رقم ( 4 )
بقية الكتاب : الباب الثانى والخاتمة

الفصل الثانى : أهم الشخصيات الفاعلة فى الفتنة الكبرى الثانية :

عبد الله بن الزبير:شيطان موقعة الجمل ، وشيطان الفتنة الكبرى الثانية

نشأته :

أبوه الزبير، وأمه أسماء، وجده أبو بكر، وعمته خديجة، وجدته صفية بنت عبد المطلب،وخالته عائشة. وولد سنة 2 من الهجرة . واستبشر المسلمون بمولده إذ كان أول مولود للمهاجرين فى المدينة . ومات النبى وكان لابن الزبير 8 سنين واربعة اشهر . بعدها عايش الفتوحات ( أفظع جريمة للصحابة ) بل وشارك فيها ، فى اليرموك وفى غزو القسطنطينية والمغرب . ثم كان شيطان الفتنة الكبرى فى موقعة الجمل .

مقالات متعلقة :

موقعة الجمل  عام 36 :عرضنا لها من قبل ، ونلتقط بعض ملامحها :

1 ـ كان التنافس واضحا بين القائدين ( الزبير وطلحة ) تقول الرواية : ( فكان معاذ بن عبيد الله يقول : والله لو ظفرنا لافتتنا ما خلى الزبير بين طلحة والأمر ولا خلى طلحة بين الزبيرو والأمر ) يعنى لو إنتصر الزبير وطلحة فى موقعة الجمل لتحاربا بعدها .

2 ـ كان المال هو سبب نكث الزبير وطلحة بيعتهما لعلى بن أبى طالب وخروجهما عليه . تقول الرواية : ( جاء رجل إلى طلحة والزبير وهما في المسجد بالبصرة فقال:" نشدتكما بالله في مسيركما : أعهد إليكما فيه رسول الله ؟ فقام طلحة ولم يجبه،فناشد الزبير، فقال: " لا ولكن بلغنا أن عندكم دراهم فجئنا نشارككم فيها ").

3 ـ كان الزبير و ( طلحة ) فى عماء وعدم وضوح . تقول الرواية : ( لما بايع أهل البصرة الزبير وطلحة ، قال الزبير: " ألا ألف فارس أسير بهم إلى (علي ) فإما بيتّه ( أى هجمت عليه ليلا ) وإما صبحته ( أى هجمت عليه صباحا ) لعلّي أقتله قبل أن يصل إلينا. ".!.  فلم يجبه أحد .  فقال : " إن هذه لهي الفتنة التي كنا نحدث عنها.! ".  فقال له مولاه : " أتسميها فتنة وتقاتل فيها ؟ ! قال : ( ويحك إنا نبصر ولا نبصر . ما كان أمر قط إلا علمت موضع قدمي فيه غير هذا الأمر. فإن لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر.! )

4 ـ قبل الاشتباك الحربى قال (على ) للزبير : ( أتطلب مني دم عثمان وأنت قتلته ؟ سلط الله على أشدنا عليه اليوم ما يكره " ) وقال (علي ) لطلحة : ( يا طلحة جئت بعُرس ( أى زوجة ) رسول الله ( أى عائشة ) تقاتل بها وخبأت عرسك في البيت؟ أما بايعتني ؟  قال بايعتك وعلى عنقي اللج . )

5 ـ وقبيل الاشتبك الحربى أراد ( على ) أن يعظهم بالقرآن ، فأخرج لهم فتى شابا بالمصحف فقتلوه شر قتلة . تقول الرواية : فقال (علي ) لأصحابه : " أيكم يعرض عليهم هذا المصحف وما فيه فإن قطعت يده أخذه بيده الأخرى وإن قطعت أخذه بأسنانه ؟ " . قال فتى شاب : "أنا . " ، فقال له (علي ) : "اعرض عليهم هذا وقل هو بيننا وبينكم من أوله إلى آخره، والله في دمائنا ودمائكم . "،  فحُمل على الفتى  ( أى هوجم الفتى ) وفي يده المصحف فقطعت يداه ، فأخذه بأسنانه حتى قُتل . عندها أمر (على ) بقتالهم : ( فقال علي : " قد طاب لكم الضراب فقاتلوهم . " وانهزموا ، ولكن إستماتوا فى الدفاع عن ( جمل عائشة ) ، تقول الروايات : ( فقتل يومئذ سبعون رجلا كلهم يأخذ بخطام الجمل. )  ( أخذ الخطام يوم الجمل سبعون رجلا من قريش كلهم يُقتل وهو آخذ بالخطام )( وكان الرجل إذا حمل على الجمل ثم نجا لم يعد ).وقتل مروان بن الحكم ( طلحة ) إنتقاما لعثمان ، أما الزبير فهرب من المعركة راجلا نحو المدينة فأدركه ابن جرموز فقتله .

6 ـ أما عائشة ، فبعد قتل الجمل ومن يدافع عنه ، أرسل اليها (على ) أخاها محمد بن أبى بكرــ وكان من أعوانه ـ فضرب عليها فسطاطا ليحميها. وذهب لها (على ) وقال لها : ( "استفززت الناس وقد فزوا فألبت بينهم حتى قتل بعضهم بعضا.! ..فقالت عائشة :  يابن أبي طالب ملكت فأسجح .".فسرحها (أى أطلق سراحها ) ..وأرسل معها جماعة من رجال ونساء ، وجهزها ، وأمر لها باثني عشر ألفا من المال. )

ابن الزبير شيطان موقعة الجمل

1 ـ كانت الصداقة قوية بين (على) و (الزبير)، يدل عليها وقوف الزبير مع (على ) ضد صهره أبى أبو بكر عندما بويع أبو بكر بالخلافة . تغيرت الأحوال بعد الفتوحات وتكالب الصحابة على أموالها فى خلافة عثمان . وقتها كان عبد الله بن الزبير ـ وهو أكبر أبناء الزبير ـ صاحب نفوذ على أبيه ، ونجح فى إفساد الصداقة بين أبيه و (على ). وقد قال (على ) : ( ما زال الزبير يُعدُّ منا أهل البيت حتى نشأ عبد الله . ). ، وفى حوار سبق الاشتباك الحربى ، تقول الرواية : ( خرج (علي ) على فرسه، فدعا الزبير فتواقفا فقال (علي ) للزبير : " ما جاء بك؟ "  قال : " أنت، ولا أراك لهذا الأمر أهلا ولا أولى به منا . " فقال (علي ) : " لستُ له أهلا بعد عثمان؟ ) أى يشير الى أنه كان الأحق بالأمر من أبى بكر نفسه، ثم قال للزبير يذكره بموقفه السابق ضد بيعة ابى بكر : " قد كنا نعدك من بني عبدالمطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء ففرّق بيننا وبينك ).أى إن عبد الله بن الزبير هو الذى فرّق بين ( على ) والزبير  .

2 ـ وبات معروفا أن عبد الله بن الزبير هو المحرض الخفى على الخروج على (على بن أبى طالب ). وقد قيل للأشتر النخعى أبرز قواد ( على ) :" قد كنت كارها لقتل عثمان، فما أخرجك بالبصرة ؟  قال إن هؤلاء بايعوه ثم نكثوا، وكان ابن الزبير هو الذي أكره عائشة على الخروج .! ) .

3 ـ وصحا ضمير الزبير بعد أن وعظه ( على ) ، فأقسم على الانسحاب ، ولكن إبنه ( عبد الله ) رماه بالجُبن والخوف من جيش (على ) وجعله ينكث يمينه . تقول الرواية : ( فانصرف عنه الزبير ، وقال : "  فإني لا أقاتلك. "  فرجع إلى ابنه عبدالله،  فقال : "  مالي في هذه الحرب بصيرة . " فقال له ابنه : "إنك قد خرجت على بصيرة ولكنك رأيت رايات ابن أبي طالب وعرفت أن تحتها الموت فجبنت.! " فأحفظه ( أى أغضبه ) حتى أرعد وغضب وقال : "ويحك إني قد حلفت له ألا أقاتله ." فقال له ابنه : "  كفّر عن يمينك بعتق غلامك سرجس "،  فأعتقه ، وقام في الصف معهم. )

4 ـ وكان ابن الزبير مرتبطا بخالته عائشة ومشاركا لها فى كراهيتها لبنى هاشم ، ولذا جعلته يصلى بالجيش الى أن قدم البصرة . وبعد الهزيمة إختبا ابن الزبير فى دار رجل من قبيلة الأزد وأرسله الى عائشة يعرفها بمكانه حتى تنقذه من (على بن أبى طالب ). وكان لا بد لعائشة من إستدعاء أخيها محمد بن أبى بكر ( وهو خال ابن الزبير ) لينقذ ابن الزبير . وهذا بالضبط ما كان يخشاه ابن الزبير لعلمه بإخلاص خاله محمد بن أبى بكر لعلى بن أبى طالب .  تقول الرواية : (  وأوى عبدالله بن الزبير إلى دار رجل من الأزد يدعى وزيرا ، وقال :" ائت أم المؤمنين فأعلمها بمكاني وإياك أن يطلع على هذا محمد بن أبي بكر."،  فأتى عائشة .. فأخبرها، فقالت : " عليّ بمحمد "  فقال : " يا أم المؤمنين إنه قد نهاني أن يعلم به محمد .! " فأرسلت إليه، فقالت ( لأخيها محمد ابن أبى بكر ): " اذهب مع هذا الرجل حتى تجيئني بابن أختك . " فانطلق ( محمد بن أبى بكر ) معه، فدخل بالأزدي على ابن الزبير قال ( الأزدى لابن الزبير ) : "جئتك والله بما كرهت وأبت أم المؤمنين إلا ذلك "!. فخرج عبدالله( ابن الزبير ) ومحمد ( ابن أبى بكر ) وهما يتشاتمان . ).

ابن الزبير فى خلافة معاوية

1 ـ كان يتلقى فيها عطايا معاوية ويتسولها ، تقول الرواية عن الأصمعى : (‏ وفد الحسن وعبد الله بن الزبير على معاوية ، فقال للحسن‏:‏ مرحباً وأهلاً بابن رسول الله، وأمر له بثلاثمائة ألف‏.‏ وقال لابن الزبير‏:‏ مرحباً وأهلاً بابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر له بمائة ألف‏.‏ ).

وفى رواية أخرى أن معاوية أعطى ابن الزبير ثلثمائة ألف لأنه قال له ثلاثة أبيات شعر من أجمع ما قاله العرب . وتنتهى الرواية بقول الراوى : ( فدعا معاوية بثلاثين عبداً على عنق كل واحد منهم بدرة، وهيعشرة آلاف درهم، فمروا بين يدي ابن الزبير حتى انتهوا إلى داره‏.‏).

وكان ابن الزبير لا يدع فرصة إلا وينتهزها لأخذ المال من معاوية ، تقول الرواية أنه قال لمعاوية : ( لا والله لا أدعك حتى تعطيني مائة ألف‏.‏فأعطاه، فجاء مروان فقال‏:‏ والله يا أمير المؤمنين ما رأيت مثلك،جاءك رجل قد سمى بيت مال الديوان وبيت الخلافة، وبيت كذا، وبيت كذا، فأعطيته مائةألف‏.‏فقال له‏:‏ ويلك كيف أصنع بابن الزبير‏؟‏ ).!!

وكان يبتزّ معاوية ، تقول الرواية :( سأل ابن الزبير معاوية شيئاً فمنعه، فقال‏:‏ والله ما أجهل أن ألزم هذهالبنية فلا أشتم لك عرضاً ولا أقصم لك حسباً، ولكني أسدل عمامتي من بين يدي ذراعاً،ومن خلفي ذراعاً في طريق أهل الشام، وأذكر سيرة أبي بكر الصديق وعمر فيقول الناس‏:‏من هذا‏؟‏فيقولون‏:‏ ابن حوارّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن بنتالصديق‏.‏فقال معاوية‏:‏ حسبك بهذا شرفاً‏.‏ثم قال‏:‏ هات حوائجك‏.‏).

2 ـ وقبيل موته عام 60 هجرية، أوصى معاوية ابنه يزيد بأن يأخذ ابن الزبير بالشدة . ولدينا روايتان تختلفان فى بعض التفاصيل ، وتتفقان فيما يخص ابن الزبير ، تقول الأولى : ( أن معاوية لما مرض مرضته التي هلك فيها، دعا ابنه يزيد فقال‏:‏ يا بني إني قد كفيتك الرحلة والرجال‏.‏ ووطأت لك الأشياء، ودللت لك الأعزاء، وأخضعت لك أعناق العرب، وإني لا أتخوف أن ينازعك هذا الأمر الذي أسسته إلا أربعة نفر‏:‏ الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر‏...فأما ابن عمر فهو رجل ثقة قد وقدته العبادة، وإذا لم يبق أحد غيره بايعك‏.‏ وأما الحسين فإن أهل العراق خلفه لا يدعونه حتى يخرجونه عليك، فإن خرج فظفرت به فاصفح عنه، فإن له رحماً ماسة، وحقاً عظيماً‏.‏ وأما ابن أبي بكر فهو رجل إن رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثله، ليست له همة إلا في النساء واللهو‏.‏ وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد، ويراوغك روغان الثعلب، وإذا أمكنته فرصة وثب، فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك فقدرت عليه فقطعه إرباً إرباً‏.‏ ) وفى رواية أخرى (..ولست أخاف عليه من قريش سوى ثلاثة‏:‏ الحسين، وابن عمر، وابن الزبير‏.‏.. فأما ابن عمر فقد وقدته العبادة، وأما الحسين فرجل ضعيف، وأرجو أن يكفيكه الله تعالى بمن قتل أباه وخذل أخاه، وإن له رحماً ماسة، وحقاً عظيماً‏.‏  وقرابة من محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أظن أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه، فإن قدرت عليه فافصح عنه فإني لو صاحبته عفوت عنه‏.‏ وأما ابن الزبير‏:‏ فإنه خب ضب فإن شخص لك فانبذ إليه إلا أن يلتمس منك صلحاً، فإن فعل فاقبل منه، واصفح عن دماء قومك ما استطعت‏.‏  )

ابن الزبير فى خلافة يزيد بن معاوية

1 ـ كتب يزيد الى واليه على المدينة ( الوليد بن عتبة ) يأمره بإرغام الحسين وابن الزبير على البيعة ، وماطل ابن الزبير فى الذهاب للوالى برغم الالحاح عليه ، ثم تسلل هاربا من المدينة ليلا الى مكة ،. تقول الروايات : ( لما خرج الحسين من المدينة إلى مكة  .. فأقبل حتى نزل مكة وأهلها مختلفون إليه ويأتونه ومن بها منالمعتمرين وأهل الآفاق ، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة فهو قائم يصلي عندهاعامة النهار ويطوف ، ويأتي الحسين فيمن يأتيه ولا يزال يشير عليه بالرأي ، وهو أثقل خلقالله على ابن الزبير لأن أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين باقيًا بالبلد‏.‏)

2 ـ بعد مقتل الحسين أعلن ابن الزبير نفسه خليفة وشعاره :(أنا عائذ بالبيت )   وبويع من أهل مكة ، ومنع ابن الزبير عامل يزيد فى مكة من الصلاة بالناس ، فأمر يزيد واليه على مكة (عمرو بن سعيد الأشدق ) أن يرسل جيشا الى مكة ليعتقل ابن الزبير ويوثقه مقيدا . وبدأ عمرو بن سعيد الأشدق بضرب أنصار ابن الزبير بالمدينة ، وأرسل جيشا يقوده عمرو بن الزبير لاعتقال عبد الله بن الزبير ، وكان عمرو بن الزبير يكره اخاه عبد الله بن الزبير وقد قال للأشدق : (لا توجه إليه رجلا أبدا أنكأ له مني ). وتصدى أهل مكة للجيش الأموى فهزموه ، واستجار عمرو بن الزبير بأخيه عبيدة بن الزبير فأجاره ، وذهب به الى عبد الله بن الزبير فأمر عبد الله بن الزبير بضربه بالسياط حتى مات .

3 ـ وباختصار فقد بويع ابن الزبير بالخلافة أياميزيد بن معاوية.  ولما مات معاوية بن يزيد، إنضمت اليه الحجاز، واليمن، والعراق،ومصر، وخراسان، وسائر بلاد الشام إلا دمشق، . ثم تمكن مروان بن الحكم من استرجاع الشام ومصر من نواب ابن الزبير‏.‏ثم جهز السرايا إلى العراق، ومات . وتولى بعده عبد الملك بن مروانفقتل مصعب بن الزبير بالعراق وأخذها‏.‏ثم بعث إلى الحجاج فحاصر ابن الزبير بمكة قريباً من سبعة أشهر حتىظفر به في يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين‏.‏

صفات ابن الزبير الشخصية

 قال على بن زيد الجدعانى عن ابن الزبير : ( إنه كانت فيه خلال لا تصلح معها الخلافة ، لأنه كان بخيلا ضيق العطاء ، سىء الخلق ، حسودا ، كثير الخلاف . ).

بخل ابن الزبير

1 ـ والبخل أبرز صفات ابن الزبير ، ومن أساب فشله ، فقد كان بنو أمية يشترون الأنصار بالأموال ، وهم أنداد وأكفاء للهاشميين ، وكان الزبير وآله اقل مكانة ، وبالتالى كان على ( ابن الزبير ) أن يعالج هذه الفجوة بين نسبه ونسب الأمويين بأن يكون أكثر كرما منهم فى العطاء يكتسب به الأنصار ، ولكنه لم يفعل ، مع ثرائه الفاحش .

2 ـوكان ابن الزبير يبخل بالأموال التى يحصل عليها من معاوية بينما يتنافس غيره فى إنفاقها . تقول الرواية ‏:‏ ( بعث معاوية إلى الحسن بن علي بمائة ألف فقسمها على جلسائه، وكانوا عشرة، فأصاب كل واحد عشرة آلاف‏.‏ وبعث إلى عبد الله بن جعفر بمائة ألف فاستوهبتها منه امرأته فاطمة فأطلقها لها، وبعث إلى مروان بن الحكم بمائة ألف فقسم منها خمسين ألفاً وحبس خمسين ألفاً، وبعث إلى ابن عمر بمائة ألف ففرق منها تسعين واستبقى عشرة آلاف‏.‏ وبعث إلى عبد الله بن الزبير بمائة ألف فقال للرسول‏:‏ لم جئت بها بالنهار‏؟‏ هلا جئت بها بالليل‏؟‏ ثم حبسها عنده ولم يعط منها أحداً شيئاً‏.‏ فقال معاوية‏:‏ إنه لخب ضبّ، كأنك به قد رفع ذنبه وقطع حبله‏.‏ ) .

3 ـ  وبالاضافة الى ما حصل عليه ابن الزبير من معاوية فقد ورث من أبيه حظّا من الثروة . وكان الزبير ( بليونيرا ) بمقياس عصرنا . ونقل ابن سعد فى الطبقات روايات عن تركة الزبير ، ونعرف منها أن الزبير اشترى بستانا كبيرا (الغابة ) بسبعين ومائة ألف فباعها عبد الله بن الزبير بألف ألف وستمائة ألف. وكان للزبير أربع نسوة فأصاب كل امرأة ألف ألف ومائة ألف. ( فجميع ماله خمسة وثلاثون ألف ألف ومائتا ألف ) ،( اقتسم ميراث الزبير على أربعين ألف ألف ) ( كانت قيمة ما ترك الزبير أحدا وخمسين أو اثنين وخمسين ألف ألف  ) ( كان للزبير بمصر خطط وبالإسكندرية خطط وبالكوفة خطط وبالبصرة دور وكانت له غلات تقدم عليه من أعراض المدينة ‏.‏ )

4 ـ وبخل ابن الزبير كان يصحبه فى حياته ومواقفه ، قبيل موقعة الجمل دخلوا البصرة وأسروا واليها عثمان بن حنيف ، واهانوه وعذبوه بلا جريمة إرتكبها ، وكاوا يقتلونه لولا مخافة أهله من الأنصار . نرى لابن الزبير موقفين يعبران عن بخله : فقد جاء حكيم بن جبلة لانقاذ عثمان بن حنيف واسترجاع المؤن الغذائية المخصصة لقومه وقد استولى عليها أصحاب الجمل ، فرفض ابن الزبير وقال له : (" لا نرزقكم من هذا الطعام ولا نخلي سبيل عثمان بن حنيف حتى يخلع عليا. " قال حكيم : "اللهم إنك حكم عدل فاشهد. "  وقال لأصحابه : " إني لست في شك من قتال هؤلاء فمن كان في شك فلينصرف . " وقاتلهم فاقتتلوا قتالا شديدا. ).  وأكثر من هذا ، تقول الرواية : ( وأراد الزبير أن يعطي الناس أرزاقهم ويقسم ما في بيت المال، فقال عبدالله ابنه : إن ارتزق الناس تفرقوا ).

5 ـ وعيّن عبد الله بن الزبير أخاه مصعب بن الزبير للكوفة وكان فارسا كريما من فتيان قريش ، وهو الذى قتل المختار وسيطر على العراق و ملك البصرة   ووجه المهلب على الموصل والجزيرة وأذربيجان وأرمينية . وارسل مصعب وفدا من أهل العراق لأخيه عبد الله ليعطيهم ويستميلهم فمنعهم ابن الزبير العطاء وأهانهم  . ولم يلبث ابن الزبير أن عزل أخاه مصعب عن العراق وولى مكانه أبنه حمزة حتى لا يأكل مصعب خير العراق وخراسان وحده . وظهر من الوالى الجديد حمق فطلب الأحنف بن قيس زعيم بنى تميم من ابن الزبير عزل ابنه فعزله ، وأعاد مصعب لولاية العراق، وكان ذلك عام 68  .

6 ـ ولم يفارق البخل ابن الزبير وهو تحت الحصار قبيل مقتله . تقول الرواية ( وقدم عليهقوم من الأعراب فقالوا: قدمنا للقتال معك، فنظر فإذا مع كل امرئ منهم سيف كأنه شفرةوقد خرج من غمده، فقال: يا معشر الأعراب لا قربكم الله! فوالله إن سلاحكم لرث، وإنحديثكم لغث؛ وإنكم لقتال في الجدب، أعداء في لخصب. فتفرقوا .) أى طردهم لأنهم جاءوا يقاتلون معه مرتزقة طامعين فى عطائه ، وهو يريد أن يقاتل الناس من أجله بلا أجر !.

7 ـ أكثر من هذا أنه وقت الحصار إشتد الغلاء فى مكة ، ولدى ابن الزبير مخازن الطعام ويبخل بها عن عسكره ، تقول الرواية : ( ولم يزل القتال بينهمدائماً، فغلت الأسعار عند ابن الزبير وأصاب الناس مجاعة شديدة حتى ذبح فرسه وقسملحمها في أصحابه، وبيعت الدجاجة بعشرة دراهم، والمد الذرة بعشرين درهماً، وإن بيوتابن الزبير لمملوءة قمحاً وشعيراً وذرة وتمراً، وكان أهل الشام ينتظرون فناء ماعنده، وكان يحفظ ذلك ولا ينفق منه إلا ما يمسك الرمق، ويقول: أنفس أصحابي قوية مالم يفن.) . لذا تفرق عنه أصحابه مللا منه ، تستمر الرواية تقول : ( فلما كان قبيل مقتله تفرق الناس عنه وخرجوا إلى الحجاج بالأمان، خرج منعنده نحو عشرة آلاف، وكان ممن فارقه ابناه حمزة وخبيب، وأخذا لأنفسهما أماناً. )   

جُبن ابن الزبير

1 ـ يتجلى جبنه أكثر فى خوفه من الخروج للعراق أو للشام للتصدى للأمويين والخوارج . أرسل قادته يحاربون عنه ، وهو متعلق بالبيت الحرام ليأمن على حياته ، وليضع الأمويين فى مأزق : إما أن يتركوه خوفا على حُرمة البيت الحرام ، وإما أن يهاجموه فيقعوا فى جريمة إنتهاك الحرم . ونؤكد مجددا على أن ابن الزبير هو الذى بدأ بانتهاك البيت الحرام حين جعله مركزه الحربى ، ولا بد للمركز الحربى من أن يكون ميدانا للحرب والقصف . إن رب العزة هو الذى أمر أن يكون البيت الحرام مثابة للناس وأمنا ( البقرة 125 ) فعصى الزبير أمر الرحمن وجعل بيت الرحمن قلعة حربية تتعرض للحصار والضرب بالمنجنيق مما سبب حرق الكعبة . ولم يعرف ابن الزبير للكعبة إحتراما ، فحين إنهزم فى مكة إنسحب الى ساحة البيت الحرام ثم الى الكعبة نفسها تقول الرواية  : ( حضرت قتل ابن الزبير ، جعلت الجيوش تدخل عليه من أبواب المسجد فكلما دخل قوم من باب حمل عليهم حتى يخرجهم فبينما هو على تلك الحال إذ جاءته شرفة من شرفات المسجد فوقعت على رأسه فصرعته.)، وإستعمل سقف الكعبة فى الدفاع عن حياته ، تقول الرواية : ( كان على ظهر المسجد جماعة من أعوانه يرمونأعداءه بالآجر فأصابته آجرة من أعوانه من غير قصد من مفرق رأسه ففلقت رأسه ) . أى قُتل من حجر أصابه خطأ من أحد جنوده الذين إعتلوا سطح الكعبة  وانتهك ابن الزبير جوف الكعبة ، تقول الرواية عن عدد القتلى : ( وقتل معه مائتان واربعون رجلا ، منهم من سال دمه فى جوف الكعبة . ).

2 ـ جُبن ابن الزبير يتجلى قبل هذا فى موقعة الجمل التى كان شيطانها . حين أصابته جراحة خفيفة ألقى بين نفسه بين الجرحى وهو يعرف أن جنود ( على ) لا يقتلون الجرحى ، تقول إحدى الروايات عنه  : (.. فجُرح فألقى نفسه في الجرحى فاستُخرج ، فبرأ من جراحته ).

3 ـ وحين إنفض عنه أبناؤه وأخوته ولم يبق سواه ذهب لأمّه يستشيرها ، هل يسلّم نفسه أم يقاتل ويعرض نفسه للقتل . كان وقتها قد تعدى السبعين وليس طفلا مراهقا ، وكان وقتها قد إرتكب كل الشنائع فى سبيل السلطان ، وبسببه ضاعت حياة عشرات الألوف ، ولعله الوحيد ـ فيما نعرف ـ الذى بعد هذا كله وفى هذا العُمر يقف أمام أمه لتحميه من جُبنه . يكفى أن نتعقل هذه الرواية المشهورة عنه ، ونضعها فى سياقها فى تاريخ ابن الزبير وختام طموحه وحياته : ( فدخل على أمه فقال: يا أماهقد خذلني الناس حتى ولدي وأهلي ولم يبق معي إلا اليسير ومن ليس عنده أكثر من صبرساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت أعلم بنفسك، إن كنتتعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له فقد قتل عليه أصحابك ولا تمكن من رقبتك يتلعببها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك ومن قتلمعك، وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين،كم خلودك في الدنيا! القتل أحسن! فقال: يا أماه أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوابي ويصلبوني. قالت: يا بني إن الشاة لا تتألم بالسلخ إذا ذبحت، فامض على بصيرتكواستعن بالله.).

4 ـ وقبل أن يتفرق عنه أبناؤه وأتباعه كان يرفض كل محاولات التسوية ، والتى كان مبعثها الحرص على حُرمة البيت الحرام . ( وقد أرسل عبد الملك رسالة الى الحجاج يقول له فيه : إعط ابن الزبير الأمان على هدر هذه الدماء وحكمه فى الولاية ، فعرضوا ذلك عليه فشاور أصحابه فأشاروا عليه بأن يفعل فقال : لا أخلعها إلا بالموت . ).  

5 ـ ومع هذا فقد وضع السنيون السلفيون أكاذيب فى تمجيد هذا المخلوق الحقير !.


 

 

 

 

 

 

 

من هو الأسوأ : دونالد ترامب أم عبد الله بن الزبير ؟

الهجاء السياسى بين ابن الزبير وابن عباس  / صفحة من التاريخ الأسود للسلف الصالح

مقدمة

1 ـ ( الرعاع ) مصطلح ثقافى وليس مصطلحا طبقيا . هو يدل على فساد خلقى وفُحش لفظى .  ليس شرطا أن يكون صاحبه فقيرا ،  فهناك فقراء مهذبون ، وهناك مترفون أثرياء من الرعاع . فى دولة المستبد الشرقى يتصدر المشهد الفاسدون والرعاع ، وتطغى أخبارهم وبذاءاتهم على أجهزة الاعلام . ونشهد فى أمريكا الان ( 2016 ) ظاهرة غريبة تحدث لأول مرة فى تاريخ التنافس على الرئاسة ، وهى ظاهرة دونالد ترامب ، الذى يسعى الى ترشيح الحزب الجمهورى ( المحافظ ) . هو بيليونير ورجل أعمال ناجح ، ولكنه بكلامه وتصرفاته ينتمى الى طائفة الرعاع . فارق هائل بينه وبين السياسيين الأمريكيين والغربيين ، الذين قد يتخذون قرارات إجرامية ولكن يتكلمون بتهذيب وأدب راق رائع ، يسمونه ( الدبلوماسية ).!.

ما علينا ..!!

2 ـ بل علينا ..!!

3 ــ لأن عبد الله بن الزبير ينتمى الى نفس فصيلة الرعاع ( ثقافيا ) . لم يكن فقيرا بل ورث عن أبيه ملايين الأموال وجمع مثلها من عطايا الأمويين الذين ثار عليهم فيما بعد ، وهو أقل شأنا منهم حسبا ونسبا . وبمقياس عصرنا فهو أكثر ثراءا من دونالد ترامب ، إلا إن ترامب أكثر كرما بينما كان ابن الزبير أبخل الناس فى عصره . ولقد طمع ابن الزبير فى الخلافة وأوقع عصره فى فتنة عقيم قتل فيها عشرات الآلاف ، وهو لم يكن صالحا للخلافة بمقياس عصره لأنه لا ينتمى الى أشرف عنصرى قريش ( الهاشميين والأمويين ) ثم بسبب طبيعته الشخصية المذمومة عربيا ، وقد كان بخيلا جبانا . وبمقارنة أخرى بينه وبين دونالد ترامب ، فإن ترامب مهما بلغ حمقه وبذاءته إلا إنه يتنافس فى الانتخابات فى تداول سلمى للسلطة ، ولا يقتل خصومه الذين لا يؤيدونه فى الرأى ، بينما أشعل ابن الزبير المنطقة حروبا ليغير المعادلة السياسية ويصبح خليفة رغم أنف الأمويين والهاشميين ، ثم إنه لم يتورع عن قتل المعارضين السلميين له ، بل كاد أن يحرق الهاشميين لأنهم رفضوا البيعة له بالخلافة .! وهذه سابقة تاريخية على مستوى العالم ـ حسب علمنا ، وهى أيضا لم تتكرر ـ حسب علمنا . ولا نعتقد أن هذه الفكرة المجنونة يمكن أن تزور عقل دونالد ترامب ـ ولو على إستحياء .! .

4 ــ وعلى هامش الحرب التى أشعلها ابن الزبير ، وعلى هامش إضطهاده للهاشميين  ، فإن طبيعة الرعاع فيه أنتجت أيضا نوعا من الهجاء السياسى للهاشميين ، فقام ابن الحنفية بالرد عليه ، بينما نبغ فى الرد عليه ابن عباس. وابن عباس كان يمتلىء إحتقارا لابن الزبير . ومشهور أن ابن عباس فشل فى إقناع الحسين بالبقاء فى مكة وعدم الذهاب الى العراق حتى لا يخلو المجال لابن الزبير وطموحه المدمر للخلافة . وبعد فشله فى إقناع الحسين قابل ابن عباس إبن الزبير فقال له : (قرّت عينك يا ابن الزبير .! . هذا الحسين يخرج الى العراق ويخلّيك والحجاز . وأنشد :

 يالك من قنبرة بمعمر   

خلا لك الجوُّ فبيضى وصفرى  

ونقّرى ما شئت أن تنقرى .) . هنا إحتقار هائل لابن الزبير الذى صار خليفة لبعض الوقت ثم انتهى أمره مصلوبا مقطوع الرأس .  

نعطى لمحة عن الهجاء السياسى بين ابن الزبير ، وخصميه ابن الحنفية وابن عباس .

أولا :

1 ـ  بلغ ابن الحنفية ( محمد بن على بن أبى طالب )  أن ابن الزبير نال من ( على بن أبى طالب ) وأنتقص منه ، فأُتى له برحل فوضعه فى المسجد الحرام ، وقام خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على محمد ثم قال : ( شاهت الوجوه ، يا معشر قريش . أيقال هذا بين ظهرانيكم وأنتم تسمعون ؟ ويُذكر ( علىُّ ) فلا تغضبون ؟ . ألآ إن عليا كان سهما صائبا من مرامى الله أعداءه ، يضرب ووجوههم ويهوّعهم ( أى يجعلهم يتقيأون ) مأكلهم ، ويأخذ بحناجرهم . ألا وإنّا على سنن ومنهج حاله ، وليس علينا فى مقادير الأمور حيلة ، وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون ) . هذه خطبة تعكس شخصية محمد بن الحنفية المُسالمة ، برغم ما فيها من غضب . ونلاحظ أنه لم يذكر إسم ابن الزبير ، وركّز عن الدفاع عن والده (على بن أبى طالب ) .

ولكن ابن الزبير لم يتحمل مقالة ابن الحنفية فى الدفاع عن أبيه ( على بن أبى طالب ) فأصدر تصريحا يقول فيه ( هذه عذرة بنى الفواطم ، فما بال ابن أمة بنى حنيفة  ). يعنى التعريض بمحمد بن على بن أبى طالب ، لأن أمه ليست فاطمة بنت النبى ، كأنه عيب فيه يكون مؤاخذا به أنه ليس ابنا لفاطمة بينت محمد .! ثم قال عن محمد ( إبن أمة بنى حنيفة ) أى وصف أمّه أنها (أمة ) أى جارية مملوكة . ولم تكن كذلك .

وبلغ محمد ابن الحنفية قوله ، فقال : ( يامعشر قريش ..وما ميزنى عن بنى الفواطم ؟ اليست فاطمة بينت رسول الله حليلة  ( زوجة ) أبى ؟ وام أخوتى ؟ أو ليست فاطمة بنت اسد بن هاشم جدتى ؟ وأم ابى ؟ أليست فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم جدة أبى وام جدتى ؟ أما والله لولا خديجة بنت خويلد لما تركت من بنى أسد عظما إلا هشمته ، فإنى بتلك التى فيها المعاب صبير )(أى هو كفيل بالرد على تلك الاتهامات ) السيدة خديجة هى اخت العوام والد الزبير . ( اليعقوبى فى تاريخه 261 : 261  ). وابن الحنفية هنا إقتصر على الدفاع دون أن يهاجم ابن الزبير المعتدى .

ثانيا :

1 ـ حين رفض بنوهاشم مبايعة ابن الزبير فقطع ابن الزبير ذكر رسول الله فى خطبه ، وهاجم بنى هاشم ، وزعم انه ليست لهم سابقة فى قريش . وبلغ الخبر ابن عباس ،وكان قد أصابه العمى ،  فخرج غاضبا ، فأتى المسجد الحرام فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ، ثم قال : ( إن ابن الزبير يزعم أن لا أول لرسول الله  ولا آخر . ( أى ليست لهم سابقة ولا مفاخر ) فياعجبا كل العجب لافترائه وكذبه . والله إن أول من أخذ الايلاف وحمى عيرات  ( قوافل ) قريش لهاشم ( أى هاشم بن عبد مناف جد الهاشميين )، وأن أول من سقى بمكة عذبا ( أى ماءا عذبا ) وجعل باب الكعبة ذهبا لعبد المطلب ( أى عبد المطلب بن هاشم جد النبى عليه السلام ). والله لقد نشأت نشأتنا مع ناشئة قريش ( أى عاش ونشأ فى قريش فى مكة )، وإن كنا لقالتهم إذا قالوا ( أى المتكلمون والزعماء ) ، وخطباءهم إذا خطبوا . وما عن مجد كمجد أولنا ( أى لا يوجد مجد مثل مجد آبائنا )  . وما كان فى قريش مجد لغيرنا  لأنها فى كفر ماحق ، ودين فاسق وضلالة فى عشواء عمياء ، ( يعنى أن بنى أمية ــ وهم أكفاء لبنى أعمامهم الهاشميين ـ  ليس لهم مجد لانهم تزعموا الكفر فى قريش ) حتى إختار الله تعالى لها نورا ، وبعث لها سراجا ، فأنتجه طيبا من طيبين ، لا يسبه بمسبة ( أى لا مجال لأحد ان ينتقص منه أو أن يسُبّه ) ولا يبغى عليه غائلة . فكان ( النبى محمد ) أحدنا وولدنا وعمنا وابن عمنا . ثم إن أسبق السابقين اليه منا وابن عمنا  ( أى كان الهاشميون الأسبق فى الايمان برسالته ) ، ثم تلاه فى السبق اهلنا ولُحمتنا واحدا بعد واحد . ثم إنا لخير الناس بعده وأكرمهم ادبا وأشرفهم حسبا ، وأقربهم منه رُحما . و اعجبا لابن الزبير .!! يعيب بنى هاشم . وإنما شرُف هو وأبوه وجدُّه بمصاهرتهم . أما والله إنه لمسلوب قريش . ومتى كان العوّام بن خويلد يطمع فى صفية بنت عبد المطلب . قيل للبغل : من خالك ؟ فقال : خالى الفرس ) . يقصد ابن عباس أن العوام والد الزبير قد تشرف بزواجه من صفية بنت عبد المطلب ولم يكن لها كفؤا . وختم ابن الزبير خطبته بهذا المثل المؤلم : (قيل للبغل : من خالك ؟ فقال : خالى الفرس ) . يعنى أن الحمار نزا على مهرة فأنجب منها بغلا ، فقيل للبغل من أبوك فتحرج أن يقول أن أباه الحمار خجلا من أبيه الحمار فقال ( خالى الفرس ) فخرا بالفرس .!!

2 ـ وهاجم ابن الزبير وهو على المنبر ابن عباس ، وكان ابن عباس جالسا مع الناس ، فقال ابن الزبير يشير اليه : ( إن هاهنا رجل قد أعمى الله قلبه كما أعمى بصره . يزعم أن متعة النساء حلال من الله ورسوله . ويفتى فى القملة والنملة . وقد إحتمل بيت مال البصرة بالأمس وترك المسلمين بها يرتضحون  النوى ( يصحنون ويكسرون النوى )، وكيف ألومه فى ذلك ، وقد قاتل أم المؤمنين وحوارى رسول الله ومن وقاه بيده . ) كانت لابن عباس نقطة سوداء فى حياته ، كان أميرا للبصرة فى خلافة ابن عمه (على بن أبى طالب ) ، وحين تهاوى مُلك ( على ) تخلى عنه ابن عباس ، وهرب من البصرة ومعه بيت المال ، وإحتمى بأخواله فى الصحراء . هذا ما أراده ابن الزبير بقوله عنه (. وقد إحتمل بيت مال البصرة بالأمس وترك المسلمين بها يرتضحون  النوى  )

3 ـ رد ابن عباس : فقال ابن عباس لقائده : إستقبل بى وجه ابن الزبير وارفع من صدرى ، ففعل ، فقال ابن عباس : يا ابن الزبير .

قد انصف القارة من راماها

أنا إذا ما فئة نلقاها

نرد أولاها على أخراها

حتى تصير حرضا دعواها

( القارة قبيلة عربية مشهورة بالمهارة فى رمى السهام ، ويريد ابن عباس أنه قادر على رد السهام التى وجهها له ابن الزبير ، ثم أكمل خطابه  فقال : )

 ( يا ابن الزبير : أما العمى فإن الله تعالى يقول : ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور ) . وأما فُتياى فى القملة والنملة فإن فيهما حكمين لا تعلمهما أنت ولا اصحابك . وأما حملى المال فإنه كان مالا جبيناه فأعطينا كل ذى حق حقه ، وبقىت بقية هى دون حقنا فى كتاب الله فأخذناها بحقنا ، وأما المتعة فسل أمك اسماء إذ أنزلت عن عوسجة . وأما قتالنا أم المؤمنين فبنا سميت أم المؤمنين ، لا بك ولا بأبيك . فانطلق أبوك وخالك الى حجاب مدّه الله عليها فهتكاه عنها . ثم إتخذاها فتنة يقاتلان دونها ، وصانا حلائلهما فى بيوتهما . فما انصفا الله ولا محمدا من أنفسهما ، أن أبرزا زوجة نبيه وصانا حلائلهما . واما قتالنا اياكم ، فإنا لقيناكم زحفا ، فإن كنا كفارا فقد كفرتم بفراركم منا ، وإن كنا مؤمنين فقد كفرتم بقتالكم أيانا . وايم الله لولا مكانة صفية فيكم ومكانة خديجة فينا لما تركت بنى أسد بن عبد العزى عظما إلا كسرته . ) (شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج 5 / 821 : 823 ) .

كان ابن عباس مؤلما فى رده . إذ قال  فى مواجهة ابن الزبير إن  أٌمّه أسماء بنت أبى بكر قد تزوجها الزبير زواج متعة ، وأن عائشة صارت ( أم المؤمنين ) بسبب زواجها بالنبى الهاشمى ، وأنه كان مفروضا عليها الحجاب وألا تغادر بيتها ، ولكن الزبير وطلحة هتكا الحجاب الأمر المفروض عليها بالقرآن ، وبينما تركا زوجاتهما فى الحفظ والصون أدخلا زوجة النبى فى معركة . ثم حُجته الرائعة عن حرب الجمل ، إن كان الهاشميون كفارا وطلحة والزبير وعائشة وابن الزبير مؤمنين فقد كفر أصحاب الجمل بفرارهم ، وإن كان الهاشميون مؤمنين وعلى حق فإن الزبير وطلحة كفروا بقتالهم . وعليه فإن طلحة والزبير وابن الزبير وعائشة هم كفرة فى كل الأحوال طبقا لاستنتاج ابن عباس .

أخيرا

1 ـ فى النهاية حبسهم ابن الزبير ، وخطب  فقال : ( قد بايعنى الناس ولم يتخلف عن بيعتى إلا هذا الغلام : محمد بن الحنفية ، والموعد بينى وبينهم أن تغرب الشمس ثم أضرم عليهم داره نارا ) ، ولكن ذلك لم يتم لأن خيل المختار وردت قبل غروب الشمس ، وإستنقذت ابن الحنفية وأصحابه )  (  المسعودى فى مروج الذهب : ج 2 / 86 . ).

2 ــ دونالد ترامب يصف خصمه الجمهورى ( مارك روبيو ) بالصغير إحتقارا لشأنه . وهنا نرى ابن الزبير يخاطب ابن الحنفية بنفس الاحتقار : (هذا الغلام : محمد بن الحنفية  ). ثقافة الرعاع تجمع ابن الزبير بدونالد ترامب ، ولكن يبقى السؤال :  من هو الأسوأ : دونالد ترامب أم عبد الله ابن الزبير ؟

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

   مصعب بنالزبير: فتى قريش المتوحش

 أولا : قيل عنه :

1 ـ ( كان فارسا شجاعا جميلا وسيما سفاكا للدماء ) ( كان من أحسن الناس وجهًا وأشجعهم قلبًا وأجودهم كفًا‏.‏) ( قال إسماعيل بن أبي خالد : ما رأيت أميرا قط أحسن من مصعب )   وقال الشعبى : ( ما رأيت أميرا قط على منبر أحسن من مصعب  ) وعنه قال المدائني ( كان يُحسدُ على الجمال  ) .

2 ـ  ( قال عبد الله بنعمر لمصعب :‏ "أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة.! ".  فقالمصعب‏:‏ "إنهم كانوا كفرة سحرة."  فقال ابن عمر‏:‏ "والله لو قتلت عدتهم غنمًا من تراثأبيك لكان ذلك سرفًا‏.‏".! )

3 ـ وقال عبد الملك بن مروان عن مصعب بعد أن قتل مصعب : ( أشجع العرب من ولي العراقين خمس سنين فأصاب ثلاثة آلاف ألف، وتزوج بنت الحسين وبنت طلحة وبنت عبد الله بن عامر ، وأمه رباب بنت أنيف الكلبي سيد ضاحية العرب ،وأُعطي الأمان فأبى ، ومشى بسيفه حتى قتل.) 

4 ـ ( أسر مصعب بن الزبير رجلًا فأمر بضرب عنقه.  فقال‏:‏ " أصلح اللهالأمير ما أقبح بمثلي أن يقوم يوم القيامة فأتعلق بأطرافك الحسنة وبوجهك الذييُستضاءُ به فأقول‏:‏ يا رب سل مصعبًا فيم قتلني" ؟ فقال‏:‏ " يا غلام أعف عنه."  فقال‏:‏"  أصلح الله الأمير إن رأيت أن تجعل ما وهبت لي من حياتي في عيش رخيّ .! " قال‏:‏ " يا غلامأعطه مائة ألفا .!"  فقال‏:‏ " أيها الأمير فإني أشهد الله وأشهدك أني قد جعلت لابن قيسالرقيات منها خمسين ألفًا . " فقال‏‏ له‏:‏ "ولم ؟ " قال‏:‏ لقوله فيك‏:‏ إنما مصعب شهاب منالله تجلت عن وجهه الظلماء".) . 

ثانيا : مصعب واليا للعراق لأخيه عبد الله بن الزبير 

1 ـ ( عزل عبد الله بن الزبير أخاه عبيدةبن الزبير عن المدينة واستعمل أخاه مصعباً.
وسبب ذلك أن عبيدة خطب الناس فقاللهم:" قد ترون ما صنع الله بقوم في ناقة قيمتها خمسة دراهم،؟! " ) يعنى هلاك قوم ثمود لأنهم عقروا الناقة  . فسخر منه أهل المدينة ،(  فسمي مقوّم الناقة، فبلغذلك أخاه عبد الله فعزله واستعمل مصعباً.)

2 ـ ثم أرسل عبد الله بن الزبير أخاه مصعب واليا على العراق بعد أن إستفحل أمر المختار . تقول الرواية : (  وولّى عبد الله بنالزبيراخاه مصعب بنالزبيرالعراق، فبدأبالبصرة فنزلها ، ثم خرج في جيش كثير الى المختار بن ابي عبيد وهو بالكوفة فقاتله حتىقتله ، وبعث برأسه الى اخيه عبد الله بنالزبير. وفرّق عماله فيالكور والسواد  ) أى أرسل ولاة عنه فى توابع العراق ( ايران الآن وما بعدها فى اواسط آسيا ).

3 ـ كان ابراهيم بن الأشتر أشهر قواد المختار ، وبعد أن قتل مصعب المختار استمال ابن الأشتر اليه ، فصار من قواده . وكان الخوارج يعيثون فسادا فى  الموصل والجزيرة وأذربيجان وأرمينية فأرسل اليهم مصعب بالمهلب بن أبى صفرة فاستمر المهلب فى حربهم الى أن قُتل مصعب ، ثم إنضم المهلب لعبد الملك بن مروان ، وصار من أشهر قواده فى المشرق .

4 ـ وبعد قتل المختار جبى مصعب خراج العراق ( ملايين ) فحسده أخوه عبد الله بن الزبير ، فاستقدمه اليه وحبسه عند فى مكة وعزله ، وولى على العراق ابنه حمزة بن عبد الله بن الزبير .  وظهرت سفاهة ابنه، وإحتج الناس عليه ، فاضطر عبد الله بن الزبير الى عزل ابنه وإرجاع مصعب الى العراق  .

 ثالثا : موجز الحرب بين عبد الملك بن مروان و(صديقه السابق ) مصعب بن الزبير

1 ـ  تقول الرواية : ( لما أجمع عبد الملك المسير إلى مصعب تهيأ لذلك ، وخرج في جند كثير من أهل الشام،  وسار عبد الملك وسار مصعب حتى التقيا بمسكن. ثم خرجوا للقتال واصطف القوم بعضهم لبعض.  فخذلت ربيعة وغيرها مصعبا . فقال ( مصعب ): " المرء ميت على كل حال فوالله لأن أموت كريما أحسن منأن يضرع إلى من قد وتره لا أستعين بهم أبدا ولا بأحد من الناس . " ثم قال لابنه عيسى :"تقدم فقاتل " . فدنا ابنه فقاتل حتى قُتل . وتقدم إبراهيم ابن الأشتر فقاتل قتالا شديدا.  وكثره القوم ( أى تكاثروا عليه )  فقُتل ، ثم صاروا إلى مصعب وهو على سرير له، فقاتلهم قتالا شديدا وهو علىالسرير ، حتى قُتل . وجاء عبيد الله بن زياد بن ظبيان فاحتز رأسه، فأتى به عبد الملك،  فأعطاه ألف دينار، فأبى أن يأخذها . ). 

2 ــ وتقول رواية أخرى : ( وسار عبد الملك حتىنزل بمسكن وكتب إلى شيعته من أهل العراق ، ثم جاء مصعب . فلما تراءى العسكران تقاعسبمصعب أصحابه . فقال لابنه عثمان‏:‏ يا بني اركب إلى عمك أنت ومن معك فأخبره بما صنعأهل العراق ودعني فإني مقتول فقال ابنه‏:‏ الحق بالبصرة أو بأمير المؤمنين فقال‏:‏" والله لا تتحدث قريش أني فررت ، ولكن أقاتل فإن قتلت فلعمري ما السيف بعار ، وما الفرارلي بعادة‏.‏" )

رابعا : اسباب هزيمة مصعب

1 ـ كان عبد الملك أكفأ سياسيا من مصعب ، ولم تُغن عن مصعب شجاعته . وبينما كان أهل الشام مخلصين لعبد الملك فقد كان أهل العراق لا يعرفون الاخلاص لأحد . مقصود بأهل العراق القبائل العربية التى إستوطنته بعد الفتح ، وليس أهل البلاد الأصليين ، والذين كان يُطلق عليهم الموالى . وقد قال عبد الملك:يقارن بينه وبين مصعب : ( إني يصيربالحرب شجاع بالسيف إن احتجت إليه، ومصعب شجاع ..ولكنه لا علم له بالحرب..ومعه من يخالفه ومعي من ينصح لي. ). وقال عبد الملك (وقد كتب كثير من أشراف العراق يدعونني إليهم )

2 ـ  : نجاح عبد الملك فى إستمالة معظم قواد مصعب ، واستجاب لعبد الملك كثير من القادة سوى ابراهيم بن الأشتر الذى جاء بكتاب عبد الملك لمصعب ، وأخبره أن عبد الملك أغوى القادة الآخرين ونصحه بأن يضرب أعناقهم فرفض مصعب حتى لا يُغضب عشائرهم . وأحسّ بعضهم بإنكشاف أمره فخاف من مصعب وهرب الى جيش عبد الملك .

3 ـ من سوء سياسة مصعب أنه لم يعزز جيشه بأكفأ قواده المخلصين له، تركهم فى ولاياتهم وهو فى أمسّ الحاجة اليهم ؛ وهم عبد الله بن خازم السلمي أمير خراسان و عمر بن عبيد الله التيمي  أمير فارس و المهلب بن أبي صفرة أمير الموصل وعباد بن حصين  أمير البصرة . لم يكن معه سوى ابراهيم بن الأشتر .

4 ـ فى داخل جيش مصعب كان له أعداء من أتباع المختار ومن غيرهم . وكان الذى طعن مصعب من أتباع المختار الثقفى ، وهو زائدة الثقفى وكان من جنود مصعب . تقول الرواية : ( ثم طعنه زائدة الثقفي وكان من جنده وقال يا لثارات المختار  )  ( فأثخن مصعب بالرمي ، ثم شد عليه زائدة بن قدامة فطعنه وقال‏:‏ يالثارات المختار . ) . وكان الذى إحتزّ رأس مصعب هو عبيد الله بن زياد بن ظبيان ، وقد حملها الى عبد الملك بن مروان ، ورفض أن يأخذ مكافأة منه . تقول الرواية : ( ونزل إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فاحتز رأسه وقال‏:‏ إنه قتلأخي ، فأتى به عبد الملك ، فأثابه ألف دينار ، فأبى أن يأخذها، وقال‏:‏ إنما قتلته على وترصنعه بي فلا آخذ في حمل رأس مالًا‏.‏) ( وجاء عبيد الله بن زياد بن ظبيان فاحتز رأسه فأتى به عبد الملكفأعطاه ألف دينار فأبى أن يأخذها. )   

خامسا : تخاذل وتفرق أتباع مصعب عنه فى المعركة

1 ـ تقول الرواية : (   فلما التقى الجمعان لحقوا بعبد الملك وهرب عتاب بن ورقاء وخذلوا مصعبا .  وجعل مصعب كما قال لمقدم من جيشه : "تقدم " ، لا يطيعه )

2 ـ وعن إنفضاض أتباعه خصوصا من قبائل ربيعة تقول الرواية : ( واصطف القوم بعضهم لبعضفخذلت ربيعة وغيرها مصعبا  )

3 ـ وأرسل مصعب مددا لابراهيم بن الأشتر يقوده عتاب بن ورقاء. تقول الرواية : ( فساء ذلك إبراهيم وقال: قد قلت له لا تمدنيبعتاب وضربائه، وإنا لله وإنا إليه راجعون! فانهزم عتاب بالناس، وكان قد كاتب عبدالملك وبايعه . ) .

4 ـ وأثناء إحتدام القتال رفض قواد مصعب أوامره ، تقول الرواية : (  وتقدم أهل الشام فقاتلهم مصعب ، وقال لقطن بن عبد اللهالحارثي: قدم خليلك أبا عثمان. فقال: أكره أن تقتل مذحج في غير شيء. فقال لحجار ابنأبجر: يا أبا أسيد قدم خيلك. قال: إلى هؤلاء الأنتان! قال: ما تتأخر إليه أنتن! فقال لمحمد بن عبد الرحمن بن سعيد مثل ذلك، فقال: ما فعل أحد هذا فأفعله. ).

سادسا :  مصعب يرفض الأمان ويرفض الفرار

1 ـ ووضح أنه مهزوم ، فعرض عليه عبد الملك الأمان فرفض ، وعرض عليه ابنه الانسحاب الى البصرة فرفض .

2 ـ  تقول الروايات : ( وبعث إليه عبد الملك مع أخيه محمد : " إني ياابن العم أمنتك " قال مثلي : "لاينصرف عن هذا المقام إلا غالبا أو مغلوبا   ) ( ثم دنامحمد بن مروان من مصعب وناداه: أنا ابن عمك محمد بن مروان فاقبل أمان أميرالمؤمنين. فقال: أمير المؤمنين بمكة، يعني أخاه عبد الله بن الزبير. قال: فإن القومخاذلوك.فأبى ما عرض عليه.  ) ( فنادى محمد ( ابن مروان ) عيسى بن مصعب بن الزبير له، فقال له مصعب: انظر ما يريد منك. فدنا منه، فقال له: إني لك ولأبيك ناصح ولكما الأمان. فرجع إلىأبيه فأخبره، فقال ( عيسى لآبيه مصعب ) : إني أظن القوم يوفون لك ، فإن أحببت أن تأتيهم فافعل. فقال: لاتتحدث نساء قريش أني خذلتك ورغبت بنفسي عنك. قال ( مصعب لابنه عيسى ) : فاذهب أنت ومن معك إلى عمك ( عبد الله بن الزبير )  بمكةفأخبره بما صنع أهل العراق ودعني فإني مقتول. فقال ( عيسى لآبيه ): لا أخبر عنك قريشاً أبداً، ولكنيا أبت الحق بالبصرة فإنهم على الطاعة أو الحق بأمير المؤمنين. فقال مصعب: لا تتحدثقريش أني فررت.وقال لابنه عيسى: تقدم إذن أحتسبك، فتقدم ومعه ناس فقتل وقتلوا؛وجاء رجل من أهل الشام ليحتز رأس عيسى، فحمل عليه مصعب فقتله وشد على الناسفانفرجوا له، وعاد ثم حمل ثانية فانفرجوا له )،( وبذل له عبد الملك الأمان وقال: إنهيعز علي أن تقتل فاقبل أماني ولك حكمك في المال والعمل. فأبى وجعل يضارب. )

سابعا : قتل مصعب

1 ـ مصعب وزوجته سكينة بنت الحسين :  قبيل قتله ودّع زوجته سكينة بنت الحسين . تقول الرواية : ( دخل مصعب على سكينةيوم القتل ، فنزع ثيابه، وليس غلالة وتوشح بثوب وأخذ سيفه، فعلمت سكينة أنه لا يريد أنيرجع ، فصاحت‏:‏ واحزناه عليك يا مصعب. فالتفت إليها ، وقد كانت تخفي ما في قلبها عنهفقال‏:‏" أوكل هذا لي في قلبك؟ ! " قالت‏:‏ " وما أخفي أكثر " .! فقال‏:‏ " لو كنت أعلم هذا كانتلي ولك حال"!.  ثم خرج فلم يرجع‏.‏)

(  لما قتل مصعب بن الزبير خرجت سكينة ( بنت الحسين ) تطلبه في القتلى فعرفته بشامةفي خده فأكبت عليه وقالت‏:‏ يرحمك الله نعم والله خليل المسلمة كنت )

2 ـ إختلاف الروايات فيمن قتل مصعب :

( وتركالناس مصعباً وخذلوه حتى بقى في سبعة أنفس، وأثخن مصعب بالرمي وكثرت الجارحات فيه،فعاد إلى عبيد الله بن زياد بن ظبيان، فضربه مصعب فلم يصنع شيئاً لضعفه بكثرةالجراحات، وضربه ابن ظبيان فقتله.وقيل: بل نظر إليه زائدة بن قدامة الثقفي فحملعليه فطعنه وقال: يا لثارات المختار! فصرعه. ) ( وكان الذي تولى قتله عبيد الله بن زياد بن ظبيان على دجيل عند نهرالجاثليق واحتز رأسه وحمله إلى عبد الملك فسجد عبد الملك وقال‏:‏ واروه فلقد كان منأحب الناس إلي وأشدهم لي لقاء ومودة ولكن الملك عقيم )

3 ـ بعد قتله خطب الملك فقال عن ابن الزبير وجُبنه :( إن عبد الله بن الزبير لو كان خليفة كما يزعم لخرج فآسى بنفسه ولميغرز بذنبه في الحرم . ) 

ثامنا : إختلاف الروايات فى يوم مقتله وفى عمره :

( قتل يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولىأو الآخرة سنة إحدى وسبعين وهو ابن خمس وأربعين ) ( وقيل‏:‏ خمس وثلاثين‏.‏ ) ( قتل يوم الخميس للنصف من جمادي الاولى سنة اثنتين وسبعين ) وقيل ( قتل مصعب يوم نصف جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين وله أربعون سنة). ( وكان عمر مصعب حين قتل ستاً وثلاثين سنة.)

تاسعا : رأس مصعب :

( ولما قتل مصعب بعث عبد الملك رأسه إلى الكوفة، أوحمله معه إليها، ثم بعث به إلى أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر، فلما رآه وقد قطعالسيف أنفه قال: رحمك الله! أما والله لقد كنت من أحسنهم خلقاً وأشدهم بأساًوأسخاهم نفساً. ثم سيره إلى الشام فنصب بدمشق، وأرادوا أن يطوفوا به في نواحيالشام، فأخذته عاتكة بنت يزيد بن معاوية زوجة عبد الملك بن مروان، وهي أم يزيد بنعبد الملك، فغسلته ودفنته وقالت: أما رضييتم بما صنعتم حتى تطرفوا به في المدن؟ هذابغي.! )

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  مروان بن الحكم : سبب الفتنة الكبرى الأولى وأساس فى الفتنة الكبرى الثانية

مقدمة : سيطر مروان بن الحكم بن أبى العاص بن أمية على ابن عمه عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية ، وتسبب فى الثورة عليه ، ومقتله وإندلاع الفتنة الكبرى، وقد فصلناها فى مقالات كتاب (المسكوت عنه من تاريخ الخلفاء الراشدين)، وهى منشورة هنا . إستغل الأمويون حقد ( الزبير وطلحة وعائشة ) على ( على بن أبى طالب ) فدفعوهم للثورة عليه لإجهاده وتعطيله عن حرب معاوية .  وشارك مروان بن الحكم فى موقعة الجمل ضد ( على بن أبى طالب )، وفى ضجيج المعركة صوّب سهما فقتل به ( طلحة ) إنتقاما لعثمان .  وعيّنه معاوية واليا له على المدينة عدة مرات . وفى الفتنة الكبرى الثانية التى بدأت بمقتل الحسين أصبح مروان بن الحكم أحد أعمدتها ضد ابن الزبير ، وصار أول خليفة  لفرع الحكم بن أبى العاص بن أمية ، ومن نسله جاء الخلفاء الأمويون اللاحقون . ونعطى بعض التفصيلات .

أولا : نشأة مروان بن الحكم 

1 ـ  كان مولده سنة اثنتين منالهجرة، وكان أبوه الحكم بن أبى العاص قد أسلم عام الفتح، وهاجر للمدينة. وعوقب الحكم بن أبى العاص ــ فى العصر العباسى ــ بروايات كثيرة تلعنه وتلعن ذريته كراهية فى مروان ابن الحكم وخلفائه من بنى أمية . وأشهرها قولهم أن النبى عليه السلام  نفى الحكم بن العاص إلىالطائف لأنه يتجسس عليه، وأنه ظل منفيا فيها الى أن أعاده عثمان الى المدينة فى خلافته . وكان يقال لآل مروان ( بنو الزرقاء ) ذما وعيبا ، لأن ( الزرقاء بنت موهب جدة مروان بن الحكم لأبيه) كانت من ذوات الرايات التي يستدل بها على بيوت البغاء فى الجاهلية. وقد توفى الحكم بن العاص فى خلافة ابن أخيه عثمان بن عفان بن العاص. وقد صلّى عليه عثمان .

2 ـ  عند موت النبى عليه السلام كان مروان بن الحكمفى الثامنة من عمره ، وعاش مروان بالمدينة مع أبيه الى أن مات ، ثم عاش ملازما لابن عمه عثمان بن عفان .

 ثانيا : فى خلافة عثمان

1 ـ كان مروان ( سكرتير ) أو ( كاتم سر) عثمان فى خلافته ، وقد نقم الناس فى المدينة وخارجها على ( عثمان ) أنه وقع تحت سيطرة ابن عمه مروان ، وأن عثمان أعطاه الكثير من الأموال . وفى نفس الوقت كان مروان يحرض عثمان ضد زعماء المعارضة (على بن أبى طالب) والزبير و طلحة   وعائشة . وانتهى الأمر بحصار عثمان فى داره وقتله فى ( يوم الدار) .

2 ـ وفى وقت الحصار تعللت عائشة بالحج  حتى لا تتحمل مسئولية ما سيحدث لعثمان ، وهى التى كانت تحرض على قتله، وتقول ( أُقتلوا نعثلا فإن نعثلا قد كفر). و( نعثل ) هو لقب عثمان فى الجاهلية. تقول الرواية: ( فأتاها مروان وزيد بن ثابت وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد بن أبي العاص فقالوا: "  يا أم المؤمنين لو أقمت فإن أمير المؤمنين على ما ترين محصور ومقامك مما يدفع اللهبه عنه . !" فقالت : " قد حلبت ظهري وعريت غرائزي ولست أقدر على المقام ." فأعادوا عليها الكلامفأعادت عليهم مثل ما قالت لهم ، فقام مروان وهو يقول‏:‏

 وحرّق قيس علي البلاد      حتى إذااستعرت أجذما ) يريد أنها سبّبت الثورة على عثمان ثم تتركه . وتمضى الرواية : ( فقالت عائشة : " أيها المتمثل عليّ بالأشعار وددت والله أنك وصاحبك هذاالذي يعنيك أمره في رجل كل واحد منكما رحا وأنكما في البحر . " وخرجت إلى مكة . )

3 ـ وحين إقتحم الثوار بيت عثمان كان مروان يقاتل بضرواة دفاعا عن ابن عمه . تقول الرواية : ( خرج مروان بن الحكم يومئذ يرتجز ويقول : " من يبارز؟ "  فبرز إليه عروة بن شييمبن البياع الليثي فضربه على قفاه بالسيف ، فخر لوجهه ، فقام إليه عبيد بن رفاعة بن رافعالزرقي بسكين معه ليقطع رأسه ، فقامت إليه أمه التي أرضعته ، وهي فاطمة الثقفية وهي جدةإبراهيم بن العربي صاحب اليمامة، فقالت: " إن كنت تريد قتله فقد قتلته فما تصنع بلحمهأن تبضعه ؟ ! " فاستحيا عبيد بن رفاعة منها فتركه ). وبهذا نجا مروان إذ كان لا يزال فيه رمق ، وعاش بعدها ليصنع التاريخ .

 ثالثا : فى موقعة الجمل عام 36

1 ـ عادت عائشة لتجد عليا قد تولى الخلافة ، فانقلبت تتهم عليا بقتل عثمان ، وتطالب هى بدم عثمان ، وكان معها فى التحريض ضد (على ) ابن أُختها عبد الله بن الزبير . وانضم اليها الزبير وطلحة بعد بيعتهما ( لعلىّ ) . وارتحلوا الى البصرة ، ولحق بهم مروان بن الحكم . 

2 ـ مروان يريد الايقاع بين الزبير وطلحة
تقول الرواية : ( خرج أصحاب الجمل في ستمائة معهم عبد الرحمن بن أبي بكرة وعبد الله بن صفوان الجمحي ..) ولحقهم مروان ، تمضى الرواية عن مروان : ( وأذن مروان حين فصل من مكة ثم جاء حتى وقف عليهما فقال أيكما أسلم بالإمرة وأؤذن بالصلاة فقال عبد الله بن الزبير على أبي عبد الله وقال محمد بن طلحة على أبي محمد ، فأرسلت عائشة رضي الله عنها إلى مروان فقالت : " مالك أتريد أن تفرق أمرنا ليُصلّ ابن أختي " ، فكان يصلي بهم عبدالله بن الزبير حتى قدم البصرة . ). أى إن مروان أراد الايقاع بينهما مبكرا ، فسأل من هو الأمير ؟ هل هو الزبير أو طلحة ؟ ومن الذى سيؤم الناس فى الصلاة ، وفهمت عائشة قصده ، فجعلت عبد الله بن الزبير هو الذى يؤم الصلاة .

3 ـ مروان يقتل طلحة وقت هزيمة أصحاب الجمل

( قالوا: فلما قتل عثمان وسار طلحةوالزبير وعائشة إلى البصرة يطلبون بدم عثمان خرج معهم مروان بن الحكم فقاتل يومئذأيضا قتالا شديدا ، فلما رأى انكشاف الناس ( أى هزيمة أصحابه ) نظر إلى طلحة ابن عبيد الله واقفا فقال: " والله إن دم عثمان إلا عند هذا ،هو كان أشد الناس عليه وما أطلب أثرا بعد عين."  ففوّقله بسهم فرماه به فقتله . ) وتقول رواية أخرى : (  فقاتلوهم، فقتل يومئذ سبعون رجلا كلهم يأخذ بخطام الجمل ،  فلما عقر الجمل وهزم الناس. وأصابت طلحة رمية فقتلته ،  فيزعمون أن مروان بن الحكم رماه ).

4 ــ جُرح مروان وإنقاذه وأخذه الأمان من ( على بن أبى طالب )

تقول الروايات :( وقاتل مروان أيضا حتى ارتث فحمل إلى بيت امرأة من عنزة،  فداووه وقاموا عليه ، فما زال آل مروان يشكرون ذلك لهم )،(  وانهزم أصحاب الجمل ، وتوارىمروان حتى أُخذ له الأمان من علي بن أبي طالب ، فأمّنه. فقال مروان : " ما تقرني نفسي حتىآتيه فأبايعه . " فأتاه فبايعه ،  ثم انصرف مروان إلى المدينة ، فلم يزل بها حتى ولي معاويةبن أبي سفيان الخلافة. ) أى لم يشارك معاوية فى القتال ضد (على ) فى صفين .

 رابعا : فى خلافة معاوية

1 ـ تقول الرواية ( ثم انصرف مروان إلى المدينة فلم يزل بها حتى ولي معاويةبن أبي سفيان الخلافة، فولى مروان بن الحكم المدينة سنة اثنتين وأربعين ،  ثم عزله وولىسعيد بن العاص ، ثم عزله وأعاد مروان ، ثم عزله وأعاد سعيد بن العاص،  فعزله وولى الوليدبن عتبة بن أبي سفيان فلم يزل على المدينة حتى مات معاوية ومروان يومئذ معزول عنالمدينة .) كان معاوية حريصا على الايقاع بين مروان بن الحكم بن أبى العاص وسعيد بن أبى العاص ، فكان يعزل هذا عن المدينة ثم يولى ذاك ، وهما معا أبناء عمومة له وأقرب لبعضهما فهما من فرع العاص بن أمية . وتقول الرواية عن أحداث عام 49 هجرية : (  وفيها عزل معاوية مروان بن الحكم عن المدينة في شهر ربيع الأول وأمر فيها سعيد بن العاص على المدينة في شهر ربيع الآخر وقيل في شهر ربيع الأول ، وكانت ولاية مروان كلها بالمدينة لمعاوية ثمان سنين وشهرين )

2 ـ أى تولى مروان المدينة لمعاوية عدة مرات ، تقول الروايات عن مروان : ( وولي المدينة لمعاوية مرات،فكان إذا ولي يبالغ في سب علي، وإذا عزل وولي سعيد بن العاص كف عنه، فسئل عنه محمدبن علي الباقر وعن سعيد، فقال: كان مروان خيراً لنا في السر، وسعيد خيراً لنا فيالعلانية.وكان الحسن والحسين يصليان خلفه ولايعيدان الصلاة. وهو أول من قدم الخطبة في صلاة العيد وقبل الصلاة.) ( وكان مروان في ولايته على المدينة يجمع أصحاب رسول الله يستشيرهم ويعمل بمايجمعون له عليه . ) 

خامسا : مروان  فى خلافة يزيد بن معاوية 

1 ـ  تولي يزيد بن معاوية سنة ستين.  وبدأ يزيد خلافته بأمر ابن عمه والى المدينة  الوليد بن عتبة بن أبي سفيان بأن يأخذ البيعة له من الحسين وابن عمر وابن الزبير ، كتب يقول له : (أما بعد فخذ حسينا وعبدالله بن عمر وعبدالله بن الزبير بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا والسلام ) . واستشار الوليد ( مروان بن الحكم ) فقال له مروان : ( أرى أن تبعث الساعة إلى هؤلاء النفر فتدعوهم إلى البيعة والدخول في الطاعة فإن فعلوا قبلت منهم وكففت عنهم ، وإن أبوا قدمتهم فضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية ، فإنهم إن علموا بموت معاوية وثب كل امرئ منهم في جانب واظهر الخلاف والمنابذة ودعا إلى نفسه..)  

2 ـ وأرسل الوالى الوليد بن عتبة يستدعى الحسين وابن الزبير ، وكانا فى المسجد ، ففهما أن معاوية قد مات ، وأن الوالى يريد منهما البيعة . فجمع الحسين فتيانه وذهب بهم الى لقاء الوالى ، وأوصى فتيانه أنه إذا سمعوا صوته عاليا فليقتحموا بيت الأمير . وقابل الحسين الوالى الوليد وكان مروان حاضرا ، فأخبره الوليد بموت معاوية وطلب منه البيعة ليزيد ، فقال الحسين : ( إنا لله وإنا إليه راجعون، ورحم الله معاوية ، وعظم لك الأجر. أما ما سألتني من البيعة فإن مثلي لا يعطي بيعته سرا ولا أراك تجتزئ بها مني سرا دون أن نظهرها على رءوس الناس علانية . ) قال : "  أجل " . فقال الحسين للوالى : ( فإذا خرجت إلى الناس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا مع الناس فكان أمرا واحدا . ) ووافق الوليد ،فقال مروان للوليد : ( والله لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينكم وبينه . احبس الرجل ولا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه)  فوثب عند ذلك الحسين فقال : ( يابن الزرقاء أنت تقتلني أم هو ؟ كذبت والله وأثمت )،  ثم خرج ...  فقال مروان للوليد : (عصيتني.!. لا والله لا يمكنك من مثلها من نفسه أبدا ) قال الوليد  : (..والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأني قتلت حسينا . سبحان الله .! أقتل حسينا أن قال لا أبايع ؟! . والله إني لا أظن إمرأ يحاسب بدم حسين لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة . ) .

3 ـ وعن ابن الزبير تقول الروايات : ( وأما ابن الزبير فقال الآن آتيكم ثم أتى داره فكمن فيها . فبعث الوليد إليه فوجده مجتمعا في أصحابه متحرزا ، فألح عليه بكثرة الرسل والرجال في إثر الرجال ) ( وأما ابن الزبير فقال لا تعجلوني فإني آتيكم أمهلوني فألحوا عليهما عشيتهما تلك كلها وأول ليلهما ) وانتهى الأمر بهرب الحسين وابن الزبير الى مكة دون أن يبايعا يزيد .

4 ـ وترتب على هذا أن عزل ( يزيد بن معاوية ) ابن عمه ( الوليد بن عتبة )، وعيّن مكانه على المدينة  عمرو بن سعيد بن العاص (الأشدق ) ، وهو ابن عم لمروان بن الحكم بن العاص. وأمر يزيد بن معاويه واليه الجديد على المدينة أن يرسل جيشا الى مكة ليعتقل ابن الزبير . وكان عمرو بن الزبير أخ عبد الله بن الزبير متوليا الشرطة للوالى عمرو بن سعيد ، وكان يكره أخاه عبد الله بن الزبير ، فطلب من الوالى أن يرسله لحرب أخيه عبد الله بن الزبير ، وقال للوالى (لا توجه إليه رجلا أبدا أنكأ له مني )، فأرسله بجيش من 700 رجل ليهاجم ابن الزبير فى مكة حيث أعلن ابن الزبير أنه ( عائذ بالحرم ) .وتذكر الروايات موقفا إيجابيا لمرون بن الحكم ، تقول : ( فجاء مروان بن الحكم إلى عمرو بن سعيد فقال: " لا تغز مكة واتق الله ولا تحل حرمة البيت ، وخلُّوا ابن الزبير فقد كبر هذا له بضع وستون سنة وهو رجل لجوج والله لئن لم تقتلوه ليموتن . "  فقال عمرو بن الزبير : " والله لنقاتلنه ولنغزونه في جوف الكعبة على رغم أنف من رغم .! " فقال مروان : " والله إن ذلك ليسوءني .! " ). وفشلت حملة عمرو بن الزبير وهزمه أخوه عبد الله بن الزبير وقتله .

4 ـ مروان وموقعة الحرة  : وقد عرضنا من قبل لموقعة الحرة وموقف مروان ضد أهل المدينة ، وتقول الرواية إن مروان سار الى يزيد فى دمشق ، فأصبح مقربا منه الى ان مات يزيد بن معاوية .  

5 ـ وبأعتزال معاوية الثانى وموته وصفه مروان بن الحكم بأنه ( أبو ليلى ) يتندر على ضعفه ، تقول الرواية : ( فلما دفن معاوية بن يزيد قام مروان بنالحكم على قبره فقال :" أتدرون من دفنتم ؟ قالوا " " معاوية بن يزيد " فقال : "هذا أبو ليلى " )   

مؤتمر الجابية وتولية مروان الخلافة :

1 ـ بمقتل الحسين وموت معاوية الثانى تفرق بنو أمية وعلا أمر ابن الزبير فبايعه الضحاك بن قيس وزفر بن الحارث ، وكاد مروان أن يبايع ابن الزبير . تقول الرواية : (فلما رأى ذلك مروان خرج يريد بن الزبير بمكة ليبايع لهويأخذ منه أمانا لبني أمية وخرج معه عمرو بن سعيد بن العاص ، فلما كانوا بأذرعات ...لقيهم عبيد الله بن زياد مقبلا من العراق فقال لمروان : " أين تريد؟  فأخبره ، فقال : " سبحان الله أرضيت لنفسك بهذا؟ تبايع لأبي خبيب وأنت سيد بني عبد منافوالله لأنت أولى بها منه . " فقال له مروان : " فما الرأي ؟ " قال : " أن ترجع وتدعو إلى نفسك وأناأكفيك قريشا ومواليها ولا يخالفك منهم أحد . "  فقال عمرو بن سعيد  : " صدق عبيد الله ، إنكلجذم قريش وشيخها وسيدها وما ينظر الناس إلا إلى هذا الغلام خالد بن يزيد بن معاويةفتزوج أمه فيكون في حجرك وادع إلى نفسك، فأنا أكفيك اليمانية ،فإنهم لا يخالفوني ــ وكانمطاعا عندهم  ــ على أن تبايع لي من بعدك " قال ( مروان ) : " نعم " فرجع مروان وعمرو بن سعيد ومن معهما).

2 ـ وكان  حسان بن مالك بن بحدل الكلبى متمسكا بحق خالد بن يزيد فى الخلافة ، وتم الاتفاق فى مؤتمر الجابية على البيعة لمروان ثم بعده خالد بن يزيد بن معاوية ثم بعده عمرو بن سعيد الأشدق . فكانت بيعة مروان بالجابيةيوم الإثنين للنصف من ذي القعدة سنة أربع وستين وبايع عبيد الله بن زياد لمروان بنالحكم أهل دمشق وكتب بذلك إلى مروان .

مرج راهط

1 ـ ودخل عبيد الله بن زياد الى دمشق ، وكسب ثقة الضحاك بن قيس الذى إنشق عن الأمويين وبايع لابن الزبيروولاه ابن الزبير الشام ، وأخذ العهد لابن الزبير من أهل الشام . وخدع ابن زياد ( الضحاك بن قيس ) فجعله يدعو الناس الى نفسه بدلا من بيعتهم لابن الزبير ، فإحتجوا عليه فعاد يدعو لابن الزبير ففقد مكانته فى أعينهم . فنصحه ابن زياد بالخروج عن دمشق خوفا على حياته وأن يجمع جموعه فى المرج حيث قبيلته من قيس ، فوافقه وأخلى دمشق لابن زياد .

2 ــ وسار مروان من الجابية في ستة آلافحتى نزل مرج راهط ثم لحق به من أصحابه من أهل دمشق وغيرهم من الأجناد سبعة آلاففكان في ثلاثة عشر ألفا أكثرهم رجالة )( وكان على ميمنة مروان عبيد الله بنزياد وعلى ميسرته عمرو بن سعيد . ) ( وكتب الضحاك بن قيس إلى أمراء الأجناد فتوافوا عندهبالمرج فكان في ثلاثين ألفا وأقاموا عشرين يوما يلتقون في كل يوم فيقتتلون حتى قتلالضحاك بن قيس وقتل معه من قيس بشر كثير، فلما قتل الضحاك بن قيس وانهزم الناس رجعمروان ومن معه إلى دمشق، وبعث عماله على الأجناد وبايع له أهل الشام جميعا )

موت مروان وتولى ابنه عبد الملك

( مات فجأة وذلك في هلال شهر رمضان سنة خمس وستين ، وكان مروان يومئذ بنأربع وستين سنة وكانت ولايته على الشام ومصر لم يعد ذلك ثمانية أشهر ويقال ستة أشهر). ( ولما مات بويعلولده عبد الملك بن مروان في اليوم الذي مات فيه . ) 

 

 

 

عبد الملك بن مروان

ولا : فكرة سريعة عن خلافة عبد الملك :

1 ـ مكتوب الكثير عن عبد الملك بن مروان ، فهو المؤسس الثانى للدولة الأموية ، ومن ذريته جاء الخلفاء الأمويون اللاحقون ما عدا عمر بن عبد العزيز ، وآخر الخلفاء الأمويين مروان بن محمد بن مروان . وقد بويع  لأبيه ( مروان بن الحكم )  بالخلافة بالجابية يومالأربعاء 3 من ذي القعدة سنة 64 ... ثم عهد مروان بالخلافة لإبنيه عبد الملك ثم عبد العزيز    ، ومات مروان بن الحكم بدمشقلهلال شهر رمضان سنة خمس وستين، فتولى عبد الملك الخلافة فى نفس اليوم. )

2 ـ كانت المشاكل تحيط بعبد الملك من أول يوم فى خلافته ، بالاضافة الى الخوارج كان عبد الله بن الزبير يمتلك العراق وما يتبعه من ايران وما بعدها مع الحجاز . ثم كان ينافسه أقوى إثنين فى البيت الأموى . طبقا لقرارات مؤتمر الجابية كانت ولاية العهد لمروان ثم لخالد بن يزيد بن  معاوية ثم عمرو بن سعيد بن أبى العاص ( الأشدق )، ونقضها مروان بالعهد لابنيه عبد الملك وعبد العزيز. كان وجودهما  (عمرو الأشدق وخالد بن يزيد بن معاوية) ضمن متاعب عبد الملك . عمرو بن سعيد بن أبى العاص ( الأشدق ) كان يرى نفسه الأحق من عبد الملك بالخلافة ، وهذا ( الأشدق ) صاحب تاريخ فى تأسيس الدولة الأموية وصاحب نفوذ فى قبيلة كلب الراعى الأكبر للأمويين ، ثم هو ابن عم والده مروان . كما إن خالد بن يزيد بن معاوية لا يزال يطمع فى حقه فى الخلافة. ولم يكن عبد الملك يأمنهما على مُلكه ، لذا إصطحبهما وهو يقود الجيش ليقاتل مصعب بن الزبير . وفى جلسته معهما قال لهما عن صداقته القديمة فى المدينة لمصعب بن الزبير : ( والله إن في أمر هذه الدنيا لعجبا ، لقد رأيتني ومصعب بن الزبيرأفقده الليلة الواحدة من الموضع الذي نجتمع فيه فكأني واله ، ويفقدني فيفعل مثل ذلك، ولقد كنت أوتى باللطف فما أراه يجوز لي أكله حتى أبعث به إلى مصعب أو ببعضه ، ثم صرناإلى السيف.! ولكن هذا الملك عقيم ليس أحد يريده من ولد ولا والد إلا كان السيف . ). وهو تهديد مبطن من عبد الملك لأكبر رأسين فى دولته ، أى إن صداقة عبد الملك القديمة لمصعب بن الزبير لا تمنعه من السير اليه ليقاتله ، لأن ( المُلك ) لا مكان فيه للصداقة والعواطف مهما بلغت ، حتى الولد والوالد ، فكيف بأبناء العم ( عمرو الأشدق وخالد ).  تقول الرواية : (وإنمايقول هذا القول عبد الملك لأن خالد بن يزيد بن معاوية وعمرو بن سعيد بن العاص جالسان معه ، فأرادهما به ، وهو يومئذ يخافهما . قد عرف أن عمرو بن سعيد أطوع الناس عندأهل الشام ، وخالد بن يزيد بن معاوية قد كان مروان أطمعه في العقد له بعده ، فعقد مروانلعبد الملك ولعبدالعزيز بعد عبد الملك ، فأيس خالد وهو مع عبد الملك على الطمع والخوف ).

ولم ينفع هذا التهديد غير المباشر مع عمرو الأشدق . فمالبث أن رجع ليلا بفرقة من الجيش واستولى على دمشق ، فلحق به عبد الملك وحاربه وهزمه وذبحه بيده .!. رجع عبد الملك عن غزو مصعب ليتخلص من منافسه عمرو الأشدق ، وفى العام التالى غزا ( صديقه القديم ) مصعب بن الزبير ، وهزمه وقتله . !3 ـ بعد قتل مصعب وضم العراق وايران وما يتبعهما لم يبق إلا عبد الله بن الزبير فى مكة، فأرسل اليه عبد الملك جيشا يقوده الحجاج بن يوسف فحاصره ، وهزمه وقتله وصلبه . واستمر حصار ابن الزبير ستة اشهر بينها الأشهر الحُرُم الأربعة ، تقول الرواية  (وحصرا بن الزبير ليلة هلال ذيالقعدة سنة اثنتين وسبعين ستة أشهر وسبعة عشر يوما وقتل يوم الثلاثاء لسبع عشرة خلتمن جمادي الأولى سنة ثلاث وسبعين وبعث برأسه إلى عبد الملك بن مروان بالشام ). وبهذا صفا ( المُلك ) ل ( عبد الملك ).!

.4 ــ وأراد عبد الملك بن مروان  أن يخلع أخاه عبد العزيز بن مروان من ولاية العهد  ويعقد لابنيه الوليد وسليمان بعده بالخلافة ، فنهاه عنذلك قبيصة بن ذؤيب وقال له : " لا تفعل هذا فإنك تبعث به عليك صوتا نعارا ولعل الموتيأتيه فتستريح منه. " فكف عبد الملك عن ذلك ونفسه تنازعه أن يخلعه . ثم فى شهر جمادي الأولى سنة 85   جاءه الخبر بوفاة أخيه عبد العزيز فى مصر وكان واليا عليها . فجعل عبد الملك ابنه عبد الله بن عبد الملك واليا على مصر وعقد البيعة بالخلافة لابنيه الوليد وسليمانبعده.   وتقول الرواية : ( مات عبد الملك بن مروان بدمشق يوم الخميس للنصف من شوال سنة ست وثمانين وله ستون سنة ،  فكانت ولايته من يوم بويع إلى يوم توفي إحدى وعشرين سنة وشهرا ونصفا ، وكان تسع سنين منها يقاتل فيهاعبد الله بن الزبير، ويُسلّم عليه بالخلافة بالشام ثم العراق بعد مقتل مصعب. ,  وبقي بعد مقتل عبد الله بن الزبير واجتماع الناس عليه ثلاث عشرة سنة وأربعة أشهر إلا سبعليال .).

 

ثانيا : عبد الملك  والمدينة  قبل خلافته :

1 ـ  عبد الملك ينتمى لبنى أمية ( فرع أبى العاص ) من ناحية أبيه وأمه . أبوه مروان ابن الحكم بن أبي العاص بن أمية ، وأمه (عائشة بنتمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية ).  فهو ( أُموى ) إنتماؤه لأهله . ومن هنا تأتى نظرته للمدينة وعلاقته بها التى نشأ فيها  .  هو مولود بالمدينة عام 26 هجرية فى خلافة ابن عمه عثمان بن عفان ، وشهد سطوة أبيه مروان فى خلافة معاوية ، كما شهد نقمة أهل المدينة على أبيه وعلى الخليفة عثمان . بل وشهد حصار الثوار لدار عثمان وهو ابن عشر سنوات . وظل حياته فى المدينة متفرغا للعلم حتى أصبح من أئمة العلم بها ، هذه مع حقده على أهل المدينة .

2 ـ على أنه إستغل أول فرصة واتته فى الانتقام من أهل المدينة. قبيل معركة الحرة  أخرج أهل المدينة الأمويين منها ، وكان يتزعمهم مروان بن الحكم والوالى من قبل يزيد بن معاوية وهو ( عثمان بن محمد بن أبى سفيان ) . ولقد نصح عبد الملك بن مروان قائد الجيش الأموى ( مسلم بن عقبة ) بكيفية الهجوم على المدينة ومواطن الضعف فى دفاعاتها .  تقول الرواية  ( كان أهل المدينة قد أخذوا على بني أميةحين أخرجوهم العهود والمواثيق أن لا يدلوا على عورة لهم ولا يظاهروا عليهم عدوافلما لقيهم مسلم بن عقبة بوادي القرى قال مروان لابنه عبد الملك ادخل عليه قبليلعله يجتزيء بك مني فدخل عليه عبد الملك فقال له مسلم هات ما عندك أخبرني خبر الناسوكيف ترى فقال نعم ثم أخبره بخبر أهل المدينة ودله على عوراتهم وكيف يؤتون ومن أينيدخل عليهم وأين ينزل . ). وكان عبد الملك بن مروان  ينتظر نتيجة المعركة فى قصر أبيه فى منطقة ( ذى خشب )،  وظل عبد الملك كما تقول الرواية ينتظر أخبار المعركة  (وهو يخاف أن تكون الدولة لأهل المدينة ، فبينما عبد الملك جالس في قصر مروان بذي خشبيترقب ، إذا رسوله قد جاء يلوح بثوبه ، فقال عبد الملك : " إن هذا لبشير " ، فأتاه رسوله الذيكان بمخيض يخبره أن أهل المدينة قد قُتلوا ودخلها أهل الشام ، فسجد عبد الملك . ودخلالمدينة بعد أن برأ ).

3 ــ ثم ما لبث أن لحق بأبيه فى دمشق بعد أن تولى أبوه الخلافة . ولم يُسمع عنه مشاركات سياسية أو حربية مع أبيه ، إذا يبدو أنه ظل على حاله التى كان فيها فى المدينة فقيها قارئا للقرآن الكريم ، فلما تولى الخلافة إنقطع عهده بالقرآن الكريم .  تقول الرواية : ( لما سلم على عبد الملك بالخلافة كان في حجره مصحف فأطبقه وقال‏:‏ هذا فراق بيني وبينك‏.‏) (  وقيل أنه لما وضع المصحف من حجره قال‏:‏ هذا آخر العهد منك‏.)

عبد الملك والمدينة فى خلافته

1 ـ ظن بعض شيوخ أهل المدينة أن عبد الملك فى خلافته سيترفق بهم ، ولكنه خيّب ظنهم . ذهب اليه الصحابى ( جابر بن عبد الله ) فرحب به عبد الملك وقرّبه، فقال جابر: (  يا أمير المؤمنين إن المدينة حيث ترى ...وأهلهامحصورون فإن رأى أمير المؤمنين أن يصل أرحامهم ويعرف حقهم فعل ) تقول الرواية:( فكره ذلك عبدالملك ، وأعرض عنه ) وأخذ جابر يلحُّ على عبد الملك دون جدوى ، وكان جابر قد أصابه العمى ، ويقوده ابن قبيصة ، فأخذ ابن قبيصة يغمز جابر ليسكت. وخرجا . وقال قبيصة لجابر : ( يا أبا عبد الله إن هؤلاء القوم صاروا ملوكا) ، وبعث عبد الملك خمسة آلاف درهم لجابر، وقيل له (  قد أمر لك أمير المؤمنين بخمسة آلاف درهم فاستعن بها على زمانك.  فقبضها جابر.!)

2 ـ وبعد قتل ابن الزبير بعامين، وفى سنة 75 حجّ عبد الملك بن مروان ثم ذهب الى المدينة ، وخطب فيها خطبته الشهيرة التى يتوعد فيها أهلها، تقول الرواية: ( حجّ علينا عبد الملك سنة خمس وسبعين بعد مقتل ابن الزبير بعامين، فخطبنا فقال‏:‏ " أما بعد فإنه كان من قبلي من الخلفاء يأكلون من المال ويوكلون، وإني والله لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف، ( أى لا علاج عنده إلا السيف ) ، ولست بالخليفة المستضعف - يعني عثمان - ولا الخليفة المداهن - يعني معاوية - ولا الخليفة المأفون - يعني يزيد بن معاوية -   أيها الناس إنا نحتمل منكم كل الغرمة ما لم يكن عقد راية أو وثوب على منبر‏:‏ هذا عمرو ابن سعيد حقه حقه،وقرابته قرابته ، قال برأسه هكذا فقلنا بسيفنا هكذا، وإن الجامعة التي خلعها من عنقه عندي، وقد أعطيت الله عهداً أن لا أضعها في رأس أحد إلا أخرجها الصعداء، فليبلغ الشاهد الغائب‏.)‏. أى يذكرهم بأنه لم يتوان عن قتل ابن عمه عمرو بن سعيد بن العاص ( الأشدق ) ، وأنه لا يزال يحتفظ لديه بالجامعة ـ أى بالقيد  الذى يقيد الرأس الجسد جميعا ـ وأنه عاهد الله إن أوثق بها أحدا فلن يخلعها عنه إلا بموته .

 عبد الملك الفقيه   

 1 ـ قالوا: ( وكان عبد الملك قد جالس الفقهاء والعلماء وحفظ عنهموكان قليل الحديث ). هذه العبارة ( وكان قليل الحديث ) تُقال فيمن لا يروى الأحاديث . وفى عصر عبد الملك انتشرت الروايات الشفهية عن النبى بعد ستين عاما من موته . ومن العجب أن يكون أبرز زعماء الفتنة الكبرى الأولى والثانية من أهل المدينة ( عائشة ، الزبير ، طلحة ، مروان بن الحكم وابن الزبير ) ثم ( ابن الزبير ومروان بن الحكم  وعبد الملك بن مروان ومصعب بن الزبير ) . ثم تُصاحب هذه الفتنة العسكرية إزدهار فى صناعة الأحاديث ، أى أن الصراع العسكرى صاحبه صراع ايدولوجى فكرى تخصّص فى صناعة الأحاديث وإختلاقها . وبينما إنتصر أهل الشام والأمويون فى ميدان السياسة والحرب فقد تفوق عليهم أهل المدينة فى الحرب ( الفكرية ) بصناعة الأحاديث ، التى جعلت المدينة حرما ثانيا ، وجعلت لقبر البنى قدسية وفرضت له الحج ، وجعلتها ( المدينة المنورة ) أى ( المقدسة ) التى تهوى اليها أفذئدة الناس لزيارة ( قبر الحبيب ). وهكذا دخل إنتصار الأمويين على المدينة الى متحف التاريخ ( كأى إنتصار حربى ) بينما لا يزال إنتصار أهل المدينة ( الفكرى الأيدلوجى ) حيا ، بل وأصبح جزءا اصيلا فى أديان المحمديين الأرضية . ومستحيل أن يقوم أحد المحمديين بالحج للبيت الحرام دون أن يحج الى ذلك الرجس المسمى بقبر النبى . كل هذه صنعه إنتصار أهل المدينة على أهل الشام والأمويين فى تلك الحرب الفكرية .

2 ـ وكما خطب عبد الملك يهدد بسيفه أهل المدينة فإنه ايضا خطب فيهم يستنكر إختلاقهم للأحاديث . تقول الرواية عن أحدهم  (  قال سمعت عبد الملك بن مروانيقول : يا أهل المدينة ، إن أحق الناس أن يلزم الأمر الأول لأنتم . ( أى أنتم أحق بالتمسك بالقرآن الكريم ) ، وقد سالت علينا أحاديثمن قبل هذا المشرق لا نعرفها ولا نعرف منها إلا قراءة القرآن ، فلازموا ما في مصحفكمالذي جمعكم عليه الإمام المظلوم رحمه الله) ( يقصد عثمان ).

كان عبد الملك هنا يتكلم بوصفه فقيها واعظا وليس خليفة مستبدا . فلقد عرفه أهل المدينة من قبل ناسكا عابدا .روى الواقدى ( محمد بن عمر ) عن رجالة من أهل المدينة قالوا عن عبد الملك أنه : (  كان عابدا ناسكا قبل الخلافة ) وتواترت الروايات تؤكد أنه ( كان عبد الملك عاقلاً حازماً أديباً لبيباً عالماً.) ويقول نافع مولى ابن عمر :( رأيت عبد الملك بن مروان وما بالمدينة شاب أشدتشميرا ولا أطلب للعلم منه ولا أفقه ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان. ) ( وقال الأعمش، عن أبي الزناد‏:‏ كان فقهاء المدينة أربعة سعيد بن المسيب، وعروة، وقبيصة بن ذويب، وعبد الملك بن مروان قبل أن يدخل في الإمارة‏.‏ )وقال الشعبي:  ( ما ذاكرت أحداً إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك، فإني ما ذاكرته حديثاً إلا زادني فيه، ولا شعراً إلا زادني فيه. ) .

 3 ـ فى خلافة عبد الملك ظهر ابن شهاب الزهرى شابا طموحا يعرض خدماته على الخليفة عبد الملك ، أى يسير فى الاتجاه المعاكس لأهل المدينة الكارهين للأمويين ، خصوصا وأن جراح موقعة الحرة لم تندمل بعد .ولقد ذكرابن الجوزى فى ( تاريخ المنتظم ج 7 وفيات 124 ) فى ترجمة ابن شهاب الزهرى  إنه غادر المدينة وهو شاب والتحق ببلاط الخليفة عبد الملك بن مروان  ، فأمره عبد الملك بالرجوع ليستفيد من علم التابعين من الأنصار فرجع الى المدينة طالبا ليستزيد علما ، أى ربما إختبره فلم يجده على المستوى اللائق فأمره بالرجوع ليستزيد علما . وكان المقصود بالعلم وقتها أيام العرب والأنساب والروايات الشفهية التى تروج فى المدينة من الحكم والأخلاق والشعر وما يقال من إجتهادات فى القرآن وقصص السابقين ، والتى ما لبث فيما بعد أن صيغت فى أحاديث منسوبة للنبى عليه السلام  . فرجع الى المدينة ليستزيد علما ، ثم عاد الى دمشق يخدم الأمويين الى أن مات . وهذا ما حكاه الزهرى عن نفسه ، إذ يقول فى بداية حديثه عن الفرصة التى لاحت له للالتحاق بخدمة الأمويين (نشأت وأنا غلام لا مال لي من الديوان ، وكنت أتعلم نسب قومي من عبد الله بنثعلبة بن صعير ، وكان عالمًا بنسب قومي ) وفى نهاية القصة التحق بخدمة الأمويين وقابل الخليفة عبد الملك. يقول الزهرى عن ذلك اللقاء ( وجعل عبد الملك يقول‏:‏ من لقيت فجعلت أسمي له وأخبره بمن لقيتمن قريش لا أعدوهم قال‏:‏ فأين أنت عن الأنصار فإنك واجد عندهم علمًا ؟ أين أنت عنخارجة بن زيد بن ثابت ؟ أين أنت عن عبد الرحمن بن يزيد؟  فسمى رجالًا . فقدمت المدينةفسألتهم وسمعت منهم‏. ‏وتوفي عبد الملك فلزمت الوليد حتى توفي ثم سليمان ثم عمر ثميزيد‏.‏ ) (  وحج هشام ( الخليفة هشام بن عبد الملك سنة ست ومائة وحج معه الزهري فصيره هشام مع ولدهيعلمهم ويفقههم) . وبالتالى فان الزهرى لم يعش فى المدينة سوى فترة طفولته ومراهقتها حين كان يأخذ العلم عن العلماء التابعين من القرشيين والأنصار، أما فترة تألقه كعالم فلم تكن فى المدينة ولكن فى دمشق ـ ولم تكن بين عوام الناس ومجالس العلم المتاحة للجميع ـ ولكن فى قصور الخلافة الأموية مستشارا ومعلما لأولاد الخلفاء، بعيدا عن عوام الناس ومجالس العلم . ولنتذكر أن الزهرى : مولود عام 58 . وقد رحل لدمشق فى حدود عام 80 . وظل بها فى قصور الخلفاء الأمويين الى أن مات عام 124.

ولكن مصانع تأليف الأحاديث فى المدينة فى الجيل التالى برز فيها ابن اسحاق الذى كتب السيرة النبوية زاعما أنه سمع رواياتها من الزهرى ، وبرز فيها مالك صاحب ( الموطأ ) والذى ينسب روايته الى الزهرى . ابن اسحاق : مولود عام 85 ومات عام 152 ـ ومالك : مولود عام 93 .ومات عام 179 . كلاهما ( ابن اسحاق ومالك ) وُلدا فى المدينة بعد رحيل الزهرى عن المدينة  نهائيا، ولم يريا الزهرى . ولكنها عبقرية الكذب ، والتى حذر منها سابقا عبد الملك بن مروان . وإذا كان عبد الملك قد انتصر على أهل المدينة عسكريا فقد انتصروا عليه ايدلوجيا . انتهى إنتصاره وبقى إنتصارهم جزءا فى أديان المحمديين الأرضية .

 

 

عبيد الله بن زياد : مجرم كربلاء

  أولا : موجز عنه :

أبوه زياد ابن أبيه . مولود عام 39 . وأمه كانت مجوسية واسمها ( مرجانة ) وكان يُنسب اليها تحقيرا . وقد أرسله أبوه الى معاوية ، تقول الرواية عن ابن عساكر‏:‏ ( أن معاوية كتب إلى زياد‏:‏ أن أوفد إليَّابنك، فلما قدم عليه لم يسأله معاوية عن شيء إلا نفذ منه، حتى سأله عن الشعر فلميعرف منه شيئاً، فقال له‏:‏ ما منعك من تعلم الشعر‏؟‏، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إني كرهت أن أجمع في صدري مع كلام الرحمنكلام الشيطان‏.‏)

ولاه معاوية على البصرة عام 55 . فلما تولى يزيد الخلافة جمع له بين البصرة والكوفة. وقد تزوج (  هند بنت أسماء بن خارجة ) وبعد مقتله تزوجها من حكم العراق بعده ، فقيل لها :  من أعز أزواجك عندك وأكرمهم عليك‏؟‏، فقالت‏:‏ ما أكرم النساء أحد إكرام بشير بن مروان، ولا هاب النساءهيبة الحجاج بن يوسف، ووددت أن القيامة قد قامت فأرى عبيد الله بن زياد واشتفي منحديثه والنظر إليه .

 وقالوا : ( وقد كانت في ابن زياد جرأة وإقدام ومبادرة إلى ما لا يجوز، وما لاحاجة له به ... ومن جرأته إقدامه على الأمربإحضار الحسين إلى بين يديه وإن قتل دون ذلك، وكان الواجب عليه أن يجيبه إلى سؤالهالذي سأله فيما طلب من ذهابه إلى يزيد أو إلى مكة أو إلى أحد الثغور‏.‏فلما أشار عليه شمر بن ذي الجوشن بأن الحزم أن يحضر عندك وأنت تسيرهبعد ذلك إلى حيث شئت من هذه الخصال أو غيرها، فوافق شمراً على ما أشار به من إحضارهبين يديه فأبى الحسين أن يحضر عنده ليقضي فيه بما يراه ابن مرجانة‏.‏وقد تعس وخاب وخسر، فليس لابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنيحضر بين يدي ابن مرجانة الخبيث‏.‏ ).

وقالوا إنه بموت يزيد بن معاوية (  بايع الناس  فى المصرين ( الكوفة والبصرة ) لعبيدالله حتى يجتمع الناس على إمام، ثم خرجوا عليه فأخرجوه من بين أظهرهم، فسار إلىالشام فاجتمع بمروان، وحَسُنَ لمروان أن يتولى الخلافة ويدعو إلى نفسه ففعل ذلك، ثم انطلق عبيد الله إلى الضحاك بن قيس فما زال به حتى أخرجه من دمشقإلى مرج راهط‏.‏ثم خدع ابن زياد ( الضحاك بن قيس ) وحَسّنَ له أن دعا إلى بيعة نفسه وخلع ابن الزبير ففعل، فانحلنظامه ووقع ما وقع بمرج راهط، من قتل الضحاك وخلق معه هنالك. وأرسل مروان ( ابن زياد ) إلى العراق في جيش فالتقى هو جيش التوابين مع سليمان بن صرد فكسرهم،واستمر قاصداً الكوفة في ذلك الجيش، فتعوق في الطريق بسبب من كان يمانعه من أهلالجزيرة من الأعداء الذين هم من جهة ابن الزبير‏.‏ ثم اتفق خروج ابن الأشتر إليه في سبعة آلاف، وكان مع ابن زياد أضعافذلك، ولكن ظفر به ابن الأشتر فقتله شر قتلة على شاطئ نهر الخازر قريباً من الموصلبخمس مراحل‏.‏) .هذا موجز حياة ابن زياد . ويقول ابن سعد عن يوم مقتل ابن زياد

 ( وكان ذلك يوم عاشوراء‏.‏ وهو اليوم الذي قتل فيه الحسين، ثم بعث ابن الأشتر برأسه إلىالمختار ومعه رأس الحصين بن نمير، وشرحبيل بن ذي الكلاع وجماعة من رؤساء أصحابهم،فسر بذلك المختار)

ثانيا : ابن زياد ورأس الحسين ونساء الحسين
1 ـ تقول الرواية : ( ولما قتل الحسين أرسلرأسه ورؤوس أصحابه إلى ابن زياد مع خولي بن يزيد وحميد بن مسلم الأزدي . ) وفى رواية أخرى : ( وقيل: بل الذي حمل الرؤوس كان شمر وقيس بن الأشعثوعمرو بن الحجاج وعروة بن قيس، فجلس ابن زياد وأذن للناس فأحضرت الرؤوس بين يديهوهو ينكت بقضيب بين ثنيته ساعة، فلما رآه زيد بن الأرقم لا يرفع قضيبه قال: أعل هذاالقضيب عن هاتين الثنيتين، فوالذي لا إله غره لقد رأيت شفتي رسول الله، صلى اللهعليه وسلم، على هاتين الشفتين يقبلهما! ثم بكى، فقال له ابن زياد: أبكى الله عينيك! فوالله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك. فخرج وهو يقول: أنتم يا معشرالعرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة، وأمرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركمويستعبد شراركم، فرضيتم بالذل، فبعداً لمن يرضى بالذل!  ) .

2 ـ بعدها بيومين سار عمر بن سعد بن أبى وقاص إلى الكوفة وحمل معه بنات الحسين وأخواته ومن كان معه من الصبيان، وعلي بنالحسين مريض، فاجتازوا بهم على الحسين وأصحابه صرعى، فصاح النساء ولطمن خدودهن،وصاحت زينب أخته: يا محمداه صلى عليك ملائكة السماء! هذا الحسين بالعراء، مرملبالدماء، مقطع الأعضاء، وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة تسفي عليها الصبا! فأبكت كل عدووصديق.فلما أدخلوهم على ابن زياد لبست زينب أرذل ثيابها وتنكرت وحفت بهاإماؤها، فقال عبيد الله: من هذه الجالسة؟ فلم تكلمه، فقال ذلك ثلاثاً وهي لا تكلمه،فقال بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة. فقال لها ابن زياد: الحمد لله الذي فضحكموقتلكم وأكذب أحدوثتكم! فقالت زينب: الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد وطهرنا تطهيراً،لا كما تقول أنت، وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر. فقال: فكيف رأيت صنع الله بأهلبيتك؟ قالت: كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتختصمونعنده. فغضب ابن زياد وقال: قد شفى الله غيظي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك. فبكت وقال : لعمري لقد كان أبوك شجاعاً! فقالت: ما للمرأة والشجاعة! ولما نظر ابنزياد إلى علي بن الحسين قال: ما اسمك؟؛ قال: علي بن الحسين. قال: أولم يقتل اللهعلي بن الحسين؟ فسكت. فقال: ما لك لا تتكلم؟ فقال: كان لي أخ يقال له أيضاً عليٌّفقتله الناس. فقال: إن الله قتله. فسكت عليٌّ. فقال: ما لك لا تتكلم؟ فقال: {الله يتوفى الأنفس حينموتها} الزمر: 42،{وما كان لنفسٍ أن تموت إلا بإذنالله} آل عمران: 145. قال: أنت والله منهم. ثم قال لرجل: ويحك! انظر هذا هلأدرك؟ إني لأحسبه رجلاً. قال: فكشف عنه مري بن معاذ الأحمري فقال: نعم قد أدرك. قال: اقتله. فقال علي: من توكل بهذه النسوة؟ وتعلقت به زينب فقالت: يا ابن زيادحسبك منا، أما رويت من دمائنا، وهل أبقيت منا أحداً! واعتنقته وقالت: أسألك باللهإن كنت مؤمناً إن قتلته لما قتلتني معه! وقال له علي: يا ابن زياد إن كانت بينكوبينهن قرابة فابعث معهن رجلاً تقياً يصحبهن بصحبة الإسلام. فنظر إليها ساعة ثمقال: عجباً للرحم! والله إني لأظنها ودت لو أني قتلته أني قتلتها معه، دعوا الغلامينطلق مع نسائه.
ثم نادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فصعد المنبر فخطبهم وقال: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه، وقتل الكذاب ابنالكذاب الحسين بن علي وشيعته.فوثب إليه عبد الله بن عفيف الأزدي ثم الوالبي،وكان ضريراً قد ذهب إحدى عينيه يوم الجمل مع علي والأخرى بصفين معه أيضاً، وكان لايفارق المسجد يصلي فيه إلى الليل ثم ينصرف، فلما سمع مقالة ابن زياد قال: يا ابنمرجانة! إن الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك والذي ولاك وأبوه! يا ابن مرجانة أتقتلونأبناء النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين؟ فقال: علي به. فأخذوه، فنادى بشعار الأزد: يا مبرور! فوثب إليه فتية من الأزد فانتزعوه، فأرسل إليه من أتاه به فقتله وأمربصلبه في المسجد، فصلب، رحمه الله.وأمر ابن زياد برأس الحسين فطيف به فيالكوفة، وكان رأسه أول رأس حمل في الإسلام على خشبة في قول، والصحيح أن أول راس حملفي الإسلام رأس عمرو بن الحمق.  ثم أرسل ابن زياد رأس الحسين ورؤوس أصحابه مع زحربن قيس إلى الشام إلى يزيد ومعه جماعة، وقيل: مع شمر وجماعة معه، وارسل معه النساءوالصبيان، وفيهم علي بن الحسين، قد جعل ابن زياد الغل في يديه ورقبته، وحملهم علىالأقتاب، فلم يكلمهم علي بن الحسين في الطريق حتى بلغوا الشام، فدخل زحر بن قيس علىيزيد، فقال: ما وراءك؟ فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله وبنصره، ورد عليناالحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته، وستين من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أنينزلوا على حكم الأمير عبيد الله أو القتال فاختاروا القتال فعدونا عليهم مع شروقالشمس فأحطنا بهم من كل ناحية حتى إذا أخذت السيوف مآخذها من هام القوم جعلوايهربون إلى غير وزر، ويلوذون بالإكام والحفر، كما لاذ الحمائم من صقر، فوالله ماكان إلا جزر جزور، أو نومة قائل، حتى أتينا على آخرهم! فهاتيك أجسادهم مجردة،وثيابهم مرملة، وخدودهم معفرة، تصهرهم الشمس، وتسفي عليهم الريح، زوارهم العقبانوالرخم  . فدمعت عينا يزيد وقال: كنت أرضى من طاغيتكم بدون قتلالحسين، لعن الله ابن سمية! أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه، فرحم الله الحسين! ولم يصله بشيءٍ.) .

 تدمع العينان عند قراءة هذا . ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم .!!

ثالثا : مقتل ابن زياد سنة سبعوستين:

1 ـ استولى المختار بن عبيدة الثقفى على العراق ، وقد إنضم اليه ابراهيم بن الأشتر النخعى بآلاف من الشيعة ، وقد بعث المختار بابن الأشتر فتحارب مع ابن زياد الذى كان على رأس جيش يريد إستعادة العراق للأمويين .

2 ـ  تقول الرواية : ( ولما سار إبراهيم بن الأشتر من الكوفة أسرع السير ليلقوا بنزياد قبل أن يدخل أرض العراق، وكان ابن زياد قد سار في عسكر عظيم من الشام، فبلغالموصل وملكها،.. فسار إبراهيم وخلف أرض العراق وأوغل في أرضالموصل..  فنزل بقرية بارشيا. وأقبل ابن زياد إليه حتى نزل قريباًمنهم على شاطئ الخازر. ) .

3 ــ وكان عمير بن الحباب السلمي من قادة جيش ابن زياد ، ومن أقرب أعوانه . ولكنه كان حاقدا على الأمويين بسبب قتلهم الضحاك بن قيس ( زعيم قبائل مُضر ) فى موقعة مرج راهط . وكان معظم جنود الأمويين من قبائل كلب . وإلتقى عمير بن الحباب سرا مع ابراهيم بن الأشتر ( وكلاهما من قبائل مُضر ) ، واتفقا على أن ينهزم عمير بقومه تاركا جيش ابن زياد ، ونصح عمير ( ابن الأشتر ) بالطريقة المثلى لهزيمة ابن زياد .

4 ــ وبعد صلاة الفجر عبّأ ابن الأشتر قواته وحمّس جنوده بتذكيرهم بمقتل الحسين وآله ، بينما عبّأ ابن زياد جيشه ،  ( وقد جعل ابن زياد على ميمنته الحصين بن نمير السكوني، وعلى ميسرته عمير بنالحباب السلمي، وعلى الخيل شر حيل بن ذي الكلاع الحميري.  ) واصطدم الجيشان ، ولكن عمير بن الحباب  خجل من الفرار ، وكان ابن الأشتر ينتظر فرار عمير ، تقول الرواية : ( وحملتميمنة إبراهيم على ميسرة ابن زياد وهم يرجون أن ينهزم عمير بن الحباب، كما زعم،فقاتلهم عمير قتالاً شديداً وأنف من الفرار. ) وإختدم القتال حتى صاروا يقتتلون بالسيوف والعُمُد ، وانتهى الأمر بفرار عمير فعلا ، حتى قيل إن قتاله فى الأول كان تعذيرا . تقول الرواية : ( فتطاعنوا ثم صاروا إلى السيوف والعمد فاضطربوا بهاملياً، وكان صوت الضرب بالحديد كصوت القصارين ... واشتد القتال فانهزم أصحاب ابن زياد وقتل من الفريقين قتلىكثيرة.وقيل: إن عمير بن الحباب أول من انهزم، وإنما كان قتاله أولاًتعذيراً.  ).

5 ــ  وقتل ابراهيم بن الأشتر ( عبيد الله بن زياد ) دون أن يعرفه . تقول الرواية : ( فلما انهزموا قال إبراهيم: إني قد قتلت رجلا تحت راية منفردة على شاطئنهر الخازر فالتمسوه فإني شممت منه رائحة المسك .. فالتمسوهفإذا هو ابن زياد قتيلاً بضربة إبراهيم فقد قدّته بنصفين وسقط، كما ذكر إبراهيم،فاخذ رأسه وأحرقت جثته.) ( وحمل شريك بن جدير التغلبي على الحصين بن نمير السكونيوهو يظنه عبيد الله بن زياد، فاعتنق كل واحد منهما صاحبه، فنادى التغلبي: اقتلونيوابن الزاني فقتلوا الحصين . )

6 ــ وفى رواية أخرى ( وقيل: إن الذي قتل ابن زياد شريك بن جدير، وكان هذا شريكشهد صفين مع علي وأصيبت عينه، فلما انقضت أيام علي لحق شريك ببيت المقدس فأقام به،فلما قتل الحسين عاهد الله تعالى إن ظهر من يطلب بدمه ليقتلن ابن زياد أو ليموتندونه. فلما ظهر المختار للطلب بثأر الحسين أقبل إليه وسار مع إبراهيم بن الأشتر،فلما التقوا حمل على خيل الشام يهتكها صفاً صفاً مع أصحابه من ربيعة حتى وصلوا إلىابن زياد وثار الرهج فلا يسمع إلا وقع الحديد، فانفرجت عن الناس وهما قتيلان شريكوابن زياد. والأول أصح.  )

 7 ــ (  ولما انهزم أصحاب ابن زياد تبعهم أصحاب إبراهيم،فكان من غرق أكثر ممن قتل، وأصابوا عسكرهم وفيه من كل شيء.وأرسل إبراهيمالبشارة إلى المختار وهو بالمدائن ..  وأقام إبراهيمبالموصل، وأنفذ رأس عبيد الله بن زياد إلى المختار ومعه رؤوس قواده، فألقيت فيالقصر. ) .   

 

  المختار بن عبيد الثقفى : المغامر الأفّاق

 1 ـ ( قريش ) ..وآه  من قريش ..!! .

2 ـ تنقسم قبائل العرب الى : عرب الشمال ( العرب المستعربة ) ومنها ( مُضر ) و ( ربيعة ) ومن ( مضر ) قبائل قيس ، وينتهى الأمر بقريش . ثم عرب اليمن ( اليعاربة ) القحطانيون ، ومنهم قبائل حمير وكندة وكلب و..وو  . وينتهى الأمر بالأوس والخزرج . لا نقصد باليمن المكان ولكن النسب لبنى قحطان وأصلهم من اليمن .  كل أولئك وكل هؤلاء تبع لقريش . هذه حقيقة تتضح فى سطور القرن الأول الهجرى . فى داخل قريش فكل ( العائلات ) تبع لعائلة ( عبد مناف ) الذى إنجب التوأم ( هاشم ) و ( عبد شمس ) ثم أنجب (عبد شمس ) أمية . وإنحصر التنافس بين بنى امية وبنى هاشم ، وبقية قريش تبع لهما . وعندما حاول ابن الزبير تغيير هذه المعادلة فشل وقُتل وقُتل معه آلاف مؤلفة .

3  ـ زعماء القبائل اليمنية والشمالية من ربيعة أو مضر كان لابد لهم من التعامل مع قريش ،إما بالرفض لهيمنتها كما فعل الخوارج من كل القبائل ، أو بالتقاتل مع فريق قرشى ضد فريق قرشى آخر ، وخصوصا مع بنى هاشم أو بنى أمية . يبذلون دماءهم فى خدمة هذا الهاشمى أو ذاك الأموى . لا فارق هنا بين الأشعث بن قيس وذريته من قبيلة ( كندة ) اليمنية ، أو ذى الكلاع الحميرى ( اليمنى ) أو ابن بحدل الكلبى  (اليمنى )، أو المهلب بن أبى صفرة الأزدى (اليمنى ) أو خالد القسرى البجلى ( اليمنى ) . ينطبق هذا أيضا على قبائل مضر وربيعة ، ومن اشهرهم قبيلة ( ثقيف ) .

4 ـ من قبيلة ثقيف برز إثنان فى هذه الفتنة الكبرى الثانية ،وكانا على طرفى نقيض : الحجاج ابن يوسف الثقفى المشهور، المخلص لبنى أمية  ، والذى هزم وقتل ابن الزبير عام 73 ، أما الآخر فهو المختار بن عبيد الثقفى المقتول عام 67  ، الذى بحث عن دور لنفسه متقلبا بولائه بين الأمويين والهاشميين والزبيريين ( القرشيين )  .  نتعرف على هذا المختار الثقفى :  

أولا : المختار الثقفى فى لمحة سريعة :

1 ـ أبوه هو( هو أبو عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عفرة بنعميرة بن عوف بن ثقيف الثقفي‏.) (‏أسلم أبوه في حياة النبي  ولم يره. وقد كان عمر بعثه في جيش كثيف في قتال الفرسسنة ثلاث عشرة، فقتليومئذ ، وقتل معه نحو من أربعة آلاف من المسلمين ، وكان له من الولد صفية بنت أبي عبيد،  وهي زوجة عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وماتت في حياته )‏.‏.

2 ـ كان المختار ( وصوليا ) يطمح للوصول الى الثروة والسلطة بأى طريق . ولم يكن له من طريق سوى التعلق بقريش ، أى إما أن يكون مع بنى أمية أو بنى هاشم ، أو حتى مع ابن الزبير. وقد جرّب الانتماءات الثلاث .

3 ـ بعد مقتل (على بن أبى طالب ) ‏جمع ( الحسن بن على ) جيشا ليقاتل معاوية ، ولما أحسّ ( الحسن ) بغدر أهل العراق هرب منهم الى المدائن فى جيش قليل . وكان المختار فى المدائن مع واليها وهو ( عم ) المختار، فقال المختار لعمه‏:‏ ( لو أخذت الحسن فبعثته إلى معاوية لاتخذت عنده اليدالبيضاء أبداً‏.‏) فقال له عمه‏:‏ ( بئس ما تأمرني به يا ابن أخي. ) وانتشر هذا بين الشيعة فكانوا يبغضون المختار وقتها ، خصوصا مع ولائه للأمويين حتى صار من أعمدة أهل الكوفة فى ولاية ابن زياد .

4 ـ وسرعان ما حوّل المختار موقفه حين توقع أن يكون الملك للحسين . وكان أهل الكوفة ينتظرون مجىء الحسين اليهم . وقد أرسل الحسين  ابن عمه ( مسلم بن عقيل) الى الكوفة، فاعلن المختار أنه سينصر مسلم بن عقيل فإعتقله ابن زياد  وضربه مائة جلدة، فإستغاث المختار بصهره عبد الله بن عمر ، فأرسل ابن عمر إلىيزيد بن معاوية يتشفع فيه، فأمر يزيد ( ابن زياد ) فأطلق سراح المختار، ونفاه إلى الحجاز فيعباءة. وحين حوصر ابن الزبير فى مكة فى الحصار الأول فى خلافة يزيد بن معاوية قاتل المختار مع ابن الزبير قتالا شديدا فإكتسب ثقته .

5 ـ وبعد موت يزيد وشيوع الفوضى فى العراق وجد المختار فرصته فى العراق ، فعمل على أن يلعب على الحبلين معا ( ابن الزبير ) و ( محمد بن الحنفية ) وكان يميل الى العمل باسم ابن الحنفية أكثر لأن ابن الحنفية لا يريد الانغماس فى الفتنة ، وبالتالى يمكن للمختار أن يستغل إسمه ليحكم ويتحكم كما يريد ، أما ابن الزبير فهو مستبد حسود حقود بخيل ولا يسمح لرأس أن تبرز فى دولته ، أى لا مكان لأن يتحقق طموح المختار فى تبعيته لابن الزبير . لذا رسم سياسته على اللعب بابن الزبير وأن يتخذه موطأ قدم، ثم يصل بإسم ابن الحنفية  الى السلطة والثروة . ولم يكن ابن الحنفية ممن يسعى الى المشاكل ، ولم يكن يثق فى المختار . وطلب المختار إذنا من ابن الحنفية ليذهب باسمه الى العراق داعية له، فأذن له وأرسل معه عبد الله الهمذانى وأوصاه أن يأخذ حذره من المختار. وجاء المختار الى ابن الزبير فحصل على إذن منه أيضا أن يدعو اليه فى العراق.  

6 ـ  ولما قدم المختار الى العراق صار صديقا لابن مطيع وهو والي الكوفة يومئذ لعبد الله بن الزبير، بينما كان يدعو سرأ لابن الحنفية . وتكاثر أتباع المختار فانقلب على ابن مطيع ، وهزمه فهرب ابن مطيع  الى ابن الزبير . واستولى المختار على الكوفة وما يتبعها من ولايات ، فاشتعل العداء بين ابن الزبير والمختار. وبدأ إضطهاد ابن الزبير لابن الحنفية وبنى هاشم  لارغامهم على البيعة له ، وكاد أن يشعل فيهم النار لولا أن أنقذهم المختار .

7 ـ  وبعض الشيعة كان قد تملكهم الشك فى زعم المختار بأنه داعية ابن الحنفية فجاء وفد منهم الى المدينة  الى ابن الحنفية يسأل عن حقيقة المختار فقال لهم ابن الحنفية : ( نحن حيث ترون محتسبون ، وما احب ان لي سلطان الدنيابقتل مؤمن بغير حق ، ولوددت ان الله انتصر لنا بمن شاء من خلقه، فاحذروا الكذابينوانظروا لانفسكم ودينكم .). وهى إجابة تحتمل أكثر من تفسير . وإختلق المختار كتابا زعم أنه من ابن الحنفية الى ابراهيم بن الأشتر النخعى كبير الشيعة فى العراق ، وقد كان أبوه الأشتر النخعى القائد الأكبر لعلى بن أبى طالب. وإقتنع ابراهيم بن الأشتر بالمختار وصار قائد جيشه ، وبهذا علا شأن المختار . وشهد عام 66 أحداثا هامة : ( إستيلاء المختار على الكوفة فى 14 ربيع الأول ، وهروب ابن مطيع والى ابن الزبير . وفيها تمكن المختار من قتل كل من شارك فى قتل الحسين وآله فى كربلاء ومنهم شمر بن ذى الجوشن  وعمر بن سعد وابنه . تقول الرواية : ( ثم شرع في تتبع قتلة الحسين ومن شهد الوقعة بكربلاء من ناحية ابنزياد‏.‏  فقتل منهم خلقاً كثيراً، وظفر برؤوس كبار منهم كعمر بن سعد بن أبيوقاص أمير الجيش الذين قتلوا الحسين، وشمر بن ذي الجوشن أمير الألف الذين ولوا قتلالحسين، وسنان بن أبي أنس، وخولي بن يزيد الأصبحي، وخلق غير هؤلاء‏.‏)

8 ـ  وحاول المختار التلاعب بابن الزبير ولم يثق به ابن الزبير . وقد بعث المختار الى ابن الزبير يطلب منه ألف ألف درهم وأن يعترف به واليا على الكوفة مقابل أن يقاتل عبد الملك بن مروان ، فرفض ابن الزبير ، وبعث يقول له : ( إلى متى أماكر كذاب ثقيف ويماكرني؟  ) .! وكتب المختار إلىابن الحنفية يعرض عليه أن يرسل جيشا الى المدينة على أن يرسل ابن الحنيفة رجلا من عنده يؤكد أن المختار تابع له وفى طاعته ،فكتب إليه ابن الحنفية: ( أما بعد فقد قرأتكتابك وعرفت تعظيمك لحقي وما تنويه من سروري، وإن أحب الأمور كلها إلي ما أطيع اللهفيه، فأطع الله ما استطعت، وإني لو أردت القتال لوجدت الناس إلي سراعاً والأعوان ليكثيراً، ولكن أعتزلكم وأصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين. ) وأمره بالكف عنالدماء.وفى كل ما سبق كان المختار يحكم العراق فى فترة الاضطراب هذه باسم محمد بن الحنفية. لمدة  ستة عشر شهرا.

 9 ـ ثم بعث ابن الزبير أخاه مصعب فاستولى على البصرة ، وصار المختار فى الكوفة يواجه ابن الزبير والأمويين معا . وكان من دهاء عبد الملك بن مروان أن ترك مصعب بن الزبير يصارع المختار  ثم يقتل المختار ، بعدها إنقض عبد الملك على ( مصعب بن الزبير ) وهزمه وقتله واستولى على العراق وما يتبعه ، ثم إلتفت بعدها لابن الزبير فى مكة فارسل اليه الحجاج فهزمه وقتله وصلبه .

10 ـ يوجز ابن الأثير تاريخ المختار فيقول :( وكان المختار قد خرج يطلب بثأر الحسين فاجتمع عليه بشر كثير منالشيعة بالكوفة ، فغلب عليها ، وتطلب قتلة الحسين فقتلهم . قتل شمر بن ذي الجوشن الذيباشر قتل الحسين ، وخولي بن يزيد الذي سار برأسه إلى الكوفة، وعمر بن سعد بن أبي وقاصأمير الجيش الذي حاربوا الحسين حتى قتلوه ، وقتل معه ولده حفصا . وأرسل إبراهيم بنالأشتر في عسكر كثيف فلقي عبيد الله بن زياد الذي كان جهز الجيش إلى الحسين فحاربوه،  فقتل عبيد الله بن زياد في تلك الواقعة . ..فلذلك أحب المختار كثير منالمسلمين فإنه أبلى في ذلك بلاء حسنًا . ..وكان يرسل المال إلى عبد الله بن عمر وهو صهره زوجأخته صفية بنت أبي عبيد ، وإلى ابن عباس وإلى بن الحنفية فيقبلونه .  ثم سار إليه مصعب منالبصرة فقتل المختار ) .  

11 ـ وعن مقتل المختار تقول الرواية إن المختار هزم الخوارج وزعيمهم ( شبث بن ربعي )    فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة وانضموا اليه ، ثم إنضم اليهم  (محمد بن الأشعث بن قيس ) ، وكان المختار قد هدم داره بالكوفة . وكتب مصعب الى ( المهلب بن أبى صفرة ) عامله فى فارس أن يأتى اليه بالجنود والأموال ليهاجموا المختار فى الكوفة ، فأقبل المهلب بجموع كثيرة وأموال عظيمة . كما إنضم لمصعب زعيم قبائل تميم ( الأحنف بن قيس ). وأرسل مصعب الى عبد الله بن مخنف الى الكوفة ليخذل أهلها عن المختار . وانهزمت طليعة للمختار يقودها احمد بن شميط ، وقُتل ابن شميط ، ثم إلتقى المختار مع جيش مصعب . وفى البداية إنهزم جيش مصعب ولكنه ثبت ولم يهرب فرجع اليه أصحابه وثبتوا معه ، وحمل المهلب بن أبى صفرة بجنده فهزم المختار وهرب اصحابه ، ولجأ المختار الى قصر الامارة بالكوفة وتحصّن به بمن بقى من جيشه ، وحوصروا فى القصر  ومنعوا عنهم الطعام والشراب ، وكان إذا خرج جماعة من جيشه تناولتها السهام والحجارة من البيوت والمياه القذرة . وإقترب جيش مصعب من القصر فأمر المختار من بقى معه بالقصر ليواجهوه  وقال ‏:‏ ( ويحكم إن الحصار لا يزيدكم إلا ضعفًا فانزلوا بنا نقاتل ، لنقتل كرامًا، والله ما أنا بآيس إن صدقتموهم أن ينصركم الله‏.‏) فتوقفوا عن قبول قوله ، فقال‏:‏ ( أما أنا فوالله لا أعطي بيدي‏.‏) . ثم أرسل إلى امرأته أم ثابت بنت سمرة بن جندب ، فأرسلت إليه بطيب كثير،فاغتسل وتحنط ووضع ذلك الطيب على رأسه ولحيته ، ثم خرج في تسعة عشر رجلًا . فقال لهم‏:‏( أتؤمنونني وأخرج إليكم ) فقالوا‏:‏ ( لا . إلا على الحكم ) فقال‏:‏ ( لا أحكمكم في نفسي أبدًا) .  فضارب بسيفه حتى قُتل . ونزل أصحابه على الحكم ، فقُتلوا). وقُتل المختار لأربع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة سبع وستين وهو ابنسبع وستين سنة‏.‏

12 ـ (  وأمر مصعب بكفّ المختار فقُطعت، ثمسُمّرت بمسمار حديد إلى جنب حائط المسجد ، ولم يزل على ذلك حتى قدم الحجاج بن يوسف فنظرإليها فقال‏:‏ ما هذه فقالوا‏:‏ كف المختار فأمر بنزعها‏.‏)

13 ـ  وبعث مصعب برأس المختار مع رسول خاص إلى أخيه عبدالله بن الزبير فى مكة ، فوصل مكة بعد العشاء .، ولم يسمح ابن الزبير للرسول بالدخول عليه بزعم أنه يقوم الليل يصلى ، ثم أذن له فى الفجر فدخل عليه بكتاب مصعب وبرأس المختار . تقول الرواية : ( فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين معي الرأس‏.‏فقال‏:‏ ألقه على باب المسجد‏.‏فألقاه ، ثم جاء فقال‏:‏ جائزتي يا أمير المؤمنين‏.‏فقال‏:‏ جائزتك الرأس الذي جئت به تأخذه معك إلى العراق‏.‏).!!

أخيرا

هذا هو المختار المغامر (الأفّاق ).  ولنا وقفة أخرى مع المختار ( الأفّاك ) ، فهو صاحب تأثير كبير فى الدين الشيعى والدولة العباسية اللاحقة. 

 

 

 

شبث بن ربعى : ( داعش لم تأت من فراغ ).!!

مقدمة :

1 ـ هو : (شبث بن ربعي بن حصين بن عثيم بن ربيعة بن زيد بن رِياح بن يربوع بن حنظلة  التميمى ) .

2 ـ هو جندى من جنود الفتنة ، تاريخه يعبّر عن عشرات الألوف من الأعراب الصحابة المنافقين الذين وصفهم رب العزة بقوله (كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا ) النساء 91  ). كانوا كفارا ، فأسلموا ، ثم إرتدوا ، ثم عادوا الى الاسلام ، ثم صاروا من جنود الفتح ، ثم ثاروا على الخليفة عثمان ، ثم صاروا شيعة ل ( على ) ثم إنقلبوا عليه وصاروا خوارج . هذه قصة ( شبث بن ربعى ) ولكنه تميز بأنه غيّر موقفه بعدها ورجع الى (على ) ثم صار مع الأمويين ، وممّن خدع الحسين ودعاه الى القدوم الى الكوفة ثم صار من قادة جيش ابن زياد الذى قتل الحسين ، ثم تقلبت حياته مع المختار الثقفى ،  واسهم فى القضاء على المختار ، وختم حياته تابعا لمصعب بن الزبير. حياة دموية حافلة بالتقلبات ، كان فيها يحمل سيفه يقاتل مع هذا أو ذاك لا يتأخر عن أى فتنة قريبة منه،  حتى بلغ أرذل العمر ، ومات عام 70 فى ولاية مصعب بن الزبير على العراق  .

3 ـ ولأنه شخصية وسط آلاف الشخصيات ( من عصر الصحابة الى التابعين ) فإن البحث عنه كمن يبحث عن إبرة فى كومة قش . إستلزم هذا مراجعة مئات الصفحات من تاريخ الطبرى وتاريخ ابن الأثير وابن كثير، ولم يذكره ابن الأثير ضمن الصحابة فى كتابه ( أُسد الغابة ). ونتعرض للأحداث التى ورد فيها ذكر ( شبث بن ربعى ) ،أوبالتعبير الدرامى : نتعرض للمشاهد التى ظهر فيها . 

أولا : شبث بن ربعى يعمل مؤذنا لسجاح التى إدّعت النبوة

1 ـ كان فتيا مراهقا وقت أن زعمت سجاح النبوة وتزعمت قومها بنى تميم فى خلافة أبى بكر ، وجعلت شبث بن ربعى مؤذنا لها . وتحالفت سجاح مع مسيلمة الكذاب وتزوجته .

2 ـ  ننقل هذا النّص من تاريخ الطبرى ، مع الاعتذار عما جاء في ثناياه : ( أن مسيلمة لما نزلت به سجاح أغلق الحصن دونها . فقالت له سجاح :  "انزل ". قال: " فنحي عنك أصحابك " . ففعلت . فقال مسيلمة : " اضربوا لها قبة وجمروها لعلها تذكر الباه " ( الشهوة الجنسية ) ، ففعلوا فلما دخلت القبة نزل مسيلمة فقال : " ليقف هاهنا عشرة وهاهنا عشرة. "  ثم دارسها ، فقال : " ما أوحي إليك ؟ " فقالت : " هل تكون النساء يبتدئن ولكن أنت ، قل ما أوحي إليك. "  قال : " ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى ، أخرج منها نسمة تسعى ، من بين صفاق وحشى . " قالت : " وماذا أيضا ؟ " قال : " أوحي إلي أن الله خلق النساء أفراجا وجعل الرجال لهن أزواجا فنولج فيهن قعسا إيلاجا ثم نخرجها إذا نشاء إخراجا فينتجن لنا سخالا إنتاجا . " . قالت : " أشهد أنك نبي " .  قال : " هل لك أن أتزوجك فآكل بقومي وقومك العرب ؟ "  قالت : "  نعم . " قال : " ألا قومي إلى النيك فقد هيي لك المضجع ..  وإن شئت ففي البيت وإن شئت ففي المخدع  ...وإن شئت سلقناك وإن شئت على أربع .. وإن شئت بثلثيه وإن شئت به أجمع.."  قالت:  " بل به أجمع " .قال  : " بذلك أوحي إلي ". فأقامت عنده ثلاثا ثم انصرفت إلى قومها ، فقالوا : " ما عندك "؟  قالت : " كان على الحق فاتبعته فتزوجته" .  قالوا : " فهل أصدقك شيئا ؟ قالت : " لا "  قالوا : " ارجعي إليه فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق. "  فرجعت،  فلما رآها مسيلمة أغلق الحصن وقال: " مالك ؟ " قالت : " أصدقني صداقا " قال : " من مؤذنك ؟ "  قالت : "  شبث بن ربعي الرياحي " . قال : " عليّ به . " فجاء ، فقال : "  ناد في أصحابك أن مسيلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد صلاة العشاء الآخرة وصلاة الفجر . " .

ثانيا : شبث بن ربعى فى الفتوحات فى خلافة عمر بن الخطاب :

1 ــ بعد إخماد حركات الردة دعا أبو بكر ثم عمر الأعراب العائدين لسيطرة قريش الى الفتوحات ، فتوافد الأعراب الى المدينة فكان يبعثهم أبو بكر ثم عمر الى الفتوحات . وورد إسم شبث بن ربعى مع أبيه ( ربعى بن حصين ) ضمن هذه الوفود .يروى الطبرى عن قدوم بنى كنانة والأزد : ( وقدما على عمر غزاة بني كنانة والأزد في سبعمائة جميعا . فقال " أي الوجوه أحب إليكم ؟  قالوا : " الشأم أسلافنا أسلافنا ." فقال : "  ذلك قد كفيتموه.  العراق العراق ذروا بلدة قد قلل الله شوكتها وعددها واستقبلوا جهاد قوم قد حووا فنون العيش لعل الله أن يورثكم بقسطكم من ذلك فتعيشوا مع من عاش من الناس. ) أرادوا أن يبعث بهم عمر الى غزو الشام ، فأرسلهم عملر الى العراق فهو ( قليل الشوكة ) وأهله قد ( حووا فنون العيش ) على أمل أن يتعيشوا بما فى العراق من ثراء .

2 ــ ضمن هذه الوفود جاء ربعى ومعه ابنه شبث الى عمر فأرسله بمن معه الى العراق مددا الى المثنى بن حارثة . يقول الطبرى ( وجاء ربعي في أناس من بني حنظلة فأمّره عليهم ، وسرحهم وخرجوا حتى قدم بهم على المثنى ، فرأس بعده ابنه شبث بن ربعي. ) . هذا أول ذكر لشبث فى الفتوحات .

ثالثا : شبث فى الفتنة الكبرى ( الأولى ) بين ( على ومعاوية )  . 

1 ـ كان من أوائل الثائرين على فساد عثمان بن عفان ، ومن الطبيعى أن ينضم الى ( على ) فظهر إسمه واضحا وقتها . وننقل الروايات التى ورد فيها إسمه .

2 ــ فى اواخر ذى الحجة ( الشهر الحرام ) عام 36 ، فى موقعة (صفين ) فى ( مشهد ) منها تقول الرواية :  ( وجاء الناس حتى أتوا عسكرهم .  فمكث ( علي ) يومين لا يرسل إلى معاوية أحدا ولا يرسل إليه معاوية.  ثم إن (عليا ) دعا بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري وسعيد بن قيس الهمداني وشبث بن ربعي التميمي،  فقال : "  ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الله وإلى الطاعة والجماعة . " فقال له شبث بن ربعي : "  يا أمير المؤمنين ألا تطمعه في سلطان توليه إياه ومنزلة يكون له بها أثرة عندك إن هو بايعك ؟ " فقال علي : " ائتوه فالقوه واحتجوا عليه وانظروا ما رأيه . " ).

أرسل (على ) وفدا للتفاوض مع معاوية ، يريد ( على ) أن يستجيب له معاوية بلا قيد ولا شرط بمجرد الوعظ . وكان شبث بن ربعى له رأى سياسى أفضل من رأى (على ) ، فنصح  (عليا ) أن يعطى معاوية ولاية مقابل أن يبايع لعلى . ورفض ( على ) بعقليته التى تريد الاستحواذ على الكعكة كلها دون أن يعطى الآخرين مقابلا ، حتى لو كان هذا الغير منافسا له ومعه جيش وقوة عسكرية .

3 ـ وتمضى الرواية فتقول :  ( فأتوه ودخلوا عليه فحمد الله وأثنى عليه أبو عمرة بشير بن عمرو وقال يا معاوية إن الدنيا عنك زائلة وإنك راجع إلى الآخرة وإن الله عز وجل محاسبك بعملك وجازيك بما قدمت يداك وإني أنشدك الله عز وجل أن تفرق جماعة هذه الأمة وأن تسفك دماءها بينها فقطع عليه الكلام وقال هلا أوصيت بذلك صاحبك فقال أبو عمرة إن صاحبي ليس مثلك صاحبي أحق البرية كلها بهذا الأمر في الفضل والدين والسابقة في الإسلام والقرابة من الرسول قال فيقول ماذا قال يأمرك بتقوى الله عز وجل وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق فإنه أسلم لك في دنياك وخير لك في عاقبة أمرك قال معاوية ونطل دم عثمان رضي الله عنه لا والله لا أفعل ذلك أبدا فذهب سعيد بن قيس يتكلم فبادره شبث بن ربعي فتكلم فحمد الله وأثنى عليه وقال يا معاوية إني قد فهمت ما رددت على ابن محصن إنه والله لا يخفى علينا ما تغزو وما تطلب إنك لم تجد شيئا تستغوي به على الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم إلا قولك قتل إمامكم مظلوما فنحن نطلب بدمه فاستجاب له سفهاء طغام وقد علمنا أن قد أبطأت عنه بالنصر وأحببت له بالقتل لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب ورب متمني أمر وطالبه الله عز وجل يحول دونه بقدرته وربما أوتي المتمني أمنيته وفوق أمنيته ووالله مالك في واحدة منهما خير لئن أخطأت ما ترجو إنك لشر العرب حالا في ذلك ولئن أصبت ما تمنى لا تصيبه حتى تستحق من ربك صلي النار فاتق الله يا معاوية ودع ما أنت عليه ولا تنازع الأمر أهله فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن أول ما عرفت فيه سفهك وخفة حلمك قطعك على هذا الحسيب الشريف سيد قومه منطقه ثم عنيت بعد فيما لا علم لك به فقد كذبت ولؤمت أيها الأعرابي الحلف الجافي في كل ما ذكرت ووصفت انصرفوا من عندي فإنه ليس بيني وبينكم إلا السيف وغضب وخرج القوم وشبث يقول أفعلينا تهول بالسيف أقسم بالله ليعجلن بها إليك فأتوا عليا وأخبروه بالذي كان من قوله وذلك في ذي الحجة . ) .

 دخل وفد (على ) لكى يعظ معاوية ، فنصحهم معاوية أن يعظوا (عليا ) . ورد الواعظ على معاوية بأحقية (على ) وأن الأولى لمعاوية فى دينه أن يستجيب ل ( على ). وتعلل معاوية بطلب الثأر لعثمان . وجاء رد شبث بن ربعى رائعا ، فأكد لمعاوية أن معاوية يطلب السلطان وليس ثأر عثمان ، وهو ــ أى معاوية ـ الذى أبطأ عن نُصرة عثمان وتركه للقتل . وغضب معاوية من منطق شبث وطردهم وهو يهددهم بالسيف ، وردّ عليه شبث التهديد بمثله . وهذا المشهد أروع موقف لشبث بن ربعى . تفوق به على ( على ) و ( معاوية ) معا .

4 ـ  وتمضى الرواية : ( فأخذ علي يأمر الرجل ذا الشرف فيخرج معه جماعة ويخرج إليه من أصحاب معاوية آخر معه جماعة فيقتتلان في خيلهما ورجالهما ثم ينصرفان وأخذوا يكرهون أن يلقوا بجمع أهل العراق أهل الشام لما يتخوفون أن يكون في ذلك من الاستئصال والهلاك فكان علي يخرج مرة الأشتر ومرة حجر بن عدي الكندي ومرة شبث بن ربعي ومرة خالد بن المعمر ومرة زياد بن النضر الحارث ومرة زياد بن خصفة التيمي ومرة سعيد بن قيس ومرة معقل بن قيس الرياحي ومرة قيس بن سعد وكان أكثر القوم خروجا إليهم الأشتر وكان معاوية يخرج إليهم عبدالرحمن بن خالد المخزومي وأبا الأعور السلمي ومرة حبيب بن مسلمة الفهري ومرة ابن ذي الكلاع الحميري ومرة عبيدالله بن عمر بن الخطاب ومرة شرحبيل بن السمط الكندي ومرة حمزة بن مالك الهمداني فاقتتلوا من ذي الحجة كلها وربما اقتتلوا في اليوم الواحد مرتين أوله وآخره  ). 

هذا عن وقائع القتال فى صفين فى الشهر الحرام  . كانوا يتقاتلون جماعة جماعة تفاديا لقتال عام يستأصلهم جميعا . وكان كل فريق له قائد . وكان شبث بن ربعى أحد قواد (على ).

5 ـ وعن محاولات الصلح فى هدنة للحرب بين (على ) ومعاوية ، تقول الرواية : (  .. لما توادع علي ومعاوية يوم صفين اختلف فيما بينهما الرسل رجاء الصلح . فبعث (علي ) عدي بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبي وشبث بن ربعي وزياد بن خصفة إلى معاوية.  فلما دخلوا حمد الله عدي بن حاتم ثم قال : " أما بعد فإنا أتينا ندعوك إلى أمر يجمع الله عز وجل به كلمتنا وأمتنا ويحقن به الدماء ويؤمن به السبل ويصلح به ذات البين إن ابن عمك سيد المسلمين أفضلها سابقة وأحسنها في الإسلام أثرا وقد استجمع له الناس وقد أرشدهم الله عز وجل بالذي رأوا فلم يبق أحد غيرك وغير من معك فانته يا معاوية لا يصبك الله وأصحابك بيوم مثل يوم الجمل . " فقال معاوية : " كأنك إنما جئت متهدددا لم تأت مصلحا .! هيهات يا عدي . كلا والله إني لابن حرب ، ما يقعقع لي بالشنان ، أما والله إنك لمن المُجلبين على ابن عفان رضي الله عنه ، وإنك لمن قتلته، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتل الله عز وجل به . هيهات يا عدي بن حاتم . قد حلبت بالساعد الأشد. " فقال له شبث بن ربعي ...: " أتيناك فيما يصلحنا وإياك فأقبلت تضرب لنا الأمثال. دع ما لا ينتفع به من القول والفعل وأجبنا فيما يعمنا وإياك نفعه. " ..) وتكلم معاوية فطلب منهم تسليم قتلة عثمان ، وهو يعلم إستحالة هذا الطلب لأنه سيفرّق جيش (على ) . ورد عليه شبث : ( أيسرك يا معاوية أنك أمكنت من عمار تقتله ؟ فقال معاوية : " وما يمنعني من ذلك والله لو أمكنت من ابن سمية ما قتلته بعثمان ولكن كنت قاتله بناتل مولى عثمان . "  فقال له شبث : " وإله الأرض وإله السماء ما عدلت معتدلا ، لا والذي لا إله إلا هو لا تصل إلى عمار حتى تندر الهام عن كواهل الأقدام وتضيق الأرض الفضاء عليك برحبها . " فقال له معاوية : " إنه لو قد كان ذلك كانت الأرض عليك أضيق.! )

 هذه جولة أخرى من المفاوضات العقيمة ، يطلب فيها وفد ( على ) أن يبايع معاوية ل (على ) بلا قيد ولا شرط . وتنتهى الى الفشل ، ونرى شبث بن ربعى أحد رجال الوفد المتحدث باسم (على ) وهو الذى يهدد معاوية ، ويعامله رأسا برأس . وايضا : فقد كان شبث من أبرز قواد (على ) وقتها .

رابعا : شبث بن ربعى : يخرج على (على ) ثم يترك الخوارج ويعود الى (على )

1 ـ بعد فشل التحكيم وخدعة عمرو بن العاص لأبى موسى الأشعرى ، خرج بعض أصحاب (على ) عليه ،فأصبحوا ( الخوارج ) الذين كفّروا عليا لأنه رضى بالتحكيم ، وطلبوا منه أن يعلن كفره وتوبته من التحكيم ، ورفض (على )، فأصبح يواجه عدوا جديدا . وكان ( شبث بن ربعى ) هو القائد الحربى للخوارج ، وقد انسحبوا الى حروراء ، فكان إسمهم (الحرورية ).  . تقول الرواية : ( خرجوا مع (علي ) إلى صفين وهم متوادون أحباء ، فرجعوا متباغضين أعداء ما برحوا من عسكرهم بصفين حتى فشا فيهم التحكيم ولقد أقبلوا يتدافعون الطريق كله ويتشاتمون ويضطربون بالسياط . يقول الخوارج يا أعداء الله أدهنتم في أمر الله عز وجل وحكمتم وقال الآخرون فارقتم إمامنا وفرقتم جماعتنا . فلما دخل علي الكوفة لم يدخلوا معه حتى أتوا حروراء فنزل بها منهم اثنا عشر ألفا ونادى مناديهم إن أمير القتال شبث بن ربعي التميمي وأمير الصلاة عبدالله بن الكواء اليشكري والأمر شورى بعد الفتح والبيعة لله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )

 2 ـ وعن موقعة ( النهروان ) بين (على ) والخوارج ، يأتى الطبرى بروايات مختلفة ، ويرجح أن تكون الواقعة عام 38 ، وتقول الرواية عما حدث قبل المعركة  : ( أن شبث بن ربعي وابن الكواء خرجا من الكوفة إلى حروراء فأمر  (علي  ) الناس أن يخرجوا بسلاحهم ، فخرجوا إلى المسجد حتى امتلأ بهم ، فأرسل إليهم بئس ما صنعتم حين تدخلون المسجد بسلاحكم اذهبوا إلى جبانة مراد حتى يأتيكم أمري.  قال أبو مريم فانطلقنا إلى جبانة مراد فكنا بها ساعة من نهار ثم بلغنا أن القوم قد رجعوا وهم زاحفون قال فقلت أنطلق أنا حتى أنظر إليهم فانطلقت حتى أتخلل صفوفهم حتى انتهيت إلى شبث بن ربعي وابن الكواء، وهما واقفان متوركان على دابتيهما وعندهما رسل (علي ) وهم يناشدونهما الله لما رجعا بالناس.). أى كان شبث وابن الكواء زعيما الخوارج الحرورية وقتها . ولا تقول الرواية هل إستجاب شبث لرجاء (على ) وترك الخوارج أم لا .

3 ــ ولكن رواية أخرى تجعل (شبث ) من قادة (على ) فى موقعة  النهروان ضد الخوارج ، أى إنه تركهم وعاد الى (على ) . تقول الرواية عن بدء معركة النهروان : (فخرج ( علي )  فعبأ الناس فجعل على ميمنته حجر بن عدي وعلى ميسرته شبث بن ربعي أو معقل بن قيس الرياحي وعلى الخيل أبا أيوب الأنصاري وعلى الرجالة أبا قتادة الأنصاري وعلى أهل المدينة وهم سبعمائة أو ثمانمائة رجل قيس بن سعد بن عبادة...وعبأت الخوارج فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي وعلى الميسرة شريح بن أوفى العبسي وعلى خيلهم حمزة بن سنان الأسدي وعلى الرجالة حرقوص بن زهير السعدي ).

4 ــ ولا نملك إلا تصديق هذه الرواية لسببين : الأول : إن شبث كان فى هذه الموقعة من قادة (على ) ، ولم يكن من قادة الخوارج فى تلك المعركة ، و (شبث ) كان شخصية قيادية وقتها . والثانى : أن معركة النهروان إنتهت بمقتل جميع الخوارج وقتها ، وهذا أمر معروف . عن جولات المعركة تقول الرواية  عن ( على )  ( نهض إليهم فقاتلهم حتى فرغ منهم  )ويقول أحد جنود (على ) :( فما لبثناهم فكأنما قيل لهم موتوا فماتوا  ). وعاش شبث بن ربعى بعدها .

خامسا : شبث فى خلافة معاوية يشهد زورا على رفيقه ( حُجر بن عدى )

1 ـ بايع شبث بن ربعى ( معاوية ) ضمن شيعة (على ) . وعاد ربعى الى الكوفة . وصار معروفا أنه من كبار الشيعة فيها ، والذين كانوا يعارضون الوالى المغيرة بن أبى شعبة حين كان يأخذ فى لعن (على ) فى خطبة الجمعة ، وهى بدعة إبتدعها معاوية . وكان معاوية يسكت عنهم . وإختلفت سياسته عندما بدأ التخطيط لتوريث إبنه يزيد ، فعمل على التخلص من رؤساء الشيعة فى البداية وكان منهم شبث بن ربعى  . فكان الايقاع بحُجر بن عدى الكندى وقتله مع أصحابه . وقد تعرضنا لهذا بالتفصيل فى كتابنا ومقالاته المنشورة هنا عن ( وعظ السلاطين ) . يهمنا من هذه الوقائع ما يرد فيها عن شبث بن ربعى .

2 ـ فى البداية كتب معاوية الى واليه بالكوفة المغيرة  يقول له :( خذ زيادا وسليمان بن صرد وحجر بن عدي وشبث بن ربعي وابن الكواء وعمرو بن الحمق بالصلاة في الجماعة . فكانوا يحضرون معه في الصلاة . ) . أى سعى معاوية الى إكراههم على حضور صلاة الجمعة مع الوالى حتى يسمعوا لعن (على ) ، وكان منهم شبث بن ربعى . كان معاوية يتحرش بهم لإثارتهم . فكانوا يحضرون ، ويرفعون صوتهم بالاحتجاج على المغيرة عندما يبدا بلعن (على ) . ويثور الشغب. ويسكت عنهم المغيرة .

3 ـ وبعد موت المغيرة تولى الكوفة ابن زياد وحكمها بالحديد والنار، وإعتقل حجر بن عدى وصحبه ، واشهد عليهم أنهم خلعوا الطاعة ورفعوا السلاح . وشهد بهذه الشهادة الزور جماعة من كبار أهل الكوفة كان منهم  القاضى أبو بردة بن أبى موسى الأشعرى وآخرون من أشياع بنى أمية . تقول الرواية : ( ثم بعث زياد إلى أصحاب حجر حتى جمع اثني عشر رجلا في السجن ، ثم إنه دعا رؤوس الأرباع فقال اشهدوا على حجر بما رأيتم منه . وكان رؤوس الأرباع يومئذ : عمرو بن حريث على ربع أهل المدينة ، وخالد بن عرفطة على ربع تميم وهمدان، وقيس بن الوليد بن عبد شمس بن المغيرة على ربع ربيعة وكندة ، وأبو بردة بن أبي موسى على مذحج وأسد.  فشهد هؤلاء الأربعة أن حجرا جمع إليه الجموع وأظهر شتم الخليفة ودعا إلى حرب أمير المؤمنين وزعم أن هذا الأمر لا يصلح إلا في آل أبي طالب ووثب بالمصر وأخرج عامل أمير المؤمنين . ) وأراد زياد شهادات أكثر وشهودا أكثر ، وتذكر الرواية شبث بن ربعى ضمن أولئك عن الشهود الجُدُد : ( .. فشهد إسحاق بن طلحة بن عبيدالله...  والسائب بن الأقرع الثقفي وشبث بن ربعي... )، وتهرب من الشهادة المختار بن عبيدة الثقفى ، تقول الرواية : (ودعا المختار بن أبي عبيد وعروة بن المغيرة بن شعبة ليشهدوا عليه فراغا  ). وبهذه الشهادة الزور تم قتل حُجر بن عدى وأصحابه . فى هذا المشهد نرى تقلب شبث بن ربعى ، كان من الشيعة فلما رأى حزم ابن زياد غيّر موقفه الى النقيض وصار من أتباع معاوية . ولكن التحول الأبشع له كان فى ماساة كربلاء .

سادسا : السقوط الأكبر : شبث والحسين وكربلاء

1 ـ كان شبث ممّن دعا الحسين ليأتى الى الكوفة . تقول رواية الطبرى : ( وكتب شبث بن ربعي وحجار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم وعزرة بن قيس وعمرو بن الحجاج الزبيدي ومحمد بن عمير التميمي : "  أما بعد فقد اخضر الجناب وأينعت الثمار وطمت الجمام فإذا شئت فاقدم على جند لك مجند والسلام عليك . ). وفوجىء الحسين فى كربلاء بأولئك الذين دعوه للمجىء هم الذين ينتظرونه بالسلاح لقتاله . تقول الرواية عن الحسين أنه نادى : (  فنادى: يا شبث بن ربعي! ويا حجار بن أبجر! ويا قيس بنالأشعث! ويا زيد بن الحارث! ألم تكتبوا إلي في القدوم عليكم؟ قالوا: لم نفعل. ثمقال: بلى فعلتم. ثم قال: أيها الناس إذ كرهتموني فدعوني أنصرف إلى مأمني منالأرض.قال: فقال له قيس بن الأشعث: أولا تنزل على حكم ابن عمك، يعني ابن زياد،فإنك لن ترى إلا ما تحب. فقال له الحسين: أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشمبأكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله ولا أعطيهم بيدي عطاء الذليل، ولا أقر إقرارالعبد. عباد الله إني عذت بربي وربكم أن ترجمون، أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لايؤمنبيوم الحساب ثم أناخ راحلته ونزل عنها.)

2 ـ وقبل أن يأتى الحسين الى الكوفة أرسل ابن عمه مسلم بن عقيل ، وتكاثرت الشيعة حول ابن عقيل ، ولكن تحرك عبيد الله بن زياد بسرعة ، فالتقى برؤساء العشائر فى الكوفة يخوفهم ويمنيهم حتى إنضموا اليه وضغطوا على أهاليهم فإنفضوا من حول مسلم بن عقيل . وكان شبث بن ربعى ممّن إستجاب لعبيد الله بن زياد . تقول الرواية : ( ودعا عبيدالله كثير بن شهاب بن الحصين الحارثي فأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج فيسير بالكوفة ويخذل الناس عن ابن عقيل ويخوفهم الحرب ويحذرهم عقوبة السلطان وأمر محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت فيرفع راية أمان لمن جاءه من الناس وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي وشبث بن ربعي التميمي  ) . أكثر من ذلك ، صار شبث أحد قواد ابن زياد ، تقول الرواية : ( وعقد لشبث بن ربعي لواء فأخرجه ). وأخلص شبث بن ربعى فى قتال مسلم بن عقيل ، بينما حاول المختار بن أبى عبيدة نُصرة مسلم بن عقيل ، تقول الرواية  : ( أن المختار بن أبي عبيد وعبدالله بن الحارث بن نوفل كانا خرجا مع مسلم ، خرج المختار براية خضراء وخرج عبدالله براية حمراء وعليه ثياب حمر.... وإن ابن الأشعث والقعقاع بن شور وشبث بن ربعي قاتلوا مسلما وأصحابه عشية سار مسلم إلى قصر ابن زياد قتالا شديدا، وأن شبثا جعل يقول انتظروا بهم الليل يتفرقوا . ) .

3 ـ وأخرج ابن زياد جيشا لمواجهة الحسين ، يقوده عمر بن سعد بن الوقاص ، وكان شبث بن ربعى قائد على الرجّالة ، تقول الرواية عن قادة الجيش : ( وعلى الرجال شبث بن ربعي الرياحي وأعطى الراية ذويدا مولاه ).

4 ـ ويبرز إسم شبث بن ربعى فى قتال الحسين فى كربلاء . ونأخذ من روايات المعركة مشاهد متتابعة : ( وقاتلهم أصحاب الحسين قتالا شديدا وأخذت خيلهم تحمل وإنما هم اثنان وثلاثون فارسا وأخذت لا تحمل على جانب من خيل أهل الكوفة إلا كشفته .) وامر قائد الجيش عمر بن سعد بن الوقاص ( شبث ) أن يهاجم الحسين برجالته بالنبل ، فرفض شبث وقال :  ( سبحان الله أتعمد إلى شيخ مضر وأهل المصر عامة تبعثه في الرماة ؟ لم تجد من تندب لهذا ويجزئ عنك غيري ؟ ).

5 ـ وكان واضحا أن شبث كان كارها لمشاركته فى قتال الحسين مع مشاركته الفعلية فى القتال  . تقول الرواية :  ( وما زالوا يرون من شبث الكراهة لقتاله . ) ووضح هذا فى مواقف أخرى له فى المعركة . أراد شمر بن ذى الجوشن أن يحرق فسطاط الحسين ومن فيه من نساء الحسين ، تقول الرواية : ( وحمل شمر بن ذي الجوشن حتى طعن فسطاط الحسين برمحه ونادى علي بالنار حتى أحرق هذا البيت على أهله قال فصاح النساء وخرجن من الفسطاط قال وصاح به الحسين يابن ذي الجوشن أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي على أهلي حرقك الله بالنار)   وتدخل شبث بن ربعى فقال لابن ذى الجوشن : (ما رأيت مقالا أسوأ من قولك ولا موقفا أقبح من موقفك أمرعبا للنساء صرت ؟ .! ). 

6 ـ وظل ضمير شبث يعذبه على جريمته فى كربلاء . تقول الرواية : ( وقال أبو زهير العبسي فأنا سمعته في إمارة مصعب يقول :" لا يعطي الله أهل هذا المصر خيرا أبدا ولا يسددهم لرشد . ألا تعجبون إنا قاتلنا مع علي بن أبي طالب ومع ابنه من بعده آل أبي سفيان خمس سنين ، ثم عدونا على ابنه ، وهو خير أهل الأرض نقاتله مع آل معاوية وابن سمية الزانية. ضلال يا لك من ضلال . !!)  

 سابعا : شبث بن ربعى مع ابن الزبير ضد المختار :

1 ـ إنضم شبث الى ابن مطيع والى ابن الزبير ضد المختار بن أبى عبيدة الثقفى . والتفصيلات هنا كثيرة ومُملة ، وتنتهى بهزيمة ابن مطيع وهروبه من الكوفة . وانضم شبث الى المختار ليحمى نفسه ، وحين تتبع المختار قتلة الحسين تحارب معه شبث ، واسهم شبث فى هزيمة المختار بفضح مخاريق ومزاعم المختار عن التابوت الذى كان المختار يزعم أنه يستنصر به ، ثم وجد شبث بُغيته مع مصعب بن الزبير، فعمل على جذب خصوم المختار الى معسكر مصعب . 

ثامنا : شبث بن ربعى والخوارج الأزارقة

1 ـ عيّن مصعب واليا على الكوفة هو القباع ( الحارث بن ربيعة )   . وكانت الخوارج الأزارقة يعيثون فسادا فى الشرق ثم زحفوا غربا نحو الكوفة فى عام 68 ، فإستغاث أهل الكوفة بالوالى (القباع ) خوفا من الأزارقة ، فتحرك القباع بطيئا بجيشه ، فقال له ابراهيم بن الأشتر (  سار إلينا عدو ليست له تقية ، يقتل الرجل والمرأة والمولود ، ويخيف السبيل ويخرب البلاد فانهض بنا إليه ) و ايضا تحرك الوالى ببطء ، فتدخل شبث : ( دخل إليه شبث بن ربعي فكلمه بنحو مما كلمه به ابن الأشتر فارتحل ولم يكد فلما رأى الناس بطء سيره رجزوا به  ) ، وجاءت الأنباء أن الخوارج دخلوا قرية سماك بن يزيد ،  ( فأتت الخوارج قريته ، فأخذوه وأخذوا ابنته فقدموا ابنته فقتلوها . ..واسم ابنته أم يزيد ، وأنها كانت تقول لهم : " يا أهل الإسلام إن أبي مصاب فلا تقتلوه وأما أنا فإنما أنا جارية والله ما أتيت فاحشة قط ولا آذيت جارة لي قط ولا تطلعت ولا تشرفت قط . " فقدموها ليقتلوها ، فأخذت :  تنادي : " ما ذنبي .! ما ذنبي .! " ، ثم سقطت مغشيا عليها أو ميتة ،  ثم قطعوها بأسيافهم . )   وقال ابراهيم بن الأشتر للوالى الأقبع : ( اندب معي الناس حتى أعبر إلى هؤلاء الأكلب فأجيئك برؤوسهم الساعة ) وتدخل شبث بن ربعى وآخرون فأقنعوا الوالى أن يترك الخوارج يرحلون ( فقال شبث بن ربعي وأسماء بن خارجة ويزيد بن الحارث ومحمد بن الحارث ومحمد بن عمير أصلح الله الأمير دعهم فليذهبوا لا تبدأهم . ..وكأنهم حسدوا إبراهيم بن الأشتر ‏).

2 ـ  ولقد دخل الخوارج المدائن ، تقول الرواية : (  فلما سمع مصعب بقدومهم ركب في الناس وجعل يلوم عمر بن عبيد الله بتركه هؤلاء يجتازون ببلاده، وقد ركب عمر بن عبيد الله في آثارهم، فبلغ الخوارج أن مصعباً أمامهم، وعمر بن عبيد الله وراءهم، فعدلوا إلى المدائن فجعلوا يقتلون النساء والولدان، ويبقرون بطون الحبالى، ويفعلون أفعالاً لم يفعلها غيرهم‏.‏ ) .

أخيرا

بل فعلها غيرهم .. فإن داعش لم تأت من فراغ .!!

 

 

 

 

 

الفصل الثالث : الخوارج فى الفتنة الكبرى الثانية ( 61 : 73 )

الخوارج فى الفتنة الكبرى الثانية: بداية الخوارج وإنهاؤهم الفتنة الكبرى الأولى بقتلهم (على ) 

مقدمة :

1 ـ كان الخوارج من القوى الفعّالة فى الفتنة الكبرى ، لم يؤثروا فى إلصراع على السلطة بين أطراف قريش وصراع الأجنحة القرشية ( أمويون ـ هاشميون ـ زبيريون ) ، ولكنهم ـ فى الأغلب ـ حاربوا الجميع فى هذه الفتنة الكبرى الثانية ، من مقتل الحسين الى مقتل ابن الزبير ، ثم إستمروا فى حرب الأمويين ، واستمروا فى فسادهم فى العصر العباسى الأول . هذا عن الفتنة الكبرى الثانية .

2 ـ  أما فى الفتنة الكبرى الأولى فالغريب أن ظهور الخوارج ــ  إثر الخلاف بين اصحاب (على ) بسبب التحكيم ــ إنتهى بإغتيالهم عليا ، وإنهاء الفتنة الكبرى الأولى ، وإنفراد معاوية بالحكم . والغريب أيضا أن ( عليا ) قضى على جميع الخوارج الذين ثاروا عليه ـ قتلهم جميعا . ولكنه قضى على الأشخاص ولم يقض على الفكرة نفسها ، لذا إستمرت الفكرة وأنجبت خوارج قاتلوا عليا ثم قتلوه ، وأنجبت ( الفكرة ) آلافا مؤلفة فيما بعد قتلوا آلافا مؤلفة .

3 ـ  وهذا يؤكد  ــ لمن يهمه الأمر ــ أن مواجهة داعش وغيرها من بنات الوهابية ليس بالعسكر ، ولكن بعلاج المرض الذى أنتج داعش ، وأنتج من قبله الخوارج . وقد دفع (على بن أبى طالب ) الثمن بحياته لأنه فشل فى التعامل مع الخوارج ـ ضمن سلاسل فشل أخرى . ولا يزال الفشل نصيب كل من يتصدى لحرب ما يسمى بالارهاب بقوة الجيش واسلحة الأمن ، مع الابقاء على الفساد والظلم الذى تنبت فيه وتترعرع الحركات الارهابية من الخوارج الى حركة الزنج الى القرامطة الى الوهابية وبناتها . وسيظل الشرق الأتعس يعايش حركات الارهاب طالما يرتع فيه الاستبداد مصاحبا الفساد ، وطالما يرفض الاصلاح والعدل. وسنتوقف مع هذا فيما بعد . أمّا هنا فنتوقف مع نشأة الخوارج وحربهم وقتلهم ( عليا) بن أبى طالب .

أولا : الخلاف بين أتباع (على ) بعد التحكيم

1 ـ تقول الرواية : ( ثم رجع الناس عن صفين، فلما رجع علي خالفت ( الخوارج ) الحرورية وخرجت، كان ذلك أول ما ظهرت وأنكرت تحكيم الرجال، ورجعوا على غير الطريق الذي أقبلوا فيه، أخذوا على طريق البر، وعادوا وهم أعداء متباغضون وقد فشا فيهم التحكيم يقطعون الطريق بالتشاتم والتضارب بالسياط، يقول الخوارج ( الخارجون على (على ) : يا أعداء الله أدهنتم في أمر الله، ويقول الآخرون ( الذين بقوا على الولاء لعلى ) : فارقتم إمامنا وفرقتم جماعتنا.)

2 ـ وفارق الخوارج عليا ، تقول الرواية عن (على ) : (  ثم مضى فلم يزل يذكر الله حتى دخل القصر. فلما دخل الكوفة لم يدخل الخوراج معه فأتوا حروراء فنزلوا بها. ) ( ولما رجع علي من صفين فارقة الخوارج وأتوا حروراء، فنزل بها منهم اثنا عشر ألفاً، ونادى مناديهم: إن أمير القتال شبث بن ربعي التميمي، وأمير الصلاة عبد الله بن الكوا اليشكري، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله، عز وجل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. ) .
3 ـ وبعث علي عبد الله بن عباس إلى الخوارج ليناقشهم ، وانتهى النقاش الى طلبهم من (على ) إعلان كفره لأنه وافق على التحكيم ، كما فعلوا هم حين إعترفوا بكفرهم حين وافقوا على التحكيم ثم تابوا . قالوا  : (  صدقت قد كنا كما ذكرت وكان ذلك كفراً منا وقد تبنا إلى الله فتب كما تبنا نبايعك وإلا فنحن مخالفون.)

4 : ظهور شعار التحكيم : وانتشر فى معسكر صيحة الخوارج ( لا حكم إلا لله ) ، تقول الرواية ( لما أراد علي أن يبعث أبا موسى للحكومة أتاه رجلان من الخوارج: زرعة ابن البرج الطائي وحرقوص بن زهير السعدي فقالا له: لا حكم إلا لله! فقال علي: لا حكم إلا لله. وقال حرقوص بن زهير: تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا. فقال علي: قد أردتكم على ذلك فعصيتموني وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتاباً وشرطنا شروطاً وأعطينا عليها عهوداً، وقد قال الله تعالى{وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} النحل: 91. ) فقال حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب عنه. فقال علي: ما هو ذنب ولكنه عجزٌ عن الرأي وقد نهيتكم. فقال زرعة: يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال لأقاتلنك. .. فخرجا من عنده يحكمان.) أى خرجا يهتفان ( لا حكم إلا الله ).

وصار هذا شعارا ودينا للخوارج . واصبح تعبيرا وقتها أن يقال ( حكّم ) و ( المُحكّمة ) ، تقول الرواية : ( وخطب علي ذات يوم، فحكمت المحكمة في جوانب المسجد، فقال علي: الله أكبر، كلمة حق أريد بها باطل! . ) (  ثم خطب علي يوماً آخر فقام رجل فقال: لا حكم إلا لله! ثم توالى عدة رجال يحكمون. فقال علي: الله أكبر، كلمة حق أريد بها باطل! أما إن لكم عندنا ثلاثاً ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدأونا، وإنما فيكم أمر الله. ثم رجع إلى مكانه من الخطبة.).

5 ـ واتفق الخوارج على أن يقودهم  ( عبد الله بن وهب ) وتسللوا يريدون المدائن ، ولحق بهم خوارج من الكوفة والبصرة ، وحدثت إشتباكات بينهم وبين من بقى على الولاء ل (على ). وكتب اليهم (على ) يريدهم الرجوع فكتبوا له : (  أما بعد فإنك لم تغضب لربك وإنما غضبت لنفسك، فإن شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك وإلا فقد نبذناك على سواء، إن الله لا يحب الخائنين.). ويأس منهم (على ) واخذ فى تجميع قواته ، وبعض أتباعه كانوا فى قلق ــ إذا سار بهم (على ) لقتال معاوية وتركو أهاليهم ــ من إحتمال هجوم الخوارج على أهاليهم . وتحققت مخاوفهم بما حدث لعبد الله بن خباب .

6 ـ تقول الرواية : ( لما أقبلت الخارجة من البصرة حتى دنت من النهروان رأى عصابةٌ منهم رجلاً يسوق بامرأة على حمار، فدعوه فانتهروه فأفزعوه وقالوا له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: أفزعناك؟ قال: نعم. قالوا: لا روع عليك.. ) وناقشوه فى التحكيم وفى (على )  ولمّا لم يعجبهم رأيه قتلوه وقتلوا زوجته  : (  فقالوا: إنك تتبع الهوى وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها، والله لنقتلنك قتلةً ما قتلناها أحداً.فأخذوه وكتفوه ثم أقبلوا به وبامرأته، وهي حبلى متم ... فأضجعوه فذبحوه، فسال دمه في الماء، وأقبلوا إلى المرأة فقالت: أنا امرأة ألا تتقون الله! فبقروا بطنها، وقتلوا ثلاث نسوة من طيء، وقتلوا أم سنان الصيداوية.)

7 ـ فزع اصحاب (على ) وقالوا له : ( علام ندع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في عيالنا وأموالنا؟ سر بنا إلى القوم فإذا فرغنا منهم سرنا إلى عدونا من أهل الشام.). وأرسل (على ) الى الخوارج يطلب تسليم القتلة ، فقالوا : ( كلنا قتلهم وكلنا مستحل لدمائكم ودمائهم. ) . وبعد مناوشات كلامية تحتمت الحرب بينهما .

8 ـ معركة النهروان عام 37 : تجهز الفريقان ، ونصب (على ) راية الأمان أمامهم وناداهم أبو أيوب الأنصارى : ( من جاء تحت هذه الراية فهو آمن، ومن لم يقتل ولم يستعرض، ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن، لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم في سفك دمائكم.) ، وانصرف جماعة من الخوارج ، منهم فروة بن نوفل الأشجعي  في خمسمائة فارس، وخرجت طائفة أخرى متفرقين فنزلوا الكوفة،) وانضم ل (على ) منهم نحو مائة. ( وكانوا أربعة آلاف، فبقي مع عبد الله بن وهب ألف وثمانمائة، فزحفوا إلى (علي )، وكان علي قد قال لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدأوكم. فتنادوا: الرواح إلى الجنة! وحملوا على الناس. ) وانتهت المعركة بقتل جميع الخوارج . ( فلم يقتل من أصحاب علي إلا سبعة.). قتلهم فى هذه المعركة ولكن ظلت الفكرة قائمة :   

9 ـ خروج ( الخرّيت بن راشد الناجى  وبنى ناجية ) على (على ) عام 38 : كانوا مع (على ) فى الجمل وصفين ، ثم خرجوا عليه بعد معركة النهروان . وبعث (على ) لهم (زياد بن خصفة البكري ) فقاتلهم ،   وارسل له (على ) مددا يقود (معقل بن قيس ) ، بينما إنضم الى ( الخريت الناجي ) كثيرون من الفرس والعرب الناقمين على دفع الخراج من أهل الأهواز فارسل (على ) مددا لمعقل بن قيس من البصرة . وجرت معركة إنهزم فيها الخريت ، وهرب الى أسياف وظل يحرض على (على ) فإتبعه آخرون من قبائل عبد القيس وسائر العرب . وفى النهاية لحق معقل بن قيس بالخريت فهزمه وقتله.  

 10 ـ وتتابعت ثورات الخوارج : تقول الرواية : ( لما قتل أهل النهروان خرج أشرس بن عوف الشيباني على ( علي ) بالدسكرة في مائتين ثم سار إلى الأنبار، فوجه إليه ( علي ) الأبرش بن حسان في ثلاثمائة فواقعه، فقتل أشرس في ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين.ثم خرج هلال بن علفة من تيم الرباب ومعه أخوه مجالد فأتى ماسبذان، فوجه إليه ( علي ) معقل بن قيس الرياحي فقتله وقتل أصحابه، وهم أكثر من مائتين، وكان قتلهم في جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين.ثم خرج الأشهب بن بشر، وقيل الأشعث، وهو من بجيلة، في مائة وثمانين رجلاًن فأتى المعركة التي أصيب فيها هلال وأصحابه فصلى عليهم ودفن من قدر عليه منهم، فوجه إليهم  ( علي  ) جارية بن قدامة السعدي، وقيل حجر ابن عدي، فأقبل إليهم الأشهب، فاقتتلا بجرجرايا من أرض جوخى، فقتل الأشهب وأصحابه في جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين.ثم خرج سعيد بن قفل التيمي من تيم الله بن ثعلبة في رجب بالبندنيجين ومعه مائتا رجل فأتى درزنجان، وهي من المدائن على فرسخين، فخرج إليهم سعد بن مسعود فقتلهم في رجب سنة ثمان وثلاثين ) .( ثم خرج أبو مريم السعدي التميمي فأتى شهرزور، وأكثر من معه من الموالي، وقيل لم يكن معه من العرب غير ستة نفر هو أحدهم، واجتمع معه مائتا رجل، وقيل أربعمائة، وعاد حتى نزل على خمسة فراسخ من الكوفة، فأرسل إليه ( علي  ) يدعوه إلى بيعته ودخول الكوفة، فلم يفعل وقال: ليس بيننا غير الحرب. فبعث إليه علي شريح بن هانىء في سبعمائة، فحمل الخوارج على شريح وأصحابه فانكشفوا وبقي شريح في مائتين، فانحاز إلى قرية، فتراجع إليه بعض أصحابه ودخل الباقون الكوفة، فخرج  (علي ) بنفسه وقدم بين يديه جارية بن قدامة السعدي، فدعاهم جارية إلى طاعة ( علي ) وحذرهم القتل فلم يجيبوا، ولحقهم ( علي ) أيضاً فدعاهم فأبوا عليه وعلى أصحابه، فقتلهم أصحاب ( علي ) ولم يسلم منهم غير خمسين رجلاً استأمنوا فآمنهم. وكان في الخوارج أربعون رجلاً جرحى، فأمر علي بإدخالهم الكوفة ومداواتهم حتى برأوا. وكان قتلهم في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين، وكانوا من أشجع من قائل من الخوارج، ولجرأتهم قاربوا الكوفة.).

 أخيرا :  مقتل ( علي بن أبي طالب ) ( 17 رمضان عام 40 )

1 ـ تقول الرواية : ( وكان سبب قتله أن عبد الرحمن بن ملجم المرادي والبرك بن عبد الله التميمي الصريمي، ..، وعمرو بن بكر التميمي السعدي، وهم من الخوارج، اجتمعوا ، فتذاكروا أمر الناس وعابوا عمل ولاتهم ثم ذكروا أهل النهر فترحموا عليهم، وقالوا: " ما نصنع بالبقاء بعدهم؟ فلو شرينا أنفسنا وقتلنا أئمة الضلالة وأرحنا منهم البلاد " ! . فقال ابن ملجم: " أنا أكفيكم علياً " ،  وكان من أهل مصر. وقال البرك بن عبد الله: " أنا أكفيكم معاوية ". وقال عمرو بن بكر: " أنا أكفيكم عمرو بن العاص" . .فتعاهدوا أن لا ينكص أحدهم عن صاحبه الذي توجه إليه حتى يقتله أو يموت دونه، وأخذوا سيوفهم فسمُّوها ( أى جعلوها مُسمّمة ) واتعدوا لسبع عشرة من رمضان، وقصد كل رجل منهم الجهة التي يريد؛ فأتى ابن ملجم الكوفة، فلقي أصحابه بالكوفة وكتمهم أمره، ورأى يوماً أصحاباً له من تيم الرباب، وكان ( علي ) قد قتل منهم يوم النهر عدة، فتذاكروا قتلى النهر، ولقي معهم امرأة من تيم الرباب اسمها ( قطام ) . وقد قتل أبوها وأخوها يوم النهر، وكانت فائقة الجمال. فلما رآها أخذت قلبه فخطبها. فقالت: " لا أتزوجك حتى تشتفي لي ". فقال: " وما تريدين؟ " قالت:  " ثلاثة آلاف وعبداً وقينةً وقتل ( علي )".!. فقال:" أما قتل (علي ) فما أراك ذكرته وأنت تريدينني. " ، قالت:  " بلى، التمس غرته فإن أصبته شفيت نفسك ونفسي ونفعك العيش معي، وإن قتلت فما عند الله خير من الدنيا وما فيها ". قال: " والله ما جاء بي إلا قتل ( علي )، فلك ما سألت." . قالت: " سأطلب لك من يشد ظهرك ويساعدك." . وبعثت إلى رجل من قومها اسمه ( وردان ) وكلمته، فأجابها، وأتى ابن ملجم رجلاً من أشجع اسمه شبيب بن بجرة فقال له: " هل لك في شرف الدنيا والآخرة؟ "  قال: " وماذا؟ " قال: " قتل علي."  قال شبيب: " ثكلتك أمك! لقد جئت شيئاً إداً! كيف تقدر على قتله؟ " قال: " أكمن له في المسجد فإذا خرج إلى صلاة الغداة شددنا عليه فقتلناه، فإن نجونا فقد شفينا أنفسنا، وإن قتلنا فما عند الله خير من الدنيا وما فيها. " قال:  " ويحك! لو كان غير ( علي )  كان أهون، قد عرفت سابقته وفضله وبلاءه في الإسلام، وما أجدني أنشرح لقتله."  قال: " أما تعلمه قتل أهل النهر العباد الصالحين؟ " قال: " بلى " . قال:" فنقتله بمن قتل من أصحابنا ". فأجابه.)

2 ـ وتمضى الرواية : ( فلما كان ليلة الجمعة، وهي الليلة التي واعد ابن ملجم أصحابه على قتل علي ومعاوية وعمرو، أخذ سيفه ومعه شبيب ووردان ، وجلسوا مقابل السدة التي يخرج منها ( علي ) للصلاة، فلما خرج ( علي ) نادى: " أيها الناس الصلاة الصلاة ". فضربه شبيب بالسيف فوقع سيفه بعضادة الباب، وضربه ابن ملجم على قرنه بالسيف، وقال: " الحكم لله لا لك يا علي ولا لأصحابك! " ، وهرب وردان فدخل منزله، فأتاه رجل من أهله، فأخبره وردان بما كان، فانصرف عنه وجاء بسيفه فضرب به وردان حتى قتله، وهرب شبيب في الغلس، وصاح الناس، فلحقه رجل من حضرموت يقال له عويمر، وفي يد شبيب السيف، فأخذه وجلس عليه، فلما رأى الحضرمي الناس قد أقبلوا في طلبه وسيف شبيب في يده خشي على نفسه فتركه ونجا، وهرب شبيب في غمار الناس.)
3 ـ ( ولما ضرب ابن ملجم ( علياً ) قال: "لا يفوتنكم الرجل ". فشد الناس عليه فأخذوه، وتأخر (علي ) وقدّم جعدة بن هبيرة، وهو ابن أخته أم هانىء، يصلي بالناس الغداة، وقال ( علي ): " أحضروا الرجل عندي. " فأدخل عليه. فقال: " أي عدو الله! ألم أحسن إليك؟  "قال: " بلى ". قال: "فما حملك على هذا؟ " قال: " شحذته أربعين صباحاً وسألت الله أن يقتل به شر خلقه." ، فقال علي: " لا أراك مقتولاً به ولا أراك إلا من شر خلق الله."  ثم قال: " النفس بالنفس، إن هلكت فاقتلوه كما قتلني، وإن بقيت رأيت فيه رأيي، يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين تقولون قد قتل أمير المؤمنين، ألا لا يقتلن إلا قاتلي، انظر يا حسن إن أنا مت من ضربتي هذه فاضربه ضربةً بضربة ولا تمثلن بالرجل.." .. هذا كله وابن ملجم مكتوف. فقالت له أم كلثوم ابنة علي:  " أي عدو الله! لا بأس على أبي، والله مخزيك! "  قال:"  فعلى من تبكين؟ والله إن سيفي اشتريته بألف، وسممته بألف، ولو كانت هذه الضربة بأهل مصر ما بقي منهم أحد" .!.
4 ـ ( فلما قُبض بعث ( الحسن  ) إلى ابن ملجم فأحضره، فقال للحسن: هل لك في خصلة؟ إني والله قد أعطيت الله عهداً أن لا أعاهد عهداً إلا وفيت به، وإني عاهدت الله عند الحطيم أن اقتل علياً ومعاوية أو أموت دونهما، فإن شئت خليت بيني وبينه فلك الله علي إن لم أقتله أو قتلته ثم بقيت أن آتيك حتى أضع يدي في يدك ". فقال له الحسن: " لا والله حتى تعاين النار.". ثم قدمه فقتله، وأخذه الناس فأدرجوه في بواري ،وأحرقوه بالنار.)


 

 

 

ثورات الخوارج فى خلافة معاوية

تعددت ثورات الخوارج فى خلافة معاوية قبل الفتنة الكبرى الثانية ، ومنها:

أولا : ثورات متفرقة فى عامى 41 : 42

1 ـ :  ( فروة بن نوفل الأشجعي ) : إعتزل (فروة بن نوفل الأشجعي ) في خمسمائة من الخوارج قتال (على )  فلما تولى معاوية قرروا حرب معاوية ، فتحركوا نحو الكوفة بقيادة (  فروة بن نوفل ) وإقتربوا من النخيلة عند الكوفة، فأرسل معاوية الى (الحسن ابن علي ) يدعوه إلى قتال الخوارج ، فكتب الحسن إلى معاوية: ( لو آثرت أن أقاتل أحداً من أهل القبلة لبدأت بقتالك، فإني تركتك لصلاح الأمة وحقن دمائها.) . فأرسل اليهم معاوية جيشا فهزمه الخوارج . فأمر معاوية أهل الكوفة بقتال الخوارج ، وهددهم إن لم يفعلوا ، فخرج الكوفيون لقتال الخوارج ،  فقالت لهم الخوارج:( أليس معاوية عدونا وعدوكم؟ دعونا حتى نقاتله، فإن أصبنا كنا قد كفيناكم عدوكم، وإن أصابنا كنتم قد كفيتمونا.) فقالوا: ( لابد لنا من قتالكم. ). فأخذت قبيلة (أشجع ) ابنهم ( فروة بن نوفل الأشجعى ) فحادثوه ووعظوه فلم يرجع، فأخذوه قهراً وحبسوه فى ( الكوفة) ، فجعل الخوارج قائدا عليهم هو ( عبد الله بن أبي الحوساءالطائى ) ، وقاتلهم أهل الكوفة وهزموهم ، وقتلوا ابن أبي الحوساء.  

2 ـ : ( حوثرة بن وداع ) : قادهم حوثرة بن وداع الأسدى ، وتحرك بهم الى (النخيلة ) قرب الكوفة ، ومعه مائة وخمسون ولحق به آخرون . فأرسل معاوية والد حوثرة ليعظه ، ولم يتعظ حوثرة بوعظ أبيه، فقال له أبوه : ( ألا أجيئك بابنك فلعلك إذا رأيته كرهت فراقه؟)  فقال حوثرة لأبيه : ( أنا إلى طعنة من يد كافر برمح أتقلب فيه ساعة أشوق مني إلى ابني.!). فرجع أبوه فأخبر معاوية بقول حوثرة ، فأرسل معاوية إليهم عبد الله بن عوف الأحمر في ألفين، وخرج أبو حوثرة فيمن خرج، فدعا ابنه إلى البراز، فقال: ( يا أبه لك في غيري سعة.! ). وإنهزم الخوارج، وقُتل حوثرة بيد عبد الله بن عوف قائد جيش معاوية. ورأى ابن عوف بوجه حوثرة أثر السجود، وكان صاحب عبادة، فندم على قتله.   

3 ــ ثورة فروة بن نوفل الثانية ومقتله : عاد ( فروة بن نوفل الأشجعي ) للثورة فى ولاية (المغيرة بن شعبة ) على الكوفة ، فأرسل إليه المغيرة خيلاً عليها شبث بن ربعي، ويقال: معقل بن قيس، فلقيه بشهرزور فقتله.

4 ـ ثورة شبيب بن بجرة:خرج شبيب على (المغيرة ) فى الكوفة ، فبعث إليه المغيرة خيلاً عليها خالد بن عرفطة، وقيل: معقل ابن قيس، فاقتتلوا فقتل شبيب وأصحابه.

5 ـ قتل معين الخارجي:كان للمغيرة بن أبى شعبه جواسيسه فى الكوفة ، فأبلغوه أن (معين بن عبد الله ) يريد الخروج، فحبسه المغيرة ، وبعث  إلى معاوية يخبره أمره، فكتب إليه معاوية: ( إن شهد أني خليفة فخل سبيله ). فأحضره المغيرة وقال له: ( أتشهد أن معاوية خليفة وأنه أمير المؤمنين؟) فقال معين : ( أشهد أن الله، عز وجل، حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. )، فأمر به فقتل، قتله قبيصة الهلالي. ثم فيما بعد قام رجل من الخوارج بإغتيال قبيصة .

6 ـ ثورة أبى مريم :خرج أبو مريم مولى بني الحارث بن كعب، ومعه امرأتان: قطام وكحيلة، وكان أول من أخرج معه النساء، فوجه إليه المغيرة جابراً البجلي، فقاتله فقتل أبو مريم وأصحابه .

7 ـ   ثورة سهم بن غالب عام 42:  خرج سهم بن غالب الهجيمي  في سبعين رجلاً منهم الخطيم ، فنزلوا بين الجسرين والبصرة، وقتلوا فى طريقهم رجلا وابن أخيه، فخرج إليهم والى البصرة ابن عامر بنفسه وقاتلهم وهزمهم ، وهرب بقيتهم إلى غابة وفيهم سهم والخطيم، فعرض عليهم ابن عامر الأمان فقبلوه، فآمنهم، فرجعوا، فكتب إليه معاوية يأمر بقتلهم، فكتب إليه ابن عامر: إني قد جعلت لهم ذمتك .فلما أتى زياد البصرة سنة 45 هرب سهم والخطيم خوفا منه فخرجا إلى الأهواز، فاجتمع إلى سهم جماعة ، فأقبل بهم إلى البصرة، فتفرق عنه أصحابه، فاختفى سهم،وطلب الأمان فلم يؤمنه زياد، وبحث عنه، فدُلّ عليه، فأخذه وقتله وصلبه في داره عام 45 .

ثانيا : ثورة الخوارج بزعامة المستورد بن علفة فى عامى 42 : 43
1 ـ كان (على ) قد عفا عن بعض الخوارج ، فارتحلوا شرقا الى منطقة ( الرى ) ، وكانوا بضعة عشر ، وتزعمهم  ( حيان بن ظبيان السلمي ) ، ولما علموا بمقتل (على ) دعاهم ( حيان ) إلى الخروج ومقاتلة أهل القبلة، فأقبلوا إلى الكوفة فأقاموا بها حتى قدمها معاوية، واستعمل على الكوفة المغيرة بن شعبة، وكان المغيرة يتسامح مع من يرى رأى الخوارج طالما لا يتأهب للثورة ، وكانت عيونه تأتيه بأخبارهم ( فيقال له: إن فلاناً يرى رأي الشيعة وفلاناً يرى رأي الخوارج، فيقول: قضى الله أن لا يزالوا مختلفين وسيحكم الله بين عباده. فأمنه الناس.) وأسفرت إجتماعات الخوارج  عام 42عن تكوينهم جماعة من 400 شخص ، بقيادة ( المستورد بن علفة التيمي ) وقد جعلوه ( أمير المؤمنين ). وتواعدوا على الخروج فى شعبان 43 .

2 ـ ووصلت أخبارهم الى المغيرة  فأرسل صاحب شرطته، فإعتقلهم ولم يكن معهم المستورد وقتها ، وحقق معهم المغيرة فلم يعترفوا بشيء، وذكروا أنهم اجتمعوا لقراءة القرآن، وظلوا في السجن نحو سنة. وسمع إخوانهم فحذروا، وخرج صاحبهم المستورد فنزل الحيرة، واجتمعت به الخوارج إليه،  وبلغ المغيرة خبرهم وأنهم عازمون على الخروج تلك الأيام، فجمع رءوس القبائل وحذرهم ، وأيده معقل بن قيس الرياحي ، وكان من شيعة (على ) وكارها للخوارج ، فقال : ( أنا أكفيك قومي فليكفك كل رئيس قومه. ) فقال المغيرة : ( ليكفني كل رجل منكم قومه وإلا فوالله لا تحولن عما تعرفون إلى ما تنكرون، وعما تحبون إلى ما تكرهون.) ، فرجعوا إلى قومهم فناشدوهم الله والإسلام إلا دلوهم على كل من يريد أن يهيج الفتنة. )  وجاء أصحاب المستورد إليه فأعلموه بما قام به المغيرة في الناس وبما قام به رؤوسهم فيهم ، فتحرك بثلثمائة من أصحابه وساروا إلى الصراة، فسمع المغيرة بن شعبة خبرهم فدعا رؤساء الناس فاستشارهم فيمن يرسله إليهم،وانتهى الأمر بإرسال ( معقل بن قيس) ومعه ثلاثة آلاف فارس معظمهم من شيعة (على ) .وتحرك المستورد بالخوارج  إلى بهر سير ، وأرادوا العبور إلى المدينة العتيقة التي فيها منازل كسرى، فمنعهم سماك بن عبيد الأزدي العبسي، وكان عاملاً عليها . وأقام المستورد بالمدائن ثلاثة أيام، ثم بلغه مسير معقل إليهم ، فتحرك المستورد الى المذار. وبلغ ابن عامر والى البصرة خبرهم فأرسل اليهم (شريك بن الأعور الحارثي )، وكان من شيعة علي، ومعه ثلاثة آلاف فارس من الشيعة، وكان أكثرهم من ربيعة، وسار بهم إلى المذار.وأما معقل بن قيس فسار إلى المدائن حتى بلغها، فبلغه رحيلهم. فأرسل معقل فرقة إستطلاع من 300 فارس  يقودهم أبو الرواغ الشاكري ، فتبعهم أبو الرواغ حتى لحقهم بالمذار، وتقاتل معهم ، ثم لحق معقل بأبى الرواغ وقاتل معه المستورد وجماعته ، وجاءت الأخبار بوصول مدد من البصرة لمعقل يقوده (شريك بن الأعور) ومعه ثلاثة آلاف. فانسحب المستورد بأصحابه ، فارسل معقل خلفهم أبا الرواغ يطاردهم ومعه 600 فارس ، وأدركهم أبو الرواغ ونازلهم ، وخاف المستورد أن يأتى معقل بجيشه فمضى هو وأصحابه فعبروا دجلة ووقفوا في أرض بهرسير وتبعهم أبو الرواغ حتى نزل بهم بساباط، فانسحب المستود ليلقى معقل ، فوجد أصحاب معقل على وشك الرحيل ففاجأهم وتقاتل معهم وكادوا يهزمونهم لولا لحق ابو الرواغ ونشب قتال مرير ، وتبارز معقل والمستورد وقتل كل منهما صاحبه . وتولى القيادة بعد معقل نائبه عمرو بن محرز فأكمل هزيمة الخوارج ولم ينج منهم غير خمسة أو ستة.
ثالثا : الخوارج وزياد ابن أبيه 

1 ـ إشتد زياد فى مطاردة الخوارج فى ولايته على الكوفة ثم بعد ضم البصرة اليه، فقتل منهم كثيرين ، وأمر نائبه سمرة بذلك فقتل منهم بشراً كثيراً. وخطب زياد على المنبر فقال: ( يا أهل البصرة والله لتكفنني هؤلاء أو لأبدأن بكم! والله لئن أفلت منهم رجل لا تأخذون العام من عطائكم درهماً!) فثار الناس بهم فقتلوهم.

2 ـ وفى عام 52  خرج زياد بن خراش العجلي في ثلاثمائة فارس فأتى أرض مسكن من السواد، فسير إليه زياد خيلاً عليها سعد بن حذيفة أو غيره، فقتلوهم وقد صاروا إلى ماه

3 ـ وخرج  معاذ الطائي:فى نفس السنة في ثلاثين رجلاً هذه السنة، فبعث إليه زياد من قتله وأصحابه.

رابعا : الخوارج وعبيد الله بن زياد

1 ـ تولى بعد أبيه زياد، وقد إتبع سياسة أبيه فى أخذ الخوارج بالشدة وتتبع من له ميول للثورة ، ومن يؤمن بدين الخوارج .

2 ـ  وفى عام 58 : ( كان قوم من الخوارج بالبصرة يجتمعون إلى رجل اسمه جدار، فيتحدثون عنده ويعيبون السلطان، فأخذهم ابن زياد فحبسهم ثم دعا بهم وعرض عليهم أن يقتل بعضهم بعضاً ويخلي سبيل القاتلين، ففعلوا، فأطلقهم. ) وندم القتلة بعد إطلاق سراحهم ، وكان منهم ( طواف ) وأصحابه ، وتعرضوا الى اللوم ، فعرضوا على أهل القتلى دفع الدية فرفضوا أخذها ، فعرضوا أن يقتلوهم قصاصا فأبوا .فلم يجدوا سبيلا للتوبة إلا بالثورة وقتل ابن زياد . وبويع طواف عام 58 ، وتبعه 70 رجلاً من بني عبد القيس بالبصرة، وعلم بهم ابن زياد، فأرسل ابن زياد الشرطة ، فتحرك طواف قبل مجىء الشرطة وهرب ، ولحقتهم الشرطة ، ولكن انهزمت الشرطة ، ودخل طواف البصرة ، وطاردتهم من بقى من الشرطة ،    وذلك يوم عيد الفطر، وإنضم أهل البصرة للشرطة فقتلوا الخوارج ، وبقي مع طواف ستة فقط، وعطش فرسه فأقحمه الماء، فرمته الشرطة بالنشاب وقتلوه ثم صلبوه.    

3 ـ وتابع عبيد الله بن زياد سياسته المتشددة مع الخوارج ، فقتل منهم جماعةً كثيرة، بمجرد الاشتباه . ومنهم: عروة بن أدية. أحد الوُعّاظ  . وكان سبب قتله أن ابن زياد كان قد خرج في رهان له، فلما جلس ينتظر الخيل اجتمع إليه الناس وفيهم عروة، فأقبل عروة على ابن زياد يعظه، وكان مما قال له( أتبنون بكل ريعٍ آيةً تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارينالشعراء: 128- 130.)، فغضب ابن زياد ، فقام وركب وترك رهانه. فقيل لعروة: ليقتلنك! ، فاختفى عروة، فطلبه ابن زياد ، فهرب وأتى الكوفة، فأُخذ ، وجىء به لابن زياد، فقطع يديه ورجليه وقتله، وقتل ابنته.
4 ـ ( وأما أخوه أبو بلال مرداس فكان عابداً مجتهداً عظيم القدر في الخوارج، وشهد صفين مع علي فأنكر التحكيم، وشهد النهروان مع الخوارج، وكانت الخوارج كلها تتولاه،  وكان يقول: ( لا نقاتل إلا من قاتلنا ولا نجبي إلا من حمينا.)
5 ـ ( وكانت البثجاء، امرأة من بني يربوع، تحرض على ابن زياد وتذكر تجبره وسوء سيرته، وكانت من المجتهدات، فذكرها ابن زياد، فقال لها أبو بلال مرداس : ( إن التقية لا بأس بها فتغيبي فإن هذا الجبار قد ذكرك.) قالت: ( أخشى أن يلقى أحدٌ بسبي مكروهاً. ) فأخذها ابن زياد فقطع يديها ورجليها، فمر بها أبو بلال في السوق فعض على لحيته وقال: أهذه أطيب نفساً بالموت منك يا مرداس؟ ما ميتةٌ أموتها أحب إلي من ميتة البثجاء! .

6 ــ   وبسبب تطرف ابن زياد فى الايقاع بمن يعتنق فكر الخوارج أحسّ مرداس بالخطر (  فخرج في أربعين رجلاً إلى الأهواز، فكان إذا اجتاز به مالٌ لبيت المال أخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه ثم يرد الباقي، فلما سمع ابن زياد بهم بعث إليهم جيشاً عليهم أسلم بن زرعة الكلابي سنة ستين .. وكان الجيش ألفي رجل، فلما وصلوا إلى أبي بلال ، ناشدهم الله أن يقاتلوه فلم يفعلوا، ودعاهم أسلم إلى معاودة الجماعة، فقالوا: أتردوننا إلى ابن زياد الفاسق؟.  فرمى أصحاب أسلم رجلاً من أصحاب أبي بلال فقتلوه، فقال أبو بلال: قد بدؤوكم بالقتال. فشدّ الخوارج على أسلم وأصحابه شدة رجل واحد ، فهزموهم . فقدموا البصرة، فلام ابن زياد أسلم وقال: هزمك أربعون وأنت في ألفين، لا خير فيك! فقال: ( لأن تلومني وأنا حي خير من أن تثني علي وأنا ميتٌ ). فكان الصبيان إذا رأوا أسلم صاحوا به: أما أبو بلال وراءك! فشكا ذلك إلى ابن زياد، فنهاهم فانتهوا.وقال رجل من الخوارج:
أألفا مؤمنٍ منكم زعمتم ** ويقتلهم بآسك أربعونا

كذبتم ليس ذاك كما زعمتم ** ولكن الخوارج مؤمنونا ).


 

 

 

 

 

 

 

 

 

وقائع الخوارج فى الفتنة الكبرى الثانية ( 61 : 73 هجرية )

أولا :  الخوارج وعبيد الله بن زياد :

1 ـ فى ( آسك )هزم أبو بلال مرداس وأربعون معه من الخوارج جيش ابن زياد الذى بلغ تعداده ألفين . وإنتقم زياد بأن أرسل جيشا آخر بلغ تعداده ثلاثة آلاف يقوده عباد بن الأخضر. ولحق هذا الجيش الخوارج فى منطقة ( توج ) ، وثبت الخوارج لجيش ابن زياد . وحلّ وقت صلاة الجمعة ، فطلب أبو بلال هدنة للصلاة ، فاستجاب له ابن الأخضر . وتوقف القتال . تقول الرواية (فعجل ابن الأخضر الصلاة، وقيل قطعها، والخوارج يصلون، فشدعليهم هو وأصحابه  وهم ما بين قائم وراكع وساجد لم يتغير منهم أحد من حاله، فقتلوامن آخرهم وأخذ رأس أبي بلال.). رأى الخوارج الجيش الأموى يهجم عليهم غدرا وهم فى الصلاة ، فلم يقطعوا صلاتهم، وأتاحوا للجبناء قتلهم بلا مقاومة.!

2 ـ وانتقم الخوارج بإغتيال قائد هذا الجيش ( عباد بن الأخضر ) .تقول الرواية (  ورجع عباد إلى البصرة فرصده بها عبيدة بن هلال ومعهثلاثة نفر، فأقبل عباد يريد قصر الإمارة وهو مردف ابناً صغيراً له، فقالوا له: قفحتى نستفتيك. فوقف، فقالوا: نحن إخوة أربعة قتل أخونا فما ترى؟ قال: استعدواالأمير. قالوا: قد استعديناه فلم يعدنا. قال: فاقتلوه قتله الله! فوثبوا عليهوحكّموا به ) ( حكّموا به ) أى صاحوا ( لا حكم إلا لله ) وهى صيحتهم عندما يبدأون فى القتل . تقول الرواية إن عباد بن الأخضر ألقى إبنه وثبت هو لهم فقتلوه ، ونجا إبنه . ثم إجتمع أهل البصرة على الخوارج الأربعة فقتلوا منهم ثلاثة ، وأفلت عبيدة بن هلال .

3 ـ وصمم ابن زياد على الانتقام . وكان نائبه على البصرة  ( عبيد الله بن أبيبكرة )، فكتب إليه يأمره أن يتتبع الخوارج، ففعل ذلك) وحبس ابن أبى بكرة كثيرا من الخوارج ، وكان من يشفع فى بعض الخوارج يطلق ابن أبى بكره سراحه على أن يكون الشافع فيه كفيلا أى مسئولا عن هذا الخارجى. وحضر ابن زياد الى البصرة ، وقتل كل المحبوسين من الخوارج . وطلب من كل كفيل أن يحضر اليه بمن يكفله من الخوارج ، فإذا عجز الكفيل قتله ابن زياد ، فإذا أحضر الخارجى أطلق ابن زياد الكفيل وقتل الخارجى .  

ثانيا : الخوارج وعبد الله بن الزبير

1 ـ  فى عام  64 ، وبعد أن هزم الجيش الأموى أهل المدينة فى موقعة الحرة ، تحرك الجيش نحو مكة ليقاتل ابن الزبير ، وإنضم الخوارج بزعامة نجدة بن عامر الى ابن الزبير دفاعا عن البيت الحرام . وانسحب الجيش الأموى من حصار مكة والحرم بعد أن بلغهم موت يزيد بن معاوية .

 2 ـ بعدها كان منتظرا أن يفارق الخوارج ابن الزبير. إنفجرت الخلافات القديمة بينهم ، سألوا ابن الزبير عن رأيه فى (عثمان ) ، وخاف منهم ابن الزبير ــ وكان جبانا ـ فأمهلهم الى العشية ، وعندما جاءوا وجدوا حوله أتباعه مسلحين . وأعلن ابن الزبير براءته من الخوارج ، فتركوه .

ثالثا : تفرق الخوارج

1 ـ بعد تركهم ابن الزبير تفرق الخوارج . منهم من ذهب الى البصرة وكلهم من بنى تميم وتزعمهم نافع بن الأزرق  ومعه ابن الصفار وابن اباض ، وإتجه آخرون الى اليمامة تزعمهم أبو طالوت وأبو فديك.

2 ــ فى البصرة إنتهز نافع بن الأزرق فرصة ثورة الناس على (ابن زياد ) والصراع بين بين قبيلتى الأزد وربيعة ـ فجمع معه ثلثمائة فاقتحم بهم سجن ابن زياد وأطلق من فيه .

وإتفق اهل البصرة على تولية عبد الله بن الحارث ، وواجهوا الخوارج ، فهرب نافع ببعض أصحابه الى الأهواز فى شوال 64 ، وتخلف عنه إبن الصفار وابن إباض .

وتبرأ نافع بن الأزرق من صاحبيه إبن الصفار وابن إباض ، وحرّم مناكحتهم وأكل ذبائحهم وقبول شهادتهم ,اخذ الدين عنهم . وأعلن نافع بن الأزرق أن جهاده يشمل ( قتل الأطفال والاستعراض،) أى القتل العشوائى لمن خالفه ، (  وأن جميع المسلمين كفار مثل كفار العرب لايقبل منهم إلا الإسلام أو القتل.) . وهذا هو دين الأزارقة . وبهذا بدأ تقسيم هؤلاء الى الخوارج  الى : الأزارقة ( نافع بن الأزرق ) والاباضية ( ابن إباض ) القائل باستحلال الدماء دون الأموال ، والصفرية ( ابن الصفار ) الذى إعتبر ابن الأزرق متطرفا. وتبرأ الزعماء الثلاث من بعضهم .  وقد خالف (نجدة بن عامر الحنفى ) نافع بن الأزرق ، وإنفصل عنه وسار إلى اليمامة، فأطاعه الخوارج الذين بها وتركوا أبا طالوت.

3 ـ تقول الرواية : ( واشتدت شوكة ابنالأزرق ،وكثرت جموعه ، وأقام بالأهواز يجبي الخراج ويتقوى به. )، ثم أقبل نحو البصرة حتىدنا من الجسر، فبعث إليه واليها (عبد الله بن الحارث ) جيشا عام 65 ، وإقتتلوا ، فقُتل نافع بن الأزرق ، وتولى بعده ابن الماحوز التميمى ، واستمر القتال ، حتى ملّ الجيشان القتال ، وركن الفريقان الى الراحة ، ولكن أقبلت للخوارج كتيبة مددا لهم فتقوى بهم الخوارج وهزموا جيش أهل البصرة ، وتقدم الخوارج بعدها نحو البصرة .

رابعا : تولية المهلب بن أبى صفرة حرب الخوارج وإنقاذه البصرة

1 ــ المهلب أشهر من حارب الخوارج ، حاربهم باسم ابن الزبير ثم باسم الأمويين .

2 ـ وبدأ الأمر عندما فزع أهل البصرة من تقدم الخوارج نحوهم ، فلجأوا الى الأحنف بن قيس زعيم بنى تميم ليقودهم ضد الخوارج ، فإعتذر وأشار عليهم بالمهلب بن ابى صفرة . ورفض المهلب أولا ثم إشترط عليهم أن يكون له ما يغلب عليه وأن يتقوى بالأموال من بيت المال ، فوافقوا ، ووافق ابن الزبير على أن يقاتل الخوارج باسمه .

3 ــ وقام المهلب بتكوين جيش قوى من اهل البصرة قوامه 12 ألفا ، وسار بهم الى الخوارج فإنسحبوا الى الأهواز ، فطاردهم المهلب ، وأرسل مقدمة جيشه يقودها ابنه المغيرة ، فاقتتل معهم ، ثم اسحب الخوارج من الأهواز الى مناذر ، ثم التحم بهم المهلب بجيشه ، وفى البداية إنتصر الخوارج ولكن ثبت المهلب وابنه المغيرة ، فعاد اليه اربعة آلاف فارس من أصحابه المنهزمين ، وتم  صدُّ الخوارج . واستراح المهلب بجيشه ، ثم إنسحب الى العاقول ، وتحرك فى أثر الخوارج وعسكر قريبا منهم ، وهجم الخوارج ليلا على معسكر المهلب فوجدوه مستعدا لهم ، ودار قتال شديد ، تقول الرواية : ( وصبرالفريقان عامة النهار، ثم إن الخوارج شدت على الناس شدةً منكرةً، فأجفلوا وانهزموالا يلوي أحد على أحدٍ، حتى بلغت الهزيمة البصرة، وخاف أهلها السباء.) ، أى خافوا أن يسبى الخوارج نساءهم وذرياتهم . ولم ييأس المهلب فظل يصرخ فى جيشه المهزوم حتى تجمع حوله ، وفاجأ بهم الخوارج من حيث لا يشعرون وقد إنفصلت عنهم فرقة لتقتحم البصرة . وإقتتل المهلب مع مؤخرة الخوارج ، واستمر القتال ساعة ، وأسفر عن قتل قائد الخوارج ابن الماحوز وكثيرٌ من أصحابه، وغنم المهلبعسكرهم. وتراجعت مقدمة الخوارج التى كانت تتقدم لاحتلال البصرة فوقعوا فريسة لجيش المهلب ، تقول الرواية : ( وأقبل من كان في طلب أهل البصرة راجعاً، وقد وضع المهلب لهم خيلاً ورجالاًتختطفهم وتقتلهم، وانكفأوا راجعين مذلولين مغلوبين، فارتفعوا إلى كرمان وجانبأصبهان...فلما قتل عبد الله بن الماحوز استخلف الخوارج الزبيربن الماحوز.)، (ولما فرغ المهلب منهم أقام مكانه حتى قدم مصعب بنالزبير على البصرة أميراً. )

 

 خامسا : نجدة بن عامر الحنفى الخارجى  فى الجزيرة العربية

1 ـ كان ( نجدة ) مع نافع ابن الأزرق،ثم خالفه وفارقه وسار إلى اليمامة حيث كان فيها  خوارج آخرون بزعامة أبى طالوت فأصبح نجدة من كبار أتباع أبى طالوت . وكانت منطقة حضرموت من قبل تابعة لبنى حنيفة قوم نجدة بن عامر الحنفى. فإستولى عليها  معاوية من بنى حنيفة ،وقد أسكن فيها معاوية أربعة آلاف من الرقيق وعائلاتهم يعملون فى الأرض . وسار نجدة الى حضرموت فإستردها ، وغنم ما فيها   وقسمه بين أصحابه، عام 65 ، فكثر جمعه.ثم نهب نجدة قافلة كانت تحمل أموالا لابن الزبير ، وجاء بها لأبى طالوت  ( فقسمها بين أصحابه، وقال:  "اقتسموا هذا المال وردوا هؤلاء العبيد واجعلوهم يعملون الأرض لكم فإن ذلك أنفع" ،  فاقتسموا المال وقالوا: نجدة خير لنا من أبي طالوت؛ فخلعوا أبا طالوت وبايعوا نجدةوبايعه أبو طالوت، وذلك في سنة ست وستين، ونجدة يومئذٍ ابن ثلاثين سنة.)
2 ـ ثم حارب نجدة قبيلة بني كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، فى منطقة ( ذي المجاز ) ( فهزمهم وقتلهمقتلاً ذريعاً ). ( ورجع نجدة إلى اليمامة فكثر أصحابه فصاروا ثلاثة آلاف، ثم سار نجدة إلىالبحرين سنة 67، . وانضمت اليه هناك الأزد من قبائل اليمن ، ووقفت ضده قبائل عبد القيس من ربيعة . ودارت معركة بين الفريقين فى القطيف ، وانتصر عليهم نجدة ، تقول الرواية : ( فالتقوابالقطيف فانهزمت عبد القيس ، وقتل منهم جمعٌ كثير ، وسبى نجدة من قدر عليه من أهلالقطيف . )  ( وأقام نجدة بالقطيف ووجه ابنه المطرح في جمع إلىالمنهزمين من عبد القيس، فقاتلوه بالثوير، فقتل المطرح بن نجدة وجماعة منأصحابه.
وأرسل نجدة سريةً إلى الخط فظفر بأهله. )

3 ـ  وأقام نجدة بالبحرين. فلما قدممصعب بن الزبير إلى البصرة سنة69 ، بعث إليه ( عبد الله بن عمير الليثي الأعور) في أربعة عشر ألفاً . ولكن نجدة فاجأه وهو غافل، وهزمه وهرب ابن عمير . وسبى نجدة جارية لابن عمير   فعرض عليها أن يرسلها إلى مولاهافقالت:" لا حاجة بي إلى من فرعني وتركني.". ( فرع ) كناية عن إفتضاض البكارة .
وبعث نجدة أيضاً بعد هزيمة ابن عميرجيشاً إلى عُمان واستعمل عليهم عطية بن الأسود الحنفي، وقد غلب عليها عباد بن عبدالله، وهو شيخ كبير، وابناه سعيد وسليمان يعشران السفن ( أى يفرضان العُشر ) ويجيبان البلاد ). وانتصر عطية وقتل عباد . واستولى عطية على البلاد فأقام بها أشهراً ثم خرج منها،  واستخلف رجلاً يكنى أبا القاسم، فقتله سعيد وسليمان ابنا عباد وأهل عمان.) ( ثمخالف عطية نجدة،  فعاد إلى عمان ، فلم يقدر عليها ، فركب فيالبحر وأتى كرمان  ،وضرب بها دراهم سماها العطوية. وأقام بكرمان. فأرسل إليه المهلبجيشاً، فهرب إلى سجستان ثم إلى السند، فلقيه خيل المهلب بقندابيل فقتله. ).

4 ـ ( ثم بعث نجدة إلى البوادي بعد هزيمة ابن عمير  من يأخذ من أهلهاالصدقة، فقاتل أصحابه بني تميم بكاظمة، وأعان أهل طويلع بني تميم، فقتلوا منالخوارج رجلاً، فأرسل نجدة إلى أهل طويلع من أغار عليهم وقتل منهم نيفاً وثلاثينرجلاً وسبى. ثم إنه دعاهم بعد ذلك فأجابوه، فأخذ منهم الصدقة. )

5 ـ ( ثم سار نجدة إلىصنعاء في خف من الجيش، فبايعه أهلها ، وظنوا أن وراءه جيشاً كثيراً، فلما لم يروامدداً يأتيه ندموا على بيعته، وبلغه ذلك فقال: إن شئتم أقلتكم بيعتكم وجعلتكم في حلمنها وقاتلتكم. فقالوا: لا نستقيل بيعتنا. فبعث إلى مخالفيها فأخذ منهم الصدقة،وبعث نجدة أبا فديك إلى حضرموت فجبى صدقات أهلها.)
6 ــ وحج نجدة سنة 68 ، وقيلسنة 69، وهو في ثمانمائة وستين رجلاً، وقيل في ألفي رجل وستمائة رجل، وصالحابن الزبير على أن يصلي كل واحد بأصحابه ويقف بهم ويكف بعضهم عن بعض.فلما صدرنجدة عن الحج سار إلى المدينة، فتأهب أهلها لقتاله، وتقلد عبد الله بن عمر سيفاً،فلما كان نجدة بنخل أخبر بلبس ابن عمر السلاح، فرجع إلى الطائف . )

7 ـ وسبى نجدة بنتا هى حفيدة عثمان بن عفان ، (بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان )  ( فسأله بعضهم بيعها منه، فقال: قد أعتقت نصيبي منهافهي حرة. قال: فزوجني إياها. قال: هي بالغ وهي أملك بنفسها فأنا استأمرها؛ فقام منمجلسه ثم عاد، قال: قد استأمرتها وكرهت الزواج.).
 8 ـ واتسع مُلك نجدة من الطائف الى البحرين وحضرموت واليمن وتبالة والسراة . 

9 ـ  ثم إن أصحاب نجدة اختلفواعليه لأسباب نقموها منه ... فانحازوا عنه وولواأمرهم أبا فديك عبد الله بن ثور.. واستخفى نجدة، فأرسل أبوفديك في طلبه جماعةً من أصحابه وقال: إن ظفرتم به فجيئوني به. ) وعثروا عليه فقتلوه .

سادسا : مصعب بن الزبير والخوارج فى فارس والعراق :

1 ـ فى عام 68 عزل مصعب بن الزبير ( المهلب بن أبى صفرة ) وولى مكانه فى حرب الأزارقة (عمر بن عبيد الله بن معمر ) .  وكان الخوارج قد ولوا عليهم الزبير بنالماحوز عام 65 . ودارت معركة عند اصطخر بين الخوارج و (عمر بن عبيد الله )، فقتل الخوارج ابنه   ولكن انهزموا . وكاد عمر بهلك في هذهالوقعة، فدافع عنه مجاعة، فوهب له عمر تسعمائة ألف درهم.  وانسحب الخوارج وساروا غربا نحو العراق ، فطاردهم عمر بن عبيد الله ، وجهز مصعب جيشا آخر ، ووقع الخوارج بين جيشى مصعب و عمر بن عبيد الله ، فانطلقوا نحو المدائن فاقتحموها وهرب قائدها ( كردم بن مرشد القرادي ) ، تقول الرواية عما فعله الخوارج بأهل المدائن : ( شنوا الغارة على أهل المدائنيقتلون الرجال والنساء والوالدان ويشقون أجواف الحبالى. .. ) ثم ساروا الى ساباط : ( وأقبلوا إلىساباط ووضعوا السيف في الناس يقتلون .. وأفسد الخوارج فيالأرض.). وارتعب أهل الكوفة من مجىء الخوارج فحثوا واليهم ( القباع ) فخرج متثاقلا برغم الالحاح عليه . وقال فيه شاعر :
 سار بنا القباع سيراً نكرا ** يسير يوماً ويقيمشهرا

2 ـ وطورد الخوارج حتى اصبهان وحاصروها ، وكان والى اصبهان (عتاب بن ورقاء )، فصبر لهم، وكان يقاتلهم على باب المدينةويرمون من السور بالنبال والحجارة. واستمر حصار الخوارج لاصبهان فاضطر مقاتلوها للخروج لمقاتلة الخوارج ـ وكانوا لا يتوقعون الهجوم ، ففاجأهم الهجوم فانهزموا ، وقُتل أميرهم الزبير بن الماحوز .

3 ـ وولى الخوارج عليهم  قطري بن الفجاء ، فانسحب بهم الى كرمان وأقام بها  حتىاجتمعت إليه جموع كثيرة وجبى المال وقوي. ثم أقبل إلى أصبهان ثم أتى إلى أرضالأهواز فأقام بها. واضطر مصعب الى إعادة المهلب لقتال الخوارج . وجاء المهلب إلى البصرة وأعد جيشا وسار به نحو الخوارج، ثم أقبلوا إليه حتى التقوا بسولاف فاقتتلوا بها ثمانيةأشهر أشد قتال رآه الناس.

4 ـ وحين قتل مصعب عام 71 ، كان المهلب يحارب الأزارقةبسولاف، بلد بفارس على شاطئ البحر، ثمانية أشهر. وعرف الخوارج الأزارقة بقتل مصعب قبل أن يعرف به المهلب ، تقول الرواية : (فصاحوا بأصحاب المهلب: ما قولكم في مصعب؟ قالوا: أمير هدى، وهو ولينا في الدنياوالآخرة، ونحن أولياؤه. قالوا: فما قولكم في عبد الملك؟ قالوا: ذاك ابن اللعين، نحننبرأ إلى الله منه وهو أحل دماً منكم. قالوا: فإن عبد الملك قتل مصعباً وستجعلونغداً عبد الملك إمامكم. فلما كان الغد سمع المهلب وأصحابه قتل مصعب فبايع المهلبالناس لعبد الملك بن مروان، فصاح بهم الخوارج: يا أعداء الله! ما تقولون في مصعب؟قالوا: يا أعداء الله لا نخبركم. وكرهوا أن يكذبوا أنفسهم. قالوا: وما قولكم في عبدالملك؟ قالوا: خليفتنا. ولم يجدوا بداً إذ بايعوه أن يقولوا ذلك. قالوا: يا أعداءالله! أنتم بالأمس تبرأون منه في الدنيا والآخرة وهو اليوم إمامكم وقد قتل أميركمالذي كنتم تولونه! فأيهما المهتدي وأيهما المبطل؟ قالوا: يا أعداء الله رضينا بذلكإذ كان يتولى أمرنا ونرتضي بهذا. قالوا: لا والله ولكنكم إخوان الشياطين وعبيدالدنيا.)

سابعا : عبد الملك بن مروان والخوارج

1 ـ فى عام 72 ، ولّى عبد الملك (خالد بن عبد اللهعلى البصرة، فلما قدمها خالد كان المهلب يحارب الأزارقة، فعزله وسيّر أخاه عبد العزيز بن عبد الله إلى قتل الخوارج. ). وهزم  قطرى بن الفجاءة الجيش الأموى ، وسبى إمرأة القائد عبد العزيز بن عبد الله . وهى ابنة المنذر بن الجارود ، وعرضها الخوارج للبيع فى مزاد  ، تقول الرواية : (وانهزم عبد العزيز، وأخذت امرأته ابنة المنذر بن الجارود فأقيمت فيمنيزيد، فبلغت قيمتها مائة ألف، فجاء رجل من قومها من رؤوس الخوارج فقال: تنحوا هكذا،ما أرى هذه المشركة إلا قد فتنتكم! وضرب عنقها، ولحق بالبصرة، فرآه آل المنذرفقالوا: والله ما ندري أنحمدك أم نذمك! فكان يقول: ما فعلته إلا غيرهوحمية.). وأرسل عبد الملك يؤنب الوالى خالد بن عبد الله لعزله المهلب ، وأمره أن يُعيد المهلب ، وأمر عبد الملك أخاه بشر بن مروان والى الكوفة أن يرسل مددا من خمسة آلاف لحرب الخوارج ، فأرسل المدد بقيادة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث . واجتمع جيش البصرة وفيه أميرها خالد بن عبد الله وجيش الكوفة يقوده ابن الأشعث ، معهم المهلب مستشارا. وانهزم الخوارج . وكتب عبد الملك لأخيه بشر بن مروان بأن يطارد الخوارج .

واستمرت الحروب بين الخوارج وبنى أمية حتى سقوط دولة الأمويين .
 

 

 

 

 

 

 

 

 

الباب الثانى الباب الثانى : آثار الفتنة الكبرى الثانية :

الفصل الأول :

من سفك الدماء الى العشق والفحشاء (الحبُّ وقت الفتنة والحرب : خالد وأم خالد وحبيبة خالد : ( خالد بن يزيد بن معاوية )

 

  الحبُّ وقت الفتنة والحرب : خالد وأم خالد وحبيبة خالد :

 

( خالد بن يزيد بن معاوية)

 

أولا :  خالد و( السّت ) أم خالد

1ـ بطلتنا ( أم خالد ) : كنيتها الأولى ( أم هاشم ) مع إنها من بنى أمية ، فهي فاختة بنت هاشم إبن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن أمية . تزوجت ابن عمها يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن عبد شمس بن أمية ، وأنجبت من زوجها يزيد ثلاثة من الأبناء : معاوية وخالد وأبا سفيان.

وبطلتنا ( أم هاشم : فاختة ) تزوجت خليفتين من بني أمية ، هما يزيد بن معاوية ، ثم تزوجت بعده مروان بن الحكم ، والأخير ( مروان بن الحكم ) مات على يديها الكريمتين ، قتلته انتقاماً لاهانته لابنها خالد ، لذلك توارت كنيتها الأولى (أم هاشم)  وأصبحت كنيتها في التاريخ ( أم خالد ). وما فعلته فاختة من قتل زوجها الخليفة مروان بن الحكم يدخل في نطاق الجرائم السياسية ، ولكي تعرف دوافعها وراء قتل زوجها ـ  الذي هو ابن عمها ـ علينا أن نسترجع تاريخ الدولة الأموية في مرحلة بالغة التعقيد من تاريخ العرب والمسلمين .

2 ـ وتبدأ القصة بمعاوية وهو يعهد لابنه يزيد بالخلافة ويفتتح في تاريخ المسلمين وراثة الملك .

وكان معاوية قد أعـدَّ ابنه يزيد لتولى العهد، فزوّجه بنت عمه فاختة ليجتمع شمل بني أمية مع ابنه يزيد في خلافته ، وفعلا توحّد بنو أمية حول يزيد ، ولكن ثار عليه الحسين بن علي وآله من بني هاشم ، وانتهى الأمر بمأساة كربلاء ، فكان أن ثارت المدينة المنورة على يزيد وخلعت بيعته بمجرد أن عادت السيدة زينب بنت على أخت الحسين إلى المدينة ومعها رأس الحسين وما بقي من أطفال أسرتها ، فبعث يزيد بجيش اقتحم المدينة واستباحها قتلا واغتصابا ونهبا. وانتهز الفرصة عبد الله بن الزبير فأعلن نفسه خليفة في مكة ، وأثناء حصار الأمويين له جاء الخبر بوفاة يزيد بن معاوية، وتولي بعده ابنه الأكبر معاوية بن يزيد ، أو معاوية الثاني ، وبذلك تحولت بطلة قصتنا من زوجة للخليفة يزيد إلى أم للخليفة الجديد معاوية بن يزيد .

3 ـ وكان الخليفة الجديد شابا تقيا ورعا مختلفاً عن أبيه وجده ، وذلك يشى بأن لأمه أثراً كبيراً في تنشئته ، إذ أن الثابت تاريخيا أن يزيد بن معاوية كان ماجناً سكيراً عربيدا ، ولكن الثابت أيضاً من التاريخ أن أبناءه الثلاثة معاوية وخالد وأبا سفيان كانوا مشهورين بالصلاح والاتزان ، أي أن فاختة ـ التي فجعت في مجون زوجها يزيد وجرأته على المحرمات والخمرـ قد تفرغت لرعاية أبنائها فأصبحوا على نقيض أبيهم، والدليل على ذلك سيرة معاوية الثاني ابنها الذي تولى الخلافة ثم تنازل عنها قائلاً فى خطبة اعتزاله : "والله إن كانت الدنيا عزاً فقد نلنا حظنا منها،  وإنا كانت شراً فكفى ما أصابنا منها" وذكر ما فعله أبوه فبكى ، وطلبوا منه أن يرشح خليفة بعده فقال: ما أصبت حلاوتها فلماذا أتحمل مرارتها؟ واعتزل الناس، فقتله أهله بالسم..! واحتقارا له فقد سمّاه أهله الأمويون أبا ليلى . ودفنت فاختة أحزانها وهي ترى أهلها يقتلون ابنها الصالح ويهزءون به ويطلقون عليه لقب "أبي ليلى" لأنه في نظرهم جبن وخاف واعتزل .. وانصرفت همة فاختة لرعاية ابنيها خالد وأبي سفيان ، وقد كانا على نفس القدر من الصلاح تقريباً. ولكن الأحوال ساءت بالنسبة للأمويين بعد تنازل معاوية الثاني عن الخلافة ، إذ وقع التنافس بين كبار المرشحين منهم للخلافة ، في الوقت الذي ازداد فيه نفوذ عبد الله بن الزبير ، ودخلت في طاعته مصر والعراق وأجزاء من الشام ، وأصبح سقوط الأمويين سريعاً لولا أنهم عقدوا مؤتمراً في الجابية واتفقوا على تولية مروان بن الحكم الخلافة ثم يتولى بعده خالد بن يزيد بن معاوية أو ابن بطلة قصتنا.

4 ـ وكان مروان بن الحكم شيخ بني أمية في ذلك الوقت، وقد رضي على مضض أن يكون ولي عهده الشاب خالد ابن يزيد بن معاوية ، وذلك حتى تجتمع معه كلمة الأمويين ، ولكنه كان يريد أن يعهد بولاية العهد لابنه عبد الملك بن مروان ، لذا خطط للأمر بحنكة ، لكى يزيح خالد بن يزيد من ولاية العهد ، فتزوج فاختة أم خالد ليكون خالد تحت سيطرته وليحط من شأنه ومن كرامته..  

5 ـ إلا أن فاختة حين رضيت به زوجاً كانت تطمع في أن تحفظ لابنها حقه في ولاية العهد ، فهي كانت زوجة خليفة من قبل ، وزوّجها معاوية بن أبى سفيان إبنه ( يزيد ) لكي تجتمع حول ( يزيد ) بنو أمية ، واعتقدت أن مروان تزوجها لنفس الغرض ، واعتقدت أنها في وضعها الجديد ستكون أقدر على حفظ حق ابنها الثانى فى الخلافة بعد أن تنازل عنها ابنها الأول..

6 ـ ولكن أحلامها ضاعت هباء ، فقد فوجئت بزوجها يعمل على نقض الاتفاق بعد أن نجح في ضم مصر إليه وطرد والي عبد الله بن الزبير عنها ، أي أنه شعر بالأمن بعد ضم مصر إليه ، فعمل على تعيين ابنيه عبد الملك ، ثم عبد العزيز في ولاية العهد على الترتيب مكان خالد ، وقد جعل ابنه عبد العزيز والياً على مصر وهو والد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز.

أى إن السيدة فاختة تجاوزتها الأحداث هي وأحلامها فقنع ابنها خالد بتعلم الكيمياء ، ولكن مروان لم يتركه في حاله ، إذ خشي من قوة شخصيته وحب الناس له فعمل على تحقيره والحط من شأنه امام رجال الدولة ، وما كان لخالد أن يسكت ، فتوالت شكواه لأمه ، وأخذت هي تهديء من روعه وهي تـَحـس بالندم على قبولها الزواج وكيف انقلب هذا الزواج ضد مصلحة ابنها وحقوقه في الخلافة ثم يصل الأمر الى قيام زوجها بتحقير إبنها على الملأ . وتحملت أم خالد إلى أن حدثت الإهانة الأخيرة لها ولابنها خالد ، فكانت القشة الى قصمت ظهر البعير كما يقال..

7 ـ إذ  قال مروان لخالد أمام الناس كلمة جارحة نابية في حق أمه،قال له ( يا ابن رطبة الإست )، فدخل خالد على أمه غاضباً ، يقول لها : قد فضحتني وقصّرت بي ونكست برأسي ، والله لأقتلنك أو لأقتلن نفسي ، فقد قال لي مروان كذا وكذا على رءوس الأشهاد فقالت: له والله لن يقولها لك ثانية ، وأوصته بألا يعلم مروان أنها علمت بشيء وأن يكتم الموضوع. وأحس مروان بأنه أهان خالداً وأم خالد ، وخشي مغبة ذلك فدخل على زوجته أم خالد وقال: ما قال لك خالد اليوم؟ فقالت : ما حدثني بشيء ولا قال لي شيئاً ، فقال : ألم يشكني إليك ويشكو تقصيري به كما كان يفعل ؟ فقالت له : يا أمير المؤمنين لقد أفهمت خالداً من قبل أنك له بمنزلة الوالد ، وأنت أعظم في عيني من أن أسمح لخالد بأن يقول عنك شيئاً . فاطمأن مروان بن الحكم قليلا ، ولكن مازالت به حتى ازداد اطمئناناً لها ، ونام عندها ، فوثبت هي وجواريها فغلقن الأبواب ، ثم عمدت إلى وسادة فوضعتها على وجه مروان وجلست فوقها ومعها جواريها حتى مات تحتهن مخنوقاً ..ثم قامت فشقت جيبها وأمرت جواريها فشققن ملابسهن وعلا الصراخ ليعلن موت الخليفة وكان ذلك في غرة رمضان سنة 65هـ وكان مروان في الرابعة والستين من عمره.

ومن ضمن الروايات التى ذكرت نفس الموضوع ننقل منها ما ذكره المؤرخ محمد إبن سعد فى الطبقات الكبرى فى ترجمة مروان بن الحكم ، وقد وصل الى سبب وفاته فقال : (وكانمروان قد أطمع خالد بن يزيد بن معاوية في بعض الأمر ،  ثم بدا له فعقد لابنيه عبدالملك وعبد العزيز ابني مروان بالخلافة بعده ، فأراد أن يضع من خالد بن يزيد ويقصر بهويزهد الناس فيه.  وكان إذا دخل عليه أجلسه معه على سريره ، فدخل عليه يوما فذهب ليجلسمجلسه الذي كان يجلسه فقال له مروان وزبره  : " تنح يا ابن رطبة الاست والله ما وجدت لكعقلا " . فانصرف خالد وقتئذ مغضبا حتى دخل على أمه ، فقال : "  فضحتني وقصرت بى ونكست برأسيووضعت أمري .! " ، قالت : " وما ذاك ؟ " . قال : " تزوجت هذا الرجل فصنع بي كذا وكذا ،  ثم أخبرها بما قال.  فقالت له : " لا يسمع هذا منك أحد ، ولا يعلم مروان أنك أعلمتني بشيء من ذلك ، وادخل عليّكما كنت تدخل ، واطو هذا الأمر حتى ترى عاقبته، فإني سأكفيكه وانتصر لك منه. " .  فسكت خالدوخرج إلى منزله. وأقبل مروان فدخل على أم خالد بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة،  وهيامرأته.  فقال لها : " ما قال لك خالد ما قلت له اليوم وما حدثك به عني ؟ " فقالت : " ما حدثنيبشيء ولا قال لي . " فقال : " ألم يشكني إليك ويذكر تقصيري به وما كلمته به ؟ " فقالت  : " يا أميرالمؤمنين أنت أجلُّ  في عين خالد وهو أشد لك تعظيما من أن يحكي عنك شيئا أو يجد من شيءتقوله. وإنما أنت بمنزلة الوالد له . " .  فانكسر مروان وظن أن الأمر على ما حكت له وأنهاقد صدقت ، ومكث حتى إذا كان بعد ذلك وحانت القائلة فنام عندها ، فوثبت هي وجواريها،  فغلقن الأبواب على مروان  ، ثم عمدت إلى وسادة فوضعتها على وجهه . فلم تزل هي وجواريهايغممنه حتى مات . ثم قامت فشقت عليه جيبها وأمرت جواريها وخدمها فشققن، وصحن عليه،  وقلن : "مات أمير المؤمنين فجأة . " وذلك في هلال شهر رمضان سنة خمس وستين . وكان مروان يومئذ ابنأربع وستين سنة ، وكانت ولايته على الشام ومصر لم يعد ذلك ثمانية أشهر ويقال ستة أشهر ). وقد نقل المؤرخ ابن الجوزى نفس الرواية نقلا عن ابن سعد . ثم نقلها ـ مع بعض تغييرـ  المؤرخ ابن كثير فى ترجمة مروان بن الحكم .

8 ـ وتولى عبد الملك بن مروان بعد أبيه ، وحقق في وفاة أبيه المفاجئة فعلم أن أم خالد قد قتلته فأراد أن يقتلها ، فقالوا له إنه عار عليك أن يعلم الناس أن أباك قد قتلته امرأة. فكف عنها ونجت أم خالد من القتل..

وتمتع عبد الملك بن مروان بالخلافة ، وأرد خالد أن يمحو من نفس عبد الملك بن مروان الجريمة التي اقترفتها أمه فاشترك مع جيش الأمويين في حرب ضد أهل الحجاز الذين انضموا لعبد الله بن الزبير..

وكانت أصداء ما حدث لمروان ومقتله قد وصلت للحجاز ، وتعجب أهل الحجاز لاشتراك خالد في الحرب مع عبد الملك ضدهم ، وأثناء الحرب أبلي خالد بلاء حسناً في جيش الأمويين ضد الحجازيين ، فما كان من أهل الحجاز إلا أن هتفوا في المعركة يسخرون منه شعراً بلفظ هابط بذىء ، و سمع خالد الشعر فانسحب من المعركة.

 يذكر الصفدى فى موسوعته ( الوافى بالوفيات ) تلك القصة بتفاصيل مختلفة ، ونعتذر مقدما عن ايراد النصّ كما هو : (  جرى بين خالد وبين مروان بن الحكم كلام فقال لمروان : أين أنت مني ؟ قال : بين رجلي أمك الرطبة . فدخل على أمه فاختة بنت ابي هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس فقال : هذا عملك بي والله لأقتلنك أو لأقتلن نفسي . قال لي مروان كذا . قالت : أما والله لا يقولها لك ثانية . فلما نام مروان ألقت على وجهه وسادة وجلست عليها حتى مات . وعلم عبد الملك خبرها فهم بقتلها فقيل له : أما إنه شر عليك أن يعلم الناس أن أباك قتلته امرأة .! فكفّ عنها . وحضر خالد مع مروان فأبلى بلاء حسنا حتى أن أنكى في أهل الحجاز فقال رجل منهم :  

ها إن همّ خالد ما همّه ... أن سلب الملك ونيكت أمّه
فجعل فتيان منهم يرتجزون بها ، فلم يخرج خالد للقتال بعد ذلك )( الوافى بالوفيات 13 / 273 )

وعاد خالد إلى أمه يدفن أحزانه في علم الكيمياء ، فأطلقوا عليه خالد الكيماوي..

ثانيا :  خالد و( حبيبة خالد  ) :

1 ــ تقول الرواية : ( حج عبد الملك بن مروان وحج معه خالد بن يزيد بن معاوية...فبينا هو يطوف بالبيت إذ بصُر برملة بنت الزبير بن العوام فعشقها عشقًا شديدًا ، ووقعت بقلبه وقوعًا متمكنًا‏.‏ فلما أراد عبد الملك القفول همّ خالد بالتخلف عنه ، فوقع بقلب عبد الملك تهمة ، فبعث إليه يسأله عن أمره فقال‏:‏  " يا أمير المؤمنين رملة بنت الزبير رأيتها تطوف بالبيت قد أذهبت عقلي والله ما أبديت لك ما بي حتى عيل صبري فلقد عرضت النوم على عيني فلم تقبله والسلو على قلبي فامتنع منه.! " .  فأطال عبد الملك التعجب من ذلك وقال‏:‏ " ما كنت أقول إن الهوى يستأسر مثلك .! "  فقال‏:‏"  وإني لأشد تعجبًا من تعجبك مني ، ولقد كنت أقول إن الهوى لا يتمكن إلا من صنفين من الناس‏:‏ الشعراء والأعراب‏.‏ فأما الشعراء فإنهم ألزموا قلوبهم الفكر في النساء والغزل ، فمال طمعهم إلى النساء فضعفت قلوبهم عن دفع الهوى فاستسلموا له منقادين‏.‏ وأما الأعراب فإن أحدهم يخلو بامرأته فلا يكون الغالب عليه غير حبه لها ولا يشغله شيء عنه فضعفوا عن دفع الهوى فتمكن منهم‏.‏ وجملة أمري ما رأيت نظرة حالت بيني وبين الحرم وحسنت عندي ركوب الإثم مثل نظرتي هذه‏.‏.! ".  فتبسم عبد الملك وقال‏:‏ " أو كل هذا قد بلغ بك ؟ " فقال‏:‏ " والله ما عرفتني هذه البلية قبل وقتي هذا . " .فوجّه عبد الملك إلى آل الزبير يخطب رملة على خالد،  فذكروا لها ذلك فقالت‏:‏ " لا والله أو يطلق نساءه." .! فطلق امرأتين كانتا عنده إحداهما من قريش والأخرى من الأزد وظعن بها إلى الشام‏.‏)  ..

2 ـ وكان الحجاج بن يوسف هو الذى أنهى فتنة ابن الزبير ، وتولى العراق فأخضعه للأمويين ، وزاد نفوذه عند عبد الملك . ( وقد بعث الحجاج إلى خالد  يقول له ‏:‏ " ما كنت أراك تخطب إلى آل الزبير حتى تشاورني . فكيف خطبت إلى قوم ليسوا بأكفائك وهم الذين نازعوا أباك على الخلافة ورموه بكل قبيحة.! " ‏.‏ فقال لرسوله‏:‏ " ارجع فقل له‏:‏  " ما كنت أرى أن الأمور بلغت بك إلى أن أؤامرك في خطبة النساء.!! وأما قولك‏:‏ نازعوا أباك وشهدوا عليه بالقبيح فإنها قريش تتقارع فإذا أقر الله الحق مقره تعاطفوا وتراحموا‏.‏ وأما قولك‏:‏ ليسوا لك بأكفاء‏.‏ فقبحك الله يا حجاج ما أقل علمك بأنساب قريش.! أيكون العوام كفوءًا لعبد المطلب بن هاشم حتى يتزوج صفية ويتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة ولا تراهم أكفاء لأبي سفيان‏.‏؟ .. ولما قدم الحجاج على عبد الخليفة عبد الملك مرّ بخالد بن يزيد فسأل رجل‏ خالد :‏ " من هذا ؟ " فقال خالد كالمستهزئ بالحجاج ‏:‏"  هذا عمرو بن العاص . " فرجع الحجاج إلي خالد وقال له ل‏:‏ " ما أنا بعمرو بن العاص ولكني ابن الغطاريف من ثقيف والعقائل من قريش ، ولقد ضربت بسيفي هذا أكثر من مائة ألف كلهم يشهد أن أباك وأنت وجدك من أهل النار، ثم لم آخذ لذلك عندك شكرًا‏.‏ )

3 ــ نلاحظ أن هذه الرواية تدور حول شيئين متلازمين: عشق خالد بن يزيد بن معاوية لرملة بنت الزبير أخت عبد الله بن الزبير. وزواجه منها برغم الخصومة الدائمة بين الأسرتين ، ومعارضة الحجاج لتلك العلاقة والعداء الكامن بين الحجاج وخالد . يلفت النظر شيئان فى الحوار بين خالد والحجاج. فالحجاج يتصرف كأنه ولى أمر خالد يحتج لماذا لم يشاوره فى خطبته لرملة بنت الزبير، و أن آل الزبير ليسوا أكفاء لبنى أمية ، وهم أعداء لهم . ويرد خالد باحتقار ضمنى للحجاج مستغربا أن يضع نفسه فوق خالد ، وأن الهاشميين قد أصهروا لبنى العوام ومنهم النبى محمد عليه السلام ، ثم أنهم جميعا قرشيون ـ أعلى العرب مكانة ، والقرشيون يتقاتلون سياسيا ولكن يتعاطفون اجتماعيا. والعرب أتباع لهم.  وفى موقف آخر رد الحجاج على سخرية خالد به قائلا : (ولقد ضربت بسيفي هذا أكثر من مائة ألف كلهم يشهد أن أباك وأنت وجدك من أهل النار ثم لم آخذ لذلك عندك شكرًا) الحجاج هنا لم يهاجم كل الأمويين ، اقتصر هجومه على الفرع السفيانى فقط. وهذه من أصول الدهاء.

 

 

 

 

 

الفصل الثانى :

عائشة بنت طلحة  : فاتنة عصر الفتنة 

أولا : مقدمة سريعة عنها :

1 ـ  فى عصر الفتنة : كان تعدد الزوجات شائعا ، وقد إستهلك الصراع الحربى أعمار الرجال ، فكانت المرأة تتزوج أكثر من مرة ، كلما مات قتيلا عنها زوج تزوجت بعده ، خصوصا إذا كانت من قريش وظالمة الجمال ، مثل عائشة بنت طلحة .

2 ـ هى فاتنة عصر الفتنة ، فهى مولودة فى بيت أسّس الفتنة الكبرى الأولى والثانية ، فأبوها الصحابى المشهور ( طلحة بن عبيد الله ) أحد الستة المرشحين للخلافة بعد عمر ، وأحد أعمدة الفتنة الكبرى ، وأحد قواد معركة الجمل ضد (على بن أبى طالب ) . وأمها  أم كلثوم ابنة أبى بكر ، وخالتها عائشة . وشيطان الفتنة الكبرى الأولى والثانية ( عبد الله بن الزبير ) هو ابن خالتها .

3 ـ عنها ( فتنة عصرها ) قالوا عن جمالها :  (وكانت أجمل اهل زمانها وأحسنهن وارأسهن ) ـ ( وكانت بارعة الحسن .) . ( ووصفتها المغنية ( عزة الميلاء ) لمصعب بن الزبير  لما خطبها فقالت : اما عائشة فلا والله ما غن رأيت مثلها مقبلة مدبرة محطوطة المتنين ، عظيمة العجيزة ، ممتلئة الترائب  ، نقية الثغر وصفحة الوجه ، غراء فرعاء الشعر ، لفاء الفخذين ممتلئة الصدر ، حميسة البطن ، ذات عكن ضخمة السرة ، مسرولة الساق ، يرتج ما بين اعلاها إلى قدميها ، وفيها عيبان : اما احدهما فيواريه الخمار ، واما الآخر فيواريه الخف : عظم الأذن والقدم ،) . هذا هو مقياس الجمال يومئذ ، ان تكون المرأة مثل كتلة ضخمة  من ال ( جيلى ) تسير على قدمين .!!.

4 ـ تكاثرت حولها الروايات بسبب شهرتها فى الحُسن والجمال ، وبعضها كاذب مثل قولهم : ( وكانت لا تستر وجهها من احد ، فعاتبها مُصعب في ذلك فقالت : إن الله عز وجل وسمني بميسم جمال أحببت ان يراه الناس ويعرفوا فضلي عليهم ، وما كنت لأستره ، ووالله ما في وصمة يقدر ان يذكرني بها احد ،). وهذه رواية نرفضها لأن وجه المرأة وقتها كان سافرا ، ولم يكن النقاب معروفا حينئذ . وكان الخمار يغطى الصدر فقط .

3 ـ ، وكانت شرسة الأخلاق وكذلك نساء بني تيم . وظهر هذا فى معاملتها لزوجها الأول وزوجها الثانى .

ثانيا : أزواجها :

1 ــ   تزوجها  (عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر ) ومات عنها ، فتزوجها ( مصعب بن الزبير بنالعوام ، وهو أمير العراق لأخيه عبد الله بن الزبير ، فقُتل عنها ، فتزوجها ( عمر بن عبيد الله بن معمر بن عثمان التيمي  ) ولم تتزوج بعده .

2 ــ الزوج الأول : ابن خالها  (عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر ) تزوجها بكرا ، تقول الرواية ( وهو أبو عُذرها ) . وقد عانى منها الويلات . خاصمته مرة وتركت له البيت غاضبة الى بيت خالتها السيدة عائشة ، تقول الرواية :  ( .. وخرجت من دارها غضبى ، فمرت في المسجد ، وعليها ملحفة ، تريد عائشة ام المؤمنين ، فرآها ابو هريرة فسبّح ، وقال : سبحان الله كانها من الحور العين . فمكثت عند  ( خالتها ) عائشة أربعة أشهر. ).  وكان زوجها  عبد الله  يحبها ويتحمل شراسة أخلاقها ، قال عنها : ( والله لربما حملت ووضعت وهي مصارمة لي ( أى مخاصمة ) لا تكلمني . ) . ووصل به الغضب مرة الى أن هجرها وآلى منها ، فنصحته عمته السيدة عائشة أن يراجعها حتى لا يقع فى ( الايلاء ) فأعادها . وقيل له : (   طلقها  ، فقال شعرا :

يقولون طلقها لأُصبح ثاويا ....... مقيما علي الهمّ أحلامُ نائم

وإن فراقي اهل بيت أُحبهم ........لهم زلفة عندي لإحدى العظائم ).

وعندما توفى زوجها الأول ( عبدالله ) لم يظهر عليها حُزن فى جنازته ، تقول الرواية : (  فما فتحت فاها عليه ، وكانت عائشة ام المؤنين تُعدد عليها هذا من ذنوبها .)

3 ـ زوجها الثانى : ( مصعب بن الزبير ) ، دفع لها مهرا مائة ألف دينار ، وفى رواية (ثم تزوجها بعده مصعب بنالزبير وأمهرها خمسمائة ألف درهم. وأهدى لها مثل ذلك.   )

وكان لمصعب زوجتان أيضا (سكينة  بنت الحسين وبنت عبد الله بن عامر .. ).

مصعب بن الزبير ــ الذى كان جريئا فى سفك الدماء الى درجة أنه قتل خمسمتئة أسير مرة واحدة من أتباع المختار الثقفى ـ كان يعانى من شراسة خُلق زوجته عائشة بنت طلحة . بلغ من شرائة خلقها أنها كانت تتصرف كالزوج الرجل ، ( تهجره فى المضاجع ) أو تُقسم عليه بالظهار تحرمه على نفسها ، فقالت له : " أنت علي كظهر أُمي،"  واعتزلته  فى غرفة ، ورفضت أن تكلمه ، تقول الرواية : (  فجهد مصعب أن تكلمه فأبت ، فبعث إليها  ابن قيس الرقيات ( الشاعر ) فسألها كلامه، ( أى أن تكلمه )  فقالت : كيف بيميني ؟ فقال : هاهنا الشعبي فقيه اهل العراق فاستفتيه ،  فدخل عليها  ( الشعبى  ) ، فأخبرته فقال : ليس هذا بشيء ، فقالت : اتحلني وتخرج خائبا ، فأمرت له باربعة آلاف درهم . ) .

وهجرته مرة، ورفضت أن ينال منها فى الفراش ، فكان يغتصبها ، وفإستعان عليها بكاتبه فإحتال عليها بالتخويف حتى لانت لمصعب . تقول الرواية :( وكان مصعب لا يقدر عليها إلا بتلاح ( أى بالعراك ) وينالها منه ويضربها ، فشكى ذلك إلى ابن أبي فروة كاتبه ، فقال له : " أنا اكفيك هذا إن اذنت لي " ، قال :  " نعم ، افعل ما شئت ، فإنها افضل شيء نلته في الدنيا .! " ، فأتاهل ليلا ومعه  أسودان ( أى إثنان من العبيد السود ) ، فاستاذن عليها ، فقالت له : " أفي مثل هذه الساعة ؟ " قال : " نعم  " ، فأدخلته ، فقال للأسودان : "  احفرا ها هنا بئرا " ، فقالت له جاريتها : " وما تصنع بالبئر ؟ " قال : " شؤم مولاتك ، امرني هذا الفاجر ( أى مصعب ) ان ادفنها حية ، وهو أسفك خلق الله لدم حرام ." ، فقالت عائشة : " فانظرني اذهب إليه."  ، قال : " لا سبيل إلى ذلك. " ، وقال للأسودين : " احفرا " . فلما رات الجّد منه بكت وقالت :"  يا ابن ابي فروة . إنّك لقاتلي ما منه بد ؟ " قال :"  نعم  ، وإني لأعلم أن الله سيجزيه بعدك ، ولكنه  قد غضب وهو كافر الغضب.! " ، قالت : " وفي أي شيء غضبه ؟ " قال : "  في امتناعك عليه ، وقد ظن انك تبغضينه وتتطلعين إلى غيره ، وقد جُنّ ! . " فقالت : " أُنشدك الله إلا عاودته .!" ، قال : " أخاف ان يقتلني ،.! "  فبكت،  وبكى جواريها . فقال : " قد رققت لك "، وحلف أنه يغرر بنفسه ، ثم قال لها : " ماذا أقول ؟"  قالت : " تضمن عني الا اعود أبدا.! " قال : " فمالي عندك ؟ " قالت : " قيام بحقك ما عشت " ، قال :" فأعطني المواثيق " ، فأعطته ، فقال للأسودين : " مكانكما ."، واتى مصعبا فأخبره فقال له : " استوثق منها بالأيمان. " ، ففعلت ، وصلحت بعد ذلك.).

وكانت لا تأبه بهداياه لها مهما بلغت قيمتها ، تقول الرواية  : ( ودخل مصعب يوما عليها وهي نائمة مثضمقة  ومعه ثماني لؤلؤات قيمتها عشرون ألف دينار ، فأنبهها ونثر الؤلؤ في حجرها ، وقالت له : نومتي كانت احب إلي من هذا الؤلؤ.!! )  . هذا اللؤلؤ من عرق أهل البلاد المفتوحة .

4 ـ زوجها الأخير : ابن عمها : عمر بن عبيد الله التيمي . تزوجها بعد قتل مصعب ، وقدم لها صداقا قدره ألف الف درهم ، تقول الرواية :  ( وفي ذلك يقول الشاعر:بُضع الفتاة بألف ألف كامل * وتبيت سادات الجيوش جياعا ). ( بُضع فتاة ) أى ( عضوها الجنسى ).

وهناك روايتان عن زواجها من ابن عمها عمر بن عبيد الله التيمى ، تقول الأولى إن بشر بن مروان بن الحكم  ــ بعد أن قتل بنوأمية زوجها مصعبا ـ أراد أن يتزوج عائشة ، فارسل اليها ابن عمها عمر بن عبيد الله يخطبها له . فقالت لعمر : (‏:‏"  أما وجد بشر رسولًا إلى ابنة عمك غيرك ؟  فأين بك عن نفسك ؟ " ( يعنى تخطبه لنفسها ) قال‏:‏ "  أوتفعلين ؟ "  قالت‏: " ‏ نعمفتزوجها .).

والرواية الأخرى تقول إن عمر بن عبيد الله جاء من الشام الى الكوفة ، فبلغه أن بشر بن مروان بعث يخطب عائشة بنت عمه ، فأرسل الى عائشة جارية تقول لها : ( ابن عمك يقرئك السلام،  ويقول لك : أنا خير لك من هذا الميسور والمطحول وإن تزوجت بي ملأت بيتك خيرًا‏.‏ فتزوجته فبنىبها بالحيرة‏.‏ ) . فى الروايتين نرى كراهية بنى أمية الذين قتلوا مصعبا وأخاه عبد الله .  وتقول الرواية إن العريس الثالث  حمل اليها الف الف درهم مهرا. ( ألف ألف درهم ، خمسمائة ألف مهرًا ، وخمسمائة ألف هدية . وقاللمولاتها‏:‏ لك علي ألف دينار إندخلت بها الليلة فحمل المال فألقي في الدار وغُطّي بالثياب .  وخرجتعائشة فقالت لمولاتها‏:‏" ما هذا أفرش أم ثياب  ؟ قالت‏:‏ " انظري " ،  فنظرت فإذا به مال ، فتبسمت ، فقالتلها‏ ( مولاتها ) :‏ " أجزاء من حمل هذا أن يبيت عندنا . ؟ " قالت‏ ( عائشة ) :‏ " لا والله ، ولكن لا يجوز دخوله إلا بعدأن أتزين له وأستعد ."  .  قالت‏ ( الجارية ) :‏ " وبماذا ؟ فوالله لوجهك أحسن من كل زينة ، وما تمدين يديكإلى طيب وثوب أو فرش إلاوهو عندك ، وقد عزمت عليك أن تأذني له . "  قالت‏:‏ " افعلي " .  فذهبتإليه فقالت‏:‏ " بت ببيتناالليلة . " فجاءهم عند العشاء الآخرة. ) .

وهناك رواية أخرى ( فاحشة ) نعتذر عن ذكرها ، ونضطر لذلك لنعايش ثقافة عصر ( السلف الصالح ) الدموية الفاحشة . تقول الرواية : ( وتزوجها عمر بن عبيد الله ، وحمل غيها الف الف درهم ، وقال لرسولها : " انا أملأ بيتها خيرا  وحرها أيرا " ( الحر : عضو المرأة الجنسى ) ( الاير : عضو الذكر الجنسى ) ، وتمضى الرواية فتقول : ( ودخل بها من ليلته ، واكل الطعام الذي عُمل له على الخوان كله ، وصلى صلاة طويلة ، وخلا بها ، ودخل المتوضى سبع عشرة مرة ، فلما اصبح  قالت له جاريتها :"  والله ما رأيت مثلك ، أكلت أكل سبعة ، وصليت صلاة سبعة  ، ونكت نيك سبعة .! " ،  فضحك وضرب بيده على منكب عائشة ، وقال :" كيف رأيت ابن عمك ؟ " ، فضحكت وغطت وجهها . . ).

هدأت شراسة عائشة مع زوجها الثالث ، كانت فقط تُغيظه بوصف وسامة مصعب ، تقول الرواية : ( ومكثت معه ثماني سنين ، وكانت تصف لهمصعبًا  ، فيكاديموت من الغيظ . ) ومات زوجها الثالث سنة (82 هـ) ، فرفضت الزواج بعده . تقول الرواية : ( فلما مات ندبته قائمة ،  وقالت‏:‏ " كان أكرمهم علي وأمسهمرحمًا بي فلا أتزوجبعده . ") ( وكانت المرأة إذا ندبت زوجها قائمة عُلم أنها لا تتزوج بعده . ).

ثالثا : عائشة ( الأرملة الطروب )

1 ـ عاشت حياتها كما يحلو لها وهى أرملة ثرية ، ( كانت تقيم بمكة سنة، وبالمدينة سنة ،  وتخرج إلى مال لها بالطائف تدير أمورها بنفسها  .  وتخرج إلى مال لها بالطائف وقصر لها ، فتتنزه‏. وقدمت على هشام بن عبدالملك ، فقال‏:‏ "  ماأقدمك ؟"  فقالت‏:‏ " حبست السماء قطرها ومنع السلطان الحق . "  فأمر لها بمائةألف درهم . ).

2 ـ واصبحت عائشة بنت طلحة جُزءا من الحياة المنفتحة  فى مكة والمدينة ، حيث المجون والغناء ومشاهير المغنيين والمغنيات ، وقصائد العشق والغرام والتشبيب بالنساء . إذ أن الأمويين بعد الفتنة الكبرى الثانية أغرقوا أهل مكة والمدينة بالأموال والحوارى ليشغلوا أهلها عن الثورة بعد إخماد حركة ابن الزبير  .

3 ـ فى هذه الفترة كان لعائشة بنت طلحة ندوة أدبية يحضرها الشعراء والمغنون وسادة القوم ، وكانت تتنافس مع ضرتها السابقة ( سكينة بنت الحسين ) التى شاركتها مصعب بن الزبير . يقول ابن اسحاق عن ابيه : ( دخلت على عائشة بنت طلحة بن عبيد الله ، وكانت تجلس ، وتأذن كما يأذن الرجل.) وبعضهم كان يأتى ليملأ عينيه من جمالها فقط ، تقول الرواية : ( وقال أنس بن مالك لعائشة بنت طلحة: " إن القوم يريدون أن يدخلوا اليك فينظروا إلى حسنك !"  قالت:  " أفلا قلت لي فألبس حسن ثيابي." )

4 ـ وفى هذا المناخ إشتهر عمر بن أبى ربيعة بالتشبيب أو التغزل بالنساء ، وتسابقت النساء الشهيرات ليحظين بشعره متغزلا فيهن . تقول الرواية : ( لقي عمر بن أبي ربيعة عائشة بنت طلحة بمكة،  وهي تسير على بغلة لها ، فقال لها :"  قفي حتى أسمعك ما قلت فيك " ، قالت : " أوقد قلت يا فاسق ؟ " قال: " نعم ،"  فوقفت فأنشدها:

ياربة البغلة الشهباء هل لك في * بأن تنشري ميتا لا ترهقي حرجا

قالت بدائك مت أو عش تعالجه *      فما نرى لك فيما عندنا فرجا

ومن مشاهير تغزل عمر بن أبى ربيعة فى عائشة بنت طلحة قصيدته التي أولها :

مـن لقـلب أمسـى رهـينا مُعنّى * مسـتكيـنا قـد شفـه مـا أجـنّا

إثر شخص نفسي فدت ذاك شخصا * نـازح الدار بـالمديـنة عـنا

3 ــ وكان لعائشة معجبون من مشاهير المغنيين ، ومنهم ابن محرز ، تقول الرواية : ( كان ابن محرز أحسن الناس غناء ، فمر بهند بنت كنانة بن عبدالرحمن .. فسألته أن يجلس لها ولصواحب لها ، ففعل وقال: " أغنيكن صوتا أمرني الحارث بن خالد بن العاص بن هشام أن أغنيه عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، في شعر له قاله فيها ، وهو يومئذ أمير مكة قلن: نعم ، فغناهن:

فوددت إذ شحطوا وشطت دارهم * وعـدتهم عـنا عـواد تشـغل

 أنـا نطاع وأن تـنقل أرضـنا *         أو أن أرضهم إليـنا تـنقل

ومنهم المغنى ( العريض ) . تقول الرواية : ( حجت عائشة بنت طلحة بن عبيدالله ، فجاءتها الثريا ( الثريا عشيقة عمر بن أبى ربيعة ) وإخوتها ، ونساء مكة.  وكان المغني الغريض فيمن جاء ، فدخل النسوة عليها ، فأمرت لهن بكسوة وألطاف كانت قد أعدتها لمن يجيؤها، فجعلت تخرج كل واحدة ومعها جاريتها ومعها ما أمرت لها به عائشة .  والغريض بالباب حتى خرج مولياته مع جواريهن الخلع والألطاف ، فقال الغريض: فأين نصيبي من عائشة ؟ فقلن له: أغفلناك وذهبت عن قلوبنا ، فقال: ما أنا ببارح من بابها أو آخذ بحظي منها ، فإنها كريمة بنت كرام ، واندفع يغني بشعر جميل:

تذكرت ليلى فالفؤاد عميد * وشطت نواها فالمزار بعيد

فقالت: ويلكم هذا مولى العبلات بالباب يذكر بنفسه هاتوه ، فدخل ، فلما رأته ضحكت وقالت: لم أعلم بمكانك ، ثم دعت له بأشياء أمرت له بها ، ثم قالت له: إن أنت غنيتني صوتا في نفسي فلك كذا وكذا .. فغناها في شعر كثير:

ومازلت من ليلى لدن طر شاربي * إلى اليوم أخفي حبـها وأداجن )

4 ـ وكان والى مكة الحارث بن خالد بن العاص بن هشام من المتيمين بعائشة بنت طلحة . وكان ينظم فيها الشعر . تقول الرواية : ( قال الحارث بن خالد المخزومي متغزلا بعائشة بنت طلحة لما تزوجها مصعب بن الزبير ورحل بها إلى العراق :

ظـعن الأمـير بأحسـن الخـلق * وغـدا بـلبك مـطـلع الشـرق

 في البيت ذي الحسب الرفيع ومن * أهـل التـقى والبـر والصـدق

فـظـللت كـالمقهـور مـهجته * هـذا الجـنون وليــس بالغسق

أتـرجـة عـبق العـبير بـها * عـبق الدهـان بـجـانب الحـق

مـا صـبحت أحـدا بـرؤيتها * إلا غـدا بكـواكـب الـطـلق )

5 ــ قال أبوالفرج الأصفهانى : ( والحارث بن خالد أحد شعراء قريش المعدودين الغزليين ، وكان يذهب مذهب عمر بن أبي ربيعة لا يتجاوز الغزل إلى المديح ولا الهجاء ، وكان يهوى عائشة بنت طلحة بنت عبيدالله ويشبب بها.وحج الحارث بن خالد المخزومي بالناس ، وحجت عائشة بنت طلحة عامئذٍ ، وكان يهواها ، فأرسلت إليه :" أخّر الصلاة حتى أفرغ من طوافي  "، فأمر المؤذنين فأخّروا الصلاة حتى فرغت من طوافها ، ثم أقيمت الصلاة فصلى بالناس ، وأنكر أهل الموسم ذلك من فعله وأعظموه.ولما أن قدمت عائشة بنت طلحة أرسل إليها الحارث بن خالد ـ وهو أمير على مكة ـ : " أني أريد السلام عليك ، فإذا خف عليك أذنت ،"  وكان الرسول الغريض ، فقالت له: " أنا حرم ( أى فى الحرم فى الحج ) فإذا أحللنا إذناك ."  فلما أحلت سرت ( سارت ليلا ) على بغلاتها ، ولحقها الغريض بعسفان،  ومعه كتاب الحارث إليها:

" ما ضركم لو قلتم سددا ...". فلما قرأت الكتاب قالت: " ما يدع الحارث باطله " ، ثم قالت للغريض: "هل أحدثت شيئا ؟ " ( أى هل قال شعرا جديدا فيها ) قال: " نعم فاستمعي " ، ثم اندفع يغني في هذا الشعر ، فقالت عائشة: " والله ماقلنا إلاسددا ، ولاأردنا إلا أن نشتري لسانه " ، وأتى على الشعر كله ، فاستحسنته عائشة،  وأمرت له بخمسة آلاف درهم وأثواب ، وقالت: " زدني " ، فغناها في قول الحارث بن خالد أيضا.

6 ـ يضيق الصدر عن تحليل الروايات السابقة ، ونكتفى بالقول إنها كانت حياة ماجنة فى مكة والمدينة ، لا تختلف فى فسوقها عن سفك الدماء . أى إن السلف الصالح تقلب بين سفك الدماء والانغماس فى الفحشاء . وكانت عائشة بنت طلحة عنصرا فى هذا وذاك ، زوجها السفاح مصعب بن الزبير ، ثم هى بعده من أشهر النساء اللاتى تعلق بهن شعراء الفسق . وفى حالتى الفسق وسفك الدماء فقد حاز القرشيون الأموال بالملايين ، ليس من صحرائهم ولكن من عرق ومن دماء أهل البلاد المفتوحة ، من أواسط آسيا شرقا الى شمال أفريقيا غربا . .!!

 

 

 

الشاعر العرجى  : نتاج عصر الفتنة / فتنة الدماء والفحشاء

 

أولا : من هو العرجى ؟

هو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان .وأم العرجى هى ابنة عم أبيه ( آمنة بنت عمر بن عثمان ) ،أى إن العرجى حفيد لعثمان من ناحية أبيه وأمه معا ، ولكنه اكتسب لقب العرجى وغلب عليه لأنه كان يملك بستانا فى منطقة ( عرج الطائف ) . كان العرجى وسيما أشقر .وربما ورث هذه الوسامة من جده عثمان .وورث منه أيضا صفة الكرم. كما كان فارسا شارك فى غزو الروم مع مسلمة بن عبد الملك . وما عدا كرمه وفروسيته فإن المشهور عنه فى عصره كان تشبيبه بالنساء مع مجونه وتعصبه القبلى لأهله بنى أميه وتعصبه الجنسى ضد غير العرب. وهنا يأتى تأثره بالعصر الأموى والسياسة الأموية .

ثانيا : العرجى : ملامح الشخص وملامح العصر:

1 ـ من الصعب الفصل بين العرجى كشاعر تخصص فى التشبيب بالنساء او التغزل فيهن وبين مجونه وتعصبه . فمع كثرة نسائه وجواريه فقد أدمن التعرض للنساء والتغزل فيهن متشبها بشاعر الغزل الأشهر عمر بن ربيعة . إلّا إن العرجى لم يكن مثل ابن ربيعة فى رقته وإحترامه للنساء إذا رفضن غزله بهن ومطاردته لهن ، على العكس من ذلك كان العرجى يلحّ فى مطاردتهن ولا يأبه باعتراضهن ، ثم كان يجعل من تشبيبه بالمرأة طريقا للهجاء وفضيحة من يبغضهم. كان متعصبا ضد والى مكة ( محمد بن هشام ) فتكلف أن يتغزّل فى أمه وزوجته ليفضحهما ، ودفع العرجى الثمن . كان ابن ربيعة اكثر تخصصا فى الغزل وتخصصا فى مطاردة النساء والولع بهن ومحادثتهن ، وكان النجم المحبب لنساء عصره من مختلف المستويات ، ومع هذا فقد  كان يؤكد عفّته . على العكس من ذلك نجد العرجى فخورا بانحلاله الخلقى مباهيا به . ونعطى بعض التفصيلات .

1/ 1 : عن انحلاله الخلقى يحكى العرجى أنه واعد إمرأة ، فجاءته المرأة تركب حمارة ، وكان معها خادمة لها . وجاء العرجى ومعه خادم له وهو يركب حمارا . فزنى العرجى بالمرأة ، وزنا خادمه بالخادمة ونزا حماره على حمارة المرأة ، فقال العرجى : هذا يوم غاب عذّاله !! لا ننسى أن العرجى كان متزوجا بعدة نساء وله عدة جوارى ملك اليمين على عادة الملأ من قريش وقتها. ومع هذا كان يهوى الزنا . ومن طريف ما يحكى عنه أن رجلا قال له : جئتك أخطب اليك مودتك ، فقال له العرجى : بل خذها زنا فأنها أحلى وألذّ .!!

1/ 2 : وكان ابن ربيعة ينبهر بالمرأة الجميلة فيطاردها بشعره ويحاول لقاءها ، فإن رأى منها إعراضا عفّ وكفّ ، ولكن كان العرجى معهن ثقيلا بغيضا معتديا لحوحا ميالا للإنتقام . فقد إعترضت إحداهن على العرجى وتشبيبه بالنساء ، واسمها ( كلابة)، وكانت تقول : لشدّ ما إجترأ العرجى على نساء قريش حين يذكرهنّ فى شعره.وعرف العرجى بقولها فجاء اليها فطردته فقال فيها شعرا يؤكّد فيه بأن لها علاقة محرمة به،وحتى يعمم فضيحتها فق أعطى هذا الشعر للمغنيين فتغنوا به ، ووصل الشعر الى زوجها فاتهمها بالعرجى ، وما زال بها حتى حلّفها فى الكعبة أنها لا علاقة لها بالعرجى .

1 / 3 : والعرجى كان يطارد المحصنات المحترمات من النساء مثل أم الأوقص وقد زعم أنه يهواها ، وكان يتحايل فى الوصول اليها ، وتحاول السيدة الفاضلة أن تنجو منه . وكانت هذه السيدة الفاضلة قد وهبت حياتها لرعاية ابنها محمد بن عبد الرحمن المخزومى ورفضت الزواج لتتفرّغ لرعايته، وكانت قد ولدته قزما دميما قصير الرقبة، فأطلقواعليه لقب الأوقص ، وعرضنا للأوقص فى مقال سابق . وبرعايتها صار الأوقص فى النهاية أشهر قاض فى مكة فى العصر العباسى الأول. وفى وقت رعايتها لابنها المعاق هذا كان العرجى يطاردها ويشبب بها زاعما أنه يهواها ، وهى تناضل حتى تفرّ منه .!

1 / 4 : وممّن فضحهن بشعره الغزلى السيدة ( جيداء ) وهى أم محمد بن هشام المخزومى والى مكة . وكانت من القواعد من النساء ، وربما تضارع ام العرجى فى العمر. ولم يكن العرجى مفتونا بها ولكنه كان يريد فضحها ليغيظ ابنها والى مكة ، بل إن العرجى شبب وتغزّل أيضا بزوجة هذا الوالى . ولأن العرجى حفيد لعثمان بن عفان ولأنه ينتمى للأسرة الأموية الحاكمة ورفيق مسلمة بن عبد الملك فى غزواته فلم يستطع والى مكة الانتقام منه. وظل الوالى محمد بن هشام يتحيّن فرصة الانتقام منه إلى أن أتاحها له العرجى بكل ما لدى العرجى من حمق وعتو وتكبّر .

1/ 5 : فى هذا العصر عاش الموالى مواطنين من الدرجة السفلى يعانون من تعصب الأمويين ضدهم . والموالى هم غير العرب ، من الفرس بالذات . وبعض الموالى كان يعيش فى الحجاز ؛ ومنهم من كان من ذرية السبى أو ذرية الرقيق المستجلب ، وكان بعضهم يكتسب الولاء أوالتبعية لقبيلة عربية أو أسرة عربية أو شخصية عربية ، فيقال له مولى فلان أو مولى بنى فلان من العرب . وفى العصر الأموى كان لأشراف قريش فى مكة والمدينة موالى كثيرون . وكان للعرجى بعض الموالى بالاضافة الى خدمه من الرقيق . وجرت ملاحاة ومناقشة بين العرجى وأحد مواليه ، وانطلق العرجى يسب المولى ويلعنه بأمّه . وفى النهاية ردّ عليه المولى السّب ، فجّنّ العرجى وكان أشعب ( الطامع ) حاضرا ، فقال له العرجى وهو لا يصدّق أن مولاه يرد عليه السّب : إشهد على ما سمعت . فقال اشعب : علام أشهد ؟ قد شتمته ألفا وشتمك واحدة ، والله لو أن أمّك أمّ الكتاب وأمّه حمالة الحطب ما زاد على هذا .! وسكت العرجى على مضض. وفى الليل جمع غلمانه وعبيده وهاجم ذلك المولى فى بيته وأخذه وقيّده ، واحضر زوجة المولى وأمر عبيده أن يغتصبوها أمامه ، ثم قتله وأحرقه بالنار .!. وتوجهت إمرأة المولى القتيل الى والى مكة محمد بن هشام تشكو له ما فعله العرجى . ورآها الوالى فرصة للانتقام من العرجى فقبض عليه، وأوقفه للناس يعذّبه ويصب الزيت المغلى على رأسه ، ويطاف به على تلك الحال يتفرّج عليه الناس والصبيان . وتلك كانت عقوبة مشهورة فى العصر الأموى . ثم أعاده الى الحبس وأقسم ألّا يخرج من الحبس طالما ظل واليا على مكة .

1/ 6 ـ وفى حبسه ظل العرجى يستنجد شعرا بالخليفة هشام بن عبد الملك ، ولكن بلا فائدة . ومن شعره وهو فى محنته :

سينصرنى الخليفة بعد ربى ويغضب حين يخبر عن مساقى

على عباءة بلقاء ليست مع البلوى تغيّب نصف ساقى

وحين يأس قال هذا الشعر الذى اشتهربعده :

أضاعونى وأى فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر

وصبر عند معترك المنايا وقد شرعت أسنّتها بنحرى

أجرّر فى الجوامع كل يوم فيا لله مظلمتى وصبرى

كأنى لم أكن فيهم وسيطا ولم تك نسبتى فى آل عمرو

وصار مثلا فى العصر العباسى أن يقال :

أضاعونى وأى فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر

ولم يستجب الخليفة الأموى هشام بن عبد الملك لصرخات العرجى فقد كانت هناك صلة صهر تجمع محمد بن هشام بعبد الملك والد الخلفاء المروانيين ، فظل العرجى فى السجن تسع سنوات الى أن مات سجينا .

2 ـ : وتولى الخلافة الوليد بن يزيد ، وكان مضطغنا على والى مكة محمد بن هشام المخزومى فعزله ، واستحضره معتقلا الى دمشق مع أخيه ابراهيم بن هشام . وأمر بضربه بالسياط بين يديه ، فاستعطفه محمد بن هشام قائلا : أسألك بالقرابة ؟ فقال له : وأى قرابة بينى وبينك ؟ وهل أنت إلّا من أشجع .! قال : فأسألك بصهر عبد الملك ، فقال له الوليد : لم تحفظه . فقال له : يا أمير المؤمنين قد نهى رسول الله أن يضرب قرشى بالسياط إلّا فى حدّ . فقال له الخليفة : ففى حدّ وقود أضربك،أنت أوّل من سنّ ذلك على العرجى وهو ابن عمّى وابن أمير المؤمنين عثمان، فما رعيت حق جدّه ولا نسبه بهشام ، وأنا ولى ثأره .! . وبعد ضربهما بعثهما الخليفة مثقلين بالقيود الحديدية الى والى العراق يوسف بن عمر ، فصادر أموالهما وظل يعذبهما الى ان لم يبق فى جسديهما موضع للعذاب ،ولم يعد بإمكانهما الحركة ، فكانوا إذا أرادوا أن يقيماهما يجذبانهما من لحاهما ، وأراد محمد بن هشام أن يرى وجه أخيه فتحامل على نفسه يحاول الوقوف فوقع ميتا على وجه أخيه فمات أخوه معه .. !

ثالثا : تأثير السياسة الأموية فى تكوين شخصية العرجى

1 ـ بعد ماساة كربلاء وبعد القضاء بصعوبة على حركة ابن الزبير إستنّ الأمويون سياسة محددة مع أبناء وأحفاد المهاجرين والأنصار المقيمين فى مكة والمدينة لتشغلهم عن السياسة ، هى إغراقهم فى المتع الحسّية ، فتكاثرت عليهم الأموال وجلبوا لهم الجوارى والقيان ، واصبحت المدينة بالذات مركزا لتعليم وتفريخ المغنيين والمغنيات من الرقيق و ذرية الرقيق ممن كان يطلق عليهن ( مولدات المدينة ) . تحولت المدينة ومكة الى ماخور لهو ومجون وغناء وخمر ، واشتهر فيهما أرباب الغناء من الذكور والاناث حتى أصبحت دمشق تستوردهم من مكة والمدينة . وانهمك أحفاد الصحابة فى حياة اللهو والمجون ، ليس فقط تمتعا بالعديد من الزوجات والجوارى ، بل بالزنا الذى شاع وانتشر . وفى المقابل كان هناك من تطرف فى العبادة الى درجة تحريم الحلال من الذهب والحرير وصاغ لتزمته الأحاديث إفتراءا على الله ورسوله . وتعايش الاتجاهان المتناقضان فى المدينة بالذات . ومن الطريف أن تجد محمد بن القاسم حفيد أبى بكر الصديق ناسكا راويا للأحاديث الكاذبة بينما تجد ابن أبى عتيق وهو حفيد آخر لأبى بكر ماجنا وصاحبا لعمر بن ربيعة. وهانحن مع العرجى حفيد عثمان . وفى النهاية أنتج جناح التزمت مالك بن أنس الذى ابتدع ( حد الرجم ) و(حد شرب الخمر) ليواجه إنحلال عصره ، بينما تكاثر الماجنون والزناة والمغنّون ومدمنو الخمر . هذا هو عصر (السلف الصالح ) من ( التابعين وتابعى التابعين) آلهة السلفيين فى عصرنا البائس الحزين .!!.

2 ـ ولم يكن المجون بالغناء والخمر هو السبيل الوحيد الذى نشره الأمويون لشغل الناس عن الثورة عليهم ، إذا شغلوا الناس بالشعر خصوصا شعر المدح للخليفة ، وشعر التهاجى بين الشعراء كما كان يحدث فى المربد من التهاجى بين الفرزدق وجرير والأخطل ، فظل هذا يشغل الناس حتى بعد زوال الدولة الأموية ، ثم شعر المجون والغزل والتشبيب بالنساء ، فاشتهر العصر الأموى بقصص العشّاق الشعراء المجانين بالعشق مثل مجنون ليلى وكثير عزّة وجميل بثينة وقيس ولبنى ..

3 ـ وأشعل شعر التهاجى نار العصبية القبلية التى شجعها الخلفاء الأمويون ، واستخدموها لصالحهم حين كان الخلفاء الأمويون أقوياء فلما ضعف الخلفاء الأمويون أصبحوا ضحايا لهذه العصبية وأسهمت فى القضاء عليهم ، وسننشر بحثا فى هذا . والواقع أن الأمويين تعاملوا بالعصبية على كل المستويات . تعصبوا جنسيا وعرقيا للعرب ضد غيرهم ، وداخل العرب استخدموا العصبية القبلية كما قلنا ، وتعصبوا لقريش ضد غيرها من قبائل مضر ، وداخل قريش تعصبوا إجتماعيا لذرية عبد مناف التى تجمعهم ببنى هاشم مع عدائهم لبنى هاشم بنى عمومتهم. ثم تعصبوا للأمويين ضد أبناء عمومتهم الهاشميين . وداخل الأسرة الحاكمة الأموية كان كل خليفة يتعصب لابنه ضد أخيه ولى العهد . وفى هذا الجو من التعصب نشأ وعاش وتأثر العرجى . فقد كان معاديا لمحمد بن هشام لأنه تولى مكة ، وهو ليس من الأمويين بل من بنى مخزوم القرشيين، وكل ميزته صلة مصاهرة تجمعه بعبد الملك بن مروان والد الخليفة هشام بن عبد الملك . وتفرّغ العرجى لهجاء محمد بن هشام والتشبيب بأمه وزوجته بلا سبب سوى تعصب العرجى لأسرته الأموية ورؤيته أنه الأحق من محمد بن هشام أو غيره من الأمويين فى ولاية مكة . بالاضافة الى تعصبه المحلّى هذا فقد كان العرجى متعصبا ضد غير العرب ، وقام بتطبيق هذا فيما فعله بمولاه المسكين .

4 ـ استعمل الأمويون كل الوسائل فى شغل الناس عن مشاكستهم سياسيا . ولم يتورعواعن استخدام الدين ، وسبق أن عرضنا لهذا فى مقال عن ( الجبرية ) فى السياسة الأموية ، أى كانوا يعتبرون ما يفعله الخليفة هو قدر الاهى لا يجوز الاعتراض عليه . وفى مبحث عن حرية الرأى والفكر أوضحنا سياسة الأمويين فى استخدام أبى هريرة فى صناعة الأحاديث واستخدامها سياسيا. ثم جعلوا لعن  (على ) من رسوم الخطبة فى صلاة الجمعة .

نرى تأثرا العرجى بهذه الثقافة الأموية ، فهو لم يستشعر ذنبا إقترفه حين قتل رجلا بريئا وحين جعل عبيده يغتصبون الزوجة المسكينة أمام زوجها الموثق ، ثم يحرقون زوجها أمامها. العرجى لا يرى فى ذلك إثما ، بل يرى نفسه مظلوما ، فظل ينتحب وهو فى محنته معتقدا ببراءته . كما نلمح هذا فى حوار محمد بن هشام مع الخليفة الوليد بن يزيد ، وقوله بأن الرسول منع ضرب القرشيين بالسياط .!!

أخيرا .. مثل معظم البشر، كان العرجى ابن عصره،إستمتع بعصره،وأصبح ضحية لعصره . وتبقى لعصرنا العبرة والعظة لو كان هناك من يعتبر ويتعظ ..!!

 

 

 

 

 

 

 فسق بعض الخلفاء الأمويين 

ليتجنب الأمويون ثورات أهل مكة والمدينة أغرقوهم بالأموال والخمور والقيان ( الجوارى المغنيات ) ووصلت اصداء ذلك الى دمشق وقصور الخلافة فاشتهر بعض الخلفاء الأمويين بالمجون ، وأشهرهم يزيد بن عبدالملك ، ثم ابنه الوليد بن يزيد .

أولا : يزيد بن عبد الملك : (101 ـ 105)  

1 ـ تولى بعد عمر بن عبد العزيز ، وفى البداية تأثر به فقال : سيروا بسيرة عمر بن عبد العزيز ، ولم تتحمل بنو أمية ذلك ، فجاءوا له بأربعين شيخا شهدوا له بأنه ما على الخلفاء حساب ولا عذاب .

وتطلع الخليفة الشاب حوله فجاءته أخبار المجون فى المدينة . ووصلت اليه أخبار أشهر مغنيتين فى المدينة وهما سلّامة وحبابة، وعشق الناسك عبد الرحمن ( القس ) لسلامة .

2 ـ كانت ســلامــة قد نشأت جارية بالمدينة وتعلمت الغناء على أعلام الغناء فيها وأشهرهم معبد وابن عائشة وجميلة ومالك بن أبي السمح. وحين استوى عودها واشتهرت بحسن الصوت نافستها جارية أخرى كانت دونها في حسن الصوت إلا أنها كانت أجمل منها وجهاً وهي "حبابة" ، إلا أن ســلامــة امتازت عن حبابة بميزة إضافية وهي قولها الشعر ، فكان ثمنها أعلى ومحـبـُّوها أكثر. ونالت سـلامـة إعجاب أحد المترفين في مكة فاشتراها وأحضرها إلى بلده مكة ، وهو سهيل بن عبد الرحمن بن عوف ، وأبوه الصحابي المشهور . وتحولت دار سهيل إلى ملتقى للماجنين محبي الغناء والسمر والجمال ، تظل نوافذه مضاءة ورواده إلى الفجر في سرور وحبور وأصواتهم تصل إلى جنبات الشارع. وذات يوم مر عبد الرحمن القــس على دار سهيل فسمع صوت سلامة وهي تغني فأعجبه صوتها فتوقف ، وكان منظراً غريباً أن يتوقف القس العابد ليسمع الغناء ، ووصل الخبر إلى الفتى الماجن سهيل فنزل يدعو القس للدخول فأبى وانصرف في خجل ، إلا أنه في اليوم التالي عاد في الوقت نفسه ووقف يسمع الغناء ، وتلاحقت الهمسات حول القـس كلما مر يوم وهو على عادته يسمع الغناء ويرفض الدخول ، وفي النهاية غلبه الشوق فاستجاب لرجاء سهيل ودخل داره وشاهد سـلامـة وجلس معها وشغف بها حباً وهامت به غراماً ، ولم يستطع كتمان مشاعره ففاض لسانه شعراً سارت به الركبان ، فاشتهرت سلامة وأصبح لقبها سلامة القس. على أن عبد الرحمن القس في حبه لسلامة ظل محافظاً على ورعه وتقواه ، تقول الرواية : ( وإنما قيل لسلامة سلامة القس لأن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار أحد بني جشم بن معاوية بن بكير ـ  كان فقيهاً عابداً مجتهداً في العبادة، وكان يسمى القس لعبادته، مر يوماً بمنزل مولاها فسمع غناءها فوقف يسمعه، فرآه مولاها فقال له: هل لك أن تنظر وتسمع فأبى، فقال: أنا أقعدها بمكان لا تراها وتسمع غناءها؛ فدخل معه فغنته، فأعجبه غناؤها، ثم أخرجها مولاها إليه، فشغف بها وأحبها وأحبته هي أيضاً، وكان شاباً جميلاً. فقالت له يوماً على خلوة: أنا والله أحبك! قال: وأنا والله أحبك! قالت: وأحب أن أقبلك! قال: وأنا والله! قالت: وأحب أن أضع بطني على بطنك! قال: وأنا والله! قالت: فما منعك؟ قال: قول الله تعالى( الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعضٍ عدو إلا المتقين )، وأن أكره أن تؤول خلتنا إلى عداوة؛ ثم قام وانصرف عنها وعاد إلى عبادته،  فقيل لها سلامة القس لذلك.)
3 ـ   وانتشرت قصة سلامة وغرام العابد الناسك بها ، ووصلت إلى دمشق مصحوبة بالأشعار التي قالها الناسك والأشعار الأخرى التي قيلت فيهما ، وكان الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك  يبحث عن الجديد والمشهور من ألوان المتع ، فبعث من اشترى له سلامة ، وسافرت سلامة إلى دمشق وحظيت مع حبابة لدى الخليفة الشاب.  وبينما ماتت حبابة في عهد الخليفة فإن سلامة عاشت بعده ، ويذكر المؤرخون أن الخليفة الأموي  اشترى سلامة من مولاها بعشرين ألف دينار.

4 ــ  ويروى الطبرى أن الخليفة يزيد بن عبد الملك : (  قال يوما :  وقد طرب ، وعنده حبابة وسلامة : " دعوني أطير .! " فقالت حبابة  : " إلى من تدع الأمة ؟ " )  وروى الطبرى أنه (  حجّ  يزيد بن عبد الملك في خلافة سليمان بن عبد الملك فاشترى حبابة ، وكان اسمها العالية بأربعة آلاف دينار من عثمان بن سهل بن حنيف ، فقال سليمان : " هممت أن أحجر على يزيد . " فرد يزيد حبابة ، فاشتراها رجل من أهل مصر.  فقالت سعدة ليزيد : : يا أمير المؤمنين هل بقي من الدنيا شيء تتمناه بعد ؟ " قال : " نعم.  حبابة . " فأرسلت سعدة رجلا فاشتراها بأربعة آلاف دينار،  وصنعتها حتى ذهب عنها كلال السفر ، فأتت بها يزيد فأجلستها من وراء الستر، فقالت : " يا أمير المؤمنين أبقي شيء من الدنيا تتمناه ؟  قال : "  ألم تسألييني عن هذا مرة فأعلمتك ؟ فرفعت الستر وقالت : " هذه حبابة . " قامت وخلتها عنده ، فحظيت سعدة عند يزيد  وأكرمها وحباها . وسعدة امرأة يزيد وهي من آل عثمان بن عفان . ) .

وتقول الرواية عن يزيد وحبابة وسلامة :  فقال يوماً وقد طرب وعنده حبابة وسلامة القس: دعوني أطير قالت حبابة: على من تدع الأمة؟ قال: عليك؛ قيل وغنته يوماً:

وبين الترافي واللهاة حرارة ** ما تطمئن وما تسوغ فتبردا
فأهوى ليطير، فقالت: يا أمير المؤمنين إن لنا فيك حاجة. فقال: والله لأطيرن! فقالت: على من تخلف الأمة والملك؟ قال: عليك والله! وقبل يدها؛ فخرج بعض خدمه وهو يقول: سخنت عينك فما أسخفك! )

5 ـ وماتت حبابة فمات الخليفة يزيد ( الثانى ) حزنا عليها.!!

وعن موتها تقول الرواية : ( وخرجت معه إلى ناحية الأردن يتنزهان، فرماها بحبة عنب فدخلت حلقها فشرقت ومرضت وماتت، فتركها ثلاثة أيام لم يدفنها حتى أنتنت وهو يشمها ويقبلها وينظر إليها ويبكي، فكُلّم في أمرها حتى أذن في دفنها، وعاد إلى قصره كئيباً حزيناً، وسمع جاريةً له تتمثل بعدها: كفى حزناً بالهائم الصب أن يرى ** منازل من يهوى معطلة قفرا

فبكى، وبقي يزيد بعد موتها سبعة أيام لا يظهر للناس، أشار عليه مسلمة بذلك وخاف أن يظهر منه ما سفهه عندهم.) .

وفى رواية (كان سبب موته أن حبابة لما ماتت وجد عليها وداً شديداً، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، فخرج مشيعاً لجنازتها ومعه أخوه مسلمة بن عبد الملك ليسليه ويعزيه، فلم يحبه بكلمة، وقيل إن يزيد لم يطق الركوب من الجزع وعجز عن المشي فأمر مسلمة فصلى عليها، وقيل: منعه مسلمة عن ذلك لئلا يرى الناس منه ما يعيبونه به. فلما دفنت بقي بعدها خمسة عشر يوماً ، ومات ودفن إلى جانبها، وقيل: بقي بعدها أربعين يوماً لم يدخل عليه أحد إلا مرة واحدة . ) ( ومات فى شعبان عام 105 (وله أربعون سنة، وقيل خمس وثلاثون سنة، وقيل غير ذلك، وكانت ولايته أربع سنين وشهراً وأياماً ) . 

ثانيا : الوليد بن يزيد بن عبد الملك :

1 ــ بعد موت يزيد بن عبد الملك تولى أخوه هشام بن عبد الملك (105 ـ125هـ) . وكان ولى عهده الوليد بن يزيد بن عبد الملك ( أبن أخيه ) . وحاول هشام عزل ابن أخيه الوليد بن يزيد عن ولاية العهد وتولية ابنه مسلمه ابن هشام ، ولكن عارضه كبار الأمويين ، فصب هشام سخطه على الوليد بن يزيد مما ملأه حقداً على هشام وأسرته. وحين تولى الوليد بن يزيد الخلافة(125ـ 126هـ) انتقم من أولاد عمه هشام وممن مالأ هشاماً في محاولة عزله عن ولاية العهد . وأشتهر الوليد بالمجون أكثر من أبيه يزيد . وتسبب فسقه فى ثورة الناس عليه  فتجمعوا تحت قيادة  (يزيد بن الوليد بن عبد الملك ) المعروف بيزيد الناقص ، الذي نجح في ثورته وقتل الخليفة الوليد بن يزيد سنة 126هـ . 

2 ــ وقيل عن الوليد بن يزيد : ( كان فاسقا شريبا للخمر منتهكا حرمات الله ، أراد الحج ليشرب فوق ظهر الكعبة ، فمقته الناس لفسقه ، وخرجوا عليه ، وحين حوصر قال للناس : ألم أزد فى أُعطياتكم ..ألم أعط فقراءكم ؟ فقالوا : ما ننقم عليك فى أنفسنا ، ولكن ننقم عليك إنتهاك حُرُم الله وشرب الخمر ونكاح أمهات أولاد أبيك ، وإستخفافك بأمر الله ) ( ولما قُتل وقُطع رأسه قال أخوه سليمان : بُعدا له . أشهد أنه كان شروبا للخمر فاسقا ، ولقد راودنى على نفسى .! ) . ويذكر المؤرخ الصفدي أنهم اتهموه بأن له علاقة بسلامة جارية أبيه .

3 ــ ويقول الطبرى إن الذى أفسد الوليد هو معلمه عبد الصمد بن عبد الأعلى ، الذى أحاط الوليد بندماء السوء . وأرد الخليفة هشام إصلاح ابن أخيه الوليد ولى عهده:( فولاه الحج سنة تسع وعشرة ومائة ، فحمل معه كلابا في صناديق فسقط منها صندوق .. وفيه كلب ..وحمل معه قبة عملها على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة وحمل معه خمرا ، وأراد أن ينصب القبة عل الكعبة ، ويجلس فيها ، فخوفه أصحابه ، وقالوا : " لا نأمن الناس عليك وعلينا معك . " فلم يحركها . وظهر للناس منه تهاون بالدين واستخفاف به . وبلغ هشاما فطمع في خلعه والبيعة لابنه مسلمة بن هشام ،  فأراده على أن يخلعها ويبايع لمسلمة فأبى ، فقال له اجعلها له من بعدك فأبى ، فتنكر له هشام ، وأضرّ  به وعمل سرا في البيعة لابنه فأجابه قوم . ) واشتدت العداوة بين الخليفة هشام وولى عهده ، ومع هذا فقد نصحه هشام ، يقول الطبرى : (  وتمادى الوليد في الشراب وطلب اللذات فأفرط ،  فقال له هشام : ويحك يا وليد والله ما أدري أعلى الإسلام أنت أم لا ؟ ما تدع شيئا من المنكر إلا أتيته غير متحاش ولا مستتر به ؟ فكتب إليه الوليد :

يا أيها السائل عن ديننا نحن على دين أبي شاكر

نشربها صرفا وممزوجة بالسخن أحيانا وبالفاتر )

وروى ابن عساكر فى تاريخه أن الوليد سمع بخمار صلف بالحيرة فقصده حتى شرب منه ثلاثة أرطال من الخمر، وهو راكب على فرسه، ومعه اثنان من أصحابه، فلما انصرف أمر للخمار بخمسمائة دينار‏.

4 ـ وقتلوه بعد أن حكم حوالى ستة أشهر . وكان عمره إذ ذاك أربعاً وثلاثين سنة‏.

  ويقول الطبرى فى التأريخ للعام التالى 126 عن أسباب مقتل الخليفة الوليد بن يزيد : ( ولما ولي الخلافة وأفضت إليه لم يزدد في الذي كان فيه من اللهو واللذة والركوب للصيد وشرب النبيذ ومنادمة الفساق إلا تماديا وحدا تركت الأخبار الواردة عنه بذلك كراهة إطالة الكتاب بذكرها فثقل ذلك من أمره على رعيته وجنده فكرهوا أمره وكان من أعظم ما جنى على نفسه حتى أورثه ذلك هلاكه إفساده على نفسه بني عميه بني هشام وولد الوليد ابني عبد الملك بن مروان مع إفساده على نفسه اليمانية وهم عظم جند أهل الشأم ) ( كان الوليد صاحب لهو وصيد ولذات فلما ولي الأمر جعل يكره المواضع التي فيها الناس حتى قتل ولم يزل ينتقل ويتصيد حتى ثقل على الناس وعلى جنده  ) ( فثقل الوليد على الناس ورماه بنو هشام وبنو الوليد بالكفر وغشيان أمهات أولاد أبيه. ) .

5 ــ ويذكر ابن الجوزى فى المنتظم عن الوليد  ( فظهر من الوليد لعب وشرب للشراب واتخذ ندماء ، فولاه هشام الحج سنة ستة عشرة ومائة ، فحمل معه كلابًا في الصناديق  ، وعمل قبة على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة، وحمل معه خمرًا وأراد أن ينصب القبة على الكعبة ويجلس فيها فخوفه أصحابه فجمع المغنين بمكة وتشاغل باللهو ) (الوليد بن يزيد كان أمر بالقبة من حديد أن تعمل وتركب على أركان الكعبة ، ويخرج لها أجنحة لتظلله إذا حج وطاف فعملت ولم يبق إلا أن تركب . فقال الناس في ذلك – الفقهاء والعباد - وغضبوا في ذلك ، وتكلموا وقالوا‏:‏ لا يكون هذا قط . وكان أشدهم في ذلك كلامًا وقيامًا سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن . وكتب إلى الوليد بذلك فكتب‏:‏ اتركوها ‏.)‏ وقال ابن الجوزى عنه : (  قام على بركة مملوءة خمرًا ..فقذف نفسه في البركة فنهل منها ثم خرج فتلقي في الثياب والمجامر ..) ( :‏ كان الوليد بن يزيد زنديقًا وأنه فتح المصحف يومًا فرأى فيه ‏{‏واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد‏}‏ فألقاه ورماه بالسهام ، وقال‏:‏

تهددني بجبار عنيد **           فها أنا ذاك جبار عنيد

 إذا ما جئت ربك يوم حشر ** فقل يا رب حرقني الوليد ).

جدير بالذكر أنه حين حوصر فتح المصحف وقال : يوم كيوم عثمان ، وقتلوه والمصحف معه ، ولعله كان نفس نسخة المصحف الذى أطلق عليه السهام.

ويذكر المسعودى فى ( مروج الذهب ) شعرا للوليد بن يزيد يكفر فيه : يقول 

تلعب بالخلافة هاشمى         بلا وحى أتاه ولا كتاب 

فقل لله يمنعنى طعامى         وقل لله يمنعنى شرابى .

وقُتل بعدها. 

ويذكر المسعودى عن فسقه ، أنه حين إعتزل عمه الخليفة هشام ، وأقام فى الرصافة ، ثم جاءه نعى الخليفة وتوليه الخلافة قال شعرا عن بنات عمه هشام :

إنى سمعت خليلى          نحو الرصافة رنه 

اقبلت اسحب ذيلى    

الفتنة الكبرى الثانية ( 61 : 73 هجرية ) : صفحة من التاريخ الأسود للسلف الصالح
هذا الكتاب
يؤرخ لفترة مسكوت عنها إمتلأت بالفظائع من مقتل الحسين الى مقتل عبد الله بن الزبير ويحلل آثارها الدينية التى لا تزال باقية حتى اليوم .
more