رقم ( 3 ) : الفصل الأول من الباب الأول : وحشية الوهابية تقلب المعادلة فى أواخر العصر العثمانى
الباب الأول : ظهور الوهابية فى العصر العثمانى بديلا للتصوف السنى

الباب الأول : ظهور الوهابية فى العصر العثمانى بديلا للتصوف السنى  

الفصل الأول من الباب الأول : وحشية الوهابية تقلب المعادلة فى أواخر العصر العثمانى 

 

فهرس الفصل الأول : ( القضية الأولى :كيف ولماذ تغيرت المعادلة من الخضوع لوحشية الحاكم باسم الدين الى وحشية الرعية باسم الدين : نناقش هذا هنا :  لماذا  احتكر الحاكم المملوكى الظلم واستحلّ القتل  ؟

مقالات متعلقة :

القضية الثانية : التوحش الوهابى بإستحلال الدم وجعله دينا :  جذور التوحش الوهابى : ابن تيمية والحكم بقتل الناس جميعا .   

المؤرخ الجبرتى شاهدا على إنحلال المحكوم ووحشية العسكر العثمانى الحاكم    ـ الجبرتى شاهدا على الانحلال الخلقى فى مصر طبقا لدين التصوف السنى  ـ  الجبرتى شاهدا على وحشية الحاكم   ــ الجبرتى شاهدا ـ رغم أنفه ــ على توحش الوهابية .   

الخطاب الدينى الدعائى المنافق للشيخ محمد بن عبد الوهاب .   الدين العملى لابن عبد الوهاب هو حرب الله جل وعلا ورسوله )

 

الفصل الأول

وحشية الوهابية تقلب المعادلة فى أواخر العصر العثمانى 

 

القضية الأولى :

كيف ولماذ تغيرت المعادلة من الخضوع لوحشية الحاكم باسم الدين الى وحشية الرعية باسم الدين : نناقش هذا هنا :

 

لماذا  احتكر الحاكم المملوكى الظلم واستحلّ القتل  ؟

 

 نشر التصوف فى العصر المملوكى قيما إجتماعية جعلها دينا ، هى عدم الاعتراض وعدم الانكار، وأدى هذا الى الخضوع والخنوع لظلم الحاكم وطغيانه وقسوته بل نفاقه وإعتبار قسوته عقابا إلاهيا على ذنوبهم ، وبالتالى صار الحاكم يمارس ظلمه على أنه ( دين ) . ونعطى بعض التفصيلات :

عدم الاعتراض والانكار

 1 ــ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر قيمة إسلامية عُظمى يقوم بها المجتمع المسلم كله ، يتواصى بالحق والصبر ، ولا تتخصص فيه طائفة بعينها ، وهو مجرد التناصح القولى دون إكراه فى الدين ، وإذا أصر الشخص معاندا فالله جل وعلا يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) المائدة ) ، وفى كل الأحوال يكون التبرؤ من العمل المستوجب للإنكار وليس من الشخص نفسه ، يقول جل وعلا لخاتم المرسلين (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) الشعراء ).

2 ــ تطرف السنيون في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فجعلوا أنفسهم متخصصين ومُخولين بالتسلط على الآخرين فى تغيير ما يعتبرونه (المنكر) بالقوة وبالإكراه فى الدين والى درجة قتل المخالف لهم ، ووضعوا أحاديث وفتاوى بهذا الشأن . ولأنه واجه الانكار والاعتراض فقد تطرف التصوف فى الناحية العكسية ، يدعو الى عدم الاعتراض وعدم الانكار . ثم بعد تقرير التصوف السنى تحول الانكار ليكون على المتطرفين الصوفية أصحاب الإعلان عن وحدة الوجود والحلول والاتحاد والمتطرفين فى الانحلال الخلقى . وقد تعرضنا لذلك بالتفصيل فى كتاب ( الحياة الدينية فى مصر المملوكية بين الاسلام والتصوف) فى الجزء الأول والجزء الثالث . نتوقف هنا مع (عدم الاعتراض) التى نشرها فى مصر المملوكية .

أقـــوال الصوفية في عدم الاعتراض والإنكار

 إهتم المتصوفة في العصر المملوكى بمبدئهم فى عدم الاعتراض ، فدعوا للتسليم لهم بحالهم ، وزادوا في ذلك إلى عدم الانكار على العصاة منهم ، وتوسعوا فدعوا الى عدم الانكار على غيرهم من العصاة الآخرين ، ثم شملوا أهل الكتاب برعايتهم فأوصوا بعدم الاعتراض عليهم أيضا .ونعطى بعض التفصيل :

1ــ ممنوع على المريد أن يعترض على شيخه ، وصار من الأمثال الشعبية المصرية الصوفية الأصل ( من إعترض فقد انطرد). وإحدى مقامات الطريق (حفظ خاطر المشايخ وعدم الاعتراض عليهم )[1] وأوصى الشعراني المريدين بالتسليم للأولياء والتصديق لهم في كل ما يخبرون به في حق الوجود )[2] واعتبر أبوعلي الدقاق أن من دخل في صحبة الشيخ ثم اعترض عليه فقد نقض عهد الصحبة )[3] واعتبر الدشطوطي أن كثرة الاعتراض( بُعدا عن حضرة الله )[4] ولا غرو فإن( من صفات المريد الصادق ترك الاعتراض على الشيخ في الظاهر والباطن في ليل او نهار او غيبة او حضور )[5] ..

2ــ ومن المريدين التفتوا للآخرين فدعوهم لعدم الانكار علي الأولياء ،وحذروهم بالقول واللعن  والخواص دعا (لعدم الانكار على الولى )[6] او على (أرباب الأحوال (أى المجاذيب ) خوف الهلاك والمقت )[7] ، وقال أبو عثمان (لعن الله من انكر على هذا الطريق ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل : لعنة الله عليه) . وحذّر أبو المواهب الشاذلي من ينكر على الأولياء بأنه (لا يفلح أبدا) ذلك ان أبا المواهب الشاذلى إشتهر بكثرة مزاعمه بأنه يرى الرسول فى المنام ، فأنكروا عليه ذلك ، فزعم أن الرسول قال له في المنام : (وعزة الله وعظمته من لم يؤمن بها أوكذّبك فيها لا يموت الا يهوديا أو نصرانيا او مجوسيا  )[8]

3 ــ والشعراني يجعل من نفسه مثلا يدعو الآخرين للاحتذاء به، فهو يفتخر بكثرة أدبه وتعظيمه لكل من لبس زى الفقراء ( أى الصوفية ) وخوفه من فعل أي شيء يغيّر قلوبهم عليه حتى لا تحبط اعماله وان كانت مثل الجبال. وأوصى بحسن الظن في الفقراء وحسن التأويل لأحوالهم )[9] وهكذا تطرف الشعرانى فجعل الاعتراض على الأولياء جريمة تُحبط العمل الصالح ، مثل جريمة الشرك بالله جل وعلا. كل ذلك لحماية الأولياء الصوفية ...

4ــ وارتبط ذلك بالدعوة للتقليد وتجريم مناقشة المريد لشيخه ، مع إعطاء الشيخ منزلة الله جل وعلا. يتضح هذا من قول الشعرانى : ( فإذا قال المريد لشيخه (لِمَ) لا يفلح في الطريق بإجماع المشايخ وهي إساءة أدب في حق الله ..؟ )[10] . وبهذا أصبح التقليد دينا صوفيا يلتزم به أكابر الأولياء ، قال الشعراني : (لا يخرج أحد من الكمّل عن التقليد ، لأن التقليد هو الأصل )[11] واذا كان هذا حال (الكمّل) فكيف بالآخرين .؟؟ . والشعراني يقول عن عن نفسه أنه يصدق كل ما يروى عن الصالحين( وان إحالة العقل )[12] أي مهما نسبوا لأنفسهم او نسب غيرهم اليهم كرامات او منامات ينكرها العقل فهو يؤمن بها. 

5 ـ وابن الحاج كفقيه سُنّى انكر تقليد الناس للبدع الصوفية البعيدة عن السنة المتوارثة ، وقال عنهم ( فإن طالبته بالدليل الحق لم يقدر على ذلك ، إلا انه يقول : نشأت على هذا ، أو كان والدي وشيخي وجدي وكل من اعرفه على هذا المنهج )[13] . كان هذا فى القرن الثامن الهجرى . وفي عصر الشعراني فى القرن العاشر تم الانقلاب وصار التقليد هو السنة المتبعة المرعية حتى أنه يقول : ( يجب على الأخ ألاّ يقر اخاه على بدعه وإلا يتركه خوفا على نفسه )[14]  فالإنكار عليهم أصبح في نظره بدعة خرجت عن مألوف العصر تستوجب الحذر والخوف، ففى عصر الشعرانى أصبح التصوف هو الأصل وأصبح الاعتراض عليه هو الخروج على سنة العصر ومفهومه فانقلبت المفاهيم . والشعرانى كمدافع عن الصوفية ودارس للفقه استخدم مصطلحات الفقهاء في حربه للفقهاء المنكرين عليه ، ومن ذلك أن عباراته صيغت بحيث لا يعترض عليها أحد من حيث المبدأ خاصة إذا فصلت عن السياق، مع أنه يقصد بها الدفاع عن الصوفية ..

6 ــ واستخدم الصوفية الحرب النفسية بتهديد المعترضين بكراماتهم ، واستغلوا اعتقاد العصر في كراماتهم ، كما إستغلوا ما كان يتكرر فى العصر المملوكى كل عام تقريبا من العزل والقتل والسجن والتعذيب ، واستغلوا الأحوال العادية من المرض والموت ــ وأوهموا الناس ان ذلك حدث بسبب اعتراض المصاب عليهم . ولا تكاد تخلو كتب المناقب والمزارات من سبك وصناعة كرامات فعلت الأعاجيب بالمنكرين [15] . ومن الطريف أن احد المنكرين على ابن الفارض مات في طريق الحج ــ وهذا شيء عادي جدا ــ إلا انهم صوروا موته على انه (بسبب كلامه في ابن الفارض )[16] . وقال الشاذلي مهددا من يعترض على ( أحوال الصوفية ) : ( من اعترض على أحوال الرجال فلا بد ان يموت قبل اجله ثلاث موتات ، موت بالذل ، وموت بالفقر ، وموت بالحاجة الى الناس ، ثم لا يرحمه منهم )[17] . وهذا القول يعكس حدة غضبهم على المعترضين ، والشعور بالتأليه . وقال الشعراني  (ما رأينا أحد قط أذى الصالحين وأنكر عليهم بغمر طريق ومات على نعت الاستقامة ) والصالحون في عرف الشعراني هم الصوفية .وإيذاؤهم هو الاعتراض عليهم .

6ــ وتطورت الدعوة من عدم الاعتراض على الأولياء الصوفية الى دعوة الصوفية إلى عدم الاعتراض على المسلمين العاديين ، أو ( آحاد المسلمين ) فدعا الشعرانى الى عدم الاعتراض على (آحاد المسلمين أسوة بالمشايخ ،ولاحتمال أن يكون أحدهم وليا مستورا) .وليس مهما ان يكون الفرد عاصيا ، فقد افتخر الشعراني بانه لا ينكر على أي عاص ( أدبا مع الله ) ، وهذا نابع من عقيدة الصوفية فى ( وحدة الفاعل ) والتى عرضنا لها فى كتاب ( العقائد الدينية ) ووحدة الفاعل عندهم تنسب المعصية لله جل وعلا ، وليس للشخص العاصى. وبهذا يرفض الشعرانى الاعتراض على الشخص العاصى أدبا مع الله ، لأن الشعرانى يؤمن أن العصيان وقع من ( الله ) وليس من الشخص . تعالى الله جل وعلا عن ذلك علوا كبيرا.

7 ـ ثم يتطور الأمر الى التحذير من الاعتراض على اليهود والنصاري، واحتال لذلك بدعوى انه اعترض على يهودي فأصبح مثله يهوديا (من عصر يوم الجمعة إلى ثاني يوم الظهر ) وقال إن هذا وقع  لبعض العارفين ( ومكث على الكفر سنين ...) وقال (أن أحمد الزاهد اعترض على نصراني فتحول نصرانيا (حتى ندم وانتحب فرجع الى عقيدته) ..

8 ــ وأمتدت حمايتهم الى أصحاب الشذوذ الايجابى والسلبى ، فدعوا إلى عدم الانكار علي (محبي الغلمان ملاح الوجوه وعدم سوء الظن بهم ) على حد قول الشعراني الذي يفخر بأنه لا يعترض على (المخنثين لأنهم أصحاب امراض فربما ازدراهم أحد فابتلاه الله بمثل ما ابتلاهم به )

وتحذير الصوفية من الاعتراض( على آحاد المسلمين أسوة بالمشايخ ولاحتمال أحدهم وليا مستورا ) لم يكن ذلك حبا في آحاد المسلمين او رفقا باليهود والنصارى ، وإنما كان حماية لانحرافات طوائف الصوفية الذين اشتهروا في هذا المجال ، مثل الأحمدية والبرهامية الدسوقية والمطاوعة والقلندرية . ويتضح ذلك فيما يرويه الشعراني عن نفسه فقد انكر (على ما يفعله القلندرية في زاويتهم) يقول بزعمه (فإذا بشخص متربع في الهواء يقول لي: تنكر على القلندرية وأنا منهم .؟ فتركت الانكار).

وقيل في أولاد الشيخ أحمد المعلوف أنهم كانوا على غير نعت الاستقامة ) ومع ذلك أشاعوا أن انتقام البدوي حل على من ينكر عليهم [18] ، وكان الخواص أكثر صراحة حين دعا على عدم الطعن في ولاية من لم تظهر عنه اعمال صالحه )[19]  وعدم الاعتراض على الولى الصوفى الذي (يأخذ من الظلمة مالا )[20]

9 ـ ومن الطبيعي ألا يستجيب لذلك الفقهاء السنيون الحنابلة المنكرون على صوفية عصرهم ، فابن تيمية نعى عليهم دعوتهم إلى عدم الانكار على الأولياء العُصاة الواقعين فى الكبائر ، يقول ابن تيمية : (رغم تركهم الصلاة المفروضة وأكلهم الخبائث وفعلهم الفواحش وظلم الناس وقتل النفس بغير حق والشرك بالله )[21] .

10 ــ وبعد ذلك يحق لنا ان نتشكك في جدية طريقة الصوفية لإزالة المنكر والتي هي (الإنكار القلبي والتوجه إلى الله تعالى في إزالته ، فتلك طريقة العارفين [22] او على حد قول المتبولي (تغيير المنكر باليد للولاة، وتغييره باللسان للعلماء وتغييره بالقلب للفقراء )[23] .... فذلك الإنكار القلبي ــ حتى مع التسليم بوجوده فعلا ــ لا يتناسب مع مكانة الصوفية ونفوذهم في العصر كما لا يتناسب مع دعوتهم الجدية لعدم الاعتراض ولو بالقلب . وأجدى ان نضع في الاعتبار كثرة انحرافات طوائفهم وخشية المحققين منهم على سلامة الطريق الصوفي وتحصينه من إنكار خصومهم الفقهاء..وحقيقة إنكارهم القلبي تظهر في قول أبى المواهب الشاذلي (ان كان ولابد للمريد من إزالة المنكر فليتوجه إلى الله بقلبه )[24] ونتمعن قوله )ان كان ولابد للمريد ....) ذلك ان من شان المريد في رأي أبى المواهب (ألا يتصدر قط لإزالة منكر )[25] .

11 ــ على أن بعض الكبار من الصوفية استخدم نفس الأساليب الصوفية للتحذير من إزالة المنكر ، كالمنامات التي يؤمن بها المريدون ، فيروي ان إبن على وفا ــ مثلا ــ قد همَّ بالإنكار على عاص فسمع هاتفا يقول له (نحن خلقناهم وشددنا أسرهم) ، أما أبوه ( على وفا ) فقد اعتبر الساعي في إزالة المنكر معترضا على الله في احكامه [26]  ، طبقا لعقيدتهم فى ( وحدة الفاعل ). واستخدم البعض سلطته في حماية المنكر فروى أن مريدا من أتباع الشيخ مدين كسر جرة خمر فأخرجه الشيخ مدين من الزاوية [27] ..

11 ــ ولم يضع جهد الصوفية عبثا ، فقد انبهر الرحالة والوافدون الى مصر من الحرية السائدة فى الشارع المصرى المملوكى ، فيقول الرحالة ابن ظهيرة أن من محاسن مصر (عدم الاعتراض على الناس فلا ينكرون هم ولا يحسدونهم بل يسلمون لكل أحد حاله ، العالم مشغول بعلمه والعابد بعبادته والعاصي بمعصيته ، وكل ذي صنعة بصنعته ، ولا يلتفت احد إلى احد ، ولا يلومه بسبب وقوعه في معصية أو نقيصة )[28]  . وابن خلدون تعجب هو الآخر من احوال مصر حين أتى اليها ، يقول المقريزى عن المصريين: ( ومن اخلاقهم الانهماك في الشهوات والامعان في الملاذ وكثرة الاستهتار وعدم المبالاة. قال لي شيخنا عبد الرحمن بن خلدون : اهل مصر كأنما فرغوا من الحساب) ويقول عن القاهرة والصوفية بها ( والفقير المجرد فيها مستريح من جهة رخص الخبز وكثرته ، ووجود السماعات والفُرج ( أى المنتزهات ) في ظواهرها ودواخلها، وقلة الاعتراض عليه فيما تذهب إليه نفسه، يحكم فيها كيف يريد   من رقص في السوق وتجريد او سُكر من حشيشه أو غيرها او صحبة مردان ( أى شذوذ جنسى مع الصبيان ) وما أشبه بخلاف غيرها من بلاد المغرب).. ،  (ولا يُنكر فيها إظهار اواني الخمر ولا آلات الطرب ذات الأوتار ولا تبرج النساء العواهر وغير ذلك مما ينكر في غيرها من بلاد المغرب ، وقد دخلت في الخليج الذي بين القاهرة ومصر .... ورأيت من العجائب، وربما يقع فيه قتل بسبب السكر وهو ضيق ، عليه في الجهتين مناظر كثيرة بعالم طرب والتهكم والمخالفة )[29]  والنّص ليس بحاجة إلى التعليق....

 الخضوع والخمول والتذلل :ــ

1 ــ  بالتصوف عرف العصر المملوكي الخضوع والتسليم للأولياء الصوفية والحكام ،ويكفي اطلاق (الفقر) على صوفية العصر المملوكي وافتخارهم بهذا اللقب مع ما فى الفقر من ذلة وانكسار واحتياج للأخرين ، وتأليفهم و نشرهم حديثا يعبر عن الذلة والمسكنة هو ( اللهم أحينى مسكينا وأمتني مسكينًا واحشُرني في زُمْرَةِ المساكين) وصاغوا على منواله حديثا آخر يقول (اللهمَّ أحيني فقيرًا وأمتني فقيرًا واحشُرني في زُمْرَةِ الفقراء ) .

2 ــ إنّ عزة المسلم  الحقيقى في طاعته ربه وإيمانه به جل وعلا الاها لا شريك له ، بحيث لا يذل نفسه لسواه ، وفى نفس الوقت فهو لا يتكبر على بشر مثله ولا يتكبر على الضعاف بل يتطامن لهم ويتواضع . والإسلام دين العقل المتفتح، والمؤمن فيه  ليس امّعه يقلد الآخرين ويعيش خاملا، بل هو فعال للخير يتعاون على البر والتقوى .إن الله جل وعلا جعل الذلة والمسكنة قرينة بغضبه على العُصاة من بنى اسرائيل وأهل الكتاب ، فقال جل وعلا:(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ)(61) البقرة ) (  ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ) (112) آل عمران  )، بينما جعل العزة من نصيب المؤمنين مرتبطة بعزة الله جل وعلا ورسوله ، ولكن المنافقين لا يعلمون: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8)  المنافقون ). إن الايمان بالله جل وحده إلاها لا إله غيره يعنى أن يكون الفرد عبدا للخالق وحده ، وليس عبدا لمخلوق مثله ، وهذا فى حد ذاته فخر للمؤمن وعزّ له . والوقوع فى الشرك وتقديس البشر يؤسس الوضاعة والذلة والمسكنة داخل الفرد المُصاب بهذا الدين الأرضى . ومن هذا التذلل الدينى يمتد التذلل ( الاجتماعى ) ليصبح قيمة اجتماعية بسيطرة هذا الدين الأرضى ، فالذى يركع أمام رجل الدين الأرضى لا يجد غضاضة فى سجوده للمستبد وأصحاب السلطان . وهذا ما ساد فى العصر المملوكى . 

3 ـ والشعراني كان أكبر داعية للرضى بالظلم المملوكى ، وهو ــ كالعهد به ــ خير من يمثل دين التصوف المملوكي. وفي كتاباته يخلط بين الدعوة للخضوع للظلمة مع الخضوع للأخرين والتسليم وما ينتج عن ذلك كله من خمول، و يحتال لذلك بالمنطق المعوج مع التحذير والتخويف، كقوله :( اخذ علينا العهود ان نعلم إخواننا طريق الخلاص إذا قام عليهم قائم يؤذيهم ، وذلك بأن نأمرهم أن يحسنوا الى من قام عليهم بالدنيا والخلق والخدمة وليس هذا من الأمور المحرمة .. فمن عقل العاقل ان يذل ويخضع ويحسن الى من يشوش عليه ، ولو لم يكن بيده إلا لقمة واحدة دفعها إليه ، وذلك لأن جوع الانسان مع هدوء السر أحسن من شبعه مع النكد ، والذي حرّك النكد هو الذي بيده تسكينه، فهو أولى بالإعطاء من الحاكم الذي يريد ذلك المظلوم ان يحتمى به . ويقع للكثير من ضعفاء العقول أنهم يحرمون الخصم ويطعمون الحكام ، ولو انهم قد أعطوا الخصم بعض ما اعطوه للحاكم لربما سد باب الأذى )[30] . وبالمنطق نفسه يستدل الشعراني برأي الخواص في تفصيل العبد القن على العبد المُكاتب الساعى لشراء حريته من سيده ، يقول: (لأن المُكاتب ساع في خروجه من رقّ سيّده ودخوله  في رق نفسه وشهوته ، والعبد يُحمل إليه رزقه وهو في رق سيد واحد ، والمُكاتب يسعى في طلب رزقة ثلاثة : سيده ودينه ونفسه )[31] .

4 ــ والواقع ان علامة الصوفى ــ قبل الشعراني ــ تمثلت في قدرته على تحمل الأذى من القول بالغا ما بلغ ، فى نظير بلوغه هدفه.  وقد لفت ذلك نظر ابن الحاج المغربي حيث سجل أن عادة الصوفية في الرباطات استقبال الضيف بالشتم والإيذاء ، فاذا تحمّل وتجلّد عرفوا صدق صوفيته،  فادخلوه..)[32]

الخـــمــــول : ــ

1 ـ ومن الطبيعي ان يكون داعية التواكل هو داعية الخمول، فابن عطاء يقول في حكمه المأثورة ( ادفن وجودك في أرض الخمول ) [33] .. وفي نطاق دعوة الشعراني خلط بين التواكل الخمول ، وتمسح بالدين كعادته ، فجعل من أخلاق من أسماهم بالسلف الصالح  (تقديمهم السلامة على الغنيمة ، من حيث رفض الدنيا وفراغ يدهم منها، فكانوا يقدمون فراغ يدهم من الدنيا على جمعها وانفاقها في سبيل الله تعالى خوفا ان يُنعوا منها حقها )[34] ..والشعرانى لا يقصد بالسلف ( الصالح ) الصحابة والتابعين فى القرن الأول الهجرى ، ولكن يقصد السلف (الصالح) من شيوخه رواد التصوف . ومصطلح ( السلف الصالح ) على أى حال كذبة كبرى ، إعتاد الناس إبتلاعها دون التفكر فيها ، شأن أساطير كثيرة فى الأديان الأرضية تعيش متمتعة بالتصديق والتقديس لأنها فى مأمن من النقد والتمحيص .

2 ـ ونعود للشعرانى ، وهو يخلط التذلل بالدعوة للخمول في قوله : (أخذ علينا العهود أن تشهد مقامنا الحقيقي دائما كأنه دون مقام كل مؤمن ، فكأنه في التمثيل بالمحسوسات هو التراب الذي تطؤه الاقدام وتتبول عليه الكلاب ، ولا ترفع رؤوسنا عن الأرض ساعة من ليل او نهار . ومن فوائد هذا العمل ان صاحبه اذا وقع لا ينكسر ، لأنه جالس على الأرض بخلاف من رفع نفسه فوقها فإنه ربما ينكسر اذا وقع بقدر ما رفع نفسه . ) واستشهد بوصية أحمد الرفاعي لأتباعه : ( كونوا ذنبا ( ذيلا ) ولا تكونوا رأسا فإن الضربة اول ما تقع في الرأس) وبقوله للحاضرين (انظروا الى هذه النخلة لما قامت بصدرها جعل الله ثقل حملها عليها ولو حملت ما حملت لا يساعدها احد بخلاف شجرة اليقطين (القرع) لما مدت خدها على الأرض جعل الله ثقل حملها على غيرها ولو حملت مهما حملت لا تحس به )[35]..

3 ـ ويرى باحث ان الشعراني لا يميل للحض على الأعمال الإيجابية التي تستلزم جهودا في نضال البقاء ، بل اعتبر الكثير منها خروجا على الطريق كالشجاعة والاقدام ومقاومة الظلم، ويرى أن الأخلاق التي روج لها بين مريديه هي اخلاق العبيد [36]..

4 ــ وخمول التاريخ المصري في القرن التاسع وبداية العاشر يكاد يظهر في كل صفحة من تاريخ ابن اياس المعبر عن الرأي العام الشعبي ، والباحث فى تاريخ ابن اياس لا يرى حدثا هاما ، ويصطدم بتكرار قوله ( وأشيع بين الناس ) ، اى سريان الاشاعات فى شعب لا نشاط له سوى النميمة وتبادل الأقاويل . وسارت الأحوال على هذا النمط الرتيب البطىء الى أن جاء الاصطدام من الخارج بدخول السلطان الغورى فى العراك بين اسماعيل الصفوى وسليم العثمانى ، وما ترتب عليه أخيرا من فتح العثمانيين لمصر وتحولها الى ولاية عثمانية . ولم يحمل الفتح العثمانى جديدا يغير مسيرة المجتمع المصرى فى العصر العثمانى ـ بدليل أن العثمانيين أنفسهم إعتنقوا التصوف السنى على أنه الاسلام ، وحملوه شعارا فى غزوهم لأوربا، وأن أساطين التصوف المصرى ظل نفوذهم ممتدا بعد الاحتلال العثمانى ، وأبرزهم الشعرانى المخضرم الذى عاش أواخر العصر المملوكى وعايش العصر العثمانى ، وكتب معظم مؤلفاته فى هذا العصر العثمانى ومنها عن القيم الصوفية كالتواكل والخمول  .

5 ــ لذا أثرت كتابات الشعراني في تشكيل نفسية الشعب في العصر العثماني مع كثافة التصوف والجهل ، ولفت ذلك نظر كلوت بك الباحث الأجنبي فقرر أنه (لو تُرك المصريون وشانهم أخلدوا إلى البطالة والكسل وتراموا في أحضان الدعة والخمول ، أي انه اذا لم تستفزهم إلى العمل إرادة فعالة وهمة نشيطة آثروا قضاء حيلتهم في البطالة التامة ، فالنظر إلى المستقبل لا يمتد عندهم إلى أبعد من الغد )[37] .أي انهم استجابوا لدعوة الشعراني ، وعبر عنهم وآثر الراحة لنفسه ولهم . فالقيم الايجابية ترهق الداعي لها كما ترهق عصره .

المعادلة الأولى للتصوف هى تلك القيم التى جعلت المحكوم مطية طيّعة للحاكم ، تعززها المعادلة التالية وهى حق الحاكم فى إحتكار الظلم للمحكوم وممارسته هذا الظلم كشعيرة دينية،وهذا هو موضوعنا التالى.

 

 

 

 

 

بالتصوف الذى نشر الخنوع : إحتكر الحاكم الظلم ومارسه كشعيرة دينية

 بين (التصوف المملوكي) (والظلم المملوكي)

1 ـ  يلفت النظر ما يلاحظه الباحث في العصر المملوكي من ازدهار مضطرد لظاهرتين هما التصوف والظلم ، ويلفت النظر أيضاً انعدام الثورة المصرية على ذلك العسف المملوكي الذي يتزايد بتزايد الوقت وبازدياد عدد الداخلين في التصوف مما يجعل أصابع الاتهام تشير إلى رجالات التصوف المملوكي بحكم نفوذهم على المظلومين وتعاونهم مع الظالمين ..  العصر المملوكي قد مر بدون ثورة تستحق الذكر مع ما تحمله المصريون من عسف تلك الطبقة المملوكية الغريبة ، فالمنطق يحتم أن يكون الدين في هذا العصر مؤثراً في ذلك السكوت المريب على الظلم.  وقد كان التصوف زبدة الشعور الديني السائد في ذلك العصر.  ولكن التصوف شيء والإسلام شيء آخر؛  فالإسلام حرم الظلم والرضي به والاستكانة له مع القدرة على مواجهته  .

2 ـ ولكن أولياء التصوف طبقوا دينهم الصوفى ، فقاموا بدور خطير في إخماد الثورات المصرية ببث الخنوع والنفاق في نفسية الشعب ، واستخدموا الدين نفسه في إخضاع الرقاب للظلمة، ولماذا يثور الناس وهم يعتقدون أن ظلم الحكام هو كله من عند الله وأن الحاكم هو مجرد سوط يعذب به الله الناس ، كما علمهم صوفية ذلك العصر ..!. 

الظلم في العصر المملوكي : ــ

1 ـ والظلم في العصر المملوكي نتيجة واقعية لحكم عسكري غريب عن الشعب ومتحكم فيه اعتماداً على طائفة صوفية استحوذت على اعتقاد الشعب وتقديسه ــ وهذا في حد ذاته غريب عن عقائد الإسلام ــ  فجني الفريقان ـ المماليك والصوفية ـ الغُنم ودفع الشعب الغُرم في الدنيا والآخرة معاً..

2- وقد تفنن المؤرخون للعصر المملوكي في وصف أنواع الظلم وطوائف الظلمة .

فالأمير أرغون شاه وصفه أبو المحاسن بأنه من (الظلمة الغشمة الفسقة عارف بفنون المباشرة وتنويع المظالم )[38]، أتى أنه خلط بين المباشرة والمظالم ووصف الأمير المملوكي بالخبرة في الظلم.  ومع ذلك فإن المؤرخ أبا المحاسن وهو مؤرخ من أصل مملوكي يدافع عن السلطان المؤيد شيخ بأن للسلطان أن يقتل من اختار قتله [39]،

 أما ابن إياس وقد كان رشيق الثقافة فقد مدح السلطان أينال بأنه لم يسفك دماً قط في أيام سلطنته " بغير وجه شرعي " وقال (وهذه من النوادر الغريبة )[40]، وقوله ( بدون وجه شرعى ) مضحك ، لأن الشرع الشائع وقتها يجعل من حق السلطان قتل من يشاء . هذا علاوة على قيام السلاطين بتسخير القضاة لمآربهم وإعدام خصومهم .

3- ولا تكاد تخلو ترجمة لمملوك من الإشارة لظلمه وقسوته. ويكفى أن يراجع المرء بضع ورقات من أي حولية مملوكية ليسمع أنات المظلومين . أما الجند العاديون ممن حرموا الترجمة المستقلة في كتب الحوليات فقد وجدوا في الفتن وسيلة لنهب الناس وإرتكاب الفسق بالنساء والصبيان والقتل . وليس ذلك بالشيء الهين، فالفتن المملوكية كانت مستمرة خاصة في أوقات مرض السلطان واحتضاره أو في غيبته . وابن إياس كمؤرخ شعبي خير من يمثل هذا الحال ، يقول في حوادث سنة 872 يصف الأحوال وقت احتضار خشقدم ( ... هذا كله جرى والسلطان (خشقدم) في التلف والإشاعة قائمة بموته والقاهرة في اضطراب ليلاً ونهاراً .. والمشاعلية تنادى بطول الليل بالأمان والاطمئنان وأن أحداً لا يخرج من داره من بعد العشاء ، وكان كل من رآه يمشى من بعد العشاء تقطع أذنيه ومنخاره أو يضربه بالمقارع، فاستمر الحال على ذلك نحو من عشرين يوماً والناس في اضطراب)[41].  وعد ابن إياس (من جملة ألطاف الله تعالى أن في غيبة السلطان (قايتباي في الشام 882 ) لم يقع الخلاف بين الأمراء بل كان الأمان والاطمئنان في القاهرة وجميع ضواحيها حتى عد ذلك من النوادر)[42].

4- والمصادرات من أبرز مظاهر الظلم يقول المقريزي في حوادث سنة 814 (وفيه شنعت المصادرات بالقاهرة وفحُش أخذ الأموال من الناس ، حتى خاف البريء وتوقع كل أحد أن يحل به البلاء)[43] وأصبحت المصادرات حقاً عرفياً للسلطان يعاقب به من يشاء، فصادر برقوق ميراث أحد التجار وحرم الورثة منه ( فكان هذا أول شيء حدث من المظالم العظيمة من برقوق، واستمر يفتح من أبواب المظالم شيئاً بعد شيء)[44]. وقُبض على ناظر الخاص ابن البقري وهو واقف في الخدمة لأن نساءه اجتمعن في داره لفرح وعليهن من اللؤلؤ والجواهر والذهب والحرير ما يجل قيمته فصادر برقوق ذلك كله فبلغ نحواً من مائتي ألف دينار .. وضرب ابن البقري بالمقارع وأخذ منه ما يقارن الثلثمائة دينار[45].

ويقول ابن إياس عن حوادث سنة 875 (وفيه وقعت فيه نادرة غريبة وهي أن السلطان (قايتباي) أعاد إلى جماعة ما كان أخذه منهم من المال ما صادرهم) وقال ( ولكن فعل بعد ذلك بالمصادرات وأخذ الأموال ما يعجز عنه الواصفون). وعدّ ابن إياس من النوادر أيضاً أن قايتباي أعطى ورثة نجار فقير مائة دينار لأنه سقط فمات أثناء عمله بالقلعة وأن السلطان شمَّت كاتب السر حين عطس[46].ومع ذلك فإن قايتباي كان من خيرة السلاطين المماليك .

5 ـ والظلم مؤذن بالخراب وقد بلغ عدد الحائكين في عهد برسباي ثمانمائة بالإسكندرية بعد أن كانوا أربعة عشر ألفاً. يقول أبو المحاسن ( فانظر إلى هذا التفاوت في هذه السنين القليلة ، وذلك لظلم ولاة الأمور وسوء سيرتهم وعدم معرفتهم كونهم يطعمون في النزر اليسير بالظلم فيفوتهم أموال كثيرة مع العدل .والفرق بين العامر والخراب ظاهر)[47] . وبعد أن ذكر المقريزي أنواع المكوس والمظالم في عهده قال: ( ولعمري لقد سمعت عجائز أهلنا وأنا صغير يقلن: أنه ليأتي على الناس زمان يترحمون فيه على فرعون)(ولقد وقع ما أنذرنا به من قبل ولله عاقبة الأمور)[48]..

6 ـ والظلم في القرى كان أشد إيلاماً ولكن قلما تتعرض له المصادر التاريخية التى تركز على السلطان وحاشيته والقاهرة . وتردد في كتاب( هز القحوف) قصص عن خوف الفلاحين من انكسار مال السلطان [49] . وفي حوادث سنة 817 (أظهر الأستادار المظالم في البلاد حتى شتت الفلاحين وأخرب البلاد وجبى الأموال بالعسف وسار به للسلطان)[50].

7 ــ وبسبب ذلك الظلم الفادح كان الكثير من الفلاحين يهربون من قُراهم . وسُنَّت لذلك عقوبات صارمة توقع على الهاربين ، ومع ذلك فإن كثيراً منهم نجح في الهرب وصار من الصوفية[51] فاستفاد بهم التصوف وضم كثيراً منهم ، ففي مناقب الحنفي أخبارهم[52]ومعاناتهم في القرى قبل تصوفهم .   ووجد آخرون في أروقة القاهرة وحاراتها ملجأ للهرب حتى أنه نودي في القاهرة بخروجهم إلى بلادهم (فلم يعمل بذلك)[53].

8 ـ والأمثال الشعبية في العصر المملوكي تصور يأس الشعب من كل حاكم مهما أعلن عن عزمه على العدل فسينحو نحو من سبقه . وفي المستظرف(لا تفرح عمن يروح حتى تنظر من يجئ)[54].!!

وفي الأمثال اللاحقة للعصر المملوكي تفصيلات أكثر عن الظلم : ( اضرب البريء لما يقر المتهوم) (حاميها حراميها) (سيف السلطنة طويل). وترسب في الضمير معنى لكلمة (الستر) (واللي سترها في الأول يسترها في التاني)[55].ولا تزال الأم الريفية تدعو لابنها (الله يكفيك شر الحاكم الظالم).

 

دور أولياء التصوف في إرساء الظلم:

 

وضح هذا الدور في الكتابات الصوفية في الدولة البرجية حيث عم التصوف المملوكي والظلم معا إلى درجة صرحت معها المصادر الصوفية بما يصح وصفه بسياسة الصوفية في مساندة الظلم والظلمة .ويمكن أن تتبين ملامح هذا التأييد في خطين متوازيين: الأول :مناصرة الظلمة ونفاقهم . الثاني: دعوة المظلومين للرضا والخنوع ثم دعوتهم لنفاق الظلمة وصبغ ذلك كله بالدين وهو منهم برئ ...

وسنعرض لذلك بالتفصيل : ـ

أولا : ـ  مناصرة الظلمة ونفاقهم :ـ

1 ـ  وقد حرص المماليك في وثائق الوقف على المؤسسات الصوفية على إلزام الصوفية المعينين فيها بالدعاء لهم والاستغفار من أجلهم ليمارسوا الظلم وهم آمنون من غضب الله حسبما يعتقدون .

2 ــ وتمتعوا مع ذلك برضا أعوانهم من أولياء التصوف وحمايتهم في الدنيا والآخرة بزعمهم. وقد صرح أحدهم بالمغفرة للوالي مع ظلمه[56] واعتاد آخرون أكل طعام الظلمة ، واجتهد الشعراني في تلمس الأعذار لهم وعدم الاعتراض عليهم[57].

 وتطوع المتبولي بصحبة الولاة(والأخذ بأيديهم في الشدائد دون مقابل)كما يروى الشعراني[58] الذي يذكر أن العهود أخذت عليه بأن(نحوط جميع الولاة على اختلاف مراتبهم صباحا ومساءاً.. حتى لا ينزل عليهم بلاء)[59]وافتخر بأنه موضع سر الولاة وأنه(لا يفشي سر من صحبه من الولاة إذا قربه وشاوره في أموره)[60]وافتخر بمولاته (لمن والى الإمام الأعظم)[61].

3 ــ واستند الظلمة من ناحيتهم لمشاهير الصوفية المملوكيين فورد في مناقب الحنفي أن "ابن التمار هو من الظلمة المباشرين كان مستندا للفقراء البسطامية ولهم شيخ مبارك يعرف بالبسطامي)[62]

4 ـ واتخذ الظلمة من هذا التحالف ذريعة لزيادة الظلم واعترف الشعراني بهذا فيقول(أكثر الحكام يظلم وينهب ويجور ويبلص ويهلك الحرث والنسل ويقول ما دام الشيخ طيباً علىَّ ما أخاف)[63] .

وهكذا تقربوا لأولئك الأولياء (ولسان حالهم يقول ما دام سيدي الشيخ يدعو لنا وهو حامل حملتنا لا نبالي ولو ظلمنا العباد والبلاد)[64].

5 ـ ومن الطبيعي أن ينجو حلفاء الظالمين من ظلم الحكام ، فالشعراني نفسه الذي شهدنا رفقه بولاة الأمور وموالاته لهم يفخر ( بحماية أوقاف زاويته من الظلمة)[65] في وقت اشتد فيه الظلم على كاهل الآخرين .

6 ـ وهكذا لم ير الظلمة من المماليك تعارضاً بين الظلم والدين، حيث أن ممثلي الدين في نظرهم يباركون ظلمهم للناس ، فلم يعد غريباً أن نقرأ في ترجمة الأمير تمراز أنه كان (يظهر التدين ويقرأ القرآن وبه بطش وظلم وجبروت وكان يعاقب العقوبة الشديدة المؤلمة على الذنب الصغير)[66]

أما يلبغا السالمي فكان يضرب المظلوم (..ثم يصلي ثمان ركعات مع إطالة ركوعها وسجودها ولا يجسر أحد أن يترك الضرب دون فراغه)[67]

ويصور الشاعر الحراتي هذه الحالة الفريدة في أبياته[68]

 قد بلينا بأمير             ظلم الناس وسبح

فهو كالجزار فينا         يذكر الله ويذبح

وتقول الأمثال الشعبية في العصر المملوكي (فم يسبح وقلب يدبح)[69]

 7 ـ (ا )  ومن ناحية أخرى قام بعضهم بنفاق الظلمة فالبوصيري الشاعر الصوفي المشهور تغالي في مدح المماليك وهجاء العرب ومدح الشجاعي أحد مشاهير الظلمة[70] .

( ب) وتأثر مؤرخو العصر بالتصوف السائد ودانوا به فألفوا كتبا ملأوها نفاقا للسلاطين مثل الروض الزاهر للعيني والدر الفاخر لابن أيبك وتاريخ قايتباي للسيوطي وسيرة قلاوون والألطاف الخفية وغيرها .

( ج) ووضع أولياء التصوف لأنفسهم قواعد لنفاق الظلمة . فالخواص مثلاً كان إذا بلغه أن أمير عزم على زيارته يبادر بالذهاب للأمير ليخفف عنه المشقة[71]،ويلوم الخواص المظلومين وينافق الظلمة حين يقول (والله لو تولى الخضر عليه السلام أو القطب شيئاً من ولايات هذا الزمان لما قدر أن يفعل مع الناس إلا ما يستحقونه بأعمالهم ... إنما هي أعمالكم ترد عليكم)[72]وكفى بهذا تحريضاً على الظلم . وأمر الشعراني الصوفية إذا اجتمعوا بسلطان أو أمير أو كبير:(أن نسأله أن يدعو لنا ولو كان غير صالح فإن الله تعالى يستحي أن يرد دعاء هؤلاء الأكابر بين قومهم ورعيتهم)[73] وعد من المنن تأدبه مع الأمير الذي للشعراني عليه أيادي (فإنه أتم نظر منه ولذلك ولاه الله البلاد والرقاب)[74] وإذا دخل على أمير لا يذكر له حديث الأمير الذي كان قبله بخير خوفاً من إثارة نفسه حيث يكره أصدقاء الأمير السابق[75] وإن من المنن حسن سياسته للأمراء ويكتب لهم الكلام الحسن ويؤول ذلك في نفسه يقول (وهذا دأبي دائماً في سياسة الولاة إذا علمت أن أحداً منهم ظلم إنساناً لا أجعل ذلك الظلم على علمه وإنما أقول بلغنا أن جماعتك ظلموا فلاناً من غير علمك . وكثيراً ما أقول السلام على الأخ العزيز العبد الصالح فلان ، وأقصد بذلك صلاحه لأحد الدارين الجنة أو النار)[76]..   ونفاق الشعراني للسلطان وأولى الأمر وصل إلى درجة ادعائه المرض وامتناعه عن الأكل والنوم والضحك والجماع إذا ألمّ عارض بالظلمة[77] مواساة لهم ، وقد كان هذا شان شيوخه[78].

ثانياً : التأثير على المظلومين للرضا بالظلم :

   ومن ناحية أخرى حرص الصوفية على دعوة المظلومين للرضا بالظلم والخنوع بل ونفاق المظلومين للظلمة : 

1ـ  إما بالتخويف : ـ

 فأوجب المتبولي على كل من لا يقدر على حماية نفسه من ظلم الولاة ألا يتعرض لإزالة منكراتهم خوفاً من إيذائهم[79] .  وأسهب الشعراني في  بيان العقوبات التي واجهها من حاول إزالة ظلم الولاة[80].

2ـ وإما باستغلال الوازع الديني والمنطق المعكوس : ـ

  فالشعراني جعل من أخلاق السلف الصالح  كثرة الصبر على جور الحكام لأنهم يعتقدون استحقاقهم الظلم نظير ما ارتكبوه من ذنوب[81]،ويجب أن يتأسى الآخرون بهم (ومن استحق أن يحرق بالنار فصولح بالرماد لا ينبغي له أن يتكدر وأيضاً فإن الظالمين ما ظلمونا حتى ظلمنا أنفسنا أو غيرنا ومن تأمل حال الظالمين في هذه الدار وجدهم من حيث الأداة كزبانية جهنم)  وقال الخواص (الحاكم ظل والرعية شاخص فإن كان الشاخص أعوج كان ظله أعوج... فكل من شكا لنا من عوج أميره عرفنا عوجه هو)[82]،بل إن السلطان الجائر ـ في رأى الخواص ـ  (يدخل ضمن قول الرسول عليه السلام: لا تنازعوا الأمر أهله إذ لولا استحقاق الخلق له ما ولاه الحق عليهم). وأوصي الخواص الشعراني ألا يعترض على( من ولاه الله على الناس فإن المولِي له هو الله وألا يتكلم في حق الولاة الظالمين لأن ذلك يسقط أجر الصبر علي ظلمهم)[83].

3 ـ  وأكد الصوفية على تحاشي الدعاء على الظلمة  لأن جورهم لم يصدر حقيقة عنهم وإنما صدر عن المظلوم إذ لا يصح أن المظلوم يظلِم حتى يُظلم والحكام إنما مسلطون بحسب الأعمال .

4 ـ فالظالم حكمه حكم السوط الذي يضرب[84] به ومع أن الحق تعالى يقول( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم.. النساء 148) إلا أن الشعراني جعل من الآداب عدم سب الولاة الظالمين  وإن جاروا[85].

5 ـ بل ومنعوا اغتياب الظلمة  : ـ (بعدم الجلوس في مجالس القيل و القال والطعن فيمن ولاه الولاة)( وعدم ذكر مساوئ أكابر الدولة في المجالس واحتمال آذاهم )( وألا يكثروا من اللغو وجرّ قوافي الولاة وغيرهم)[86]..  إلى هذا الحد لم يسمحوا للمظلوم بأي متنفس ..

6ـ وفي الوقت نفسه أوجبوا على المظلومين طاعة الظلمة  بما يفرضون عليهم من مظالم ، فالمتبولي كان يوصي التجار بإعطاء(جباة الظلم)(عاداتهم وإلا حصل لكم الضرر أشد ما بخلتم به عليهم) (وكان يقول للتجار الذين يجيئون من الشام إلى مصر أعطوا الظلمة عادتهم)[87]،وقد أخذت العهود على الشعراني بالمبادرة إلى إعطاء المغارم للظلمة وعدم التشفع في ردها لأن ذلك حماية من الله وسترة للمظلوم. ويقول :( وكان هذا خلق على الخواص الذي كان يزن المغارم كآحاد الناس ويقول إن الله يكره العبد المتميز عن أخيه)[88] ، وتلك دعوة ليتأسى بها المظلومون.

7 ـ ثم أوجبوا تعظيم الظَلَمة وتكريمهم : ـ (أدباً مع الله الذي ولّاهم وحكمّهم فينا) بل أوجبوا تقبيل أيديهم وأرجلهم والقيام لهم في الطريق (إعطاء للمراتب حقها أو دفعاً لشرهم)، وكان الخواص يقول مراراً ( مذهبي القيام للأمراء) . وقد قبّل الخواص قدم المحتسب (أدباً مع الله الذي ولاه) رغم إنكار بعض الفقهاء عليه ذلك [89]. ولنا وقفة مع الفقهاء فيما بعد ..

8 ـ ثم دعا الشعراني المظلومين إلى نفاق الظَلمة وقعّد لذلك القواعد وربطها بالدين الصوفى  كعادته .

أ) فيقول :"أخذ علينا العهود أن ندور مع أهل زماننا ونخدع لهم .. ونتلون لهم كما يتلونون لنا ..  وأن نأمر إخواننا بأن يدوروا مع الزمان وأهله كيف داروا ولا يزدرون قط من رفعه الله عليهم ولو  في أمور الدنيا وولايتها كل ذلك أدباً مع الله عز وجل الذي رفعهم فإنه ما يرفع أحداً إلا لحكمة[90]."

ب) (ولا ترفع الشفاعة لحاكم إذا كان منحرف المزاج من المشفوع له [91] ولا يقام مولد في أيام نكد السلطان إلا أن يقصد صاحب المولد الدعاء للسلطان بالنصر وإهدائه ما يقرأ في المولد من قرآن[92].

ج) وألا يمكن أحداً من الأكابر حضور الموالد للأولياء ( فإن ذلك من سوء الأدب ومن أين لأمثالنا  من الضعفاء أن يستحق مشي الأكابر إلى داره)[93].      

د) وإذا حبس صديق أو قريب فتؤمر جماعته وإخوانه بعدم كثرة زيارته في الحبس وعدم كثرة إرسال الأطعمة له بل منعهم من ذلك أصلا إن أمكن (وذلك لأن المحبوس كلما ضاقت عليه كلما قصرت مدة حبسه)[94] وليس ذلك في حاجة لتعليق..

هـ)وأخيراً فإن هذا النفاق للحاكم مقصور على أيام حكمه، فإن عزل من ولايته  فلا تعظيم ولا نفاق

(لأن التعظيم حقيقة إنما هو للرتب لا للذوات، فمن عظّم أميراً أو صاحب جهة في أيام عزله كما كان أيام ولايته أخطأ وجه الحكمة ونقص مقامه بقدر ما رفع ذلك المعزول)[95]...    

ومع الأسف فإن البيئة الشعبية انقادت لهذه التعليمات بحكم اعتقاها في أولئك الصوفية . وقد ترددت أمثال شعبية في العصر المملوكي تعبر عن هذه الروح الوضيعة التي يأباها الله ودينه ومع ذلك فقد صبغت بمنطق معكوس يسير على النهج السابق لأولئك الصوفية المملوكيين .. ومن تلك الأمثال(الخضوع عند الحاجة رجولية)(الناس أتباع لمن غلب) (سلطان غشوم خير من فتنة تدوم)[96].

   وبعد العصر المملوكي حكيت أمثال أخرى على نفس النمط ( ضرب الحاكم شرف) (علقة تفوت ولا حد يموت)(طاطي لما تفوت)(ما حد يقول يا جندي غطي دقنك).

وكل ذلك للحفاظ على حياة ذليلة ، فإن خسر تلك الحياة ظلماً ـ وكثيرا ما يحدث هذا ـ يقول له المثل حينئذ ـ (المخوزق يشتم السلطان)[97]. وألفاظ الملق والنفاق كثيرة في اللغة الشعبية[98]يلمح فيها أثر  الصوفية   مثل (در مع الأيام إذا دارت)(إن دخلت بلد تعبد عجل حش وأطعمه)(اللي ما تقدر تواقعه نافقه) (اللي ما تقدر عليه فارقه وإلا بوس أيديه)( الأيد اللي ما تقدر تقطعها بوسها)( بوس الأيادي ضحك على الدقون)(إن كان لك عند الكلب حاجة قول له يا سِيد)[99]..

وأغلب تلك الأمثلة متأثرة كما يبدو بكتابات الشعراني إلا أن بعضها خرج عن تعليماته بالمثل القائل (السلطان مع هيبته  ينشتم في غيبته)[100] فقد منع الشعراني من شتم الظَلَمة واغتيابهم .. 

 

القضية الثانية : التوحش الوهابى بإستحلال الدم وجعله دينا :

 

جذور التوحش الوهابى : ابن تيمية والحكم بقتل الناس جميعا 

 مقدمة :

1 ـ قلنا أن التصوف فى العصر المملوكى نشر قيما إجتماعية جعلها دينا ،هى عدم الاعتراض وعدم الانكار، مع الخضوع والخنوع لظلم الحاكم وطغيانه وقسوته بل نفاقه وإعتبار قسوته عقابا إلاهيا على ذنوبهم ، وبالتالى صار الحاكم يمارس ظلمه على أنه ( دين ) .

2 ـ إستمر هذا ساريا حتى ظهور الوهابية فى أواخر العصر العثمانى ، فتغيرت المعادلة ، وحلّ التمرد بين الناس محلّ الخنوع ، وحلّ تغيير المنكر باليد وبالسلاح محل عدم الاعتراض وعدم الانكار ، ولم يصبح الحاكم وحده محتكرا للظلم واستحلال الدماء والأموال والاغتصاب بل صار هذا مُتاحا لم يملك القوة أو يسعى لامتلاك القوة . واصبحت هذه المعادلة الوهابية الجديدة دينا . وصارت الآن اشهر دين أرضى للمحمديين ينشرون به حمامات الدم فى أنحاء المعمورة.

3 ـ على أن هذه المعادلة الوهابية لم تأت من فراغ . كان لها جذور فى حركة ابن تيمية نعرض لها فى الآتى :.

 أولا :

إضطهاد ابن تيمية جعل فتاوية تستحل دماء الجميع

1 ـ إنفرد ابن تيمية فى عصره بكونه فقيها حنبليا يبادر بالانكار على ما يراه منكرا ويسعى الى تغييره ، وتكونت حوله مدرسة من أتباعه تواجه متطرفى الصوفية واصنامهم ، وقد حاز بأتباعه شُهرة فى الشام التابع للدولة المملوكية . وبهذه الشهرة أصبح رقما فى المعادلة السياسية المملوكية . وعرضنا لحركته وموقفه من السلطان المملوكى بيبرس الجاشنكير مغتصب الحكم من السلطان ( الشرعى ) الناصر محمد بن قلاوون . وقد رفض ابن تيمية وهو فى سجن بيبرس الجاشنكير الاعتراف بسلطته ، وبعد سقوط الجاشنكير وعودة الناصر محمد ابن قلاوون للحكم تمتع ابن تيمية بالحظوة قليلا ، ومارس نفوذه متسلطا مفتئتا على سُلطة الممليك فأخاف الناصر محمد بن قلاوون . وقد اصبح ابن قلاوون بعد كل ما تعرض له من تسلط أعوانه عليه فى السابق أكثر حساسية ورغبة فى الاستبداد بالحكم . لذا كان سهلا أن يصدق وشاية الصوفية أعداء ابن تيمية عن طموحات ابن تيمية السياسية . .وبهذا فإن الصوفية ــ الذين تخلوا من قبل عن السلطان الناصر محمد بن قلاوون ورقصوا لأعدائه الذين سلبوه سلطته من قبل ــ ما لبث أن رقصوا للناصر محمد بن قلاوون فى دولته بعد عودته ، ورأى الناصر محمد أن سلطته فى إستقرار بوجود الصوفية ، وهى فى خطر مع وجود ابن تيمية ، لذا تخلى ابن قلاوون عن صديقه ابن تيمية ووضعه فى السجن فلبث فيه الى أن مات . 

2 ـ كانت هذه هى المحنة الأخيرة فى حياة ابن تيمية فمات فى السجن بعد حياة حافلة بالتمرد والاضطهاد . وانعكس هذا الاضطهاد علي فكر ابن تيمية فكان اكثر حدة في التكفير لخصومه واكثر جرأة في الافتاء بقتلهم .

3 ـ شريعة الاسلام تحصر تشريع القتل فى القصاص فقط مع كون الدية مانعا للقتل قصاصا ( البقرة (178) وهو نفس الحال فى القتال الدفاعى فى الاسلام ، (البقرة 194 ). والله جل وعلا جعلها قاعدة تشريعية تكررت ثلاث مرات تؤكد على حُرمة قتل النفس البريئة التى لم تقع فى جريمة القتل . ( الانعام : 151 )( الاسراء 33 )( الفرقان : 68 ). ولكن شريعة ابن تيميه تستحل دماء الجميع . ونعطى عنها لمحة سريعة :

 ثانيا : 

فتاوى ابن تيمية فى قتل الصوفية جميعا

1 ـ من الغريب أن ابن تيمية يُحسن الظّن برواد التصوف الأوائل ، بل ويعتقد فى الكرامة الصوفية وشفاعة الأولياء الصوفية . ويعتقد في ولايتهم وكراماتهم وشفاعاتهم يقول ابن تيمية (ان الصوفية مجتهدون في طاعة الله) ويقول عن الجنيد احد ائمة التصوف السابقين (فإن الجنيد قدس الله روحه كان من ائمة الهدى ..)غاية ما هناك ان ابن تيمية يري ان طوائف من اهل البدع قد انتسبوا للتصوف وليسوا منهم كالحلاج . ويعتقد ابن تيمية في كرامات الاولياء حتي فيمن يعتبرهم من أولياء الشيطان .وقد تعرضنا لهذا فى مواضع كثيرة فى موسوعة التصوف .ولكنه فى فتاوية الحانقة يفتى بقتل كل معاصريه من الصوفية ، وبالتالى ينطبق هذا الحكم على المستقبل لدى من يؤمن بأن فتاوى ابن تيميه هى ( الشرع الشريف ) . والوهابيون يؤمنون بأن فتاوى ابن تيمية هى الشرع الشريف .!

2 ـ وبالتالى : هل انت من الصوفية المتطرفين ؟، هل تناصرهم ؟ هل تعتذر عنهم ؟ هل تتعاون معهم ؟ هل تتكاسل عن مواجهتهم ؟ يوجب ابن تيمية عقوبتك بل وقتلك وعدم قبول توبتك . عن الصوفية القائلين بالاتحاد بالله جل وعلا ، يقول ابن تيمية : (وهكذا هؤلاء الاتحادية‏:‏ فرؤوسهم هم أئمة كفر يجب قتلهم، ولا تقبل توبة أحد منهم، إذا أخذ قبل التوبة، فإنه من أعظم الزنادقة، الذين يظهرون الإسلام،ويبطنون أعظم الكفر، ..، ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم، أو ذب عنهم، أو أثنى عليهم، أو عظم كتبهم، أو عرف بمساعدتهم ومعاونتهم، أو كره الكلام فيهم، أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدرى ما هو،أو‏:‏ من قال‏:‏ إنه صنف هذا الكتاب، وأمثال هذه المعاذير، التي لا يقولها إلاجاهل، أو منافق، بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم، ولم يعاون على القيام عليهم، فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات؛ لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشايخ والعلماء، والملوك والأمراء، وهم يسعون في الأرض فسادًا، ويصدون عن سبيل الله‏.‏). أى قتلهم حتى لو تابوا .! ويقول : (وبالجملة، فلا خلاف بين الأمة أن من قال بحلول الله في البشر، واتحاده به،وأن البشر يكون إلها، وهذا من الآلهة، فهو كافر مباح الدم ‏.‏ ).

3 ـ وفى انحلالهم الخلقى جعله الصوفية المتطرفون دينا ، فهب ابن تمية يحكم بقتل المستحلين للمعاصى كالزنا والشذوذ ، يقول : (من يقول‏:‏ إن التلوط مباح بملك اليمين‏.‏ فهؤلاء كلهم كفار باتفاق المسلمين.) ويقول: ( والرجم شرعه الله لأهل التوراة والقرآن، وفى السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به‏)‏‏.‏ ولهذا اتفق الصحابة على قتلهما جميعًا، لكن تنوعوا فى صفة القتل‏:‏ فبعضهم قال‏:‏ يرجموا‏:‏ وبعضهم قال‏:‏ يرمى من أعلى جدار فى القرية ويتبع بالحجارة،وبعضهم قال‏:‏ يحرق بالنار، ولهذا كان مذهب جمهور السلف والفقهاء أنهما يرجمان بكرين كانا أو ثيبين، حرين كانا أو مملوكين، أو كان أحدهما مملوكا للآخر، وقد اتفق المسلمون على أن من استحلها بمملوك أو غير مملوك فهو كافر مرتد ). وابن تيمية يرى فى نفسه ومن هم على دينه أنهم جمهور السلف وانهم المسلمون .

4 ـ ويحكم بقتل الصوفية وغيرهم ممّن يسقطون التكاليف الشرعية ومن يدمن ( السّماع ) أى الغناء الصوفى. ويقول ابن تيمية:(وهذا الذي اتفق عليه الصحابة،هو متفق عليه بين أئمة الإسلام لايتنازعون في ذلك، ومن جحد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة‏:‏ كالصلوات الخمس،وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق أو جحد تحريم بعض المحرمات الظاهرة المتواترة‏:‏كالفواحش، والظلم والخمر والميسر والزنا وغير ذلك، أو جحد حل بعض المباحات الظاهرةالمتواترة‏:‏ كالخبز واللحم والنكاح ـ فهو كافر مرتد، يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وإن أضمر ذلك كان زنديقًا منافقًا ،لا يستتاب عند أكثر العلماء، بل يقتل بلا استتابة،إذا ظهر ذلك منه‏.‏).

الذى يهمنا هنا هو قوله (وإن أضمر ذلك كان زنديقًا منافقًا ،لا يستتاب عند أكثر العلماء، بل يقتل بلا استتابة،إذا ظهر ذلك منه‏.‏) ، إذ يتيح الفرصة ( الشرعية ) لاتهام خصومه على أساس أنهم ( يضمرون ) أشياء محرمة ، وبناء عليه يوجب قتلهم بلا استتابة إذا ظهر منهم بعض ما يمكن تفسيره على أنه ( يضمر ) فى قلبه تلك المحرمات . وبهذا يكون قتل الخصوم  سهلا بشريعته بمجرد التهمة ومجرد الظّن وبمجرد الاتهام بالنفاق فى قلوبهم ، وبالتالى يجب قتلهم فورا وبلا إستتابة .!!وما أسهل قتل جميع البشر بتهمة أنهم يضمرون كذا وكذا فى قلوبهم .

5 ـ وبعد أئمة الصوفية يتوجه ابن تيمية لأتباعهم من العوام يحكم بقتلهم بالجملة ، فمن يقدّم النذور للأولياء معتقدا نفع الأولياء يجب قتله : ( ومن اعتقد أن بالنذور لها نفعاً أو أجراً ما فهو ضال جاهل .. فهذا كافر مشرك يجب قتله . وكذلك من اعتقد ذلك في غيرها كائناً من كان‏ ). ومن يتّخذ أولياء الصوفية واسطة لله جل وعلا يجب قتله إن لم يتب :( فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه، فهو كافر مشرك، يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل‏.‏). وهنا ناقض ابن تيمية نفسه وقد كان معتقدا فى أئمة التصوف السابقين .

ويقول فى تحريم الركوع والانحناء للشيخ الصوفى وقتل من يفعل ذلك:( بل لا يجوز الانحناء كالركوع أيضا، .. وأما فعل ذلك تدينًا وتقربًا فهذا من أعظم المنكرات، ومن اعتقد مثل هذا قربة، وتدينًا فهو ضال مفتر، بل يبين له أن هذا ليس بدين ولا قربة، فإن أصر على ذلك استتيب، فإن تاب وإلا قتل‏.‏).

وكذلك قتل من يعتقد فى كرامة الأولياء الصوفية ( ومن قال‏:‏ إن لقول هؤلاء سرًا خفيًا وباطن حقٍ، وأنه من الحقائق التي لا يطلع عليها إلا خواص خواص الخلق، فهو أحد رجلين‏:‏ إما أن يكون من كبارالزنادقة أهل الإلحاد والمحال، وإما أن يكون من كبار أهل الجهل والضلال‏.‏ فالزنديق يجب قتله، والجاهل يعرَّف حقيقة الأمر، فإن أصرَّ على هذا الاعتقاد الباطل بعد قيام الحجة عليه وجب قتله‏.‏).

 وكذا من يؤمن بكرامة ( أهل الخطوة ) من الأولياء الصوفية الذين يستطيعون بزعمهم الحج فى طرفة عين كما ساد الاعتقاد فى العصر المملوكى ، وابن تيمية كان يؤمن بكرامات الأولياء فى عصره ولكن ينسبها الى فعل الشياطين وفى نفس الوقت يحكم بقتل صاحبها : ( ومن هؤلاء‏:‏ من يحمله الشيطان إلى عرفات فيقف مع الناس، ثم يحمله فيرده إلى مدينته تلك الليلة، ويظن هذا الجاهل أن هذا من أولياء الله، ولا يعرف أنه يجب عليه أن يتوب من هذا، وإن اعتقد أن هذا طاعة وقربة إليه، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل ).

ومن يعتقد بشفاعة الأولياء الصوفية مستحق عنده للقتل:( من ادعى أن شيخًا من المشايخ يخلص مريديه يوم القيامة من العذاب،فقد ادعي أن شيخه أفضل من محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ومن قال هذا فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. ). هذا مع إن إبن تيمية يؤمن بشفاعة النبى والأولياء الصوفية السابقين ، ولكنه ينكر ذلك على شيوخ الصوفية فى عصره ، ويجعل فوارق بين الشفاعة السنية والشفاعة الصوفية ، وكالعادة يحكم بقتل من يخالفه فى الرأى : ( والثاني‏:‏ دعاؤه وشفاعته، وهذا أيضًا نافع يتوسل به من دعا له وشفع فيه باتفاق المسلمين‏.‏ ومن أنكر التوسل به بأحد هذين المعنيين فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتدًا‏.‏..)( ..وأما دعاؤه وشفاعته وانتفاع المسلمين بذلك فمن أنكره فهو أيضًا كافر، لكن هذا أخفى من الأول، فمن أنكره عن جهل عُرِّف ذلك، فإن أصر على إنكاره فهومرتد‏.‏).

ثالثا :

فتاوى ابن تيمية فى قتل السنيين جميعا

 1 ـ هل أنت من السنيين المتعبدين المفكرين أصحاب الرأى ولكن تخالف ابن تيمية ؟

القتل ينتظرك بتهمتين : أنك مثل الخوارج،وأنك زنديق .

ويتكرر كثيرا فى فتاوى إبن تيمية تشبيهه لخصومه فى الرأى بالخوارج واستحقاقهم القتل مهما بلغ ورعهم ، مستشهدا بحديث كاذب ينسب للنبى عليه السلام علم الغيب فى المستقبل يتنبأ مقدما بظهور الخوارج وجعلهم كفارا مهما بلغ ورعهم ويحثّ على قتلهم . يقول ابن تيمية عن خصومه ( قد يكون لهم زهد وعبادة وهمّة كما يكون للمشركين وأهل الكتاب وكما كان للخوارج المارقين الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموها فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة ).‏أى يجعل فى قتلهم أجرا يوم القيامة. ويتكرر هذا المعنى كثيرا فى فتاويه ،ومنها: (وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بذمهم‏.‏‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم فيهم‏:‏ ‏(‏يَحْقِر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم،يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمِيَّة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ـوفي رواية ـ أينما لقيتموهم فاقتلوهم ـ فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم عند اللّه يوم القيامة، يقتلون أهل الإسلام‏‏‏.‏وهؤلاء اتفق الصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ على قتالهم ).

ويستدل ابن تيمية أيضا بقتل الخليفة المهدى العباسى للزنادقة ويجعله تشريعا :(..‏ فإن المهدي قتل من المنافقين الزنادقة من لا يحصي عدده إلا الله.. وكان المهدي من خيار خلفاء بني العباس وأحسنهم إيماناوعدلا وجودا فصار يتتبع المنافقين الزنادقة كذلك‏.‏) .

ونعيد التأكيد على الحقيقة الاسلامية القرآنية التى تؤكّد أن النبى عليه السلام فى حياته كان لا يعلم الغيب ولم يكن له أن يتحدث فيه ، ولم يكن يعلم ما سيجرى فى المستقبل وما سيحدث بعد موته ، ولكنّ أصحاب الديانات الأرضية من المسلمين خصوصا السنيين نسبوا له أحاديث عن غيوب اليوم الآخر كالشفاعة،وعما سيحدث بعد موته كالعشرة المبشرين بالجنة والتنبؤ بالخلفاء الراشدين والعباسيين ، وفى خضم الحروب الأهلية إخترع المتحاربون أحاديث يلعن بها بعضهم بعضا ، ومنها حديث لعن وقتل الخوارج الذى يكرّر ابن تيمية الاستشهاد به ، ويأخذ منه حجة على قتل خصومه فى الرأى   .

ويتهم خصومه الفقهاء السنيين بالنفاق ، يقول : ( وأما المنافقون من هذه الأمة، الذين لا يقرون بألفاظ القرآن والسنةالمشهورة فإنهم يحرفون الكلم عن مواضعه..). وقوله (لا يقرون بألفاظ القرآن والسنةالمشهورة ) يعنى أنهم مجتهدون لا يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم وصار مشهورا بمرور الزمن . يحكم عليهم ابن تيمية بالكفر وبالقتل :( ...‏وهؤلاء كلهم كفار يجب قتلهم باتفاق أهل الإيمان .).

وضمن خصومه فى الرأى من يخالفه فى قضية الاستواء على العرش ،وهم أكثرية أهل السنة من خارج الحنابلة ، ويرى تحريم تزويجهم والزواج منهم وتوارثهم ، ويقول : ( أرى أن يُستتابوا، فإن تابوا وإلا قتلوا‏.‏)

الأخطر أنه يرجح قتل من يعتبرهم زنادقة ومنافقين بلا إستتابة ، أى قتلهم حال العثور عليهم ، وكرّر هذا كثيرا ، يقول مثلا : ( والزنديق‏:‏ هو المنافق، وإنما يقتله من يقتله إذا ظهر منه أنه يكتم النفاق. ) أى يجعل سلطة الاتهام وتنفيذ القتل لكل شخص. ويقول عمّن جعلهم منافقين ضالين حتى :( ‏وإن أظهروا الإسلام، وكان في بعضهم زهادةوعبادة،) لماذا ؟ لأنهم ( يظنون أن إلى اللّه طريقا غير الإيمان بالرسول ومتابعته.) أى لا يتبعون الأحاديث التى إفتراها أهل السّنة  وجعلوها طريق الايمان الوحيد بالرسول ومتابعته . وبالتالى يحكم بكفر من لا يتبع تلك الأحاديث ، ويقول عنهم ( وهؤلاء منافقون كفار يجب قتلهم بعد قيام الحجة عليهم‏.‏).

رابعا :

  قواعد عامة وضعها ابن تيمية فى تشريع القتل العام :  

1 ـ يقول فى صياغة عامة ومطّاطة يسهل تطبيقها بالتأويل على كل خصومه وفق التفسير والتأويل السّنى :( من سب نبيًا من الأنبياء قتل باتفاق الفقهاء.).الخطورة هنا أنّ من يخالف معتقد السنيين فى الأنبياء يعتبرونه سبّا فى الأنبياء ، ومنه أى تأكيد على بشرية الأنبياء يكون سبّا فيهم ، مهما كان الدليل من القرآن الكريم .

2 ـ ويقول :( ومن لم يندفع فساده في الأرض إلا بالقتل قتل ، مثل المفرق لجماعة المسلمين ، والداعي إلى البدع في الدين .)، أى قتل أي مسلم بدعوى انه منافق يبطن الكفر ويظهر الاسلام ،بل هو يعطى الحجة لأي فرد لكي يقتل من يشاء من المسلمين بتهمة انه منافق ودون استتابة ،يقول ابن تيمية (اما قتل من اظهر الاسلام وابطل الكفر فهو المنافق الذي يسميه الفقهاء بالزنديق فأكثر الفقهاء علي انه يقتل وان تاب ) . يعنى هو مقتول مقتول مهما تاب .!!

3 ـ وقد يكون القتل على أهون سبب ، فمن ينكر السفر الى المسجد الأقصى أو الى قبر النبى فهو كافر مستحقّ للقتل:( فمن سافر إلى المسجد الحرام أو المسجد الأقصى أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فصلى في مسجده ؛ وصلى في مسجد قباء وزار القبور كما مضت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا هو الذي عمل العمل الصالح . ومن أنكر هذا السفر فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل . )

4 ـ ومصطلحات الكتاب والرسول والسّنة والشريعة تعنى التفاسير والأحاديث التى إفتراها أئمة السنيين فى العصر العباسى ، وتوارثها عصر ابن تيمية المملوكى . ومن يخرج عنها فهو كافر مباح الدم فى قاعدة تشريعية عامة يكرّرها ويؤكدها ابن تيمية فى صياغات متنوعة ، كأن يقول : ( فأما الشرع المنزل‏:‏ فهو ما ثبت عن الرسول من الكتاب والسنة، وهذا الشرع يجب على الأولين والآخرين اتباعه،)، أى ما قاله أئمة ( الحديث ) والتفسير فى العصر العباسى هو الذى ثبت عن الرسول مهما كان إختلاف الأئمة مع بعضهم ومع أنفسهم وحتى فى الكتاب الواحد وللمؤلف الواحد . ومن ينكر هذا يجب قتله ، يقول :( ومن لم يلتزم هذا الشرع، أو طعن فيه أو جوز لأحد الخروج عنه، فإنه يستتاب فإن تاب وإلاقتل‏.‏).

ويقول ( ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين؛ إنسهم وجنهم‏.‏فمن اعتقد أنه يسوغ لأحد الخروج عن شريعته وطاعته، فهو كافر يجب قتله‏.‏)  

5 ــ وطبعا توجد أحاديث أخرى للشيعة والصوفية نسبوها أيضا للنبى كما فعل السنيون ، وإبن تيمية كما يوجب الايمان بأحديث دينه المفتراة وحدها فإنه يوجب الكفر بالأحاديث التى إفتراها الآخرون ، وكالعادة يوجب قتل من لا يكفر بتلك الأحاديث ، ويقول بلهجة قاطعة وحازمة وجامعة مانعة:( جميع هذه الأحاديث أكاذيب مختلقة، ليتبوأ مفتريها مقعده من النار‏. ‏لا خلاف بين جميع علماء المسلمين ـ أهل المعرفة وغيرهم ـ أنها مكذوبة مخلوقة، ليس لشيء منها أصل؛ بل من اعتقد صحة مجموع هذه الأحاديث فإنه كافر؛ يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ) . فالأحاديث هى فقط أحاديث السنيين ، والعلماء فقط هم علماء السنيين . ولا يرى غير ذلك لأنهم أهل السنة .ومن يخرج عنهم فهو ضال وزنديق ومنافق وخارجى ومستحقّ للقتل .

جدير بالذكر أن لابن تيمية رسالة فى الأحاديث الموضوعة بعنوان ( أحاديث القصّاص ) ولم يقتنع بها تلميذه إبن القيّم فكتب فى الأحاديث الموضوعة كتابا آخر بعنوان ( المنار المنيف فى الصحيح والضعيف ). أى إنها أجتهادات مختلفة بين الشيخ وتلميذه مثل الاختلاف الذى كان بين البخارى وتلميذه مسلم فى ( الصحيحين ). وعليه فابن تيمية يحكم على تلميذه بالقتل لأنه إختلف معه فى تصحيح أحاديثهم السنية . هذا مع أنهم جعلوا ذلك الافتراء دينا وحكموا بأن من يخالفه فهو زنديق ، ولأن هذا الزنديق مسلم مفكر يستطيع إقامة الحجّة عليهم من داخل كتبهم فهم يحكمون بقتله حال العثور عليه ، وقتله دون محاكمة وقتله حتى لو تاب .

رابعا :

قتل من يصلى فى المسجد وقتل من يصلى فى بيته

1 ـ يفتي ابن تيمية بقتل المسلم الذي يجهر بالنية في الصلاة حتي لو كان يعتقد ان جهره بالنية يأمره به الله تعالي ،ويفتي بقتل المسلم الذي لا يلتزم بآداء الصلاة في وقتها او يؤخر صلاة الفجر الي بعد طلوع الشمس او يؤخر صلاة الظهر والعصر الي بعد غروب الشمس ، ويفتي بقتل المسلم الذي يحضر المسجد ولا يشارك في صلاة الجماعة . وفي كل ذلك يشترط ابن تيمية استتابة المتهم فان تاب والا قتل. ويقول ابن تيمية : ( والرجل البالغ إذا امتنع من صلاة واحدة من الصلوات الخمس، أو ترك بعض فرائضها المتفق عليها، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل‏.‏ ).  

2 ـ لو حاولت أن تنجو من كل هذه التهم التى تلاحقك بالقتل مع سبق الاصرار والترصد ، وإعتزلت وإعتكفت وأغلقت عليك باب بيتك فسيطاردك ابن تيمية يطرق بابك ليحكم أيضا بقتلك ، فقد سئل ابن تيمية عن ( رجل منقطع في بيته لا يخرج ولايدخل، ويصلي في بيته، ولا يشهد الجماعة، وإذا خرج إلى الجمعة يخرج مغطى الوجه، .. ، فهل يسلم له حاله ‏؟‏ أو يجب الإنكار عليه‏؟ ‏فأجاب :‏هذه الطريقة طريقة بدعية مخالفة للكتاب والسنة ولما أجمع عليه المسلمون‏.‏ والله تعالى إنما يعبد بما شرع، لا يعبد بالبدع، فإن التعبد بترك الجمعة والجماعة ـ بحيث يرى أن تركهما أفضل من شهودهما مطلقًا ـ كفر، يجب أن يستتاب صاحبه منه، فإن تاب وإلاقتل‏.‏ ).

أخيرا

 قتل الأطفال عموما

 1 ـ ولم ينج الأطفال من تشريع ابن تيمية بالقتل العام لهم . فهو يجيز قتل الطفل إذا صال ، أى إذا هاجم وإعتدى ، أى مجرد الاعتداء من ( طفل ) يوجب قتله حتى لو لم يسفر الاعتداء عن قتل ، يقول ابن تيمية : ( وقتل الصائل جائز وإن كان صغيرًا. .. وكذلك قتل الغلام كان من باب دفع الصائل على أبويه، لعلمه بأنه كان يفتنهما عن دينهما؛ وقتل الصبيان يجوز إذا قاتلوا المسلمين، )‏...

2 ــ وحتى بدون أن يكون الطفل صائلا معتديا ، يكفى أن نتوقع منه أن يكون صائلا عندما يكبر ، وبهذا التوقّع يجوز قتله تحسبا لإجرامه الغيبى المستقبلى الذى لم يحدث بعد ، ولكن إفترضوا أنه سيحدث ، يقول ابن تيمية :( بل يجوز قتلهم لدفع الصول على الأموال ، لهذا ثبت في صحيح البخاري أن نجدة الحروري لما سأل ابن عباس عن قتل الغلمان قال‏:‏ إن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر من الغلام فاقتلهم، وإلا فلا تقتلهم‏.‏وكذلك في الصحيحين‏:‏ أن عمر لما استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل ابن صياد، وكان مراهقًا، لما ظنه الدجال، فقال‏:‏ ‏(‏إن يكنه فلن تسلط عليه،وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله‏)‏ فلم يقل‏:‏ إن يكنه فلا خير لك في قتله، بل قال‏:‏ ‏(‏ فلن تسلط عليه‏) ..وذلك يدل على أنه لو أمكن إعدامه قبل بلوغه لقطع فساده لم يكن ذلك محذورًا .)

 

الجبرتى شاهدا على إنحلال المحكوم ووحشية العسكر العثمانى الحاكم

  مقدمة : عن الجبرتى مؤرخا :

1 ـ آخر مؤرخى مصر العظام كان عبد الرحمن الجبرتى ، المولود فى القاهرة عام 1753 ـ بعد ثمانى سنوات من ظهور الوهابية ، والمتوفى فيها عام 1825 ، بعد مرور سبع سنوات على تدمير الدولة السعودية . بالاضافة الى ذلك شهد الجبرتى مجىء الحملة الفرنسية 1798 ، ورحيلها ، وشهد ظهور محمد على الذى أسّس الدولة الحديثة فى مصر. سجل كل هذا فى تاريخه المشهور ( عجائب الآثار فى التراجم والأخبار ) ، وقد إتبع فيه المنهج الحولى فى التاريخ ، إذ يذكر الأحداث مرتبة حسب الأشهر والأعوام . وواضح فيه التأثر بالمقريزى ( ت 1442 م ) المؤرخ المصرى الفذّ فى العصر المملوكى ، وإن لم يبلغ عبقرية المقريزى فى التحليل ولا جُرأته فى الانكار على ما يحدث ولا عدد الكتب التى ألفها . إلا إن الجبرتى تفوق على مؤرخ مصرى مخضرم عاصر الدولتين المملوكية والعثمانية ، وهو ابن إياس ( ت  1523). كان ابن اياس متأثرا أيضا بالمقريزى ، وأقل ثقافة مثله ، ويظهر هذا فى كتابه ( بدائع الزهور ) وترك ابن اياس العديد من المؤلفات ، ولكن الجبرتى فى كتابيه ( عجائب الآثار ) و ( مظهر التقديس فى خروج الفرنسيس ) كان أكثر ثقافة من ابن اياس ، وأكثر تدقيقا إذ كان يطوف بالبلاد ويقرأ فى الدواوين ويتحرى الأسماء ويقابل الأشخاص بنفسه يتحرى منه الأخبار، عكس ابن إياس الذى لازم بيته فى القاهرة يسجل ما يُشاع فيها من أخبار وينقلها كما هى قائلا ( وأُشيع ..كذا ) . بالاضافة الى ملكته فى التحليل كاستاذه المقريزى كان الجبرتى منكرا على ما يحدث من الفقهاء والشيوخ ومن الولاة والعسكر ومن المماليك والأعراب . ولم يتحمل محمد على إنكاره ، خصوصا وقد رفض الجبرتى أن يوافقه وأن ينافقه فانتقم منه محمد على بأن إغتال ابنه، فاعتزل الجبرتى الكتابة يبكى علي ابنه المغدور ، ثم إغتال محمد على الجبرتى بعدها  بثلاث سنوات .

2 ـ  كان الجبرتى مؤخا معاصرا يكتب ما يحدث فى عصره من واقع المشاهدة ، وبهذه المعاصرة شهد المعادلة المملوكية العثمانية الصوفية السنية ، وهى إنفراد الحاكم بإستحلال الدماء ، وإنفراد المحكوم بالخضوع والخنوع ، وإنغماس الجميع فى الانحلال الخلقى بلا إعتراض أو إنكار ، كما شهد الجديد الذى جاءت به الوهابية فى دولتها الأولى ، وهى إستحلال الدماء وتحويل تغيير المنكر الى الإكراه فى الدين .

3 ـ ونبدأ بلمحات مما أورده الجبرتى عن وحشية الحاكم بسفك دماء المحكومين وسلبهم وتسخيرهم وسبى وإغتصاب نسائهم وصبيانهم ، وانكباب الجميع على الانحلال الخلقى فى الموالد . ولا مجال للإنكار أو الاعترض هنا أو هناك . وعندما إعترض الجبرتى إُغتيل إبنه وفقد حياته .  

أولا :

الجبرتى شاهدا على الانحلال الخلقى فى مصر طبقا لدين التصوف السنى

1 ـ يتضح من كتاباته أن التصوف إشتدت سيطرته أكثر مع إزدياد التخلف والجهل . فقد كانت الحياة الاجتماعية والدينية فى العصر العثمانى خاملة لا تنبض فيها الحيوية الا حول القبور المقدسة وشيوخ التصوف الأحياء. تمركز العصر العثمانى حول التبرك بالأولياء الأحياء وتقديس قبور الأموات منهم واقامة الموالد حولها وفقا للتصوف السنى الذى كان نجومه العلماء والفقهاء وشيوخ الصوفية معا ، وحيث كانت الموالد والأضرحة ـ ولا تزال ـ تجمع مظاهر الشرك مع الانحلال الخلقى فى نفس المكان والزمان. وهو نفس ما يحدث الآن فى مولد البدوى ومولد الحسين ومولد السيدة زينب فى مصر. الجبرتى وهو شيخ أزهرى ووالده أيضا كان شيخا أزهريا لم يتوانى فى رصد بعض هذا الانحلال برغم مشاركة زملائه الشيوخ فيه . 

2 ـ يقول الجبرتى فى التعريف بأحد شيوخ الصوفية المعاصرين له:( الشيخ الإمـام المعمـر القطـبأحـد مشايـخ الطريـق صاحـب الكرامـات الظاهـرة والأنـوار الساطعةالباهرة عبد الوهاب بن عبد السلام ...) هذه أوصاف التقديس المعتادة لأولياء التصوف. وبعد سرد مناقبه كالمعتاد يقول عن موته ودفنه (..توفي في ثاني عشر صفر سنة 1172  ودفن بجوار سيدي عبد الله المنوفي) .

ثم يذكر الجبرتى ما حدث لقبره بعد موته : (ونزل سيل عظيم وذلك في سنة 1178 فهدم القبور وعامـت الأمـوات ، فانهـدم قبـره وامتـلأبالمـاء ) الذى حدث يثبت أنه لا كرامة لهذا الولى الصوفى أو لقبره ولا لأى قبر طالما يقدر السيل على ازالتها وبعثرة عظامها ، ولكن يحدث العكس ، اذ يحل التقديس بالقبر الذى تلاشى والعظام التى ألقاها السيل.  يقول الجبرتى ( فاجتمـع أولاده ومريـدوه وبنـوا لـه قبـرًا في العلوة على يمين تربة الشيخالمنوفي ، ونقلوه إليه قريبا من عمارة السلطان قايتباي، وبنوا على قبره قبة معقودة، وعملوا له مقصورة ومقاما من داخلها وعليه عمامة كبيرة،) أى تحول القبر الذى دمره السيل وجعله أكوام زبالة الى ضريح فاخر مقدس لهدف نلمحه بين السطور ، فالذين أقاموا هذا المعبد المقدس هم أبناء الفقيد الراحل وتلاميذه، أى هى تجارة رائجة. لا يستلزم الأمر سوى الصلة ببعض الوجهاء ممن يعتقدون فى القبور المقدسة والآلهة المصنوعة. هذا ما يفسره قول الجبرتى : (  وصيروه مزارا عظيمًا يقصدللزيارة ويختلـط بـه الرجـال والنسـاء‏.‏ثـم أنشـأوا بجانبه قصرًا عاليًا عمّره محمد كتخدا اباظة)

 وفى مقابل بناء المعبد الجديد هدموا قبورا أخرى لآلهة قديمة فقدت الشهرة والأتباع . يقول الجبرتى عن المكان الذى خصصوه للدواب والحمير انه كان قبلها موضع قبور لآلهة أخرى (وسوروا لهرحبة متسعة مثل الحوش لموقف الدواب من الخيل والحمير، دثروا بها قبورا كثيرة بهاكثير من أكابـر الأوليـاء والعلمـاء والمحدثيـن غيرهـم مـن المسلميـن والمسلمـات‏.)

بعدها يأتى المقصود وهو اقامة مولد وما يعنيه المولد من قرابين و نذور وولائم وموائد. يقول الجبرتى (‏ثـم أنهـم أبتدعـوا له موسمًا وعيدًا في كل سنة، يدعون إليه الناس منالبلاد القبلية والبحريـة،) ، أى يأتى الفلاحون والأعيان من الصعيد والوجه البحرى للتبرك .

يقول الجبرتى عنهم (  فينصبـون خيامـًا كثيـرة وصواويـن ومطابخ وقهاوي، ويجتمعالعالم الأكبر من أخلاط الناس وخواصهم وعوامهم وفلاحي الأرياف وأربـاب الملاهـيوالملاعـب والغـوازي والبغايـا والقراديـن والحـواة) فطالما جاءت الزبائن فلا بد أن يأتى من يقوم بالترفيه عنهم من الفنانين والعاهرات.

ويصف الجبرتى الأعمال الخيرية والعبادات العملية لدين التصوف السنى التى كان ينهمك فيها أولئك الحجاج الأبرار فى المولد، فيقول عن حجاج المولد ( فيملأون الصحراء والبستانفيطـأون القبـور يوقـدون عليهـا النيـران ويصبـون عليها القاذورات ، ويبولون، ويتغوطون، ويزنون ، ويلوطون، ويلعبون، ويرقصون، ويضربون بالطبول والزمور ليلا  ونهارًا، ويستمر ذلكنحو عشرة أيام أو أكثر،) هذه هى صلواتهم ونسكهم وقيامهم بالليل... لواط وزنا جماعى لا يعرف القيود أو الحدود..

ويأتى سؤال بسيط : أين هم العلماء الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؟ الجواب أيضا بسيط: كانوا هم القادة والأئمة فى حفلات الزنا واللواط  . يقول الجبرتى كأنه يعرف السؤال مقدما : ( ويجتمع لذلك أيضًا الفقهاء والعلماء، وينصبون لهم خيامًاأيضًا، ويقتدي بهم الأكابر من الأمراء والتجار والعامة، من غير إنكار،)

سؤال آخر بسيط : لماذا لا يتصدى العلماء للاصلاح ؟ لماذا كانوا الأئمة فى الفسوق وفى الدعوة له ؟ الجواب بنفس البساطة : لأنهم اعتبروا الفسوق دينا وفق طقوس التصوف السنى. وكأن الجبرتى يعرف السؤال مقدما فقال عنهم : ( بل ويعتقدون ذلكقربة وعبادة‏.‏ولو لم يكن كذلك لأنكره العلماء فضلا عن كونهم يفعلونه ، فالله يتولىهدانا أجمعين‏.‏(   . هنا تحليل خفىُّ من الجبرتى ، وإنكار واضح ، يقوله على طريقة المقريزى .

ثانيا :

 الجبرتى شاهدا على وحشية الحاكم 

1 ـ  عاش الجبرتى فترة إضطراب سياسى وعسكرى . كانت مصر ولاية عثمانية ، تنوع فيها الحاكم وعسكره. فيها الوالى العثمانى والحامية العثمانية ، وكانت تلك الحامية مجرد عصابات من جنسيات مختلفة تتقاتل فيما بينها وتقاتل العصابات الأخرى وهم المماليك الذين إستمر جودهم فى مصر العثمانية يحكمون مصر من الداخل فى إطار التبعية للدولة العثمانية . تركّز إهتمام الوالى العثمانى على تحصيل الأموال ، وتركز إهتمام السلطان العثمانى على ألا يدع واليا من ولاته مستمرا فى جكم مصر حتى لا يستقل بها . تغيير الولاة اضاف المزيد من الظلم والفساد لأن الوالى يريد فى ولايته القصيرة أن يسرق ما إستطاع ، تاركا مصر تموج فى بحور من فتن عسكرية لا تنتهى . والضحايا فى هذه الفتن بين ( القوات المسلحة ) هو الشعب المصرى الأعزل . والذى كان ينفّس عن معاناته بالانغماس فى الانحلال الخلقى يؤمُّه الشيوخ والأولياء الصوفية . إستطاع محمد على أن ينفرد بحكم مصر . وكان تكليفه بمواجهة الوهابيين من قبل السلطان العثمانى أكبر خطوة فى هذا ، إذ تخلص من المماليك ومن الحامية العثمانية و أسّس جيشا مصريا واسطولا وحارب الدولة العثمانية نفسها وظهر خصما لأوربا فعملت على تحطيمه . هى ملحمة كبرى لا وقت لها الآن . نعود الى الجبرتى ـ خصم محمد على ـ ننقل عنه بعض مظالم القوات المسلحة العثمانية والمملوكية .

2 ـ يقول الجبرتى :

2 / 1 : ( استهل شهر شعبان بيوم السبت سنة 1217 . فيه شرعوا في عمل متاريس جهةالجيزة وقبضوا على أناس كثيرة من ساحل مصر القديمة ليسخروهم في العمل‏.‏) أى إعتقال الناس عشوائيا لتسخيرهم فى العمل .

 2 / 2 : ( شهر ذي الحجة الحرام سنة 1217 استهل بيوم الجمعة في يوم الاثنين. رابعه قتلوا شخصًا عسكريًا نصرانيًا عند باب الخرق . قتله أغات التبديل ، بسبب أنه كانيقف عند باب داره بحارة عابدين هو ورفيقان له ، ويخطفون من يمر بهم من النساء فيالنهار الى أن قبض عليه وهرب رفيقاه‏.‏) ثلاثة من الحامية العثمانية إحترفوا خطف النساء نهارا . فقتلهم أغوات المماليك . وفى نفس الشهر ، يقول الجبرتى : ( وفيه أيضًا أخرجوا من دار بحارة خشقدم قتلى كثيرة نساء ورجالًا منفعل العسكر‏.‏) أى هجمت الحامية العثمانية على بيت فى حارة خشقدم وقتلوا من فيه من الرجال والنساء .

2 / 3 : حدثت معركة بين (محمد على ) وخصومه فى دمياط . ولكن ما ذنب أهل دمياط ؟ يقول الجبرتى فى أحداث شهر ربيع الأول سنة 1218  : ( وفي يوم الأربعاء سادس عشره وردت مكاتبات من عثمان بك البرديسيبالخبر بوقوع الحرب بينهم وبين محمد باشا وعساكره‏.‏وفي يوم الاثنين رابع عشره وقع بين الفريقين مقتلة عظيمة .. وكبسوا على دمياط بمخامرة بعض رؤساء عساكر الباشا ، وفتكوا في عسكر الباشابالقتل .. ونهبوا دمياطوأسروا النساء وافتضوا الأبكار وأخذوهم أسرى ، وصاروا يبيعونهم على بعضهم ، وفعلواأفعالًا شنيعة من الفسق والفجور ، وأخذوا حتى ما على أجساد الناس من الثياب ، ونهبواالخانات والبيوت والوكائل وجميع أسباب التجار التي بها من أصناف البضائع الشاميةوالرومية والمصرية ، وكان شيئًا كثيرًا يفوق الحصر وما بالمراكب حتى بيع الفرد الأرزالذي هو نصف أردب بثلاثة عشر نصفًا وقيمته ألف نصف والكيس الحرير الذي قيمتهخمسمائة ريال بريالين ، الى غير ذلك والأمر لله وحده.! ) هنا سلب ونهب وإغتصاب جماعى .!

2 / 4 : فى شهر شعبان سنة 1219:(  وفي يوم الخميس ثاني عشره، نودي بخروج العسكر إلى السفر لجهة قبلي ولا يتأخر منهم من كان مسافراً . فشرعوا في الخروج وقضاء حوائجهم، وصاروا يخطفون حمير الناس والجمال.) هنا سلب ونهب وخطف

2 / 5 : فى شهر جمادى الثانية سنة 1225:  فى التجهيز للحملة ضد الوهابيين : ( وفي يوم السبت خامسه ارتحل الباشا بعساكره من الجيزة وانتقل إلى جزيرة الذهب ونودي في المدينة بخروج العساكر المقيمين بمصر ولا يتخلف منهم أحد فزاد تعديهم وخطفهم الحمير والجمال والرجال والفلاحين وغيرهم لتسخيرهم في خدمتهم وفي المراكب عوضاً عن النوتية والملاحين الذين هربوا وتركوا سفائنهم ، فكانوا يقبضون على كل من يصادفونه ويحبسونهم في الحواصل ببولاق. واتفق أنهم حبسوا نحو ستين نفراً في حاصل مظلم وأغلقوه عليهم،  وتركوهم من غير أكل ولا شرب أياماً ، حتى ماتوا عن آخرهم . )، هنا خطف وتسخير وقتل .! 

2 / 6 : فى شهر جمادى الثانية سنة 1226:في عشرينه خرج الباشا إلى البركة وطلب الجمال وقوافل العرب وشهل طائفة من العسكر للسفر إلى السويس فاهتموا بالدخول والخروج من المدينة ، وطفقوا يخطفون الحمير والبغال والجمال وكل ما صادفوه من الدواب ، ومن وجدوه راكباً ولو من وجهاء الناس أنزلوه عن دابته وركبوها ، فانقبض الناس ، وانكمش غالبهم عن الركوب لمصالحهم وأخفوا حميرهم وبغالهم. )  خطف وسلب .

2 / 7 : شهر رمضان سنة 1226 :عن حملة طوسون بن محمد على فى ينبع . يقول الجبرتى : (  وفيه وردت الأخبار بأن العساكر البحرية ملكوا ينبع البحر ونهبوا ما كان فيه من ودائع التجار. )  ( ونهبوا كل ما كان بالينبع من الودائع والأموال والأقمشة والبن وسبوا النساء والبنات الكائنات بالبندر وأخذوهن أسرى ويبيعوهن على بعضهم البعض . ووصل المبشرون بذلك في عشرينه فضربوا لذلك مدافع من القلعة كثيرة ..ً وطافت المبشرون على بيوت الأعيان ليأخذوا منهم البقاشيش ، وأرسلوا بتلك البشارة شخصاً معيناً كبيراً إلى إسلامبول يبشرون أهل الدولة وسلطان الإسلام وكان ذلك أول فتح حصل..).!! هذا هو الفتح الاسلامى عندهم .

2 / 8 :.شهر المحرم سنة 1227:يحكى الجبرتى وضعا مغايرا . جنود الوهابيين كانوا متمسكين بالصلاة وقت الحرب بنفس تمسك جنود الدولة العثمانية بالسلب والنهب والسبى للمدنيين المسالمين من اتباع الدولة العثمانية . فى تعليل هزيمة طوسون ينقل الجبرتى عن شاهد عيان كان فى الحملة وقتها ، يقول : ( ولقد قال لي بعض أكابرهم من الذين يدعون الصلاح والتورع : أين لنا بالنصر وأكثر عساكرنا على غير الملة ؟ وفيهم من لا يتدين بدين ولا ينتحل مذهباً ؟ وصحبتنا صناديق المكسرات ؟ ولا يسمع في عرضينا أذان ؟ ولا تقام به فريضة ؟ ولا يخطر في بالهم ولا خاطرهم شعائر الدين . والقوم ( أى الوهابيون ) إذا دخل الوقت أذن المؤذنون وينتظمون صفوفاً خلف إمام واحد بخشوع وخضوع ، وإذا حان وقت الصلاة والحرب  قائمة أذن المؤذن وصلوا صلاة الخوف ، فتتقدم طائفة للحرب وتتأخر الأخرى للصلاة ، وعسكرنا يتعجبون. ( يقول الوهابيون ) : "هلموا إلى حرب المشركين المحلقين الذقون المستبيحين الزنا واللواط الشاربين الخمور التاركين للصلاة الآكلين الربا القاتلين الأنفس المستحلين المحرمات ". وكشفوا عن كثير من قتلى العسكر فوجدوهم غلفاً غير مختونين . ولما وصلوا بدراً واستولوا عليها وعلى القرى والخيوف ــ وبها خيار الناس وبها أهل العلم والصلحاء ــ  نهبوهم وأخذوا نسائهم وبناتهم وأولادهم وكتبهم ، فكانوا يفعلون فيهم ، ويبيعونهم من بعضهم لبعض،ويقولون : "هؤلاء الكفار الخوارج .". حتى اتفق أن بعض أهل بدر الصلحاء طلب من بعض العسكر زوجته فقال له : "حتى تبيت معي هذه الليلة وأعطيها لك في الغد".)  

2 / 9 : شهر جمادى الثانية سنة 1227:.يقول الجبرتى : ( وفي هذا الشهر، وما قبله وردت عساكر كثيرة من الأتراك وعينوا للسفر ، وخرجوا إلى مخيم العرضي خارج بأبي النصر والفتوح ، فكانوا يخرجون مساء ويدخلون في الصباح ، ويقع منهم ما يقع من أخذ الدواب وخطف بعض النساء والأولاد كعادتهم.) أى عادتهم : أخذ الدواب وخطف بعض النساء والأولاد كعادتهم ..

3 ـ هذا عن وحشية العسكر العثمانى الحاكم ..  فماذا عن الوهابيين ؟   

 

الجبرتى شاهدا ـ رغم أنفه ــ على توحش الوهابية

 أولا :

تعاطف الجبرتى مع الوهابية

1 ـ  وقع الجبرتى ضحية للخطاب الدعائى الوهابى . وقد ارسل ابن سعود خطابا الى المصريين مع شيخ الحجاج المغاربة . وأوصله هذا المغربى المتعاطف مع الوهابية الى الجبرتى الذى نقله وعلّق عليه . يقول الجبرتى :  ( ولغط الناس في خبر الوهابي واختلفوا فيه ، فمنهم منيجعله خارجيا وكافرًا وهم المكيون ومن تابعهم وصدق أقوالهم ، ومنهم من يقول بخلافذلك لخلو غرضه . وأرسل الى شيخ الركب المغربي كتابًا ومعه أوراق تتضمن دعوته وعقيدتهوصورتها‏.‏: ( بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله نحمده ونستعينهونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومنيضلل فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدًا عبدهورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصي الله ورسوله فقد غوى ولا يضر إلا نفسهولن يضر الله شيئًا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.  أما بعد فقد قال الله تعالى : ( قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنيوسبحان الله وما أنا من المشركين) وقال الله تعالى ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونييحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) وقال تعالى ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنهفانتهوا ) وقال تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلامدينًا) فأخبر سبحانه أنه أكمل الدين وأتمه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وأمرنابلزوم ما أنزل إلينا من ربنا وترك البدع والتفرق والاختلاف . وقال تعالى ( اتبعوا ماأنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلًا ما تذكرون ) وقال تعالى ( وإن هذاصراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكمتتقون ) . والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بأن أمته تأخذ مأخذ القرون قبلها شبرًابشبر وذراعًا بذراع . وثبت في الصحيحين وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذوًا القذة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه قالوا يارسول الله اليهود والنصارى قال فمن ) وأخبر في الحديث الآخر أن أمته ستفترق على ثلاثوسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قالوا من هي يا رسول الله قال : ( من كان على مثلما أنا عليه اليوم وأصحابي.). إذا عرف هذا فمعلوم ما قد عمت به البلوى من حوادث الأمورالتي أعظمها الإشراك بالله والتوجه الى الموتى وسؤالهم النصر على الأعداء وقضاءالحاجات وتفريج الكربات التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسموات ، وكذلك التقربإليهم بالنذور وذبح القربان والاستغاثة بهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد الى غيرذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله وصرف شيء من أنواع العبادة لغير اللهكصرف جميعها لأنه سبحانه وتعالى أغنى الأغنياء عن الشرك ولا يقبل من العمل إلا ماكان خالصًا ، كما قال تعالى ( فاعبد الله مخلصًا له الدين ألا لله الدين الخالص والذيناتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا الى الله زلفى إن الله يحكم بينهمفيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ) . فأخبر سبحانه أنه لا يرضى منالدين إلا ما كان خالصًا لوجهه ، وأخبر أن المشركين يدعون الملائكة والأنبياءوالصالحين ليقربوهم الى الله زلفى ويشفعوا لهم عنده وأخبر أنه لا يهدي من هو كاذبكفار . وقال تعالى ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤناعند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عمايشركون). فأخبر أنه من جعل بينه وبين الله وسائط يسألهم الشفاعة فقد عبدهم وأشرك بهم، وذلك أن الشفاعة كلها لله كما قال تعالى : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)  وقال تعالى: ( فيومئذ لا تنفع الذين ظلموا معذرتهم ) وقال تعالى : ( يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذنله الرحمن ورضي له قولًا ). وهو سبحانه وتعالى لا يرضى إلا التوحيد كما قال تعالى ( ولايشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون). فالشفاعة حق ولا تطلب في دار الدنيا إلامن الله ، كما قال تعالى : ( وإن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدًا ) .وقال تعالى : ( ولا تدعمن دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذًا من الظالمين ) .فإذا كان الرسولصلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء وصاحب المقام المحمود وآدم فمن دونه تحت لوائهلا يشفع إلا بإذن الله لا يشفع ابتداء بل يأتي فيخر لله ساجدًا فيحمده بمحامد يعلمهإياها ثم يقال ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع‏.‏ثم يحد له حدًا فيدخلهم الجنة فكيف بغيره من الأنبياء والأولياء.  وهذا الذي ذكرناه لا يخالف فيه أحد من العلماء المسلمين بل قد أجمع عليه السلفالصالح من الأصحاب والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم ممن سلك سبيلهم ودرج علىمنهاجهم . وأما ما حدث من سؤال الأنبياء والأولياء من الشفاعة بعد موتهم وتعظيمقبورهم ببناء القباب عليها وإسراجها والصلاة عندها واتخاذها أعيادًا وجعل السدنةوالنذور لها فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم أمتهوحذر منها كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا تقوم الساعة حتى يلحقحي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان . ) . وهو صلى الله عليه وسلم حمىجناب التوحيد أعظم حماية وسد كل طريق يؤدي الى الشرك ، فنهى أن يجصص القبر وأن يبنيعليه كما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر . وثبت فيه أيضًا أنه بعث علي بن أبي طالبرضي الله عنه وأمره أنلا يدع قبرًا مشرفًا إلا سواه ولا تمثالًا إلا طمسه.  ولهذا قال غير واحد من العلماء يجب هدم القباب المبنية على القبور لأنها أسست علىمعصية الرسول صلى الله عليه وسلم . فهذا هو الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس حتىآل بهم الأمر الى أن كفرونا وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا حتى نصرنا اللهعليهم وظفرنا بهم ، وهو الذي ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه ، بعدما نقيم عليهم الحجةمن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف الصالح من الأمة ممتثلينلقوله سبحانه وتعالى : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) ، فمن لم يجبالدعوة بالحجة والبيان قاتلناه بالسيف والسنان ،  كما قال تعالى ( لقد أرسلنا رسلنابالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأسشديد ومنافع للناس ) .وندعو الناس الى إقامة الصلوات في الجماعات الى الوجه المشروعوإيتاء الزكاة وصيام شهر رمضان وحج بيت الله الحرام ونأمر بالمعروف وننهي عن المنكركما قال تعالى : ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروابالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور. ) . فهذا هو الذي نعتقده وندين الله به . فمنعمل بذلك فهو أخونا المسلم له ما لنا وعليه ما علينا . ونعتقد أيضًا أن أمة محمد صلىالله عليه وسلم المتبعين للسنة لا تجتمع على ضلالة وأنه لاتزال طائفة من أمته علىالحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. ).

وقال الجبرتى معلقا: ( أقول :إن كان كذلك فهذا ما ندين الله به ونحن أيضًا ، وهو خلاصة لباب التوحيد.  وما علينا منالمارقين والمتعصبين . وقد بسط الكلام في ذلك ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفانوالحافظ المقريزي في تجريد التوحيد والإمام اليوسي في شرح الكبرى وشرح الحكم لابنعباد وكتاب جمع الفضائل وقمع الرذائل وكتاب مصايد الشيطان وغير ذلك انتهى‏.‏).

وأقول : لو قرأ الجبرتى بإمعان تلك الكتب السنية المشار اليها لوجد تعارضا أساسا بين دعوى ابن سعود وما قاله المقريزى وغيره . يكمن هذا التعارض فى عدم إستحلال دماء المعارضين بمثل ما قالت الوهابية  ومثلما فعلت .

 2 ـ ووضح تعاطف الجبرتى مع الوهابية بعد أن دمّر (محمد على ) دولتهم ، وجاء بالأسرة السعودية اسرى فى القاهرة بعد أن ارسل رئيسهم ليُعدم فى الاستانة . التقى الجبرتى ـــ عدو محمد على ــ ببعضهم ، ووصف حالهم متعاطفا معهم .  وربما كان عداء الجبرتى لمحمد على دافعا آخر للتعاطف مع الوهابيين عملا بالقول الشائع : ( عدو عدوى صديقى ). ونتوقف مع مظاهر تعاطفه معهم فى تأريخه لهم :

ثانيا :

دفاعه عنهم فى صدّهم الناس عن البيت الحرام الذى جعله الله جل وعلا للناس (المسالمين) كافة :

1 ـ أعلن ابن سعود منع غير الوهابيين من الحج ، وقد إعتبرهم مشركين ممنوعين من الاقتراب من المسجد الحرام . وكان يكرر هذا الاعلان . وذكر الجبرتى فى أحداث : [ شهر صفر سنة 1222هـ ]
قال : ( وفيه وصل ثلاث دوات من جدة إلى ساحل السويس فيها أتراك وشوام وأجناس آخرون وذكروا أن الوهابي نادى بعد انقضاء الحج أن لا يأتي إلى الحرمين بعد هذا العام من يكون حليق الذقن وتلافي المناداة قوله تعالى *(يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا))     

 وخصّ ابن سعود المصريين والشاميين والعراقيين بهذا المنع .

2 ــ وتبنى الجبرتى وجهة النظر الوهابية مع انها تنطبق عليه بإعتباره مصريا . في ذكره لأحداث سنة 1232هـ، يقول الجبرتي: ( منها انقطاع الحج الشامي والمصري؛ معتلين بمنع الوهابي الناس عن الحج؛ والحال ليس كذلك، فإنه لم يمنع أحدًا يأتي الحج على الطريقة المشروعة، وإنما يمنع من يأتي بخلاف ذلك من البدع، التي لا يجيزها الشرع؛ مثل المحمل، والطبل والزمر، وحمل الأسلحة، وقد وصل طائفة من حجاج المغاربة، وحجوا، ورجعوا في هذا العام، وما قبله، ولم يتعرض لهم أحد بشيء").

ونقول : كان من الممكن أن يسمح لهم بالحج وأن يمنعهم من تلك ( البدع ). ولكن الذى حدث ان ابن سعود بادر بالمنع ثم وضع الشروط .

جدير بالذكر أن الممنوع من الاقتراب من المسجد الحرام هم فقط المجرمون المعتدون ناكثو العهد كما تؤكده سورة التوبة . أى ينطبق المنع على الوهابيين الذين خرجوا من الدرعية يغزون ويعتدون ويحتلون بلاد غيرهم ثم وصلوا بهذا الاعتداء والغزو والاحتلال الى بيت الله الحرام الذى جعله الله جل وعلا مثابة للناس وأمنا ، ثم فرضوا على أهله شعائر دينهم  ومنها تحريم شرب التنباك ( الدخان ).

ثالثا : فى سلبهم كنوز الحجرة النبوية

تناقل الناس وقتها سلب ابن سعود كنوز الحجرة النبوية التى إعتاد الملوك والسلاطين والأثرياء وضعها فى تلك الحجرة. وبمرور القرون اصبحت متخمة بالكنوز ، بل صارت الكنوز نفسها مقدسة محمية من السرقة لاعتقاد الناس أنها أضحت مملوكة للنبى ذاته . جرؤ ابن سعود على سلبها حين استولى على المدينة ، وربما كانت هى الهدف الأكبر له فى غزوه المدينة . توالى الهجوم على ما فعله ابن سعود حتى أصبح عارا لا يليق الدفاع عنه ، حتى  أن عثمان بن بشر الوهابى الذى أرّخ للدولة السعودية الأولى والثانية تجاهل هذا بالكامل . أما الجبرتى فقد دافع عن هذا العار .

فى عام  1221 ه يقول الجبرتي : ( لما استولى الوهابيون على المدينة المنورة هدموا القباب التي فيها وفي ينبع ومنها قبة أئمة البقيع بالمدينة ، وحملوا الناس على ما حملوه عليه في مكة ، وأخذوا جميع ذخائر الحجرة النبوية وجواهرها حتى أنهم حصلوا على أربع سحاحير من الجواهر المملاة بالماس والياقوت العظيمة القدر ). وقد أثار ذلك إنكار الناس ، وتصدى الجبرتى يرد عليهم مدافعا عن ابن سعود ، يقول : ( ويذكرون أن الوهابي استولى على ما كان بالحجرة الشريفة من الذخائر والجواهر، ونقلها وأخذها، فيرون أن أخذه لذلك من الكبائر العظام، وهذه الأشياء أرسلها ووضعها خساف العقول من الأغنياء، والملوك، والسلاطين الأعاجم، وغيرهم؛ إما حرصاً على الدنيا، وكراهة أن يأخذها من يأتي بعدهم، أو لنوائب الزمان، فتكون مدخرة ومحفوظة لوقت الاحتياج إليها، فيستعان بها على الجهاد، ودفع الأعداء، فلما تقادمت عليها الأزمنة، وتوالت عليها السنين والأعوام الكثيرة، وهي في الزيادة، فارتدت معنى لا حقيقة، وارتسم في الأذهان حرمة تناولها، وأنها صارت مالاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لأحد أخذها، ولا إنفاقها، والنبي عليه الصلاة والسلام منزه عن ذلك، ولم يدخر شيئاً من عرض الدنيا في حياته، وقد أعطاه الله الشرف الأعلى، وهو الدعوة إلى الله تعالى والنبوة والكتاب، واختار أن يكون عبداً، ولم يختر أن يكون نبياً ملكا )..

وقد أعاد الجبرتى نفس الموضوع مع بعض تفصيلات جاءته فيما بعد . يقول فى أحداث  شهر ذي الحجّة سنة 1223هـ : (حضر الوهابي واستولى على المدينة ، وأخذ تلك الذخائر، فيقال انه عبى أربعة سحاحير من الجواهر المحلاة بالألماس والياقوت العظيمة القدر ، ومن ذلك اربع شمعدانات من الزمرد ، وبدل الشمعة قطعة الماس مستطيلة يضيء نورها في الظلام ، ونحو مائة سيف قراباتها ملبسة بالذهب الخالص ومنزل عليها الماس وياقوت ، ونصابها من الزمرد واليشم ونحو ذلك ، وسلاحها من الحديد الموصوف ، كل سيف منها لا قيمة له، وعليها دمغات باسم الملوك والخلفاء السالفين وغير ذلك. ).

ونقول :كنز الذهب والفضة محرم فى الاسلام ( التوبة 34 ) ، وأشدُّ التحريم فى أن يتحول هذا الى قُربان ونذر للموتى وضمن تقديس قبورهم التى أصبحت بها التقديس رجسا من عمل الشيطان . ولكن ليس الحل ان ينهبها ابن سعود ويستأثر بها، ويزعم أن ذلك هو الاسلام ، ولكن الحُكم الاسلامى فى هذه الكنوز أن يتم توزيعها صدقة على فقراء المسلمين .

رابعا ـ  تجاهل الجبرتى تفصيلات وحشيتهم وعدم إنكاره عليهم :

1 ــ مذبحة الطائف

كانت ــ ولا تزال ـ وصمة عار فى تاريخ الدولة السعودية الأولى ، مع أنهم كرروها فى الدولة السعودية الثالثة الراهنة .كانت الطائف تحت حكم الشريف غالب حاكم مكة ، وكان بينه وبين الوهابية المواثيق ، ولكنهم غدروا فتمكنوا من الاستيلاء على الطائف ، إذ دخلوها عنوة في ذي القعدة 1217هـ/1802م فقتلوا الناس بدون تمييز بين رجل وامرأة وطفل ؛ حتى أنهم كانوا يذبحون الرضيع على صدر أمه  ، كما قتلوا من وجدوا في المساجد والبيوت ولاحقوا الفارين من المدينة فقتلوا أكثرهم ، وأعطوا الأمان للبعض فلما استسلموا ضربوا أعناق فريق منهم ، وأخرجوا فريقاً إلى أحد الأودية ، واسمه وادي الوج، فتركوهم مكشوفي العورة ومعهم النساء.  وأخذت الأعراب تروح وتغدو إلى الطائف فتحمل المنهوبات الهائلة التي كانت تخمَّس ، ويرسل خمسها إلى الأمير ويقتسمون ما بقى . كما عبثوا بالمصاحف والكتب الدينية المناقضة لهم ورموها بعد أن مزقوها ورموها في الأزقة . وعمدوا أخيراً إلى حفر بيوت المدينة حتى المراحيض بحثاً عن المال الذي قيل لهم أنه خبئ في الأرض!   وبعض الأعراب الوهابيين ــ بعد أن قتلوا وذبحوا الرجال والنساء والأطفال والصلحاء ــ عمدوا إلى قطع أيدي النساء لانتزاع الحلي منها ، كما كانوا يتوضأون بدماء الآدميين بعد صبه في الماء. وقد قتل خلال هذه المجزرة الشيخ عبدالله الزواوي مفتي الشافعية بمكة المكرمة، والشيخ عبدالله أبو الخير قاضي مكة ، والشيخ جعفر الشيبي وغيرهم ذبحوهم بعد أن أمَّنوهم عند أبواب بيوتهم). هذا ما تواتر عن مذبحة الطائف. فماذا قال الجبرتى عن هذه المذبحة ؟

يقول الجبرتى فى أحداث ( شهر ذي الحجة الحرام سنة 1217 : وفي يوم الجمعة خامس عشره حضرت مكاتبات من الديار الحجازية يخبرونفيها عن الوهابيين أنهم حضروا الى جهة الطائف فخرج إليهم شريف مكة الشريف غالبفحاربهم فهزموه، فرجع الى الطائف وأحرق داره التي بها ، وخرج هاربًا الى مكة ، فحضرالوهابيون الى البلدة ...  فحاربوا الطائف وحاربهم أهلها ثلاثة أيام حتى غلبوا فأخذ البلدةالوهابيون ، واستولوا عليها عنوة وقتلوا الرجال وأسروا النساء والأطفال. وهذا دأبهم معمن يحاربهم‏.‏)

ونتأمل صياغته الخبر فى قوله يساوى بين المعتدى المهاجم والسكان المُعتدى عليهم : ( فحاربوا الطائف وحاربهم أهلها ثلاثة أيام ). ثم يوجز المذبحة فى عدة كلمات (وقتلوا الرجال وأسروا النساء والأطفال ) ثم يوجز وحشية الوهابيين فى بضع كلمات : (وهذا دأبهم معمن يحاربهم‏.‏ )

2 ـ وفى حصارهم المدينة أحكموا حصارها حتى مات أكثر أهل المدينة جوعا . ولم تهتز شعرة للجبرتى فذكر بكل برود هذا الحصار فى أحداث  شهر ربيع الأول سنة 1219 . قال: (  وفي ثالث عشره ورد الخبر بوصول مراكب داوات من القلزم إلى السويسوفيها حجاج والمحمل وأخبروا بمحاصرة الوهابيين لمكة والمدينة وجدة وأن أكثر أهلالمدينة ماتوا جوعًا لعزة الأقوات . ) ‏. لم يستحق أولئك المدنيون العُزّل من أهل المدينة عبارة عزاء من الجبرتى .

خامسا : تجاهل الجبرتى الانكار على الوهابيين فى التهجير القسرى :

وحشية الوهابيين أدت الى تسليم مكة سلميا ، وادت الى فرار كثيرين من بلادهم خوفا على حياتهم وأعراضهم ، لجأ بعضهم الى الشام والعراق ومصر يستنجدون بحاكمها وسافر آخرون الى السلطان العثمانى . هذا تهجير قسرى ، لأن الذى يبقى وينجو من القتل سيصبح أسيرا لتحكم الوهابيين وتزمتهم وتسلطهم فى شريعتهم بتغيير المنكر . وقد جاء فى تسجيل الجبرتى لمحات عن هذا التهجير القسرى لمن هرب الى مصر . ونقتطف ما قاله الجبرتى ، وهو يقوله دون إنكار :

1 : ( شعبان  سنة 1217: وفيه حضرت جماعة من أشراف مكة وعلمائها هروبا من الوهابيين وقصدهمالسفر الى اسلامبول يخبرون الدولة بقيام الوهابيين ويستنجدون بهم لينقذوهم منهمويبادروا لنصرهم عليهم فذهبوا الى بيت الباشا والدفتردار وأكابر البلد وصاروا يحكونويشكون وتنقل الناس أخبارهم وحكاياتهم‏.‏)

2 ـ شهر شوال سنة 1217 : وفي غايته حضر أولاد الشريف سرور شريف مكة هروبًا من الوهابيينليستنجدوا بالدولة فنزلوا ببيت المحروقي بعدما قابلوا محمد باشا والي مصر وشريفباشا والي جدة‏.‏)

3 ـ شهر صفر 1218 : وفي يوم الأحدحضر الشريف عبد الله ابن سرور وصحبته بعض أقاربه من شرفاء مكة وأتباعهم نحو ستيننفرًا وأخبروا أنهم خرجوا من مكة مع الحجاج وأن عبد العزيز بن مسعود الوهابي دخلالى مكة من غير حرب وولى الشريف عبد المعين أميرًا على مكة والشيخ عقليًا قاضيًاوأنه هدم قبة زمزم والقباب التي حول الكعبة والأبنية التي أعلى من الكعبة وذلك بعدأن عقد مجلسًا بالحرم وباحثهم على ما الناس عليهم من البدع والمحرمات المخالفةللكتاب والسنة وأخبروا أن الشريف غالبًا وشريف باشا ذهبا الى جدة وتحصنا بها وأنهمفارقوا الحجاج في الجديدة‏.‏) أى أن من بقى فى مكة إستمع خاضعا لابن سعود لا يجرؤ على مناقشته ، وإلا قتلوه . أما من هرب فجاء يخبر بالأحوال .

4 ـ محرم 1218 : ( وفيه حضر هجان على يده مكاتيب مؤرخة في عشرين شهر الحجة مضمونها أن الوهابيينأحاطوا بالديار الحجازية وأن شريف مكة غالب تداخل مع شريف باشا وأمير الحاج المصريوالشامي وأرشاهم على أن يتعوقوا معه أيامًا حتى ينقل ماله ومتاعه الى جدة وذلك بعداختلاف كبير وحل وربط وكونهم يجتمعون على حربه ثم يرجعون على ذلك الى أن اتفق رأيهمعلى الرحيل فأقاموا مع الشريف اثني عشر يومًا ثم رحلوا ورحل الشريف بعد أن أحرقداره..)

5 ــ شهر صفر 1218 : وفي يوم الاثنين  وردت مكاتبات من الديار الحجازية مؤرخة في منتصفمحرم وفيها الإخبار باستيلاء الوهابيين على مكة في يوم عاشوراء وأن الشريف غالبأحرق داره وارتحل الى جدة وأن الحجاج أقاموا بمكة ثمانية أيام زيادة عن المعتادبسبب الارتباك قبل حصول الوهابيين بمكة ومراعاة للشريف حتى نقل متاعه الى جدة ثمارتحل الحجاج وخرجوا من مكة طالبين زيارة المدينة فدخل الوهابيون بعد ارتحال الحجبيومين‏.‏)

6 ــ شهر ذي الحجّة 1223هـ  : ( وانقطع عن أهل المدينة ومكّة ما كان يصل إليهم من الصدقات والعلائف والصرر التي كانوا يتعيشون منها خرجوا من أوطانهم بأولادهم ونسائهم ولم يمكث الا الذي ليس له ايراد من ذلك واتوا إلى مصر والشام ومنهم من ذهب إلى إسلامبول يتشكون من الوهابي ويستغيثون بالدولة في خلاص الحرمين لتعود لهم الحالة التي كانوا عليها من اجراء الارزاق واتصال الصلات والنيابات والخدم في الوظائف التي بأسماء رجال الدولة كالفراشة والكناسة ونحو ذلك  ).

سادسا : تجاهل الجبرتى الانكار على حروب ابن سعود الهجومية فى الشهور الحُرُم :

من ملاحظة الأخبار السابقة نرى بعضها قد حدث فى الأشهر الحُرُم . وإذا كان رعاع العسكر العثمانى يقتلون السكان العُزّل فى كل الأشهر ، فقد كانوا لا يزعمون الاسلام ، بل كان بعضهم مسيحيين . أما الوهابيين الذين زعموا إمتلاك الاسلام وبهذا الزعم إستباحوا الغزو والاحتلال والقتل والسلب والنهب والاغتصاب فى الشهر الحرام ـ.. كيف غاب عن الشيخ الأزهرى المؤرخ الفقيه الجبرتى هذا مع أنه يؤرخ بالأشهر العربية ، ويقول شهر ذى الحجة الحرام .

أخيرا : إذا كان الجبرتى المدافع عن الوهابيين يضطر لذكر ما شاع عن وحشيتهم وسارت بها الركبان ، فما أخفاه كان أفظع . 

ننتقل من الجبرتى الى ابن عبد الوهاب ودولته الوهابية .  

   

 

 

الخطاب الدينى الدعائى المنافق للشيخ محمد بن عبد الوهاب

  أولا : الاتفاق بين ابن تيمية وابن عبد الوهاب فى تناقض الخطاب

 أبن تيمية كان يسلم لاولياء التصوف ويعتقد في ولايتهم وكراماتهم وشفاعاتهم ، يقول ابن تيمية (ان الصوفية مجتهدون في طاعة الله) ويقول عن الجنيد احد ائمة التصوف السابقين (فإن الجنيد قدس الله روحه كان من ائمة الهدى ..)غاية ما هناك ان ابن تيمية يري ان طوائف من اهل البدع قد انتسبوا للتصوف وليسوا منهم كالحلاج . ويعتقد ابن تيمية في كرامات الاولياء حتي فيمن يعتبرهم من أولياء الشيطان . (ابن تيمية :رسالة الصوفيه والفقراء16،الفرقان بين اولياءالرحمن واولياء الشيطان 99،100،141ط صبيح .القاهرة ). ثم يصدر فتاوى بالقتل لكل من يخالفه فى رأيه ، وفى مقدمتهم الصوفية، وقد دعا ابن تيمية لقتال الشيعة وكتب فى تكفيرهم .ابن عبد الوهاب فى خطابه الدعائى يوافق الشائع بين المحمديين من سنة وشيعة وصوفية . ولكنه فى دينه الفعلى يستبيح دماءهم بعد تكفيرهم . أى يطبق فتاوى ابن تيمية بقتل الناس جميعا ، أى قتل من عداه من الناس ، أى غير الوهابيين .

ثانيا : ونستعرض ملامح هذا الخطاب الدعائى الكاذب :

1 ـ أعلن أنه ليس مبتدعا مذهبا جديدا . قال : ( ولست - ولله الحمد - أدعو إلى مذهب صوفي أو فقيه أو متكلم أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم مثل ابن القيم ، والذهبي ، وابن كثير ، أو غيرهم.بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له ، وأدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمته وآخرهم ، وأرجو ألا أرد الحق إذا أتاني ، بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلنها على الرأس والعين ، ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي ، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقول إلا الحق) (الدرر السنية " ( 1 / 37 ، 38 ).( عقيدتي وديني الذي أدين به : مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة.) (الدرر السنية " ( 1 / 64 ) بل إنه يوجب السمع والطاعة للحاكم المتغلب مهما كان  .ويقول : (  أن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمّر علينا ولو كان عبداً حبشيّاً..) ( مجموعة مؤلفات الشيخ ( 1 / 394 ) بواسطة " دعاوى المناوئين " ( 233 – 234).

بل بالفعل هو مذهب دموى متوحش غير مسبوق فى تاريخ المحمديين . لم يقم الشافعية أو المالكية أو الأحناف أو حتى الحنابلة بمذابح . المذابح التى قامت بها الوهابية والتى لا تزال تقوم بها لم يقترف مثلها  اسماعيل الصفوى أو تيمورلنك .

2  ـ   : ابن عبد الوهاب فى خطابه الدعائى الكاذب يتفق مع أقوال الصوفية والسنيين والشيعة فى تفضيل النبى ( محمد ) على الأنبياء السابقين ، يقول عنه : ( وهو سيد الشفعاء ، وصاحب المقام المحمود ، وآدم فمن دونه تحت لوائه . ( الدرر السنية 1/86 )( وأول الرسل نوح ، وآخرهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم . ( الدرر السنية 1/143 )

 3 ـ : أى يؤمن ايضا بشفاعة النبى محمد ويقول ردا على خصومه :  (يزعمون أننا ننكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم ، بل نشهد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع ، صاحب المقام المحمود ، نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يشفعه فينا ، وأن يحشرنا تحت لوائه . ( الدرر السنية 1/64،63 )، ويقول :( ولا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلال ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضى ، كما قال تعالى : (( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى )) وقال تعالى : (( من ذا الذي يشفعه عنده إلا بإذنه )) ( الدرر السنية 1/31 ) .

4: ويقول عن آل البيت : ( وقد أوجب الله لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس حقوقا ، فلا يجوز لمسلم أن يسقط حقوقهم ويظن أنه من التوحيد ، بل هو من الغلو . ). (مؤلفات الشيخ 5/284)

5 : ويقول عن كرامات الأولياء الصوفية :  ( وأقر بكرامات الأولياء ) ( الدرر السنية 1/32 ) .

وابن عبد الوهاب يري ان قوله تعالي : (الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ، ينطبق علي الاولياء الصوفية المعبودين في عصره ويري ان الواجب حبهم واتباعهم والاقرار بكراماتهم ويقول (ولا يجحد كرامات الاولياء الا اهل البدع والضلال ) ( مؤلفات الشيخ 1/169 ).الا انه يستنكر عبادتهم والاشراك بهم .

6 ــ ويري ان الاولياء يشفعون يوم القيامة ، الا انه يمنع طلب الشفاعة من الاولياء لأن ذلك شرك وانما تطلب من الله سبحانه وتعالي لأنه صاحب الأذن في الشفاعة ،فيأذن للأولياء الصوفي بالشفاعة  ( ابن عبد الوهاب: كشف الشبهات 8،،10،38.)، أى يجعل الله جل وعلا واسطة بين الناس والأولياء الصوفية ، ويجعل الأولياء الصوفية أعلى مقاما من رب العزة جل وعلا ،  فالناس يطلبون من الله ــ جل وعلا ـ أن يشفع فيهم الأولياء الصوفية ، فيطلب الله ــ جل وعلا ــ من الأولياء الصوفية أن يشفعوا للناس . ,هذا حُمق فى التفكير لا مثيل له حتى بين الحمير .! .

ثالثا : تكرير خطابه الدعائى ردا على خصومه :

1 ــ واجه ابن عبد الوهاب حملة دعائية ضخمة من الصوفية والشيعة والصوفية السنيين . وقد ردّ يزايد عليهم بدين التصوف السنى ، ويكرر أقواله التى لا يملك خصومه السنيون والصوفية إلا التسليم بما يقوله . ولذا تكاثرت رسائله بمثل ما حدث من ابن تيمية .

2 ـ وقد ردّ على إثنى عشر إتهاما قالها خصومه ، وهو ينفيها ويتبرأ منها . قال (  إذا تبين هذا فالمسائل التي شنع بها منها ، ما هو من البهتان الظاهر:وهي قوله : إني مبطل كتب المذاهب.وقوله : إني أقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء. وقوله إني أدَّعى الاجتهاد. وقوله : إني خارج عن التقليد.
 . وقوله إني أقول : إن اختلاف العلماء نقمة. وقوله إني أكفر من توسل بالصالحين. وقوله : إني أكفر البوصيري لقوله " يا أكرم الخلق" .. وقوله إني أقول لو أقدر على هدم حجرة الرسول لهدمتها. ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزاباً من خشب.. وقوله إني أنكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم.. وقوله إني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهم. وإني أكفر من يحلف بغير الله.فهذه اثنتا عشرة مسألة.  جوابي فيها أن أقول : ( سُبْحَانَكَ هَذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ )(  الرسائل الشخصية  للشيخ محمد بن عبد الوهاب)" ( ص 64 ).

رابعا : رسالته الى أهل القصيم وقد سألوه عن عقيدته :

تعتبر نموذجا لخطابه الدعائى الذى يكرر فيه نفس اقواله . قال فيها :

1 ـ تبعيته لأهل السنة والجماعة ضد المعتزلة والقدرية والجبرية والخوارج والشيعة فيما يخص صفات الله جل وعلا :( أشهد الله ومن حضرني من الملائكة وأشهدكم أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت ،.)( والإيمان بالقدر خيره وشره ، ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ، بل أعتقد أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه ولا أحرف الكلم عن مواضعه ، ولا ألحد في أسمائه وآياته ، ولا أكيف ، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه لأنه تعالى لا سميَّ له ولا كفؤ ، ولا ند له ، ولا يقاس بخلقه فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلاً وأحسن حديثاً فنزه نفسه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل : وعما نفاه عنه النافون من أهل التحريف والتعطيل فقال : { سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ . وَسَلامٌ عَلى المُرْسلين والحمْدُ لله رَبّ العالمين } والفرقة الناجية وسط في باب أفعاله تعالى بين القدرية والجبرية  ، وهم في باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية ؛ وهم وسط في باب الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة ، وبين المرجئة والجهمية ، وهم وسط في باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج  )

2 ـ وقال برأى الحنابلة عن القرآن الكريم إنه غير مخلوق : ( وأعتقد أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود ؛ وأنه تكلم به حقيقة وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛)

3 ـ وقال بمذهب الأشعرى السنى فى القضاء والقدر : ( وأومن بأن الله فعال لما يريد ، ولا يكون شيء إلا بإرادته ، ولا يخرج شيء عن مشيئته ، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره ولا محيد لأحد عن القدر المحدود ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور . )

4 ـ ومثلهم جميعا يؤمن بخرافة علم النبى محمد بالغيب ، وما زعمته الأحاديث المفتراة عما سيحدث بزعمهم فى القبر وفى البعث والحشر والحوض والصراط ( وأعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت ، فأومن بفتنة القبر ونعيمه ، وبإعادة الأرواح إلى الأجساد ، فيقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلا تدنو منهم الشمس ، وتنصب الموازين وتوزن بها أعمال العباد فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون وتنشر الدواوين فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله . وأومن بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعرصة القيامة ، ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل آنيته عدد نجوم السماء من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً ، وأومن بأن الصراط منصوب على شفير جهنم يمر به الناس على قدر أعمالهم .)

5 ـ وأنه مؤمن بخرافة شفاعة النبى ، ويؤول آيات الشفاعة طبقا لهذا بنفس طريقتهم : (وأومن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أول شافع وأول مشفع ، ولا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلال ، ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضى كما قال تعالى : { وَلا يَشْفَعُونَ إلا لِمَنْ ارْتَضى } ، وقال تعالى : { مَنْ ذا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلا بإذنه } ، وقال تعالى : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ في السّمَوَاتِ لا تُغْني شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إلا مِنْ بَعْدِ أنْ يَأذَنَ اللهُ لمن يشاءُ ويَرْضى }  وهو لا يرضى إلا التوحيد ؛ ولا يأذن إلا لأهله ، وأما المشركون فليس لهم من  الشفاعة نصيب ؛ كما قال تعالى :{ فَمَا تَنْفَعُهُمُ شَفَاعَةُ الشّافِعِين } (وأومن بأن الجنة والنار مخلوقتان ، وأنهما اليوم موجودتان ، وأنهما لا يفنيان ؛ وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته .)

6 ـ ويؤمن بترتيب أفضلية الصحابة حسب المعتاد عند أهل السنة مع سكوته عما وقع فيه الصحابة من حروب ، بنفس المنهج السنى مخالفا عقيدة الشيعة فى الطعن فى بعض الصحابة وفى السيدة عائشة : ( وأومن بأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين ، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته ؛ وأن أفضل أمته أبو بكر الصديق ؛ ثم عمر الفاروق ، ثم عثمان ذو النورين ، ثم علي المرتضي ، ثم بقية العشرة ، ثم أهل بدر ، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان ، ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم . وأتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذكر محاسنهم وأترضى عنهم وأستغفر لهم وأكف عن مساويهم وأسكت عما شجر بينهم ، وأعتقد فضلهم عملا بقوله تعالى : { والّذينَ جَاؤُا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولونَ رَبّنَا اغْفِرْ لَنا ولإخْوَانِنا الّذين سَبَقُونا بالإيمان وَلا تَجْعَلْ في قُلوبِنا غِلاًّ للّذينَ آمَنُوا رَبّنا إنّكَ رَؤفٌ رَحيمٌ } وأترضى عن  أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء. )

7 ـ ويؤمن بالكرامات المزعومة للأولياء وعلمهم المزعوم بالغيب ، مع تحفظ هزيل ، يقول : ( وأقرّ بكرامات الأولياء ومالهم من المكاشفات إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئاً ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله. )

8 ـ ثم يزعم كاذبا عدم تكفير المسلمين . يقول : ( ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكني أرجو للمحسن وأخاف على المسيء ، ولا أكفر أحداً من المسلمين بذنب ، ولا أخرجه من دائرة الإسلام . ) .. كلام معسول يتدفق حنانا وسلاما كما لو كان المهاتما غاندى .!!

9 ـ ويرى إستمرارية الجهاد خلف كل حاكم تقيا كان أم فاجرا ، مع السمع والطاعة للحاكم ما لم يأمر بمعصية : ( وأرى الجهاد ماضيا مع كل إمام براً كان أو فاجراً وصلاة الجماعة خلفهم جائزة ، والجهاد ماض منذ بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل ، وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله ، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته ؛ وحرم الخروج عليه . ) . وإذن لماذا غزا الآخرين ؟ ولماذا رفض طاعة العثمانيين ؟

10 ـ ويرى هجر أهل البدع ( وليس قتالهم ) حتى يتوبوا : (  وأرى هجر أهل البدع ومباينتهم حتى يتوبوا ، وأحكم عليهم بالظاهر وأكل سرائرهم إلى الله . ) . هذا يخالف تاريخه المكتوب بالدماء واشلاء الضحايا الأبرياء .!

11 ـ ويقول قول السنيين :( وأعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة . وأعتقد أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وهو بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، وأرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة المحمدية الطاهرة . فهذه عقيدة وجيزة حررتها وأنا مشتغل البال لتطلعوا على ما عندي والله على ما نقول وكيل . )12

 ـ ثم يقول ردا على إتهامات بعض خصومه فيقول : ( ثم لا يخفى عليكم أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم قد وصلت إليكم وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم. والله يعلم أن الرجل افترى عليَّ أموراً لم أقلها ولم يأت أكثرها على بالي ) ( ملاحظة : هنا يُشهد الله جل وعلا على ما فى قلبه وهو كاذب ، وينطبق عليه قوله جل وعلا عن المنافق : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ) البقرة 204 : 205 ) .

ونعود اليه وهو يرد على الاتهامات : ( فمنها  قوله : إني مبطل كتب المذاهب الأربعة ، وإني أقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء وإني أدعي الاجتهاد ، وإني خارج عن التقليد وإني أقول إن اختلاف العلماء نقمة ، وإني أكفر من توسل بالصالحين ، وإني أكفر البوصيري لقوله يا أكرم الخلق ، وإني أقول لو أقدر على هدم قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهدمتها ، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزاباً من خشب ، وإني أحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وإني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما ، وإني أكفر من حلف بغير الله ، وإني أكفر ابن الفارض وابن عربي ، وإني أحرق دلائل الخيرات وروض الرياحين وأسميه روض الشياطين . جوابي عن هذه المسائل أن أقول سبحانك هذا بهتان عظيم . وقبله من بهت محمداً صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى بن مريم ويسب الصالحين فتشابهت قلوبهم بافتراء الكذب وقول الزور . قال تعالى : { إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله } الآية . بهتوه صلى الله عليه وسلم  بأنه يقول إن الملائكة وعيسى وعزيراً في النار . فأنزل الله في ذلك : { إن الذين سبقت لهم منّا الحسنى أولئك عنها مبعدون } .) هذا تناقض مع ما قرره فى كتبه الأخرى من إستحلال للدماء ، ويطول بنا المقام لو عرضنا لهذا التناقض فى أقواله ، فيكفى تاريخهم الدموى .

13 : ثم ذكر بعض آرائه : ( وأما المسائل الأخر وهي أني أقول لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى لا إله إلا الله وأني أعرّف من يأتيني بمعناها وأني أكفر الناذر إذا أراد بنذره التقرب لغير الله وأخذ النذر لأجل ذلك ، وأن الذبح لغير الله كفر والذبيحة حرام . فهذه المسائل حق وأنا قائل بها . ولي عليها دلائل من كلام الله وكلام رسوله ، ومن أقوال العلماء المتبعين كالأئمة الأربعة وإذا سهل الله تعالى بسطت الجواب عليها في رسالة مستقلة إن شاء الله تعالى .ثم اعلموا وتدبروا قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُوا إنْ جاءَكُم فَاسِق بِنَبَأٍ فَتَبَيّنُوا أنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ } الآية .)

أخيرا :

1 ـ هو خطاب دعائى كاذب . كان ممكنا أن نصدقه لولا أن دين الوهابية العملى تأسّست به الدولة السعودية بغير ذلك ، بالحكم بتكفير الآخرين وإستحلال غزوهم وإحتلال بلادهم ، وسلب أموالهم وهتك أعراضهم وسبى ذراريهم . عقد ابن عبد الوهاب عهدا مع ابن سعود على التوسع بالغزووالاحتلال وإستحلال الدماء والأموال والأعراض . وكان ابن عبد الوهاب نفسه قائدا فى تلك الحروب . وفى أوقات فراغه كان يكتب هذه الرسائل الدعائية يخدع بها الناس . وهى نفس ما فعله ابن سعود بعد أن إنتهك حرمة مكة واحتلها وإرتكب مذبحة الطائف ومذابح قبلها ومذابح بعدها وسرق كنوز الحجرة النبوية .  كتب ابن سعود رسالة دعائية لا تختلف عن رسائل شيخه ابن عبد الوهاب ، تلك الرسالة التى نقلها الجبرتى ، وصدّقها .

2 ـ ولكن المحصلة النهائية غاية فى العجب . فالمنافقون يقولون شيئا ويبطنون شيئا آخر ، ومع أنهم مسالمون فهم فى الدرك الأسفل من النار . فكيف بالوهابيين المنافقين الذين يزعمون إمتلاك الاسلام ثم يقتلون به البشر المخالفين لهم ويستحلون به اموالهم ؟

 

الدين العملى لابن عبد الوهاب هو حرب الله جل وعلا ورسوله

 مقدمة : شريعة الاسلام وشريعة الحرب ضد الله جل وعلا ورسوله

1 ـ  شريعة الاسلام تحصر تشريع القتل فى القصاص فقط مع كون الدية مانعا للقتل قصاصا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) البقرة) .

2 ـ وهو نفس الحال فى القتال الدفاعى فى الاسلام ، قال جل وعلا : (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) البقرة ).

3 ـ والله جل وعلا جعلها قاعدة تشريعية تكررت ثلاث مرات تؤكد على حُرمة قتل النفس البريئة التى لم تقع فى جريمة القتل . قال جل وعلا ضضمن الوصايا العشر: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) الانعام  )وأكّدها ضمن صفات عباد الرحمن  (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ) (68)الفرقان ) وفى قوله جل وعلا : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً (33)الاسراء  ).

4 ـ رب العزة جل وعلا جعل إستحلال القتل للنفس البريئة قتلا للناس جميعا . لأن هذا الاستحلال يجعل القتل دينا ، أى قابلا للتطبيق على أنه شرع اسلامى بالتزوير . وبالتالى فإن فتاوى ابن تيمية بالقتل للأبرياء هى بمثابة قتل للناس جميعا ، وبالتالى أيضا فإن من يتصدى لهذه الفتاوى بالرد والانتقاد وتبرئة الاسلام منها يكون بمثابة من أحيا الناس جميعا. وما أروع قوله جل وعلا:(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً )(32)المائدة ) . الروعة هنا أن الافتاء بالقتل يعنى تشريع القتل عموما ، وتجعل تنفيذ هذا واجبا دينيا وفريضة على يد كل من يؤمن بهذا التشريع الضّال، وهذه هى جريمة ابن تيمية وابن عبد الوهاب وسائر أئمة المحمديين دُعاة إستحلال الدماء والأموال والأعراض. 

5 ـ الآية التالية تجعل الذين يطبقون هذا الاستحلال عمليا محاربين الله جل وعلا ورسوله ، لأنهم يؤمنون بهذا القتل دينا ، إذ تمت نسبته لرب العزة ولرسوله الكريم فى أحاديث وفتاوى تجعله جهادا دينيا . يقول رب العزة جل وعلا :  ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)  المائدة ).

6 ـ بعيدا عن خطابه المنافق الكاذب فهذا بالضبط هو الدين العملى الواقعى لابن عبد الوهاب. ونعطى بعض التفصيل : 

أولا : ( جهاد ) اهل ( نجد ) فى حرب الله جل وعلا ورسوله :

 1 ـــ عاش ابن تيمية فى بيئة نهرية يحتكر العسكر فيها القوة ، ويتسلطون بها على الشعب الأعزل . وعندما أحس السلطان الناصر محمد بن قلاوون أن صديقه ابن تيمية سيكون مركز قوة ويستميل اليه بعض العسكر بادر بإعتقاله . أى لم يكن ممكنا أن يقيم ابن تيمية دولة مثل التى أقامها الفقيه محمد بن تومرت فى شمال أفريقيا والمغرب ، فابن تومرت كان فى منطقة جبلية صحراوية السكان فيها قبائل مسلحة عربية وأمازيغية . نفس الحال مع شبه الجزيرة العربية ،  خصوصا منطقة نجد .

2 ـ  فى صحراء نجد القاحلة والواسعة عاش الأعراب على قطع الطريق، وكانت تأتيهم الفرصة الكبرى حين تنشأ فيهم أو تنتشر بينهم دعوة دينية تبرر وتبيح لهم القتل والسلب للآخرين على أنه جهاد. ولذلك كان استحلال الأعراب النجديين لدماء المسلمين المسالمين وأموالهم وأعراضهم فى التاريخ الاسلامى مرتبطا بثورات نجد الدينية، تلك الثورات التى تخصصت فى التدمير وسفك الدماء. وما عدا الثورات ومشروعات الدول الدموية فإن تاريخ نجد العادى مجرد غارات داخلية فيما بينهم أو غارات سنوية عادية على قوافل الحجاج , أى مجرد غارات "علمانية" بدون شعارات دينية. ولكن تلك الغارات المعتادة استلزمت أن تسير قوافل الحجاج فى حماية جيش كامل، لحماية الحجاج من غارات أعراب نجد .ولقد تأثر ابن خلدون بتاريخهم الدموى فقرر فى مقدمته الشهيرة أن الأعراب هم أسرع الناس للخراب، وأنهم يحتاجون إلى دعوة دينية يستطيعون من خلالها استحلال الدماء والأموال والأعراض وإسباغ الشرعية على ثوراتهم واعتدائهم( مقدمة ابن خلدون: 125: 127.)

3 ــ فى "نجد" بدأ التطرف مبكراً حين كانت المركز الأساسى لحركة الردة، ففى سهل حنيفة ظهر مسيلمة الكذاب وتحالفت معه سجاح التميمية، ولنتذكر أنه فى نفس سهل حنيفة ولد وعاش محمد بن عبد الوهاب صاحب الدعوة الوهابية فيما بعد. ولقد وصف القرآن الكريم معظم الأعراب بأنهم أشد كفراً ونفاقاً (التوبة: 97) وقد خضع الأعراب لقوة المسلمين وسالموها، مع أن الإسلام لم يدخل قلوبهم بعد (الحجرات: 14) فلما توفى النبى محمد عليه السلام وتولى أبو بكر تمردوا على الدولة فى حركة حربية هادرة مركزها "نجد". وبعد إخماد حركة الردة بصعوبة بالغة رأى أبو بكر أن يتخلص من بأس الأعراب النجديين بتصدير قوتهم الحربية إلى الخارج شمال نجد , فكانت حركة الفتوحات العربية إلى شمال نجد فى العراق أولاً، ثم الشام وإيران . وتكونت جيوش الفتوحات من أغلبية من الأعراب (المرتدين سابقاً) وقيادة من الأمويين القرشيين (المعاندين سابقاً) ذلك أن الأمويين رأوا أن مصلحتهم السياسية والاجتماعية تحتم عليهم الدخول فى الدين الجديد،   وانتهت الفتوحات وقد أصبح الأمويون وحلفاؤهم القرشيون يحكمون الشام والعراق ومصر وشمال أفريقيا باسم الإسلام، وفى خلافة عثمان سيطروا عليه، فاصطدموا بأعراب نجد فكانت الحرب الأهلية بين المسلمين أو ما يعرف بالفتنة الكبرى،  وكانت قضية "السواد" هى بداية الفتنة الكبرى . والسواد هى الأرض الزراعية الواقعة بين نجد والعراق، وكان أعراب نجد يتطلعون إلى امتلاك "السواد" لأنها الأقرب إلى موطنهم وحيث كانوا يغيرون عليه قبل الإسلام ويحلمون بامتلاكه، ولكن الأمويين لم يسمحوا لهم بذلك واعتبروا "السواد" "بستان قريش"، فاشتعلت الثورة، وقتل ثوار نجد عثمان بعد أن حاصروه، ونصبوا "علياً" خليفة، واشتعلت الحروب الأهلية، وفيها كان أعراب نجد هم عماد جيش على، ثم ما لبثوا أن خرجوا عليه وقتلوه وأصبح اسمهم الخوارج.

4 ــ وبهذا تحول الاعراب النجديون من مسلمين في عهد النبي - كيدا فى قريش ـ الي مرتدين عن الاسلام ـ بعد دخول قريش فيه ، ثم مسلمين للمرة الثانية بعد أن هزمتهم قريش ، ثم الي فاتحين فى عصر أبى بكر وعمر تحت امرة قريش، ثم الي ثوريين علي عثمان حين انحاز الى القرشيين الأمويين وفضّلهم فى الأموال على بقية المسلمين ،ثم الي شيعة وأنصار لعلى بن أبى طالب ، ثم الى خارجين علي عليّ بن أبى طالب . كل ذلك التقلب حدث فيما بين موت النبي (11هـ،سنة 632م )الي مقتل علي علي ايديهم (40هـ،661)أي خلال اقل من ثلاثين عاما.

5 ـ  واصطبغت حركتهم بالعنف المرتبط بتفسير ديني، يسري هذا علي قبولهم المتحمس للاسلام في عهد النبي ،ثم خروجهم عليه في حركة الردة تحت زعامة مدعي النبوة ،ثم انغماسهم في الفتوحات علي انها جهاد يغنمون منه النصر والشهادة والغنائم في الدنيا و الاخرة ،ثم حين ثاروا علي عثمان رفعوا لواء العدل ،وحين رفع الامويين المصاحف علي اسنة الرماح في موقعة صفين خداعا ارغموا عليا علي الموافقة علي التحكيم لكتاب الله ،ثم حين ظهر ان التحكيم خدعة خرجوا علي (علي)  لأنه وافق علي التحكيم واتهموه بالكفر ثم قتلوه. بعدها تفرق معظم أعراب نجد تحت اسم الخوارج وأخذوا يرفعون لواء الحاكمية "لا حكم إلا لله" ويقتلون المسلمين المسالمين فى العراق وإيران، فالخوارج استباحوا قتل المسلمين ، يقول الملطى (377 هـ) عن الطائفة الأولى منهم، إنهم كانوا يخرجون بسيوفهم فى الأسواق حين يجتمع الناس على غفلة فينادون "لا حكم إلا لله"، ويقتلون الناس بلا تمييز(الملطى: التنبيه والرد: 47 تحقيق زاهد الكوثرى ) . وهذا شبيه بما يفعله الوهابيون الآن من عمليات انتحارية وهم يهتفون ( الله أكبر ).!

6 ـ هذا القتل والقتال باسم الدين يعنى ( الاستحلال ) ، وهو يختلف عن القتل العادى والقتال العادى . هتلر بكل ما ارتكبه لم يزعم أن الله جل وعلا أمره بهذا . آل كابونى زعيم المافيا الأمريكية المشهور والذى قيل إنه قتل ألف رجل ــ لم يزعم أنه قتل من قتلهم جهادا فى سبيل . أى ليس فيما فعله هتلر أو كابونى إستحلال . ولكن الذى فعله الخلفاء القرشيون بدءا من أبى بكر وعمر ومعه ( صحابة الفتوحات ) هو إستحلال للقتل والقتال والغزو والاحتلال والسلب والنهب على أنه جهاد مفروض ـ  هنا يكون حربهم لرب العزة جل وعلا ورسوله . وتأسست ثقافة أعراب ( نجد ) على هذا الاستحلال فتحولت غاراتهم الى ( جهاد ). لم يتوقف بعد إخماد ثورات الخوارج فى العصر العباسى الأول .

7 ـ فى العصر العباسى الثانى إندلعت بجوار البصرة ثورةالزنج ، وإنضم اليها النوج وأعراب نجد . ثورة الزنج خربت جنوب العراق طوال خمس عشر سنة (255-270) هـ الى أن تم اخمادها بصعوبة بالغة. وفيها قتل الثائرون ثلاثين ألفاً حين استولوا على مدينة الأبلة فى العراق سنة 256 هـ، وفى العام التالى دخل البصرة زعيم الزنج بعد أن أعطى أهلها الأمان، ولكنه نكث بعهده فقتل أهلها وسبى نساءها وأطفالها وأحرق مسجدها الجامع، وكان من بين سباياه نساء من الأشراف، وقد فرقهن على عسكره من الزنوج يغتصبونهن ، وكانت السبايا العلويات تباع الشريفة منهن فى معسكره بدرهمين وثلاثة، وحين استجارت به إحداهن ليعتقها أو ينقذها من ظلم سيدها الزنجى قال لها: "هو مولاك وأولى بك من غيره".( تاريخ الطبرى: 9، 472، 481، والمسعودى: مروج الذهب 4 : 146 ).

8 ــ  ثم ما لبث أعراب نجد أن اشتعلت ثورتهم هادرة تحت اسم القرامطة وهى دعوة يختلط فيها التشيع بغيره، لأن المهم لدى زعماء النجديين وجود أى مبرر دينى يسوغ لهم التدمير وإقامة المذابح باسم الاسلام .امتدت غارات  القرامطة إلى العراق والشام والحدود المصرية، ولم تنج الكعبة من تدميرهم، وقد سبقوا المغول فى سياسة الأرض المحروقة، أو إبادة كل الأحياء فى المدن التى يستولون عليها، وقد شهد المؤرخ الطبرى جانباً من فظائعهم وسجلها فى الجزء العاشر والأخير من تاريخه فيما بين (286-302) هـ واستمرت فظائعهم بعد الطبرى بقرنين تقريباً حتى تغلب عليهم أعراب المنتفق. وكان القرامطة أكثر وحشية فى استباحة الدماء والأعراض، ومن موقع المعاصرة والمشاهدة روى الطبرى بعض أخبار زعيمهم ، منها أنه خصص غلاماً عنده لقتل الأسرى المسلمين، وأنه استأصل أهل حماة ومعرة النعمان وقتل فيهما النساء والأطفال، ثم سار الى بعلبك وقتل عامة أهلها، وسار إلى سلمية وأعطاهم الأمان ففتحوا له الأبواب فقتل من بها من بنى هاشم ( أى الأشراف من ذرية النبى محمد ) ثم اختتم بقتل أهل البلد أجمعين بما فيهم صبيان الكتاتيب، ثم خرج عن المدينة وليس فيها عين تطرف، ونشر الخراب والدماء فى القرى المحيطة. أما ما فعله فى الكعبة وقتل الحجاج فيها وإلقاء الجثث فى زمزم، واقتلاع الحجر الأسود، فذلك ما استفاضت فيه الأخبار، وهذه الوحشية فى قتل الأبرياء كانت تقوم على منهج فكرى أشار إليه النويرى فى حديثه عن التربية الفكرية لشباب القرامطة، كما أشار إليها الطبرى فى قصة واقعية لشاب اقتنع بالدين القرامطى وهجر أمه وأسرته مقتنعاً بالدين الجديد معتقداً استحلال الدماء.  (أخبار القرامطة فى تاريخ الطبرى: 10، 71، 77، 86، 94، 99، 107، 115، 116، 121، 128، 130، 135، 148، وفى نهاية الأرب للنويرى 25، 195: 227 وما بعدها.) .

9 ـ وبعد القرامطة عاد أعراب نجد إلى ما اعتادوه من قطع الطريق على الحجاج والاقتتال فيما بينهم، إلى أن ظهر فيهم محمد بن عبد الوهاب بدعوته الدينية وتحالف مع ابن سعود، وكان أهم بند فى التحالف بينهما (الدم الدم، الهدم الهدم)، وأعطاه ابن عبد الوهاب تشريع الاستحلال بعد أن اتهم كل المسلمين الآخرين بالكفر وجعل ذلك الاتهام مبررا دينياً للغزو والتوسع، وبذلك قامت الدولة السعودية الأولى، ونشرت السلب والنهب وسفك الدماء فى الجزيرة العربية وحول الخليج وفى العراق والشام، إلى أن اضطرت الدولة العثمانية للاستعانة بواليها على مصر "محمد على باشا" فقضى على الدولة السعودية ودمر عاصمتها "الدرعية" سنة 1818 م.

10 ـ ولا تختلف مذابح الخوارج والزنج والقرامطة – وقادتهم من أعراب نجد أساسا- عن المذابح التى قام بها النجديون الوهابيون السعوديون فى تأسيس الدولة السعودية الأولى ، والدولة السعودية الثالثة الحالية، وقد  وصلت تلك المذابح الى العراق والشام والبيت الحرام وسائر مدن الحجاز ، وكان أكثر الضحايا من النساء والأطفال والشيوخ.

ولا تختلف هذه المدرسة الفكرية التى كان يعدها القرامطة لغسيل مخ الشباب عن الاعداد الفكرى الذى كان فقهاء الوهابية يعدونه لشباب الأعراب النجديين فى العقد الثانى من القرن العشرين والذى يتحول به الشاب الاعرابى الى مقاتل عنيد يرى الجهاد فى استحلال قتل كل من ليس وهابيا، وعن طريق هذا الاعداد الثقافى تكون "الاخوان " جنود عبد العزيز آل سعود الأشداء الذين أسسوا الدولة السعودية الحالية، وكانت سمعتهم فى القتل والتدمير ترعب قرى الشام والعراق، كما لايختلف عن الاعداد الثقافى الذى تقوم به جماعات الاخوان وبقية التنظيمات العلنية والسرية فى تاريخنا المعاصر والذى يجعل الشاب المصرى المسالم يستسهل تفجير الشوارع والمبانى معتقداً أن ذلك جهادا فى سبيل الله. 

ثانيا : لمحة عن تكوين الدولة السعودية الأولى بالجهاد النجدى ( حرب الله جل وعلا ورسوله )

1 ـ التحالف الذى عقده ابن عبد الوهاب مع ابن سعود هو الدليل الأكبر على الجهاد النجدى الذى يعنى حرب الله جل وعلا ورسوله ، بإستحلال الدماء والأعراض والأموال ، والزعم بأن هذا هو دين الاسلام . وهذا التحالف هو أيضا الدليل الأكبر على أن الخطاب الدعائى لابن عبد الوهاب ليس سوى نفاق وأكاذيب .

2 ـ لقد قامت الدولة السعودية الأولى بناء على هذا التحالف بين الشيخ والأمير محمد بن سعود صاحب الدرعية ، وهى مدينة منسية فى صحراء نجد. تم هذا التحالف عام 1158 هجرية ( 1745 )، وبه أعطى ابن عبد الوهاب للأمير السعودى مسوغا شرعيا لغزو البلاد الأخرى واحتلالها وقتل أهلها بعد اتهامهم بالكفر واكراههم على قبول الوهابية ـــ على أنها الاسلام، زاعما ان هذا هو الجهاد الذى كان يفعله النبى محمد عليه السلام .

3 ــ بهذا التحالف قامت الدولة السعودية الأولى، وقتلت مئات الألوف من السكان المسالمين فى الجزيرة العربية والعراق والشام. بدأ السعوديون باحتلال نجد كلها ثم ضم الأحساء وتوسعوا فى غاراتهم لتصل الى قطر والبحرين والكويت وعمان ، ثم ضموا الحجاز ، وحاربوا اليمن ، وتطلعوا لاحتلال العراق والشام. وأدى توسعهم هذا المرتبط بالمذابح والتدمير الى اضطرار الدولة العثمانية للاستعانة بواليها القوى فى مصر ( محمد على باشا) الذى أرسل حملتين الى الحجاز لاستعادته من السعوديين الوهابيين سنة 1811 واستمرت الحرب بينه وبينهم الى أن تم تدمير الدرعية العاصمة السعودية سنة 1818 .

4 ـ ولأن الوهابية ظلت بدون نقاش يؤكد تناقضها مع الاسلام فقد أُقيمت عليها الدولة السعودية الثانية (1818-1891) ، والتى اسقطها النزاع الداخلى بين أبناء سعود . ثم إستطاع عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل تأسيس الدولة السعودية الثالثة الراهنة ، واعطاها إسم أسرته عام 1932. وبالبترول نشرت السعودية دينها الوهابى على أنه هو الاسلام ، ونشرت بالجهاد الوهابى حمامات الدم فى العالم على أنه جهاد إسلامى ، فأصبحت بوهابيتها محور الشّر فى عصرنا .

5 ــ ونتوقف فى الفصل التالى مع قراءة فى كتاب :( عنوان المجد فى تاريخ نجد ) لنتعرف على الدين الواقعى للوهابية من خلال ما كتبه مؤرخها عثمان بن بشر .



[1]
ــ النفحات الأحمدية 175

[2]ــ البحر المورود 319 ، وفتح  السنة 22 والمنن الصغرى مخطوط ورقة 4 ، الطبقات الكبرى 2 / 62

[3]ــ الشعرانى .. قواعد الصوفية 1 / 174

[4]ــ لطائف المنن للشعرانى 212

[5]ــ  لطائف المنن    388

[6]ــ لطائف المنن 543

[7]ــ لواقح الأنوار 102

[8]ــ الطبقات الكبرى للشعرانى 2 / 65

[9]ــ لطائف المنن 396 ، 405 ، 424 ، 426

[10]ــ قواعد الصوفية 1 / 204

[11]ــ الجواهر والدرر 170

[12]ــ لطائف المنن 383 ، 384 ، 294

[13]ــ المدخل 2 / 152

[14]ــ الشعرانى صحبة الأخبار 88 ..

[15]ــ عبد الصمد .. الجواهر : 77 ، 82 ، 83 ، 69 .. النصحية العلوية 35 وما بعدها  ـ الكواكب السيارة 225 ، 291 ، مناقب الحنفى 256 ، 257 ، 410 412 ، لطائف المنن 293 مناقب الوفائية 66 : 67 .

[16]ــ تاريخ البقاعى : مخطوط ورقة 3

 

[17]ــ تعطير الأنفاس 203 ، 204 ، الطبقات الكبرى للشعرانى 2 / 9  ،

[18]ــ عبد الصمد .. الجواهر 26 : 27

[19]ــ الجواهر والدرر 271 : 272

[20]ــ لطائف المنن 180

[21]ــ ابن تيمية : مجموعة الرسائل والمسائل 1 / 70

[22]ــ لواقح الأنوار 345

[23]ــ لواقح الأنوار 173 : 174 ، البحر المورود 271 ، لطائف المنن 383

[24]ــ قواعد الصوفية 1 / 165

[25]ــ قواعد الصوفية 1 / 164

[26]ــ مناقب الوفائية  مخطوط 46 : 71 ، 93 ..

[27]ــ الطبقات الكبرى للشعرانى 2 / 90

[28]ــ محاسن مصر .. ابن ظهيرة 204

[29]ــ خطط المقريزي 1 / 79

[30]ــ البحر المورود 129 : 130

[31]ــ درر الغواص : 75

[32]ــ المدخل 2 / 198

[33]ــ تاج العروس 71 .. الحكم العطائية 462

[34]ــ نثبة المغترين 131

[35]ــ البحر المورود 23 ، 24

[36]ــ توفيق الطويل : الشعرانى : 136 : 137

[37]ــ كلوت بك : لمحة عامة 1 / 552

 

 

 

 

[38]- النجوم الزاهرة 15 /207 وطرق القتل تنم عن منتهى القسوة كالتوسيط والتسمير والمعاصر ونشر الأجسام وسلخ الجلود ودفن الأحياء وتعليق الرءوس في رقاب نساء القتلى ..

[39]- النجوم الزاهرة 14 /113 .

[40]تاريخ ابن إياس 2 /368 .

[41]- تاريخ ابن إياس 2/ 454 تحقيق محمد مصطفى .

[42]- تاريخ ابن إياس 2 /175 :176 ط بولاق .

[43]ـ السلوك 4/ 1 /185 .

[44]ـ تاريخ ابن إياس 1/2 / 277 .

[45]ـ تاريخ ابن إياس 1/2/ 336 .

[46]ـ تاريخ ابن إياس 2/125 ، 134 ،135 .ط بولاق .

[47]ـ النجوم الزاهرة 15/ 38 .

[48]ـ السلوك 4/2/708 .

[49]ـ الشر بيني.هذا التخوف في أكثر من موضع .

[50]ـ تاريخ ابن إياس  2/13 تحقيق محمد مصطفى .

[51]ـ تحفة الأحباب 27 . 28 ترجمة ابن الغنام.

[52]ـ مناقبه . مخطوط ورقمه 247 ، 248 ، 249، 346 ، 347 .

[53]ـ السلوك 4/2 /672 .حوادث سنة 827 .

[54]ـ الأبشيهي .المستظرف 37.

[55]ـ الأمثال الشعبية. لتيمور: 28، 188 ، 295 ، 54 .

[56]ـ  المناوي الطبقات الكبرى مخطوط ورقة 296 ترجمة الأخميمي .

[57]ـ لطائف المنن 125 ، 171 ، 403 لواقح الأنوار 341 البحر المورود 31.

[58]ـ لطائف المنن 171 .

[59]ـ البحر المورود 16 ،17 .

[60]ـ لطائف المنن 244 .

[61]ـ مناقب الحنفي مخطوط 388 .

[62]ـ لطائف المنن 222 .

[63]ـ البحر المورود 314.

[64]ـ لطائف المنن 234 ،507 .

[65]ـ لطائف المنن 234، 507 .

[66]ـ حوادث الدهور 3/598 .

[67]ـ التبر المسبوك 135 .

[68]ـ أوردها زرق يسليم في مجلة الرسالة عدد 825 ص 779 .

[69]الأبشبهي .المستظرف 1/29 .

[70]ـ كيلاني  .في مقدمته لديوان البوصيري .

[71]ـ لطائف المنن للشعراني 127 ، 452 .

[72]ـ لطائف المنن للشعراني 127 ،452 .

[73]ـ البحر المورود 23 .

[74]ـ لطائف المنن 452 .

[75]ـ لطائف المنن 451 ، 452 .

[76]ـ لطائف المنن 219: 220.

[77]ـ لطائف المنن 83، 127، 143، 338 .

[78]ـ    الطويل : الشعراني 141 .

[79]ـ لطائف المنن 129 ، 130 ، لواقح الأنوار 167 ، البحر المورود ،270 ، 271 .

[80]ـ لطائف المنن 458 .

[81]ـ تنبيه المغترين 35 .

[82]ـ البحر المورود 108 :109 .

[83]ـ الجواهر والدرر 183 .

[84]ـ الجواهر والدرر 125 :126، البحر المورود 279 ، 280 .

[85]ـ صحبة الأخيار 114 .

[86]ـ البحر المورود 186 ، 319 ، لطائف المنن 370 .

[87]ـ لواقح الأنوار 339 .

[88]ـ البحر المورود 110 .

[89]- البحر المورود 205: 207 ، لطائف المنن 124 : 125

[90]- البحر المورود 173: 174 ،292 .

[91]ـ لطائف المنن 480 .

[92]طائف المنن 480 .

[93]ـ البحر المورود 304 : 305 .

[94]ـ البحر المورود 109 : 110 .

[95]ـ البحر المورود 155 : 156 .

[96]ـ الأبشيهي .المستظرف 1/29 .

[97]ـ تيمور الأمثال الشعبية " 318 ، 383 ، 322 ، 354 ، 372 وغيرها.

[98]ـ أحمد أمين .قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية 428 .

[99]ـتيمور: الأمثال الشعبية : 114 ، 126 ، 153 ، 233 ، 102 ، 12 ، 63 ، 292 .

[100]ـ تيمور : الأمثال الشعبية : 114 . 126 ، 153 ، 233 ، 102 ، 12 ، 63 ، 292 .

الدين الوهابى المعاصر: تأسيسه فى نجد وإنتقاله الى مصر
الجزء الثانى من كتاب ( نشأة وتطور أديان المسلمين الأرضية ):
هذا الكتاب
الكتاب السابق عن تأسيس وتطور الديانات الأرضية فى تاريخ المسلمين كان الفصل الأخير منه عن الوهابية . وقد رأيت أن أتوسع فيه ليكون كتابا كاملا ، فكان هذا الكتاب الذى يقع فى ثلاثة أبواب تتضمن تسعة فصول ، تتخصص فى تأسيس الوهابية فى نجد فى أواخر العصر العثمانى ثم إنتقالها وانتشارها فى مصر فى القرن العشرين .
more