسس واقعا على الأرض بين الناس . هذا عن التقدير ..
فماذا عن السرد ؟
السرد هو التتابع الزمنى فى الأحداث سواء كانت فى قصة أو حادثة تاريخية أو حركة بشرية على الأرض . والمفهوم هنا أن الله تعالى أمر داود عليه السلام وهو يقوم بتطبيق الآيات السابقة لزمنها أن يراعى ويقدر الزمن الذى يعيش فيه الناس لأن ثقافة الناس وظروفهم لا تستوعب هذا التقدم التكنولوجى الهائل والذى من المقرر أن تصل إليه البشرية بعد عشرات من القرون . وحين تصل البشرية إلى هذه التكنولوجيا ستمارسها وتعتاد عليها لأنها – أى البشرية – أصبحت مؤهلة لهذا التقدم العلمى وآثاره الجانبية .
وهكذا كان على داود ـ وهو يصنع الدروع الحديدية ثيابا لينة طرية للناس ـ أن يعلمهم كيفية الإستعمال حتى يرتفع بهم إلى مستوى التكنولوجية التى جىء بها قبل الأوان .
وهو درس – لو تعلمون – عظيم . لأننا نحن العرب والمسلمين لسنا ـ مع الأسف ـ مؤهلين للتكنولوجيا واستعمالها الآمن بدليل أن نعمة الأنترنت أظهرت فينا أمراضا تتمثل فى صعاليك الأنترنت الذين يكتبون ولا يقرأون وعلى العلماء يتطاولون .

أضحك مع المفسراتية

ولمداعبة صعاليك الأنترنت وعبيد التراث ولكى نتعرف على الفارق بين علم القرآن وجهل المفسراتية ننقل (بعض) إجتهادات القرطبى فى قصص داود وسليمان .
يقول فى معنى قوله تعالى (وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين ‏ ) :
قال مقاتل في الآية‏:‏ كان سليمان جالسا ذات يوم إذ مر به طائر يطوف، فقال لجلسائه‏:‏ أتدرون ما يقول هذا الطائر‏؟‏ إنها قالت لي‏:‏ السلام عليك أيها الملك المسلط والنبي لبني إسرائيل‏!‏ أعطاك الله الكرامة، وأظهرك على عدوك، إني منطلق إلى أفراخي ثم أمر بك الثانية؛ وإنه سيرجع إلينا الثانية ثم رجع؛ فقال إنه يقول‏:‏ السلام عليك أيها الملك المسلط، إن شئت أن تأذن لي كيما أكتسب على أفراخي حتى يشبوا ثم آتيك فافعل بي ما شئت‏.‏ فأخبرهم سليمان بما قال؛ وأذن له فانطلق‏.‏ وقال فرقد السبخي‏:‏ مر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه، فقال لأصحابه‏:‏ أتدرون ما يقول هذا البلبل‏؟‏ قالوا لا يا نبي الله‏.‏ قال إنه يقول‏:‏ أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء‏.‏ ومر بهدهد فوق شجرة وقد نصب له صبي فخا فقال له سليمان‏:‏ احذر يا هدهد‏!‏ فقال‏:‏ يا نبي الله‏!‏ هذا صبي لا عقل له فأنا أسخر به‏.‏ ثم رجع سليمان فوجده قد وقع في حبالة الصبي وهو في يده، فقال‏:‏ هدهد ما هذا‏؟‏ قال‏:‏ ما رأيتها حتى وقعت فيها يا نبي الله‏.‏ قال‏:‏ ويحك‏!‏ فأنت ترى الماء تحت الأرض أما ترى الفخ‏!‏ قال‏:‏ يا نبي الله إذا نزل القضاء عمي البصر‏.‏ وقال كعب‏.‏ صاح ورشان عند سليمان بن داود فقال‏:‏ أتدرون ما يقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ إنه يقول‏:‏ لدوا للموت وابنوا للخراب‏.‏ وصاحت فاختة، فقال‏:‏ أتدرون ما تقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ إنها تقول‏:‏ ليت هذا الخلق لم يخلقوا وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا‏.‏ وصاح عنده طاوس، فقال‏:‏ أتدرون ما يقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ إنه يقول‏:‏ كما تدين تدان‏.‏ وصاح عنده هدهد فقال‏:‏ أتدرون ما يقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فإنه يقول‏:‏ من لا يرحم لا يرحم‏.‏ وصاح صرد عنده، فقال‏:‏ أتدرون ما يقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ إنه يقول‏:‏ استغفروا الله يا مذنبين؛ فمن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله‏.‏ وقيل‏:‏ إن الصرد هو الذي دل آدم على مكان البيت‏.‏ وهو أول من صام؛ ولذلك يقال للصرد الصوام؛ روي عن أبي هريرة‏.‏ وصاحت عنده طيطوى فقال‏:‏ أتدرون ما تقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ إنها تقول‏:‏ كل حي ميت وكل جديد بال‏.‏ وصاحت خطافة عنده، فقال‏:‏ أتدرون ما تقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ إنها تقول‏:‏ قدموا خيرا تجدوه؛ فمن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها‏.‏ وقيل‏:‏ إن آدم خرج من الجنة فاشتكى إلى الله الوحشة، فآنسه الله تعالى بالخطاف وألزمها البيوت، فهي لا تفارق بني آدم أنسا لهم‏.‏ ..‏ وهدرت حمامة عند سليمان فقال‏:‏ أتدرون ما تقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ إنها تقول‏:‏ سبحان ربي الأعلى عدد ما في سماواته وأرضه‏.‏ وصاح قمري عند سليمان، فقال‏:‏ أتدرون ما يقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال إنه يقول‏:‏ سبحان ربي العظيم المهيمن‏.‏ وقال كعب‏:‏ وحدثهم سليمان، فقال‏:‏ الغراب يقول‏:‏ اللهم العن العشار؛ والحدأة تقول ‏:( ‏كل شيء هالك إلا وجهه‏) ‏.‏ والقطاة تقول‏:‏ من سكت سلم‏.‏ والببغاء تقول‏:‏ ويل لمن الدنيا همه‏.‏ والضفدع يقول‏:‏ سبحان ربي القدوس‏.‏ والبازي يقول‏:‏ سبحان ربي وبحمده‏.‏ والسرطان يقول‏:‏ سبحان المذكور بكل لسان في كل مكان‏.‏
وقال مكحول‏:‏ صاح دراج عند سليمان، فقال‏:‏ أتدرون ما يقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ إنه يقول‏: (‏الرحمن على العرش استوى ) ، وقال الحسن قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الديك إذا صاح قال اذكروا الله يا غافلين ) ‏‏.‏ وقال الحسن بن علي بن أبي طالب قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏النسر إذا صاح قال يا ابن آدم عش ما شئت فآخرك الموت وإذا صاح العقاب قال في البعد من الناس الراحة وإذا صاح القنبر قال إلهي العن مبغضي آل محمد وإذا صاح الخطاف قرأ ‏(‏الحمد لله رب العالمين‏) ‏ إلى آخرها فيقول‏ (‏ولا الضالين )‏ ويمد بها صوته كما يمد القارئ‏.‏
ويقول القرطبى فى معنى قوله تعالى :
‏{‏ حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون، فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ‏}‏
قوله ‏{‏قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم‏}‏قال الشعبي‏:‏ كان للنملة جناحان فصارت من الطير، فلذلك علم منطقها ولولا ذلك لما علمه‏.‏..‏ قال كعب‏:‏ مر سليمان عليه السلام بوادي السدير من أودية الطائف، فأتى على وادي النمل، فقامت نملة تمشي وهي عرجاء تتكاوس مثل الذئب في العظم؛ فنادت‏: (‏يا أيها النمل‏}‏الآية‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال، وكانت تمشي وهي عرجاء تتكاوس؛ وقيل‏:‏ كان اسمها طاخية‏.‏ وقال السهيلي‏:‏ ذكروا اسم النملة المكلمة لسليمان عليه السلام، وقالوا اسمها حرميا..
وقال وهب‏:‏ أمر الله تعالى الريح ألا يتكلم أحد بشيء إلا طرحته في سمع سليمان؛ بسبب أن الشياطين أرادت كيده‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن هذا الوادي كان ببلاد اليمن وأنها كانت نملة صغيرة مثل النمل المعتاد قاله الكلبي‏.‏ وقال نوف الشامي وشقيق بن سلمة‏:‏ كان نمل ذلك الوادي كهيئة الذئاب في العظم‏.‏ وقال بريدة الأسلمي‏:‏ كهيئة النعاج‏.‏ ‏ ‏.‏
قلت‏:‏ وقوله ‏{‏لا يحطمنكم‏}‏يدل على صحة قول الكلبي؛ إذ لو كانت كهيئة الذئاب والنعاج لما حطمت بالوطء؛ والله أعلم‏.‏ وقال ‏{‏ادخلوا مساكنكم‏}‏فجاء على خطاب الآدميين لأن النمل ههنا أجري مجرى الآدميين حين نطق كما ينطق الآدميون‏.‏ قال أبو إسحاق الثعلبي‏:‏ ورأيت في بعض الكتب أن سليمان قال لها لم حذرت النمل‏؟‏ أخفت ظلمي ‏؟‏ أما علمت أني نبي عدل‏؟‏ فلم قلت‏}‏يحطمنكم سليمان وجنوده‏}‏فقالت النملة‏:‏ أما سمعت قولي‏}‏وهم لا يشعرون‏}‏مع أني لم أرد حطم النفوس، وإنما أردت حطم القلوب خشية أن يتمنين مثل ما أعطيت، أو يفتتن بالدنيا، ويشغلن بالنظر إلى ملكك عن التسبيح والذكر‏.‏ فقال لها سليمان‏:‏ عظيني‏.‏ فقالت النملة‏:‏ أما علمت لم سمي أبوك داود‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قالت‏:‏ لأنه داوى جراحة فؤاده؛ هل علمت لم سميت سليمان‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قالت‏:‏ لأنك سليم الناحية على ما أوتيته بسلامة صدرك، وإن لك أن تلحق بأبيك‏.‏ ثم قالت‏:‏ أتدري لم سخر الله لك الريح‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قالت‏:‏ أخبرك أن الدنيا كلها ريح‏.‏ ‏{‏فتبسم ضاحكا من قولها‏}‏متعجبا ثم مضت مسرعة إلى قومها، فقالت‏:‏ هل عندكم من شيء نهديه إلى نبي الله‏؟‏ قالوا‏:‏ وما قدر ما نهدي له‏!‏ والله ما عندنا إلا نبقة واحدة‏.‏ قالت‏:‏ حسنة؛ ايتوني بها‏.‏ فأتوها بها فحملتها بفيها فانطلقت تجرها، فأمر الله الريح فحملتها، وأقبلت تشق الإنس والجن والعلماء والأنبياء على البساط، حتى وقعت بين يديه، ثم وضعت تلك النبقة من فيها في كفه، وأنشأت تقول‏:‏
ألم ترنا نهدي إلى الله ماله وإن كان عنه ذا غني فهو قابله
ولو كان يهدي للجليل بقدره لقصر عنه البحر يوما وساحله
ولكننا نهدي إلى من نحبه فيرضى به عنا ويشكر فاعله
وما ذاك إلا من كريم فعاله وإلا فما في ملكنا ما يشاكله
فقال لها‏:‏ بارك الله فيكم؛ فهم بتلك الدعوة أشكر خلق الله وأكثر خلق الله‏.‏
‏"‏روى مسلم من حديث أبي هريرة‏"‏ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أن نملة قرصت نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله تعالى إليه أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح‏)‏ وفي طريق آخر فهلا نملة واحدة ‏.‏
ونستمر مع أساطير القرطبى :‏
قوله ‏{‏قال عفريت من الجن) ....‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ اسم هذا العفريت كودن؛ ذكره النحاس‏.‏ وقيل‏:‏ ذكوان؛ ذكره السهيلي‏.‏ وقال شعيب الجبائي‏:‏ اسمه دعوان‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه صخر الجني
وفي الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن عفريتا من الجن جعل يفتك علي البارحة ليقطع علي الصلاة وإن الله أمكنني منه فدعته‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر الحديث‏.‏‏"‏ وفي البخاري‏"‏ ‏(‏تفلت على البارحة‏)‏ مكان ‏(‏جعل يفتك‏)‏‏.‏‏"‏ وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد‏"‏ أنه قال‏:‏ أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار، كلما التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه؛ فقال جبريل‏:‏ أفلا أعلمك كلمات تقولهن إذا قلتهن طفئت شعلته وخر لفيه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بلى‏)‏ فقال‏:‏ ‏(‏أعوذ بالله الكريم وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء وشر ما يعرج فيها وشر ما ذرأ في الأرض، وشر ما يخرج منها ومن فتن الليل والنهار ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن )..‏
قوله ‏{‏أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك‏}‏يعني في مجلسه الذي يحكم فيه‏.‏ ‏{‏وإني عليه لقوي أمين‏}‏أي قوي على حمله‏.‏ ‏{‏أمين‏}‏على ما فيه‏.‏ ابن عباس‏:‏ أمين على فرج المرأة؛ ذكره المهدوي‏.‏ فقال سليمان أريد أسرع من ذلك؛ فـ ‏{‏قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك‏}‏أكثر المفسرين على أن الذي عنده علم من الكتاب آصف بن برخيا وهو من بني إسرائيل، وكان صديقا يحفظ اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب‏.‏ وقالت عائشة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن اسم الله الأعظم الذي دعا به آصف بن برخيا يا حي يا قيوم‏)‏ قيل‏:‏ وهو بلسانهم، أهيا شراهيا؛ وقال الزهري‏:‏ دعاء الذي عنده اسم الله الأعظم؛ يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ايتني بعرشها؛ فمثل بين يديه‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ دعا فقال‏:‏ يا إلهنا وإله كل شيء يا ذا الجلال والإكرام‏.‏ قال السهيلي‏:‏ الذي عنده علم من الكتاب هو آصف بن برخيا ابن خالة سليمان، وكان عنده اسم الله الأعظم من أسماء الله تعالى‏.‏
‏{‏ قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون، فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين، وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين ‏}‏
قوله ‏{‏قال نكروا لها عرشها‏}‏أي غيروه‏.‏ قيل‏:‏ جعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه‏.‏ وقيل‏:‏ غيّر بزيادة أو نقصان‏.‏ قال الفراء وغيره‏:‏ إنما أمر بتنكيره لأن الشياطين قالوا له‏:‏ إن في عقلها شيئا فأراد أن يمتحنها‏.‏ وقيل‏:‏ خافت الجن أن يتزوج بها سليمان فيولد له منها ولد فيبقون مسخرين لآل سليمان أبدا، فقالوا لسليمان‏:‏ إنها ضعيفة العقل، ورجلها كرجل الحمار؛ فقال ‏{‏نكروا لها عرشها‏}‏لنعرف عقلها‏.‏ وكان لسليمان ناصح من الجن، فقال كيف لي أن أرى قدميها من غير أن أسألها كشفها‏؟‏ فقال‏:‏ أنا أجعل في هذا القصر ماء، وأجعل فوق الماء زجاجا، تظن أنه ماء فترفع ثوبها فترى قدميها؛ فهذا هو الصرح الذي أخبر الله تعالى عنه‏.‏
‏{‏ قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ‏}‏
قوله ‏{‏قيل لها ادخلي الصرح‏}‏
وقيل‏:‏ الصرح الصحن؛ كما يقال‏:‏ هذه صرحة الدار وقاعتها؛ بمعنى‏.‏ وحكى أبو عبيدة في الغريب المصنف أن الصرح كل بناء عال مرتفع من الأرض .. ‏.‏ وقيل‏:‏ عمله ليختبر قول الجن فيها إن أمها من الجن، ورجلها رجل حمار؛ قاله وهب بن منبه‏.‏ فلما رأت اللجة فزعت وظنت أنه قصد بها الغرق‏:‏ وتعجبت من كون كرسيه على الماء، ورأت ما هالها، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر‏.‏ ‏{‏وكشفت عن ساقيها‏}‏فإذا هي أحسن الناس ساقا؛ سليمة مما قالت الجن، غير أنها كانت كثيرة الشعر..‏ ولما رأى سليمان عليه السلام قدميها قال لناصحه من الشياطين‏:‏ كيف لي أن أقلع هذا الشعر من غير مضرة بالجسد‏؟‏ فدله على عمل النورة، فكانت النورة والحمامات من يومئذ‏.‏ في روى أن سليمان تزوجها عند ذلك وأسكنها الشام؛ قاله الضحاك‏.‏ وقال سعيد بن عبدالعزيز في كتاب النقاش‏:‏ تزوجها وردها إلى ملكها‏:‏ باليمن، وكان يأتيها على الريح كل شهر مرة؛ فولدت له غلاما سماه داود مات في زمانه‏.‏ وفي بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كانت بلقيس من أحسن نساء العالمين ساقين وهي من أزواج سليمان عليه السلام في الجنة‏)‏ فقالت عائشة‏:‏ هي أحسن ساقين مني‏؟‏ فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏أنت أحسن ساقين منها في الجنة‏)‏ ذكره القشيري‏.‏ وذكر الثعلبي عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏‏(‏أول من اتخذ الحمامات سليمان بن داود فلما ألصق ظهره إلى الجدار فمسه حرها قال أواه من عذاب الله‏)‏‏.‏ ثم أحبها حبا شديدا وأقرها على ملكها باليمن، وأمر الجن فبنوا لها ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعا‏:‏ سلحون وبينون وعمدان، ثم كان سليمان يزورها في كل شهر مرة، ويقيم عندها ثلاثة أيام‏.‏
وقال محمد بن إسحاق ووهب بن منبه‏:‏ لم يتزوجها سليمان، وإنما قال لها‏:‏ اختاري زوجا؛ فقالت‏:‏ مثلي لا ينكح وقد كان لي من الملك ما كان‏.‏ فقال‏:‏ لا بد في الإسلام من ذلك‏.‏ فاختارت ذا تبع ملك همدان، فزوجه إياها وردها إلى اليمن، وأمر زوبعة أمير جن اليمن أن يطيعه، فبنى له المصانع، ولم يزل أميرا حتى مات سليمان‏.‏ وقال قوم‏:‏ لم يرد فيه خبر صحيح لا في أنه تزوجها ولا في أنه زوجها‏.‏ وهي بلقيس بنت السرح بن الهداهد بن شراحيل بن أدد بن حدر بن السرح بن الحرس بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح‏.‏ وكان جدها الهداهد ملكا عظيم الشأن قد ولد له أربعون ولدا كلهم ملوك، وكان ملك أرض اليمن كلها، وكان أبوها السرح يقول لملوك الأطراف‏:‏ ليس أحد منكم كفؤا لي، وأبى أن يتزوج منهم، فزوجوه امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن، فولدت له بلقمة وهي بلقيس، ولم يكن له ولد غيرها‏.‏ وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كان أحد أبوي بلقيس جنيا‏)‏ فمات أبوها، واختلف عليها قومها فرقتين، وملكوا أمرهم رجلا فساءت سيرته، حتى فجر بنساء رعيته، فأدركت بلقيس الغيرة، فعرضت عليه نفسها فتزوجها، فسقته الخمر حتى حزت رأسه، ونصبته على باب دارها فملكوها‏.‏ واخيرا
الفارق هائل بين روعة القرآن الكريم وخرافات المفسراتية..
ونلمح الى الخلفية التاريخية لهذه الخرافات .
أنها ترجع الى عصر الرواية الشفهية حيث تصدر مجالس العلم من كانوا يعرفون بالقصّاص ، وهى وظيفة رسمية ابتدعتها الدولة الأموية لغرض سياسى هو الدعاية لها ضد خصومها خصوصا من العلويين والشيعة . وكان القاص يجلس بعد الصلاة فى المسجد يقص ويحكى للناس خرافات يخترعها بنفسه أو ينقلها عن غيره وينسبها الى النبى محمد عليه السلام وبعض الصحابة و التابعين، ثم يمدح الخليفة ويطعن فى خصوم الخلافة . وحتى يستحوذ على اهتمام الناس كانن لا بد أن يبرع فى الحكاوى و الأقاصيص خصوصا ما يتعلق منها بقصص الأنبياء و تاريخ الأقدمين ، فيأخذ القاص يروى كأنه كان حاضرا مع آدم و سليمان ونوح وداود و موسى و ..الخ . ويصدقه المستمعون لأنه كان حريصا على ان ينسب ما يقول ويسنده الى أنه سمع ذلك من فلان الذى سمعه من فلان ثم من علان الى الصحابة والنبى محمد عليه السلام.
وفى العصرالعباسى الأول تكاثرالقصاصون وتقربوا للخلافة العباسية باسناد خرافاتهم الى عبد الله بن عباس جد الخلفاء العباسيين . ثم جاء عصر التدوين فدونوا كل هذه الخرافات على انها سنة و أحاديث نبوية و فقه وعقائد وعلوم .
وبهذا نشأ الدين الأرضى السنى..
ومهما شرحنا سيظل معظم الناس أسرى للخرافات السنية وغير السنية .
ولا عزاء للمغفلين و المغفلات



مقالات متعلقة :
التعليقات (2)
1   تعليق بواسطة   عثمان محمد علي     في   الأحد ٠٣ - فبراير - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً
[16040]

باقى من الزمن ثلاثة ايام .

إخوانى الأعزاء باقى من الزمن ثلاثة ايام على  رفع موضوع الرواق الحالى وإرسال الأسئله للدكتور - منصور - للرد عليها ...


 


ولكم جزيل الشكر .


2   تعليق بواسطة   Ezz Eddin Naguib     في   الأربعاء ١٥ - يوليو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[41083]

زبر الحديد ليست كتاب الحديد

الأخ الدكتور/ أحمد

مقال جميل، ولكنى أعترض على ما تقوله سيادتك فى:

4 ـــ ووردت أشارة إلى الزبور فى قصة يأجوج ومأجوج وذى القرنين الذى حصرهم داخل جوف الأرض مستعملا ما أعطاه الله جل وعلا من إمكانات علمية وتقنية متقدمة لم نصل اليها فى عصرنا، كان منها " زبر الحديد " أى كتاب الحديد ، يقول تعالى " آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا : الكهف 96".



ولنقرأ الآية فى سياقها:

حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً{93} قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً{94} قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً{95} آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً{96} فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً{97}الكهف



فلم يقم ذو القرنين بالعمل وحده بل طلب منهم مُعاونته والاشتراك فى بناء السد، وطلب منهم أن يأتوه بِزُبر الحديد (ولاحظ أن زُبر بالجمع، ولا يُمكن أن يكون معناها كتاب الحديد أو حتى كُتب الحديد، فمن أين يأتون به أو بها؟ ولكن زُبر الحديد هى قِطع الحديد الضخمة، وهى ما يُمكن لهم أن يأتوه بها إذا كانوا قد وصلوا فى التقدم العلمى إلى العصر الحديدى. وبعد أن ساوى بين الصدفين أى جانبى الجبل أو الثغرة بهذه الكتل الحديدية (وليس بكتب الحديد) كان من المطلوب أن يُلصق هذه الكتل الحديدة معا، ولذلك طلب منهم النفخ فى قطع الحديد حتى احمر لونها كالنار، ثم أفرغ عليه القِطر وهو أى شىء مُذاب يمكن أن يقطر مثل النحاس أو خلافه.

فالزُّبرَةُ هى القطعة الضخمة، وجمعها: زُبَرٌ وزُبُرٌ

أما الآية:

{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }المؤمنون53

فـ زبرا فيها بنفس المعنى، أى: قِطعًا

ويُؤيد هذا الآيات:

{ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }البقرة85

فقد قطعوا كتبهم وآمن بعضهم ببعض الكتاب وكفروا ببعضه الآخر

{الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ }الحجر91

فالعِضَةُ هى الجُزْءُ المُنْفَصِلُ أو القِطْعَةُ، فآمنوا ببعضه وكفروا بالبعض الآخر

أما الزَّبور فهو الكتاب الذى أُنزل على سيدنا داود عليه السلام، أو الكتاب عموما، وجمعه: زُبُر.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

عزالدين محمد نجيب

15/7/2009


أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
رواق اهل القرآن هو احد الأبواب الرئيسية والدائمه على موقع اهل القرآن, وقد صمم على نموذج رواق ابن خلدون الذى كان ملتقى للكثيرين من المفكرين مع د. أحمد صبحى, وكانت لقاءاتهم لمناقشة امور ذات اهمية سواء الدينيه او الإحتماعيه والسياسيه.
وقد انشئ رواق اهل القرآن ليتيح الفرصة لجميع اعضاء الموقع لمناقشة كتاب [...]
more