رقم ( 21 )
21

الفصل الثانى

مقالات متعلقة :

 

(1)الفرقُ بينَ الرسولِ والنبي

يخطئ الناس فى فهم الأمر بطاعة الرسول واتباع الرسول، وذلك لأنهم يخطئون فى فهم الفارق بين مدلول النبى ومدلول الرسول..

"النبى" هو شخصُ محمدٍ بن عبدِ اللهِ فى حياته وشئونه الخاصةِ وعلاقاتهِ الإنسانيةِ بمن حوله، وتصرفاته ُالبشرية.

ومن تصرفاتهِ البشريةِ ما كان مستوجباً عتابَ اللهِ تعالى، لذا كان العتابُ يأتي له بوصفه النبي، كقوله تعالىيَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿١﴾  (التحريم 1) . ويقولُ تعالى فى موضوع ِأسرى بدر

مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿٦٧﴾  ﴿ (الأنفال).

 ويقول لهوَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ ۚ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿١٦١﴾ (آل عمران 161).

وحين استغفر لبعض أقاربه قال له ربه تعالى ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴿١١٣﴾ (التوبة 113).

وعن غزوة ذات العُسرة قال تعالى ﴿لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿١١٧﴾  (التوبة 117).

وقال تعالى يأمره بالتقوى واتباع الوحيَ والتوكل ِعلى الله وينهاه عن طاعة ِالمشركين يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿١﴾ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴿٢﴾ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴿٣﴾ (الأحزاب 1: 3). كل ذلك جاء بوصفه النبى.

وكان الحديث القرآني عن علاقةِ محمد ٍعليه السلام بأزواجه أمهاتِ المؤمنين يأتي أيضاً بوصفه النبيُ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴿٢٨﴾ (الأحزاب 28).

 وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا..﴾ (التحريم 3). وكان القرآن يخاطب أمهات المؤمنين، فلا يقول يا نساء الرسول وإنما ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴿٣٠﴾ ۞ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ﴿٣١﴾ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا ﴿٣٢﴾ (الأحزاب 32، 30).

وكان الحديث ُعن علاقته بالناس حولهُ يأتي أيضاً بوصفه النبي

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿٥٩﴾ (الأحزاب 59)

﴿النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ۗ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَىٰ أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ﴿٦﴾ (الأحزاب 6)

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ  (الأحزاب 53)

 ﴿وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ۚ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ﴿١٣﴾ (الأحزاب 13).

 وهكذا فالنبيُ هو شخصُ محمدٍ البشري فى سلوكياته وعلاقاته الخاصةِ والعامة، لذا كان مأموراً بصفته النبيَ باتباع الوحيَ.

أما حين ينطق النبيُ بالقرآنِ فهو الرسولُ الذى تكون طاعتُه ُطاعة ًلله ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ 

مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ (النساء 80، 64)

 والنبيُ محمدٌ بصفته البشرية أولُ من يطيعُ الوحيَ القرآنيَ وأول ُمن يطبقُه ُعلى نفسه.. وهكذا ففي الوقتِ الذي كان فيه (النبيُ) مأموراً باتباع الوحيَ جاءتِ الأوامرُ بطاعة ِ(الرسولِ) أي طاعة ِالنبي حين ينطقُ بالرسالةِ أي القرآن ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ..﴾ (النور 54). ولم يأت مطلقاً فى القرآن "أطيعوا الله وأطيعوا النبي" لأن الطاعة ليست لشخص النبي وإنما للرسالة أى للرسول. أى لكلام الله تعالى الذى نزل على النبي والذى يكون فيه شخص ُالنبي ِأولُ من يطيع..كما لم يأتِ مطلقا فى القرآن عتابٌ له عليه السلام بوصفه الرسول.

ولكلمةِ النبي ِمعنىً محدد ٌهو ذلك َالرجل َالذى اختارَه ُاللهُ من بين البشر لينبئَهُ بالوحي ليكون رسولاً. أما كلمة ُالرسول فلها فى القرآن معانٍ كثيرة ٍهي

الرسول بمعنى النبى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴿٤٠﴾﴾ (الأحزاب 40).

الرسولُ بمعنى جبريل ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴿١٩﴾ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ﴿٢٠﴾ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴿٢١﴾ وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ ﴿٢٢﴾ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ﴿٢٣﴾ (التكوير 19: 23).

الرسول ُبمعنى الملائكة- ملائكةُ  ُتسجيلِ الأعمال

 أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم ۚ بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴿٨٠﴾ (الزخرف 80).

 ملائكة ُالموت ﴿حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ(الأعراف 37).

الرسولُ بمعنى ذلك الذي يحمل رسالة َمن شخص إلى شخص آخر، كقول يوسف َلرسول الملك "ارجع إلى ربك" فى قوله تعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴿٥٠﴾..﴾ (يوسف 50).

الرسول بمعنى القرآن أو الرسالة، وبهذا المعنى تتداخل معنى الرسالة مع النبي الذى ينطلق بالوحى وينطبق ذلك على كل الأوامر التى تحث على طاعة الله ورسوله.. فكلُها تدل على طاعة كلام الله الذى أنزله الله على رسوله وكان الرسول أول من نطق به وأول من ينفذه ويطيعه.

والرسول بمعنى القرآن يعنى أن رسول الله قائم بيننا حتى الآن وهو كتاب الله الذى حفظه الله إلى يوم القيامة، نفهم هذا من قوله تعالى ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ۗ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿١٠١﴾ ﴾ (آل عمران 101)

أى أنه طالما يتلى كتاب الله فالرسول قائم بيننا ومن يعتصم بالله وكتابه فقد هداه الله إلى الصراط المستقيم . ينطبق ذلك على كل زمان ومكان طالما ظل القرآن محفوظا ، وسيظل محفوظا وحجة ًعلى الخلق الى قيام الساعة..

وكلمة الرسول فى بعض الآيات القرآنية تعنى القرآن بوضوح شديد كقوله تعالى ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿١٠٠﴾﴾ (النساء 100).

فالآية تقرر حكماً عاماً مستمراً إلى قيام الساعة بعد وفاة محمد عليه السلام. فالهجرة فى سبيل الله وفى سبيل رسوله- أي القرآن- قائمة ومستمرة بعد وفاة النبي محمدٍ وبقاء ِالقرآن أو الرسالة.

وأحياناً تعنى كلمة "الرسول" القرآن َفقط وبالتحديد دون معنى آخر. كقوله تعالى ﴿لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴿٩﴾ ﴾ (الفتح 9)

فكلمة "ورسولهِ" هنا تدل على كلام الله فقط ولا تدل مطلقاً على معنى الرسول ِمحمد. والدليلُ أن الضمير َفى كلمة "ورسوله" جاء مفرداً فقال تعالى ﴿وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا﴾ والضمير ُالمفردُ يعني أن الله ورسوله أو كلامَه ليسا اثنين وإنما واحدٌ فلم يقل "وتعزروهما وتوقروهما وتسبحوهما بكرة وأصيلا". والتسبيح لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى وحده . ولا فارق ٌبينَ الله ِتعالى وكلامِه، فاللهُ تعالى أحدٌ فى ذاته وفى صفاته ﴿قل هو الله أحد.

ويقول تعالى ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ ﴿٦٢﴾ (التوبة 62)

ولو كان الرسول ُفى الآيةِ يعني شخصَ النبي محمدٍ لقال تعالى "أحق أن يُرضوهُما" ولكن الرسول َهنا يعني فقط كلامُ الله ِلذا جاء التعبيرُ بالمفرد الذى يدل على الله تعالى وكلامه

إذن فالنبيُ هو شخصُ محمدٍ فى حياته الخاصة والعامة، أما الرسولُ فهو النبيُ حين ينطقُ القرآنَ وحين يُبل ّغ ُالوحيَ ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ  ﴾ (المائدة 67)

وفى الوقت الذى يأمر الله فيه النبيَ باتباع ِالوحيَ فإن الله تعالى يأمرنا جميعاً وفينا النبيُ- بطاعة الله والرسول، أي الرسالة. ولم يأت مطلقاً "ما على النبي إلا البلاغ"، وإنما جاء ﴿مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴿٩٩﴾ (المائدة 99) فالبلاغ مرتبط بالرسالة كما أن معنى "النبيَ" مرتبط ٌببشرية ِالرسولِ وظروفِه وعصرِه وعلاقاتِه.

 

 

بين كلام ِالرسولِ وكلام ِالنبي

عرفنا أن مدلول (النبيَ) هو شخص ُمحمد ٍعليه السلام فى حياته وعلاقاته الخاصة والعامة وسلوكياته البشرية. أما الرسولُ فهو النبيُ محمد ٌحين َينطقُ بالرسالة وحين يُبلغ الوحيَ..

ومحمد ٌ(النبيُ) له كلام ٌمع زوجاته وأصحابه، وله تصرفاتٌ باعتباره قائداً ومعلماً ورئيساً لدولة. ومحمد ٌ(الرسولُ) له كلام ٌباعتباره رسولاً نزل عليه وحي ُالله ليبلغه للناس.. فما هو الفارق بين هذا وذلك؟.. نبدأ بمحمد ٍالرسول َوأقوالِه..

أقوال ُالرسول:

يلفِت ُالنظر َتلك الكراهية ُالشديدةُ من المشركين للقرآن ومحاولتهم مع النبي أن يغير فى كلام القرآن أو أن يبدله، وكان النبي يرد على مطلبهم هذا بإعلان خوفه من عذاب الله العظيم، اقرأ فى ذلك قولُهُ تعالى ﴿وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿١٥﴾ قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ ۖ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿١٦﴾ (يونس 15: 16) كانوا يريدون منه أن يتحدث فى الدين من خارج القرآن على أنه دين الله، ولكنه رفض خوفاً من عذاب يوم عظيم.

ولم ييأسِ المشركون، أحكموا الحصار َوالخداعَ حول َالنبي يداهنونَهُ ويطمعون في أن يصلوا معه إلى حلٍ وسط فحذره ربه ﴿فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ﴿٨﴾ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ﴿٩﴾ (القلم 8: 9)

ولكنهم استمروا فى سعيهم وكادوا أن يؤثروا على النبي ولكن عصمة َاللهِ للوحي كانت أسرع من كيدهم، وتعبير القرآن فى وصف ما حدث أقوى مما يمكن قوله، يقول تعالى ﴿وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ﴿٧٣﴾ وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ﴿٧٤﴾ إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ﴿٧٥﴾ (الإسراء 73: 75)

ونرجو من القارئ أن يتمعن فى تدبر هذه الآيات ليصل إلى أى حد حاول المشركون مع النبى أن يتكلم فى الدين خارج القرآن على أنه كلام الله، وفشلوا لأن حفظ الله تعالى للوحي ِالقرآني ِفوق إمكانات البشر وفوق كيد المشركين.. وفى القرآن شهادة للنبي تبرئه وتثبت أنه لم يتحدث فى دين الله إلا بالقرآن كلام ُالله، وأنه لم يتقول على الله شيئاً، وهي قوله تعالى ﴿تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٤٣﴾ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ﴿٤٤﴾ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ﴿٤٥﴾ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴿٤٦﴾ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴿٤٧﴾ ﴾ (الحاقة 43: 47)

 فلو تقوّل النبي على الله شيئاً لم يقله رب العزة لعاقبه الله تعالى عقاباً شديداً يشهده الناس فى عصر النبي ولا يستطيعون دفعه وحماية النبى منه ﴿فما منكم من أحد عنه حاجزين﴾ وحيث أن هذه العقوبة الهائلة لم تحدث فهى شهادة للنبي بأنه بلغ الرسالة كاملة ًفى عصره ولم يتقوّل ْعلى الله شيئاً.

إن الدين هو لله، فالله تعالى هو الذي ينْزِلُه ُوحياً، وعلى الناس أن يخضعوا لهذا الوحيَ مهما تعارض مع أهوائهم، والرسول هو الذى يتلقى هذا الوحيَ ويبلغه بحذافيره ولا يملك أن يزيد أو ينقص منه شيئاً. والله تعالى قال عن خاتم النبيين عليه السلام ﴿ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل..﴾ ليبرئ ساحة النبي من التحدث فى دين الله من كلامه البشري، وفى نفس الوقت ِأمره أن يقول كذا وكذا.. وهذا سر تكرار كلمة "قل" فى القرآن الكريم.

وكلمة "قل" من أهم الكلمات القرآنية وقد وردت فى القرآن 332 مرة، وهى تعني أن هناك أقوالاً محددة أمر الله تعالى رسوله أن يقولها للناس، وتميز القرآن الكريم بكثرة ِورود كلمة ِ"قل" على نحوٍ يختلف به القرآن عن التوراة والإنجيل اللذين بين أيدينا.

وقد بشرت التوراة التى بين أيدينا بخاتم النبيين الذى يأتي من بني إسماعيل "يقيم الرب إلاهك نبياً من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون.. أقيم لهم نبياً من وسط أخوتهم مثلك واجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به: سفر التثنية 18/5، 18".

والشاهد هنا أن الكتب َالسماوية َالسابقة َ نبأت بخاتم َالنبيين الذى ينزل عليه الوحيَ يقول له قل كذا. ويصبح هذا جزءاً من الوحى المكتوب، أو بتعبير التوراة "وأجعل كلامي فى فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به".

وباستقراء المواضع القرآنية التى جاءت فيها كلمة "قل" نضع الملاحظة السريعة الآتية:

أكثر ورود كلمة "قل" كان فى الحوار مع شتى الأنماط البشرية والدينية.

هناك حوار مع المشركين مثل ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ ۚ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ ﴿٤٢﴾ (الروم 42)

وهناك حوار مع أهل الكتاب ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ (آل عمران 64)

وهناك حوار مع المنافقين ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ ۖ قُل لَّا تُقْسِمُوا ۖ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿٥٣﴾﴾ (النور 53)

وهناك حوار مع المؤمنين ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ  (الأنعام 151)

وهناك حوار مع كل البشر ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا  (الأعراف 158)

وهناك "قل" فى الإجابة عن أسئلة المؤمنين للرسول ﴿..وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ﴾ (البقرة 219)

وهناك "قل" فى تشريع الدعاء والعقائد والعبادات ﴿قل هو الله أحد﴾ ﴿قل أعوذ برب الفلق﴾ ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۚ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿١٦١﴾ ﴾ (الأنعام 161)

وهناك تكرار لكلمة "قل" فى الآية الواحدة ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ۗ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿١٤﴾ ﴾ (الأنعام 14)

وتأتى "قل" لتؤكد معنى ًقرآنياً ورد فى آيات أخرى لم تأت فيها كلمة "قل" فالله تعالى يقول ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا ۚ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴿٣٣﴾ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴿٣٤﴾ (لقمان 33: 34)

ومضمون الآيتين السابقتين تكرار ٌفي آيتين جاءت فيهما كلمة قل يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي ۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ۚ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ۗ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿١٨٧﴾ قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿١٨٨ (الأعراف 187: 188)

وبالتوقف مع كل آية وردت فيها كلمة "قل" نتأكد أن القرآن كان يتابع النبي بإجابات مستفيضة ومتكررة عن كل شىء يحتاجه بحيث لم يكن لديه مجال أو متسع أو تصريح لأن يتكلم فى دين الله من عنده خصوصاً وأن الله تعالى منع أن يتحدث النبيُ فى الدين من عندِه أو أن يتقول شيئاً ينسِبُه ُلله، وهذا يعني أن أقوال الرسول وأحاديثَه هي فى داخل ِالقرآن من خلال آيات القرآن خصوصاً ما كان فيها الأمر الإلهي "قل" وفيها كل ُما يحتاجُه النبيُ والمسلمون

وكان الرسول ينذر بالقرآن

 ﴿وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَىٰ رَبِّهِمْ ۙ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴿٥١﴾﴾ (الأنعام 51)

وكان يذكرهم بالقرآن وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَا ﴾ (الأنعام 70) ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ﴿٤٥﴾ ﴾ (ق 45) وكان يبشرهم بالقرآن ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا ﴿٩٧﴾ (مريم 97) وكان يجاهدهم بالقرآن ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴿٥٢﴾ (الفرقان 52)

كان عليه السلام "خلقه القرآن" وحقيقٌ به حينئذ ٍأن يكون َعلى خلق ٍعظيم ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ (القلم 4) والخُلُق فى المفهوم القرآنى هو الدين.. وهل هناك أعظم من دين الله

وخارج ُنطاق ِالرسالة ِكانت للنبي أقوال وتصرفات فى حدود بشريته وتعاملاته الخاصة والعامة ومسئولياته وعلاقاته.. فهل هذه الأقوال والأفعال تعتبر جزءاً من الدين؟

أقوال ُالنبي ِ محمد ٍعليه السلام ُفى حياته خارج َالوحي ِكان حاكماً وقائداً عسكرياً وزوجاً وصديقاً لأصحابه وجاراً فى المسكن، وكان مثلاً أعلى فى ذلك كله، وكان فصيح اللسان وقد نجح فى إبلاغ الدعوة وتكوين ِالأمة ِوإقامة ِالدولة، وقد واجه فى حياته مشاكلَ سياسيةٍ ِوشخصية ٍوقد تغلب عليها ونجح فى النهاية بمهارته ولباقته وكياسته، وبالطبع انعكس عليه أحياناً ضعف الإنسان فى داخله أو من المحيطين به، وأقوالهُ وأفعاله ُخارج َالوحي ِالقرآني ِكانت تعكس ذلك.

والقرآن ذكر أقوالاً للنبي وامتدحه فى بعضها وعاتبه فى بعضها الآخر ونعطي أمثلة

* فى غزوة بدرٍ خرج المسلمون بعدد قليل ليواجهوا قافلة ففوجئوا بقدمِ جيش ضخم يفوقهم عدداً وعدة، وكره المسلمون دخول الحرب خوفاً، والقرآن يصور ذلك الموقف فيقول ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ﴿٥﴾ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ﴿٦﴾﴾ (الأنفال 5: 6)

وفى هذا الموقف انبرى القائد نبي الله يشجع أصحابه، وسجل الله له هذا "القول" وذكر مقالته فى هذا الشأن فى معرض المدح ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ ﴿١٢٤﴾ ﴾ (آل عمران 124)

قال لهم النبي فى ذلك الموقف: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة. إذن هذا حديث للنبي القائد فى معركة بدر ذكره القرآن فى معرض المدح.

* وفى غزوات ذات العسرة تثاقل المنافقون عن الخروج بينما جاء بعض فقراء المسلمين يريدون الخروج ولكن ليس معهم راحلة ولا مئونة فاعتذر لهم النبي قائلاً "لا أجد ما أحملكم عليه" ونزل القرآن يروي الحادثة ﴿لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿٩١﴾ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ ﴿٩٢﴾ ۞ (التوبة 91: 92)

قال لهم النبي فى ذلك الموقف: "لا أجد ما أحملكم عليه" فهذا حديث مرتبط بظروفه المكانية والزمانية شأن ما سبق فى غزوة بدر.

* وفي قضية ِزواجِ زيدٍ وتطليقِه زوجتَه ُالتى أصبحت زوجة ًللنبي عليه السلام يقول تعالى ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴿٣٧﴾ ﴾ (الأحزاب 37)

أمر الله تعالى النبي أن يجعل زيداً يطلّقَ زوجته ثم يتزوجها النبي فيما بعد لكي يقضي النبي عملياً على عادة ِالجاهلية فى اعتبار زوجة َالابن بالتبني وطليقته مثل َزوجة َالابن الحقيقي، وحتى لا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيائهم إذا قضوْا منهن وطرا.

وكان ينبغي على النبي أن "يقول" لزيد "طلق زوجتك" ولكنه تحرج وقال العكس تماماً فنزل القرآن يؤنب النبي ويحكي القول الذى قاله واستحق بسببه التأنيب من ربه ﴿وإذ تقولُ للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجَك واتق الله..﴾ إذن هنا حديث للنبى هو ﴿أمسك عليك زوجك واتق الله﴾ قاله النبى لزيد بن حارثة ، وذلك الحديث أيضاً مرتبط بظروفه الزمانية والمكانية، ولكنه حين قاله النبي لم يحالفه التوفيق فيه . والمراد أنه كان للنب فى تحركاته وعلاقاته المتعددة أقوال وأحاديث، وهذه الأحاديث كانت مرتبطة بظروفها الزمانية والمكانية التى قيلت فيها والتى يستحيل أن تتكرر فى أي عصر لاحق بنفس الأحداث والأشخاص والظروف، لأنه تاريخ ٌمضى وانتهى بانتهاء أبطاله وموتهم ولم يبق منه إلا العبرة والعظة.

وسيرة النبي فيها الكثير من الأحداث والأقوال المنسوبة للنبي فى الفترة المكية وفى الفترة المدنية، وهي تاريخ يجوز عليه الصدق والكذب وليس داخلاً فى دين الله تعالى بأى حال. أما ما أورده القرآن من قصص يخص النبى محمد فهو القصص ُالحق ُالذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والإيمان بهذا القصص يدخل فى إطار الإيمان بالقرآن

إن أقوال َ(النبي) خارج َالوحي القرآني والتى أوردها القرآن هى قصص للعبرة نؤمن بها ضمن إيماننا بكل حرف نزل فى القرآن.

وأقوالُ (النبي) خارج الوحي القرآني والتى كتبها الرواة فى السيرة بعد وفاة النبى هى تاريخ ٌفيه الحق والباطل والصحيح ُوالزائف ُوليست جزءاً من الدين على الإطلاق.

أما أقوال ُ(الرسولَ) فهي الرسالة ُأو القرآن ُأو دين ُالله ، وقد أبلغه الرسول دون زيادة ولا نقصان، وفيه الكفاية وفيه التفصيل وفيه البيان، وكان (النبيُ) أول الناس ِطاعةً لهذا الوحي وعملاً بما جاء فيه. وهذه هى العظمة الانسانية الحقيقية لمحمد ٍالنبيُ البشر ُعليه السلام.

 

ما على الرسول إلا البلاغ:

هذه الجملة ُالقرآنية أصبحت مثلاً يقال على اللسان، هذا مع أننا قليلاً ما نتفكر فيها فيما يخص ديننا. فالنسق القرآنى هنا يأتي بأسلوبِ القصرِ والحصرِ الذي يحصِر مهمة َالرسولِ فى إبلاغ الرسالة فحسب ﴿مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴿٩٩﴾ ﴾ (المائدة 99) ﴿وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴿٢٠﴾ ﴾ (آل عمران 20) ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ۚ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿٩٢﴾ (المائدة 92) ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ  (الشورى 48)

وتبليغ ُالرسالةِ معناه توصيلهُا كما هي دون زيادة ٍأو نقص ٍويؤكد ذلك أن أسلوب القصر والحصر فى "ما على الرسول إلا البلاغ" يؤكد أكثر من مرة أن مسئولية الرسول هى تبليغ الرسالة بحذافيرها كما هي.

والبلاغ أو توصيل القرآن للناس يعني أن يعرِفَ الناس ُما في القرآن من تبشير وإنذار وهداية ونور ﴿أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴿٤٥﴾ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا ﴿٤٦﴾

﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴿٤١﴾ ﴾ (النساء 41)

 ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ ﴿٨٩﴾ (النحل 89)

وقد جاءت شهادة الرسول على قومه يوم القيامة فى قوله تعالى ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴿٣٠﴾ (الفرقان 30) فمسئوليتُه أن يبلّغ الناسَ القرآن َوحين هجروا القرآن وتمسكوا بكتب أخرى معه استحقوا أن يتبرأ منهمُ الرسول ُيوم القيامة

 

ومن معالم هجرهم للقرآن اتهامهم له بأنه ليس مُبيناً يحتاج الى كلام البشر لشرحه وتوضيحه ،وأنه فرّط فى التبيين وما جاء تبيانا لكل شيء مستحقٌ للتبيين. من هنا ستكون شهادة ُالرسول ِيوم َالقيامة شهادة ُخصومةٍ تؤكد أن القرآن نزل تبيانا لكل شيءوَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ ﴿٨٩﴾  (النحل 89)

 

وبعض آيات التبليغ كانت تقصِرُ مهمة َالتبليغ ِوالإنذار ِعلى الرسول ِوتجعلُ مهمة َالحساب ِعلى الله يوم َالقيامة ﴿وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ﴿٤٠﴾ (الرعد 40)

 ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ۗ(الشورى 48)

﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ﴿٢١﴾ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ﴿٢٢﴾ إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ ﴿٢٣﴾ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ ﴿٢٤﴾ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ﴿٢٥﴾ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم ﴿٢٦﴾ (الغاشية 21: 26)

وقد أدى رسولُ اللهِ مهمته والقرآن َمعنا نقرؤه، ولكن لا نتدبرَهُ، وأكثرنا يهجرُهُ.. نرجو من الله تعالى لنا الهداية.

 

الرسول كان يحكم بالقرآن وحده:

كان النبي حاكماً مسئولاً عن دولة، وكان قائداً للأمة، وكانوا يحتكمون إليه فى أمورهم وقضاياهم، وكان يحكم بينهم بصفته الرسول َالذي ينطق بحكم الله كما هو.

والقاعدة القرآنية أن َالحكمَ لله فى أمور ِالنزاع ِوالاختلافِ وينبغي على كل ِفريق ٍأن يرضى بحكم الله.

يقول تعالى ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴿٧﴾

 ثم يقول تعالى ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴿١٠ ﴾ (الشورى 7، 10)

ويقول تعالى ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ۚ ﴿١١٤﴾ (الأنعام 114)

فالحكمُ إلى الله فى كتابه الذى نزل مفصلاً، والذي كان ينطق بهذا الكتابِ ويبلّغُه للناس كان رسول الله عليه السلام، لذا تقول آية أخرى تفصِلُ في القول يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ (النساء 59)

وحتى لا يقول قائل أن َالرسول َمحمد ٌعليه السلام قد مات وترك لنا غير القرآن كلاماً نحتكم إليه فإن القرآن الكريم أوضح لنا أن الرسول كان فى حكمه ينطق بالقرآن وحده . وبعد موت النبى وغيابه عنا فإن القرآن لا يزال بيننا لمن أراد الهدى والاحتكام إليه، وهذا ما نفهمه من موقف المنافقين من الرسول عليه السلام، المنافقون كانوا يحتكمون للرسول إذا كان الحق فى جانبهم، أما إذا لم يكن ِالحق َمعهم أعرضوا عن حكم الرسول مع أنهم يدّعون أنهم مسلمون ينبغي أن يدينوا بالولاء لله ورسوله. ويفصّلُ القرآن ُموقفَهم هذا فيقول ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴿٤٧﴾ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ ﴿٤٨﴾ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ﴿٤٩﴾(النور 47: 49)

ويقول تعالى ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا ﴿٦١﴾ (النساء 61)

وقد كانوا يصدون لأن الرسول يحكم بينهم بما أنزل الله فقط، فقوله تعالى ﴿وإذا قيل لهم تعالوْا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول﴾ لا تفيد ُوجودَ مصدر ٍآخرَ مع ما أنزل الله، لأن الرسول هو الذي ينطق بما أنزل الله وهو الذى يحكم بما أنزل الله.

ويؤكد ذلك آيات سورة النور وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ ﴿٤٨﴾ ﴾ ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿٥١﴾..﴾ (النور 48، 51) فلو كان الرسول شيئاً آخر منفصلاً عن كلام الله لجاء الفعل مثنى ولقال تعالى "وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكما بينهم" ولقال "إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكما بينهم.."

ولكن لأن الله هو الحكم وحده ولأن الرسول هو الذى ينطق بكلام الله وحده جاء الفعل مفرداً يعود الضمير فيه على واحد لا إله إلا هو فقال تعالى "ليحكم بينهم". وصدق الله العظيم ﴿وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَٰهَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴿٥١﴾ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ۚ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ﴿٥٢﴾ (النحل 51: 52)

والنبي- غيرُ الرسول كما عرفنا- وباعتبار النبيَ بشراً فقد استطاع بعض المنافقين أن يخدعوه . حدث ذلك حين سرق أحدهم درعاً وشاع بين الناس أمره وأحس أهل اللص بالعار مما ارتكبه ابنهم فتآمروا بالليل على أن يضعوا الدرع المسروق فى بيت شخص يهودى برئ وفى الصباح جاءوا للنبي يبرئون ساحة ابنهم المظلوم.. وانخدع النبى وصدقهم ودافع عن ابنهم، وبذلك أصبح اللص بريئاً، وأصبح البرىء لصاً.. وهى قصة تتكرر فى كل زمان ومكان، موجزها أن ينجوَ المجرمُ صاحبُ النفوذ وأن يدخل البريءُ السجن َظلماً. والقرآن الكريم ذكر القصة وحولها من حادثة تاريخية محددة بالزمان والمكان والأشخاص إلى قضية إنسانية عامة تتكرر فى كل عصر . وفى البداية عاتب الله تعالى النبى ووجه نظره إلى أن يحكم بالكتاب وحذره من أن يكون مدافعاً عن الخائنين ﴿إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما﴾ أى أنزل الكتاب الحق ليحكم بين الناس بما أراه الله فى ذلك الكتاب، فالاحتكام للكتاب. ولأنه نسيَ فقد جاء الأمر بالاستغفار ﴿واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيما﴾ ثم جاءه النهي عن الدفاع عن أولئك الخونة ِالذين تآمروا لتبرئة المجرم واتهام البريء ﴿ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيما. يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا.

ثم يقول تعالى ﴿ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم فى الحياة الدنيا فمن يجادلِ الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا يعنى هل يستطيع أحدٌ أن يدافع عنهم يوم القيامة أو أن يشفع فيهم؟ ثم جاءت الآيات التالية تضعُ قواعد َالمسئوليةِ الفرديةِ ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿١١٠﴾ وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿١١١﴾ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ﴿١١٢﴾ا﴾النساء 110-112 أي كل إنسان مسئول عن سيئاته، وإذا استغفر غفر الله له وإلا فهو مؤاخذ بما كسبت يداه ولن يجادل عنه أحد أو يشفع فيه يوم القيامة ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ۚ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴿١٨﴾ ﴾ (غافر 18)

ثم يقول تعالى للنبي ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ۚ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴿١١٣﴾ (النساء 113) أى حاولوا خداع النبيِ ولكن نزل الوحيُ ففضحهم وأعاد الأمور إلى نصابها العادل، وعلى هذا كانت أقضية الرسول تسير وفق القرآن لأنه كان يحكم بالقرآن وينطق بالقرآن ولا شىء غير القرآن.

 

أطيعوا الله وأطيعوا الرسول:

يقول تعالى وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿١٣٢﴾ (آل عمران 132) ويقول ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴿٥٩﴾ ﴾ (النساء 59) فهل الطاعة فى الدين لواحد أو لاثنين أو لثلاثة؟ المطاع واحد هو الله فى أوامره التى ينطق بها الرسول أو من يقوم بالأمر بعد موت النبي. والقاعدة الشرعية المأخوذة من القرآن أنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق. وقد كانت طاعة النبي- وهو فى حياته- فى إطار طاعة الله فقط، نفهم هذا من قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ۙ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿١٢﴾ه﴾ (الممتحنة 12)

والشاهد فى الآية الكريمة هو قوله تعالى "يا أيها النبي" فلو قال "يا أيها الرسول" لكانت طاعته مطلقة لأنها طاعة للرسالة أي كلام الله. ولكنه لأنه تعالى خاطبه بوصفه النبي فقد جعل طاعته مقيدة ًبالمعروف فقال "ولا يعصينك فى معروف".

فالطاعة للرسول هى طاعة لله صاحب الوحي، والنبي أولُ الناس ِطاعة للرسالة ، وكذلك أولو الأمر ينبغي أن يكونوا أولى الناس بطاعة الله وألا لاطاعة لهم فى معصية الخالق جل وعلا.

ويقول تعالى ﴿وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله﴾... ﴿من يطع الرسول فقد أطاع الله﴾ (النساء 64، 80) ولذلك فإن كل نبي كان يأتي لقومه برسالة كان يخاطبهم بوصف الرسول ويطلب منهم أن يطيعوه على أساس هذه الرسالة ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴿١٠٧﴾ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿١٠٨﴾﴾ (الشعراء 1) ولم يقل لهم "إنى لكم نبي أمين..".

ومع أن القرآن حث على الإحسان بالوالدين إلا أنه أوجب أن تكون الطاعة لله إذا حاول الوالدان إضلال الأولاد ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ۖ وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۚ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿٨﴾ (العنكبوت 8)

إن طاعة َالرسولِ هي طاعة ُالقرآن ِالذي أنزله الله على الرسول، ولا يزال الرسول ُأو القرآن ُبيننا.

 

واتبعوا النور الذى أنزل معه:

الإيمان ليس بشخص محمد عليه السلام وإنما الإيمان بما نزل على محمد ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۙ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ﴿٢﴾ ﴾ (محمد 2)

ونحن لا نتبع محمداً عليه السلام كشخص وإنما نتبع النور الذى أنزل معه أى القرآن فهذا ما جاء فى كلام الله ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿١٥٧﴾ (الأعراف 157)

كان النسق اللغوي يقتضي أن يقال "فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوه.." ولكن الاتباع ليس للشخص الآدمي وإنما للوحي الإلهي.

ومحمد عليه السلام هو أول الناس تمسكاً بالوحي واتباعاً للهدى، وبهذا أمره به تعالى فقال ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴿١٠٦﴾ (الأنعام 106) ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللَّهُ ۚ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴿١٠٩﴾ (يونس 109) ﴿وأمره ربه أن يعلن أنه يتبع الوحى ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ﴾ (الأنعام 50)

قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ مِن رَّبِّي ۚ هَٰذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿٢٠٣﴾ (الأعراف 203)

وإذا كان النبي متبعاً للوحي فنحن أولى الناس بعده باتباع الوحي. يقول تعالى يخاطبنا ويخاطب النبي ﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿٢﴾ اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ﴿٣﴾ (الأعراف 2: 3)

وهذه الآيات الكريمة هى بداية سورة الأعراف وفيها ينهي الله تعالى النبي عن التحرج من تبليغ القرآن وأن ينذر به. وهو تعليم لنا نحن المؤمنين وذكرى ﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿٢﴾ . ثم جاءت لنا نحن المؤمنين أوامر محددة بالاتباع للقرآن فقط :﴿اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم﴾ ونهيٌ واضح ٌمحدد ٌعن اتباع غيرِ القرآن :﴿ولا تتبعوا من دونه أولياء﴾ فالقضية واضحة لا تقبل الجدل، وهى اتباع القرآن دون غيره.

ويأتي السؤال التقليدي: إذن فأين الاتباع للنبي؟ والجواب الوحيد: إنه الاتباع للقرآن الذى يتبعه النبي، أو هو اتباع الرسول أي الرسالة أي القرآن.

وقولهُ تعالى ينهانا ﴿ولا تتبعوا من دونه أولياء﴾ فيه إعجاز خفي، فاتخاذ مصادر أخرى من القرآن والانحياز لمن كتبها وألفها معناه وضعَهم فى موضع المقارنة بالله تعالى وكتابه فى نفس المستوى أو أقل َقليلاً، وذلك وقوع في اتخاذ أولياء مع الله، مع أن المؤمن َيكتفي بالله ولياً وبالقرآن كتاباً.

وقولهُ تعالى ﴿ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون﴾ يضع حقيقة إنسانية ثابتة وهى أن أكثر البشر تتبع الأهواء والضلالات ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴿١١٦﴾ (الأنعام 116)

ولكن هذه الكثرة ُالعددية ُالتي تتّبع ُالظن َوالهوى ينبغي ألا تكون َحجة ٌعلى الحق القرآنى.. ﴿قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ۚ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿١٠٠﴾ (المائدة 100)

ومن عادات البشر السيئة أنهم قليلاً ما يتذكرون ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ﴾ (ص 24)

 

(2) هل للنبي أن يجتهد فى التشريع

ليس للنبي أن يجتهد َفي التشريع أو أن يعلم الغيب

المؤمن بالقرآن عليه أن يؤمن بأن الأنبياء هم أصلح البشر لتحمل مسئولية الرسالة وإلا لما اختارهم الله ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ (الأنعام 124) على أن مسئولية َالرسالة ِتنحصرُ في النهاية ِفي التبليغ فقط ﴿مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ  (المائدة 99)

ومن اقتصار مهمة النبي على التبليغ للرسالة كما هي دون زيادة أو نقصان يمكن ُأن نستنتج َأن تدبر الكتاب والاجتهاد فى فهم معانيه هو مسئوليةُ الناسِ بعد أن أوصل لهم النبي الرسالة، وهذا الاستنتاج العقلي قد أثبته القرآن قبلنا، فالله تعالى يقول ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿٢٩﴾ (ص 29) فالنسق اللغوي فى الآية كان يقتضي أن يقال للنبي: كتاب أنزلناه إليك مبارك لتتدبر آياته، ولكن التدبر فى الكتاب مسئولية الناس كما أن التبليغ مسئولية الرسول.

ويؤكد القرآن على مسئوليتنا نحن فى التدبر فى الكتاب، فيقول تعالى بتعبير الاستفهام الإنكاري ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴿٨٢﴾ (النساء 82)

﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴿٢٤﴾ (محمد 24)

ويوم ُالقيامةِ سيكون ندمهم شديداً لأنهم لم يتدبروا القرآن، فسيقال لهم ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ﴿٦٨﴾ ﴾ (المؤمنون 68)

ووصف الله تعالى القرآن بأنه بصائر للناس، أى دعوة لهم لأن يتبصروه وأوضح لهم أنه لا شأن للنبي بهم بعد أن أدى مهمته فى التبليغ، نفهم هذا من قوله تعالى ﴿قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ﴿١٠٤﴾﴾ (الأنعام 104)

ويقول تعالى للنبي ﴿وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا ۚ قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ مِن رَّبِّي ۚ هَٰذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿٢٠٣﴾ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا"AR-SA" dir="rtl" style="font-size: 16.5pt"> ۖ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ ﴿النساء 127) لم يقل له ويستفتونك قل إني أفتيكم. وإنما قال ﴿قل الله يفتيكم﴾ وفى المواريث استفتوا النبيَ في الكلالة ِفانتظرَ الفتوى من الله تعالى فنزل قوله تعالى ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ..﴾ (النساء 176) لم يقل أنا أفتيكم.

ومن مراجعةِ كلمة ِ"يسألونك" فى القرآنِ نتعرف ُعلى الحقائق ِالآتيةِ:

* كانوا يسألون النبي عن أشياء جديدة فى التشريع، وكان النبي ينتظر معهم الحكم َالتشريعيَ الجديد َالذي ينزل به القرآن، مثال ُذلك َسؤالُهم عن الأنفال أو الغنائم ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ  ﴾ (الأنفال 1)

* وكانوا يسألون النبيَ عن إيضاحاتٍ جديدةٍ في أمور ِتحدّثَ عنها القرآن ُمن قبل، وكان بإمكانِ النبي ِأن يجيب عنها بالاستنتاج والقياس، ولكنه عليه السلام لم يفعل، فقد نزل قوله تعالى فى مكة ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿٣٣﴾ ﴾ (الأعراف 33) فالإثم ُكان محرماً فى مكة، ثم سئل النبي ُ في المدينة عن حكم الخمرِ ومعلوم ٌأنها من الآثام، ولم يجتهد النبيُ فى التوضيح ِوالقياسِ والاستنتاجِ، وهو بلا شك أقدر الناس عليه، ولكنه انتظر َحتى جاءت الإجابة ُمن الله تعالى ﴿يسألونك عن الخمر والميسر قل فيها إثم كبير ومنافع للناس وإثمُهُما أكبر ُمن نفعِهِما﴾ (البقرة 219) وطالما أن فى الخمر إثماً كبيراً فإن تحريمَها قد نزل إجمالاً فى مكة َثم جاء تفصيلاً فى المدينةِ.

* بل كانوا يسألون النبي عن أمور تكرر حديث ُالقرآن عنها، ومع ذلك فالنبيُ كان لا يتلو عليهم الإجابة من الآيات التى نزلت من قبل ، وإنما كان ينتظرُ نزول َالوحي ِفينزل بإجابات تؤكد ما سبق بيانه، فقد نزلت آيات مكية تحض على رعاية اليتيم، ومنها ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﴿٩﴾﴾ (الضحى 9) ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ﴿١﴾ فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ﴿٢﴾ ﴾ (الماعون 1: 2)

 ﴿كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ﴿١٧ ﴾ (الفجر 17)

 ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ﴿١٤﴾ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ﴿١٥﴾﴾ (البلد 15) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ﴾ (الأنعام 152،)

ثم نزلت آيات فى المدينة تؤكد على رعاية اليتيم منها ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴿٨﴾ (الإنسان 8)

﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ (البقرة 177)

ومع ذلك سألوا النبي عن اليتامى، وانتظر النبي الإجابة ولم يقرأ عليهم الآيات ِالكثيرة ِعن رعاية اليتيم وحقوقه، ونزل قوله تعالى يجيب السؤال ﴿ (النساء 127) والإجابة هنا تشير إلى ما نزل فى الكتاب وكانوا يتلونه ويقرأونه من رعاية اليتامى والمستضعفين من الولدان.

* وأكثر من ذلك فهناك حقيقة قرآنية مؤكدة وكررها القرآن، وهى أن النبي لا يعلم الغيب ولا يعلم موعدَ قيام ِالساعة ولا ما سيحدُثُ له أو للناس. واقرأ فى ذلك قوله تعالى ﴿قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ﴿٥٠﴾ (الأنعام 50)

قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ﴿٢٥﴾ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا ﴿٢٦﴾ إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ﴿٢٧﴾..﴾ (الجن 25: 27) ﴿ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۖ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ﴿١٠٩﴾ (الأنبياء 109) وهل هناك أوضح ُمن قوله تعالى ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿٩﴾ (الأحقاف 9)

ومع ذلك فهناك آيات ٌأخرى كثيرة ٌتؤكدُ أن علم َالساعة ِعند َالله وحدَه إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ ۚ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ۚ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ ﴿٤٧﴾ (فصلت 47) ﴿وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿٨٥﴾ ﴾ (الزخرف 85)

كلها آيات تؤكد أن النبي لا يعلم الغيب وأن علم الساعة لله وحده وكانت تكفي آية واحدة ولكنهم سألوا النبي مرة ومرات عن الساعة، ومع ذلك لم يبادر بالإجابة بأن يقرأ عليهم الآيات ُالسابقةُ، وإنما انتظر الوحي، وكان الوحي ينزل دائماً بنفس الإجابة وهى أن علمَ الساعة ِلله وحده وأن النبيَ لا يعلم الغيب.

سألوا النبي عن الساعة فلم يبادر بالإجابة وهو بلا شك يعلم أن القرآن لا يمكن أن يأتى بإجابة تناقض ما سبق، وأن الإجابة ستكون نفسَ المعنى الذى تكرر وتأكد من قبل،.. انتظر النبي الإجابة ونزل قوله تعالى ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي ۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ۚ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ۗ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿١٨٧﴾ قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿١٨٨﴾ (الأعراف 187: 188) وهذا توضيح فيه أكثر من الكفاية.

ولكنهم سألوه أيضاً عن الساعة ونرى النبيَ عليه السلام أيضاً ينتظر الإجابة فنزل قوله تعالى يجيب ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ﴿٤٢﴾ فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا ﴿٤٣﴾ إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَاهَا ﴿٤٤﴾ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ﴿٤٥﴾﴾ (النازعات 42: 45) والآيات الأخيرة ملئت بأسلوب الاستفهام الإنكارى ﴿فيم أنت من ذكراها﴾ وجاء أسلوبُ القصْرِ يقصِرُ علم َالساعة ِعلى رب العزة ﴿إلى ربك منتهاها﴾ ويقصر وظيفة َالنبيَ على الإنذار ﴿إنما أنت منذر من يخشاها.

كان ذلك في مكة ثم في المدينة سألوا النبي عن الساعة، وانتظر النبي أيضا نفس الجواب من رب العزة ﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ ۚ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ﴿٦٣﴾ ﴾ (الأحزاب 63)

كان بإمكان النبي أن يجيب، ولديه الكفاية من الآيات، ولكنه كان ينتظر الإجابة، وينزل الوحي بالإجابة المعروفة سلفاً، ثم يسألون النبي نفس السؤال وينتظر النبي إلى أن تأتي الإجابة.. وتأتي نفس ُالإجابة ثم يسأله آخرون نفسَ السؤال، وأيضاً ينتظر الإجابة التى يعرفها إلى أن ينزل الوحي.. وهكذا.. ولو كان من حقه الاجتهاد ُلأجاب منذ السؤال الأول.

على أن هذه التأكيدات القرآنية لم تأت عبثاً- وتعالى الله عن العبث- فمع كل التأكيدات التى كانت تكرر وتكرروتؤكد أن النبي لا يعلم الغيب ولا يعلم شيئاً عن الساعةِ وموعدَها وأحداثَها- مع ذلك فإن الناس أسندوا للنبي بعد موته عشرات الأحاديث عن علامات الساعة وأحداثِها والشفاعات ِوأحوال ِأهل ِالجنة وأهل ِالنار. وهذه الأحاديثُ التي ملأت الكتب َ(الصحاح) تؤكد ُإعجازُ القرآن ِلأننا نفهم الآن لماذا كرر القرآنُ تلك التأكيدات سلفا ومسبقا ليرد عليها سلفا ومسبقا. هذه الأحاديث ُالضالةُ تضعنا فى موقف ِاختبار ٍأمام الله تعالى فإما أن نصدق القرآن ونكذبها، وإما أن نصدقها ونكذب الله وقرآنه.. ولا مجال للتوسط.. ونسأل الله السلامة والهداية.. ونعود إلى قضية التشريع..

* فقد كانوا يسألون النبي عن أشياء لا نشك لحظة في أنه عليه السلام كان يعرف الإجابة عنها من خارج القرآن، ومع ذلك فلم يبادر النبي بالإجابة من عنده أو من معلوماته وإنما انتظر الوحي القرآني. فقد سألوا النبي عن الأهلة- جمع هلال- ومعروف أن الأهلة هى لمعرفة المواقيت، وهذا ما كان مشهوراً العلم به فى الجزيرة العربية حيث اعتاد العرب فى شهورهم العربية على الاعتماد على التوقيت القمرى، وبه كانوا يؤدون فريضة َالحج ِقبل القرآن وفى عصر النبي عليه السلام. وهكذا فعندما سألوا النبي عن الأهلة كان ممكناً أن يجيبهم من عنده ولكنه انتظر حتى نزل قوله تعالى ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾ (البقرة 189). وسألوا النبي عن مباشرة النساء فى المحيض، ونحن نعتقد أن النبي بذوقه الرفيع وحسه المرهف- عليه السلام- كان يعلم أن المحيض أذى وأنه ينبغى اجتناب النساء فى المحيض، ومع ذلك فلم يصرح ِالنبيَ برأيه وانتظر الوحيَ حتى نزل قوله تعالى ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴿٢٢٢﴾ (البقرة 222)

* وحدث أن جاءت امرأة تسأل النبي عن حكم ِالظهارِ بعد أن ظاهر َمنها زوجُها أي أقسم باجتنابها جنسيا أو بحرمتها مثل تحريم أمه عليه، ولم تكن لدى النبي إجابةُ فانتظرَ كعادته الوحيَ، ولكن المرأة لم تنتظر وأخذت تجادل ُالنبيَ- وهذا منتظر ممن كانت فى مثل حالتها- ولما لم تجد لدى النبي شيئاً رفعت يديها للسماء تشكو لله تعالى حالها، ونزل القرآن يوضح ذلك الموقف ويفتي فى الموضوع ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴿١﴾ ﴾ (المجادلة 1)

إن صاحب الشرع هو رب العزة تعالى، أما الرسولُ فهو الذى يبلغ ذلك الوحيَ كما هو.. ولو كان للنبي حق ُالشرح والاجتهاد، لأصبح للدين مصدران، وكان لابد حينئذ أن يحظى ذلك المصدر الثانى بحفظ الله شأنُه شأن َالمصدر الأول، ولكن ذلك لم يحدث لأنه ومنذ البداية فإن التبليغ هو مسئولية ُالرسول، وليس الاجتهاد من مسئولياته..

ونضيف إلى ذلك أنه طالما كان الوحي ينزل والشرع لمّا يكتمل ْبعد ُفلم يكن هناك مجال ٌللاجتهاد فى التشريع، وحين اكتمل الوحي نزولاً وتم الدين قرآناً انتهى دور النبي ومات بعد أن أدى الأمانة وبلّغ الرسالة.

ولو كان النبي يجتهد ويتحدث فى الدين برأيه وأنشأ مصدراً آخر مع القرآن من خلال اجتهاده- لو حدث هذا ما كان لدى الصحابة ِوالتابعين والأئمة ِمجال ٌللاجتهاد بعد اجتهاد ِالنبي أو تفسيره للقرآن. ولكن الذى حدث أن الصحابة والتابعين والأئمة قد اجتهدوا فى التفسير والإفتاء والتشريع، ثم جاء اللاحقون فأسندوا بعض الاجتهاد الذي قالوه للنبي ليجعلوا له قدسية ًوليضمنوا انتشارَه، ولم يفطنوا إلى أن ذلك يناقض القرآن. وبذلك نشأ ما يعرف بالمصادر الأخرى إلى جانب كتاب الله...

اجتهاد النبي فى التطبيق وليس فى التشريع

لم يكن للنبي أن يجتهد فى التشريع..

ولكن كان عليه أن يجتهدَ في طاعة الله وتطبيقِ أوامرِه وتنفيذِ شريعتِه، وحتى فى ذلك أمره الله أن يشاور المؤمنين فى الأمر.ولكن هل يصْلُح ُاجتهادُه في التطبيق لمن جاء بعده من المؤمنين ؟ إن المفهوم أن اجتهادَه في التطبيق للنصوص الشرعية يخضعُ لامكاناته البشرية وظروف ِالزمان والمكان ومَنْ حولهَُ من البشر ، وهي مختلفة بالتأكيد عن ظروفِنا وبالنالي فليس اجتهادُه التطبيقي فى عصره ولعصره ملزما لنا وكلِّ من جاء بعده.

مثلا يقول تعالى : " وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ  " الأنفال 60" كان اجتهاد النبي فى التسليح والاستعداد العسكري طبقا للآية الكريمة محكوما بظروف عصره ، فهل نتمسك بذلك فى عصرنا ؟ أم نجتهد بما يناسب عصرنا.؟

إجتهادنا فى فهم القرآن فريضة دينية اسمها التدبر .

اذا تدبرنا القرآن طلبا للهداية وبمنهج علمي وبدون هوى مسبق أفلحنا ، وهذا يُنْسَبُ لنا وليس لدين الله تعالى . أما إذا اجتهدنا فى الدين فأخطأنا فى الاجتهاد فالخطأ يلحق بنا نحن ولا شأن للدين بنا.. وكلنا بشر يجوز علينا الخطأ، لذا كان لابد لدين الله أن يكون بمعزلٍ ومنْجاة ٍمن أخطاء البشر وليظل َساميا فوق الهوى البشريَ وقد ضَمِنَ الله تعالى حفظه الى قيام الساعة ليكون حجة ًعلى اجتهادِهم الخاطيءِ و افترائِهم على الله تعالى ورسوله.

ولأنه محفوظ بقدرة الله تعالى فلم يستطيعوا النيل من لفظه ونصه فكذبوا على الله تعالى ورسوله فى التفاسير والأحاديث. وتخيل ْلو لم يحفظِ الله ُتعالى قرآنَه ُمِنْ أهوائِهم ؟ إذن كانت رقابة ُالشيوخِ قد حذفت من القرآن كل َالآيات التى تنفي عصمة َالنبيَ وشفاعَتِه وعلمَه ُبالغيب والآياتِ الأخرى التي تؤكد على القيم الاسلامية العليا من الحرية المطلقة فى العقيدة والفكر و الحق المطلق فى العدل وفرضية الشورى بمعنى الديمقراطية المباشرة ، وكل تلك الحقائق ُالقرآنيةُ المنسيةُ الغائبةُ والتي اجتهدنا فى توضيحِها فثار علينا الشيوخُ ولا يزالون مع أن كل َأدلتُنا من القرآن . لو استطاعوا لأعلنوا كفرهم به . لم يبق فى استطاعتهم الا اضطهادي وسبّي وشتمي ليداروا عورة َجهلِهم وكراهيتِهم لما أنزل الله تعالى.ّ ذلك القرآن الذى أنزله الله تعالى لنا دينا نقياً صافياً محفوظاً بقدرته جل وعلا حتى تتمَ علينا حجةُ الله ِيوم َالقيامة.

 

حدودُ اجتهاد ِالناسِ في تشريع ِالقرآن:

كلمة ُالاجتهادِ بمعناها الاصطلاحي من مبتكرات العصر العباسي ونحن مضطرون لاستعمالها لشيوعها على الألسنة، والاصطلاح ُالقرآني المماثلُ هو "التدبر" ومعناه أن يظل القارئُ للقرآن خلف الآية يتتبعها فى القرآن حتى يستوعب المراد، لأن القرآن مثاني وفيه التشابه وتكرارُ المعنى وتفصيلُها، وآياتُه تفسرُ بعضُها بعضاً ولا يناقض بعضُها بعضاً، لذا فإن الأمر بتدبر القرآن يشير إلى هذه الحقيقة فيقول تعالى ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴿٨٢﴾ ﴾ (النساء 82)

والتدبر ُعملية ٌعقلية ٌفكرية ٌيقوم بها القاريءُ للقرآن ِمتشجعاً بآياته التى تحث على التفكر والتعقل والنظر والعلم والتفقه.

على أن القرآن َاستعمل َبعض المشتقات القريبة من كلمة "الاجتهاد" مثل ﴿وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ﴾ (التوبة 79) والجهدُ هنا يعني الإمكاناتُ الماليةُ والماديةُ، وقريب ٌمنه قوله تعالى وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ ۖ قُل لَّا تُقْسِمُوا ۖ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿٥٣﴾﴾ (النور 53) وقد يكون الجهد ُمجهوداً عضلياً أما التدبرُ فهو تفكير ٌعقليٌ علمىٌ بحتٌ، وذلك يجعل من أسلوب القرآن أرقى وأدق من اختراع العصر العباسي : "الاجتهاد" ـ الذي لا يزال مسيطراً على تفكيرنا حتى الآن.

والسؤال الآن: ما هى حدود الاجتهاد فى شرع الله؟ ومتى يكون مباحاً ومتى يكون محظوراً؟ إن الله تعالى يقول ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۗ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿٢١﴾(الشورى 21) ومع نبرة ِالهجوم ِوالتخويفِ فى الآية ِمن ذلك التشريع ِالذى لم يأذن به الله فإن فى الآية تصريحاً بوجود تشريعٍ ٍيرضى عنه الله لأنه جاء فى الحدود التى يأذن بها الله. ومن أسفٍ فإنهم لم يعرّفوا تلك الحدود فاجتهدوا فى المحظور وربما توقفوا حيث ينبغي الاجتهاد، ولقد قالوا أنه "لا اجتهاد مع وجود نص" مع ان النص َالقرآنيَ يحتاج ـ كأي نص ٍتشريعي ـ الى اجتهادٍ في تطبيقه على الواقع. إنهم أضافوا نصوصاً منسوبةُ للنبي وجعلوها ـ مع أخرى ـ مصادر َأخرى للاسلام مع القرآن . وأصبحت تلك النصوص ُموانع للاجتهاد لا وجود له معها بما جعلوا لها من قدسية مع أنها تخالف القرآن. ونضرب لذلك مثلاً:

فالمحرمات فى الزواج جاءت فى نصٍ قرآني جامعٍ مانعٍ في قوله تعالى ﴿وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۚ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ﴿٢٢﴾ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿٢٣﴾ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۖ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۚ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ۚ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿٢٤﴾ ﴾ (النساء 22: 24)

فالمحرمات ُهنا بالنص القرآني كالآتى "الأم" "البنت" الأخت" "العمة" "الخالة" "بنت الأخ" "بنت الأخت" "الأم من الرضاعة" "الأخت من الرضاعة" "أم الزوجة" "بنت الزوجة التي دخل بها زوجُها" "زوجة الابن من الصلب" "أخت الزوجة فى وجود الزوجة على ذمة زوجها وفى عصمته" ثم "المرأة المتزوجة بزوج آخر إلا إذا فسخ عقدَ زواجها بملك اليمين" فهنا خمس ُعشرة َامرأة ًمحرمة ًفي الزواج عندما نضيف "زوجة الأب".

وقد حرص القرآن الكريم على توضيح التفصيلات والاستثناءات والمحترزات لتتضح الصورة ُكاملةً، فأجازعلى سبيل الاستثناء أنواع َالزواج ِالباطل ِالذي كان موجوداً قبل نزول الآية ِوأقره بصفة مؤقتة ولكن حرم أن ينشأ بعد تلك الحالات الموجودة حالات أخرى، ففي تحريم ِزواج ِأرملة ِالأب ِأو طليقة ِالأب قال تعالى ﴿ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف﴾ وفى تحريم الجمع بين الأختين فى الزواج قال تعالى ﴿وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف﴾ ومع أنها كانت حالات فردية معدودة وقت نزول القرآن إلا أن القرآن الكريم الذى فصل كل شىء تفصيلاً والذى نزل تبياناً لكل شىء أفسح لها مجالاً للتوضيح طالما يستدعي الأمر ذلك.

وأوضح القرآن بأفصح بيان معنى البنت ُالربيبةُ بالتفصيل ﴿وربائبكم اللاتي فى حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم.

وأوضح معنى زوجة الابن المحرمة ﴿وحلائلُ أبنائكم الذين من أصلابكم﴾ أى لابد أن يكون الابن من صلب أبيه وليس ابناً بالتبني ولذلك أمر الله تعالى أن يطلقَ زيدُ بن حارثة- الذى تبناه النبي- زوجتَهُ زينبَ بنت َجحشٍ ليتزوجها النبي فيما بعد.

وأوضح حرمة َالزواج من المرأة المتزوجة التي لا تزال فى عصمة ِزوجِها إلا إذا فقدت حريتَها وأصبحت مملوكةً وحينئذ ينفسخ ُعقدُ زواجِها وبعد انتهاء ِعدتِها يمكنُ لها الزواج ُ﴿والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم.

وبعد أن حصر القرآن المحرّمات وفصّل القول فيهن تفصيلاً قال تعالى ﴿كتاب ُاللهِ عليكم﴾ أى أن تحريم هؤلاء النسوة مكتوب ومفروض عليكم، فهنا حكم ٌجامع ٌمفصل ٌبالتحريم، وبعده قال تعالى ﴿وأحل لكم ما وراء ذلكم﴾ أى أنه من بعد المحرمات المنصوص عليهن فى الآيات الثلاث فكلُ النساء ِأمامكم حلالٌ للزواجِ الشرعي ولسن محرمات ٍبأي حال.

ومعناه أن القرآن الكريم أحاط النساء المحرمات بسور تشريعى جامع مانع، وما بعد ذلك السور فكل النساء حلال للزواج.

وبمعنى ًأدقُ فلا يجوز هنا أن نجتهد الا فى تطبيق هذا النص كما هو خصوصا وهو نصٌ تشريعيُ جامع ٌمانع ٌلا يجوزُ الاضافة ُله او الحذف منه حتى لا نعتدي على تشريع الله، ولكن الفقهاء أعملوا القياس فحرموا الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها قياسا على حرمة الجمع بين المرأة وأختها، وحرموا الخالة والعمة من الرَضاع ِقياساً على تحريم الأم من الرَضاع ِوالأخت من الرَضاع، ثم صاغوا فى ذلك أحاديث َهي أشبه بمتون الفقه ِوأحكام ِالفقهاءِ فقالوا "يحرم من الرَضاع ِما يحرم من النسب" وقالوا "لا يجمع ُالرجل ُبين المرأة وعمتِها والمرأة ِوخالتِها".

وهنا يقع التناقضُ مع كتاب الله..

فإذا أراد رجل أن يتزوج عمة َزوجتِه أجاز له القرآن ذلك لأن عمة َالزوجة ِليست من المحرمات فى نص ِالقرآن ولأنها تدخل ُفي الحلال ِمن النساء للزواج ضمن َقولهِ تعالى ﴿وأحلَ لكم ما وراءَ ذلكم﴾ ولكن َكتبَ الفقه ِتجعلُ ذلك الحلال ُالقرآنيُ حراماً.

وإذا أراد رجل أن يتزوج خالته من الرَضاع أحلها له القرآن وحرمها عليه الفقه..!! وذلك يعني بوضوح ٍأنهم يحرمون ما أحل الله وينسبون ذلك للرسول ، والرسول ُعليه السلام بريءٌ من ذلك..

إن النساء كلُهُن َحلالٌ للزواج ماعدا المنصوص ِعليهِن بالتحديد ِوالتعريف ِالدقيقِ ولكنهم لم يكتفوا بذلك التحديد ِالجامعِ المانع ِفأضافوا محرمات ٍأخريات ٍوضربوا بقوله تعالى ﴿وأُحل َلكم ما وراء ذلكم﴾ عرْض َالحائط. وقالوا لنا "لا اجتهاد مع وجودِ نص" واخترعوا نصوصاً أكسبوها قدسية ًمع أنها تعارضُ كتاب الله ومنعونا من مناقشتها..

وذلك مجرد ُمثلٍ للاجتهاد ِالمحظور يالذى وقع فيه السابقون وأكسبوه قدسية، وهناك أمثلة ٌأخرى لذلك الاجتهاد ِفي المحظور الذي يعتدي على النصوص القرآنية الجامعة المانعة، ولكن الإسهاب فى ذلك يخرج ُعن موضوع ِهذا الكتاب.

كان ينبغي أن يتوجه اهتمام ُالفقهاء ِإلى الاجتهاد فى المناطقِ المباح ِفيها الاجتهادُ. فمن الملاحظ ِأن آيات ِالتشريعِ القرآني محدودة ٌومحددة ٌفهي أقل ٌمن مائتيْ آية ٍأي ما يعادلُ حوالىْ 1/30 من القرآن الكريم، ومع ذلك فقد اكتفى رب العزة بهذه الآيات. وبها اكتمل الدين ُوتمت نعمةُ الإسلام بتمام القرآن ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (المائدة 3) وليس ممكناً بعد َهذه الآية ُأن يقالَ أن كتب َالفقه ِوالحديث ِتكملُ نقصاً في القرآن، فتعالى الله العزيز الحكيم أن ينزل لنا كتاباً ناقصاً يحتاج للبشر فى استكماله. وآيات التشريع القرآني على قلتها ومحدوديَتِها تعني أن تشريع َالقرآن ِترك هامشاً للحركة الإنسانية فى الاجتهاد والتطور وفق المتغيرات ولكن ينبغى أن يكون ذلك فى الإطار العام لتشريعات القرآن التى تهدف لإقرار العدل والمساواة والقسط والتيسير وحفظ الحقوق والدماء. إن التشريع َالقرآنيَ جاء بنصوصٍ جامعة ٍمانعة ٍفي أمور ٍمحددة ٍكالمحرمات في الزواج والحرام فى الطعام وجاء بأنصبة محددة فى الميراث، ومطلوب ٌمنا أن نجتهد فى تطبيق هذه النصوصِ التطبيقَ الأمثلَ، لا أن نجتهد فى الاعتداء عليها وتغييرها بالإضافة والتشويه.

ثم جاء التشريع القرآني يحتكم للعرف أو المعروف فى التطبيق لأحكامه التفصيلية ِو لِأنْ تصاغ َمن العرف والمعروفِ قوانين َإسلامية ٍفى اطار القيم ِالاسلامية ِالانسانيةِ العليا المتعارف ِعليها فى كل زمان ومكان من العدل والحرية والسلام والاحسان والتسهيل والتخفيف والرحمة والرفق والعفو.

بالعرف وبالمعروف يمكن مثلا تطبيق تلك القيم ُالاسلامية ُالعليا فى المجتمع ـ وفق َالعرفِ السليم ِومواءَمَتِه للعصر الذى يعيشه الناس ـ فى كل ما تركه القرآن للتقنين البشري ، وهذا يدخلُ فيه كلُ شيءٍ من قوانين َالإسكانِ إلى المرورِ والاستيراد والتصدير والهجرة ...الخ ..الخ . وكلُ قانون ٌبشري روعيت فيه تلك القيم ُالسامية ُفهو تشريعٌ إسلامي ٌأذن به الله تعالى. كما يمكن أيضا تطبيق التفصيلات الثشريعية القرآنية نفسها حسب العرف أو المعروف المتعارف عليه فى كل عصر، وذلك لكي يتيح َالقرآنُ الكريم ُالمجالَ للتطورِ الإجتماعي والإنساني وتظل تشريعات القرآن فوق الزمان وفوق المكان، وما كان يصلحُ للعصرِ العباسي مثلاً لا يصلُحُ لعصرنا.

ومثلاً يقول تعالى ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ﴾ (البقرة 233) فلم يحدد القرآن مبلغاً من المال بالدرهم والدينار وإنما قال "رزقهن" ليشمل الجانبَ النقديَ والجانب العينيَ واحتكم للمعروف أي القيمةَ الانسانيةَ العليا فى القسط والعدل وتطبيق ذلك بالعرف السائد من النقد والعملة وسائر ِاحوال ِالمعيشة ِومدى المناسبِ لحال المرضعة ِوالوالدة ِووضعِها ووضع ِالمجتمع، وينبغي هنا أن يقوم الناسُ بوضع القوانين َالتي تناسب ُعصرَها فى اطار ِذلك العُرْف ِالذي أشار اليه القرآن ُُالكريم ُفي تلك التفصيلات ُالتشريعية. وهنا يكون الاجتهاد ُفي خدمة النصِ القرآني.

ويلاحظ ُأن الاحتكام ِللعرف والمعروف يتكرر كثيراً فى حديث القرآن عن الزواج والأحوال الشخصية باعتبارها أقدم "عرف" تعارف عليه بنو آدم ولا يزال الزواج هو الصيغة ُالشرعية ُالتى يباركها دين الله، وحين نزل القرآن كان رسولُ الله محمداً قد تزوج َزواجاً شرعياً وفق عرف الجاهلية، فالعرب قبل الإسلام لم يكونوا محرومين كلية من التشريعات الصالحة، ولذلك فإن القرآن الكريم لم يوضح لنا مثلاً كيفية عقد الزواج، ولكن نزلت آيات كثيرة تصحح بعض َالأخطاءِ الشائعةِ فى الزواج ِوعلاقات ِالزوجين والشقاقِ بينِهما وعدة ِالمطلقة ِوحقوقِها، واحتكم فى ذلك للعرف.

والتفصيل فى مواضع الاحتكام للعرف والمعروف فى تشريع القرآن يخرج عن موضوعنا وموعدها كتاب ٌخاص ٌعن فلسفة ِالتشريع ِالقرآني. ولكن يلفتُ النظر َعناية ُالقرآن بالشورى وأمْر ُالنبي ِبها وهو الذي ينزل ُعليه الوحي، وجعلها من سمات المجتمع المسلم، وبها يمكن للمجتمع صياغة ُقوانين َفى اطار العرف والمعروف سواء ًفى تطبيق التفصيلات التشريعات القرآنية وتنزيلها على الواقع المعاش وفق المتعارف على أنه الأكثر عدلا ويسرا ، أو في استخلاص ِقوانين َجديدةً ٍِفيما ينفع ُالناسَ فيم تركه القرآن للبشرللتقنين وما أذن الله تعالى لهم فى تشريعه فى اطار وضوابط ِالقيم ِالاسلامية العليا المشار اليها .

لقد قامت حياة النبي عليه السلام على أساس تبليغ القرآن كما هو وجاهد حتى بلّغ الرسالة وحين اكتملت الرسالة مات النبي وترك لنا الرسالة أوالقرآن أو الرسول المقروء بيننا.. وفى حياة النبي كانوا يسألونه ويستفتونه فينتظر الإجابة من الوحي، وبعض هذه الأسئلة كان يمكنه الإجابة عنها ولكن الدين َدينُ الله، واللهُ وحدُه هو صاحب ُالحق ِفي التشريع وليس للنبي أن يفتي وما كان يفعل. ولكنه عليه السلام كان يجتهد ُفى تطبيق النصوص القرآنية وكان يستشيرُ لكي يصل َللصيغة المثلى فى التطبيق.

وهناك بالنسبة لنا نحن ُبعد َالنبي ِمجالات حددها القرآن للتطبيق الحرفي بلا أدنى تغيير أو تبديل مثل ُالمحرمات فى الزواج وعدم تحريم الحلال فى الطعام، والأنصبة المحددة فى الميراث.

ثم هناك مجالات ٌأباح فيها القرآن الإحتكام َللعرف منها ما يخص السلطة َالاجتماعية َومنها ما ينَفِذ ُه المسلم ُفى ضوء تقوَاه وخشيته من الله مثل َالوصية والصدقة

ثم هناك المشورة فى غير وجود النص، والنصوص القرآنية التشريعية محددة ومحدودة مما يعطي فرصة كبرى للتطور الاجتماعي لتحقيق العدالة والقسط والتيسير، وذلك يعطي تشريع َالقرآن إمكانية َالاستمرار ِفي كل مكان وزمان، وهناك أيضاً المشورة َفي كيفية ِتطبيق ِالنص َأو فى تقنين ِالعرفِ، وأيُ تشريع ٍيصل إليه المجتمع بالمشورة مستلهماً روح َالقرآن بهدف تحقيق العدالة والمساواة ومنع الظلم فهو تشريع ُإسلامي أذِن الله تعالى به.

فالهدف من إرسال الرسل وإنزال الكتاب كان إقامة ُالناس ِللقسط وفى ذلك يقول تعالى ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴿٢٥﴾..﴾ وصدق الله العظيم (الحديد 25)

 

سُنّة ُالرسول ِهي القرآن ُفقط

السُنّة هي الشرع وهي الطريقة والمنهاج. وبهذين المعنيين جاءت كلمة السنة ُفي القرآن ِمنسوبة  ٌلله ولشرعه ولطريقته فى التعامل مع البشر مشركين ومؤمنين..

كانت سنة ُأو طريقة ُالمشركين هى الإستكبار ُعن الحق والمكر بالمؤمنين، وكانت طريقة الله معهم أو سنتهُ أن يحيق مكرهم السييء بهم ﴿اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴿٤٣﴾ (فاطر 43)

كان المشركون يرغمون المؤمنين على الهجرة لذا كانت طريقة الله إهلاكهَم أو تعذيبَهم، يقول ﴿وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ۖ وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿٧٦﴾ سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ﴿٧٧﴾ ﴾ (الإسراء 76: 77)

وكانت سنة الله أو طريقته أن يَهز ِِمَ المشركين أمام المؤمنين إذا صدقوا فى إيمانهم ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴿٢٢﴾ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴿٢٣﴾ ﴾ (الفتح 22: 23)

وتآمر المنافقون فى المدينة على النبي والمسلمين وهددهم الله بأن يُجري عليهم سنته فى التعامل مع المشركين ﴿لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ﴿٦٠﴾ مَّلْعُونِينَ ۖ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ﴿٦١﴾ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴿٦٢﴾ (الأحزاب 60: 62)

هذه هي السنة بمعنى الطريقة ُوالمنهاجُ وهي تُنسَب ُلله وطريقته فى الرد على المشركين.

وتأتي السنة ُأيضاً بمعنى الشرع. وبهذا الإستعمال ُنتحدث نحن فى لغتنا العادية فنقول "سنّ قانوناً" أى شرّع قانوناً. وحين يسن القانون ُيكونُ ملزماً للناس ولابد من طاعته. ونفس ُالمعنى للسنة ِجاء فى الآية الكريمة ﴿مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ۖ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا ﴿٣٨﴾ (الأحزاب 38) ففى الآية تجد ﴿سنة الله﴾ مرادفة ً لكلمتي "فرض َالله" و"أمْرُ الله" الذى جعله الله قدراً مقدورا. إذن سنة ُالله بمعنى الشرع ُهي الفرض والأمر الإلهي واجب التنفيذ.

وهذا يذكرنا بمعنى السنة ِالآخرَ وهو المنهاجُ والطريقة ُوكان تعبيرُ القرآن ِعنها أنه لا تبديل ولا تحويل لسنة الله.

والنبي كان عليه أن ينفذ سنة الله أى شرع الله وأوامره حتى لو كان فيها حرج، وقد نزلت آية ﴿مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ۖ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا ﴿٣٨﴾﴾ فى موضوع زيدٍ بن ِحارثة وزواجُه وطلاقه من زوجته، فقد تحرج النبي من تنفيذ سنة الله أو شرع الله فنزلت هذه الآية، ونستفيد منها أن السنة هى شرع الله، وأن النبي َهو أول من ينفذ هذه السنة، ونحن بالتالى نقتدي بالنبي في طاعة سنة الله أو شرعه وأوامِرهِ، وينبغي على المؤمن ِأن يعلم أنه لا فارق بين السنة والفرض لأنهما شرع الله الواجب التنفيذ، فالصلاة والزكاة والحج للمستطيع كلها سنن الله وفرائضه.

وعلماء التراث أطلقوا "السنة العملية" وهى الصلاة- على ما توارثناه من كيفية للصلاة عن النبي وقالوا بوجوبها وضرورة الالتزام بها وثبوتها بالقطع واليقين. وهذا صواب فى الرأي . إلا أنهم أخطأوا حين نسبوا للرسول أحاديث قولية ًوقالوا بأنها السنة َالقولية، فالسنة ُالقولية ُللرسول ِهي فقط فى القرآن وحديث القرآن وما تكرر فيه من كلمة "قل" . وأخطأوا أيضاً حين ناقضوا أنفسهم وجعلوا فارقاً بين السنة والفرض، فجعلوا الفرض واجب التنفيذ مثل الصلوات الخمس وجعلوا السنة هي ما يزيد من نوافل على الصلوات المفروضة، وقد تبين لنا أن السنة َهي الفرض ُولا فارق بينهما فى حديث القرآن ولا فى لغتنا العادية حين نقول "سنّ قانوناً".

وبعد هذا التوضيحَ سيستمر التساؤل: أليست للرسول سنة؟ ويستدرك السائل ُحين يتذكر عنوان البحث "سنة الرسول هى القرآن فقط" فيحور ُالسؤال "أليست للرسول سنة ٌخارج َالقرآن؟؟".

والإجابة فى القرآن يقول تعالى ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴿٢١﴾ } (الأحزاب 21) فلم يقل الله تعالى: "قد كان لكن فى رسول الله سنة حسنة" وإنما قال "أسوة حسنة".

فالسنة لله لأنها شرع الله وأوامر الله. أما الاقتداء والتأسي فبالرسول فى تطبيقه العملي لسنة الله وشرع ِالله.

على أنه من المفيد أن نستزيد فهماً للآية ِالكريمة ِوالسياق ِالذي جاءت فيه، فقد نزلت الآية فى التعليق على غزوة الأحزاب وفى سورة الأحزاب، وقد كان أهل المدينة عند حصار الأحزاب لهم فريقين: المنافقون وأشياعُهم وقد تخاذلوا ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴿١٢﴾ ﴾ (الأحزاب 12)

 ثم المؤمنون الذين تماسكوا وثبتوا ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴿٢٢﴾ ا﴾ (الأحزاب 22)

 وكان رسول الله عليه السلام هو القدوة لهم فى الشجاعة والثبات لذا يقول تعالى عن موقفه هذا ﴿لقد كان لكم فى رسول الله أُسوة حسنة﴾ وكان هناك من المؤمنين من تأسى بالنبي فى هذه الشجاعة وفاق أقرانه فقال عنهم رب العزة ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴿٢٣﴾ (الأحزاب 23)

إذن فالتأسي بالرسول في هذه الآية كان فى سياق قصة ٍوفى موقف محدد. ويؤكد ذلك أن الله تعالى أمر الرسول محمداً والمؤمنين بالتأسي بإبراهيم َوالذين معه حين تبرءوا من قومهم ﴿. ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۖ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴿٤﴾ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿٥﴾لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ۚ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴿٦﴾..﴾ (الممتحنة 4، 6) فقال تعالى يحدد الموقف الذى ينبغي التأسي بهم فيه ﴿إذ قالوا لقومهم﴾ ولم يجعل التأسي بهم مطلقاً..

إن الاقتداء والتأسي يعنى الاتباع، ولا يكون ُالاقتداء ُوالتأسي على إطلاقه إلا بكتاب الله. والله تعالى كما أمرنا بالتأسى برسول الله محمدٍ في موقف معين فإنه أمر النبي نفسَه بالاقتداء بهديِ ِالأنبياء السابقين فقال ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ ﴿٩٠﴾  (الأنعام 90) فلم يقل تعالى "فبهم اقتده" وإنما قال ﴿فبهداهم اقتده.

ولم يأمر ِالله خاتم َالنبيين بالاقتداء والاتباع لإبراهيم َوإنما أمره باتباع "ملة إبراهيم" والملة ُهي دين ُالله ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿١٢٣﴾ (النحل 123)

إن الاقتداء والتأسي إنما يكون بشرع الله وسنة ِرسوله، وهكذا كان يفعل ُالنبيُ.. والأنبياء ُهم ْالقدوة ُالذين نقتدي بهم في مواقف َحكى عنها رب العزة وهو وحدُه الأعلمُ بهم وبأسرار حياتهم.

إن سنة الرسول هى القرآن ُشرع ُالله..

والله تعالى نسأل أن نعيش على سنة الرسول وأن نموت عليها..

 

وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله

يحلوا لبعض الناس أن يسيء- عن عمْدٍ- فهم َهذه الآية ِليلوي معناها ويقطعها عن السياق ليستدل بها على مشروعية المصادر ِالأخرى التى أضافوها للقرآن الكريم. وحتى نفهم المدلول َالحقيقيَ لقوله تعالى ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه..﴾ ينبغي أن نقرأ الآية َمن أولها ونراها تتحدث عن الفيء- أو ما يفيء ُإلى بيت المال بلا حرب ولا قتال، يقول تعالى ﴿مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿٧﴾ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴿٨.﴾ (الحشر 7: 8)

فالآية تتحدث عن الفيءِ وتوزيعِه على الفقراء والمحتاجين دون الأغنياء وتقول للمؤمنين: وما آتاكم الرسول من هذا الفيءِ فخذوه وما نهاكم عنه من التطلع إلى ما ليس من حقكم فانتهوا عنه، ثم تُبين ُالآية ُالتالية ُاستحقاق َالفقراءِ المهاجرين لهذا الفيءِ بعد أن تركوا أموالهم وديارهم.

وقد كانت عادة ًسيئة ًللمنافقين فى المدينة أن يربُطوا رضاهُم عن الإسلام بمدى استفادتِهم المالية ِمنه مع أنهم أغنياء نهى الله النبيَ عن الإعجاب بأموالهم وأولادهم (التوبة 55، 85) ومع هذا الغنى كانوا يزاحمون الفقراء فى الحصول على الصدقات وقال تعالى عنهم وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴿٥٨﴾ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ﴿٥٩﴾ ۞ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ &#"font-size: 14pt">

وقد يقال فى الرد علينا أن القاعدة الأصولية تقطع بأن خصوص َالسببِ لا يمنع ُعموم َالاستشهاد. فإذا كانت الآية تتحدث عن الفيءِ فإن قولهََ تعالى فيها ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ﴾ عامٌ فى وجوب الأخذ بما آتانا به الرسول ُوبوجوب الانتهاء عما نهانا عنه

ومن السهل الرد ُعلى هذا الاحتجاج ِبما تعنيه كلمة ُالرسول ِفي القرآن وبوجوب طاعته لأنه فى أقواله يقرأ القرآن، والرسولُ- كما سبق بيانه- هو نبيُ الله حين ينطق بالقرآن أو هو القرآن ُبعد موت النبي. إذن فقد جاءنا الرسول بالقرآن وعلينا التمسك به، والله تعالى يقول ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ﴿٤١﴾..﴾ (الزمر 41) فهذا الكتاب هو الذي نزل على الرسول لنا، وهو ما آتانا به الرسول وعلينا أخذه والتمسك به.

وأما ما نهانا عنه الرسول ﴿وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ فهو كتابة ِغير ِالقرآن ِومحو كل مكتوب فى الدين خارج َكتاب الله.

روى أحمد ومسلم والدارمي والترمذي والنسائي عن أبي سعيدٍ الخدري قول َالرسول "لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن فمن كتب عني غير َالقرآنِ فليَمْحِه" وأخرج الدارمي- وهو شيخ ُالبخاري- عن أبي سعيد ٍالخدري أنهم "استأذنوا النبيَ في أن يكتبوا عنه شيئاً فلم يأذن لهم". ورواية الترمذي عن أبي سعيد ٍالخدري تقول: أستأذنا النبيَ (صلى الله عليه وسلم) فى الكتابة فلم يأذن لنا.

وروى مسلم وأحمد أن زيدَ بنَ ثابت- أحد ُمشاهير ِكتاب ِالوحي- دخل على معاوية َفسأله عن حديث وأمر إنساناً أن يكتبه فقال له زيدٌ: "أن رسول الله أمرنا ألا نكتب شيئاً من حديثه، فمحاه معاوية".

وقد وردت أحاديث ُتفيد ُالإذن َبكتابةِ بعض َالحديث ِمثل "اكتبوا لأبي شاه" وما ورد أن لابن عمرو بعض كتابات وأدعية فى الحديث، ولكن المحققين من علماء الحديث رجحوا الأحاديث التى نهت عن كتابة الحديث خصوصاً وأنه لا يعقل ُأن ينهي النبيُ عن شيءٍ ثم يأمر بما يناقِضُه، ثم ـ وهذا أهم الأهم ـ فإن النبي عندما مات لم يكن مع الصحابة من كتاب مدون غيرَ القرآن الكريم.

وبعضهم حاول التوفيق والمواءمة بين الأحاديث ِالتي تنهي عن كتابة غير ِالقرآن وبين الحديث ِالذي يفيد كتابة بعضهم بقوله بأن المراد َحتى لا تلتبس الأحاديث ُبالقرآن.

وهذه حجة لا تستقيم مع إعجاز القرآن الذى يعلو على كلام البشر والذى تحدى به الله ُالعربَ فعجزوا عن الإتيان بسورة من مثله، وذلك القرآن ُالمعجزُ للعرب ِكيف يخشى أحد ٌعليه من أن يختلط َبه شيء ٌآخر؟.

إن الثابت أن رسول َالله لم يترك بعده سوى القرآن.

والبخاري يعترف ُفي أحاديثه ِبأن النبيَ ما ترك غير َِالقرآن كتاباً مدوناً. يروي ابن ُرفيع: "دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس فقال له شداد بن معقل: أترَك َالنبيُ من شيء؟ قال ما ترك إلا ما بين الدفتين. أي القرآنَ في المصحف". قال "ودخلنا على محمد بن الحنفية فسألناه فقال: ما ترك إلا ما بين الدفتين" (البخاري 6/234. ط. دار الشعب).

ويؤكد أن النبي نهى عن كتابة غير ِالقرآن ِ وأن الخلفاءَ الراشدين بعده ساروا على طريقه فنهوا عن كتابة الأحاديث وعن روايتها..

فأبو بكر الصديق جمع الناس بعد وفاة النبي فقال: "إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشدُ اختلافاً فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه" وهذا ما يرويه الذهبي فى تذكرة الحفاظ. ويروي ابن عبد البر والبيهقي أن عمر الفاروق قال "إنى كنت أريد أن أكتب السنن وإنى ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله. وإنى والله لا أشوب كتاب الله بشىء أبداً. ورواياته البيهقي "لا ألبس كتاب الله بشىء أبداً" وروى ابن عساكر قال "ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق.. فقال: ما هذه الأحاديث َالتي أفشيتم عن رسول الله فى الآفاق؟.. أقيموا عندي لا والله لا تفارقوني ما عشت.. فما فارقوه حتى مات".

وروى الذهبي فى تذكرة الحفاظ أن عمر بن الخطاب حبس أبا مسعودٍ وأبا الدرداء ِوأبا مسعودٍ الأنصاري فقال: "أكثرتم ٌالحديث عن رسول الله"، وكان قد حبسهم فى المدينة ثم أطلقهم عثمان.

وروى ابن عساكر أن عمر قال لأبى هريرة: "لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس- أرضُ بلاده- وقال لكعبُ الأحبار: لتتركن الحديث عن الأول- أي أبي هريرة- أو لألحقنك بأرض القردة" وكذلك فعل معهما عثمان بن عفان.

وأكثر أبو هريرة َمن الحديث بعد وفاة عمر إذ أصبح لا يخشى أحداً وكان أبو هريرة يقول "إنى أحدثكم بأحاديث لو حدثت بها زمن عمر لضربني بالدرة- وفى وراية لشج رأسي- ويروي الزُهري أن أبا هريرة َكان يقول: "ما كنا نستطيع أن نقول قال رسول الله حتى قبضَ عمر، ثم يقول أبو هريرة: أفكنت ُمحدثكم بهذه الأحاديث َوعمر ُحي؟ أما والله إذن لأيقنت أن المخفقة- العصا- ستباشر ظهري فإن عمر كان يقول: "اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله".

وقال رشيد رضا فى المنار يعلق على ذلك "لو طال عُمْرُ (عُمَر)ٍ حتى مات أبو هريرة َلما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة".

ونكتفى بهذا لإثبات أن النبي أتانا بالقرآن ونهانا عن غيره، وأن كبار الصحابة ساروا على نهجه فى التمسك بالقرآن وحده، وأن تدوين تلك الأحاديث المنسوبة للنبى كان ولا يزال معصية ُللنبي ومخالفة ُلأمره حسب ما يروون هم فى كتبهم ، وأن ذلك التدوين المخالف لشرع الله تعالى ووصيةِ نبيه الكريم لم يبدأ إلا فى القرن الثالث، بعد وفاة النبى بقرنين من الزمان.

 

وهنا نتساءل.. إذا كانت تلك الأحاديث ُجزءاً من الإسلام كما يدّعون وقد نهى النبي عن كتابتها أليس ذلك اتهاماً للنبي بالتقصير فى تبليغ رسالته؟ وهل يعقل أن تكون الرسالة ُالإسلامية ُناقصة ٌوتظل هكذا إلى أن يأتي الناس ُفى عصر الفتن ِليكملوا هذا النقص المزعوم؟

إن الذي نعتقده أنَ النبيَ عليه السلام قد بلّغ الرسالة بأكملها وهي القرآن َونهى عن كتابة ِغيره، أما تلك الأحاديث فهي تمثل واقع َالمسلمين وعقائدَهم.. وتمثل فى النهاية ِتلك الفجوةُ الهائلة ُبين الإسلام وبين المسلمين

 

 

 

القرآن وكفى
يتناول هذا الكتاب باختصار كيف أن القرآن الكريم هو وحده المصدر الوحيد للاسلام ، ويثبت عداء البخارى للاسلام ورسول الاسلام عليه السلام .
more

اخبار متعلقة