رقم ( 8 )
سابعا :التراث المقدس وغير المقدس

سابعا :التراث المقدس وغير المقدس
ما سبق ينصب اساسا على التراث السنى الذى اسنده رواة السنة للنبى (صلى الله عليه وسلم )فأصبح ذلك التراث السنى دينا مقدسا.
الا ان الشيعة لهم ايضا تراثهم المقدس الذى اسندوه للنبى (صلى الله عليه وسلم)والى على وذريته واصحاب القداسة عندهم من الائمة .واصبح ذلك التراث ايضا دينا مقدسا مخالفا للاسلام ولكن يقف فى موقع الخصومة للتراث السنى المقدس ـ لدى السنيين ـ بسبب الخلاف السياسى العقدى والحركى.


ثم جاء التصوف ابنا للتشيع متخففا من طموحاته السياسية ومن الطعن فى كبار الصحابة ، فأعرض عن السند ،ولم يهتم باختراع سلسلة الرواة .اذ يقوم التصوف فى عقيدته على الاتحاد بالله وحلول الذات الالهية فى نفس الشيخ الصوفى ،وحين تشرق انوار المعرفة الالهية فى داخله ـ بزعمهم ـ ينطق بالعلم اللدنى ،وحينئذ فليست هناك حاجة للرواة لانه جلس ـبزعمهم ـمع الله فى الحضرة الالهية.
ومن هنا كان الصوفى فى العصر العباسى الثانى يقول" حدثنى قلبى عن ربى " . وامتلأ كتاب" احياء علوم الدين "للغزالى بأقاصيص وأقاويل من هذه النوعية ، او ان يقول الغزالى : "اوحى الله لبعض الصالحين "هذا بالاضافة الى احاديث نسبها للنبى (صلى الله عليه وسلم)بدون اسناد وقام العراقى فى تخريجها باثبات انها "لا اصل لها "اى لم يذكرها غير الغزالى،او بعبارة اخرى اخترعها الغزالى اختراعا . ثم اضاف الصوفية الىتلك الأكاذيب اختراع المنامات، اى يزعم احدهم انه رأى النبى فى المنام فقال له النبى كذا . وتحفل كتب الصوفية بهذه المنامات ،ثم أكاذيب "الهواتف " اى يسمع الصوفى هاتفا يقول له كذا ..وفى العصر المملوكى كانت المنامات تغلف التراث الصوفى وتؤثر فى الحياة المملوكية سياسيا واجتماعيا وثقافيا ودينيا،حتى كان المألوف ان يدعى احدهم انه يرى النبى (صلى الله عليه وسلم)يقظة وليس فقط فى المنام ،واشهر من ادعى ذلك كان السيوطى ،وقد ذكر ذلك الشعرانى فى ترجمته له فى الطبقات الصغرى.
بايجاز نقول :ان الاسناد حول التراث السنى والشيعى الى أديان مقدسة زورا وبهتانا وشجع الصوفية على الافتراء على الله ورسوله بدون اسناد . والاسناد مع قداسته المزعومة فانه لايصمد امام النقد لانه يحمل اوزارا من التخريف والاخطاء الموضوعية تؤكد حاجته الشديدة لتلك القدسية لتحميه من سهام النقد والاعتراض.
الا ان التراث العقلى (الذى يستحق الاحترام حتى ولو اختلفنا معه )لم يكن محتاجا للاسناد او القدسية . ولذلك ظل تراث المعتزلة والمفكرين منسوبا الى اعلام تلك الطوائف العقلية ،لم يحاول الجاحظ ـمثلا ـ ان ينسب اراءه للنبى (صلى الله عليه وسلم )بل نسبها لنفسه والى من قالها من زملائه واصدقائه ،واذا قرأت الجاحظ فى" البخلاء " و"البيان والتبيين "وباقى رسائله وجدت رائحة الثقافة الجاحظية وعصره وبيئته وازددت له احتراما لانه كان صادقا مع نفسه ،وقد مات الجاحظ سنة 255 هـ .وعاش معه فى نفس العصر البخارى (ت256 هـ).الذى نسب ثقافة العصر العباسى للنبى (صلى الله عليه وسلم)عبر ذلك الاسناد المشئوم فأوقع بالنبى (صلى الله عليه وسلم)والاسلام افدح الاضرار.
ومع الاسف فان الغلبة لم تكن للجاحظ والمعتزلة ومنهجهم العقلى ،وانما كانت ـ بسبب الظروف السياسة ـ لمن كان يسميهم العصر العباسى الاول بالحشوية،اى الذين يحشون عقولهم باسانيد كاذبة منسوبة للنبى (صلى الله عليه وسلم)،ويحاولون نشر ارائهم بهذه الطريقة.
لقد انحاز المأمون ثم المعتصم والواثق للمعتزلة .وحدثت فتنة خلق القرآن التى اضطهد فيها ابن حنبل ،ثم جاء الخليفة المتوكل وكان حانقا على المعتزلة وزعيمهم ابن الزيات ،فقتله وانحاز للحشوية "اصحاب الحديث والسنن" وتعصب لهم وارسل دعاتهم فى الافاق لنصرة السنة فيما يحكى بن الجوزى فى المنتظم . ودخلت الدولة العباسية فى دور الضعف واحتاجت اكثر الى اخضاع العوام بالدين ،فازداد دور الشيوخ من الفقهاء ثم الصوفية ،وكى يتم للشيوخ اخضاع العوام كان لابد من الاستناد الى مرجعية دينية تكون لافتة ،يشيرون اليها دون مناقشة ،وقام الاسناد بهذه المهمة .وبالتدريج تعود الناس على الخضوع بمجرد ان يقول لهم الشيخ روى ان النبى (ص)قال كذا. واصبح اختراع الأحاديث يحقق غايات سياسية و مذهبية واجتماعية طالما يجعله الاسناد يحظى بتقديس العوام .ثم بمرور الزمن اصبح الشيخ يقول بكل ثقة ..((قال صلى الله علبه وسلم كذا )) كأنه سمع ذلك من النبى (صلى الله عليه وسلم)بنفسه ودون اسناد ،ودون ذكر انها رواية قالها اشخاص ،قد يخطئون وقد يصيبون ،وهذا ما تسمعه حتى الان من شيوخ المواصلات فى القاهرة عن الذى يبنى مسجدا ولو كمحفص قطاة.
ثم ظهر فى عصرنا ـ عصر الصحوة السلفية ـ اتجاه جديد بين الجماعات السلفية الحالية وهو اختراع احاديث تخدم وجهة نظرهم مثل حديث ((من اكرم شرطيا اهانه الله)) وقد عقب بعضهم على ذلك الحديث المخترع فى هذه الأيام قائلا : كيف تستحل الكذب على الرسول (صلى الله عليه وسلم)؟ فقال الشيخ المتطرف انه لايكذب على النبى وانما يكذب للنبى .نفس الحجة القديمة للذين كانوا يكذبون على النبى محمد عليه السلام...اى ان اختراع الاحاديث لايزال ساريا..