رقم ( 6 )
الفصل الثالث : تطور أديان المحمديين الأرضية فى العصر العباسى ( 132 ـ 658 هجرية ) (750-1258م )

الفصل الثالث : تطور أديان المحمديين الأرضية فى العصر العباسى ( 132 ـ 658 هجرية ) (750-1258م )

فكرة عامة عن العصر العباسى

تقسيم العصر العباسى

بسبب طول العصر العباسى فقد جرى العرف بين الباحثين على تقسيمه لمرحلتين ؛ العصر العباسى الأول  ( 132 ـ 232 ) ( 750 ـ 847 ) والعصر العباسى الثانى ( 232 ـ 685 ) ( 847 ـ 1258 )

مقالات متعلقة :

 

بين الخلافة العباسية والدولة العباسية

دمر المغول الدولة العباسية بعد تاريخ متصل استمر أكثر من خمسة قرون، ولكن الخلافة العباسية استمرت باهتة فى مصر خلال الدولة المملوكية منذ أن إحتضنها السلطان المملوكى الظاهر بيبرس فظلت فى القاهرة تعطى سلطة دينية سنية للدولة المملوكية ، الى أن سقطت الدولة المملوكية على يد السلطان سليم العثمانى سنة 921 / 1517 وهو الذى حمل معه من القاهرة آخر خليفة عباسى الى استنانبول ، ومالبث ان تولى سلاطين العثمانيين الخلافة ، وأصبح السلطان العثمانى هو خليفة (المسلمين )، واستمر هذا الأمر فيهم الى أن تم إلغاء الخلافة العثمانية سنة 1924م.

الخلفاء العباسيون

عددهم 37 خليفة ، منهم تسعة فى العصر العباسى الأول ، الذى امتاز بقوة نفوذ الخلفاء وسيطرتهم على مقاليد الأمور بدرجات متفاوتة. بينما وقع الخلفاء اللاحقون تحت سيطرة القادة الترك ثم القوى القبلية العسكرية الوافدة من الشرق مثل البويهيين والسلاجقة، وأحيانا كان يتحكم الخليفة العباسى بنفسه مستعينا بقوى محلية كما حدث للخليفة المعتضد ( 279 ـ 289 ) ( 892 ـ 902 )ومن جاء بعده الى نهاية الدولة.

أهم الخلفاء العباسيين

السفاح هو أول خليفة عباسى ، واسمه عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس  والعباس هو عم النبى محمد عليه السلام , وقد حكم السفاح أربع سنوات فقط ( 750 ـ 754 ) ومات ليترك توطيد الدولة الجديدة لأخيه الأكبر أبى جعفر المنصور ، الذى حكم أكثر من عشرين عاما( 754 ـ 775 ) ، أسس فيها بغداد ، واستأثر بالسلطة بعد أن قتل القائد الفارسى أبا مسلم الخراسانى المؤسس الحقيقى للدولة ، وتتبع الثائرين على الدولة من الفرس والعلويين أبناء عمهم على بن أبى طالب. بعده واصل ابنه ( المهدى ) ( 775 ـ 785 ) مطاردة المعارضين  المسالمين يقتلهم بعقوبة جعلوها شرعية ، وهى الردة، أى اتهامهم بالكفر ثم قتلهم بهذه التهمة، وتلك من تجليات الدولة الدينية التى اكتسبت الدولة العباسية ملامحها منذ عصر أبى جعفر المنصور ، الذى سمى إبنه ( المهدى ) أى أعطاه لقبا دينيا يسوغ له مطاردة خصومه السياسيين بتهمة الكفر ، لذا اشتهر المهدى بتتبع الزنادقة وقتلهم بسيف ( الشرع ) ، ليس هو شرع الاسلام بل شرع الدين الأرضى الذى أصبح اسمه السنة فى هذه الدولة العباسية.

تولى (الهادى) بعد ابيه (المهدى )، وقد ضاق الهادى من نفوذ أمه الخيزران فقتلته بالسم بعد عام واحد من الحكم ، وولت ابنها الرشيد،الذى نالت الدولة العباسية فى عهده ( 786 ـ 809 )أوج ازدهارها وقوتها،وقد عهد ـ كالعادة ـ لإبنيه على التوالى محمد الأمين ثم عبد الله المأمون ، وتولى الأمين أربع سنوات، وكالعادة ـ أراد نزع ولاية العهد من أخيه المأمون فتحاربا فانتصر المأمون وقتل أخاه الأمين سنة 813 وتولى بعده فحكم عشرين عاما ، واشتهر عهده بالانفتاح على الفلسفات الشرقية والغربية وأسس بيت الحكمة ، وتولى بعده أخوه المعتصم ، ولم يكن فى ثقافة المأمون، وفى عهد المعتصم ( 833 ـ 842 ) بدأت أول كارثة دفع الخلفاء العباسيون اللاحقون ثمنها ، وهى الاكثار من شراء الغلمان الأتراك والاعتماد عليهم حربيا واداريا فى الدولة ، مما مهد لهم فى التحكم فى الخلفاء اللاحقين ، كالواثق ( 842 ـ 847 ) ، ثم المتوكل ( 847 ـ 861 ) وهو الذى يبدأ به العصر العباسى الثانى، ( 847 ـ 1258 ) عصر ضعف الدولة العباسية كنظام سياسى ولكن تبدأ قوة الخلافة العباسية ( الروحية ) كرمز للدين السنى. وهذه إحدى الفوارق بين الدولة العباسية والدولة الأموية.

 

فوارق أساس بين الدولة الأموية والدولة العباسية

1 ـ مع انتمائهما معا الى قريشن والى جد واحد هو عبد مناف إلا أن هناك فروقا أساسا  بين الأمويين والعباسيين، ترجع الى وظيفة البيتين الأموى والعباسى.

الأمويون احترفوا السياسة والتجارة والحرب، بحكم قيادتهم لرحلة الشتاء والصيف ، بينما احترف العباس خدمة البيت الحرام والتجارة الدينية باسمه ، ومن أجل هذه التجارة ظل العباس فى مكة معاديا لإبن أخيه النبى محمد متحالفا مع أبى سفيان ، الى إن أدرك أبوسفيان والعباس معا أن مصلحتهما تحتم عليهما الدخول فى الاسلام فاسلما قبيل وفاة النبى محمد. بالتالى تجد الدولة الأموية أقرب الى الدولة العلمانية الاستبدادية بمقياس عصرنا ،بينما تجد الطبيعة الكهنوتية الثيوقراطية أبرز لدى الدولة العباسية ، وإن لم يخل الأمر من تدرج مبعثه طول عهد الدولة العباسية واختلاف ظروف الزمان والمكان ومراكز القوى داخل وخارج الدولتين.

من حيث ظروف الزمان فان طول الفترة التى قضتها الدولة العباسية كان له تأثيره فيها ليس فقط من حيث قوة أو ضعف الخليفة ونفوذه السياسى ، ولكن أيضا من حيث المحتوى الثقافى للدولة ومحيطها الاجتماعى المتنوع والذى أتيح له التبلور وصبغ الأجناس المختلفة ثقافيا فى إطار مجتمع يمكن أن يطلق عليه المجتمع العباسى ، دار من خلاله صراع الأديان الأرضية للمحمديين وفق منظومة  دينية تتفق فى تناقضها مع القرآن مع اختلافاتها الشكلية والسياسية.

الخلاف المكانى يكمن فى أن العراق الذى كان مركز المعارضة للدولة الأموية صار مركز الحكم للدولة العباسية، وحلت بغداد المنشأة حديثا محل دمشق أقدم مدن العالم، وإنمحى التأثر بالبيزنطيين وحل محله التأثر بالحضارة الفارسية ، وأصبحت الدولة العباسية تلتفت شرقا نحو آسيا ، أكثر من اتجاهها غربا نحو أفريقيا والبحر المتوسط وأوربا.

يمكن التوقف بالتفصيل مع ثلاثة سمات أساسية فى الاختلاف بين الدولتين: حجم الدولة ، ومراكز القوى المسيطرة فيها، وموقف الدولة من التمسح بالدين. وهى عناصر متداخلة ومعقدة ولكن نحاول تبسيطها والفصل بينها بقدر المستطاع.

2 ـ الدولة الأموية فى عمرها القصير( حوالى تسعين عاما ) وصلت فى فتوحاتها الى أقصى اتساع حققه التوسع العربى ، وقد وطدت تللك الفتوحات ، وأحكمت عليها قبضتها ، ثم ورثت الدولة العباسية هذه الامبراطورية المترامية الأطراف، ولكن لم تحافظ عليها الدولة العباسية برغم عمرها الطويل( أكثر من خمسمائة عام ).

الى آخر لحظة فى عمر الدولة الأموية كان الخليفة يسيطر تماما على كل الدولة من أواسط آسيا وحدود الهند والصين الى جنوب فرنسا وجزر البحر المتوسط، ، لم تنفصل ولاية عن الدولة الأموية ، ولم يحاول أحد الولاة أن يتمتع بحكم ذاتى فى إطار الدولة الأموية ، أو ان يتبعها روحيا وأدبيا كما كان يحدث فى الدولة العباسية.

إختلف الأمر تماما مع الدولة العباسية.

* أقام العباسيون مذبحة لاستئصال كل الأمويين ، فرّ منها عبد الرحمن بن معاوية حفيد الخليفة الأموى هشام بن عبد الملك، واستطاع فى نهاية المطاف فصل الأندلس عن الدولة العباسية وإسس دولته الأموية الزاهرة هناك سنة 138 هجرية، ومات سنة 170. إنه عبد الرحمن الداخل ( صقر قريش ) كما سماه غريمه الخليفة العباسى ( أبو جعفر المنصور ) الذى عجز عن ملاحقته فى الأندلس فقال : (الحمد لله أن جعل بيننا وبينه بحرا) . استمرت الدولة الأموية فى الأندلس فيما بين 756: 1031 م. ووصل فيها حكم الاندلس الى أوج حضارته وتأثيره فى أوربا.وتوالى بعدهم حكم أمراء الطوائف أو الولايات العربية المستقلة والمتنازعة الى ان سقطت غرناطة وانتهى حكم بنى الأحمر، وأقام الأسبان والبرتغاليون مذابح للعرب واليهود .

* وفى إطار الصراع بين العلويين وأبناء عمهم العباسيين أقام الأدارسة ملكا لهم فى مراكش، وفصلت دولة الأدارسة (788 ـ 985 ) المغرب عن الدولة العباسية مبكرا. بعد الفشل فى ملاحقة الأدارسة اضطرت الدولة العباسية لاطلاق يد الأغالبة فى حكم تونس ، فحكموها حكما ذاتيا فى إطار الدولة العباسية استمر حوالى قرن من الزمان (800 ـ 909 ) الى أن نجح الشيعة الاسماعيلية فى اسقاط الأغالبة وإقامة خلافة فاطمية شيعية فى مدينة المهدية بتونس سنة 909 . ولم تلبث تلك الدولة الفاطمية بخلافتها الشيعية أن واصلت فتوحاتها غربا الى أن إستولت على مصر فدخلت بمصر والمنطقة فى منعطف جديد.

وباتجاه الفاطميين نحو الشرق قل اهتمامهم بموطنهم الأول فى شمال افريقيا فانفصل عن الدولة الفاطمية وقامت فيه دولة دينية جديدة هى الدولة المرابطية ( 1056 ـ 1147 ) ومالبث ان إنغمست فى الصراع الدائر فى الاندلس وأسبانيا ، ثم خلفتها دولة الموحدين ( 1130 ـ 1269 ) .

*فى مصر بدأ فيها الحكم الذاتى فى إطار الدولة العباسية على يد أحمد بن طولون ، الذى أسس الدولة الطولونية( 868 ـ 905 ) وضم اليها سوريا ، وبعد سقوطها عادت مصر للتبعية الكاملة للدولة العباسية ، ثم أسس فيها محمد بن طغج الأخشيد الدولة الاخشيدية ( 935 ـ 969 ) وضم اليها سوريا كالعادة ، وانهارت الدولة الاخشيدية سلميا بين يدى الفتح الفاطمى سنة 969. ثم مالبث أن أسقط صلاح الدين الأيوبى الدولة الفاطمية وأرجع مصر والشام الى النفوذ الروحى والسلطة الاسمية للدولة العباسية سنة 1171 ، وظلت الأسرة الأيوبية تحكم مصر وأجزاء من الشام والعراق واليمن الى إن بدأ سقوطهم سنة 1250 حيث ورثهم مماليكهم ، أو الدولة المملوكية التى استمرت الى أن أسقطها العثمانيون سنة 1517. بعد قيام الدولة المملوكية فى مصر بعشر سنوات تقريبا أسقط التتار والمغول الدولة العباسية سنة 1258 وأبادوا معظم سكان بغداد والمدن الكبرى فى الشام ، وتصدى لهم المماليك وهزموهم فى موقعة عين جالوت ، وأقيمت الخلافة العباسية فى القاهرة. ثم انتقلت فيما بعد الى العثمانيين.

* كانت الأمور فى الشرق أكثر تعقيدا ، حيث نشبت الثورات ، ثم انفصل القواد وأقاموا لهم ممالك مستقلة ذاتيا ، ثم أصبحت أمواج البشر تأتى الى بغداد ـ عاصمة الدنيا فى ذلك الوقت ـ  من أواسط آسيا وأواسط أوربا من الترك والديلم والقوقاز من الرقيق أو قبائل متحركة ، يخدمون الدولة كعسكر ، ثم يتحكمون فيها كقادة بل وسلاطين .

ظلت قبضة الدولة العباسية قوية على ممالكها فى آسيا وهى الأقرب اليهم والكثر تأثيرا فيهم ، فأخمدوا كل حركات الانفصال ، التى كانت لها دوافع دينية فارسية، وكالعادة طمع القواد الأقوياء فى إقامة ممالك لهم تتمتع بالحكم الذاتى فى إطار الدولة العباسية فى عصرها الثانى ،مثل الدولة الطاهرية فى خراسان ( 820 ـ 872 )والسامانية ( 874 ـ 999).هذا بينما انفصلت تماما عن الدولة العباسية الدولة الغورية والغزنوية ( 962 ـ 1136 ) ( 1148 ـ 1215 )

3 ـ لم تتعرض الدولة الأموية لهذا  التقلب فى علاقتها بولاياتها بين الانفصال التام والحكم الذاتى لسببين أساسيين هما عمرها القصير ، واعتمادها على عنصر واحد ، هو القوة العسكرية العربية. كانت دولة عربية صرفة تتعصب للعرب ضد الأجناس الأخرى.

اختلف الأمر مع العباسيين.القوى العسكرية غير العربية التابعة للعباسيين هى السبب الحقيقى الذى ادى الى هذا الانفصال وأدى الى تفاقم الضعف فى الدولة العباسية . ونتتبع ذلك باختصار:

قامت الدولة العباسية أساسا على جيش من الفرس الخراسانيين يعاونهم فريق من القبائل العربية القحطانية التى سئمت من تلاعب الأمويين بها. حرص الخلفاء العباسيون الأقوياء على مراعاة التوازن بين عنصرى الجند من الفرس والعرب ، فأبقوا التنافس بينهما لصالح الدولة ، وفى هذا الوقت كان الخليفة يباشر كل الأمور بنفسه ، وكانت وزارته تعرف بوزارة التنفيذ . ثم اعطى الرشيد تفويضا للبرامكة ـ وزرائه ـ لتسيير الحكم باسمه ، فلما رأى نفوذهم علا قضى عليهم وحكم بنفسه منفردا.

بدأ الضعف بعده بجعله ولاية العهد ـ على العادة ـ فى إثنين من أبنائه على التوالى: الأمين ، وأمه( زبيدة )عربية هاشمية عباسية ، والمأمون ، وأمه جارية فارسية. وبسبب ضعف الأمين وانهماكه فى المجون والخمر والشذوذ الجنسى تسلط عليه القادة العرب ، ووجدوها فرصة للقضاء على نفوذ الفرس ، فقام الأمين بعزل أخيه المأمون من ولاية العهد. وقف الى جانب المأمون القادة الفرس . قامت الحرب بين الأخوين ، وكانت حربا فى الحقيقة على النفوذ بين العنصرين العسكريين ؛ العرب والفرس. وفاز المأمون ومعه ( الفرس ) فانحدر الجند العرب وأخلوا النفوذ لصالح الجند الفرس. وكان من قادة الفرس من استقل بحكم الأقاليم الشرقية البعيدة مثل الدولة الطاهرية فى خراسان.( 820 ـ 872 ).

أراد الخليفة المعتصم بعد أخيه المأمون أن يخفف من انفراد الفرس فاستقدم رقيقا من الترك كوّن منهم فرقة عسكرية ، كانوا أجلافا بدائيين فأتعبوا البغداديين ولكن استمر شراؤهم واستجلابهم.

ثم ألغى الخليفة المتوكل ( 847 ـ 861 ) العرب والفرس معا من ديوان الجندية ، وجعلها قصرا على الأتراك. فأتيح للأتراك السيطرة على الخلافة والخليفة والولايات ، وكانوا يقتلون الخليفة أو يعزلونه كيفما شاءوا ، ومن قوادهم من استقل بحكم الولايات ذاتيا كالطولونيين والأخشيديين .

لم يلبث أن ضعف القادة الأتراك وتنازعوا فيما بينهم فاستولى على مقاليد الخلافة العباسية قبائل جديدة من الديلم الفرس بزعامة بنى بويه، وقد كانوا من الشيعة واستمرت سيطرتهم على الدولة العباسية أكثر من قرن، ( 334 ـ  447 ). جاء على أثرهم السلاجقة السنيون الأتراك الذين حكموا معطم الجزء الشرقى من الدولة العباسية بالاضافة الى العراق والشام وآسيا الصغرى. وخلال أجيال متعاقبة من طغرلبك وملكشاه وسنجر حكم السلاجقة من 1038 الى 1157 .

وكالعادة ضعف الأتراك السلاجقة فاستقدموا الرقيق للتجنيد ، وبرز من الرقيق من صار أتابكيا أى قائدا. وحكم أولئك الأتابكة المدن الكبرى فى الشام والعراق ، وبمرور الزمن استغلوا ضعف أسيادهم السلاجقة فاستقلوا وكونوا أحيانا أسرات حاكمة فى المدن الهامة مثل دمشق وحلب وسنجار والموصل ..الخ.

استغلت بعض القبائل العربية فرصة الضعف العباسى فكانت تغير على قوافل الحج ، وتحاول إقامة دول لها ، مثلما حاول صاحب حركة الزنج ، ثم القرامطة. وأخيرا نجح بنو حمدان فى إقامة الدولة الحمدانية فى الموصل وحلب، وكانت لها حروبها مع البزنطيين الذين استثمروا ضعف العباسيين فقاموا بحروب وحركة استرداد وصلت الى حلب والشام ، ثم جاء على أثرهم الصليبيون،واستغلوا ضعف الاتابكة والسلاجقة المحليين فى تأسيس ممالك صليبية لهم فى القدس والشام وآسيا الصغرى . وظلت الدولة العباسية برغم كل تلك الانقسامات قائمة رسميا وشكليا ، وظل الخليفة هو صاحب النفوذ الروحى. الى أن قضى المغول على الدولة العباسية ، وانتقلت الخلافة العباسية الى القاهرة المملوكية .

 

الكهنوت العباسى

 أبو جعفر المنصور وارساء كهنوت الخلافة العباسية

مقدمة

1 ـ  هذا النفوذ (الروحى ) الدينى هو ميزة أخرى للدولة العباسية لم تعرفها الدولة الأموية وخلفاؤها.كان الخلفاء الأمويون عربا لم تكن لهم الخبرة الكافية فى براعة الاستخدام الدينى، كما أن عهدهم القصير لم يعطهم فرصة الحصول على تلك الخبرة.اختلف الحال مع العباسيين ، فلهم تراث فى الاستغلال الدينى بدأ بجدهم العباس ، ثم معرفة عبد الله بن عباس بما تيسر فى عهده من معارف قام بوصلها بالاسلام عبرما اصبح يعرف بالتفسير والحديث. وتوارث الأحفاد هذا الاهتمام العلمى ، ثم استخدموه فى طموحهم السياسى، ثم فى تأكيد سلطانهم فيما بعد ، خصوصا وأنهم جعلوا أنفسهم أوصياء على الدين وبإستغلال إسم الاسلام ، ومن خلال اسمه جعلوا أنفسهم أصحاب السلطة الشرعية السياسية فى حكم المحمديين  وفق الدين الأرضى الذى تأسس ونما وترعرع فى عصرهم ذى القرون الخمسة.

2 ـ ومن الطبيعى أن يتم هذا بالتدريج بحيث أن أقوى الخلفاء لم تكن له تلك السلطة الروحية التى حازها الخلفاء العباسيون الضعاف اللاحقون ، الذين برغم ضعفهم ومجونهم وتلاعب القادة المتغلبين بهم فقد كانت للخلافة العباسية ـ فى حد ذاتها ـ قدسية ، أكبر من شخص الخليفة نفسه.

 

بين الخليفة السفاح العباسى والخليفة المنصور العباسى

1 ــ أول خليفة عباسى كان يحمل لقبا ارهابيا هو ( السفاح ) الذى يعنى سفاك الدماء، وكان كذلك فعلا. وبهذه القسوة المفرطة كان لا يختلف عن سابقيه الأمويين.

فى أحداث 132 هجرية ، أى السنة التى أقيمت فيها الدولة العباسية و تحت عنوان (ذكر ولاية يحيى بن محمد الموصل ومن قتله بها ) يقول المؤرخ الموسوعى شهاب الدين النويرى فى كتابه ( نهاية الأرب ) فى الجزء 22 ص 58 : 

( وفى هذه السنة استعمل السفاح أخاه يحيى على الموصل، وسبب ذلك أن أهل الموصل امتنعوا من طاعة عاملهم محمد بن صول.. وأخرجوه عنهم، فكتب بذلك الى السفاح فاستعمل عليهم أخاه يحيى وسيّره اليها فى اثنى عشر ألفا ، فنزل قصر الامارة ولم يظهر لهم  ما يكرهونه ولا عارضهم فى أمر، ثم دعاهم فقتل منهم اثنى عشر رجلا، فنفر( أى تجهزوا للقتال ) أهل البلد وحملوا السلاح فأعطاهم الأمان ، وأمر فنودى : "من دخل الجامع فهو آمن "، فأتاه الناس يهرعون ، فأقام يحيى الرجال على أبواب الجامع فقتلوا الناس قتلا ذريعا، وأسرفوا فيه ، فقيل انه قتل عشرين ألفا ممّن لهم خاتم ( أى ممّن يوقعون بخاتمهم ، أى من كبار الناس ) ، ومن ليس له خاتم ما شاء الله . فلما كان الليل سمع صراخ النساء يبكين رجالهن ، فقال : " اذا كان الغد فاقتلوا النساء والصبيان " فقتلوا منهم ثلاثة أيام. وكان فى عسكره قائد معه أربعة آلاف زنجى ، فأخذوا النساء قهرا، ( أى اغتصبوهن ) ، فلما فرغ يحيى من قتل أهل الموصل ركب فى اليوم الرابع وبين يديه الحراب والسيوف مصلتة ، فاعترضته امرأة وأخذت بعنان دابته، فأراد اصحابه قتلها فنهاهم ، فقالت له : ألست من بنى هاشم ؟ ! ألست من بنى عم رسول الله ؟  أما تأنف للعربيات المسلمات أن ينكحهن الزنج ؟!! . فأمسك عن جوابها ، وبعث معها من أبلغها مأمنها. فلما كان الغد جمع الزنج للعطاء فاجتمعوا، فأمر بهم فقتلوا عن آخرهم ).!هذا الرجل يحيى بن محمد بن على بن عبدالله بن عباس استحق اعجاب أخيه الخليفة السفاح لأنه نكث بالعهد والوعد وقتل الأبرياء فى المسجد بعد أن أعطاهم الأمان ، ثم قتل النساء والصبيان لأنهم أزعجوه ببكائهم على آبائهم وأزواجهن. ثم أكتشف فى النهاية أنه من العار عليه أن يدع جنوده الأفارقة يغتصبون المسلمات العربيات، فقتل جنده الأفارقة بنفس الخداع والنذالة. الخليفة السفاح هنا يتصرف بنفس طريقة الأمويين فى القسوة المفرطة والنكث بالعهود وعدم التورع عن الاغتصاب وقتل النساء والأطفال،ثم التعصب للعرب .

2 ــ اختلف الحال مع الخليفة الثانى أبى جعفر المنصور. الذى كان يسفك الدماء وينكث بالعهود ولكن بفتوى شرعية يصنعها له فقهاؤه . كان المنصورقد اصطنع مجموعة من الفقهاء تفتي له بما يريد ،منهم ابن ابي ليلة وابن شبرمة وابن ابي هند . ابو حنيفة وقتها كان أشهر الفقهاء ، وهو الذى ثار على الأمويين  وتعرض لإضطهادهم ، ولم يكن ممكنا أن تتجاهله الدولة العباسية الجديدة ، فكان بنضاله ضمن فقهائها . ولقد ثار اهل الموصل مرة ثانية علي المنصور ثم اخمد ثورتهم ،واشترط عليهم ان ثاروا بعدها فان دماءهم حلال . وثار اهل الموصل سنة 148هـ فاستشار ابو جعفر الفقهاء بشأنهم فقالوا :ان عفوت فانت اهل العفو وان عاقبت فبما يستحقون .ولكن ابوحنيفة قال ( انهم أباحوا لك ما لا يملكون،ولقد اشترطت عليهم ما ليس لك حين وافقوا انهم اذا ثاروا عليك فدماؤهم حلال لأنهم لا يملكون دماءهم وليس لك ان تشترط عليهم سفك دمائهم ،ارأيت إن أباحت امرأة جسدها الذي لا تملكه بغير عقد نكاح فهل يجوز ذلك ؟ ) .!! (ابن البرازى :مناقب ابن الحنفية 2/17،تاريخ الكامل لابن الاثير 5/217.) . أبوحنيفة لم يساير الخليفة في هواه ،فكان مصيره  السجن والتعذيب والقتل بالسم ، وهو أشهر علماء عصره. مصير أبى حنيفة جعل تلميذيه أبا الحسن الشيبانى وأبا يوسف يتفانيان فى خدمة الدولة العباسية ، بعد أن أرسى الخليفة الثانى أبوجعفر المنصور تبعية رجال الدين ( الأرضى ) للدولة العباسية.

3 ـ أبو جعفر المنصور المؤسس الحقيقي للدولة العباسية هو القائل في خطبته (ايها الناس إنما أنا سلطان الله في ارضه أسوسكم بتوفيقه ورشده وخازنه علي  فيئه (ماله) أقسمه بارادته وأعطيه بأذنه .) (تاريخ الطبرى 9 / 297 )، أى أنه أول من أعلن مذهب الحاكمية الثيوقراطية ، أو الحكم الالهى المقدس:( The Divine rights of kings) الشائع وقتها فى العصور الوسطى،أو الحاكم الذى يحكم باسم الله تعالى ويستمد سلطته من الله وليس من الناس ، ويكون مسئولا ليس أمام الناس ولكن أمام الله تعالى فقط يوم القيامة. وهو أيضا الذى قام بتطبيق " الحاكمية " فتحولت الدولة العباسية الى دولة كهنوتية سنية ، أعطت مبررا للدولة الفاطمية الشيعية أن تزايد عليها فيما بعد فى الكهنوت وتأليه الخليفة الفاطمى وتقديسه على نحو ما حدث فى مصر الفاطمية.

4 ـ لم يكن للخليفة الأموى لقب رسمى دينى أو دنيوى سوى أنه خليفة ـ وهو اللقب المتعارف عليه للحاكم السياسى ـ إلا أن الدولة العباسية حرصت على أن يكون لكل خليفة لقبه الذى يطغى على إسمه الحقيقى . بدأ ذلك بأول خليفة الذى حمل لقب السفاح لارهاب المعارضين ، وتحت هذا اللقب جرت مذابح كثيرة للأمويين وغيرهم. ثم تلقب ابو جعفر بالمنصور، كناية عن انتصاره على أعدائه، ثم تلقب الخليفة  الثالث بالمهدى ، وهنا تتضح الصبغة الدينية أكثر ، ثم تتوالى فى ذرية المهدى فبعده الهادى ثم الرشيد ثم الأمين والمأمون. ثم يأتى تطور هائل ، هو إضافة لفظ الجلالة الى اللقب ، فيقال : المعتصم بالله ، وتصبح عادة بعدها لكل خليفة : الواثق بالله ، المتوكل على الله ، المعتصم بالله ، المستعين بالله ، المعتز بالله ، المهتدي بالله ، المعتمد على الله ،المعتضد بالله ..الخ ). وهكذا فى كل الخلفاء اللاحقين حتى بعد سقوط الدولة العباسية وانتقال الخلافة العباسية الى القاهرة.

فى هذه البيئة الكهنوتية ترعرعت الأديان الأرضية للمحمديين ، ولا يزال معظمها موجودا حتى الآن.

 

المنصور وأُسُس الكهنوت العباسى

صناعة الأحاديث :

1 ـ سنعرض لاحقا لموضوع تأسيس الديانات الأرضية فى العصر العباسى بوسائل متنوعة منها صناعة الأحاديث ( الشيطانية ). ونشير هنا سريعا الى دور أبى جعفر المنصور فى صناعة الأحاديث لتعضيد حكمه الكهنوتى . وبهذا صار ( ابن عباس ) جد الخلفاء العباسيين أشهر رواة الأحاديث ، وأشهر فقهاء الصحابة ــ بأثر رجعى .!!

2 ـ  وكان ابو جعفر المنصور فى اواخر العصر الأموى من (علماء ) الحديث ورواته ، وكان له ( صحابة ) . ومنهم جد راوى الحديث (حبش بن أبي الورد الزاهد ) المتوفى عام 262 ، طبقا لما رواه ابن الجوزى فى المنتظم ( ج 12 عام 262 ) قال عن جده  كان من صحابة المنصور ، قال :( وجده عيسى هو المعروف بأبي الورد ‏.‏وكان من صحابة المنصور).

3 ـ وكانت لأبى جعفر المنصور كتيبة من صُنّاع الأحاديث ، أشهرهم ( الأعمش ) ، وقد تخصصوا فى تأليف الأحاديث لصالح الخلافة العباسية . يروى ابن الجوزى :( أخبرنا القزاز قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر الخطيب قال‏:‏ أخبرنا الحسن بن أبي بكر قال‏:‏ أخبرنا أبوسهل أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد القطان قال‏:‏ أخبرنا محمد بن الفرج الأزرق قال‏:‏حدثني يحيى بن غيلان قال‏:‏ حدَّثنا أبو عوانة عن الأعمش عن الضحاك بن مزاحم عن عبدالله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏‏"‏منا السفاح والمنصور والمهدي‏"‏‏.‏)

المنامات

1 ـ وأضاف أبو جعفر المنصور الى إفترائه الأحاديث إفتراءا آخر ساد بعده ، وهو إفتراء ( المنامات ) وهى أيضا اصبحت مع إفتراءات الأحاديث ضمن دعائم الأديان الأرضية المخترعة فى العصر العباسى والتى لا تزال تتسيد حياة المجمديين وتوردهم مورد التهلكة فى الدنيا والآخرة.

2 ـ ابن الجوزى يروى فى تاريخ المنتظم هذه الرواية : ( قال المنصور يومًا ونحن جلوس عنده‏:‏" أتذكرون رؤيا كنت رأيتها ونحن بالشراة " ؟ فقالوا‏:‏ " يا أمير المؤمنين ما نذكرها."  فغضب من ذلك وقال‏:‏ " كان ينبغي لكم أن تثبتوها في ألواح الذهب وتعلقوها في أعناق الصبيان." فقال عيسى بن علي‏:‏ " إن كنا قصرنا في ذلك فنستغفر الله يا أمير المؤمنين فليحدثنا أمير المؤمنين بها . " قال‏:‏ "  نعم.  رأيت كأني في المسجد الحرام وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة وبابها مفتوح والدرجة موضوعة وما أفقد أحدًا من الهاشميين ولا من القرشيين إذا منادٍ ينادي‏:‏ أين عبد الله؟  فقام أخي أبو العباس فتخطى الناس حتى صار على الدرجة فأخذ بيده فأدخل البيت، فما لبث أن خرج علينا ومعه قناة عليه لواء قدر أربعة أذرع وأرجح فرجع حتى خرج من باب المسجد. ثم نودي‏:‏ أين عبد الله فقمت أنا وعبد الله بن علي نستبق حتى صرنا إلى الدرجة، فجلس فأخذ بيدي ، فأصعدت فأدخلت الكعبة ،وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وبلال‏.‏ فعقد لي وأوصاني بأمته وعمّمني وكان كورها ثلاثة وعشرين كورًا . وقال‏:‏ خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة‏.‏). فى هذا المنام يزعم المنصور أن النبى محمدا عهد اليه والى ذريته بحكم أمة محمد ( المحمديين جميعا )حتى يوم القيامة، ولم ينس المنصور أن يحرم من ذلك الشرف عمه عبد الله بن على الذى نازعه من قبل فى الحكم وثار عليه وانتهى بالقتل بعد أن اعطاه المنصور الأمان .

كهنوت أبى جعفر المنصور وصل الى ثقافة العوام

1 ـ نقصد بها إشاعات أحاطت بابى جعفر المنصور بعد موته ترسم هالة حوله ، تأثرا بدوره فى تأسيس الكهنوت العباسى الدينى السياسى .

2 ـ منها ما يذكره ابن الجوزى معبرا عن ثقافة عصره فى القرن السادس الهجرى ـ بعد موت المنصور العباسى بأربعة قرون . يقول (  وكان عند أبي جعفر مرآة يرى بها ما في الأرض جميعًا ، يقال إنها نزلت على آدم وصارت إلى سليمان بن داود ثم ذهبت بها الشياطين وبقيت منها بقية صارت إلى بني إسرائيل ، فأخذها رأس جالوت، فأتى بها مروان بن محمد فكان يحكيها ثم يجعلها على مرآة أخرى فيرى فيها ما يكره ، فرمى بها وضرب عنق رأس جالوت،  فلما استخلف أبو جعفر طلبها فأُتي بها ، فكان يرى فيها محمد بن عبد الله بن حسن ) . أورد ابن الجوزى هذا التفسير الخرافى لانتصار الخليفة أبى جعفر المنصور على خصمه ( محمد النفس الزكية ). مع إن إنتصار المنصور على ( محمد النفس الزكية ) وأخيه ابراهيم كان أمرا مقررا ومتوقعا لا يحتاج الى هذا التبرير الخرافى. إلا إن الكهنوت العباسى الذى أسّسه أبو جعفر المنصور خلق له هالة أُسطورية إستمروت قرونا بعده .

3 ـ ومنها هذه الرواية التى يصنع لها ابن الجوزى إسنادا كى نصدقها . قال : (‏ حدَّثنا محمد بن أحمدبن إبراهيم قال‏:‏ حدَّثنا الحارث بن محمد قال‏:‏ حدَّثنا منصور بن أبي مزاحم قال‏:‏ حدثني أبو سهل الحاسب قال‏:‏ حدثني طيفور مولى أمير المؤمنين قال‏:‏ حدثتني سلامة أم أمير المؤمنين قالت‏:‏ " لما حملت بأبي جعفر رأيت كأنه خرج من فرجي أسد ، فزأر ، ثم أقعى ، فاجتمعت حوله الأُسود ، فكلما انتهى إليه أسد سجد له‏.‏) (ج 7 عام 136   )

4 ـ ولم تتخلّف المجوسية ومنجموها عن السير فى طريق الدجل هذا . فصنعوا روايات يتنبأ فيها دجّال مجوسى بأن المنصور سيصير خليفة . تقول الرواية : ( أخبرنا ابن ناصر الحافظ قال‏:‏ أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال‏:‏ أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني قال‏:‏ حدَّثنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي قال‏:‏ حدثنا أبو سهل بن علي بن نوبخت قال‏:‏ كان جدنا نوبخت على دين المجوسية وكان في علم النجوم نهاية وكان محبوسًا بسجن الأهواء. فقال‏:‏ " رأيت أبا جعفر المنصور وقد أدخل السجن فرأيت من هيبته وحالته وسيماه وحسن وجهه وثيابه ما لم أره لأحد قط‏.‏ قال‏:‏ فصرت من موضعي إليه فقلت‏:‏ " يا سيدي ليس وجهك من وجوه هذه البلاد " فقال‏:‏ " أجل يا مجوسي."  قلت‏:‏ " فمن أي البلاد أنت ؟ " فقال‏:‏ "من المدينة."  فقلت‏:‏" أي مدينة ؟ "  فقال‏:‏ " مدينة النبي صلى الله عليه وسلم."  فقلت‏:‏ " وحق الشمس والقمر إنك لمن ولد صاحب المدينة؟  " قال‏:‏ " لا . ولكنني من عرب المدينة‏.".‏ قال‏:‏ فلم أزل أتقرب إليه وأخدمه حتى سألته عن كنيته فقال‏:‏ " كنيتي أبو جعفر" قلت‏:‏ " أبشر فوحق المجوسية لتملكن جميع ما في هذه البلدة حتى تملك فارس وخراسان والجبال . " فقال لي‏:‏ " وما يدريك يا مجوسي؟ "  قلت‏:‏ " هو كما أقول فاذكر لي هذه البشرى. "  قال‏:"‏ إن قضي شيء فسوف يكون". قال‏:‏ فقلت‏:‏" قد قضاه الله من السماء فطب نفسًا . " فطلبت دواة فوجدتها،  فكتب لي : " بسم الله الرحمن الرحيم يا نوبخت إذا فتح الله على المسلمين وكفاهم مؤونة الظالمين ورد الحق إلى أهله لم نغفل عما يجب من حق خدمتك إيانا‏.‏" ...‏.‏قال نوبخت‏:‏ فلما ولي الخلافة صرت إليه وأخرجت الكتاب فقال‏:‏ " أنا له ذاكر ولك متوقع والحمد لله الذي صدق وعده وحقق الظن ورد الأمر إلى أهله‏.‏"‏).

 

 أثر الكهنوت العباسى فى بعث دين الزهد 

مقدمة :

1 ـ موقع أبى جعفر المنصور فى الدولة العباسية يشبه عبد الملك بن مروان فى الدولة الأموية. كلاهما كان قبل خلافته من الفقهاء طالبى (علم الحديث ) ثم تغير حاله تماما عندما ولى السلطة . كلاهما قام بتوطيد دولته بالحديد والنار . كلاهما استعمل الغدر ونكث العهود حتى مع أقرب أقاربه؛ عبد الملك قتل غدرا ابن عمه عمرو بن سعيد الأشدق الذى كان ولى عهده لكى يجعل ابنه ولى عهده مكانه، وابو جعفر المنصور مازال بابن عمه عيسى ابن موسى يهدده حتى تنازل مكرها عن ولاية العهد للمهدى ابن الخليفة. كل الخلفاء الأمويين اللاحقين لعبد الملك من ذريته ـ ما عدا آخرهم مروان بن محمد بن مروان ، أو ( مروان الحمار) حسب لقبه المشهورـ بينما كل الخلفاء العباسيين اللاحقين من ذرية أبى جعفر المنصور.

الفارق الهام بينهما هو كهنوتية الدولة العباسية وتخفيها خلف الدين ( الأرضى ) فى كل ما ترتكبه من آثام. لقد مر بنا من قبل أن عبد الملك توعّد من يعظه فقال : ( والله لا يأمرنى أحد بتقوى الله إلا ضربت عنقه ) وهو هنا يحتكم صراحة الى القوة غير عابىء بالقرآن. إختلف الحال مع أبى جعفر المنصور ، يروى ابن الجوزى إنه  كان يخطب فقال له أحدهم ( إتق الله ) فقال ببساطة : ( مرحبا مرحبا، لقد ذكرت جليلا وخوفت عظيما، وأعوذ بالله ممن إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم ، والموعظة منا بدت ، ومن عندنا خرجت  ، وأنت يا قائلها فأحلف بالله ما  الله أردت بها ، وإنما أردت أن يقال : قام فقال فعوقب فصبر..) وعاد الى خطبته كأنما يقرأ من قرطاس ) المنتظم 7 / 341 ) .

2 ـ   فى نهاية الدولة الأموية بلغ الظلم مداه، وكان الهاشميون من أبرز ضحاياه. كان منهم طالب علم يسمى عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس الهاشمى . استضاف عبد الله هذا رفيقا له فى طلب العلم اسمه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقى . لم يكن فى بيت عبد الله العباسى الهاشمى طعام يليق بالضيف فاستلقى ثم قرأ الآيةالكريمة :" عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم فى الأرض فينظر كيف تعملون." فى وقتها كان المثقفون يعيشون فى حلم ظهور المهدى المنتظر الذى سيدمر الظلم الأموى ويقيم العدل طبقا لدعوة سرية نشرت دعاية مركزة عن المهدى المنتظر وأحاديث نبوية كثيرة تنبىء بقرب ظهوره. الذى لم يعرفه  الطالب الضيف عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقى أن صديقه الهاشمى المنشغل بطلب العلم هو فى الحقيقة من القادة السريين لتلك الحركة السرية . بعدها بسنوات نجحت الحركة السرية فى تدمير الدولة الأموية وهلل لها المثقفون الحالمون بالعدل ، ثم كانت حسرتهم كبرى اذ تحول الحلم الى كابوس مع تولى أول خليفة عباسى تلقب بالسفاح بسبب ابادته للأموين وكل من ثار عليه. وفوجىء عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقى أن رفيقه القديم عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس هو الخليفة العباسى الثانى الذى وطد ـ بالحديد والنار ـ الدولة العباسية ، والذى سمى ابنه المهدى ليحقق نبوءة المهدى المنتظر. انه أبو جعفر المنصور، الذى قتل مئات الألوف فى سبيل توطيد الدولة الجديدة . زاره صديقه القديم ابن أنعم الأفريقى ، قال له الخليفة:" انك كنت تفد لبنى أمية فكيف رأيت سلطانى من سلطانهم ؟ فقال : يا أمير المؤمنين  والله ما رأيت من سلطانهم من الجور والظلم الا رأيته فى سلطانك " وذكّره بالأمنيات القديمة فى الاصلاح وتحقيق العدل والآية الكريمة التى استشهد بها عندما أضافه وهو فقير ثم قال للخليفة: " فقد والله أهلك الله عدوك واستخلفك فى الأرض فانظر ماذا تعمل " فقال له الخليفة : " يا عبد الرحمن انا لا نجد الأعوان" فقال له الفقيه:" يا أمير المؤمنين ، السلطان سوق نافق ، لو نفق عليك الصالحون لجلبوا اليك" يعنى لو كنت صالحا لجمعت حولك الصالحين لأن السلطان الفاسد لا يجمع حوله الا من كان فاسدا مثله. هذه القصة ذكرها ابن الجوزى فى تاريخه ( المنتظم ج 7 ص 339 .). والمستفاد منها أن الفقهاء الذين آمنوا بأكذوبة المهدى المنتظر التى نشرها العباسيون فى إطار دعوتهم السرية ـ ما لبث أن راعهم قسوة العباسيين وظلمهم حين وصلوا للحكم . رأوا أول خليفة عباسى يتلقب بالسفّاح ليبيد خصومه بلا رحمة ، ثم راعهم أكثر أن الخليفة التالى قرن القسوة والظلم بالعلم بصناعة وتأليف الأحاديث ، وأنه أكثر مهارة منهم فى إصطناع الوعظ ، وأنهم لا مجال لهم فى دولته سوى الرقص على نغماته ، وإلا فمصير أبى حنيفة فى إنتظارهم ، وليسوا هم فى قامة أبى حنيفة علما وورعا وجهادا عمليا ضد الأمويين ، ومع ذلك قتله ابو جعفر المنصور لأنه رفض السير فى قطيع فقهاء السلطة . هذا الوضع العباسى نشر دينا أرضيا جديدا قديما هو ( الزهد ) . 

ونتعرض له هنا ببعض التفصيل : .

أولا :  عودة دين الزهد

1 ـ  الإسلام لا يعترف بالزهد ، فالقرآن الكريم يدعو للتمتع بالطيبات وينهي عن تحريم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ، ومفهوم الزهد لم يكن معروفا في عهد النبي عليه السلام وأصحابه ، إلا أن بيئة الشام والعراق قد عرفت الرهبانية طريقا للتعبير الصامت عن الظلم الروماني والفارسى برفض الدنيا التي احتكرتها الدوائر الحاكمة دونهم.

2 ـ والمثقفون الموالى ربما أملوا خيرا فى الحكم العربى للخلفاء الذين يحملون دينا جديدا ، ولكن ظهر لهم أن الخلفاء أكثر ظلما من الفرس والروم ، وخابت آمالهم أكثر  سريعا بدخول الصحابة فى الفتنة الكبرى والحروب الأهلية، وما نتج عنها من ظهور الخوارج باستحلال القتل العشوائى للمدنيين ، أو ما يعرف الان بالارهاب . ثم كانت القاصمة فى قيام الملك الأموى الاستبدادى يقلد ـ بمزيد من القسوة ـ الحكم البيزنطى الرومى ويتعامل مع أبناء البلاد الأصليين كممتلكات للخليفة . قسوة الأمويين فى معاقبة من يخرج عليهم تعدت كل الحدود بعد ما فعلوه بالحسين وآل بيته ، وما فعلوه بمكة والكعبة والمدينة. وكان ما فعلوه بالثائرين المسلحين من الموالى الفرس والأقباط و البربر أشد قسوة

3 ـ مع القضاء على ثورات العلويين بدءا من الحسين فى كربلاء 61 الى حفيده زيد بن على زين العابدين 122 ثم ابنه يحيى 125 ، ظهر الفقهاء ــ وفى مقدمتهم الموالى من الفرس ــ يحملون راية المطالبة بالعدل ، ولكن استطاع الأمويون قمع تلك الحركات المسلحة التى كان قوامها فقهاء انضموا الى ثورة محمد بن الأشعث التى قضى عليها الحجاج بن يوسف عام 84 فى معركة دير الجماجم ( بسبب أهرامات الجماجم للقتلى وكان معظمهم من الأسرى الثوار )، ثم تلقف راية الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر والظلم الحارث بن سريج وثار فى خراسان فقضت الدولة الأموية عليه وعلى حركته عام 128 هجرية. ومن هنا آثر المثقفون الحالمون من الموالى   الرجوع الى الزهد بنفس ما كان عليه آباؤهم فى العصر البيزنطى والفارسى.

ثانيا : العباسيون والأمل الضائع أعاد دين الزهد

  1 ــ إلا أن هناك أملا لمع بين دموع المحبطين بظهور أحاديث تبشر بقرب ظهور المهدى المنتظر الذى سيملأ الدنيا عدلا بعد أن إمتلأت جورا وظلما. وقد صيغت تلك الأحاديث بمهارة بارعة تجعل المتشكك يميل لتصديقها ، فكيف بالآمل الحالم ووضح بعدها أن للمهدى دعوة سرية تتحرك بثبات فى خراسان تحمل الدعوة الى (الرضى من آل محمد ) بدون تحديد لصاحب الدعوة سوى أنه من آل بيت النبى محمد عليه السلام. بظهور الدعوة و انتشار الأحاديث عن قرب ظهور المهدى انضم الكثيرون للدعوة الجديدة فخرجت فى خراسان الى الدور العلنى المسلح بقيادة (أبو مسلم الخراسانى ) الذى نجح فى تدمير الدولة الأموية سريعا وإقامة الدولة العباسية عام 132 هجرية

2 ـ ولكن توالت المفاجآت بعدها ، إذ إتضح أن الدعوة ليست لذرية على بن أبى طالب ولكن لبنى عمومتهم العباسيين ، وكانت المفاجأة الكبرى أن أولئك العباسيين أشد قسوة من الأمويين ، وان أول ضحاياهم كانوا من أنصارهم الطامعين فى المشاركة فى السلطة فكان أن قضى عليهم الخليفة أبو جعفر المنصور ، فهو الذى قضى على أبى مسلم الخراسانى ، وهو الذى قضى على الرواندية . وهو الذى حارب أتباع أبى مسلم الخراسانى فى أقاصى الشرق ، وهو الذى عذّب أبناء عمه العلويين لمجرد الاشتباه ،وهو..وهو.. !!. لكنه هو الذى كان يرتكب كل تلك الجرائم بفتاوى دينية يصدرها له أتباعه من كبار الفقهاء لتقطع الطريق على كل من يزايد فى الدين على الخليفة . وحين امتعض ابو حنيفة ورفض أن يفتى له بما يريد قام ابو جعفر المنصور بسجنه وتعذيبه وقتله بالسم

3 ــ كانت خيبة أمل المثقفين شديدة ، فقد جاء الظلم اشد ، وجاء متوشحا بفتاوى دينية وأحاديث نبوية ، وخليفة يعلن أنه سلطان الله فى أرضهكانت خيبة أمل المثقفين الورعين في الدولة العباسية هائلة ، وكان التعبير عنها هائلا أيضا، وتمثل في الرفض الكامل ليس للدولة فحسب وإنما للدنيا أيضا التي يئسوا منها فأقاموا لهم دولة بديلة صنعوها من آمالهم المحبطة وأحلامهم التي لم يكن لها أن تحقق إلا في دنيا الخيال والأقاصيص ، واكتفي أولئك بدنياهم تلك ،وجعلوا لهم دينا هو الزهد.

ثالثا : مقاطعة العباسيين أبرز شعائر دين الزهد

1 ـ كان دخول دين الزهد يبدأ بمقاطعة الدولة العباسية ووظائفها ، وكانت الدولة تحتاج إلي أولئك المثقفين الورعين في تولي منصب القضاء فشاع بينهم تحريم تولي منصب القضاء في ظل الخلافة العباسية ، وقد نجحت دعاية الزهاد حتي أن بعض المتورعين من غير الزهاد رفض بإصرار تولي منصب القضاء مثل أبي حنيفة النعمان الذي تحمل اضطهاد أبي جعفر المنصور له . وكان الزهاد أكثرهم صرامة في رفض منصب القضاء خصوصا زعيمهم سفيان الثوري الذي هرب إلي مكة مستجيرا بالحرم من خوفه من الخليفة ، ويروي ابن الجوزي أن سفيان الثوري ظل خائفا من أبي جعفر المنصور حتي حين ذهب الخليفة إلي الحج ومات في طريقه إليهوقد كان أبو زرعة التجيبي المتوفى 153 هـ من الزهاد ، وقد أمره الوالي العباسي بمصر واسمه أبو عون بأن يتولى القضاء وقال له : إنا معشر الحكام لا يعصينا أحد فمن عصانا قتلناه ، فاستأذنه أبو زرعة ليأتي إلي أهله ، فذهب ثم عاد إلي الوالي وقد لبس أكفانه واستعد للموت وقال للوالي : نحن أولي من سحرة فرعون حين قالوا له : اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا . ولن أتولي لك شيئا ، فعفا عنه الوالي   وكان عثمان بن طلحة أحد أولئك الزهاد في المدينة ، وقد امتنع عن تولي القضاء بها فهدده الوالي العباسي بالسياط  فأذعن . وحين جاء الخليفة المهدي لزيارة المدينة سنة160 هـ سأله أن يعزله عن القضاء وقال له : والله لو عرفت أن بلد الروم تجيرني ولا تمنعني من الصلاة لاستجرت بهم . فعزله المهدي ، وأراد إعطاءه مرتبه المتأخر وكان يرفض أخذه من قبل ، فتنازل عنه أمام الخليفة

 2 ــ والذين أكرهتهم الخلافة العباسية علي تولي القضاء تعرضوا لسخط الزهاد ، وكان من أولئك القاضي شريك النخعي ، وقد رآه أبو هاشم الزاهد يخرج من دار يحيي البرمكي فبكي وقال : أعوذ بالله من علم لا ينفع . أي كان شريك النخعي عند أبي هاشم الزاهد قد ضل سواء السبيل لأنه رضي التعاون مع العباسيين

رابعا : تأسُّس دين الزهد على أقاصيص مفتراة  

1 ـ  وبمقاطعة الزهاد للدولة العباسية (الدولة الظاهرة) يحصل الزاهد علي جواز المرور إلي الدولة (الوهمية) التي ابتدعها خيال الزهاد من أقاصيص لا تتورع عن الكذب . وقد حرصوا علي أن يكونوا وحدهم فيها ذوي شأن ، وادعوا أنهم كانوا أصحاب نفوذ فعليين ثم رفضوا الجاه والسلطان وفضلوا عليه الزهد ، وهي الأسطورة الشائعة عن ( بوذا) نراها تتكرر في مصادر التاريخ في ترجمة إبراهيم بن أدهم(ت160هـ) فيقول فيه ابن الجوزي إنه كان من أولاد السلاطين ولا يعطينا اسم والده السلطان المزعوم ، مع أن اسمه ( إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر العجلي) وليس لذلك صلة بالحكام المعروفين وقتها ، ويحكي عنه نفس القصة المشهورة عن بوذا وهي إنه خرج إلي الصيد مع الغلمان والخدم والفرسان فسمع هاتفا يدعوه للإيمان فخرج عن موكبه وتزهد وأصبح سلطانا في مملكة الزهد الخيالية.

2 ـ  وحكي إبراهيم بن أدهم نفس الأسطورة عن رفيقه في الزهد حميد بن جابر الشامي ( ت151هـ) يحكي إبراهيم بن يسار إنه كان يسير مع إبراهيم بن أدهم في الصحراء فمر علي قبر فوقف عليه إبراهيم وبكي وقال : هذا قبر حميد بن جابر صاحب هذه المدائن كلها، كان غارقا في بحر الدنيا وأخرجه الله منها واستنقذه ، وحكي أنه خرج عن سلطانه حين جاءه هاتف يدعوه للخروج من ذلك الذي سيفني إلي ما يدوم ، فخرج عن سلطانه واعتزل في الجبل حتي مات..!! 

3 ـ ويحكي ابن أدهم نفس الحكاية عن صاحبه شقيق البلخي (ت153هـ) إنه كان ذا ثروة عظيمة فخرج عنها وتزهد ،ويصف هذه الثروة بأنها كانت ثلاثمائة قرية وقد تصدق بها جميعا مكتفيا بالزهد. وكأن أولئك الزهاد ـ فى أكاذيبهم وخيالاتهم ـ يقولون للدولة العباسية إننا لا نقل عنكم جاها ولكن تركنا ذلك لأنه جاه مؤقت وفضلنا عليه النعيم الأبدي الذي يستمر في الدنيا والآخرة

4 ــ ولأن تلك الأقاصيص تعبر عن آمال المحبطين و المقهورين فقد شاعت وتناقلها القصاصون و صدقها الناس خصوصا العوام لأنها تعبر عن الطموحات المصادرة والآمال المحطمة والرغبة في تعويض النقص ، وتلك مشاعر اشترك فيها الزهاد مع عوام الشعب المقهورين أبداوإذا كانت الدوائر العباسية تتيه علي الناس بما تكتنزه من أموال فإن أولئك الزهاد في مملكتهم الوهمية كانوا يحتقرون الأموال ، ويحكون في ذلك أقاصيص تلهب خيال العوام وتفتح شهيتهم للاستماعيروي إبراهيم بن أدهم عن نفسه أن غلاما جاء من أهل أصحاب السلطان يركب فرسا ومعه بغلة وعشرة آلاف درهم بعث بها أخوته إليه ، فأمره بالرجوع وأنعم عليه بالحرية وأعطاه الأموال وأمره ألا يخبر أحدا بذلك ، ومع أنه لم يخبر أحدا إلا أن القصة شاعت ووصلتنا يحكيها ابن الجوزي مصدقا لها ، ولو حدثت تلك الرواية لكان ذلك الغلام مستحقا لجائزة نوبل في الأمانة ، ولكان لنا أن نعاتب إبراهيم بن أدهم أن حرم رفاقه الجائعين من تلك الأموال.ولكنها التعبير النفسي الصادق عن الحرمان،والحرمان أبرز النوازع النفسية في الزهد .

خامسا : البدء فى سبك الكرامات عن طريق الزُّهّاد

 1 ــ  وبعضهم لجأ إلي ادعاء الكرامات يعبر بها عن رفضه الأموال التي يستطيع أن يحصل عليها بأيسر طريق إلا أنه يرفضها ، ونري ذلك في ترجمة أبي زرعة التجيبي أحد زعماء الزهاد ، يقول أحد أتباعه وهو خالد بن الفرز إنه كان يعاني من شظف العيش فقال له : " يرحمك الله لو دعوت الله يوسع عليك في معيشتك .!"، فالتفت يمينا وشمالا فلم ير أحدا فأخذ حصاة من الأرض وقال : اللهم اجعلها ذهبا ، فأصبحت ذهبا ، ورمي بها إلي صاحبه مستنكفا منها وأمره أن ينفق منها.

2 ـ  وتتكرر نفس الأسطورة في ترجمة عبد العزيز الراسبي (ت150هـ) الذي دعا لصاحبه ( دهثم) أن يعطيه الله المال ليستعين به علي عياله ، وسرعان ما استجاب الله دعاءه فتناثر الذهب عليهما ، وتركه الراسبي معرضا عنه ومضي ، ولم يلتفت إليه!! .

3 ـ   ولعب الزهاد بمهارة في قضية الموت والآخرة إذ جعلوا أنفسهم أهل الآخرة في مقابل العباسيين ودولتهم الدنيوية ، وبذلك ضمنوا لأنفسهم التفوق الذي يحتاجون إليه لعلاج عقدة النقص المتحكمة فيهموتكفلت الكرامات التي أسندوها لأنفسهم في تأكيد ذلك المعني ، فعلي سبيل المثال قالوا إن رواد العجلي ــ أحد مشاهير الزُّهّاد ــ حين حملوه إلي قبره وجدوا لحده مفروشا بالريحان ، وأخذ القوم من بعض ذلك الريحان فمكث سبعين يوما طريا لا يتغير فافتتن به الناس ، فاضطر الأمير إلي أخذ ذلك الريحان . وانتهت الأسطورة بضياع الريحان من منزل الأمير ، ولم تذكر مصادر التاريخ اسم ذلك الأمير ولا اسم المدينة التي حدثت فيها الواقعة ، وإن ذكرت سنة الوفاة التي مات فيها أبو رواد العجلي وهي (165هـ) ، والواضح أنها إشاعة قيلت بعد وفاته وصدقها الناس وسجلها المؤرخون علي أنها حقيقة تاريخية. وبالغت روايات أخري في حكاية موت علي بن صالح والفضل بن عطية، وقد توفيا سنة 154هـ .

سادسا : نقد الزهاد لدين العباسيين

1 ـ دين العباسيين الحقيقيى هو عبادة المال ، ولذا فإن بعض الروايات التى إخترعها الزهّاد كانت تحمل انتقادا ضمنيا للدوائر المؤثرة والمحيطين بها الذين يتكالبون علي الأموال ، خصوصا الخليفة أبا جعفر المنصور الذي كان مشهورا بحب المال واكتنازه فتأتي تلك الروايات تؤكد أن الزهاد يترفعون عن ذلك المال الذي يتنازع عليه أبناء الدنيا

2 ــ علي أن بعض الروايات التي اخترعها الزهاد وذكرتها مصادر التاريخ كانت تنتقد الخليفة المنصور خصوصا عندما بني مدينة بغداد وجعلها أعظم مدينة وبني فيها قصره المعروف باسم قصر الخلد ، وقد ندد به الزهاد شعرا فقال أبو هاشم
بنوا وقالوا لا نموت 
وللخراب بني الُمبِنّي 
ما عاقل فيما رأيت 
إلي الحياة بمطمئن 
وحين خربت بعض منشآت العباسيين فيما بعد كتبوا علي جدارها
هذي منازل أقوام عهدتم 
في رغد عيش رغيب ماله خطر 
صاحت بهم نائبات الدهر فانقلبوا 
إلي القبور فلا عين ولا أثر .

سابعا : إخترع المنامات فى دين الزُّهد

1 ـ لم يتحرج الزهاد من حكاية منامات أقدموا فيها علي تزكية أنفسهم وأشياخهم ، وبعضها كانوا يمدحون فيها من مات منهم ، إذ يدعي بعضهم أنه رأي المتوفى بعد موته وهو يصف كيف أصبح منعما في الآخرة ، يقول سليمان العمري رأيت أبا جعفر القاريء في المنام بعد موته فقال لي : اقريء أخواني مني السلام وأخبرهم أن الله تعالي جعلني من الشهداء الأحياء المرزوقين ، واقريء أبا حازم مني السلام وقل له : يقول لك : إن الله وملائكته يتراءون مجلسك بالعشيات..!! وبعضهم رأي أبا المعتمر التيمي (143هـ) بعد موته في المنام فسأله : ما فعل الله بك فقال : غفر لي وأدناني وقربني وعلمني

أخيرا :

الخطير هنا أن الزهد بإختراع المنامات ـ أو الوحى الشيطانى الكاذب ـ بالمنامات قد نصب من نفسه دينا أرضيا ، وإن كان دينا أرضيا مُسالما يختلف عن دين السُّنّة الى أسّسته الدولة العباسية من أحاديث وسيرة نبوية مزيفة تستحل الدماء والأموال والأعراض .

الخطير أيضا أن إفتراء المنامات إستشرى فيما بعد وبرز فيه دين التصوف بدءا من القرن الثالث الهجرى ، وما لبث أن تابعهم فيه الشيعة والسنيون . وتاريخ ابن الجوزى ( المنتظم ) يمتلىء بهذه المنامات مع أنه كتاب فى التاريخ ، وقد ملأ كتبه الأخرى بهذه المنامات ومنها كتابه فى مناقب ( ابن حنبل ) . وهذا يؤكّد أن أكاذيب المنامات كانت تحظى بالتصديق شأن الأحاديث المفتراة .

 

أثر الكهنوت العباسى فى خلق دين البكاء: ( هيا بنا نبكى ) ثم (هيا بنا نضحك )!!

 

مقدمة

1 ـ دين الزهد الذى بعثه من مرقده الكهنوت العباسى أنتج بدورة حركة البكّائين ، بدين جديد آخر تركّز على إتخاذ البكاء شعيرة دينية عُظمى مؤسسة على إفتراء المنامات بإعتبارها وحيا يواجه إفتراءات الأحاديث ( العباسية ) . ولم يكن هذا ــ حسب علمنا ـ مألوفا أو معروفا من قبل دينيا أو إجتماعيا . ولأنه دين عجيب غريب فلم يستمر طويلا ، إذ سرعان ما توارى بين سطور التاريخ العباسى وانتهى العلم به الى أن إكتشفناه ، ونشرنا عنه مقالة هنا فى باب ( دراسات تاريخية ) .

2 ــ البكاء من خشية الله جل وعلا وعند سماع آيات من كتابه الكريم من سمات المتقين الأبرار . منهم من عاش فى قبل نزول القرآن الكرم وقال عنهم رب العزة جل وعلا : (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً (58)مريم ).

وقال جل وعلا عن إيمان بعض النصارى عند سماع القرآن الكريم :( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) المائدة )، وقال عن إيمان بعض أهل الكتاب عند سماع القرآن الكريم :(  (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) الاسراء) ، وهنا تعريض بكفّار العرب الذين قال لهم رب العزة جل وعلا : (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) النجم ). وبعض فقراء الصحابة كان من المتقين الأبرار الفقراء ، بكى حُزنا لأنه لا يجد المقدرة المالية على الخروج مع النبى فى القتال الدفاعى ، فقال جل وعلا عنهم يعتبرهم من المحسنين الذين لا حرج عليهم :( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ (92) التوبة ) .

3 ــ البكاء هنا موقف عرضى يعبر عن مشاعر إيمانية تتجلى وليدة حدث معين. ومنه أيضا البكاء المخادع مثلما فعل أخوة يوسف المتآمرين عليه ، قال جل وعلا عنهم :( وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) يوسف ) .

هذا البكاء سواء كان بكاءا نبيلا يعبّر عن إيمان صادق أو كان بكاءا تمثيليا مخادعا ففى الحالين هو حادث عرضى مبنى على موقف . لا ينطبق على موضوعنا :( دين البكاء ) الذى كان حالة مستمرة وشعيرة دينية تعبدية ، تم إصطناع وحى كاذب لها من المنامات كما حدث مع دين الزهد الأصل الذى إنبثق عنه دين البكاء .ونعطى عنه لمحة :

أولا : إنبثاق دين البكاء من دين الزهد فى عصر المنصور
1 ــ  إختراع أقاصيص الكرامات وأساطير المنامات لم تفلح كلها في علاج عقد النقص والحرمان عند الزهاد ، إذ ظلوا منفصلين عن الواقع الدنيوي ، وكان ذلك الواقع يؤرقهم بحاجاته الملحة للطعام والكساء ومتطلبات المعيشة ، ويضاف إلي ذلك واقع القهر وجبروت التسلط للحكام الذي لا تفلح روايات الكرامات والمنامات في التخفيف منه ، ومن هنا نفهم ضرورة البكاء إذ كان المتنفس الوحيد لعلاج ذلك الانفصام بين الواقع المرير والأحلام الورديةوتحول الى دين فى عصر المنصور .

2 ــ وهكذا كان وصف البكائين من مستلزمات الزهاد في عصر أبي جعفر المنصور . وكان أشهر من وصف بالبكائين ابن أبجر(ت 150هـ) يقول عنه ابن الجوزي " وكان من البكائين" ، ليؤكد أن طائفة البكائين كانت طائفة دينية معروفة في عصر أبي جعفر المنصور

 

ثانيا : لمحات عن شعيرة البكاء
 البكاء طول العمر :

 وبعضهم كان يواصل البكاء علي سبب تافه مثل كهمس بن الحسن (ت 149هـ) القائل " أذنبت ذنبا فأنا ابكي عليه أربعين سنة ، زارني أخ لي فاشتريت له سمكا بدانق ، فلما أكل قمت إلي حائط جار لي فأخذت منه قطعة طين فغسل بها يده ، فأنا أبكي عليه منذ أربعين سنة ". والبكاء المتصل لأربعين عاما لسبب تافه كهذا يعتبر علاجا نفسيا للتكيف مع واقع يستعصي علي الحل ، ثم تحول الى عبادة دينية وهب نفسه لها .!

 قيام الليل فى البكاء :

وبعضهم كان يبكي الليل بطوله مثل هشام بن حسان (ت147هـ) حتي آثار دهشة جارته فتقول عنه : أي ذنب عمل هذا ليظل ليله باكيا ..؟!! 

الجهاد بُكاءا حتى العمى .!

1 ــ وبعضهم ظل يبكي حتي ذهب بصره مثل الحسن بن يزيد( ت 149هـ) الذي بكي حتي عمي وصام حتى صار كالعود الناشف .

2 ــ ومثل هشام بن أبي عبد الله (ت153هـ) الذي أظلم بصره من طول البكاء يقول المؤرخون " فكنت تراه يبصر إليك ولا يعرفك حتي تكلمه " .

3 ــ وظلت عبيدة بنت أبي كلاب ( ت163هـ) تبكي أربعين سنة حتي ذهب بصرها..!! 

البكاء جماعة ( مثل صلاة الجماعة ) : هيا بنا نبكى .!!

1 ـ ولأنهم اتخذوا البكاء شعيرة دينية فقد كانوا يضاهئون بها الصلاة ومواقيتها ،  يقيمون له حفلات جماعية يبكون فيها جماعات . يحكي أشعث الحداني (ت 151هـ) إنهم ذهبوا إلي حبيب أبى محمد يسلمون عليه في الصباح فأقاموا حفل بكاء فما زالوا يبكون حتى صلاة الظهر ، ثم صلوا الظهر وعادوا للبكاء حتي حضرت صلاة العصر ، وبعد صلاة العصر عادوا للبكاء حتي المغرب ثم بعد صلاة المغرب رجع كل منهم إلي داره بعد أن تواصوا علي الاستمرار في البكاء ..

2 ــ وكان بعضهم يتخذ من داره موطنا للبكاء تشارك معه فيه أسرته ليل نهار ، وهكذا كان يفعل الحسن بن صالح الذي مات بعد عهد المنصور في سنة 169 هـ وكانت تشاركه أمه وأخوه . وكذلك كان يفعل ضيغم بن مالك(ت 146هـ) وكانت تشاركه أمه ومعها أهل بيته .

التفاخر بالتفانى فى البكاء : البكاء نفاقا وطلبا للشهرة :

1 ـ  والبكاء من خشية الله تعالي من علامات التقوى والإيمان بشرط أن يكون ذلك بعيدا عن الرياء ، إلا أن أصحابنا كان يرتبط لديهم البكاء بالرياء وتغليفه بخرافات الكرامات وإفتراء المنامات ، فحققوا الشهرة بين الناس هي مطلبهم الأسمى حيث وضعوا أنفسهم في مقابل أهل الدنيا . وبشهرتهم ذكرتهم مصادر التاريخ ، والتاريخ لا يعبأ بالعوام إلا إذا وصلوا للشهرة . وأولئك أوصلهم بُكاؤهم الدينى الى الشهرة فإلتفت اليهم التاريخ يكتب عنهم .

2 ـ وبحثا عن الشهرة تنوعت أساليب بعضهم . أحدهم أعلن أنه لن يضحك أبدا ليظل وفيا لبكائه ، مثل وهيب بن الورد الذي حلف ألا يراه الله أو الناس ضاحكا أبدا، وكانوا يأتونه بالوسادة فيظل يبكي عليها حتي تبتل من دموعه ، وكان لا يأكل الفاكهة أبدا ويكشف عن بطنه فيرون فيها أثر الخضرة لأنه يكتفي بالبقول ، ويقول يخاطب نفسه " يا وهيب ما أري بك بأسا ، ما أري الفواكه ضرتك شيئا". وقد توفي سنة 153 هـ.

3 ــ ومثله ورواد العجلي (ت 165هـ) الذى أعلن أنه عاهد الله تعالي ألا يضحك حتي يري الله ، وكان يقضي ليله يصرخ فيأتي الناس يسألون أخته عن أقواله ودعائه حين يصرخ بالليل ، وقد أصابه الإجهاد من طول البكاء حتي مات

4 ــ وكانت لرباح القيسي(ت 146هـ) طريقة خاصة في إظهار بكائه ، كان يأخذ بعض رفاقه ـ حتي يروي عنه ما يفعل وما يقول ـ ويقول له : " هلم يا فلان حتي نبكي علي قصر الساعات . " ، ثم يذهب به إلي المقابر ، فيصرخ ويغشي عليه ويصحو ويبكي حاله .) ويعود رفيقه يحكى هذا عنه .

5 ـ   أما أبو عتبة الخواص (ت 162هـ) فكان أحد مشاهير البكائين الزهاد ، وكان يأخذ بلحيته ويبكي يخاطب ربه قائلا " قد كبرت فاعتقني " . وكان يسير في الشارع وقد وضع علي صرته خرقه وعلي رقبته خرقه ويهتف باكيا: " واشوقاه إلي من يراني ولا أراه."

6 ــ  وعاش عتبة الغلام إلي أن أدرك خلافة المهدي ومات 167 هـ ، وكان يترصد مجلس الواعظ عبد الواحد بن زيد حين يجتمع الناس فينطلق في البكاء حتي يشوش علي الناس فلا يفهمون كلام عبد الواحد ، وكان لعتبة بيت يتعبد به ويبكي فلما خرج إلي الشام اقفله ( وقال لأصحابه : لا تفتحوه إلي أن يبلغكم موتي ، ولما بلغهم موته فتحوه فوجدوا فيه قبرا محفورا وغلا من حديد كان يعذب نفسه بهما)  . وربما قرّر الاستقالة من البكاء وأن يأخذ منه أجازة ، فهاجر الى الشام ، تاركا بيته وقد أعدّ فيه قبرا وأدوات تعذيب ليروى أصحابه عنه أنه كان يعذّب نفسه ليس فقط بالبكاء بل بالأصفاد الحديدية .!

7 ــ وكان زمعة بن صالح (160هـ) ضيفا في بيت ابن راشد الشيبانى ، فقام الليل يصلي ويبكي حتي أيقظ أهل الدار ، وعندما اقترب الفجر أخذ يهتف في الناس يدعوهم لقيام الليل وظل كذلك إلي الفجر . وبذلك ضمن أن يروي الجميع قصته ، وسجل اسمه في صفحات التاريخ

8 ـ وعاش سعيد بن السائب إلى أن أدرك خلافة الرشيد ومات 171هـ وقد وصفوه بأنه لا تجف له دمعة ودموعه جارية أبدا ، إن صلي بكي وإن جلس بكي وإن عاتبه أحد بكي ، وكان يحلو له البكاء في حضور الناس خصوصا في مجلس سفيان الثوري كبير الزهاد الذي قال فيه : وحق له أن يبكي..!! 
إنعكاسات لحركة البكّائين

1 ـ إنتقلت حركة البكائين الى متحف التاريخ ، ولكن بعض آثارها بقيت بعدها .ليس فقط فى أنه فى خلال بحور الدموع هذه أبحر أولئك الناس إلي صفحات كتب التاريخ إلي جانب الخلفاء والوزراء والمشاهير، ولكن أيضا لأنه كان لها تأثير سلبى فى تزييف روايات تاريخية ، إصطنعها القُصّاص المعجبون بالبكّائين ، وقد وجدوهم مادة جيدة لجذب الاهتمام ، وأُعجب بها ــ أيضا ــ الوعّاظ فتلقفوا تلك الروايات الكاذبة لاحقا ونشروها فى مجالس الوعظ والمساجد ، ثم وجدت طريقها لاحقا للتدوين على أنها حقائق تاريخية وليست كذلك .أى إن حركة البكائين والزُّهاد حمّلت التاريخ العباسى بروايات كاذبة لم تحدث ، وإن كانت هذه الروايات تحظى بالاعجاب والتصديق فى عصرها . هذا مع التسليم بأنها تعبّر بصدق عن عقلية العصر وثقافته وأديانه الأرضية المؤسسة على الافتراء .

2 ــ  لقد أفسحت كتب التاريخ للقصص التي اخترعها الزهاد لتروج لمذهبهم وتعلي من شأن شيوخهم ، بل إن تأريخهم لشيوخهم امتد ليؤثر علي التاريخ للخلفاء فأضافوا روايات يحسبها القاريء العادي أنها قد حدثت فعلا، ولكن الباحث التاريخى المدقق يري فيها آثار التصنع وأصابع الزهاد .

3 ــ والأمثلة علي ذلك كثيرة منها:

3 / 1 : ـ  رواية تقول أخري إن المنصور قبل موته دخل قصرا فرأي شعرا مكتوبا علي الحائط يقول
ومالي لا أبكي واندب ناقتي 
إذا صدر الرعيان نحو المناهل 
وكنت إذا ما اشتد شوقي رحلتها 
فسارت لمحزون طويل البلابل 
وفي رواية أخري: إن الشعر يقول
ومالي لا أبكي بعين حزينة 
وقد قربت للظاعنين حمول 
وتحت الشعر : آه .. آه.. أي تأوه الشاعر وأنينه

3 / 2 : ومنها القصص التي تزعم أن بعض الزهاد استطال علي أبي جعفر المنصور في الوعظ ، وكان المنصور يبكي ويسترجع .. وكأنهم أرادوا الانتقام من سطوة المنصور فعاقبوه في تلك الروايات

3 / 3 : علي أن اخطر ما أفرزته حركة الزهد هو تشويه سيرة بعض الفقهاء الذين قبلوا التعامل مع الدولة العباسية وتولوا القضاء ، أبرز مثل لأولئك هو القاضي شريك النخعي الذي أجبروه علي تولي القضاء فحكم بالعدل وأنقذ من براثن الظلم العباسي كثيرا من المظلومين ، وظل محتفظا بولائه لأفكاره إلي أن اضطرت الدولة لعزله ، وقد شوهت روايات الزهاد تاريخ القاضى شريك بينما أعلت من شهرة عبد الله بن المبارك ، فجعلوه أبرز علماء عصره ، ولم يكن ابن المبارك متمسكا بتلك النوعية من الزهد إذ كان يتاجر ويربح ويعيش في بحبوحة من العيش ، ولأنه كان كريما مع الزهاد ينفق عليهم أمواله فأنهم أجمعوا علي فضله واعترف كبيرهم سفيان الثوري له بأنه عالم المشرق والمغرب .. ولذلك تري المبالغة في مدح ابن المبارك وتشويه سيرة أستاذه شريك النخعي .. والسبب في ذلك الميل والهوى

أخيرا : هيا بنا نضحك .!!

1 ـ فى موضوع البكّائين لا نريد للقارىء ان يخرج منه باكيا ، لذلك نختمه بسؤال : ماذا إذا وقع احد أولئك البكائين فى حبائل إمرأة لعوب ؟ الاجابة على هذا السؤال فى تلك الواقعة الظريفة التى رواها ابن الجوزى فى ( المنتظم ) وهو مرجعنا التاريخى الأصلى عن دينى الزهد والبكاء فى العصر العباسى الأول .

2 ـ  فى تأريخه للزاهد البكّاء عطاء بن يسار وأخيه سليمان بن سيار يحكى ابن الجوزى هذه القصّة : ( خرج عطاء بن يسار وأخوه سليمان بن يسار حاجّين إلى المدينة ، ومعهما أصحاب لهما ، حتى إذاكانوا بالأبواء نزلوا منزلًا ، فانطلق سليمان وأصحابه لبعض حاجتهم ، وبقي عطاء قائمًا في المنزل يصلي‏.‏ فدخلت عليه امرأة من الأعراب جميلة، فلما رآها عطاء ظن أن لها حاجة فأوجز في صلاته ، ثم قال‏:‏ ألك حاجة؟ قالت‏:‏ نعم. قال‏:‏ ما هي قالت‏:‏ قم فأصب مني فإني قد ودقت ( أى اشتقت لممارسة الجنس ) ولا بعل لي. قال‏:‏ إليك عني ! لا تحرقيني ونفسك بالنار‏...فجعلت تراوده عن نفسه ويأبى .. فجعل عطاء يبكي ويقول‏:‏ ويحك إليك عني.. واشتد بكاؤه . فلما نظرت المرأة إليه وما دخله من البكاء والجزع بكت المرأة لبكائه‏.‏ ..‏ فجعل يبكي والمرأة تبكي بين يديه . فبينا هو كذلك إذ جاء سليمان من حاجته فلما نظر إلى عطاء يبكي والمرأة بين يديه تبكي جلس في ناحية البيت يبكي لبكائها ولا يدري ما أبكاهما ، وجعل أصحابهما يأتون رجلًا رجلًا كلما أتى رجل فرآهم يبكون جلس فبكى لبكائهم لا يسألهم عن أمرهم ، حتى كثر البكاء وعلا الصوت، فلما رأت المرأة الإعرابية ذلك قامت فخرجت‏. .. )‏ 
أما كيف خرجت ؟ أخرجت تائبة ؟ أم ساخطة ؟ أم خرجت تلعن حظها التعس الذى أوقعها فى هؤلاء القوم ؟ لا ندرى.!!

 الاشارات عن الزهاد والبكائين فى تاريخ المنتظم لابن الجوزى :
ج 7 صفحات : 85ـ ، 90 ، 136 ـ ، 155 ، 188 ، 197 ، 204 ـ ، 218 ، 219 ، 227 ، 268 ، 279 ، 291 ، 319 ، 323 ، 327
ج 8 . صفحات :98 ، 77 ، 172 ،173 ، 97 ، 109 ، 117 ، 119 ، 125 ، 150 ، 186 ، 200 ، 268 ، 259 ، 280 ، 338

أثر الكهنوت العباسى فى تأليه الخليفة العباسى فى عصر ضعف الخلفاء العباسيين

تعاظم الكهنوت العباسى فى العصر العباسى الثانى

 

1 ـ تعرضنا لإعلان أبى جعفر المنصور أنه : (.. سلطان الله في ارضه.. وخازنه علي  فيئه (ماله) أقسمه بارادته وأعطيه بأذنه .) (تاريخ الطبرى 9 / 297 )، وقلنا إنه أول من أعلن مذهب الحاكمية الثيوقراطية ، أو الحكم الالهى المقدس:( The Divine rights of kings) الشائع وقتها فى العصور الوسطى،أو الحاكم الذى يحكم باسم الله تعالى ويستمد سلطته من الله وليس من الناس ، ويكون مسئولا ليس أمام الناس ولكن أمام الله تعالى فقط يوم القيامة.. وذكرنا دوره فى تأسيس هذا الكهنوت السياسى العباسى على أحاديث موضوعة ومنامات أو وحى مزعوم . وبعده تكاثرت هذه الأحاديث التى تؤكد بقاء الخلافة العباسية حتى قيام الساعة ، وصار هذا من معالم ( الدين العباسى ) .

2 ـ  بمرور الزمن تطورت وتسيدت الديانات الأرضية فى العصر العباسى الثانى من تشيع وتصوف ،وتكاثر تأليه الأولياء والأئمة من الصوفية والفقهاء وما سمُّوهم ( آل البيت ). وإذا كان مقبولا تقديس بعض العوام وجعلهم أولياء كما فى دين التصوف فمن المقبول أكثر تقديس الخليفة العباسى .

3 ــ ومن الغريب أن يتعاظم الكهنوت العباسى الدينى مع ضعف الخلفاء العباسيين ، أو أن تقوى ( الخلافة العباسية ) بنفوذها الدينى الكهنوتى ، أو ما يسمى ب ( النفوذ الروحى ) فى الوقت الذى ضعُفت فيه ( الدولة العباسية ) وإنحسر فيه نفوذ الخليفة السياسى والعسكرى. 4 ـ وقع الخلفاء العباسيون تحت سيطرة السلاطين البويهيين الذين سيطروا على الدولة العباسية أكثر من قرن، ( 334 ـ  447 ). ومع أنهم كانوا شيعة حسب المعتقد إلا إنهم إحتاجوا الى النفوذ ( الروحى ) للخلافة العباسية ــ الذى تركز فى العصر وقتها ــ لكى يحكموا بإسمها . إستمر تعاظم هذا النفوذ الكهنوتى العباسى للخلافة العباسية بمرور الزمن ، خصوصا عندما حكم الأتراك السلاجقة الدولة العباسية وأملاكها فى الشرق والشرق الأوسط ، كان السلاجقة سنيين متعصبين ، وخلال أجيال متعاقبة من طغرلبك وملكشاه وسنجر حكم السلاجقة من 1038 الى 1157 أداروا حكمهم بتقليد وتفويض من الخلافة العباسية وكهنوتها الدينى .

5 ــ بإختصار تراجع الكهنوت السياسى العباسى الذى أرساه أبو جعفر المنصور وتعاظم بديلا له الكهنوت الدينى العباسى . ونعطى لذلك مشهدين تاريخيين : فى عهد السلطان البويهى عضد الدولة أقوى سلاطين بنى بويه، وفى عهد السلطان السلجوقى طغرل بك، أقوى سلاطين السلاجقة .

المشهد الأول :

الزمان : عام 369 .

المكان : قصر الخلافة العباسية ( الحضرة )

الأبطال : الخليفة العباسى ( الضعيف ) الطائع لله . السلطان البويهى المتجبّر عضد الدولة البويهى .

شخصيات أخرى : تتبع الخليفة وتتبع عضد الدولة .

الموضوع : عضد الدولة يطلب من الخليفة الطائع أن يزيد فى لقبه وصفا جديدا ليزداد طغيانه ، ويتم منحه هذا الوصف الجديد فى إحتفال كهنوتى عباسى جرى وفق طقوس يتضح منها تأليه الخليفة العباسى وقتها .

المصدر : تاريخ ابن الجوزى ( المنتظم ) ح 14  عام 369 .

ملاحظة : ننقل النّص التاريخى كما هو ، ومطلوب التمعُّن فيه لنتعرف على طقوس عبادة وتأليه الخلافة العباسية وقتها .

يروى ابن الجوزى : ( وسأل عضد الدولة الطائع في مورده الثاني إلى الحضرة ( أى الحضرة العباسية المقدسة ) أن يزيد في لقبه تاج الملة ويجدّد الخلع عليه ويلبسه التاج والحلي المرصع بالجواهر فأجابه إلى ذلك . وجلس الطائع على سرير الخلافة في صدر صحن السلام ، وحوله من خدمه الخواص نحو مائة بالمناطق والسيوف والزينة ، وبين يديه مصحف عثمان وعلى كتفيه البردة وبيده القضيب ، وهو متقلد سيف النبي صلى الله عليه وسلم . وضرب ستارة بعثها عضد الدولة وسأل أن يكون حجابًا للطائع حتى لا  يقع عليه عين أحد من الجند قبله . ودخل الأتراك والديلم ولم يكن مع أحد منهم حديد ، ووقف الأشراف وأصحاب المراتب من الجانبين. فلما وصل عضد الدولة أوذن به الطائع ، فأذن له ، فدخل ، فأمر برفع الستارة ، فقيل لعضد الدولة‏:‏ " قد وقع طرفه عليك فقبل الأرض .! " ، ولم يقبلها أحد ممن معه تسلمًا للرقبة في تقبيل الأرض إليه ، فارتاع زياد من بين القواد لما شاهد وقال بالفارسية‏:‏ " ما هذا أيها الملك ؟  أهذا هو الله عز وجل ؟ " .  فالتفت الى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف وقال له‏:‏ " فهّمه، وقل له‏:‏ هذا خليفة الله في الأرض. "  

ثم استمر يمشي ويقبل الأرض تسع مرات، والتفت الطائع إلى خالص الخادم وقال له‏:‏ " استدنه‏" .‏ فصعد عضد الدولة وقبل الأرض دفعتين. فقال له الطائع‏:‏ " إدنُ إلي ، ادن إلي . " فدنا ، وأكبّ ، وقبّل رجله ، وثنى الطائع يمينه عليه ، وكان بين يديه سريره مما يلي الجانب الأيمن للكرسي ، ولم يجلس. فقال له ثانيًا‏:‏" إجلس ." فأومأ ، ولم يجلس ، فقال له : " أقسمت عليك لتجلسنّ . " فقبّل الكرسي ، وجلس . فقال له الطائع‏:‏ " ما كان أشوقنا إليك وأتوقنا إلى مفاوضتك‏.‏" فقال‏:‏ " عذري معلوم‏.!". فقال‏:‏ " نيّتك موثوق بها وعقيدتك مسكون إليها‏.‏" . وأومأ برأسه ، ثم قال له الطائع‏:‏ " قد رأيت أن أفوض إليك ما وكّل الله تعالى إلي من أمور الرعية في شرق الأرض وغربها وتدبيرها في جميع جهاتها سوى خاصتي وأسبابي وما وراء بابي ، فتول ذلك مستخيرًا بالله تعالى‏.‏" . فقال له عضد الدولة‏:‏ " يعينني الله عز وجل على طاعة مولانا وخدمته . وأريد المطهر وعبد العزيز ووجوه القواد الذين دخلوا معي أن يسمعوا لفظ أمير المؤمنين‏.‏" ، فأذنوا . وقال الطائع‏:‏ " هاتوا الحسين بن موسى ومحمد بن عمرو بن معروف وابن أم شيبان والزيني . " فقدموا ، فأعاد الطائع لله القول بالتفويض إليه والتعويل عليه.  ثم التفت إلى طريف الخادم فقال‏:‏ " يا طريف ، يُفاضُ عليه الخلع ويُتوّج‏.‏" ، فنهض عضد الدولة إلى الرواق ، فألبس الخلع،  فخرج ، فأومأ ليقبل الأرض، فلم يطق ، فقال له الطائع‏:‏ " حسبك حسبك‏." ، وأمره بالجلوس على الكرسي ، ثم استدعى الطائع تقديم ألويته ، فقدم لواءان. واستخار الطائع لله الله عز وجل وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم وعقدهما ثم قال‏:‏ " يُقرأ كتابه‏.‏". فقُرأ . فقال له الطائع‏:‏" خار الله لنا ولك وللمسلمين ، آمرك بما أمرك الله به‏ ، وأنهاك عما نهاك الله عنه ، وأبرأ إلى الله مما سوى ذلك. انهض على اسم الله‏.‏" . وأخذ الطائع سيفًا كان بين المخدتين اللتين تليانه ، فقلده إياه ، مضافًا إلى السيف الذي قلده مع الخلعة. ولما أراد عضد الدولة أن ينصرف قال للطائع‏:‏ " إني أتطير أن أعود على عقبي فأسأل أن يؤمر بفتح هذا الباب لي‏.‏"  فأُذن في ذلك . وشاهد في الحال نحو ثلثمائة صانع قد أعدهم عضد الدولة ، حتى هيئ للفرس مسقال، وركب وسار الجيش وسار في البلد‏.‏).

المشهد الثانى :

الزمان : عام 369 .

المكان : قصر الخلافة العباسية ( الحضرة )

الأبطال :الخليفة العباسى ( الضعيف ) القائم بالله.السلطان السلجوقى المتجبّر:(طغرلبـك )  .

شخصيات أخرى : تتبع الخليفة القائم وتتبع طغرلبك  .

الموضوع :  طغرلبك يطلب من الخليفة القائم تفويضا بالحكم .  ويتم منحه هذا التفويض   فى إحتفال كهنوتى عباسى جرى وفق طقوس يتضح منها تأليه الخليفة العباسى وقتها .

المصدر : تاريخ ابن الجوزى ( المنتظم ) ح 16  عام  449

 ملاحظة : ننقل النّص التاريخى كما هو ، ومطلوب التمعُّن فيه لنتعرف على طقوس تأليه وعبادة الخلافة العباسية وقتها .

يروى ابن الجوزى : ( وفـي هـذه السنـة‏:‏ لقـي السلطـان طغرلبـك الخليفة القائم بالله ، وكان السلطان يسأل في ذلك إلى أن تقـرر كـون هـذا في ذي القعدة. فجلس رئيس الرؤساء في صدر رواق صحن السلام وبين يديه الحجّاب ، ثم استدعى نقيبي العباسيين والعلويين وقاضي القضاة والشهود . فلما تضاحى النهار كتـب إلـى السلطـان طغرلبـك بمـا مضمونـه الإذن عن أمير المؤمنين في الحضور. فأنقذ ذلك مع ابني المأمون الهاشميين ومن خدم الخواص خادمين ومن الحجّاب حاجبين . ولما وُوفق السلطان على ذلـك نزل في الطيار ( سفينة نهرية سريعة ) وكان قد زيّن ، وأنفذ إليه، فانحدر ، ومعه عدة زبازب سميريات ( سفن صغيرة )  وعلى الظهر فيلان ( إثنين من الفيلة ) يسيـران بـإزاء الطيـار . فدخل الدار والأولاد والأمراء والملوك يمشون بين يديه ونحو خمسمائة غلام تُـرك ، فلمـا وصـل إلى باب دهليز صحن السلام ، وقف طويلًا على فرسه حتى فتح له ، ونزل فدخل إلى الصحن ، ومشى وخرج رئيس الرؤساء إلى وسطه ، فتلقاه ، فدخل على أمير المؤمنين وهو على سرير عال من الأرض نحو سبعة أذرع ، عليه قميص وعمامة مصمتان ، وعلى منكبه بـردة النبـي صلـى اللـه وعليـه وسلـم ، وبيـده القطيـب. فحيـن شاهـد السلطـان أميـر المؤمنين قبّل الأرض دفعات . فلما دنا من مجلس الخليفة صعد رئيس الرؤساء إلى سرير لطيف دون ذلك السرير بنحو قامة، وقال له أميـر المؤمنيـن‏:‏ " أصعـد ركـن الديـن إليـك وليكـن معـه محمـد بـن منصـور الكنـدري‏.‏" ، فأصعدهما إليه وتقدم ، وطُرح كرسي جلس عليه ، وقال أمير المؤمنين لرئيس الرؤساء‏:‏ " قل له يا علي‏:‏ أمير المؤمنين حامد لسعيك شاكر لفضلك آنس بقربك زائد الشغف بك . وقـد ولاّك جميع ما ولاه تعالى من بلاده ، ورد إليك فيه مراعاة عبادة ، فاتق الله فيما ولاّك ، واعرف نعمته عليك وعبدك في ذلك ، واجتهد في عمارة البلاد ومصالح العباد ونشر العـدل وكـفّ الظلم‏.‏" . ففسّر له عميد الملك القول ، فقام وقبّل الأرض، وقال‏:‏ " أنا خادم أمير المؤمنين وعبده، ومتصرف على أمره ونهيه ، ومتشرف بما أهلني له واستخدمني فيـه. ومـن اللـه تعالـى استهـداء المعونـة والتوفيق‏.‏" . واستـأذن أميـر المؤمنيـن فـي أن ينهـض ويُحمـل إلـى حيـث تُفـاض الخلـع ( لبس التشريف ) عليـه . فنـزل إلـى بيـت في جانب البهو ، ودخل معه عميد الملك ، فأُلبس الخُلع ، وهي سبع خلع في زي واحد . وتُرك التاج على رأسه . وعاد  ، فجلس بين يدي أمير المؤمنين سيفًا . ورام تقبيل الأرض ، فلم يتمكن لأجل التاج ، وأخـرج أميـر المؤمنيـن سيفـًا من ين يديه فقلّده إياه، وخاطبه بملك المشرق والمغرب . واستدعى ألوية وكانـت ثلاثـة‏:‏ اثنـان خمريـة بكتائـب صفـر وآخـر بكتائب مذهبة سمي لواء الحمد،  فعقد منهم أمير المؤمنين لواء الحمد بيده . وأحضر العهد فقال‏:‏ " يسلم إليه، ويقال له‏:‏ يقرأ عليك عهدنا إليك ويفسر لك لتعمل بموجبه وبمقتضى ما أمرنا به . خار الله لنا ولك وللمسلمين فيما فعلنا وأبرمناه . آمرك بما أمرك الله به وأنهاك عما نهاك الله عنـه ، وهـذا منصـور بـن أحمـد نائبنـا لديـك وصاحبنـا وخليفتنا عندك ووديعتنا ، فاحتفظ به وراعه ، فإنه الثقة السديد والأمين الرشيد وانهض على اسم الله تعالى مصاحبًا محروسًا‏.‏" .وكان من السلطان طغرلبك في كل فصل يُفصّل له من الشكر وتقبيل الأرض ما نمّ عن حُسن طاعتـه وصـادق محبتـه. وسـأل مصافحتـه باليـد الشريفة، فأعطاه أمير المؤمنين يده دفعتين، قبل لبسه الخلـع ، وعند انصرافه من حضرته، وهو يقبّلها ويضعها على عينيه. ودخل جميع من في الدار من الأكابر والأصاغر إلى المكان فشاهدوا تلك الحال .وخرج إلى صحن دار السلام ، فسار والخيل والألوية أمامه . ولما خرجت الألوية رفعت من سطح صحن السلام وحطت على روشن بيت النوبـة ، ومنـه إلـى الطيـار لئـلا تخـرج فـي الأبـواب فتُنكّـس،ومضـى.  وهنـأه عـن الخليفة ، وقال له‏:‏ " إن أمير المؤمنين يأمرك أن تجلس للهناء بما أفاضه عليك من نعمة وولاك من خدمته وحمل إليه خلعة. " فقـام وقبّل الأرض ، وقال‏:‏" قد أهّلني أمير المؤمنين لرتبة يستنفذ شكري ويستعبدني بما بقي من عمـري . " وأتـاه بسـدة مذهبـه وقـال لـه‏:‏ " أمير المؤمنين يأمرك أن تلبس هذا التشريف وتجلس في هذا الدست وتأذن للناس ليشهدوا ما تواتر من إنعامه فيبتهج الولي وينقمع العدو‏.‏")

 

أديان المحمديين الأرضية المناقضة للاسلام يكتمل تطورها فى العصر العباسى

مقدمة

1 ــ ملامح الدولة الدينية اكتملت في الدولة العباسية، فقد بدأت بدعوة دينية شيعية كيسانية لأمام مهدي مستتر تحت ستار الدعوة للرضى من آل محمد ،وعززت هذه الدعوة العلنية بأحاديث منسوبة للنبي انتشرت فى الآفاق تبشر بالدولة القادمة وتمهد لها. وقد عقد السيوطي في( تاريخ الخلفاء 30: 37) فصلا عن الاحاديث المبشرة بخلافة بني العباس ، بعضها يتحدث عن اسماء الخلفاء العباسيين . ويذكر ابن الجوزى فى تاريخه ( المنتظم : 7 / 335 ) حديثا يزعم أن النبى محمدا قال : ( منا السفاح والمنصور والمهدى ) هذا الحديث الكاذب رواه الأعمش ، والأعمش أحد مشاهير القفهاء ورواة الحديث العاملين فى خدمة أبى جعفر المنصور، ومعلوم ان النبي عليه السلام لا يعرف الغيب وممنوع ان يتكلم فيه وفقا لما اكده القرآن الكريم (6 / 50 )( 7 /188 ) (46 / 9).

2 ــ (عبد الله بن عباس ) جد الخلفاء العباسيين هو ابن عم النبى محمد. كان يعيش مع أبيه العباس فى مكة حين كان يناصب العداء للنبى محمد والمسلمين ، ثم أسلم فيما بعد مع أبيه وهو صبى دون الحلم، أى رأى النبى محمد ـــ ابن عمه ــــ لأول مرة حين فتح مكة. وبعد فتح مكة عاد النبى محمد الى المدينة بينما عاد ابن عباس مع أبيه الى مكة. ثم انتقل العباس وابناؤه الى المدينة قبيل وفاة النبى وشهدوا موته، واشرفوا على دفنه. فى تلك الفترة القليلة التى عاشها ابن عباس فى طفولته فى الوقت ألأخير من حياة النبى محمد لم يتح له أن يكون قريبا منه أو أن يظهر بين كبار الصحابة. وحتى المحققين من علماء الحديث فى الدين السنى فى العصر المملوكى ـ بعد انهيار السلطة العباسية ـ جرءوا على التصريح بهذه الحقيقة، فقال ابن القيم الجوزية بناءا عليها انه لم يبلغ ما سمعه ابن عباس من الرسول عشرين حديثا (الوابل الصيب من الكلم الطيب77القاهرة1952ابن القيم الجوزيه ت 751هـ ).

الا أن الدولة العباسية الدينية زورت آلاف الأحاديث ونسبتها الي ابن عباس لترفع من شأنه ومن شأنها ، وأدت تلك الأحاديث مع طول عمر الدولة الى الاعتقاد بأنها ستعيش الى قيام الساعة كما قالت تلك الأحاديث ، والدليل علي ذلك الاعتقاد ان هولاكو المغولى تأثر بهذه الاساطير وهو علي اهبة تدمير بغداد وقتل الخليفة المستعصم ، فعقد مجلسا حربيا لبحث هذا الامر ومدى خطورته المحتملة عليه اذا دمر الخلافة والدولة العباسية ، واخيرا تشجع هولاكو بنبوءة نصير الدين الطوسي الفلكي ، وهجم علي بغداد حسبا يذكر الهمداني في تاريخ المغول (الهمداني :جوامع التاريخ جـ280:278ترجمة صادق نشات واخرون    القاهرة1960 ).

3 ــ وفي عصر هذه الدولة الدينية اكتملت الحركة العلمية وعرفت التدوين والاتساع والتخصص .وتم نقل معارف الثقافة الشرقية والغربية وترجمتها الي اللغة العربية ،وانعكس ذلك علي رواج الأديان الأرضية متأثرا ببيئة ثقافية متنوعة المصادر والجذور والعقائد .

 

تطور الأديان الأرضية من فرق الى أديان مكتملة :

1 ـ ظهرت تلك الأديان الأرضية فى صورة فرق دينية ، أو ملل ونحل حسب مصطلحات العصر. بدأ بعضها بحزب سياسى أو حركة سياسية ثم تحول الى دين أرضى يحاول الانتشار من خلاله وفق ثقافة العصور الوسطى التى كانت تتمسح بالدين وتستخدمه بالتزوير لتحقيق أغراضها.

2 ـ بعضها بدأ فرقة دينية واستمر هكذا دون افتراء على الله تعالى ورسوله أو زعم للوحى ثم عمل بالسياسة فأفسدته ( مثل المعتزلة )، وبعضها نشأت مدارس فكرية دينية وفلسفية ، وما لبث أن تفرعت وانقسمت على نفسها فى اطار جدل فلسفى وفقهى وعقلى. وبعض الحركات السياسية مثل الخوارج استهلكت قوتها العسكرية في الدولة الأموية ثم فى صدر الدولة العباسية،وأتاح لها المناخ الفكرى فى العصر العباسى أن تصوغ لها بعض الفرق ببعض الآراء المختلفة . وإندثرت آراء الخوارج مع دخولهم متحف التاريخ ، ولكن بقى منهم من توسط وإعتدل ، وإقترب من الدين الأرضى السائد ، ونعنى به دين الأباضية الذى لا يزال ساريا حتى اليوم في عُمان وبعض مناطق فى شمال افريقيا .

3 ــ وبالتالى فقد اكتملت في العصر العباسى ثلاثة أديان أرضية أساسية وكبرى لاتزال سائدة حتي الان ، وهي السنة والتشيع  والتصوف ، ولا يزال أئمة هذه الطوائف هم الآلهة المقدسة لمئات الملايين من المحمديين فى هذا العصر. أبرزهم أئمة السنة فى الفقه والحديث ( أبوحنيفة ت 150) ( مالك ت  179) ( الشافعى ت 204 ) (أحمد بن حنبل ت 241 ) (البخارى  ت256 ) ( مسلم ت 261 )، وأئمة الشيعة وأولياء التصوف.

 

الدين السُّنّى فى لمحة سريعة

تقلب مفهوم السُّنة من الشرع كما جاء في القرآن الكريم الي معني سياسي منسوب للنبي في اطار الخطاب السياسي المعارض للأمويين ،ثم احتكرته الخلافة العباسية ليدل علي مدلولها السياسي في مقابل خصومها الشيعة ، ثم تحول مصطلح السنة في العصر العباسي الثانى ليدل علي نوعية الدين السائد المعترف به من الدولة العباسية .ونعطى لمحة سريعة:

1 ـ مصطلح السنة يأتي في القرآن بمعي المنهاج والطريقة أو الشرع ،وبمعني الشرع يأتي منسوبا لله تعالي (33 / 38) .

2 ـ  وفي العصر الاموى استعمل مصطلح السّنة في معرض الاعتراض علي السياسة الاموية واهمية ان ترجع الي ما كانت عليه سنة النبي ،أي طريقته العادلة فى الحكم .وبها بدأ الاستعمال السياسي لكلمة السنة وقتها .

3 ـ وحين نجح الشيعة الكيسانية في الدعوة للرضى من آل محمد ــــ الامام المختفى غير المعلوم ــــ وكان مفترضا أنه من ذرية علىّ بن أبى طالب، كان من ادبياتهم نفس الاستعمال السياسي لمصطلح السنة مع الاستعمال لمصطلح الشيعة الذى يدل على المعتقدين بأحقية ذرية على ابن أبى طالب فى الحكم. وحين ظهر ان الخليفة الموعود ليس من ذرية علي وانما من ذرية ابن عباس حدث الشقاق بين انصار العباسيين القائمين مع الخليفة العباسي وبين المطالبين بأحقية ذرية علي بالخلافة دون العباسيين .وظلت كلمة (شيعة)  أو (الصحابه) تطلق علي انصار العباسيين حتي تولي ابو جعفر المنصور الخلافة وتقاتل مع العلويين فى الحجاز والعراق فى ثورة محمدالنفس الزكية واخيه ابراهيم . عندها استبقي الخلفاء العباسيون لأنفسهم مصطلح (السنة) وأهملوا لقب الشيعة، فاصبح خاصا بخصوم الدولة العباسية والخارجين عليها ،و اضيفت للشيعة اوصاف اخري سياسية وعقيدية اهمها الرافضة .وفى عهد الخليفة المتوكل وبسبب كراهيته للمعتزلة والشيعة والصوفية تمّ إعتماد ( السُنّة ) دينا رسميا للدولة ، وبعث المتوكل بدعاة السُنّة الى الآفاق لمطاردة الأديان الأخرى والمعتزلة ونشر دين السُنّة .

4 ـ حدث تطور آخر فى مدلول مصطلح السُنّة : فالمعتزلة والفلاسفة والمثقفون ثقافة عقلية بالفلسفة اليونانية والهلينية  فى العصر العباسى الأول كانوا يطلقون على خصومهم من الفقهاء السنيين المحافظين لقب الحشوية ، لأنهم كانوا يحشون عقولهم بروايات منسوبة للنبى يؤمنون بها ويجادلون بها الآخرين بدون عقل أو منطق متمسحين بالدين ، ولم تكن لهم قدرة عقلية على الجدل مع المعتزلة أو الفلاسفة . ثم مالبث أولئك الفقهاء الحشويون بعد أن تسيدوا الساحة العباسية فدخلوا بقوة السُّلطة العباسية فى جدال مع المعتزلة ، خصوصا بعد أن (إرتدّ ) ابو الحسن الأشعرى عن فكر المعتزلة وإنضم الى الفقهاء، فأصبحت السنة تعني من ناحية العقائد والفلسفات ذلك الاتجاه الفكرى العقائدى المحافظ  الذي يمثله أبو الحسن الأشعري بعد ان ترك المعتزله ، وأصبحت السنة من ناحية الفقه والفروع تعنى المذاهب الفقهية الاربعة المنسوبة للائمة ابي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل ،هذا في عصر الاجتهاد الفقهي . ومن الطريف بعدها أن فقهاء السُنّة الذين لا علم لهم بمايسمى بعلم الكلام أو ( اللاهوت ) كرهوا (علم الكلام ) وما فيه من جدل ، ووضُح هذا فى أواخر العصر العباسى الثانى . وفيه عمّ التصنيف فى الشريعة السُّنّية أو ما يعرف بالفقه . وهذا الإنتشار فى التصنيف الفقهى كان على حساب ( الكيف ) ، فلم ينبغ فقيه يضيف جديدا أو يأتى بجديد أو بإجتهاد ، بل قام كل فقيه بالإلتزام برأى شيخ سابق فتكونت المذاهب الفقهية ، وفى تلك التصنيفات الفقهية أصبح مصطلح السُّنّة ضمن أحكام الفقه ، يشير الي درجة اقل من درجات الواجب ، فيقال هذا فرض واجب وهذا سُنّة ، أو يقال "يسنّ" بمعني يستحسن.

5 ـ وفي علم الحديث اكتملت للحديث السني مصادره وشيوخه ،وبدأ مختلطا بالفقه ، حيث كان يتم ترتيب أبواب الحديث طبقا لأبواب الفقه ، ثم انفصل الحديث عن الفقه ، وكما صار للفقه ( علم ) لأصول الفقه ، صار للحديث باب لفحص مدى صٌدقية الحديث ، أو ما يعرف بالجرح والتعديل . وهم فيه مختلفون شأن إختلاف الفقهاء السنيين فى كل صغيرة وكبيرة.

6 ـ توازى هذا مع نشأة ما يعرف بعلوم القرآن فى العصر العباسى ، وهى لإخضاع نصوص القرآن الكريم الى هوى تلك الأديان الأرضية ، تشكيكا فى آياته ، وإلغاءا لأحكامها تحت مسمى النسخ ، مع إنهم كانوا يستعملون فى الكتابة التاريخية مصطلح النسخ بمعنى الكتابة وليس الحذف ــ خصوصا فى كلامهم عن كتابة المصحف أو نسخ المصحف . لكنهم فى الكتابة الفقهية ــ بدءا من الشافعى ــ إعتبروا النسخ فقهيا يعنى إبطال وإلغاء التشريع للآية القرآنية بآية أخرى ـ ( بما يعنى أن القرآن الكريم ملىء بالعوج والاختلاف ). أو بحديث من الأحاديث التى يخترعونها لتطغى على القرآن الكريم .

دين التشيع :

1 ـ مصطلح ( شيع ـ شيعة ) يأتى فى القرآن الكريم على النحو التالى :

1 / 1 : الحزب او الطائفة عموما . يقول جل وعلا : ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ )(65) الانعام ) يلبسكم شيعا أى فرقا وأحزابا . وعن فرعون وسياسته فى تقسيم المصريين يقول جل وعلا :  يقول جل وعلا :  (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4) القصص) يقول جل وعلا  عن موسى وإدراكه مبكرا أنه من طائفة مستضعفة : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) القصص )

 1 / 2 : وحين يصل الاختلاف والتفرق الى الدين ينشأ الدين الأرضى الذى لا يلبث أن يتفرع ويتقسّم . والكفر يعنى الشقاق والاختلاف ،يقول جل وعلا عن الأمم السابقة ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)الحجر ) ، ويقول جل وعلا  عن أصحاب النار المشركين : (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً (68) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً (69) مريم ).

1 / 3 : وهنا يكون التشيع يعنى فرقة دينية أو الأحزاب الدينية ، ولهذا يحذّر رب العزة المؤمنين من الوقوع فى التفرق فى الدين ، يقول جل وعلا : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) الانعام )  (وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)  الروم ) ، ويقول جل وعلا  عن ابراهيم إنه كان من شيعة نوح ، أى من دينه وملته : (سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإٍبْرَاهِيمَ (83) الصافات  )  

1 / 4 : ويأتى الفعل ( يشيع ) بمعنى ينتشر ، يقول جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) النور)

2 ـ تأسس التشيع مبكرا يعنى من الناحية السياسية مناصرة حق ( على بن ابى طالب ) فى الخلافة ، بدأ بهذا بعض الصحابة كالزبير بن العوام والعباس والمقداد بن عمرو وعمّار بن ياسر . ثم تحول مبكرا الى تأليه ( على ) فيما زعمه عبد الله بن سبأ فى خلافة (على ) ، وتعددت فرق وطوائف الشيعة ،  وفى العصر العباسى اكتملت للتشيع طوائفه واسفاره المقدسة و احاديثه المقدسه وعباداته وائمته، وتفرع الى طوائف ، وانقسامات شتى.

3 ــ واتيح للفرع الاسماعيلي من الطائفة الشيعية الإمامية أن يقيم دولا ثابتة راسخة ابرزها الدولة الفاطمية التي استمرت اكثر من قرنين من الزمان وتوسعت مابين شمال أفريقيا الي مصر والشام وحدود العراق ،وكادت تقضي علي الدولة العباسية ،واستمرت فيما بين (909-1712 م ) واقامت القاهرة والازهر ، ولازالت آثارها العمرانية باقية حتي الان . كما اتيح للتشيع ان يقيم دولا متحركة مثل حركة الزنج في جنوب العراق وحركة القرامطة التي توسعت في العراق و الشام واعمدتها من الاعراب .

التصوف :

1 ـ التصوف هو الذى كان يعبّر عن دين العوام الداخلين فى دين الحُكّام ، وقد إستعاد التصوف تقديس البشر والحجر بلا تمييز تحت ستار ( الجذب والحب الالهى والوجد ) .

2 ـ وبدأ التصوف بتقديس آل البيت على هامش التشيع ، فورث إضطهادا بسبب الصراع بين السنة والتشيع ، الا إن التصوف ما لبث ان انفصل عن التشيع وتخفف من السياسة وتخصص فى تملق الحكام في أواخر العصر العباسي الثاني ، فتخلص التصوف تدريجيا من الاضطهاد ، ثم تسيد وسيطر فى العصر المملوكى ، وبعد ان كان الحنابله  المتشددون السنيون ـــ يضطهدون الصوفية فى العصر العباسى الثانى ،اصبح الصوفية بعد انتهاء العصر العباسي ومجئ العصر المملوكي هم الذين يضطهدون الحنابلة ،كما حدث في تاريخ ابن تيمية .

ونعطى بعض التفصيلات التاريخية للتوضيح .

 

صراع (الحنابلة) مع (المعتزلة) في العصر العباسي  

 

صراع المتشددين فى الدين السّنى (الحنابلة) مع ( العلمانيين المستغربين: المعتزلة) في العصر العباسي

مقدمة

1 ــ الدولة العباسية كدولة دينية ذات دين أرضى خاص اعتمدت علي فقهائها ورواة الحديث التابعين لها في تعزيز سياستها ضد الحركات السياسية المناوئة لها ، واذا قصّر احد الفقهاء في خدمة الدولة كان يتعرض للاضطهاد على قدر التقصير، وهذا ما حدث مع مالك وابى حنيفة والشافعى ، ثم ابن حنبل فيما بعد.

2 ـ الا ان الدولة العباسية فتحت ابواب الترجمة عن اليونانية والسيريانية والهندية وواكب ذلك عودة الحياة الي المدارس الفلسفية اليونانية القديمة فى الرها وجندياسبور وانطاكية وحرّان والاسكندرية، واصبح التزندق الفلسفي موضة لا غبار عليها طالما لا يعارض سياسة الدولة، وقد اشتهر من العاملين في اجهزة الدولة العباسية الكثير من الزنادقة، واشتهر شعرهم وادبهم بينما طاردت الدولة خصومها السياسيين بحد الردة وتهمة الزندقة.

3 ـ ومن الطبيعي ان ينفر الفقهاء المحافظون من هذا التيار الجديد المتأثر بالثقافة اليونانية الغربية المتأثرة بالمسيحية والثقافة الغربية وفلسفاتها ،خصوصا مع  ظهور المعتزلة الذين يقرأون الفلسفة ويقرأون التدين السائد قراءة عقلية وبصورة تخالف القراءة المحافظة التقليدية .

4 ــ وقد وقع الخليفة المأمون (813-833)في هوى ذلك التيار المعتزلى الجديد ، اذ كان شغوفا بمجالس العلم، واقتنع بمقولة المعتزلة أن القرآن مخلوق، واستعظم ان يعارضه الفقهاء المحافظون ،وكان منهم وقتها أحد من يجمع الأحاديث ــ ولم يكن مشهورا من قبل ـ ولكن صموده فى معارضة القول بخلق القرآن أشهرته . إنه ( احمد بن حنبل ) الفارسى الأصل ، وقد إنضم اليه محمد بن نوح ومحمد بن سعد المؤرخ المشهور.  صمم المأمون علي فرض رأيه عليهم بسطوة الدولة ،وبدأت بذلك محنة الفقهاء السنيين ، وإجبارهم علي القول بأن القرآن مخلوق .وتحت الضغط والتهديد تراجع الفقهاء عدا ابن حنبل ومحمد بن نوح ،  فوضعا في السجن. ومات المأمون وقد اوصى ولي عهده المعتصم بالله بالاستمرار بالقضية فأمر المعتصم بضرب ابن حنبل سنة218،وظل ابن حنبل بالسجن الي ان افرج عنه في رمضان سنة 220هـ، وشاع ضرب ابن حنبل وصار محنة كبرى يتغنى بها الفقهاء الذين حملوا فيما بعد لقب الحنابلة ، وقالوا إنه استمر اثر الضرب في جسده يتوجع منه الي ان مات سنة241 هـ( ابن الجوزي:مناقب ابن حنبل 339،346بيروت ط1،تحقيق محمد ومصطفى عبدالقادرعطا ،  المنتظم 11/43 ،تاريخ الطبري 8/631:645 ].

محنة ابن نصر الخزاعي :

وادى ما حدث لابن حنبل الي قطيعة بين الفقهاء المحافظين والعباسيين ، واستغل الفقهاءمكانتهم في الشارع ، واقد اصبح لقبهم الحنابلة نسبة لابن حنبل، وبدءوا في اثارة القلاقل ضد الدولة بحجة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد صنعوا لذلك حديث ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ..الخ ) ، أى أكسبوا حركتهم فى السطوة على الشارع شرعية دينية . يلفت النظر أن الخليفة الواثق صاحب الميول العلمية ( العلوم الحقيقية فى الطب وغيره ) قد أمر بالقبض علي زعيم الفقهاء الحنابلة ، وهو احمد بن نصر الخزاعي بحجة انه ينكر خلق القرآن.وحقق الخليفة معه ثم قتله بيده ،وامر بصلب رأسه في موضع وصلب جسده في موضع آخر وكان ذلك سنة231 هجرية .( ،تاريخ الطبري 9/135:140. ابن الجوزي : المنتظم 11s:165).

بسبب محنة ابن نصر الخزاعى راج حديث الحنابلة :  (من رأي منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وهذا اضعف الايمان )ليعطى للحنابلة المتشددين سطوة فى الشارع . وفعلا أصبحت لهم فى العصر العباسى الثانى سطوة فى الشارع العباسى ، ما لبث أن تضاءلت بعد تسيد دين التصوف الذى حمل شعيرة دينية مخالفة هى ( عدم الاعتراض ) . وفى عصرنا عاد للظهور حديث الحنابلة ( من رأى منكم منكرا ) يتحرك به الوهابيون الحنابلة يرهبون الناس .

إعتماد الحنبلية السنية دينا فعليا في العصر العباسي منذ عهد المتوكل واضطهاد زعماء الأديان الأرضية الأخرى :

1 ـ في هذه الفترة كان نفوذ المعتزلة سائدا في الدولة العباسية حيث كان الوزير المعتزلي محمد ابن عبد الملك بن الزيات يسيطر علي الامور ، ويستهين بولي العهد وهو أخ الخليفة الواثق الذي تولي الخلافة فيما بعد تحت اسم الخليفة المتوكل .وكان ابن الزيات يعمد الى تحقير ولى العهد هذا ليجبره على التنازل عن ولاية العهد لصالح ابن الخليفة الواثق . ولكن مات الواثق فجأة فضاعت آمال ابن الزيات وتولى ولى العهد باسم الخليفة المتوكل سنة 232/847م ، فبادر بقتل غريمه ابن الزيات وتحسين علاقته بالفقهاء الحنابلة ،فاستقبل ابن حنبل وأكرمه وارسل الفقهاء الحنابلة للتبشير بدينهم السنى في الولايات. فصار لهم جيوش من العوام.

2 ـ إنحصر نفوذ المعتزلة فى قصور الخلافة العباسية ولم يصل الى التأثير فى الشارع ، فهناك فجوة ثقافية بينهم وبين العوام وعزّزتها سيطرتهم الفوقية على الخلافة العباسية ، ولكن النفوذ الحنبلى كان مختلفا . بدأت بالخليفة المتوكل سطوة الحنابلة فأصبحوا متحكمين في الدولة وفي الشارع علي السواء ، وتناغم تعصبهم مع طبيعة المتوكل المتعصبة ، لذا عمّ التعصب عصر المتوكل فاضطهد الجميع ، فطرد العرب والفرس من ديوان الجند تعصبا منه للجند الترك ، وتعصبا ضد أهل الكتاب ألزمهم بارتداء زي معين للتحقير ،واضطهد الشيعة وهدم ضريح الحسين فى كربلاء ، وحاكم رواد التصوف فيما يعرف بفتنة سمنون ، بل اضطهد ابنه الأكبر لصالح المعتز ابنه الأصغر لأنه ابن محظيته ( قبيحة )، مما أدى الى أن يقتل الابن الأكبر أباه المتوكل ويتولى بعده باسم المنتصر. (تاريخ الطبري 9/161،ابن الجوزي: المنتظم11/206،283،222،238،265،270).

3 ـ بسيطر الحنابلة علي الشارع اضطهدوا خصومهم المعتزلة. عاش فى هذه الفترة أئمة المعتزلة مثل الجاحظ ت 255  وابى الهذيل العلاف ت 235 وابراهيم بن يسار النظام ت 231 و الجبائى ت 303 . وكان منتظرا أن يكون لهم مدارس وتلاميذ الا ان الاضطهاد أجهز على المعتزلة وأبقى أولئك الأعلام بلا تلاميذ. بل على العكس فان تلميذا للمعتزلة انقلب عليهم ليتواءم مع متطلبات العصر فأضحى اماما. انه ابو الحسن الأشعرى ت 246 . ثم كان القضاء التام على المعتزلة فى خلافة عصر الخليفة العباسى القادر بالله الذى تولى الخلافة عام  381 . وفيه راجت إشاعات الحنابلة عن المعتزلة بحيث أصبح تكفيرهم من أسس الدين السائد. وقد تأثر بهذا المؤرخ الحنبلى الخطيب البغدادى وسجلها فى ترجمته لبشر المريسى  المعتزلى وغيره . كما تأثر بهذا المناخ الخليفة العباسى القادر بالله نفسه . وقد أدرك الخطيب البغدادى خلافة القادر بالله لأن الخطيب مات عام 436 ، ومات الخليفة القادر عام 422 . وقد ترجم له أيضا فى ( تاريخ بغداد ) وقال عنه : ( رأيت القادربالله دفعات ، وكان أبيض حسن الجسم كث اللحية طويلها يخضب. ) ومدحه الخطيب فقال عنه : ( وكان من أهل الستر والديانة وإدامة التهجد بالليل وكثرة البر والصدقات على صفة اشتهرت عنه وعرف بها عند كل أحد مع حسن المذهب وصحة الاعتقاد .) الوصف بحُسن المذهب وصحة الاعتقاد  يعنى عند الخطيب البغدادى : الالتزام بالدين الحنبلى ، وغير ذلك فهو ( البدعة ). وقد كتب القادر بالله يدافع عن مذهبه الحنبلى ، يقول عنه الخطيب: ( وكان صنف كتابًا فيه الأصول ذكر فيه فضائل الصحابة على ترتيب مذهب أصحاب الحديث ، وأورد في كتابه فضائل عمر بن عبد العزيز، أفكار المعتزلة والقائلين بخلق القرآن . وكان الكتاب يقرأ في كل جمعة في حلقة أصحاب الحديث بجامع المهدي ويحضر الناس سماعه. ). وكوفىء هذا الخليفة على حنبليته يصناعة حديث يشير الى تزكيته ، ورواه الخطيب : ( لا تهلك هذه الأمة حتى يكون فيها إثنا عشر خليفة كلهم يعمل بالهدى ودين الحق ، منهم رجلان من أهل بيت النبى ، يعيش أحدهما أربعين سنة والآخر ثلاثين سنة . ) واستمرت خلافته  41 سنة وعشرة اشهر واحدى عشر يوما . ( تاريخ بغداد ج 4 ص 37 : 38 ) .

4 ـ ارهب الحنابلة أئمة الدين السنى نفسه من غير الحنابلة اذا خالفوهم فى الرأى. لقد اختلفوا مع الطبري فى موضوع الاستواء على العرش ـ وقد كان فى نهاية عمره امام المؤرخين والمفسرين فى عهده، وكان أعلم من ابن حنبل نفسه ـ حاصر الحنابلة الامام الطبرى في داره وهو فى شيخوخته ، ولم يرحموا توسله وإعتذاره لهم فهدموا عليه داره فمات  تحت الردم ودفن في داره ،ولم تستطع الدولة العباسية حمايته منهم . (صلاح الدين بن خليل بن ايبك الصفدى: الوافي بالوفيات 2/284.:طـ2تحقيق س0ديدرنغ1981طـ0المانيا).

خروج المعتزلة من حلبة الصراع مبكرا

1 ـ إنغماس المعتزلة فى السياسة وتحكمهم فى الخلافة العباسية أشاع جوا من الكراهية أحاط بهم ، ونشر هذه الكراهية جموع الفقهاء أصحاب الحديث ومن يتبعهم من القُصّاص ووعاظ المساجد الذين تحولت أقاصيصهم وخرافاتهم الى أحاديث فيما بعد. وقد كانوا اصحاب سيطرة على الشارع. زاد ذلك الظلم الذى إشتهر به ابن الزيات وزير الخليفة الواثق ، وقد إصطنع حجرة حديدية لتعذيب خصومه حتى الموت ، مالبث هو أن تعذب فيها حتى الموت .

2 ـ  الواقع أن خروج المعتزلة من حلبة الصراع مع دين السنة كان حتميا ليس لمجرد الأسباب السياسية المشار اليها، ولكن لأنهم لم يخترعوا دينا أرضيا ، أى لم يسندوا آراءهم الى الوحى الالهى بزعم أن الله تعالى قال كذا أو ان النبى محمدا قال كذا. ولذا ظلت آراء المعتزلة حبيسة بين حلقات العلم والفلسفة وبعيدة عن المساجد وعوام الناس ، بينما أتيح للسنة والشيعة والصوفية نشر آرائهم على أنها وحى سماوى قاله الرسول أو قيل منسوبا لله تعالى فى منام أو هاتف. وبالتالى لا بد من الايمان به أو الكفر به وليس هناك موقف وسط ، شأن كل ما يخص الدين.

3 ــ وبينما كان المعتزلة قلة مثقفة فإن الانخراط فى أديان السُّنّة والتشيع والتصوف لا يستلزم مؤهلات علمية ، بل مجرد ترديد لأقاويل وإرتداء لباس معين ــ أحيانا . وهذا شجع العوام على الانخراط فى هذه الأديان الثلاثة مما ضمن لها الانتشار والاستمرار حتى فى ظل الصراع بينها .

4 ـ وبخروج المعتزلة من الساحة بقى الدين السنى يصارع التشيع ثم التصوف معا. وتوارثناها فى عصرنا نحمل أوزارها . كلها تشترك فى تقديس النبى محمد والصحابة (أو بعضهم ) وتقديس الأئمة والقبور ، وكل دين منهم له أئمته وقادته وآلهته وأسفاره المقدسة . أنتهى العصر العباسى ولكن لا يزال أئمته أئمة حتى الآن ، من مالك والشافعى وابن حنبل والبخارى الى جعفر الصادق والغزالى والكلينى ..الخ ..

5 ـ يتقدم العالم من حولنا بيما لا زلنا نقدس هذه الآلهة العباسية .!!

 

الصراع الحربى والدعائى بين دين السنة ودين الشيعة فى العصر العباسى 

  

اولا : الصراع الحربى والدعائى بين دين السنة ودين الشيعة فى العصر العباسى الأول ( 132 ـ 232 )

1 ـ اشتعل الصراع الحربى بين المتشيعين لعلى بن أبى طالب وأبنائه والدولة الأموية. تلون هذا الصراع بحرب كلامية بدأ فيها اختراع الأحاديث كحرب دعائية. اشتهر أبو هريرة بانحيازه للأمويين واختراعه أحاديث فى فضل معاوية ومن معه وفى التقليل من شأن على ، وقتها كان عبد الله بن عباسّ هو خصم أبى هريرة، إذ اشتهر ابن عباس بالدفاع عن بنى عمه من العلويين فى مواجهة الأمويين والزبيريين معا.  وكان من الطبيعى أن يرد معسكر العلويين  بوضع أحاديث فى فضل علىّ وآله وتسميتهم بآل البيت. اقتصرت الحرب الكلامية بالأحاديث على مجرد الرواية الشفهية ، ثم اتسع مجالها وتنوعها وتم تدوينها فى العصر العباسى حيث حملت الأحاديث الموالية للسلطة العباسية اسم السنة أو بتعبيرنا دين السنة.

2 ـ ونجحت دعوة سرية للشيعة فى تدمير الدولة الأموية سنة 132، وانجلى الأمر ليتضح أن القادة السريين للدعوة الجديدة ليسوا من نسل علىّ بن أبى طالب ، بل من بنى عمومتهم العباسيين. لذا استجد  صراع مسلح بين العباسيين والعلويين فى ثورة محمد النفس الزكية، وبعد قتله و سجن أتباعه من كبار العلويين سنة 145 هجرية استمر الصراع العسكرى بين العباسيين والعلويين فى الحجاز،وكان منها ثورة الحسين بن على من نسل الحسن بن على ، وقد هزمه العباسيون فى موقعة ( فخ ) فى خلافة الهادى سنة 169 هجرية .

وقد نجا من مذبحة ( فخ ) اثنان  هما: يحيى بن عبد الله الذى فرّ الى بلاد الديلم وأعلن الثورة فى أواسط آسيا فخدعه هارون الرشيد باعطائه الأمان ثم سجنه وقتله. أما الأخ الثانى فكان ادريس بن عبد الله الذى فرّ الى مصر سنة 172 هجرية ثم هرب منها الى المغرب الأقصى حيث أعلن ثورته، فبعث له الرشيد من قتله بالسم سنة 177. ولكن كانت جاريته حبلى فانتظر أتباعه البربر الى ان وضعت طفلها فأسموه ادريس وبايعوه بالخلافة . وأقاموا به دولة الأدارسة فى المغرب. وتتابعت ثورات أخرى للعلويين والشيعة ، مثل ثورة محمد الديباج ابن جعفر الصادق ، وقبله فى سنة 179 قتل الرشيد أخا للديباج هو موسى الكاظم ابن جعفر الصادق لأنه شكّ فيه. وكانت دولة الأدارسة ارهاصا بقيام الدولة الفاطمية الشيعية التى تأسست على أنقاض الأغالبة فى تونس ، ثم زحفت الى مصر والشام وأجزاء من العراق ، فى القرن الرابع الهجرى.

3 ـ في كل تلك الحروب بين العلويين والعباسيين فيما بين المغرب الأقصى وأواسط آسيا اشتعلت بينهما الحرب الدعائية التى تعتمد أساسا على الأحاديث. وهنا استدعى العباسيون اسم أبى هريرة ـ بعد موته بقرنين وأكثر ـ وأكثروا من صنع الأحاديث واسنادها اليه فأصبح أكبر راوية فى الدين السنى، وأضافوا اليه جدهم عبد الله بن عباس . ومع انهما معا ـ ابوهريرة وابن عباس ـ أقل الصحابة صحبة للنبى محمد الا إن العباسيين جعلوهما أكبر رواة الأحاديث فى الدين السّنى ، والأكثر شهرة وعلما بين الصحابة.

وفى العصر العباسى الأول ظهر أئمة الفقه ، وكان الفقيه الذى يخرج عن الدولة العباسية مستقلا برأيه يتعرض للاضطهاد كما حدث مع الشافعى ومالك ، وربما يتعرض للسجن والاغتيال كما حدث لأبى حنيفة، وقد قتلته الدولة العباسية وقامت بترويض تلميذية أبى يوسف وأبى الحسن فخدما الدولة العباسية و أسسا مدرسة فقهية ( حكومية ) متجاهلين معاناة واستقلالية استاذهما أبى حنيفة .

العصر العباسى عموما هو الذى شهد تدوين الدين السنى و تلوينه ليواجه الدين الشيعى الذى أتيح له أيضا التدوين والتلوين وسط مناخ ثقافى متسع باتساع الحركة العلمية والانفتاح على الثقافات اليونانية والشرقية.

4 ـ وكانت للتشيع مهارته الكبرى فى التسلل الى دين السّنة باصطناع الرواة والتخفى وراء أسماء الأئمة السنة وبذر أحاديث شيعية الهوى داخل الدين السنى ، وذلك موضوع شرحه يطول. إلا إن مهارتهم الكبرى تجلت فى انشاء فرق جديدة تبدو بعيدة ظاهريا عن التشيع.  بعض هذه الحركات والتيارات ما لبث أن ابتعد عن التشيع ـ منشئه الأصلى ـ بعد أن حظى بأتباع كثيرين. أهم تلك التيارات المعتزلة ثم التصوف.

5 ـ ولد تيار المعتزلة قريبا جدا من التشيع مخاصما للدولة الأموية فاكتسب لقب ( المعتزلة ) الذى يعنى الخروج عن التيار الأساسى للدولة والمجتمع. وبالمناسبة فان ( الرافضة ) من ألقاب التشيع التى سادت فيما بعد وأصبحت علما على الشيعة، واللقبان معا ( المعتزلة والرافضة ) يرمزان الى نظرة الدين السنى السائد الى مخالفيه فى الفكر والعقيدة.وكان أبوحنيفة فى أواخر الدولة الأموية أحد قادة المعتزلة وظل طيلة حياته معاديا لرواة الأحاديث ونسبتها للنبى محمد ، وخصومته مع الأوزاعى وفقهاء العباسيين معروفة.ومهما يكن فقد خرج المعتزلة من حلبة الصراع الدينى وأفسحوا المجال للسنة والتشيع ثم التصوف الدين الأرضى الوافد فى القرن الثالث الهجرى.

الصراع الحربى والدعائى بين دين السنة ودين الشيعة فى العصر العباسى الثانى

( 232 ـ 658 )

 شهد العصر العباسى الثانى ضعف الخلفاء العباسيين وتحكم القوى العسكرية فيهم. وأصبحت الخلافة العباسية مجرد رمز للدين السنى بينما يتحكم فى الدولة قادة وافدون بجحافل عسكرية من أواسط آسيا أتت لبغداد طلبا للسيطرة والسلطان.

بدأ العصر العباسى الثانى بالخليفة المتوكل الذى حكم فيما بين ( 232 ـ 247 ) وهو أسوأ خليفة عباسى فى ميدان التعصب. وقد أسقط العرب والفرس معا من الجندية وأحلّ محلهم الأتراك ، فتلاعب الأتراك بالخلافة والخلفاء فى عصر قوتهم فيما بين ( 232 ـ 334 ) .

ثم سيطر بنو بويه على الدولة العباسية (334 ـ 447 ) وكان هواهم مع الشيعة إلا إنهم خضعوا للخلافة العباسية التى أصبحت رمزا دينيا يمنحهم شرعية سياسية للحكم .  ثم تلاهم السلاجقة ( 329 ـ 552 ) وكانوا متعصبين للدين السّنى فاضطهدوا الحجاج الأوربيين الآتين الى القدس فشجعوا المتعصبين الأوربيين على التنادى الى الحملات الصليبية التى أقامت ممالك لها فى سوريا والعراق وآسيا الصغرى وأسقطت دول السلاجقة فى تلك المناطق .

وغابت الخلافة العباسية بضعفها وانحلالها عن الصراع ضد الصليبيين فقام بالجهاد دول سنية متتابعة ومستقلة فى اطار الخلافة العباسية، وسرعان ما تنهار فيرثها قادة جدد من أتباعها.

بدأ ذلك بقيام دول الأتابكة فى عواصم الشام والعراق على أنقاض السلاجقة. واشتهر عماد الدين زنكى فى الموصل بالحرب ضد الصليبين فاشتهر ، وكان فى الأصل تابعا للملك السلجوقى محمد بن ملك شاه ، فأقام دولة بنى زنكى . وخلفه ابنه نور الدين زنكى فى جهاده ضد الصليبيين . وبرز من قواده آل أيوب ، ومنهم صلاح الدين الأيوبى الذى أقام الدولة الأيوبية على أنقاض الدولة الزنكية وضم اليها مصر بعد القضاء على الدولة الفاطمية فيها. ثم ورث المماليك سادتهم الأيوبيين وأجهزوا عليهم ثم على الوجود الصليبى.

ثالثا :دول التشيع المناوئة للعباسيين فى العصر العباسى الثانى

1 ـ فى العصر العباسى الأول أقام الشيعة دولة الأدارسة فى المغرب الأقصى  فأقام العباسيون دولة الأغالبة فى تونس لتمنع امتداد الدعوة الشيعية الى مصر.

2 ـ فى بداية العصر العباسى الثانى قامت فى مصر دولتان مستقلتان ذاتيا فى اطار التبعية للدولة العباسية هما الدولة الطولونية ( 254 ـ 292 ) ثم الدولة الاخشيدية ( 323 ـ 334 )

3 ــ أثناء الدولة الأخشيدية فى مصر والشام نجح الفاطميون الشيعة فى اقامة خلافتهم فى المهدية بتونس سنة 296 بقيادة عبيد الله المهدى. وساءت الأحوال فى مصر أواخر الدولة الاخشيدية مما سهل على الفاطميين فتح مصر وجعلها مركزا للخلافة الفاطمية ، وأسست القاهرة والأزهر سنة 358 أو 972 ميلادية.

4 ـ وبدأ الصراع بين دينى السنة والشيعة يأخذ مجرى جديدا باقامة ملك الفاطميين فى مصر والشام وتوسعه فى أجزاء من العراق بل فى ضواحى بغداد نفسها حين استطاع البساسيرى دخول بغداد والدعاء فيها للخليفة الفاطمى المستنصر سنة 450 .

5 ــ اضطهد الفاطميون أتباع الدين السنى فى دولتهم ، وكان القتل والصلب جزاء من يعلن دينه السنى أو يضبط متلبسا بحب أبى بكر وعمر. وأسهب المقريزى فى ( الخطط ) فى ذكر أحداث من هذا النوع. ولكن ما لبث أن ضعف الخلفاء الفاطميون وتحكم فيهم وزراؤهم ، وبات من المضحك التوفيق بين مزاعم التأليه التى تحيط بالخليفة الفاطمى وضعفه أمام وزرائه.

6 ــ أدى الصراع مع الصليبيين ومع السنيين سياسيا وعسكريا الى التعجيل باسقاط الدولة الفاطمية ، فقد تنازع شاور وضرغام وزيرا العاضد الفاطمى وتسبب صراعهما فى إحراق الفسطاط ، واعطيا فرصة للصليبيين والزنكيين فى التنافس على الاستيلاء على مصر وخليفتها الفاطمى العاضد المغلوب على أمره . إستعان نور الدين زنكى ــ المسيطر على الشام والذى يتولى حرب الصليبيين ــ بقائده شيريكوه الأيوبى واخيه نجم الدين أيوب وابنه صلاح الدين الأيوبى على إنقاذ مصر من الصليبيين فأصبح شيريكوه الأيوبى وزيرا للعاضد الفاطمى وفى نفس الوقت تابعا للدولة الزنكية السنية التى تدين بالولاء للخليفة العباسى. مات شيريكوه وتولى ابن أخيه صلاح الدين الأيوبى فقام بحلّ المشكلة بقتل الخليفة العاضد وسجن ذريته وإلغاء الخطبة للفاطميين واعلان تبعية مصر للخلافة العباسية . وأقام صلاح الدين فى مصر والشام الدولة الأيوبية ( 567 ـ 648 ).

7 ــ وقبل سقوطها كانت الدولة الفاطمية قد أفرزت أكبر عنصر تخريب أرعب الناس نحو قرن ونصف قرن من الزمان. انها طائفة الباطنية أو الحشاشين الذين أنشأهم الحسن الصباح فى قلعة آلموت فى قزوين فى أواسط آسيا. كان الحسن الصباح فى مصر حين توفى الخليفة الفاطمى المستنصر487 . وتدخل الوزير الأفضل ونقل ولاية العهد من نزار الى أخيه الأصغر المستعلى مخالفا عقيدة الشيعة فى كون الامامة بالنّص. ترتب على هذا انقسام التشيع الفاطمى الاسماعيلى الى نزارية ومستعلية. وتزعم الحسن الصباح جبهة المعارضة النزارية مفارقا مصر ، ثم استولى بالحيلة على قلعة آلموت وربّى فيها أتباعه الفداوية أو الفدائيين الانتحاريين، وكان يرسلهم لاغتيال خصومه من السلاطين والخلفاء والوزراء والفقهاء والصليبيين. واستمر الباطنية ينشرون الرعب بين المحمديين والصليبيين الى أن اجتثهم هولاكو أثناء زحفه الى بغداد. وقد استيقظ صلاح الدين من نومه ليجد خنجرا تحت وسادته جاء تحذيرا له من الباطنية. وبسبب شهرتهم فى الاغتيالات السياسية فقد اشتق الصليبيون كلمة الاغتيال من اسم الحشاشين فقالوا (Assasination).

أخيرا : إختراع التصوف السنى بديلا للتشيع فىى مصر

1 ــ كل ذلك كان حاثا لصلاح الدين الأيوبى على مواجهة التشيع فكريا بعد القضاء على الدولة الفاطمية سياسيا.ونجح صلاح الدين فى مواجهة التشيع باختراع مزيج من دينى السنة والتصوف ، هو التصوف السنى.

2 ــوبينما سقطت كل تلك الدول من عباسية وسلجوقية وأيوبية ومملوكية وعثمانية..الخ، فان الذى بقى هو الدين السنى الصوفى أو ما يعرف بالتصوف السنى الذى أرساه صلاح الدين الأيوبى( ت 589 ) ولا يزال دينا للأغلبية من المحمديين حتى الآن .

3 ــ وقبل الدخول فى توضيح التصوف السنى وتوضيح للمسرح السياسى الذى تمت فيه ولادته وانتشاره نعطى فكرة سريعة عن دين التصوف وعلاقته بالاسلام.

 

لمحة عن دين التصوف من بدايته الى سيادته تحت مسمى التصوف السُّنّى

 مقدمة :

1 ـ دين السُّنّة ظهر وتبلور فى ركاب الخلفاء القرشيين يعبّر عن التسلّط والهيمنة والسيطرة والحكم . وظهر وتبلور الدين الشيعى معبرا عن الثقافة الفارسية الشعوبية وحقدها على خلفاء الفتوحات أبى بكر وعمر وعثمان والأمويين ومن إنحاز اليهم ، ومن عادى عليا بن أبى طالب . ثم ظهر ونشأ وتطور دين التصوف يعبر عن عقائد العوام ، من أبناء أهل الكتاب الذين دخلوا فى الاسلام وقد ترسّخ لديهم تقديس البشر والحجر وإسباغ الصفات الالهية عليهم من علم الغيب والتصرّف فى العالم بالمعجزات والكرامات والشفاعة يوم الدين . ولكى يقدس الصوفية أولياءهم من العوام فقد جعلوا كبار الآلهة عندهم هم أبرز الآلهة فى دينى السُّنّة والتشيع ، أى تقديس آل البيت بالمفهوم الشيعى والخلفاء الراشدين وكل الصحابة بالمفهوم السُّنى ، ثم إلحاق أولياء التصوف العوام عن طريق انتحال النسب العلوى ( الأشراف ) .

2 ـ وسبق لنا هنا نشر موسوعة التصوف المملوكى .ونوجز منها إشارات عن التصوف وتطوه.

 أولا : تناقض التصوف مع الاسلام 

1ـ  بداية الاختلاف فى أساس التشريع

 فى الإسلام: أساس التشريع لله جل وعلا وحده، والقرآن الكريم يحكم على النبى والمسلمين.   أما التصوففالشيخ الصوفى هو المشرع لأتباعه حسبما يوجهه هواه أو ذوقه أو حاله ، وهم يضفونعلى ذلك التشريع البشرى سمة الشرعية بدعوى أن الصوفى أوتى الكشف أو العلماللدنى من الله أو الوحى الألهى، مع أنه لا وحى فى الدين بعد اكتمال نزول القرآن .

وأضفاء الوحى وعلم الغيب والمعجزات والشفاعة إلى الشيخ الصوفى معناه تأليهه وعبادته وطلب المدد أو العون منه . وهذا كله لا يكون إلا لله تعالى وحده ، دون النبى محمد نفسه.

2 ـ الاختلاف الرئيس : تأليه الشيخ الصوفى

 فى الاسلام يكون لله وحده علم الغيب والشفاعة والتصريف فى الدنيا والآخرة ، إلا أننا لانجد صوفيا إلا وادعى لنفسه أو لشيخه لوازم التصوف من الولاية والكرامات والعلماللدنى ودعا الآخرين للاعتقاد فيه ، مع أن الاعتقاد لا يكون الا فى الله وحده إلها ووليا مقدسا لا شريك له، نطلب منه وحده جل وعلا المدد والعون .

3 ــ العقيدة هى ذروة الاختلاف بين الإسلام والتصوف

  عقيدة الإسلام لا إله إلا الله ، والله الاله الواحد، لا يشبه أحدا من خلقه ، ولا يشبهه احد من خلقه ( ليس كمثله شىء)  (الشورى 11 )  وصفات ال له لايوصف بها غيره ، فالله واحد فى ذاته ، واحد فى صفاته ، إذا هو أحد متفرد عن باقى خلقه( قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد).

أما عقيدة التصوفالحقيقية فهى (لا موجود إلا الله )  أو ما يعرف بوحدة الوجود والتى تعنى أن العالم جزء من الله، أو أنه هو عين الله ، أو أنّه لا فارق بين الخالق والمخلوق ، وأن الخلق امتداد وفيض من الخالق ، وأن علاقة الخالق والمخلوق  كمثل البحر وأمواجه ، وأن الصوفى الحق هو الذى يدرك ذلك ويهتكالحجاب ويعلن اتحاده بالله أوحلول الله فيه . وبالقطع فهذ العقيدة تناقض عقيدة القرآن .

التصوف والقرآن الكريم ودين السُّنة

1ـ  لفظ التصوف لم يرد فى القرأن الكريم ، اللهم إلا إشارة للرهبنة(57 /27)، وهى  ليست فى صالح المتصوفة الذين يحاولون ربط التصوف بالرهبنة والزهد.

2 ـ ولم يجرؤ مؤلفو الأحاديث المزيفة على كتابة حديث واحد ينسبونه للنبى محمد عليه السلام فيه لفظ التصوف  لعلمهم أن كلمة التصوف لم يعرفها عصر النبى محمد ،فاكتفوا بوضع أحاديث فيها لفظ الفقر والفقراء، حيث كان الفقر من مصطلحات التصوف ويدل عرفا على الصوفية وقتئذ، مع دلالة الفقر على الاحتياج للمال فى كل عصر.

3 ــ وقد ورد لفظ التصوف لأول مرة فى التراث العربى فى كتاب الجاحظ ( البيانوالتبيين). وقد توفى الجاحظ عام 255 هجرية .

4 ــ وقد كان ابن خلدون أقرب للصواب حين قال عن التصوف فى ( المقدمة ) (أنه من العلومالحادثة فى الملة )، وخطأ ابن خلدون فى أنه اعتبر التصوف علما ، وليس التصوف علما حيث لا عقل فيه ولا منهج ، وإنما هو ذوق وهوى، ودين جديد  يخالف الإسلام ، وقدظهر بعده بقرنين .

نوعا التصوف

1- والتصوف نوعان : دينى و فلسفى ، وإذا كان التصوف الدينى يناقض دين الإسلام الذى لا مجال فيه لتقديس غير الله ، فإنالتصوف الفلسفى مرفوض أيضا، لأن الفلسفة الدينية للتصوف  تعزز بالجدل عقائد وحدة الوجود ومقولات التصوف الدينى.

2 ـ  ولأنه دين جديد فقد أدخل التصوف مصطلحات دينية مستحدثة فى الحياة الدينيةللمحمديين لم تكن معروفة من قبل .ومن المصطلحات الدينية الجديدة التى استحدثها دين التصوف : الكرامة ، المريد، المقام ،الوقت  الحال ، القبض ، الصحو والسكر ، الذوق  الشرب ، المحو والإثبات ، الستر والتجلي،المحاضرة والمكاشفة ، الحقيقة والطريقة ، الوارد، الشاهد، السر، المجاهدة ، الخلوة ، الزهد،الولاية ، .. إلخ ، ولكل منها مدلول  فى دين التصوف ، وسطرت فى ذلك الكتب ،وبالطبع هم مختلفون فى معناها وعددها.

وبعض هذ الألفاظ كان مستعملا فى الإسلام بغير ما يقصده الصوفية ، إلا أنهمأولوها وأستحدثوا لها مدلولات جديدة تخرج عن الإسلام مثل (الولى والولاية ).

3 ــ وموضوعات التصوف الدينى والفلسفى  تتمثل فى الشطحات ،وأحوال الفناء والحلولوالاتحاد والتحقق بالحق ، والاشراق ، وهى تخرج عن نطاق الإسلام .

4 ـ عقائد التصوف ثابتة،ولكن التعبير عنها يتراوح بين صراحة بعض الصوفية ،أو نفاق بعضهم ، لذا هناك من أعلن دينه الصوفى معلنابالصريح تأليه نفسه أو أنه جزء من الله أو أنه هو الله أو أن الله تعالى قد حلّ فيه، وهناك من ألمح وقال بالاشارة والرمز، يستوى فى ذلك إذا كان التصوف فى بدايته أو فى أثناء قوته وسطوته.

ثانيا : كيف ظهر دين (التصوف السنى ) وكيف ساد وانتشر ؟

 1 ـ فى فترة حكم المتوكل ومن خلفه حيث تحكم القواد الأتراك ( 232 ـ 334 ) زاد نفوذ الحنابلة ـ وهم أشد السنيين تعصبا ـ وسيطروا علي الشارع ، واضطهدوا المعتزلة وكل من يخالفهم فى الرأى . فى نفس الوقت تكاثر أئمة الكذب على الله تعالى ورسوله ، وتتابعت كتبهم تؤطر للدين السنى بزعم ان ما تكتبه هو وحى سماوى تنسبه للنبى محمد عليه السلام بعد موته بأكثر من قرنين. هذا ما ارتكبه ابن حنبل ت 241 والبخارى 256 ومسلم 261 وأبو داود  275 والترمذى 178 والنسائى 303 وابن ماجه 275 . وقد أصبحوا فى العصور اللاحقة وحتى اليوم آلهة معصومة من الخطأ فى الدين السّنى ، لا يجوز الاقتراب منهم الا بالمدح والتبجيل ، ومصير من ينتقدهم أو يناقشهم هو الاتهام بالكفر بالدين السّنى أو ( انكار السّنة ). ابن حنبل فلم يكن فقيها وانما كان من أصحاب الحديث وكانت مؤلفاته فى الحديث فقط ، وحتى لم يرتبها ترتيبا فقهيا مثلما فعل البخارى ومسلم وغيرهما. ولكن نفوذ الحنابلة جعله اماما فى الفقه واسس له مدرسة فقهية لا تزال سارية، ومنها نبعت الوهابية فى العصر الحديث.

2 ـ وكان التصوف وقتها يخطو خطواته الاولي ،ولكن لاحقت الدولة العباسية اربابه بالمحاكمات ،واشهرها محاكمة سمنون الذي اعتقل فيها كل ارباب التصوف فأظهروا التقية ،الا ان الدولة العباسية قتلت الحلاج سنة309 بسبب صراحته في اعلان عقيدته والشكوك السياسية التي احاطت به ،حيث اتهم بالتشيع والعمل مع القرامطة الثائرين على الدولة العباسية .وكان ذلك في خلافة المقتدر العباسي (295-320)(908 - 932)[ المنتظم13/201].

ظهر التصوف من جيب الساحر الشيعى ، حيث كان معروف الكرخى مسيحيا ثم أسلم وصار شيعيا من أتباع العلويين ثم بدأ يتكلم فى التصوف مبكرا. جاء المتوكل فاضطهد آباء التصوف الأوائل الآتين بعد معروف الكرخى ، وفى ( فتنة سمنون ) اعتقل المتوكل كل أئمة التصوف من مصر ( ذو النون المصرى ) والعراق ( الجنيد ) وغيرهم. وفى أثناء ثورات القرامطة اعتقلت السلطات العباسية الحلاج سنة 301.وبعد جدل سياسى أعدموه سنة 309 .

هذه الهجمة العنيفة على دين التصوف الوليد جعل الجنيد ( سيد الطائفة ) يختفى ويتستر بتدريس الفقه السنى وينهى أتباعه عن مطالعة كتب ( التوحيد الخاص  ـ يعنى التصوف ـ إلا بين المؤمنين به، ). ويقول فى دروسه العلنية( مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة ) ( ومن لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به  فى هذا الأمر) أى لا يصبح شيخا صوفيا. إلا أنه ـ وحسبما ذكر الشعرانى فى ترجمته فى الطبقات الكبرى  كان لا يتكلم فى التصوف الا بين من يثق فيهم من تلامذته وبعد أن يغلق أبواب داره ويضع المفاتيح تحت وركه ويقول : أتحبون أن يكذّب الناس أولياء الله تعالى وخاصّته ويرمونهم بالكفر والزندقة ؟.

 فى نفس الوقت هدم العباسيون ضريح الحسين فى كربلاء واضطهدوا الشيعة وألزموا النصارى واليهود بزى معين للتحقير.هذا هو كشف حساب الدين السنى فى عصر المتوكل وخلفائه.

3 ـ ودفعت الدولة العباسية الثمن سريعا اذ سيطر عليها بنو بويه الشيعة وأذاقوا الخلفاء العباسيين النكال مع انهم كانوا يحكمون باسمهم.

 فى فترة بنى بويه ( 334 ـ 447 ) الكارهين للدين السنى  لم يظهر أئمة فى الدين السنى يتفوقون على أساتذتهم البخارى ومسلم وغيرهم، بل على العكس تشجع الشيعة فى شمال أفريقيا ففتحوا مصرسنة 358  وتحولت الى مركز للدعوة الشيعية. ولم يجد الفاطميون صعوبات كبيرة فى نشر دينهم فى الشام وضمه اليهم ـ وقد كان تابعا للعباسيين ـ اذ كان بنو بويه فى بغداد  لا يمانعون. أى حوصر الدين السّنى بين بنى بويه فى بغداد والفاطميين فى مصر والشام وأجزاء من العراق نفسه. واستفاد التصوف من محنة الدين السنى وغلبة الدين الشيعى فانتشر ونما على المستوى النظرى الفلسفى والمستوى الشعبى الميدانى.

4 ـ ثم تغير الحال لصالح دين السنة بمجىء الأتراك السلاجقة المتعصبين للدين السنى. ولكن فى فترة حكمهم ( 329 ـ 552 ) كان التصوف قد نما و لم يعد بالوسع القضاء عليه. فلم يعد من طريق أمام السنيين الا بالتصالح معه واحتوائه.

5 ـ فى هذه الفترة عاش القشيرى ( 376 ـ 465 ) مهندس ما يسمى بالتصوف المعتدل الذى سار على منوال الجنيد فى التقية. وقد كتب القشيرى رسالته المشهورة فى الدفاع عن التصوف وقام بالهجوم على رعاع الصوفية المنتشرين فى عهده ليسحب البساط من تحت أقدام الحنابلة المتشددين وليقنعهم بمقولة التصوف الملتزم بدين السّنة وفق ما قاله الجنيد من قبل.

وفى مقدمة رسالته هاجم القشيرى جماعات الصوفية فى عهده ورماهم باعتناق عقائد الحلول بالله تعالى و زعمهم اتحادهم به ، واسقاط الفرائض الاسلامية والوقوع فى الزنا والشذوذ على أنها مما يقربهم الى الله زلفى!!. والغريب أنه فى باقى الكتاب يقرر نفس العقائد والسلوكيات بصورة غير مباشرة ومدافعا عن شيوخ التصوف السابقين الذين قالوا نفس الشىء.

وصارت طريقة مرعية لمدعى الاعتدال من الصوفية بعد القشيرى أن يهاجموا المعاصرين من شيوخ التصوف وان يدافعوا عن الشيوخ السابقين وأن يقرروا نفس العقائد والسلوكيات الصوفية فى سطور جانبية أو مؤلفات جانبية يقولون أنها فى علم المكاشفات لا يفهمها الا الواصلون من ( أرباب الحقائق ).

ومن يراجع تاريخ المنتظم لابن الجوزي الفقيه الحنبلى يجد نفوذ الحنابلة نافذا من عهد المتوكل الي أن تقهقر تدريجيا حيث عاش ابن الجوزى نفسه فى القرن السادس الهجرى ليشهد تغير الاحوال واشتداد عود التصوف في مواجهة الحنابلة ،وبعد ان كان الحنابلة يضطهدون التصوف نرى ابن الجوزي يكتب (تلبيس ابليس) يهاجم الصوفية في اكثر ابوابه ويتحسر كيف اصبح فقهاء الحنابلة يدخلون مؤسسات التصوف وكيف اصطلح الذئب الحنبلي علي الغنم الصوفي (تلبيس ابليس :164،166،167.القاهرة ـ بدون تاريخ).

وكان هذا ارهاصا ببداية عهد نفوذ التصوف وولادة ( التصوف السُّنّى )

6 ــ ولادة التصوف السُّنى الفكرية كانت ثمرة لجهد الغزالى ت  505 ، وكان اكبر فقيه وأكبر صوفى فى العصر العباسى السلجوقى. وفى كتابه المشهور(احياء علوم الدين)مزج فيه الفقه ( المعبر عن الدين السنى ) بالتصوف ، وبعثر عقائد التصوف بين سطور الاحياء ، ثم أفرد لها كتابه ( مشكاة الأنوار ) الذى أكد فيه عقائد الحلول والاتحاد ووحدة الوجود. وعلى نفس الطريق سار آخرون كان آخرهم فى القرن التاسع الهجرى ـــ السادس عشر الميلادى ــ عبد الوهاب الشعرانى الذى عاصر نهاية العصر المملوكى وصدرا من العصر العثمانى ( 898 ـ 973 ) وظلت مؤلفاته الكثيرة مهيمنة على عقلية الأزهر طيلة العصر العثمانى.

 نعود للعصر السلجوقى السنى وقد كان أبو حامد الغزالى فيه زعيم الفقهاء والصوفية معا، مع انحيازه للتصوف على حساب الفقه. كان الغزالى مؤمنا بفلسفة الاشراق الاغريقية والتى تعنى فيض العلم اللدنى الالهى على العارف أو الولى الصوفى عن طريق الرياضات الروحية. وهذه الفلسفة الأفلوطينية الحديثة كانت فى صراع مع الفلسفة العقلية لأرسطو. وورث الغزالى عداء الفلسفة الأرسطية وأتباعها من المعتزلة وغيرهم من فلاسفة المسلمين ، وهاجمهم فى كتبه داعيا الى وقف الاجتهاد العقلى وأنه ( ليس فى الامكان أبدع مما كان ) ثم هاجم برفق شيوخ الدين الصوفى الذين يعلنون عقائد الحلول والاتحاد .

هوجم الغزالى بقسوة مما جعله يؤلف كتابه ( اشكالات الاحياء ) ليدافع عن كتابه، إلا إن جهده فى النهاية أسفر عن تقرير التصوف كمبدأ وحصر الانكار على بعض أشخاص من الصوفية المتطرفين. وهذا ما سار عليه شيوخ الدين السنى بعد عصر الغزالى وهم الذين  توارثوا الاحتفاء بالغزالى بعد موته وأطلقوا عليه لقب ( حجة الاسلام ) كما لو أن الاسلام تركه خاتم النبيين محمد عليه وعليهم السلام بلا قرآن وبلا حجة طيلة خمسة قرون الى أن جاء الغزالى.

بالغزالى تمت فى عصر السلاجقة العباسى ولادة ( التصوف السنى ) فكريا وثقافيا، واصبح الدين المستنسخ من التصوف والسنة محتاجا الى رعاية سياسية ليصمد أمام التشيع و دعاته من الفداوية او الباطنية الحشاشين الذين سبقوا عصرهم فى غسيل مخ الأتباع بحيث ينتحر أحدهم طاعة للأوامر.

7 ـ وهنا جاء دور صلاح الدين الأيوبى المتوفى سنة 589، وعلى يديه تمت الولادة السياسية للتصوف السنى.هناك جانبان غامضان فى شخصية صلاح الدين الأيوبى يفسرهما هذا السياق عن الصراع بين دينى السنة والتشيع.

الأول ان صلاح الدين سبق الجميع فى استعمال الحرب الفكرية فى مواجهة الدولة الأيدلوجية التى تقوم على عقيدة معينة ولا يكفى القضاء عليها عسكريا وسياسيا بل لا بد من مطاردة عقائدها الدينية بعقائد أخرى تتداخل معها وتعارضها فى نفس الوقت. الغريب أن من جاء بعد صلاح الدين لم يفعل مثله. الوالى محمد على باشا الذى قضى على الدولة السعودية الأولى عسكريا سنة 1818م اكتفى بذلك وترك العقيدة الوهابية تنمو وتعيد أقامة الدولة السعودية الثانية، ثم الثالثة الحالية. عبد الناصر الذى قضى على الاخوان المسلمين ـ وهم صناعة وهابية سعودية ـ اكتفى بوضعهم فى السجون تاركا الفكر الوهابى حرا طليقا بدون نقاش. مما أسهم فى مساعدة الاخوان حين عادوا فى عصر السادات ، فاستطاعوا فى مدة قصيرة التحكم فى العقلية الدينية وتوجيهها لمصلحتهم. هؤلاء القادة العسكريون من محمد على باشا الى عبد الناصر الى جنرالات الأمريكان فى عصرنا لم يبلغوا عبقرية صلاح الدين الأيوبى فى استعمال الحرب الفكرية ضد عدو سياسى يقوم على دين معين أو يستخدم ايدلوجية معينة.

 الجانب الآخر الغامض فى شخصية صلاح الدين هى تسامحه مع الصليبيين فى حروبه بحيث كان يطلق سراح الأسرى منهم بالآلاف ويعطيهم الفرصة للدخول فى حرب أخرى ضده ، وفى نفس الوقت كان لا يتسامح مع الشيعة او الصوفية المتطرفين .

حين بنى جوهر الصقلى القاهرة لتكون عاصمة للدين الشيعى بنى أيضا الأزهر قاعدة لدين التشيع فى الحرب الفكرية ضد الدين السنى. وبعد الغاء الخلافة الفاطمية انتقم  صلاح الدين الأيوبى لدينه السنى باغلاق الأزهر وانشاء خانقاه سعيد السعداء لتعيد نشر الدين السنى المختلط بالدين الصوفى الصاعد وقتها، واستورد صوفية سنيين وجعل لهم شعائر دينية تجتذب اهتمام المصريين وتبعدهم عن الدين الشيعى .لم يكن هذا حبا فى التصوف بدليل أنه سنة 587 قتل شهاب الدين  السهرودى فيلسوف الاشراق وزعيم التصوف المتطرف. كان هدف صلاح الدين ارساء معالم الدين المستنسخ الجديد المعروف بالتصوف السنى والذى لا مجال فيه لمتطرفى التصوف أو متطرفى الحنابلة فى نفس الوقت.

8 ـ بعد صلاح الدين تم تطبيق الدين الجديد ( التصوف السنى ) بمقولة الجمع بين الحقيقة والشريعة، أى الحرص على وجود (الحقيقة) أو العقيدة الصوفية على أساس أنها خاصة بالعارفين من الأولياء أصحاب العلم اللدنى ، وانه محظور على غيرهم التكلم فيها أو الاعتراض عليها،مع الحرص على (الشريعة ) أى التمسك بالمذاهب الفقهية الأربعة فى الفروع أو العبادات.

وتسامح السنة فى تقديس شيوخ التصوف ( المعتدلين ) واعتبارهم أولياء الله، كما اعترف الصوفية بتقديس أئمة المذاهب الفقهية الأربعة وجعلوا لهم مناقب وكرامات مثل المعهود لشيوخ التصوف. وانضم الى قائمة التقديس آل البيت والصحابة جميعا خلافا للشيعة الذين يقولون بكفر أبى بكر وعمر وعثمان وسائر من يبغضهم الشيعة من كبار الصحابة.

9 ـ انتشار دين التصوف السُّنّى منذ القرن  السادس الهجري

من العوامل التي ساعدت علي انتشار التصوف السنى وتسيده ضعف الحكام وظلمهم وشقاقهم فيما بينهم من سلاجقة وايوبيين الي ان ورثهم المماليك الذين تفوقوا علي الجميع في الظلم والقسوة . وهذا الصنف من الحكام لا يستريح الي فقيه حنبلي يقول له افعل أو لا تفعل ويسيطر على الشارع بحديث ( من رأى منكم منكرا فليغيره ) لأنه لا يعرف سوي العنف والسيف ويريد رجل دين ينافقه ويوافقه وينشر السلبية و( عدم الاعتراض ) والخنوع والخضوع للمستبد ويعتبر ظلمه عقابا الاهيا للرعية . ومن هنا وجد الحكام الظالمون ضالتهم في الصوفية الذين يجيدون فن الدعاء للحاكم وتقعيد اسلوب النفاق له .

وتقرب الصوفية للعوام بكل الطرق فلم يعد التبحر في العلم طريقا للولاية و انما مجرد الادعاء بالعلم اللدني والكرامات يفتح الابواب لكل طموح من العوام ليكون شيخا صوفيا طالما وجد من يصدقه من المريدين والاتباع .

والعوام يجدون لدي التصوف كل ما يريدون اذا صاروا أتباعا للشيوخ الصوفية ، فاصحاب الهوى في الانحلال الطبيعي والشاذ يجدون مسوغا دينيا لدي الصوفية يحل لهم ما يشاءون، وهواة الغناء والرقص يجدون مجالا لهم في الحفلات والموالد الصوفية ، وهواة المآدب والطعام والرحلات يجدون ما يريدون خلال الموالد والنذور والسياحة الصوفية، ثم في النهاية يجد العوام طريقا بسيطا للتدين خلال  ما تعوده اسلافهم وهو تجسيد الاله في قبر مقدس (ضريح ) وفي شيخ مقدس حي او ميت ، ويعتقد انه يدخل الجنة من  خلال علاقته المادية المباشرة بذلك الاله المادي الذي يراه ويلمسه .أما المثقفون من الفقهاء فقد ضعف مستواهم العلمي بقدر ما زاد خضوعهم للسلطة القائمة ورأوا مصلحتهم في مسايرة الوقت.

10 ـ الطرق الصوفية

تحول التصوف النظرى الفلسفى المحصور بين النخبة الي طرق صوفية شعبية متعددة ومتفرعة ومتزايدة، سندها الأساس سلاسل من العهد عبر الشيوخ، يزعمون انها انتقلت الي الشيخ الحالي من السابقين عبر الزمن الي ان تصل الي (علي )ابن ابي طالب ثم الي النبي ثم الي جبريل ثم الي الله تعالي ، وهو نفس النسق الذي اعتمده الدين السني في تزييف  الاحاديث عبر سلاسل الرواة من شيخ معاصر الي النبي او الي الله تعالي في الحديث القدسي .

وادت كثرة الطرق الصوفية وتشعبها وسهولة تكوينها الي ان انتظم في سلك التصوف الجميع بالاعتقاد او بالاسترزاق من العوام والفلاحين الي الفقهاء والامراء والسلاطين، واصبح التصوف هو الدين الواقعي المتسلط في بلاد ( المسلمين ) وحل فى المركز الأول محل الدينين السني والشيعي .

11 ــ سطوة التصوف السُّنّى على دين السُنّة

وإذا كان التصوف في حقيقته ابنا للتشيع متفقا معه في الأساسات وبعض الشكليات وتقديس الأئمة من آل البيت فانه لم يضف جديدا للدين الشيعي، ولكنه حين ساد في عالم الدين السني فانه في الحقيقة سلب الدين السني ابرز خصائصه، واصبح مصطلح السنة مجرد شعار سياسي تتمسك به الدولة المملوكية التي تأخذ شرعيتها السياسية من وجود خليفة عباسي ضمن حاشية السلطان بعد تدمير الدولة العباسية علي يد المغول. ومن هنا أصبح مصطلح السنة مجرد واجهة تواجه بها الدولة المملوكية اعداءها الشيعة ، بالاضافة الى انهم جعلوا السنة خاصة بالعبادات أو" الشريعة " مقابل " الحقيقة " أى  العقائد الصوفية من الحلول والاتحاد ووحدة الوجود التى تناقض عقيدة الاسلام .

عقائد السنة التي فهمها ائمة الفقه السني تخالف عقائد التصوف ، بل ان ائمة الفقه السني الذين شهدوا بدايات التصوف انكروا عليه مثل الشافعي وابن حنبل ، واكثر من هذا حارب الحنابلة اللاحقون التصوف في ما بين القرن الثالث الي الخامس من الهجرة .ولكن أتيح للتصوف فى العصر المملوكى أن يتسيد الحياة الدينية للمحمديين ، وهذا ما سنتوقف معه فى الفصل التالى.

 

نماذج تاريخية واقعية للأديان الأرضية فى العصر العباسى

 مقدمة :

1 ـ ما نسميه بالديانات الأرضية كانوا يسمونه ( الملل والنحل ) . وهو باب للّاهوت ، أو ما أطلق عليه فيما بعد ( علم التوحيد ) أو ( أصول الدين ) ، وهو الذى يبحث فى العقائد والاختلافات فيها ، والتى تشعبت وتأسست عليها أديان أرضية أو على حد قولهم ( ملل ونحل )

2 ـ أول من كتب فى الملل والنحل هو الامام أبو الحسن الأشعرى  ت 330 فى كتابه المشهور ( مقالات الاسلاميين وإختلاف المُصليين ) ، ثم تبعه أبو الحسين محمد بن احمد الملطى  ت 377 . ثم كتب الامام ابن حزم الظاهرى الاندلسى ت 456 كتابه ( الفصل فى الملل والأهواء والنحل ) وتابعه الشهرستانى ت 548 فى كتابه ( الملل والنحل ) .

أولئك كانوا من السنيين ، كتبوا عن ملتهم السُنية يناضلون عنها كما كتبوا عن ملل وأديان غيرهم ينقدونها . ولم يتيسر لنا أن نتعرّف على صحّة نقلهم لآراء خصومهم . ربما يقوم بذلك باحثون من الشباب .

3 ـ ونعطى نماذج تاريخية واقعية للأديان الأرضية فى العصر العباسى من خلال كتاب( التنبيه والرد ) للملطى فى القرن الرابع الهجرى عن أشهر الأديان الثلاثة فى عصره فى كتابه ( التبيه والرد على أهل الأهواء والبدع )، والمؤلف :- محمد بن أحمد بن عبدالرحمن. فقيه شافعى من رواة الحديث . توفى فى عسقلان سنة 377 هـــ . والكتاب :- من أقدم المصادر فى أحوال الفرق والنحل والملل ، وذكر ما لم تذكره باقى كتب الملل والنحل ، ومنهجه أنه يذكر الفرقة وآرائها ومعتقداتها ويرد عليها من خلال دينه السنى . وواضح أنه ينقل آراء تلك الملل من الشائع فى عصره عنهم سواء من أدلتهم وتأويلاتهم أو مما يمارسونه من سلوكيات مرتبطة بمعتقداتهم .

أولا : 

يقول الملطى عن عقيدة دين السنة: 

( قال محمد بن عكاشة رحمه الله : أن معاوية بن حماد الكرماتى ، عن الزهرى قال ( من اغتسل ليلة الجمعة وصلى ركعتين قرأ فيهما : ( قل هو الله أحد ) ألف مرة رأى النبى صلى الله عليه وسلم فى منامه . قال محمد بن عكاشة قدمت عليه ليلة جمعة  أصلى الركعتين أقرأ فيهما أقرأ فيهما ( قل هو الله أحد ) ألف مرة طمعا أن أرى النبى صلى الله عليه وسلم فى منامى فأعرض عليه هذه الأصول، فأتت على ليلة باردة فاغتسلت وصليت ركعتين ثم أخذت مضجعى فأصابنى حلم ، فقمت ثانية وصليت ركعتين ، وفرغت منهما تقريبا قبل الفجر فاستندت إلى الحائط ووجهى إلى القبلة إذ دخل على النبى صلى الله عليه وسلم ووجهه كالقمر ليلة البدر ، وعنقه كأبريق فضة فيه قضبان الذهب على النعت والصفة ، وعليه بردتان من هذه البرود اليمانية قد إتزر بواحدة وارتدى بأخرى ، فجاء واستوفز على رجله اليمنى وأقام اليسرى ، فأردت أن أقول : حياك الله فبادرنى وقال : حياك الله ، وكنت أحب أن أرى رباعيته ـ أى سنته الرابعة ـ المكسورة فتبسم فنظرت إلى رباعيته فقلت يا رسول الله إن الفقهاء والعلماء قد اختلفوا ..وعندى أصول السنة أعرضها عليك فقال: نعم ، فقلت :- الرضا بقضاء الله والتسليم لأمر الله والصبر على حكم الله، والأخذ بما أمر الله والنهى عما نهى الله عنه والإخلاص بالعمل لله ، والإيمان بالقدر خيره وشره من الله ، وترك المراء والجدال والخصومات فى الدين ، والمسح على الخفين ، والجهاد مع أهل القبلة ، والصلاة على من مات من أهل القبلة سنة ، والإيمان يزيد وينقص قول وعمل ، والقرآن كلام الله، والصبر تحت لواء السلطان على ما كان فيه من جور وعدل ، ولا يخرج على الأمراء بالسيف وإن جاروا ، ولا ينزل أحد من أهل التوحيد جنة ولا نارا ، ولا يكفر أحدا من أهل التوحيد بذنب وإن عملوا الكبائر ، والكف عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. فلما أتيت : والكف عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بكى حتى علا صوته – وأفضل الناس بعد رسول الله أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علىّ ، قال محمد بن عكاشة : فقلت فى نفسى:" علىّ إبن عمه وختنه" فتبسم عليه السلام كأنه علم ما فى نفسى. قال محمد:قدمت ثلاث ليا متواليات أعرض عليه هذه الأصول، وعيناه تهملان بالدموع قال : فوجدت حلاوة فى قلبى وفمى فمكنت ثلاث ليال لا آكل طعاما  ولا أشرب شرابا حتى ضعفت عن صلاة الفريضة فلما أكلت ذهبت تلك الحلاوة ، وكفى بالله شهيدا )) التنبيه والرد : 15-17

التعليق :-

هنا نرى الملطى يدافع عن دينه السنى بالإسناد والوحى الكاذب ؛ فهو يروى روايه يذكرها عن محمد بن عكاشة الذى يقول أنه أخبره معاوية بن حماد الكرمانى الذى يروى عن الزهرى ثم يزعم الزهرى أن من أغتسل ليلة الجمعة وصلى ركعتين يقرأ فيهما ألف مرة سورة " قل هو الله أحد " يستطيع أن يرى النبى محمد فى منامه . وقد فعل محمد بن عكاشة ذلك فرأى النبى فى المنام ، فسأله عن أصول دين أهل السنة وأخذ منه الإجابة .وبذلك الإسناد فى الرواية وبالمنام الذى يتضمن وحيا جاء من النبى يقيم محمد بن عكاشة والملطى أسس الدين السنى .وأسس الدين السنى بهذا تستند ليس إلى  القرآن الكريم . فلم يرد فيما قاله الملطى  آية قرآنية، ولكنها تقوم ردا على الأديان الأخرى مستندة على أكاذيب منسوبة للنبى محمد على أنه قالها لأحدهم فى المنام .

وبالنظرة السريعة إلى أصول السنة نراها ردا على القدرية والمعتزلة والخوارج والشيعة ..

القدرية كانوا يقولون بمسئولية الإنسان على أفعاله الظالمة حتى لا يتحجج الحاكم بأن الظلم الذى يرتكبه قد أراده الله تعالى وقدره سلفا .ويرد الملطى عليهم بأن أصول السنة هى " الرضا بقضاء الله والتسليم لأمر الله تعالى والصبر على حكم الله ... والإيمان بالقدر خيره وشره من الله " وبناءا عليه فإن أى ظلم يقع لابد من التسليم به لأنه من الله .ثم يؤكد على براءة السلطان من الظلم ويأمر بالصبر " تحت لواء السلطان على ما كان فيه من جور وعدل ولا يخرج على الأمراء بالسيف وإن جاروا." والواضح هنا أن دين السنة يعبر عن السلطان الظالم الحاكم.

وفى الرد على الخوارج يقول: " النهى عن الخروج على السلطان مهما بلغ جوره . وعدم تكفير المسلم العاصى الذى يرتكب كبائر الذنوب "

وفى الرد على الشيعة " النهى على سب الصحابة ويؤكد على أفضلية الصحابة وفق ترتيب الخلفاء الراشدين بأن يكون ( علىً ) فى المؤخرة وتفضيل ( عثمان ) عليه .

ولا ينسى أن يجعل من أسس الدين السنى المسح على الخفين ( الحذاء ) وهو ابتداع جديد جاء به التشريع فى الدين السنى ولم يرد فى القرآن الكريم .

ثانيا :

ويقول الملطى عن التشيع وطوائفه ويسميهم الرافضة وأهل الضلال :

(إن أهل الضلال الرافضة ثمانى عشر فرقة يتلقبون بالإمامية . وأنا أذكرها إن شاء الله على رتبها:

فأولهم الفرقة الغالية من السبئية وغيرهم ، وهم أصحاب عبدالله بن سبأ ، قالوا لعلى عليه السلام : أنت أنت . قال . ومن أنا ؟ قالوا : الخالق البارىء، فاستتابهم فلم يرجعوا ، فأوقدوا لهم نارا ضخمة وأحرقهم ،وقال مرتجزا :

لما رأيت الأمر أمرا منكرا                       أججت نارى ودعوت قنبرا

فى أبيات له عليه السلام ، وقد بقى منهم إلى اليوم طوائف يقولون ذلك .. ...

وهم يقولون  إن عليا ما مات ولا يجوز عليه الموت ، وهو حى لا يموت.

والفرقة الثانية من السبئية يقولون أن عليا لم يمت وإنه فى السحاب ، وإذا نشأت سحابة بيضاء منيرة صافية موعدة قاموا إليها يبتهلون ، ويتضرعون ويقولون " لقد مر بنا عليّ فى السحاب ".

والفرقة الثالثة من السبئية هم الذين يقولون ، إن عليا قد مات ، ولكن يبعث يوم القيامة ويبعث معه أهل القبور حتى يقاتل (المسيح )الدجال ويقيم العدل والقسط فى العباد والبلاد ، وهؤلاء لا يقولون إن عليا هو الله ولكن يقولون بالرجعة .

والفرقة الرابعة من السبئية يقولون بإمامة على ، ويقولون : هو فى جبال رضوى حى لم يمت ويحرسه على باب الغار الذى هو فيه تنين وأسد، وإنه صاحب الزمان يخرج ويقتل المسيح الدجال ويهدى الناس من الضلال ويصلح الأرض بعد فسادها .

الفرقة الخامسة : هم القرامطة ،والديلم ، وهم يقولون ، إن الله نور علوى لا تشبههة الأنوار ولا يمازجه الظلام ،وأنه تولد من النور العلوى النور الشعشانى فكان منه الأنبياء والأئمة فهم بخلاف طبائع الناس ، وهم يعلمون الغيب ويقدرون على كل شيىء ولا يعجزهم شيىء ويقهرون ولا يُقهرون ويعلمون ولا يُعلّمون ، ولهم علامات ومعجزات وآمارات ، ومقدمات قبل مجيئهم وظهورهم وبعد ظهورهم يُعرفون بها ، وهم مباينون ( مختلفون ) لسائر الناس فى صورهم وأطباعهم ، وأخلاقهم وأعمالهم . وزعموا أنه تولد من النور الشعشانى نور ظلامى وهو النور الذى تراه فى الشمس والقمر والكواكب والنار والجواهر الذى يخالطه الظلام ، وتجوز عليه الآفات والنقصان ، وتحل عليه الآلآم والأوصاب ، ويجوز عليه السهو والغفوات والنسيان والسيئات والشهوات والمنكرات ، غير أن الخلق كله تولد من القديم البارىء وهو النور العلوى الذى لم يزل ولا يزال ولا يزول سبب الحوادث وأبدع الخلق من غير شيىء كان قبله ..فيصفون الله عز وجل كما يصفه الموحدون مع قولهم أنه نور لا يشبه الأنوار. ثم يزعمون أن الصلاة والزكاة والصيام وسائر العبادات نافلة وليست فرضا.. وزعموا أنه لا جنة ولا نار ، ولا بعث ولا نشور ، وأن من مات بلى جسده ، ولحق روحه بالنور الذى تولد منه حتى يرجع كما كان .وقوم منهم يقولون بتناسخ الروح .وزعموا أن كل ما ذكر الله عز وجل فى كتابه من جنة ونار وحساب وميزان وعذاب ونعيم فإنما هو الحياة الدنيا فقط من الأبدان الصحيحة  والألوان الحسنة والطعوم اللذيذة والروائح الطيبة والأشياء المبهجة التى تنعم بها النفوس . والعذاب هو الأمراض والفقر والآلآم والأوصاب وما تتأذى بها النفوس. وهذا عندهم الثواب والعقاب على الأعمال. وهم يقولوا بالناسوت فى اللاهوت على قول النصارى سواء ، يزعمون أن الإنسان هو الروح فقط وأن البدن هو مثل الثوب الذى هو لابسه فقط ، ويزعمون أن كل ما يخرج من جوف واحد منهم من مخاط ونخاع ورجيع وبول ونطفة  ومذى ودم وقيح وصديد وعرق فهو طاهر ونظيف ، حتى ربما أخذ بعضهم من رجيع ( براز ) آخر وأكله لعلمه أنه طاهر ونظيف . وزعموا أن من قال بهذا القول واعتقد هذا المذهب فهو مؤمن ونساؤهم مؤمنات محقنوا الدماء محقنوا الأموال ، ومن خالفهم فى قولهم واعتقادهم فهو كافر مشرك حلال الدم والمال والسبى. ويسمى بعضهم بعضا المؤمنين والمؤمنات. وزعموا أن نساء بعضهم  حلال لبعض ، وكذلك أموالهم وأبدانهم مباحة من بعضهم لبعض لا تحظير بينهم ولا منع ، فهذا عندهم محض الإيمان ، حتى لو طلب رجل منهم من أمرأة نفسها أو من رجل أو من غلام فامتنع عليه فهو كافر عندهم خارج من شريعتهم ، وإذا أمكن من نفسه فهو مؤمن فاضل. والمفعول به من النساء والرجال أفضل عندهم من الفاعل ، حتى يقوم الواحد منهم من فوق المرأة التى لها زوج .. فيقول لها طوباك يا مؤمنة ، وهكذا يقول للرجل والغلام إذا أمكن من نفسه. وكذلك أموالهم وأملاكهم لا يحظرونها ومن بعض على بعض مباحة بينهم. وهم فى الحرب لا يدبرون حتى يقتلوا، ويقولون : حياة بعد القتل والموت إنا نخلص أرواحنا من قذر الأبدان وشهواتها ونلحق بالنور. وهم يرون قتل من خالفهم، لا يتحاشون من قتل الناس، وليس عندهم فى ذلك شيىء يكرهونه، فأما شرب الخمر والمنكر والملاهى وسائر ما يفعله العصاة فهو عندهم شهوات إن شاء فعلها وإن شاء تركها ولا يرون فيها وعيدا ولا فى تركها ثوابا ..

والفرقة السادسة : هم أصحاب التناسخ وهم فرقة من هؤلاء الحلولية يقولون أن الله عز وجل نور على الأبدان والأماكن، وزعموا أن أرواحهم متولدة من الله القديم وأن البدن لباس لا روح فيه ولا ألم عليه ولا لذة فيه، وأن الإنسان إذا فعل الخير ومات صار روحه الى حيوان ناعم مثل فرس وطير وثور .. يتنعم فيه ثم يرجع إلى بدن الإنسان بعد مدة ، وإذا كان نفسا خبيثة شريرة ومات، صارت روحة فى بدن حمار أو كلب أجرب يعذب فيه بمقدار أيام عصيانه ثم يرد إلى بدن الإنسان ، ولم تزل الدنيا هكذا ، ولا تزال تكون هكذا ..

وأما الفرقة السابعة من الحلولية فهم الذين يقولون : أن الله تبارك وتعالى بعث جبريل إلى علىّ فغلط جبريل وذهب إلى محمد عليه السلام فاستحيا الرب وترك النبوة فى محمد صلى الله عليه وسلم وجعل عليا وزيره والخليفة بعده .

والفرقة الثامنة من الحلولية زعموا أن محمدا وعليا شريكان فى النبوة وأن الرسالة إليهما وأن طاعتهما ومعصيتهما واحد لا فرق بينهما، وأن عليا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم. والفرقة التاسعة : هم المختارية الذين يقولون بنبوة المختار بن أبى عبيدة ، وينحون نحو التناسخية من الحلولية..

والفرقة العاشرة هم السمعانية الذين يقولون بنبوة ابن سمعان وينحون نحو التناسخ أيضا .والفرق الحادية عشر : هم الجارودية ، وهم الغالية والتناسخية ، لا يفصحون بالغلو ، ويقولون أن الله عز وجل نور وأرواح الأئمة والأنبياء منه متولدة ، وينحون نحو التناسخ ، ولا يقولون بإنتقال الروح من جسد إنسان إلى جسد غير إنسان بل يقولون بإنتقال الروح من جسد إنسان ردىء إلى جسد إنسان ..ممرض فتعذب فيه مدة بما عمل من الشر والفساد ثم تنتقل إلى جسم متنعم قتنعم فيه طول ما بقيت فى الجسد الأول ..

الفرقة الثانية عشر من الإمامية : هم أصحاب هشام بن الحكم يعرفون بالهشامية وهم الرافضة الذين روى فيهم الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يرفضون الدين ، وهم مشتهرون بحب علي رضى الله عنه فيما يزعمون ..وهم أيضا ملحدون ، لأن هشاما كان ملحدا دهريا ، ثم انتقل إلى الثنوية والمانية ( نسبة الى مانوى  الفارسى ) ..فزعم هشام لعنه الله أن النبى عليه الصلاة والسلام نص على إمامة علىّ فى حياته بقوله "" من كنت مولاه فعلىّ مولاه "" وقوله لعلىّ " أنت منى بمنزلة هارون مون موسى إلا أنه لا نبى بعدى " وبقوله "" أنا مدينة العلم وعلىّ بابها "" وبقوله لعلىّ: " تقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله "" وأنه وصىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته فى ذريته وهو خليفة الله فى أمته ، وأنه أفضل الأمة وأعلمهم ، وأنه لا يجوز عليه السهو ولا الغفلة ولا الجهل ولا العجز، وأنه معصوم، وأن الله عز وجل نصبه للخلق إماما لكى لا يهملهم وأن المنصوص على إمامته كالمنصوص على القبلة وسائر الفرائض ، وأن الأمة بأسرها من الطبقة الأولى بايعوا أبا بكر الصديق رضى الله عنه فكفروا وارتدوا وزاغوا عن الدين، وأن القرآن نسخ وصعد به للسماء لردتهم ، وأن السنة لا تثبت بنقلهم إذ هم كفار ، وأن القرآن الذى فى أيد الناس قد ..وضع أيام عثمان ، وأحرق المصاحف التى كانت قبل، وأن الأمة قد داهنت وغيرت وبدلت ونافقت لأحقاد كانت لعلىّ فيهم من قتله آبائهم وعشيرتهم مع النبى صلى الله عليه وسلم فى غزواته، وأن أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعائشة رضى الله عنهم أجمعين عندهم من شر الأمة وأكفرهم يلعنونهم ويتبرؤن منهم، وأنه ما بقى مع على عليه السلام إلا أربعة : سلمان وعمار وأبو ذر والمقداد بن الأسود ، وأن أبا بكر مر بفاطمة بنت النبى محمد  عليه السلام فرفس فى بطنها فأسقطت وكان سبب علتها وموتها ، وأنه غصبها ضيعة "فدك".فذكر أشياء كثيرة مما كاد بها الإسلام من المخاريق والأباطيل والزور التى لا تجوز عند العلماء ولا تخفى إلا على أهل العمى والغباء ، وأنه ليس لله حجة على خلقه فى الدين والشريعة فى كتاب ولا سنة ٍولا إجماع إلا من قبل الإمام الذى اختصه الله لدينه على كتمان ، وتقية ، وإخفاء ..فأباح بهذا القول المحارم وأطلق كل محذور ، إذ لا حجة لأحد بزعمه فى حلال أو حرام مع أشياء كثيرة يطول ذكرها من نحو هذا الكلام ٍالذى فيه هدم الدين .

والفرقة الثالثة عشر من الأمامية هم الإسماعيلية ، يتبرؤون ( أى يتبرءون من أبى بكر وعمر وعثمان ومعاوية ..الخ )ويتولون ( أى يناصرون ويقدسون عليا وذريته )، ويقولون بكفر من خالف عليا ، ويقولون بإمامة الأثنى عشر(إماما) ويصلون الخمس ويظهرون التنسك والتأله والتهجد والورع ولهم سجادات وصفرة فى الوجوه وعمش فى أعينهم من كثرة البكاء والتأوّه على المقتول فى كربلاء : الحسين بن على ورهطه ، رضى الله عنهم ويدفعون زكاتهم وصدقاتهم إلى أئمتهم، ويتحنئون بالحناء ويلبسون خواتمهم فى أيمانهم ويشمرون قمصانهم وأرديتهم كما تصنع اليهود .. وينوحون على الحسين عليه السلام ، واعتقادهم العدل والتوحيد والوعيد وإحباط الحسنات مع السيئات ويكبرون على جنائزهم خمس ويأمرون بزيارة قبور السادة .

والفرقة الرابعة عشر من الأمامية . هم أهل قم : قولهم قريب من قول الإسماعيلية غير أنهم يقولون بالجبر والتشبية، يجمعون بين الظهر والعصر فى أول الزوال ، وبين  المغرب والعشاء فى جوف الليل آخر وقت المغرب عندهم ، ويصلون صلاة الفجر بين طلوع الفجر الأول ..ويمسحون فى الوضوء بالماء على ظهور أقدامه وأسفلها ، ولهم طعن على السلف وشتم عظيم حتى يبلغ الواحد منهم أن يأخذ شيئا ..يحشوه تبتا أو صوفا يسميه أبا بكر ، وعمر ، وعثمان رضى الله عنهم ويضربه بالعصى حتى يهريه ليشفى فى ذلك ما فى قلبه فى الغل للذين آمنوا، مع أشياء يقبح ذكرها من مذاهبهم ..

والفرقة الخامسة عشر هم الجعفرية يشبه قولهم قول الإسماعيلية.

والفرقة السادسة عشر : القطعية العظمى : الذين يقطعون على محمدا وعليا عليهما السلام ويقولون قول الجعفرية ويتبرءون ويتولون .( أى يقطعون الامامة بعد محمد وعلى )

والفرقة السابعة عشر القطعية القصرى : الذين يقطعون على الرضا ويقولون لا إمام بعده رضى الله عنه ، ويقتدون بمن قبلهم من أخوانهم القطعيه العظمى فى جميع مذاهبهم .

والفرقة الثامنة عشر هم الزيدية : أصحاب زيد بن على رضى الله عنهما وهم أربع فرق :فالأولى من الزيدية أعظمهم قولا وهم الذين يكفّرون الصدر الأول وسائر من ينشؤا أبدا إذا خالفهم، ويرون السيف والسبى واستهلاك الأموال وقتل الأطفال واستحلال الفروج ( يعنى استحلال السبى واغتصاب نساء من يخالفهم فى الدين والملة )، وليس فى الإمامية أكثر ضررا منهم فى الناس ، إنما هو بقدر ما يخرج الواحد منهم يضع السيف والحريق والنهب والسبى ولا يقصدون ولا يرعون، وكان منهم علي بن محمد صاحب البصرة سبى العلويات والهاشميات والعربيات وباعهن مكشفات الرؤوس بدرهم وبدرهمين وأفرشهن الزنوج والعلوج واستباح دماء المسلمين وأموالهم واهراق الدماء وقتل الأطفال وأحرق المصاحف  والمساجد وكان يقول ( لا يلدوا إلا فاجرا كفارا ) وكان يستحل كل ما حرم الله .( يقصد صاحب ثورة الزنج فى العصر العباسى )

والفرقة الثانية من الزيدية : يكفرون السلف ويتبرؤن ويتولون ولا يرون السيف ولا السبى ولا استحلال الفروج ولا الأموال .

والفرقة الثالثة من الزيدية يقولون أن الأمة ولت أبا بكر رضى الله عنه إجتهادا لا عنادا وقصدوا فأخطأوا فى الإجتهاد وولوا مفضولا على فاضل فلا شيىء عليهم وإنما أخطأوا فى ذلك ولم يتعمدوا فقالوا بالنص ولم يتبرأوا ولم يكفروا أحدا .. يظهرون زهدا وعبادة وخيرا ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقولون بالعدل والتوحيد والوعيد .

والفرقة الرابعة من الزيدية هم معتزلة بغداد .. يقولون بإمامة المفضول على الفاضل ويقولون أن عليا عليه السلام أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسبقه بالفضل أحد من الأئمة ، وزعموا أن إمامة المفضول على الفاضل جائزة لما ولى النبى صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص على فضلاء المهاجرين والأنصار فى غزوة ذات السلاسل..)

( 18ـ 19 )  ( 32: 34 ) (156 – 164 )

التعليق

اهتم الملطى بتتبع الشيعة وسائر طوائفهم، فكرر الكلام عنهم فى أكثر من موضع فى كتابه، ولكنه تحامل عليهم أكثر من غيرهم ،يبدو هذا من غيظه من هشام بن الحكم وفرقته مع أنهم أقل تطرفا من بقية طوائف الشيعة فى الاعتقاد وسفك الدماء، والسبب هو أن هشام تخصص فى الهجوم على أعلام الصحابة وتزييف الأحاديث والأحداث مستعملا طريقة السنيين فى تدعيم الرأى.

كما أن الملطى أضاف للشيعة قائد حركة الزنج، ولم يكن شيعيا ، ولكنه سفاح مغامر ارتدى التشيع غطاء لحركته العسكرية ثم تحول عنه سريعاالى مذهب الخوارج ، ولأنه ليس شيعيا فقد كان يقتل المنتسبين لذرية علىّ  ويبيح لجنده من الزنوج وغيرهم اغتصاب واسترقاق النساء العلويات وبيعهن بأرخص الأثمان.

الغريب ان الملطى يضيفه الى الزيدية. والزيدية هم أكثر الشيعة اعتدالا وهم ينتمون الى زيد بن على زين العابدين بن الحسين، وهو الذى ثار على الأمويين فخذله ـ كالعادة ـ أتباعه العراقيون ففشلت ثورته وقتله الأمويون فى خلافة هشام بن عبد الملك.

مع ذلك فان الملطى توسع فى تفصيلات عقائد الشيعة فى عصره، والتى تردد المعتقدات الفارسية القديمة من وجود الاهين أحدهما للنور والخير والآخر للظلام والشر.والتبرؤ من أعداء علىّ وموالاة على ّ وبنيه ـ والذى يتحدد به دين التشيع ـ هو أيضا صورة من العقيدة الفارسية فى وجود اله الخير واله الشر، فقد جعلوا عليا اله الخير الذى يجب موالاته كما جعلوا آلهة الشر والظلام متجسدين فى ابى بكر وعمر وعثمان ومعاوية ..الخ. وهى أيضا رؤية قومية فارسية ، لأن أبابكر وعمر وعثمان هم الذين دمروا امبراطورية الفرس الكسروية واحتلوا بلادهم واستعبدوا أهاليهم.

بعد المسح الذى أجراه الملطى لطوائف الدين الشيعى فى القرن الرابع الهجرى اندثرت فيما بعد بعض الطوائف التى ذكرها وبقيت أخرى مثل زيدية اليمن والاثناعشرية الامامية فى ايران والدرزية فى لبنان وفلسطين،وأتباع أغاخان الاسماعيلية فى الهند وأوربا وأمريكا. واستجدت فرق شيعية مثل النصيرية العلوية الحاكمة الآن فى سوريا ، وخرجت عن التشيع طوائف مثل البابية والبهائية.

ثالثا :

وقال الملطى عن الصوفية وقد سماهم : الروحانية

( وهم أصناف ، وأنما سموا الروحانية لأنهم زعموا أن أرواحهم تنظر إلى ملكوت السموات  وبها يعاينون الجنان ويجامعون الحور العين. ..

ومنهم صنف من الروحانيين زعموا أن حب الله يغلب على قلوبهم ، وأهوائهم ، وأرادتهم حتى يكون حبه أغلب الأشياء عليهم ، فإذا كان منزلته عندهم كانوا عنده بهذه المنزلة ، ووقعت عليهم الخلة من الله فجعل لهم السرقة والزنا وشرب الخمر والفواحش كلها على وجه  الخلة التى بينهم وبين الله لا على وجه الحلال ولكن على وجه الخليل كما يحل للخليل الأخذ من مال خليله بغير أذنه . منهم رباح وكليب كانا يقولان بهذ المقالة ويدعوان إليها .

ومنهم صنف من الروحانية زعموا : أنه ينبغى للعباد أن يدخلوافى مضمار الميدان حتى يبلغوا إلى نهاية السبقة من تضمير أنفسهم وحملها على المكروه، فإذا بلغت تلك الغاية أعطى نفسه كل ما تشتهى وتتمنى .. منهم ابن حيان كان بقول هذه المقالة .

ومنهم صنف يقولولون : عن ترك الدنيا إشغال للقلوب وتعظيم للدنيا ومحبة لها ولما عظمت الدنيا عندهم تركوا طيب طعامها ولذيذ شرابها ولين لباسها ..فأشغلوا قلوبهم بالتعلق بتركها .. حتى لا يشغل القلب بذكرها ، ويعظم عنده ما ترك منها ( ورباح وكليب ) كانا يقولان هذه المقالة .

ومنهم زعم ان الزهد فى الدنيا هو زهد فى الحرام فأما الحلال فمباح لهذه الأمة من أطايب الطعام ....وإن الأغنياء أفضل منزلة عند الله من الفقراء لما أعطوا من فضل أموالهم ، وفضول من نوائب حقوقهم وأدركوا من منتهى رغباتهم) . (93-94 )

التعليق:

اهتم الملطى اكثر بالتشيع والمعتزلة والقدرية، وواضح فى كتابه إلمامه بمقولاتهم واهتمامه بالرد عليهم من واقع رؤيته لدينه السنى. إلا إنه لم يكن على دراية بالتصوف فى عصره، ، لذلك نرى الملطى يسمى الصوفية الروحانية ، ولا يذكر أحدا من شيوخ الصوفية المشهورين فى عصره مع إن عصره حفل بأعلام التصوف وروّاده الأوائل.

أكثر من ذلك أنه خلط بين الزهد والتصوف وجعل الزهاد ضمن الصوفية، مع وجود فوارق أساسية بين الفريقين فى العقائد والسلوكيات والطقوس الدينية.

وقد يكون للملطى عذر فلم يكن التصوف قد دخل دور الانتشار بعد، ولم تكن صورته قد إتضحت بمثل ما إتضحت معالم التشيع والسنة وبقية الفرق والملل والنحل.

هذا ..

وقد ذكر الملطى تفاصيل عن آراء الخوارج واشهر طوائفهم . ولم نعرض لما قاله عنهم لأنه لم يكن لهم تأثير فى عصر الملطى .

لمحة تاريخية عن نشأة وتطورأديان المحمديين الأرضية : ج1 : من الخلفاء الراشدين الى العثمانيين
هذا الكتاب :
تمت كتابته الأولية عام 2006 ، وتأخر نشره ، وكان بذرة لآبحاث متخصصة تم نشرها فيما بعد مثل ( وعظ السلاطين ) و ( المسكوت عنه من تاريخ الخلفاء الراشدين ) و ( الفتنة الكبرى الثانية ) و ( مذبحة كربلاء ) و ( الحنبلية أم الوهابية وتدمير العراق فى العصر العباسى الثانى ) . بالإضافة الى كتاب لم يكتمل عن مسلسل الدم فى عصر الخلفاء وتقسيم العالم الى معسكرين . هذا الكتاب يقدم لمحة عن الأرضية التاريخية التى نبعت فيها الأديان الأرضية المحمدية من سنة وتشيع وتصوف .ونقسمه الى جزئين : الأول عن عصر الخلفاء من الراشدين الى العثمانيين . والآخر عن نشأة وإنتشار الدين الوهابى الحنبلى السنى الذى ينشر التدمير فى العالم اليوم حاملا إسم
more