رقم ( 4 ) : يتكون من خمسة فصول
الباب الأول التمهيدى

الباب الأول التمهيدى

الفصل الأول : وعظ السلاطين  فى رؤية بحثية منهجية

الفصل الثانى : أبو جعفر المنصور.. والخضر

الفصل الثالث :  ماهية السلاطين

مقالات متعلقة :

الفصل الرابع  : ما هية الوعظ

الفصل الخامس : لماذا تميز تراث المسلمين ـ دون المسيحيين ـ بوعظ السلاطين

 

الفصل الأول : وعظ السلاطين  فى رؤية بحثية منهجية

 تاريخ النشر: 2010-02-24

 

1 ـ موضوع (وعظ السلاطين) جديد وبكر فى مجال البحث، ولم تيسره أبحاث سابقة للمتخصصين. وعدا هذا فهو يقف فوق المشكلة الهامة التى تواجه أى باحث فى التاريخ الاسلامى، وهى فحص الروايات التاريخية وتمييز الكاذب منها والصادق .

هناك روايات تاريخية حقيقية فى وعظ السلاطين تعبر عن أحداث وعظ حدثت فعلا ، حيث ووجه السلطان المستبد بكلمة حق . وهناك روايات مصنوعة تم ادخالها فيما بعد فى تاريخ الخلفاء ـ أى بأثر رجعى ـ وربما لم تكن موجودة تلك الروايات فى المصادر التاريخية الأولى للخلفاء والسلاطين ، ولكن تم وضعها بعد موتهم بقرون لتحمل وعظا مباشرا للسلطان القائم ومن سيأتى بعده ( لعل وعسى ) يتعظ .التمييز بين الرواية الحقيقية والرواية المصنوعة هو مهمة الباحث التاريخى .

2 ـ ولأن البحث فى وعظ السلاطين يبدأ من تاريخ الخلفاء (الراشدين ) وكبار الصحابة فهو يتعامل مع حقل ألغام ، لأنهم الذين خرجوا بالمسلمين من شريعة الاسلام بارتكابهم الفتوحات و الحروب الأهلية التى قسمت المسلمين و أقامت لهم الأديان الأرضية.وتلك هى الأزمة الكبرى فى البحث التاريخى للمسلمين عموما ، وفى بحث (وعظ السلاطين ) على وجه الخصوص. إذ تبين أن كبار الصحابة والخلفاء الراشدين انفسهم حين أوقعوا المسلمين فى أكبر الكبائر : الفتوحات و الفتنة الكبرى ـ لم يتعظوا بالقرآن الكريم ،مع أنهم هم الذين كانوا يتصدرون الوعظ.

3 ـ ولقد حظر الدين السنى التعرض لتاريخ الصحابة فى الفتنة الكبرى ومنع نقدهم عبر أحاديث كاذبة نسبوها للنبى محمد عليه السلام تنهى صراحة كقولهم (الله الله فى أصحابى ، لا تأخذوهم غرضا بعدى ). وفى نفس الوقت زيفوا أحاديث أخرى ترفعهم وتدعو الى تقديسهم جميعا مثل: (أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) وأحاديث تقيم لجماعات منهم حفلات التكريم، مثل (العشرة) المبشرين بالجنة، و(الستة ) الذين توفى عنهم النبى وهو عنهم راض، و(أصحاب بدر ) الذين قيل لهم (إعملوا ماشئتم ) فهم مغفور لهم. أوتعطى أفرادا منهم ألقابا ضخمة، مثل (الصديق) و(الفاروق) و (ذو النورين) (باب مدينة العلم) (حوارى رسول الله) (أمين هذه الأمة) (حبر هذه الأمة) و (سيف الله المسلول) وحذيفة (الذى يعرف سرائر المنافقين).الخ .

وبالاضافة الى حظر نقد الصحابة الكبار ومنع بحث الفتنة الكبرى فقد ارتفعوا بالفتوحات الى قمة الاسلام ، ليس فقط بتجاهل عرضها على القرآن الكريم ، بل بصناعة أحاديث تسوغها و (تؤسلمها ) مثل حديث ألبخارى ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ..).ولم يلتفت أحد الى تناقض هذا الحديث الكاذب مع تشريعات القتال الدفاعى فى القرآن وتشريع عدم الاكراه فى الدين وحرية المعتقد ، أى يتناقض مع أكثر من ألف آية قرآنية فى تقديرنا .

بل وصل الكفر بالقرآن ببعضهم الى أن يجعل حديث (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا..) (ناسخا ) أى مبطلا وملغيا لآيات القرآن الكريم التى تعارضه.

علاوة على تلاعبهم بآيات التشريع الاسلامى باسطورة النسخ التراثى ليؤكدوا على أن الاسلام انتشر بالسيف. والحقيقة المرة أن الذى انتشر بالسيف ليس الاسلام الحق الذى لم تعرفه تلك الأمم المفتوحة ، ولكن الذى انتشر بالسيف والاحتلال هو الأديان الأرضية المشوهة التى نشرها أولئك الذين ناقضوا الاسلام بالغزو والاعتداء والظلم والسلب و النهب والاسترقاق والسبى .

4 ـ وبتوالى القرون والأجيال تحول كبار الصحابة من شخصيات تاريخية بشرية الى آلهة فى أديان المسلمين الأرضية ، فالخلفاء (الراشدون ) مع كبار الصحابة أهم آلهة الدين السنى ، اما الشيعة فقد قسموا الصحابة الى آلهة وشياطين ، جعلوا عليا وذريته آلهة ، وفى المقابل جعلوا آلهة الشر خصوم (على ) السياسيين ، من أبى بكر وعمر وعثمان وعائشة وطلحة والزبير و عمرو ومعاوية وأبى هريرة ..الخ .وهو نفس الأسس الدينية لعقائد فارس القديمة (آلهة الخير والنور ، وآلهة الشر و الظلام ).وبتوالى الأجيال تأكد فى ( جينات ) أتباع الدين السنى تقديس الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة، كما ترسخ فى (جينات) أتباع الدين الشيعى تقديس آل البيت بالمفهوم الشيعى.

5 ـ وتعين علينا أن ندفع الثمن .

فإذا ناقشنا تاريخ الخلفاء الراشدين من داخل التراث السنى ـ فقط ـ ومن خلال ما كتبه المؤمنون بالخلفاء والصحابة وبالاحتكام الى القرآن الكريم جاء الرد بالهجوم البذىء، ولاحقتنا اتهامات التكفير والدعوة للقتل . مع أن الأمر غاية فى البساطة لكل ذى عقل سليم ، فالفتوحات الحروب الأهلية تناقض الاسلام وفق تشريع القرآن، ولكنها (الجينات) التى تشربت الافك السنى والشيعى طيلة 14 قرنا ، وتعلمته وعاشت وماتت عليه .

6 ـ أكثر الردود علينا تهذيبا ـ ليس التكفير ـ ولكن التمنى.

التمنى بأن تكون كل هذه الأحداث التاريخية مزيفة، أى يكون هناك ابوبكر وعمر وعثمان وعلى وعمرو ومعاوية والزبير وطلحة وعائشة..الخ، ولكن بدون الفتنة الكبرى والفتوحات. (إذن ماذا سيتبقى من تاريخهم)؟

لا يمكن لنا أن نفرض أمنياتنا على التاريخ. علينا أن نبحث التاريخ الموجود كما هو، وكل ما نفعله أن نثبت بالبحث التاريخى ان هذه الرواية صحيحة أو كاذبة.

وحتى الرواية الكاذبة لا نتعامل معها بالانكار التام، ولكن نعتبرها كاذبة من وجهة نظرنا، أى قد تكون صحيحة من وجهة نظر أخرى لباحثين آخرين، لهم أدلتهم وحججهم.وحتى لو كان ثمة إجماع على أن تلك الرواية باطلة وليس هناك أى دليل على صحتها فليس لنا أن نتعامل معها بالبتر التام لأنها وإن كانت (كاذبة) فيما تتضمنه من أخبار وأقوال عن تلك الشخصية التاريخية فإنها (صادقة) فى التعبير عن رؤية من سبكها وصنعها لتلك الشخصية التاريخية ، وهى (صادقة) فى التعبير عن ثقافة العصر الى صيغت فيه تلك (الاكذوبة).

وللبحث التاريخى مناهجه وضوابطه وقواعده ، مع أن الكتابة فى التاريخ أصبحت هواية لكثير من العاطلين ، وأدى تردى مستوى التعليم فى الجامعات وسهولة النشر على الانترنت لأتاحة الفرصة لكل من هبّ ودبّ أن يفتى ويهرف بما لا يعرف، بل وأن يتصدى بالهجوم على المتخصصين لمجرد أنه لا يعرف الجديد الذى يكتبونه ، فهو عدو لما يجهل وهو عدو طالما يجهل،وهو فى كل الوقت عدو للعلم ، حريص على جهله ، رضى بجهله ورضى عنه جهله.

أمثال هؤلاء لا توجد صلة رحم بينهم وبين مناهج البحث التاريخى وضوابطه وأصوله ، فهم لا يعرفون البحث التاريخى ولا يعرفهم البحث التاريخى .

وبينما يعترف الباحث التاريخى بأن بحثه مجرد وجهة نظر فإن أولئك الجهلة يعتقدون فى جهلهم أنه الحقيقة المطلقة التى لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها .

والواقع بالنسبة للباحث التاريخى أن تظل استنتاجاته وتقييمه للروايات التاريخية فى دائرة الحقائق النسبية والظنية ، لأن روايات التاريخ كله ، تدخل ـ بفرض صحتها ـ فى دائرة الحقائق النسبية التى يترجح فيها الصدق ، ولكن يظل فيها احتمال الكذب .

ومن هنا فلا مجال لمعرفة الحق اليقينى و التاريخ الحقيقى للبشر إلا يوم القيامة عند نشر كتاب الأعمال الفردى لكل فرد وكتاب الأعمال الجماعى لكل مجتمع ومجموعة عاشت مع بعضها فى نفس المكان والزمان . وستكون تلك الكتب مرئية للجميع : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) (الحاقة 18) ( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (الزلزلة 16 : 18)

7 ـ بالحقيقة النسبية يختلف التاريخ ـ كعلم بشرى ـ عن الدين .

الدين الالهى الحق يقوم على الحق المطلق الذى يجب وينبغى الايمان به والتسليم به، كما يشعر المؤمن ايمانا حقا بالقرآن الكريم .

الدين الأرضى يقوم على الافتراء والكذب ، ولكنه يتسلل الى عقل المؤمن به يحجبه عن رؤية الحق والتمييز بينه وبين الباطل ،بل يجعله يقلب الحق باطلا والباطل حقا ، وبالتالى تكون أكاذيب الدين الأرضى حقا مطلقا فى قلوب أتباعه، وتتحول الحقائق المخالفة لتلك الأكاذيب باطلا مطلقا .

وفى الحالتين ففى المطلق الدينى لا مجال للتوسط ، فإما أن تؤمن به كله وإما أن تكفر به كله ، ليست هنا منطقة رمادية،أو حقائق نسبية ،أو صواب يحتمل الخطأ وخطأ يحتمل الصواب.

8 ـ ولأن الدين الأرضى يقوم على تقديس وتأليه الأشخاص ، وتحويلهم من شخصيات تاريخية بشرية الى آلهة وكائنات علوية فإن البحث التاريخى فى هذه الشخصيات التاريخية يعتبر تطاولا على الآلهة وعيبا فى ذواتهم المقدسة وتنزيلا لهم من مقام الالوهية الى حضيض البشرية. لذا يتعرض للتكفير ذلك الباحث التاريخى الذى جرؤ على سب تلك الآلهة والعيب فى ذواتهم المقدسة ،أى اتهامه بالكفر بذلك الدين الأرضى والخروج على ملته ، فالمفترض فيه الايمان بتلك الالهة وسموها فوق سمات البشر ، وألاّ يقترب من تاريخهم إلا بالتحميد والتقديس ونفى كل نقيصة بشرية لأنهم ( كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ).

9 ـ فإذا كانت أدلة الباحث قوية ساطعة تأتى من داخل الدين البشرى نفسه ومن خلال أقوال أئمته أنفسهم ، ثم يعرضها على كتاب الله محتكما اليه ، ومعولا على التعقل والمنطق، هنا يأتى الهروب من الحق بالتمنى ، تمنى أن يكون كل ذلك افتراء وكذب حتى لا يشّوه الصورة المقدسة للكائنات العلوية .

وهذا التمنى علاوة على أنه أحلام يقظة مضحكة فإنه يعبر عن عقيدة (المطلق) فى الجينات المتأثرة بالدين الأرضى قرونا طويلة .

فالمطلق هنا هو الالغاء التام للتاريخ لأنه يشوه صورة الكائنات العليا.

فطبقا لقاعدة ( المطلق ): إما وأما، فعليك أن تختار بين واحد من إثنين:

• إما أن تكفر وتتعامل مع تلك الكائنات العلوية على أنها ليست كائنات علوية بل بشر سفليون مثلنا يخطئون ويصيبون، وقد أخطأوا خطأ شنيعا هم مسئولون عليه ، وبالتالى يتم تنزيلهم من سماء التقديس و التبجيل الى أرض التاريخ الذى يتعامل مع بشر .

• وإما أن تؤمن بهم وتلغى التاريخ لهم طالما فيه ما يمس قدسيتهم ، فتظل قدسيتهم مصانة.وفى إلغاء التاريخ لا بد من إلغاء البحث التاريخى ، وأن تتحول الكتابة التاريخية الى التقديس والتبجيل والرد على ( الملحدين ) الذين يتجرأون على مقام اصحاب القداسة.

10 :يزيد من محنة أتباع الدين الأرضى أن الحكم على تلك الآلهة البشرية يأتى أيضا بطريقة إما وإما ،أى إما أن يكونوا أئمة فى الكفر أو آلهة معصومة من الخطأ.

هتلر مثلا لم يتمسح بدين الله جل وعلا حين فتح البلدان واسترق الشعوب وسلبها ونهبها ، لذا يظل فى دائرة الاجرام العادى . أما أن تقتل شخصا بريئا وتسبى زوجته وابنته وتسترق أطفاله وتزعم أن هذا هو ما يأمرك به رب العزة فأنت فى حضيض المعصية وأكبر عدو لله جل وعلا . فكيف إذا قتلت ليس فردا واحدا بل ملايين ؟ وكيف إذا سبيت واستعبدت ملايين من الأطفال والنساء وقمت بتشريد ملايين الأسر المسكينة وقلت إن هذا هو الجهاد الاسلامى؟!..

المخرج للسنيين من هذه المحنة هى استعمال الخيار الآخر (إما: الأخرى) أى باعتبارهم فوق النقد ، وآلهة لا تخطىء لتقطع الطريق على كل من يفكر ويستعمل عقله ويحتكم الى رب العزة فى القرآن الكريم .

11 ـ الذين يعبدون تلك الآلهة السنية لا يهتمون بحق الله جل وعلا ، ولا يهمهم رفع الظلم عن رب العزة ،ولا يأبهون بالتقديس الواجب له.

فما فعله الخلفاء (الراشدون ) من الفتوحات (بالذات ) هو ظلم لرب العزة قبل أن يكون ظلما لملايين البشر فى آسيا وأفريقيا ، لأنهم نسبوا هذا الظلم لله جل وعلا برغم أن الله تعالى أعلن أنه لا يريد ظلما للعالمين وأنه جل وعلا لا يحب المعتدين. ثم إن ما فعله الخلفاء ( الراشدون ) كانوا فيه الأئمة لمن جاء بعدهم من الخلفاء (غير الراشدين )، إذ تأسى بهم الأمويون وغير الأمويين فى الفتوحات وقتل المسلمين فى حروب أهلية تمسكا بالسلطة أو للوصول اليها .

ويتمنى الارهابيون فى عصرنا فعل نفس الشىء ، ولأنهم يعجزون فهم يلجأون الى القتل الجماعى العشوائى للمدنيين . والمثل الأعلى لهم هم الخلفاء ( الراشدون )..

12 ـ ومن هنا يأتى عملنا بالاصلاح السلمى للمسلمين بعرض تاريخهم وتراثهم على القرآن الكريم .وبهذا الاصلاح يتم تدمير التقديس لآلهة المسلمين حيث لا اله الا الله جل وعلا ،فله وحده التقديس والتمجيد والتعظيم . وبهذا الاصلاح تعود ىالشخصيات التاريخية الى حقيقتها شخصيات بشرية ضمن أحداث تاريخ بشرى . وبتكسير الأصنام العقلية والمعنوية لا تكون هناك حجة لتقديس حاكم مستبد يقتدى بالصحابة أو (يقتدى ويهتدى بالنجوم ) فى الظلم والاستبداد والتعدى والبغى.

13 ـ ما نكتبه فى نقد (الصحابة المقدسين ) ليس ترفا فكريا منقطع الصلة بالحاضر لأن الحاضر المؤلم البائس للمسلمين هو تكرار غبى لما بدأه الخلفاء الراشدون من خروج عن الاسلام عبر الفتوحات و الفتنة الكبرى .

والعراق الذى شهد معظم ملاحم الحروب الأهلية بين الصحابة والصراع بين السنة و الشيعة لا يزال ساحة لنفس الصراع السياسى والفكرى والعقيدى والحربى بين الشيعة و السنة. الاختلاف الوحيد هو أسماء القيادات ونوعية الأسلحة ، ولكنه نفس الغباء فى الاقتداء بالصحابة ( بأيهم اقتديتم اهتديتم ) .. وياله من هدى ..( ولا هدى سلطان ).!

ونعود الى روايات وعظ ( السلطان ).

14 ـ بدون الاستطراد فى قواعد واصول البحث التاريخى نقول فيما يخص موضوعنا :

*: تدوين التاريخ للسيرة النبوية والخلفاء ( الراشدين) والصحابة بدأ بأثر رجعى تدوينا منظما فى العصر العباسى الأول فى البلاد التى فتحها الخلفاء الراشدون ، وأهمها العراق. والى العراق وغيره هاجر الرواد الأوائل فى تدوين السيرة و التاريخ للخلفاء ، وأهمهم ابن اسحاق (ت 151 ) والواقدى ( ت 207 ). وقد نقل عنهم محمد بن سعد ( كاتب الواقدى ) موسوعته التاريخية ( الطبقات الكبرى ) فى ثمانية أجزاء.وتوفى ابن سعد عام 230 هجرية.

* : أخذ الرواد الأوائل معلوماتهم التاريخية من خلال الروايات الشفهية التى تناقلتها الأجيال التى عاشت فى المدينة ، حين كانت المدينة مركز صنع الاحداث فى القرن الأول الهجرى ، وقاموا بتسجيلها فى العراق وغيره من الأمصار . على أن هذا التدوين المنظم فى العصر العباسى قد سبقه تدوين متفرق لبعض الرواة . وبالتالى فإن القرن الأول الهجرى هوعصر الرواية الشفهية ، ثم تم تدوين أحداثه بدءا من القرن الثانى الهجرى بأثر رجعى بعد موت أبطال الأحداث.وظل اللاحقون من المؤرخين ينقلون تاريخ النبوة و الخلفاء و الصحابة نقلا عن الرواد ، ثم يضيفون اليه الكثير مما لم يذكره أولئك الرواد .

* : وكلما تقارب العهد بين المؤرخ والحدث التاريخى الذى يسجله كان التأريخ أقرب للصدق. والعكس صحيح . وبالتالى فان الباحث فى تاريخ الصحابة و الدولة الأموية والذى تمت كتابته فى العصر العباسى لا بد له أن يقارن بين الروايات التاريخية التى كتبها الرواد أمثال محمد بن سعد فى الطبقات أو الطبرى فى تاريخه (عن ابى بكر وعمر مثلا ) بالروايات الأخرى عنهما فى المؤلفات التاريخية المتأخرة فى العصر العباسى الثانى و العصر المملوكى.وسيجد الباحث كثرة من الروايات لم تكن موجودة من قبل ، وسيجد إضافات للروايات المذكورة من قبل ، وسيجد ميلا أكبر للتقديس والتمجيد تتحول به كتابة التأريخ الى كتابة ( مناقب ).

*: وطبعا هى ( أكاذيب ) من الناحية التاريخية لأنه تم صنعها فى عصور لاحقة ، ولكن تلك الروايات (الكاذبة ) (تاريخيا) هى أيضا ( صادقة ) (ثقافيا) لأنها تعبر بصدق عن رؤية كاتبها ورؤية عصره لأبى بكر وعمر ، فقد صنع لهما العصر صورة خيالية تعكس التقديس وعبادة الابطال ، وليس لها صلة بالحقائق التاريخية المذكورة من قبل عن أبى بكر وعمر. وهناك تفصيلات أكثر فى بحث لنا منشور فى هذا الموقع عن (ابى بكر ) فى الفكر السنى.

* : ولا يقتصر الأمر على الخلفاء الراشدين بل يدخل فيه أئمة الفقه والمكتوب فى تاريخهم ثم فى مناقبهم . وفارق هائل بين هذا وذاك .

 

15ـ فى تطبيق هذا على موضوعنا ( وعظ السلاطين ) سنجد نوعين من الروايات ، أحدها يبدو صادقا لاتساقه مع العصر الذى يعيش فيه السلطان وطبيعة هذا السلطان ، ويبدو الآخر منتحلا وكاذبا لمناقضته للسياق التاريخى لعصر السلطان وشخصية السلطان ، ولأنه قد يبدو محملا بأوزار المبالغات والكرامات والخوارق ، مما يستحيل حدوثه . ولكن كانت ثقافة العصور الوسطى تؤمن بامكانية حدوثه .وأسس البحث التاريخى هى التى تقرر ما هو الصحيح وما هو الزائف .وما نقرره يبقى وجهات نظر ، أى هو صواب يحتمل الخطأ ، أو خطأ يحتمل الصواب .

والله تعالى هو الأعلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

الفصل الثانى :  أبو جعفر المنصور.. والخضر

 

تاريخ النشر: 2010-01-15

 

* يذكر ابن الجوزي في تاريخه المنتظم هذه القصة عن الخليفة أبى جعفر المنصور، وقد أسندها إلى رواة على طريقة المحدثين، يقول: وجرت للمنصور في حجه قصة مع بعض الصالحين: أخبرنا محمد بن ناصر قال أخبرنا المبارك بن عبدالجبار قال أخبرنا محمد بن علي بن الفتح قال: حدثنا أبو نصر محمد بن محمد النيسابوري عن ابراهيم بن أحمد الخشاب المقرئ قال: حدثنا أبو على الحسن بن عبدالله الرازي قال: حدثنا المثنى قال حدثنا سلمة بن سلمة القرشي قاضي اليمن قال: سمعت أبا المهاجر المكي يقول:

* قدم المنصور مكة وكان يخرج من دار الندوة إلى الطواف في آخر الليل ويطوف ويصلي ولايعلم به أحد، فإذا طلع الفجر رجع إلى دار الندوة وجاء المؤذنون فسلموا عليه وأقيمت الصلاة فيصلي بالناس، فخرج ذات ليلة حين أسحر فبينما هو يطوف إذ سمع رجلاً عند الملتزم وهو يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع، فأسرع المنصور في مشيه حتى ملأ مسامعه من قوله، ثم خرج فجلس ناحية من المسجد، ثم أرسل إليه فدعاه، فصلى ركعتين واستلم الركن وأقبل مع الرسول فسلم على المنصور.

* فقال له المنصور: ما هذا الذي سمعتك تقوله من ظهور البغى والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع؟ فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني فأقلقني؟

فقال : يا أمير المؤمنين، إن أمنتني على نفسي أخبرتك بالأمور من أصلها، وإلا احتجبت منك واقتصر على نفسي، ففيها لي شغل شاغل.!

فقال: أنت آمن على نفسك،

فقال: يا أمير المؤمنين إن الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق واصلاح ما ظهر من البغي والفساد في الأرض لأنت،

قال: ويحك، كيف يدخلني الطمع، والصفراء والبيضاء بيدي، والحلو والحامض في قبضتي؟

 قال : هل دخل أحد من الطمع ما دخلك يا أمير المؤمنين؟ إن الله عزوجل استرعاك أمور المسلمين وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم وجعلت بينك وبينهم حجاباً من الآجر والجص وأبوباً من الحديد وجنوداً معهم السلاح، واتخذت أعواناً فجرة ، إن نسيت لم يذكروك وإن أحسنت لم يعينوك ، وقويتهم على ظلم الناس بالرجال والأموال والسلاح، وأمرت ألا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف والجائع والعاري، وما أحد إلا وله في المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلفتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت ألا يحجبهم أحد عنك لما رأوك تجبي المال ولاتقسمه، قالوا: هذا قد خان الله، فما لنا لا نخونه، وهو مسخر لنا، فتآمروا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس إلا ما أرادوا، ولايخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا أقصوه عنك حتى تسقط منزلته عندك، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم، وكان أول من صانعهم هم عمالك، اشتروا رضاهم بالهدايا والأموال ليتقوّوْا بها على ظلم رعيتك، فظلموا من هم دونهم من الرعية وامتلأت بلاد الله بالطمع بغياً وفساداً، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك، وأنت غافل، وإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إلى مدينتك، وإن أراد رفع شكوى إليك عند ظهورك ، وجدك قد نهيت عن ذلك ، وقد أوقفت للناس رجلا ينظر في مظالمهم، فإن جاء ذلك الرجل بشكواه إلى بطانتك سألوا صاحب المظالم ألا يرفع مظلمته إليك فإن صرخ بين يديك ضربوه ضرباً مبرحاً ليكون نكالاً لغيره وأنت تنظر فلاتنكر ذلك ولا تغيره ، فما بقاء الإسلام وأهله على هذا ، وقد كانت بنو أمية و كانت العرب لا ينتهي إليهم مظلوم إلا رفعت مظلمته ، وقد كان الرجل يأتي من أقصى الأرض حتى يبلغ سلطانهم فينادى: يا أهل الإسلام، فيبتدرونه: مالك مالك ؟ فيرفعون مظلمته إلى سلطانهم فينتصف له، وقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى أرض الصين وبها ملك ، فقدمتها مرة وقد ذهب سمع ملكهم فجعل يبكي فقال له وزراؤه: مالك تبكي لابكت عيناك؟ فقال: أما إني لست أبكي على المصيبة إذ نزلت بي، ولكن المظلوم بالباب يصرخ فلا أسمع صوته، وقال: أما إن كان سمعى قد ذهب فإن بصري لم يذهب، نادوا في الناس أن لايلبس ثوباً أحمر إلا مظلوم ، فكان يركب الفيل في طرفي النهار، ليرى المظلوم في"RTL"> * وجاء المؤذنون فسلموا عليه ، وأقيمت الصلاة ، فخرج فصلى بهم، ثم قال للحارث، عليك بالرجل فإن لم تأتني به ضربت عنقك ، واغتاظ عليه غيظاً عظيماً. فخرج الحارث يطلب الرجل ، فبينما هو يطوف إذا هو بالرجل قائم يصلي ، فقعد حتى صلى ، ثم قال : يا هذا الرجل أما تتقي الله ؟

 قال : بلى.!.

 قال: أما تعرفه ؟ قال: بلى .!

 قال : فانطلق معي فقد أقسم أمير المؤمنين أن يقتلني إن لم آته بك.

قال: ليس إلى ذلك سبيل ،

قال : إنه سيقتلني إن لم آت بك .

 قال : ولن يقتلك أيضاً.

 قال: كيف؟

 قال : تحسن أن تقرأ ؟

قال:  لا .

 فأخرج من مزود كان معه رقاع فيها شئ مكتوب ، فقال : خذه فاجعله في جيبك فإن فيه دعاء الفرج ،

قال: وما دعاء الفرج؟

قال: لا يرزقه إلا السعداء.

قال : رحمك الله فقد أحسنت إلىّ فإن رأيت أن تخبرني ما هذا الدعاء وما فضله.

قال: من دعا به صباحاً ومساءاً هدمت ذنوبه،ودام سروره ومحيت خطاياه واستجيب دعاؤه وبسط له في رزقه، وأُعطى أمله وأُعين على عدوه وكُتِبَ عند الله صديقاً ولا يموت إلا شهيداً ، تقول : " اللهم كما لطفت فيّ بعظمتك دون اللطفاء ، وعلوت بعظمتك على العظماء وعلمت ما تحت أرضك كعلمك بما فوق عرشك وكانت وساوس الصدر كالعلانية عنك، وعلانية القول كالسر في علمك ، فانقاد كل شئ لعظمتك وخضع كل ذي سلطان لسلطانك ، وصار أمر الدنيا والآخرة كله بيدك، اجعل لي من كل همّ أمسيتُ فيه فرجاً ومخرجاً، اللهم إن عفوك عن ذنوبي وتجاوزك عن خطيئتي وسترك علىّ قبيح عملي أطمعني أن أسألك مالا أستوجبه منك، فصرت أدعوك آمناً وأسألك مستأنساً وإنك المحسن إلىّ وإني المسئ إلى نفسي ولكن الثقة بك حملتني على الجرأة عليك، فعُد بفضلك عليّ، إنك أنت التواب الرحيم " .

قال الحارس : فأخذته فوضعته في جيبي ، ثم لم يكن لي همٌ غير أمير المؤمنين، فدخلت فسلمت عليه فرفع رأسه ينظر إلىّ ويبتسم، ثم قال لي: ويلك، تحسن السحر؟

 فقلت : لا والله يا أمير المؤمنين. ثم قصصت عليه أمري مع الشيخ، فقال:  هات الورق.  ثم جعل يبكي، ثم قال: به نجوت، وأمر بنسخه، وأعطاني عشرة آلاف درهم، ثم قال: أتعرفه؟  قلت لا: قال: ذاك الخضر"!!

 

"التعليق"

* الإعتقاد في وجود "الخضر" على قيد الحياة لم يكن موجوداً في عصر الخليفة المنصور العباسي. إذ أن الصوفية هم الذين أشاعوا الاعتقاد في الحياة الخالدة لخضر ، وأنه يتراءى لهم ويحادثهم وجعلوه رأساً في المملكة الوهمية التي زعموا أنها تتحكم في العالم، وقد سادت المعتقدات عن الخضر وتلك المملكة الصوفية الباطنية بعد عصر المنصور ببضعة قرون خصوصاً في العصر المملوكي، وشهد ابن الجوزي في أواخر القرن السادس الهجري تأكيد الاعتقاد في حياة الخضر، وبدأ اسمه يظهر في الأقاصيص الصوفية والوعظية وأساطير الكرامات ولقد انتقد الجوزي سلوك الصوفية في عصره في كتاب "تلبيس إبليس". وقد توفى ابن الجوزي سنة 597 هـ .

* أما الخليفة أبوجعفر المنصور فقد توفي سنة 158 هـ . ولم يكن في عهده صوفية أو كلام عن الخضر وكان أول رائد صوفي في تاريخ المسلمين هو معروف الكرخي الذي مات سنة 200 هـ وتلقى عنه التصوف تلميذه سري السقطي وهو استاذ أبي القاسم الجيد المعروف بسيد الصوفية، ـ والقشيري ـ المحقق الصوفي صاحب الرسالة القشيرية هو أول من تحدث عن أقاصيص الصوفية مع الخضر في الرسالة القشيرية، وقد مات القشيري بعد أبى جعفر المنصور بثلاثة قرون أي سنة 465 هـ .

* وجدير بالذكر أن الأساطير التي تتحدث عن حياة الخضر قد شاعت في القرن السادس الهجري وما تلاه وبعضها ارتدى ثوب الحديث النبوي مما دعا الإمام السلفى ابن قيم الجوزية إلى أن يؤكد في كتابه "المنار المنيف في الصحيح والضعيف" أن الأحاديث التي يذكر فيها الخضر وحياته كلها كذب، ولايصح في حياته حديث واحد (المنار المنيف تحقيق طه عبدالرءوف سعد :128).

* وقد حملت الأقاصيص التي حكيت حول حياة الخضر وأقواله وعظاته الكثير من الأفكار والرؤى الدينية والثقافية للعصر العباسي، كما تضمنت بين ثناياها الكثير من النقد السياسي والإجتماعي والكثير من الأحلام المحبطة والآمال المحطمة لمؤلفين مغمورين أحلامهم عريضة وبطونهم جائعة..!!

وأولئك المؤلفون المجهولون عبروا عن أحاسيسهم على لسان الخضر،  واستطاعوا من خلاله أن يقولوا ما شاءوا دون خوف من سيف السلطة ، وقد ضمنوا إلى جانب ذلك أن تنتشر أراؤهم وأن تجد طريقها للتدوين في مجتمع كان يحتفل بالأقاصيص خصوصاً ما دار منها حول الزهاد والورعين والشخصية الغامضة الأسطورية للخضر الذي يعتقدون حياته وأنه قريب منهم يجئ في لحظة لينقذ المساكين في محنتهم ثم يختفي في نفس اللحظة كما تقول الاساطير.. ولاشك أن الناس في عصور القهر يحتاجون إلى اختراع هذه الشخصية ليعيشوا في ظلالها لحظات من الراحة وأحلام اليقظة الوردية لتخفف عنهم الواقع البغيض .

* والقصة السابقة التي رواها ابن الجوزي وشاعت فى عصره حيكت حول الخضر الذي تصدى لوعظ أبي جعفر المنصور ثم اختفى ، وقبل أن يختفي قام بتعليم الحارس دعاء يستطيع به أن ينجو من غضب أبي جعفر المنصور، وبالتالي يستطيع به أي مظلوم أن يعيش في أمن من الحاكم الظالم..

* وابن الجوزي يروي تلك القصة وهو مصدق لها بدليل أنه يذكرها في تاريخه ضمن أحداث 148 هـ . بعد أن ذكر ما وقع من أبي جعفر المنصور من مظالم ، قتله لبني أعمامه الطالبين الثائرين عليه ، ثم حج إلى مكة في نفس العام بعد إخماد ثورة محمد النفس الزكية، ويروي ابن الجوزي أن المنصور في تلك الحجة قد قابل الخضر وجرى بينهم ما سبق . هذا مع أن سياق القصة لايبدو منه تحديد واضح  ــ أو حتى ضمني  ــ للعام الذي حج فيه أبو جعفر ، ومع أن ابن الجوزي حرص على أن يبدأ القصة بذكر الرواة بالترتيب حسب منهج المحدثين في السند والعنعنة (أخبرنا فلان عن فلان..) . إلا أن الراوي الأخير وهو أبو المهاجر المكي لم يكن من أصحاب المنصور والمحيطين به حتى يستحق أن يشاهد تلك الواقعة ويرويها ، بل إن القصة في بدايتها تتحدث عن المنصور وهو يخلو بنفسه بعيداً عن الناس فكيف يتثنى للراوي أبي المهاجر أن يقترب منه ، ثم هو يعترف بوجود حراس وحجاب للمنصور يجعل من الإقتراب منه شيئاً عسيراً، فكيف يتسنى له أن يقتحم خلوة المنصور ويسجل ما دار بينه وبين ذلك الواعظ الذي ظهر أخيراً أنه الخضر، والراوي لم يقل أنه تسلل إلى المنصور، ولم يدع ذلك، وإنما حكى الواقعة فقط،، مما يدل على أنه حكاها من الذاكرة ولا شأن للمنصور أو اُلحِضر بها، وإنما هى قصة رائعة من نسج الخيال .

* وإذا تعاملنا معها على أنها قصة "كاذبة" من نسج الخيال وجدناها "أصدق"  في التعبير عن مشاعر الناس في العصر العباسي الثانى ، خصوصاً عصر ابن الجوزي في القرن السادس الهجري . إذا كانت الشكوى عامة من "ظهور البغي والفساد والظلم والطمع" فجعلوا تلك الشكوى على لسان الخضر يجأر بها أمام الكعبة ليسمعه المنصور في هدأة من الليل، ودار بينهما ذلك الحوار الطويل الذي وضع فيه المؤلف رأيه في صراحة مذهلة، عن مسئولية الحاكم إذا انتشر الظلم والبغي والفساد في الأرض، وهو تطور هام في التفكير السياسي يسبق التفكير العادي للعصور الوسطى الذي يحاول دائماً تبرئة الحاكم وتحميل الأتباع للمسئولية من دونه، ولكن المؤلف هنا يضع المسئولية مباشرة فوق رأس الخليفة أو الحاكم ويرتب هذه القضية ترتيباً منطقياً، فالخليفة ينشغل عن مهمته في رعاية الناس ويتفرغ لأكل أموال الناس ثم ينفصل عن الناس ليعيش في برج عاجي تحيطه الأسوار والحصون والحراس ، ولا يحيط به إلا أعونه الذين يكونون سمعه وبصره وقنوات الإتصال بينه وبين الناس، ولكنهم لا يطلعونه إلا على ما يزيده عتواً وطغياناً. ويقوم أولئك الأعوان بمطاردة العناصر الشريفة فلا تبقى إلا العملة الرديئة فينتشر الظلم ويحال بين المظلوم وبين الشكوى، وحينئذ يظهر البغي والفساد والظلم والطمع..

ولا يكتفي المؤلف بذلك بل يضرب على وتر حساس لدى الخليفة العباسي حين يزعم أن بني أمية كانوا أكثر عدلاً منه وكانوا يسرعون لنصرة المظلوم، بل يضرب له مثل آخر اخترعه اختراعاً عن عدل ملك الصين. وكيف أنه ينبغي أن يكون هو الأولى من أولئك بالانحياز للعدل، ثم يلجأ في النهاية إلى تخويفه من غضب الله وعذاب الآخرة الأبدي..

* ولابد أن يسأل الخليفة ـ في تلك القصة ـ عن الحل، وتأتيه النصيحة بأن يستبدل بأعوان السوء الخونة صنفاً آخر هم العلماء الذين فروا منه ومن ظلمه ،فإذا أراد أن يسير بالعدل فعليه أن يبدأ بنفسه بالاتصال بالشعب وإزالة الحواجز بينه وبين الناس ومنع الظلم وأكل الحلال والحكم بالعدل، وحينئذ يأتى إلى بابه العلماء والمصلحون.

* إذن هى ليست مجرد قصة ولكنها وثيقة في الإصلاح السياسى صيغت في أسلوب قصصى جذاب وفي شكل  (حديث ) له سنده ورواته، وكانت البطولة فيه لشخصية احتلت مكانة مقدسة في قلوب العوام والخواص أيضاً.

وهذه الوثيقة الداعية للإصلاح تشير في وضوح شديد إلى أساس المرض وهو بغى الحاكم واستئثاره بالأموال من دون الناس وحكمه بالظلم والقهر ، ثم تضع العلاج وهو يبدأ أيضاً بالرأس ، أى الحاكم ، فحين يتطهر الحاكم من الظلم والأثرة لن يكون إلى جانبه إلا المصلحون بينما يبتعد عنه المفسدون والمنافقون ، وبين التشخيص والعلاج يأتى أسلوب الوعظ لحث الحاكم بشتى الطرق على الرجوع للحق والعدل.

ولأنها وثيقة إصلاح سياسى ضد الظلم فإن الخوف من الظالم وظلمه تظهر واضحة بين السطور، فالخضر لا يتكلم بصراحة أمام الخليفة إلا بعد أن يأخذ منه الأمان لنفسه خشية القتل ، هذا مع أن الخضر فى اعتقادهم محصن ضد الموت والقتل ، ولكنه الخوف الشديد من مواجهة الخليفة ، والخليفة بعد أن أخذته نوبة الورع والتوبة ما لبس أن عاد لطبيعته وقسوته فهدد الحارس بالقتل إن لم يعثر له على الخضر ، والخضر يعلم الحارس طريقة ينجو بها من ظلم الخليفة ، وهى تميمة أو دعاء ويستطيع الحارس بهذا الدعاء أن ينجوا من القتل ..

ولأن المؤلف كان يعيش في العصر العباسى فقد دفعه خوفه إلى تملق العباسيين ، فهو يجعل الخليفة المنصور يبكى مع شدة قسوته ومع انه فضح ظلمه ومسئوليته المباشرة عن الفساد، وتأتى النهاية السعيدة ببكاء الخليفة وعفوه عن الحارس وإعطاءه مكافأة سخية ثم يقول للحارس إن ذلك الرجل كان الخضر، أى أن الخليفة عرف الشخصية الحقيقية للواعظ المجهول.

* وبذلك يقترب المؤلف لتلك القصة من معتقدات القرن السادس التى كانت تعطى قداسة للخليفة العباسى مهما كان ظالماً ، وكانت تعكس أملا مستحيلا كان يعيش فى ضمير المسلمين فى القرون الوسطى ، وهو العثور على المستبد العادل ، فالخضر ـ بزعمهم يقول للمنصور (إن الله عزوجل استرعاك أمور المسلمين وأموالهم) وهنا ترديد وتأكيد على أن الخليفة يستمد سلطته من الله جل وعلا ، وهذا يخالف الاسلام و القرآن الكريم حيث تكون الأمة و الناس و المواطنون جميعا هم مصدر السلطة ، ولقد قال جل وعلا لخاتم المرسلين فى المدينة (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران 159)، أى أمره الله جل وعلا أن يكون لينا سهلا فى التعامل مع الناس لأنه لو كان فظا غليظ القلب لإنفضوا من حوله، ولو إنفضوا من حوله فلن يكون له جاه أو ملك أو سلطة أو دولة، أى فهم باجتماعهم حوله صنعوا له الدولة وأعطوه السلطة، ولو إنفضوا عنه وتركوه زالت عنه السلطة ورجع الى معاناة الاضطهاد من قريش، إذن فهم مصدر السلطة، وليس مصدر السلطة هو النبى محمد عليه السلام لأن الله جل وعلا هو ـ ذاته ـ الذى يأمر النبى بأن يكون لينا مع الناس، وأن يعفو عنهم إذا أساءوا اليه، وأن يستغفر لهم لو أذنبوا فى حقه، وأن يشاورهم فى الأمر لأنهم اصحاب الأمر ومصدر السلطة السياسية.

ويختلف الأمر مع المستبد الذى لا بد أن يكون فظا غليظ القلب ليفرض هيبته على الناس، لذلك يعتمد التعذيب و القهر و الأمر المباشر بقتل من يشاء دون معقب على أمره. ولو كان هذا المستبد علمانيا فهو يحكم بصفته مجسدا للوطن أو القوم أو الشعب، وهو يقتل من يعترض عليه متهما إياه بخيانة الوطن أو الأمة أو الشعب. ولو كان المستبد متدينا بدين أرضى فهو يحكم زاعما أن الله جل وعلا قد أعطاه التفويض الالهى بحكم الناس، ومن يخرج عن طاعته فهو كافر وزنديق ومرتد ، ولهذا شهد عصر أبى جعفر المنصور وابنه الخليفة المهدى اختراع ما يعرف بحدّ الردة، وقتل الكثيرين بتهمة الزندقة، وكان المنصور يعلن فى خطبه أنه ( خليفة الله فى أرضه وأمينه على ماله ) ، وهذا ما كان سائدا فى القرون الوسطى فيما يعرف بالحق الملكى المقدس ( The Divine right of Kings) .

وواضح فى القصة سمات الحكم الثيوقراطى الاستبدادى، وتحاول القصة علاج الأمر بأن يستعين المستبد الدينى بالعلماء المخلصين، وهذا علاج فاسد لأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، ولا يمكن أن تعطى سلطة مطلقة لعالم او حاكم يمارسها بدون مساءلة أمام الناس ثم تنتظر منه العدل، لأنك أقصيت مبدأ العدل من البداية حين أعطيت كل حقوق الأمة وثرواتها لشخص واحد وجعلته يحتكر القوة والجند والثروة و السلطة والأمر والنهى، ثم يتعاظم الظلم حين تزعم أن الله جل وعلا هو الذى أعطى هذا الظالم الحق فى الاستحواذ على السلطة والثروة، وليس الله جل وعلا ظالما للعباد .

وطالما جعلت الناس ـ وهم مصدر السلطة فى التشريع الاسلامى ـ رعية مملوكة للمستبد فلا يمكن لهذا المستبد أن يكون عادلا ، بل لا بد أن يكون كما جاء فى القصة وصفا لما كان يفعله الخلفاء : ( فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم وجعلت بينك وبينهم حجاباً من الآجر والجص وأبوباً من الحديد وجنوداً معهم السلاح، واتخذت أعواناً فجرة ، إن نسيت لم يذكروك وإن أحسنت لم يعينوك ، وقويتهم على ظلم الناس بالرجال والأموال والسلاح ، وأمرت ألا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان ، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف والجائع والعاري، وما أحد إلا وله في المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلفتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت ألا يحجبهم أحد عنك لما رأوك تجبي المال ولاتقسمه، قالوا: هذا قد خان الله، فما لنا لا نخونه، وهو مسخر لنا، فتآمروا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس إلا ما أرادوا، ولايخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا أقصوه عنك حتى تسقط منزلته عندك، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم، وكان أول من صانعهم هم عمالك ، اشتروا رضاهم بالهدايا والأموال ليتقوّوْا بها على ظلم رعيتك، فظلموا من هم دونهم من الرعية وامتلأت بلاد الله بالطمع بغياً وفساداً، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك، وأنت غافل، وإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إلى مدينتك،....)

ولأنه مستبد ظالم لا لمجال حتى لوعظه ونصحه مباشرة ومواجهة فقد لجأ القصّاص ( جمع قاصّ) الى تأليف الحكايات ونشرها لتصل الى من يهمه الأمر، لعلّ وعسى . وخوفا من سيف السلطة وقهرها وجبروتها فإن الرواة مجهولون أو ماتوا فى عصور سبقت .

*والواقع أن وظيفة القصص كانت خطيرة، كان هناك قصاصون رسميون تعينهم الدولة، ينشرون دعايتها، وكان هناك قصاص شعبيون يعبرون عن اتجاهاتهم الدينية و السياسية، واختلط القصص بالحديث والتفسير، حيث دار القصص فى أروقة المساجد وتزعمه أحيانا كبار العلماء فى كل عصر، من الحسن البصرى فى العصر الأموى الى الغزالى وابن الجوزى فى العصر العباسى، وكلاهما ( الغزالى و ابن الجوزى) أورد تلك القصة عن ذلك الواعظ وابى جعفر المنصور. أوردها الغزالى فى (إحياء علوم الدين ) وأوردها ابن الجوزى فى تاريخ المنتظم. وأكثر من الغزالى ( ت 505 ) كان ابن الجوزى ( 597 ) مشهوراً في مهنة الوعظ والقصص، وكان مستمعوه بالآلاف، ولأنه كان يعرف تأثير القصص على أفئدة الناس فقد كان انعكاس القصص كبيرا فى مؤلفاته، وهى بالعشرات.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

الفصل الثالث  : ماهية السلاطين

 

تاريخ النشر: 2010-01-27

 

أولا : بين السلطان وزعيم العصابة

1 ـ على رأى القول المصرى الشائع ( هات م الآخر ) أو على حد القول التراثى ( إرم الغرض الأقصى ) نبدأ بسؤال: ما هو الفارق بين الحاكم المستبد وزعيم العصابة؟

2 ـ تخيل قرية تحكمها عصابة من اللصوص، ويقوم زعيم العصابة بارهاب أهل القرية وفرض الاتاوات عليهم، ومن يرفض دفع الاتاوة يتعرض للقتل أو حرق منزله أو تسميم بهائمه أو خطف أولاده أو إهانة زوجته، أو سحله وضربه على رءوس الأشهاد. ومن يدفع ويسمع ويطيع ويقدم الولاء لزعيم العصابة يعيش آمنا، بل ربما يعينه جاسوسا على أهل القرية، ويأخذ بعض الفتات من المنهوب من أهل قريته. وطالما ينشغل أهل القرية بدفع الاتاوة فزعيم العصابة يتركهم يعملون لأنهم طالما يعملون وينتجون فهو الذى يكسب من عرقهم، ومن هنا يتعين عليه أن يحمى ( قريته ) التى يمتص دم وعرق أهلها، ولا بد أن يدافع عن هذه القرية إذا هاجمها زعيم عصابة آخر لأن هذا الزعيم المنافس ليس فى الحقيقة عدوا للقرية، بل هو عدو منافس لزعيم العصابة الذى انفرد بالسيطرة عليها، وهو يريد تحريرها منه، ليس لتحرير اهل القرية ولكن ليكونوا عبيدا له هو بدلا من ذلك الزعيم الذى يملكها ويحكمها .

3 ـ يبدو الفارق ضئيلا بين زعيم العصابة هنا والحاكم المستبد فى العالم العربى ،ولكن النظرة المتفحصة تظهر فارقا كبيرا بين زعيم العصابة المجرم البسيط والمستبد العربى المجرم العريق.

زعيم العصابة العادى يمتاز عن المستبد العربى بشرف الصراحة ، فهو مجرم صريح ، ويعرف هذا وقد يعلنه دون خجل ، وهو لا يتوارى خلف شعارات وطنية او قومية او دينية ، ولا يفرض شعاراته على أهل القرية، ولا يتدخل فى حرياتهم الخاصة ولا فى حريتهم الفكرية أو الدينية ، فكل الذى يعنيه هو الاتاوة ، ودوام سلطانه .

والأهم من هذا كله أنه لا يستخدم فريقا من أهل القرية يجندهم لحمايته كما يفعل المستبد الشرقى الذى يقوم بتكوين جيش من الشعب يحميه من غضب الشعب ويقوم بتسليحه من عرق الشعب ليسفك به دماء الشعب إذا حدث وثار عليه الشعب، وهذا المستبد يجبر فريقا من الشعب أن يكونوا (الأمن المركزى) ليضرب بهم إخوانهم من بقية الشعب ، ويقوم بتعيين أرذل وأحقر صنف من أفراد من الشعب ليقوموا بتعذيب و قهر الشعب تحت نفس الشعارات المزيفة وطنية أو قومية أو دينية .

زعيم العصابة لا تزال فيه بقية من شرف يستحى معها أن يفعل ذلك ، وربما لا يقدر على ذلك،ولكن هذا ما يفعله المستبد المصرى والعربى والمسلم والشرقى ـ وبكل بجاحة، ودون أدنى شعور بالخجل.

ضحايا زعيم العصابة أقلية مهما تضاعف عددهم. أكبر مجرم فى العراق طيلة التاريخ العراقى لم يقتل العدد الذى قتله صدام حسين من العراقيين وغيرهم، ومع ذلك كان صدام ـ ولا يزال ـ عند بعضهم بطلا.!! نفس الحال مع كل المستبدين من هتلر الى ستالين الى عبد الناصر وعبد العزيز آل سعود وحتى حسنى مبارك.

ثم إن ما يأخذه زعيم العصابة قليل مهما كثر ، بعكس المستبد (زعيم الأمة وقائد الوطن و حامى حمى الدين) الذى ينهب كل ما يقدر عليه، ويدخره للمستقبل خارج بلده تحسبا للظروف وعملا بالمثل القائل (القرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود)، جعل الله تعالى أيامهم القادمة أسود من قرن الخروب..!!

4 ـ (م الآخر) كل الحكام المستبدين هم أسوأ أنواع اللصوص وأبشع أصناف المجرمين. فليس الذى يقتل فردا مثل الذى يقتل شعبا، وهم أحقر البشر على الاطلاق لأنهم يضعون تحت أحذيتهم أشرف المعانى فى قاموس الانسانية: الوطن والدين والقومية والعدل والحرية.

(م الآخر ) ينطبق هذا على كل حاكم مستبد، سواء كان خليفة من الراشدين أو غير الراشدين، أو كان من العلمانيين أو المتدينين، بل أسوأ المستبدين هو من يستخدم الدين فى خداع العوام المساكين.

5 ـ هذا الفارق بين زعيم العصابة والحاكم المستبد يجعل الحاكم المستبد محتاجا لملامح تجميل تجعله محترما فى الظاهر بحيث يبدو مختلفا عن طائفة اللصوص و المجرمين.

زعيم العصابة البسيط المسكين لا يمكن ولا يستطيع ولا يحتاج لأن يحيط نفسه ببطانة تخدع له أهل القرية وتصوره لهم ممثلا للوطن أو زعيما للأمة أو مختارا من رب العزة لحكم أهل القرية . ولكن الحاكم المستبد محتاج لهذا الماكياج ليخدع الناس، لذا تجد أجهزة الاعلام وأجهزة الثقافة  ـ وقبلهم رجال الدين  ــ تحت السيطرة المباشرة للمستبد كى يسيطر على عقول الناس فلا تراه زعيم عصابة ولكن زعيم أمة ورمز الوطن وخليفة رب العالمين.

6 ـ زعيم العصابة العادى يحتاج فقط أن يرهبه الناس ليدفعوا له الاتاوة، أما الزعيم المستبد فيحتاج الى أن يرهبه الناس والى ان يحبه الناس والى ان يقدسه الناس ، والى أن يعبده الناس ، إما بزعم أنه (الحاكم الملهم ) ـ علمانيا، أو بادعاء أنه (ظل الله على الأرض ) دينيا. ولهذا يصل المستبد فى النهاية الى إدعاء الالوهية صراحة مثل فرعون موسى أو ضمنا مثل معظم الفراعين من المسلمين وغير المسلمين .

ثانيا: بين (نظام) حكم المستبد و(تنظيم) العصابة

وأوجه التشابه والتداخل بين (تنظيم العصابة) و(نظام الحكم المستبد) كثيرة ومتشعبة، وليس هنا موضع التفصيل والتقعيد فيها، ولكن نعطى بعض لمحات للتوضيح:

1 ـ تنظيم العصابة بسيط لأنه سيطرته لا تتعدى منطقة فى مدينة أو قرية يفرض عليها نفوذه وإتاواته، أما نظام المستبد فهو نظام كامل للحكم يحمل لقب الدولة، والمستبد هو كل الدولة ومصدر السلطات، وكلمته هى القانون، بكلمة منه يقتل من يشاء، ومع كل السلطات الممنوحة له فليس مساءلا أمام أحد، أى يجعل نفسه مثل رب العالمين (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الأنبياء 23)، وهذا هو فحوى الدستور المصرى الذى يجعل من الرئيس مبارك الاها يملك كل شىء، ويظل رئيسا مدى الحياة دون مساءلة. وهذا مستمد من الشريعة السنية التى تحمل اسم الاسلام زورا وبهتانا، وفحوى هذه الشريعة الشيطانية أن المستبد هو (الراعى) وأن الشعب هو(الرعية) أى الأغنام والمواشى والأنعام التى يملكها، وهو باعتباره الراعى له حق استغلال تلك الراعية واستثمارها، وقتل منها ما يشاء و استبقاء من يشاء، وهناك فى الدين السنى الأرضى (أحاديث) توجب على الرعية طاعة الراعى ، وهناك فتوى فقهية سنية تجعل من حق الراعى (الامام) أن يقتل ثلث الرعية لاصلاح حال الثلثين. فأين لزعيم العصابة العادى بكل هذه السلطات، وكل تلك القوانين (الشرعية)؟

بل إن نفس الفقه السّنى يعتبر زعيم العصابة هذا مجرما قاطع طريق مستحقا لعقوبة الحرابة، أى القتل والصلب ..فإذا قفز زعيم العصابة على السلطة اعترف به الفقه السّنى حاكما ( متغلبا )، وأوجب على الناس طاعته . وهذا ما كان يحدث ـ ولا يزال ـ فى تاريخ المسلمين.

2 ـ بعض العصابات استطاعت تكوين دولة ثابتة أو متحركة أو مؤقتة.

ونعطى أمثلة:

2 / 1 : فالدولة البويهية التى حكمت الخلافة العباسية ومعظم املاكها فى الشرق بدأت عصابة يقودها أبو شجاع بويه وأبناؤه الثلاثة، ثم فى فترة اضطراب دخلوا فى الصراع المسلح، وتحالفوا مع قائد اسمه مرادويج ، ثم انقلبوا عليه، وأقاموا دولتهم: (334 : 447 هجرية) (934 : 1055)م.

2 / 2 : واشتهرت منطقة ( نجد ) جنوب الشام و العراق بانتاج دول متحركة ومؤقتة ، فالأعراب فيها إحترفوا قطع الطريق، ثم تحت شعار دينى تتحول العصابات الى حركة مسلحة قد لا تنجح فى إقامة دولة مثل الخوارج، وقد تقيم دولة متحركة لا تلبث أن تسقط كحركة الزنج والقرامطة، وقد تقيم دولا مؤقتة مثل الدولة السعودية الأولى والثانية والثالثة الراهنة.

وكلها تحت شعارات دينية مثل ( لا حكم إلا لله ) عند الخوارج، والذى تطور الى (الحاكمية ) الوهابية السنية، ومثل التشيع القرمطى، أما حركة الزنج فقد جمعت بين شعارات الخوارج والشيعة. أى تتحول العصابة الى حركة دينية يمارس فيها قطع الطريق والقتل والسلب والنهب والسبى تحت شعار الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وبه يقيم (التنظيم) العصابى دولة و(نظام حكم) مستبد. ونفس الحال تقريبا فى شمال أفريقيا.

3 : حين يضعف ( نظام الحكم ) بسبب ضعف المستبد تظهر عليه بوضوح ملامح العصابات و سلوكياتها ، أى يتحول من (نظام حكم) الى (تنظيمات) من العصابات المسلحة ، فى العاصمة أو فى أطراف الدولة، وقد يطلق عليها من باب الأدب مصطلح (مراكز القوى)، وتدخل الدولة أو (نظام الحكم) المستبد الى عصور من الفوضى والصراع الداخلى ، وتزدهر فيه تكوين عصابات من الأهالى، وتتحول مراكز القوى الى عصابات حقيقية تسلب الناس وتسبى نساءهم وتقتلهم بسبب وبدون سبب.

ونعطى أمثلة:

3 / 1 :ـ فالخليفة المتوكل العباسى فى القرن الثالث الهجرى حين قطع العرب من الجندية تحول الجنود العرب فى مصر الى قطع الطريق، واستمروا يعيثون فى أطراف مصر فسادا، وهم المسئولون عن تخريب الساحل الشمالى من غزة الى طبرق، وبسببهم تخربت مدن مصرية تاريخية كانت ذات شأن ، مثل تنيس ومريوط وغيرها، وكان الساحل الشمالى المصرى حدائق خضراء تأمن المرأة أن تسافر فيه وحدها من الاسكندرية الى طبرق كما كان يقال، انتهى ذلك كله طيلة العصر العباسى الثانى، حتى إذا جاء العصر المملوكى أصبحت غارات الأعراب تهدد العمران المصرى فى الدلتا و القاهرة، بل وتحكم بعضهم فى مناطق الصعيد.

3 / 2 ـ والخليفة المتوكل نفسه حين قطع العرب و الفرس من الجندية أحلّ محلهم الجنود والقواد الأتراك الذين استقدمهم من أواسط آسيا ، وقد تغلب أولئك الأتراك على الخلافة العباسية ، وتقاسموا أملاكها ، حتى إذا جاء عصر الخليفة الراضى أصبح نفوذه لا يتعدى بغداد وضواحيها.وفى أواخر تحكمهم الذى استمر فيما بين (232 : 334) تحول قوادهم الى زعماء عصابات متناحرة متقاتلة ، تتحارب فيما بينها وتحترف سلب ونهب الناس، وانتهى الأمر بأن حلّ البويهيون محل أولئك الأتراك ، وسبقت الاشارة الى أن البويهيين كانوا فى الأصل عصابة لصوص.

3 / 3 ـ وفى فترة الفوضى و الضعف فى (نظام) المستبد العباسى كانت تنشط (تنظيمات) العصابات، ومنها عصابات دينية سياسية مثل تنظيمات العصابات الحنبلية التى حكمت الشارع العراقى بعد اختراع الحنابلة حديث (من رأى منكم منكرا فليغيره) وقد جعلوه شعارهم الدينى، يفرضون به سلطانهم ، ولا يزال ذلك الحديث الملعون شعارا للحنابلة الوهابيين حتى اليوم .

وفى تاريخ أبى الفدا يقول عن عام 323 تحت عنوان (فتنة الحنابلة ببغداد) : (وفيها عظم أمر الحنابلة على الناس وصاروا يكبسون دور القواد والعامة فإن وجدوا نبيـذاً أراقوه وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء واعترضوا في البيع والشراء وفي مشي الرجال مع الصبيان ونحو ذلك).

وباضمحلال تلك العصابات الدينية السنية الحنبلية حل محلهم عصابات من العوام كان لقبهم (العيارون)، وقد فرضوا أنفسهم على تاريخ العراق فى القرنين الرابع والخامس من الهجرة، حسبما يظهر فى تاريخ ابن الجوزى (المنتظم).

ثم انتشرت تنظيمات عصابية أخرى كالفتوة والفتيان منذ القرن السادس الهجرى، وانضم اليها الخليفة الناصر العباسى، وقد عرضنا له فى مبحث سابق.

وفى عهد المستعصم آخر خليفة عباسى سيطرت العصابات على بغداد، وانضم بعضها للجيش العباسى، وكان قائد الجيش منهم، وبعضهم كانوا الندماء والمستشارين المحيطين بالخليفة المستعصم، وأسهموا فى هلاكه وتدمير ملكه أمام المغول . وقد وصف المؤرخ ابن طباطبا الخليفة المستعصم بأن (أصحابه كانوا مستولين عليه، وكلهم جهال من أراذل العوام) (الفخرى 266).

3 / 4 : فالمستبد حين يعجز عن كبح جماح العصابات يستعين بها لحراسة الأمن، وقبل المستعصم فعلها الخليفة الراضى العباسى المتوفى عام 329 حين ضم اليه جنودا من القرامطة السفاحين، بعد القضاء على حركتهم.

ونفس الحال مع الدولة المملوكية التى كانت تضطر الى استمالة بعض شيوخ الأعراب لحفظ الأمن حين تعجز عن إخضاعهم لسلطتها ،أى تعطيهم مشروعية نهب القرى المصرية مقابل المشاركة فى غنائم النهب .

3 / 5 :ـ وفى الصراع بين مراكز القوى فى نظام المستبد قد يستعين بعضهم ضد بعض بالعصابات أو يتصرف كالعصابات ، فالأمير أقطاى قائد المماليك البحرية حين تولى السلطنة المملوكية مكانه السلطان عز الدين أيبك ارسل فرقة من أتباعه تغير على القرى المصرية ليثبت عجز السلطان الجديد عن حفظ الأمن.

وصارت سنّة مرعية أن يتصرف المماليك الناقمون على السلطان بالاغارة على الناس فى منازلهم وحوانيتهم وأسواقهم ، ينهبون ويغتصبون ويقتلون حتى يخضع لهم السلطان ويعطيهم أرزاقهم. هم يرون أنه يسلب أموال الناس ويحتكرها لنفسه ، ويستعين بهم فى قهر الناس وسلب أموالهم ، ثم لا يعطيهم أجورهم ، لذا يتجهون للناس يأخذون عنوة لأنفسهم ما بخل به السلطان عليهم .

وهو تصرف عصابات محض ظل ساريا حتى بعد سقوط الدولة المملوكية ، وتحول المماليك الى قوة عسكرية تحكم مصر فى ظل الدولة العثمانية . وفى أواخر الدولة العثمانية وضعفها أصبحت القاهرة والمدن المصرية رهينة للصراع بين الأجنحة العسكرية للمماليك فيما بينهم من ناحية ، وميدان صراع بين طوائف الجيش العثمانى من ناحية أخرى، وفى كل الأحوال يقع السلب و النهب على المصريين لأن الحكم تحول الى فوضى وصراع بين عصابات . وتلمح هذا فى تاريخ ابن اياس الذى عاصر نهاية الدولة المملوكية ، ويمتلىء به تاريخ الجبرتى الذى عاصر نهاية المماليك و نهاية التبعية للسلطان العثمانى وقيام دولة محمد على .

أى أن ( النظام ) المستبد حين يهتز ويترنح يعود الى أصله الأول ، وطبيعته الأولى ، يتفكك الى (تنظيمات ) من العصابات المتنازعة المتحاربة داخل وخارج (النظام ) ، هذه العصابات تسلب الأهالى ، لا أن تحميهم ، بل تتنافس مع العصابات الاجرامية العادية فى سلب الناس وابتزازهم وفرض الاتاوة عليهم ، خارج الضرائب أو الاتاوات الرسمية التى يجبيها منهم المستبد . وتلك أهم إرهاصات السقوط النهائى (للنظام )، فبعد أن كان (عصابة) كبرى لها (نظام ) سائد يتفكك هذا النظام ويتشقق وينهار الى شذرات وفتات من مراكز القوى أو العصابات المختلفة و المتنازعة .

4 ـ ومصر أقدم دولة وأعرق دولة خضعت ـ ولا تزال تخضع ـ للعصابات ، سواء كانت عصابة واحدة ممثلة فى مستبد يجمع السلطة فى يده ،أو تخضع لمراكز قوى حين يضعف المستبد ، أى يدخل النظام بعد قوته وتماسكه فى مرحلة (الدولة الرخوة ) الى أن ينتهى الى (دولة الفوضى) بنفس ما نقرؤه فى تاريخ الجبرتى .

ـ وكما نقل ابن إياس والجبرتى لنا تلك المراحل فى وقت انحلال الحكم العسكرى المملوكى والعثمانى فإننا هنا نؤكد للقارىء من أحفادنا فى ضمير الغيب  ـ أن مصر الآن فى نهاية عهد العسكر المستبد من عام 1952 الميلادى تعيش تحول (النظام ) العسكرى المستبد الى عصر سيطرة العصابات فى ظل ضعف وشيخوخة الرئيس الحالى محمد حسنى مبارك الذى يحكم مستبدا منذ عام 1981.

والمظاهر كثيرة ومتعددة ، تكرر بعض ما سبق فى العصرين العثمانى والمملوكى ، وتتفوق عليه. وربما نتوقف معها فى وقت آخر.

أخيرا:

ـ هذا الحكم الاستبدادى يتناقض مع الدولة الاسلامية الحقيقية التى أقامها خاتم المرسلين فى المدينة، والتى نرى ملامحها فى الديمقراطيات الغربية.

ـ فى الديمقراطية الاسلامية والغربية لا يوجد حاكم للشعب بل خادم للشعب. وبالتالى فإن زعماء العصابات مكانهم فى السجون وليس فى القصور الرئاسية و الملكية .

ـ الآن.. عرفنا ماهية السلطان.. ويبقى أن نعرف ماهية (الوعظ).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

الفصل الرابع :   ما هية الوعظ

 

 تاريخ النشر: 2010-02-07

 

1 ـ كما أن الديمقراطية المباشرة ملمح أساس فى عقيدة الاسلام وتشريعاته وثقافته وقيمه وأخلاقياته كما سبق توضيحه فى مؤلفات لنا ، فإن الوعظ له قواعده وتشريعاته .ونقتصر منها على اللمحات الآتية :

1/ 1 : فالله جل وعلا هو الذى يعظ المؤمنين المتقين يدعوهم الى تطبيق تشريعاته ( 2 / 66، 232، 275 )( 3 / 138 ) ( 4 / 66 ) ( 5 / 46 ) (7 / 145) (11 / 120) (24 / 34) (58 / 3) (65 / 2) .

1 / 2: وخاتم المرسلين عليه وعليهم السلام مأمور بالدعوة القرآنية، أى بالحكمة والموعظة الحسنة (4 / 63) 0 16 / 125) وكذلك كان السابقون من المرسلين (26 / 136).

2 ـ وعظ النبى لمن حوله لا يعنى الإجبار والإكراه فى الدين، لأن الاكراه فى الدين ممنوع، هو مجرد النصح فقط، ولو حدث أن رفض أحدهم وعظ النبى ونصحه وعصاه فليس على النبى إلاّ أن يخلى مسئوليته متبرئا ـ ليس من صاحبه العاصى، ولكن من العمل السيىء الذى ارتكبه صاحبه العاصى (الشعراء 215 : 216). وإذا كان هذا حال النبى فغيره أولى..!

3 ــ مهمة الوعظ والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة مستمرة بعد موت خاتم النبيين عليهم جميعا السلام، فالدعوة قائمة بعده عليه السلام، يقوم بها من اتبع خاتم النبيين وتمسك بالقرآن الذى كان يتمسك به خاتم المرسلين ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) (يوسف 108) (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) (الزخرف43 : 44)

4 ـ يتداخل الوعظ مع الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر، فهما مجرد قول بالحكمة والموعظة الحسنة، دون أدنى إكراه فى الدين، أو تدخل فى الحرية الشخصية، وهو تطوع لا أجر فيه، ولا يختص بهما الرجال دون النساء بل يقوم الرجال والنساء معا بهذه الفريضة فى لطف ودون إكراه (التوبة 71)، وبالتالى ليست وظيفة مقصورة على فرد واحد أو طائفة بل هى لكل فرد بالتساوى بحيث يتواصى الجميع بالحق والصبر كما جاء فى سورة العصر.

4 ـ ويرتبط مفهوم الديمقراطية والأمر بالمعروف بآداب الوعظ. فكل فرد من حقه أن يعظ الآخرين ، ومن حق الآخرين أن يعظوه ، وهذا هو التواصى بالحق والصبر ، وهو أيضا التعاون على البر و التقوى وليس التعاون على الاثم والعدوان (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة 2). وبالتالى  ليس من حق أحد أن يغضب إذا تعرض للوعظ والنصح ، كما أنه لا يجوز لأحد أن يعظ الناس بما لا يفعله هو ،أو أن ينهاهم عن شىء يرتكبه هو .

5 ـ وبالتالى فهناك للوعظ ضابطان:

الأول قوله جل وعلا :(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)(البقرة 44 ) فلا تأمر الناس بالبر وأنت لا تفعله . وبالتالى ألا تقول ما لا تفعل ، ومن يفعل ذلك يستحق مقت الله عزوجل :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)( الصف 2 ، 3 ).

الثانى :ألا تأخذك العزة بالاثم حين يعظك أحد بتقوى الله جل وعلا، وإلا أصبحت من المفسدين العتاة المستكبرين ، وتلك طائفة من الناس توجد فى كل مجتمع، وصفها رب العزة فى قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) (البقرة 204 ـ).

6 ـ الآيات الكريمة السابقة ( البقرة 204 ـ ) تتجسد فى أصناف من الناس حولنا وفى كل مجتمع إذ يتصرفون بالضبط كما وصف رب العزة، تراه بليغا فى القول فصيح اللسان يستحوذ على إعجاب المستعين حين يأخذ فى الحديث، ويحرص على الاستشهاد بكلام رب العزة ، وعلى أن يقسم باسمه الكريم يجعل الله جل وعلا شاهدا على حبه للناس. وهو يُبهر المستمعين بكلامه وبيانه وفصاحة لسانه ، ويتصورون مخبره فى مثل تألق مظهره ، بينما هو خبيث القلب سىء النية عديم الضمير اعتاد خداع الناس . وهذا الصنف لا بد أن تظهر حقيقته فلا يمكن أن تخدع كل الناس بعض الوقت أو أن تخدع بعض الناس كل الوقت. ومصير صاحبنا أن ينكشف فساده ويعلم الناس أن الخطيب المفوه و الداعية المصلح هو كذّاب أشر فيستعملون معه اسلوبه فى الوعظ ، يطلبون منه تقوى الله ، وعندها تأخذه العزة بالاثم، إذ كيف يتجرأ أحدهم على وعظه وهو المتخصص فى وعظ الآخرين؟ وبالتالى يظهر على حقيقته وينكشف أمره.

7 ـ وتلك الصورة القرآنية تراها تكاد تنطق على بعض الشخصيات المشهورة فى عالم السياسة وعالم التدين السطحى وحقل محترفى الأمر بالمعروف الذين اعتادوا أن يعظوا دون أن يتعظوا ودون أن يجرؤ أحد على أن يعظهم، فتخيلوا أنهم فوق النصح والوعظ . وحاول أن تجرب أن تقول لبعض الشيوخ من محترفى دعاة الدين الأرضى: (إتق الله)، وستسمع منه ما تكره. وعندها ستجد الآيات الكريمة تنطق على حاله.

وفى أوائل التسعينيات كتبت فى جريدة الأخبار المصرية مقالا عن الربا وفوائد البنوك قلت فيه إن فوائد البنوك حلال ،وأن الربا المحرم فى القرآن الكريم هو ربا الصدقة و ليس ربا التجارة ، وهو منشور فى موقعنا ( أهل القرآن )  تحت عنوان (معركة الربا)، وقد تصدى بالشتائم و الاتهامات بالتكفير أحد شيوخ الأزهر، إسمه عبد المعطى بيومى، وبناء على الحاح من الاستاذ عبد الوارث دسوقى ـ رددت عليه بمقال عنوانه (إتّق الله ياشيخ عبد المعطى) ورددت فيه على كل افتراءاته وجهالاته، فكان أن أخذته العزة بالاثم وردّ يواصل افتراءاته تحت عنوان (بل أنت أتق الله).

8 ـ وبعض المفسدين فى الأرض يستخدم هذه الناحية أسوأ استغلال مع المؤمن الذى يخشى ربه جل وعلا يحاول أن يبتزه ويزايد عليه بأن يقول له (إتق الله) ، وهو يعلم أن ذلك المؤمن يحذر من أن يكون ممن تأخذه العزة بالاثم حين يقال له (إتق الله). ومن تجربة شخصية لى فى موقع (أهل القرآن) احترف بعضهم الافساد فى الموقع واحترف فى كل اعتراض له علينا أن يقول لى (إتق الله)، بينما هو الذى لا يتقى الله جل وعلا فيما يكتب وفيما يقول وفيما يفعل . ولقد قلت فى تعليق عليه (ولقد مللت من بعضهم يأمرنى بالتقوى وهو لا يتقى الله. وأنا أرجو أن أكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأنا بدورى أطلب منه أن يتقى الله جل وعلا فينا).

9 ـ هذه مقدمة طويلة ـ لا نعتذر عنها ـ لأنها تمهيد هام لوعظ السلاطين.

ومفهوم ان السلاطين مستبدون، فهل يسمح المستبد بمن يعظه؟ ولو حدث. فماذا حدث؟ ولماذا توجد قضية وعظ السلاطين أصلا؟ هذا هو موضوع هذه المقالات، وقد سبق ايراد حكاية عن وعظ (الخضر) للخليفة المنصور العباسى، وأثبتنا أنها وهمية مختلقة مصنوعة، وهناك روايات تاريخية حقيقية عن قيام البعض بوعظ بعض السلاطين، ونراها حقيقية بميزان البحث التاريخى، ونستخلص منها قواعد وعظ السلاطين، وكيف تأكدت تلك القواعد بمرور القرون و السنين، ثم لا بد أن نتوقف مع الروايات المصنوعة والمزيفة عن وعظ وهمى قيل لسلاطين سابقين، وعن مؤلفات كتبت فى هذا الشأن ، ثم عن محاولات للوعظ قام بها عقلاء تخفوا فى زى المجانين ليقولوا كلمة حق فى وجه سلطان جائر ويفلتوا من العقاب.

10 ـ أهلا بكم فى هذا الجزء الأول من كتاب وعظ السلاطين . وهو متخصص فى وعظ السلاطين بين الخلفاء الفاسقين ومبارك اللعين .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

الفصل الخامس : لماذا تميز تراث المسلمين ـ دون المسيحيين ـ بوعظ السلاطين:

 

 تاريخ النشر: 2010-02-14

 

مقدمة :

1 ـ موضوع هذا المقال هو تميز تراث وتاريخ المسلمين عن المسيحيين بوجود الوعظ للسلاطين. أى هو نوع من المقارنة بين المسلمين و المسيحيين فى وعظ السلاطين .

وليست المقارنة إطلاقا بين الاسلام والمسيحية ، لأنه طبقا لاعتقادنا القرآنى فان الاسلام الحق هو دين الله جل وعلا الذى نزلت به كل الرسالات السماوية التى جاء بها كل الأنبياء والرسل المصطفين مع اختلاف اللسان والزمان والمكان ، وكلها تدعو الى تقوى الله جل وعلا و تزكية النفس عقيديا بأنه لا اله الا الله ، وسلوكيا بالعبادات والاخلاق الزكية .

2 ـ بيد أن عادة البشر السيئة هى الانقضاض على الدين الالهى بمجرد موت النبى وتحويله الى أديان أرضية بشرية تختلف فيما بينها ولكن تتّحد وتتّفق  كلها فى تقديس البشر والحجر،وأولهم الأنبياء و القديسين والأئمة والسلاطين ، وتسويغ تلك الأديان الأرضية بوحى مزيف وكتب مزيفة مقدسة، مع الاعتداء على الكتاب الالهى بالتحريف والتحوير ومزاعم التعطيل والحذف و(النسخ).

هذا ينطبق على التلاعب الذى حدث فى دين ابراهيم أو ( ملة ابراهيم)، وعلاجا له كانت الأنبياء تترى فى ذرية ابراهيم من فرع يعقوب بن اسحاق (بنو اسرائيل)، وآخرهم المسيح عيسى ابن مريم عليهم جميعا السلام. وحدث نفس التحريف فى ملة ابراهيم فى الفرع العربى من ذرية ابراهيم ( فرع اسماعيل ) مما استلزم التصحيح النهائى نزول القرآن الكريم على خاتم المرسلين محمد عليه وعليهم جميعا السلام.

3 ـ ولأن القرآن الكريم هو الكلمة النهائية من الله تعالى للبشر فقد ضمن الله تعالى حفظه الى يوم القيامة، ليكون حجة على أى تحريف. ولهذا استحال التحريف فى اللفظ القرآنى، بينما نما و تعمق و تشعب التحريف فى مفاهيم ومعانى وتشريعات القرآن الكريم .

4 ـ وكما عرف العالم أديانا بشرية مختلفة تنتسب الى المسيح من الارثوذكسية والكاثولوكية والبروتستانتية والتفريعات المختلفة لكل منها فان المسلمين بعد محمد ـ وفى وجود القرآن الكريم ـ انقسموا بين أديان أرضية متشعبة أهمها السّنة و التشيع والتصوف.

وفى حياته عليه السلام لم يعرف عصر عيسى عليه السلام وجود الكنائس والبابوات والفاتيكان والقسطنطينية ومدرسة الاسكندرية ولاهوتها الكنسى ومصطلحات الكاثولوكية و الارثوذكسية و اليعقوبية والبروتستاتية وتلك الأناجيل التى تتحدث عن سيرته وتلك الكتب المقدسة بألغازها ورموزها وأقانيمها ومصطلحاتها وسائر ما استحدثوه بعد موت المسيح عليه السلام من أديان أرضية .

وفى حياته لم يعرف عصر محمد عليه السلام عقائد تقديس المدينة (المنورة) والحج اليها، والحج الى الصنم الأكبر والرجس المسمى بقبر محمد ، كما أنه عليه السلام  لم يعرف تقديس الصحابة و آل البيت والأئمة وأولياء التصوف ، كما أنه عليه السلام لم يعرف مصطلحات التشيع والسنة والتصوف وما يعرف بالتفسير و الحديث والسيرة وما يسمى بعلوم القرآن التى تطعن فى القرآن ، كما لم يكن لديه علم بتقديس كربلاء والنجف و(قم ) والأزهر وموالد الحسين والسيدة زينب والسيد البدوى والامام الشافعى والامام الرضى والعباس وأبى حنيفة.. الخ.. لأن (المسلمين) قد اصطنعوا كل ذلك فى إطار تلك الأديان الأرضية بعد موته .

وكما أقام المسيحيون باسم المسيح نظم حكم ودولا وفتحوا بلادا و قهروا أمما واستعبدوا شعوبا ـ ولا يزالون ـ فإن المسلمين باسم الاسلام ارتكبوا نفس الجرم ـ ولا يزالون يخلطون السياسة بالدين.

وكما تركز استبداد الملوك والسلاطين باستخدام اسم المسيح فى أوربا العصورالوسطى استخدم الخلفاء المستبدون اسم الاسلام فى تغطية عورة الاستبداد والظلم الذى يأباه الاسلام ، وقد تقلص وانتهى استخدام الدين فى السياسة فى الغرب ولكن لا يزال التلاعب سائدا باسم الاسلام فى دنيا السياسة حتى الآن .

والعجيب أن القانون الطبيعى و الوضعى يعاقب من يزور ويكذب على الناس ويخدعهم ليأكل من أموالهم بعض النقود ، ولكن الذى يفترى على الله جل وعلا كذبا لينهب الناس ويستعبدهم ويقتلهم ويعذبهم يقف له القانون الوضعى يرفع يده بالتحية ويطأطىء له رأسه بالخضوع والخنوع!!

5 ـ الذى يهمنا الآن أن الخلاف الوحيد فى موضوعنا هو أن المسلمين ـ خلافا للمسيحيين ـ قد عرفوا (وعظ السلاطين) أملا فى تخفيف نبرة الاستبداد .

لا توجد فى تراث أو تاريخ المسيحية ـ حسب علمنا ـ هذه الناحية (وعظ السلاطين ) مع إن الاستبداد فى الغرب الأوربى فى العصور الوسطى كان أفظع وأضل سبيلا من بلاد المسلمين.

بل كان العكس هو السائد، وهو تحالف الكنيسة الكاثولوكية بكل صولتها وصولجانها ورجالها وكهنوتها مع الاستبداد السياسى فى قهر الانسان الأوربى، مما أدى فى النهاية الى ثورة التصحيح والاصلاح، أو الحركة البروتستانية التى اخذت اسمها من كلمة (الاحتجاج). وهى التى أدت ليس فقط الى انقسامات هائلة فى الكنيسة الأوربية وتغيير سياسى لاحق وهائل، بل ساعدت أيضا فى إرساء العلمانية وفصل الكنيسة عن الدولة والتمهيد لقيام الدول الحديثة فى الغرب، والخروج من نفق العصور الوسطى وشرها المستطير.

6 ـ السؤال هنا: لماذا؟ لماذا أوجد المسلمون (وعظ السلاطين المستبدين ) ولم يوجد هذا فى تاريخ الأوربيين المسيحيين؟ ونحاول الاجابة، دون قصد على الاطلاق للهجوم على العقائد المسيحية .

أولا: طبيعة الأناجيل المسيحية:

طبقا لما يقوله المتخصصون فى المسيحية فإن:

1/ 1 ـ تؤمن الكنيسة بأن كاتب إنجيل متى هو التلميذ والرسول متى، وكاتب إنجيل مرقس هو مرقس الذي كان ابن أخت القديس برنابا وتلميذاً للقديس بولس، وأما كاتب إنجيل لوقا فهو لوقا الطبيب وهو أحد تلامذة ومساعدي بولس في رحلاته التبشيرية، بينما كتب إنجيل يوحنا التلميذ يوحنا بن زبدي.

غير أن التحقيق التاريخي لنسب كل إنجيل لصاحبه لم يحدث أبدا؛ خاصة وأنه لا يوجد أي إشارة من بعيد أو من قريب في المتون الإنجيلية إلى كاتبيها، وهذا ما دعى بعض الداراسات التاريخية الحديثة أن تنسب تلك الأناجيل إلى مجهول.

1 / 2 ـ يقرر عدد من مؤرخي النصرانية انتقال روايات شفاهية تبلورت فيما بعد بحركة دائبة في كتابة سيرة المسيح لتلبية حاجات الكنيسة المسيحية الناشئة.ونكتفي هنا بنقل ما ذكره يواكيم إرميا في كتابه الذي نشرته الكنيسة المصرية بعنوان "أقوال المسيح غير المدونة في بشائر الأناجيل" فيقول: "ينبغي أن نضع نصب أعيننا حقيقتين أساسيتين عن بشائر الإنجيل وكتابتها: أنه لمدة طويلة، كانت كل التقاليد المعروفة عن المسيح" كلها أقوال شفاهية متناقلة ، واستمرت على هذه الصورة ما يقرب من خمسة وثلاثين عاماً، ولم يتغير الوضع إلا في عهد اضطهاد نيرون للمسيحيين، حينها اجتمع شيوخ الكنيسة وكبارها في خريف عام 64م، ووجدوا أن الكثيرين من أعمدة الكنيسة قد فقدوا، ولم يجد المجتمعون أمامهم إلا يوحنا الملقب مرقص زميل الرسول بطرس في الخدمة ، ليسجل كل ما يستطيع أن يتذكره من أحاديث المسيح وتعاليمه، وكتب مرقص بشارته المختصرة التي تحمل اسمه، وهي أقدم قصة كتبت عن حياة المسيح .  إن قصة مرقس عن المسيح وأقواله قد دفعت غيره ليحذوا حذوه، وينسجوا على منواله، وتنشأ بشائر أخرى، حتى كان هناك عدد لا يستهان به من البشائر. ولما رأت الكنيسة أن الأمر جد خطير بدأت في تقصي أسس هذه البشائر الأربعة المعروفة ، واعتبرت ما سواها "بشائر أبو كريفية"، طوردت وجمعت وأحرقت حتى اختفت".

1 / 3 ـ نبه المحققون إلى أمر هام هو أن شيئاً من الأناجيل لم يكن يسمى إنجيلاً في الصدر الأول للنصرانية ، إنما سميت " كاروزوتا " أي موعظة ، وذلك باللغة اليونانية التي وجد بها ما سمي فيما بعد بالأناجيل . وهذه الكتابات أطلق عليها القديس جوستين في منتصف الثاني اسم " مذكرات الرسل " .

1 / 4 ـ بدأت في أواسط القرن الثاني حركة لتكوين كتاب مقدس للنصارى على غرار ما عند اليهود. يقول المدخل الفرنسي للعهد الجديد : ( لم يشعر المسيحيون الأولون إلا بعد وفاة آخر الرسل بضرورة تدوين أهم ما عمله الرسل وتولي حفظ ما كتبوه ... ويبدو أن المسيحيين حتى ما يقرب من السنة 150 تدرجوا من حيث لم يشعروا بالأمر إلا قليلاً جداً إلى الشروع في إنشاء مجموعة جديدة من الأسفار المقدسة ، وأغلب الظن أنهم جمعوا في بدء أمرهم رسائل بولس ، واستعملوها في حياتهم الكنسية ، ولم تكن غايتهم قط أن يؤلفوا ملحقاً بالكتاب المقدس ..).

1 / 5 ـ وهذا الذي ذكرته مقدمة العهد الجديد نستطيع أن نجمله بأن حركة تدوين الأناجيل بدأت بعد موت التلاميذ ، وأخذت شرعيتها في أواسط القرن الثاني كما ساعد في تكوين قانونية العهد الجديد مرقيون الهرطوقي سنة 160م حيث دعا لنبذ سلطة العهد القديم ، واحتاج لتزويد كنيسته بأسفار مقدسة أخرى ، فساهم أتباعه في نشر هذه الأناجيل فقد جمع في عهده إنجيلاً ، وراجعه مراجعة دقيقة ليتمشى مع أفكاره ، وجمع إليه رسالة بولس إلى أهل غلاطية، وهي رسالة تؤكد إبطال الناموس ونقده ، ثم أضاف رسائل بولس إلى أهل كورنثوس وتسالونيكي وأفسس وفيلبي وفليمون .

1 / 6 ـ المتفق عليه عند مؤرخي الكنيسة أن الأناجيل الأربعة ورسائل بولس قد أقرت في أواخر القرن الثاني ، وكان أول من ذكر الأناجيل الأربعة المؤرخ أرمينيوس سنة 200م تقريباً ، ثم ذكرها كليمنس اسكندريانوس ودافع عنها واعتبرها واجبة التسليم ، فيما بقيت أسفار العهد الجديد موضع نزاع بين الكنائس طوال القرن الثالث ، وقد قبلت بعض الكتب في الكنائس الشرقية كالرسالة إلى العبرانيين ، بينما رفضها أتباع الكنائس الغربية .

1 / 7 ـ وكما وقع الخلاف في إلهامية بعض الأسفار وقع الخلاف في ترتيب هذه الأسفار في العهد الجديد ، وهذا الخلاف مهم، إذ أنّ ترتيب الأسفار تمّ حسب ما يعتقد لها من قيمة وقداسة وأهمية ، فالخلاف في الترتيب خلاف في قيمة الأسفار . وأقدم قائمة رتبت الأسفار كانت في أواسط القرن الرابع وهي قائمة أثناسيوس 367م، وكان ترتيبه كالتالي الأناجيل ثم أعمال الرسل ثم الرسائل الكاثوليكية ثم رسائل بولس ثم سفر الرؤيا. ثم أصدر مجمع روما 382م ترتيباً آخر تلى الأناجيل فيه رسائل بولس ثم رؤيا يوحنا ثم الرسائل الكاثوليكية السبعة ، وأما الترتيب الحالي فكان من قرارات مجمع ترنت 1546م .

1 / 8 : وقد بين لنا المحققون حقيقة هامة من خلال استعراضهم مسيرة الأناجيل ، وتحولها من عمل شخصي إلى عمل قانوني مقدس ، وهي أن تقديس هذه الكتب عمل بشري لا يستند إلى دليل من هذه الكتب ، بل هو قرار اختلفت فيه المجامع حتى أُقرّ ، ولو كان من الوحي لما اختلفت فيه المجامع، ولما احتاج إلى قرار كنسي ليصبح مقدساً ووحياً إلهياً .

1 / 9 : ـ اعترفت الكنيسة بأربعة أناجيل، ورفضت عدداً من الأناجيل والكتب، أوصلها صاحب كتاب اكسيهومو ( 1810م ) إلى أربعة وسبعين كتاباً ، وقد عدّدها ، فذكر أن منها ما هو منسوب لعيسى وأمه . وللحواريين ، ومنها ما هو منسوب للإنجيليين الأربعة ، وأوصلها بعض الباحثين إلى ما يربو على المائة كتاب ، ومنها ما هو منسوب لجماعات مسيحية قديمة كإنجيل المصريين والناصريين. وقد سميت بعض هذه الكتب أناجيل كإنجيل بطرس واندرياه ويعقوب وميتاه (متى) وإنجيل المصريين لمرقس وبرنابا ، وعددت دائرة المعارف الأمريكية أسماء ستة وعشرين إنجيلاً لا تعترف بهم الكنيسة رغم نسبتهم إلى المسيح وكبار حوارييه. وقد كانت بعض هذه الكتابات والأناجيل متداولة لدى عدد من الفرق المسيحية القديمة ، وظلت متداولة إلى القرن الرابع الميلادي . وفي مجمع نيقية 325م أمرت الكنيسة باعتماد الأناجيل الأربعة ورفض ما سواها من غير أن تقدم مبرراً لرفض تلك الأناجيل سوى مخالفتها لما تم الاتفاق عليه في المجمع . وفي ذلك يقول العالم الألماني تولستوي في مقدمة إنجيله الخاص الذي وضع فيه ما يعتقد صحته " لا ندري السر في اختيار الكنيسة هذا العدد من الكتب وتفضيلها إياه على غيره ، واعتباره مقدساً منزلاً دون سواه مع كون جميع الأشخاص الذين كتبوها في نظرها رجال قديسون.... وياليت الكنيسة عند اختيارها لتلك الكتب أوضحت للناس هذا التفضيل... إن الكنيسة أخطأت خطأ لا يغتفر في اختيارها بعض الكتب ورفضها الأخرى واجتهادها...". وأمرت الكنيسة بحرق جميع هذه الأناجيل لما فيها من مخالفات للعقيدة ، وصدر قرار من الامبرطور بقتل كل من عنده نسخة من هذه الكتب .

1 / 10: وهكذا اختفت معظم هذه الأناجيل ولم يصل منها سوى إنجيل برنابا والإنجيل الأغنسطي ، وثلاث قصاصات من إنجيل مريم وبعض شرائح لاتينية وإغريقية وقبطية من إنجيل برثولماوس وإنجيل نيقوديموس ، كما عثر أخيراً في نجع حمادي بمصر على مقتطفات من إنجيل بطرس وكتاب أعمال يوحنا.

ولعل أهم ما وجد في نجع حمادي مائة وأربعة عشر قولاً منسوباً للمسيح في إنجيل توما الذي يختلف أسلوبه عن الأناجيل الأربعة، إذ لم يسرد قصة المسيح ، بل نقل أقواله ، ويرجع المحقق كويستر هذا الإنجيل إلى منتصف القرن الأول الميلادي ، وأرجعه كيسيبل إلى 140م . وعثر أيضاً على إنجيل" الحقيقة "والذي اعتبره ايرينوس (180م ) إنجيلاً مزوراً.

2 : المستفاد مما سبق أنه لا يوجد انجيل واحد رسمى متفق على أنه الكتاب السماوى الذى نزل على عيسى إبن مريم عليه السلام باعتباره رسول الله الداعى الى أنه لا اله الا الله . الموجود عدة أناجيل تم اختيارها لمؤلفين من البشر تحكى حياة المسيح وبعض مواعظه، بنفس ما لدى المسلمين من (السيرة النبوية) عن محمد عليه السلام، وبنفس الترتيب، كلاهما بدأ روايات شفهية، ثم تمت كتابتها عبر مؤلفين مختلفين بعد موت كل نبى بأكثر من قرن.

وتحريم معظم الأناجيل يعكس التنازع بين المسيحيين بعد أن تم اختراع الكنيسة والكهنوت وتداخل الدين مع السياسة ، وهى أهم ملامح صناعة الأديان الأرضية ، التى تصيغ ما تراه ملائما لمصالح أصحابها وتنسبه لله تعالى . والعادة أن تتعارض المصالح بسبب الأطماع السياسية و الطموحات القومية والتراث الثقافى من الثوابت التى يراد لها الاستمرار فى الدين الجديد تحت أسماء وعناوين وأشكال جديدة. ومن تعارض المصالح تتفرق الأديان الأرضية وتتعدد.

وهذا ما حدث فى ( المسيحية ) بعد وفاة المسيح عليه السلام.وحدث مع ( المسلمين ) بعد وفاة النبى محمد عليه السلام.

ثانيا : الانجيل طبقا لما جاء فى القرآن الكريم :

1 ـ هناك انجيل واحد فيه التشريع الالهى ، ومطلوب من المؤمنين به أن يطبقوه فى حياتهم، يقول جل وعلا: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (المائدة47)، لم يقل رب العزة ( وليحكم أهل الانجيل بما جاء فى الانجيل ) ولكن جاء الحكم بما أنزل الله تعالى فى الانجيل، ليجعل فارقا بين الدين السماوى الذى أنزله الله تعالى فى الانجيل وما صاغه البشر فى (أناجيلهم ) المختلفة وأديانهم الأرضية.

2 ـ ما أنزله الله تعالى فى الانجيل الذى أوحى به لعيسى ابن مريم جاء مصدقا لما سبقه من التوراة ، وجاء موصوفا بنفس صفات التوراة من الهدى والنور : (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}(المائدة 46)

3 ـ نزل القرآن الكريم مصدقا لما أنزله الله تعالى فى التوراة والانجيل وغيرهما من الكتب السماوية السابقة ، وجاء مهيمنا عليها باعتباره محفوظا من لدن الله جل وعلا من محاولات التحريف فى لفظه : (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) ( المائدة 48 )، لذا كانت الدعوة لأهل الكتاب للايمان بالقرآن الكريم الذى نزل مصدقا لما معهم ، وناصحا لهم بعدم التلاعب بالدين طلبا لمتاع دنيوى حقير (وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) (البقرة 41 : 42 ) كما دعاهم لاتخاذ القرآن الكريم مرجعية لهم عند الاختلاف فيما بينهم : (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ( النمل 76 )

4 ـ اختلف وضع أهل الكتاب من بنى اسرائيل والنصارى فى الجزيرة العربية عنه فى الامبراطورية الرومانية البيزنطية .

كانوا فى الجزيرة العربية أحرارا لا يخضعون لدولة أو امبراطورية ، ولم يعرفوا ما عرفه أهل الكتاب فى الامبراطورية البيزنطية من مدارس فكرية وفلسفية تداخلت مع الدين (الأرضى ) وأثرت فيه وتأثرت به ، ولم يعرفوا صراعات سياسية وقومية تخفت وراء الدين ، وتزعمها المصريون ـ أقدم من اعتنق المسيحية وأضفى عليها الطابع المصرى القبطى ـ ضد الرؤية البيزنطية للمسيحية ، وما نتج عن هذا الخلاف من تشعب وعقد عدة مجمعات لرأب الصدع إزداد بها الخلاف تشعبا ،وأدى الى عودة الاضطهاد للمسيحيين المصريين ، أى بعد اضطهادهم على يد الرومان الوثنيين جاء اضطهاد مذهبى على يد الرومان المسيحيين مما جعل الأقباط المصريين يرحبون بفتح العرب المسلمين لمصر.

5 ـ فى فترة الاضطهاد الثانية تلك نزل القرآن الكريم يصحح ملة ابراهيم ويجرى حوارا متصلا مع أهل الكتاب ليصحح عقائدهم التى حرفتها اديانهم الأرضية .

ومن أسف أن من أسلم من أهل الكتاب بعد الفتوحات العربية فى مصر   والشام والعراق إتبعوا سنة أسلافهم فى تكوين ديانات أرضية أضاعت الاسلام الحقيقى واتخذت القرآن مهجورا لصالح السنة والأحاديث والتفسير ..الخ ..

6 ـ ومن خلال هذا الحوار القرآنى مع أهل الكتاب نعرف أن التوراة الحقيقية ـ التى ضاع معظم ملامحها فى خضم الاختلاف الدينى فى الامبراطورية البيزنطية ـ كانت موجودة فى الجزيرة العربية ، حيث كان الله جل وعلا يتحدى أهل الكتاب بها داعيا اياهم لقراءتها : (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) أى كان هناك تحريف ضئيل يحوم حول التوراة ويأتى بأحكام يخالفها ، فتحداهم الله جل وعلا أن يأتوا بالتوراة الأصلية الصحيحة وأن يتلوها ليكشف زيفهم وتحريفهم فى الدين. لذا تقول الآية التالية : ( فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) أى تحذير لهم من الكذب على الله باختراع أحاديث ما أنزل الله تعالى بها من سلطان ، ثم تدعوهم الآية التالية الى اتباع ملة ابراهيم التى جاء القرآن الكريم بتصحيحها: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ( آل عمران 93 : 95 ).

7 ـ أى كان هناك تحريف بسيط وفردى يتناسب وطبيعة الحياة فى الصحراء العربية ، ويختلف عن عراقة التحريف وتعمقه الذى دار فى الامبراطورية البيزنطية ، حيث الحضارة والمدارس الفلسفية و الكهنوت المتأصل و الخبرة فى اختراع الأديان الأرضية وفى استخدامها فى توطيد السلطة المستبدة أو كغطاء للتحرر القومى من تلك السلطة .

التحريف الذى عرفته الجزيرة العربية لم يكن اختراعا لأناجيل بأكملها وتحريم بعضها وتقرير بعضها مع تضييع كامل للانجيل الأصلى و التوراة ألاصلية كما حدث فى الدولة البيزنطية ، ولكنه كان تحريفا بسيطا يدور حول الانجيل الصحيح الموجود فعلا ، ويدور حول التوراة الصحيحة الموجودة .

8 ـ وكانت لهذا التحريف أنواع :

8/ 1 : منه تحريف بتغيير موضع الكلمات فى التوراة ، وهوموصوف فى القرآن الكريم بأنه (تحريف للكلم عن مواضعه )، أو (تحريف للكلم من بعد موضعه ):( مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) ( النساء 46 ) ( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ )(المائدة 13 )(ْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ) ( المائدة 41). وبدون الدخول فى تفصيلات تخرج بنا عن الموضوع الأصلى فالتحريف ليس بالحذف أو الاضافة ولكن بتغيير مواضع الكلمات . وهو أمر هيّن بالنسبة لما كان يحدث وقتها خارج الجزيرة العربية.

8 / 2 : منه ما كان كتابة بشرية خارج التوراة الحقيقية يزعم أصحابها أنها وحى سماوى ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ) (البقرة 78 : 79 ) ،

8 / 3 : أو قراءة لتلك الكتب البشرية بنفس طريقة القراءة و التلاوة للتوراة ليتوهم الناس أن ما يسمعون هو التوراة الحقيقية ( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(آل عمران 78 )

ثالثا: الانجيل والأناجيل بعد الفتوحات العربية الاسلامية

1/ 1: أدت الفتوحات العربية وما صحبها من تقلبات سياسية وفكرية ودينية الى تغييب او ضياع الانجيل الحقيقى الذى تحدث عنه القرآن الكريم ، بينما ظلت معظم الحقائق الأساسية فى التوراة ، ودخلت فيما يعرف الآن بالعهد القديم . وبدخول ابناء اهل الكتاب فى الاسلام ما لبثوا ان شاركوا فى صنع أديان أرضية للمسلمين، يكررون نفس ما كان القرآن يعيبه على أسلافهم من صنوف التحريف المشار اليها سابقا ومنها الشفاعة و خروج العصاة من النار.

1 / 2: ساعد على هذا الترسيخ طول مدة الصراع المسلم المسيحى بين الشرق المسلم والغرب الأوربى. بدأه المسلمون بالفتوحات فوصلت جيوشهم الى مشارف القسطنطينية وحدود فرنسا الجنوبية وجزر البحر المتوسط و سواحل ايطاليا الجنوبية . ثم قامت أوربا بحركة استرداد فيما بين الاندلس غربا و الامبراطورية البيزنطية فى آسيا الصغرى شرقا ، وتطورت الى سقوط الاندلس و احتلال بعض موانى شمال أفريقيا غربا ، ثم قيام الحروب الصلبيبية لتحتل وتقيم لها ممالك فى عمق المسلمين ، وبعد تدمير الدول الصليبية جاءت دورة جديدة من الحرب بين الجانبين بدأها العثمانيون فى آسيا الصغرى فاستولوا على القسطنطينية وانهوا الوجود البيزنطى فى عهد محمد الفاتح وانساحوا فى شرق أوربا الى أن توقفوا عند أسوار فينا . وبعد التوقف جاءت مسيرة الضعف للعثمانيين لتظهر القوة الأوربية فى حركة استرداد جديدة تحت لقب التعمير أو الاستعمار بعد أن إمتلأت خزائنهم باكتشاف العالم الجديد فى امريكا واستراليا . وهذه الكشوفات الجغرافية نفسها كانت على هامش الصراع المسلم الأوربى ، إذ كانت البرتغال واسبانيا ـ بعد تدمير الاندلس ـ تهدفان للوصول للهند وحرمان المسلمين من التجارة الشرقية و التحالف مع ملك الحبشة المسيحى لتهديد مكة و المدينة .

امتد هذا الصراع من القرن السابع الميلادى وصبغ العصور الوسطى بطابعه ، وبه تدعمت سلطة الكنيسة وتكرست سلطة الاستبداد بأكثر ما كان موجودا عند المسلمين الذين عرفوا نوعا من احلام اليقظة اسمه وعظ السلاطين ـ وقد تحققت بعض هذه الاحلام فى دنيا الواقع وفق شروط السلطان المستبد ، على نحو ما سنعرض له.

1 / 3 وتشابهت أديان المسلمين الأرضية مع أديان المسيحيين الأرضية، وهذا التشابه مع ضياع الانجيل الحقيقى الذى تحدث عنه القرآن الكريم، ومع تحول العالم وقتها الى معسكرين متحاربين (المسلمون و الأوربييون المسيحيون) أدى الى ترسيخ الاعتماد المسيحى على الأناجيل الأربعة المعترف بها كنسيا، والتى تعطى كل السلطات المطلقة وكل الحقوق للسلطان المستبد ورجال الدين الذين يباركون استبداده، تحت شعار: (اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله) (مت 22 23.) أى يوجب الطاعة لقيصر واعطاء الجزية و الضرائب له، وان يعطى للكنيسة ـ الممثلة للكهنوت الدينى نيابة عن الله ـ ما يجب أن يعطى لله. أما هذا المسيحى الذى يعطى فليست له حقوق، عليه فقط الواجبات. بل ليس من حقه الاعتراض او المعارضة او مجرد (وعظ السلطان). وهنا يكمن الفارق بين تشريعات القرآن ومنهاجه السياسى وبين الاناجيل التى تم صياغتها لتخدم الكنيسة و قيصر . وليس هو الفارق الوحيد على أى حال .

رابعا : بين عيسى ومحمد ، وبين العرب والأمم المفتوحة المقهورة دائما :

1 ـ جاء عيسى عليه السلام رسولا محليا لبنى اسرائيل فقط ، (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ) ( آل عمران 49 ) فكان ان تحول الى اله أو الى الله أو جزء من الله ، وأصبحت ( المسيحية ) ـ بهذا التطور الخطير ـ مجموعة من الديانات الأرضية العالمية ، غادرت بنى اسرائيل لتنتشر فى أرجاء الامبراطورية البيزنطية ثم تنتشر بعدها فى العالم .

ساعد على نشرها أنها تحافظ على تقديس التماثيل والصور والأيقونات المقدسة ، اى تعيد إنتاج الديانات الأرضية المحلية بصورة جديدة وتحت ألقاب وأسماء جديدة. وفى نفس الوقت فهى ديانة صديقة للسلاطين ، تضمن لهم تمام التحكم ودوام دفع الجزية دونما اعتراض ، وفى نفس الوقت تضمن (الخلاص) والدخول فى (الملكوت) لكل من أحب المسيح ونعم برضى القسيس وبركات الكنيسة ، و كل ذلك ميسور الشراء ، وليس عليه بعدها مهما فعل من فساد، فالمسيحى المخلص يؤمن أن المسيح ضحى بنفسه على الصليب فداءا لخطايا البشر، أى لكى يدخل المسيحى المخلص الملكوت فليس عليه سوى (ألاعتراف) للقسيس وشراء صكوك الغفران، ثم يرتكب بعدها ما شاء من الجرائم. وهذا ما أحياه أبناء أهل الكتاب بعد اسلامهم فى أساطير الشفاعة والخروج من النار.

2 ـ هذه النوعية من التدين تناسب ثقافة الاستعباد لدى الشعوب النهرية فى النيل و الرافدين و أوربا ، فهى شعوب عاشت واستمرت وتعودت وأدمنت الخضوع و الخنوع للسلطان والاكليروس. ولكنها لا تناسب الشعوب الصحراوية حيث لا توجد دول ثابتة قاهرة ، ولكن قبائل لها سمة الدولة البدائية المتحركة ، والتى تحتكم الى السيف وتلجأ الى القتال لأى سبب تافه حتى لو كان قتل ناقة البسوس التى أشعلت حرب البسوس. هذه الطبيعة المتعدية للعرب الصحراويين جعلت أيامهم سلاسل من الغارات الحربية دفاعا او هجوما ، فى سبيل الحق أو الباطل .

3 ـ وتلك الطبيعة الحربية تأثر بها انتشار الرسالة الاسلامية الأخيرة التى نزلت على قلب خاتم المرسلين للعالم كله . نزلت رحمة للعالمين ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ( الأنبياء 107 ) . تحولت الرحمة الى عذاب وشقاء للملايين بسبب تعدى العرب وتكوينهم باسم الاسلام امبراطورية تهجر القرآن وتوسع المجال لاختراع أديان أرضية على أنقاضه لتسوغ لها الظلم والفساد . وبدأ هذا التعدى ماديا وعسكريا قاده الخلفاء  القرشيون الفاسقون  ( الراشدون والأمويون ) ، ثم ما لبث بعد استقرار وتوطيد الامبراطورية العباسية  ( القرشية ) أن تحول التعدى المادى الى تعدى معنوى بإقامة وتدوين وتشريع أديان أرضية تقوم مقام الاسلام ، تحت اسماء جديدة كالتشيع و التصوف والسّنة .

4 ـ لقد أسهمت الطبيعة العربية المتعدية القرشية فى طرد المسلمين من مكة فأقاموا فى المدينة أول دولة اسلامية تطبق القيم الاسلامية فى الحرية والديمقراطية والعدل والاحسان . لم يتركهم التعدى القرشى يعيشون فى أمن فاستمرت الحروب القرشية تهاجم المسلمين فى المدينة ، حيث لم يكن الاذن للمسلمين بالقتال قد جاء بعد ، ثم جاءهم الاذن بالقتال ليردوا الهجوم الحربى عليهم (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) ( الحج 39 : 40 )، ونزل لهم تشريع القتال ليقتصر على الدفاع فقط دون الاعتداء لأن الله جل وعلا لا يحب المعتدين ( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) ( البقرة 190 ) ، واستمر المسلمون فى دفاعهم ضد الاعتداء .

5 ـ وهذا الصمود ضد قريش وفضح استغلالها للعرب والحج و الكعبة مع روعة القرآن الكريم فى بيانه و محتواه جعل أعراب نجد المسيطرين على طريق التجارة الشرقية ( رحلة الشتاء و الصيف ) يقتنعون بعبث عبادة الأحجار ، فدخلوا فى الاسلام ، وأصبحوا مصدر تهديد لقريش وزعيميها أبى سفيان والعباس بن عبد المطلب . إختارت قريش فى البداية حرب المسلمين حرصا على مصالحها التجارية مع تسليمها بأن الاسلام هو الهدى: (وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) ( القصص 57 ) (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ )(الواقعة 81 : 82 ) ثم اضطرت فى النهاية الى الدخول فى الاسلام حرصا ـ أيضا ـ على المصالح التجارية والمكانة السياسية .

6 ـ والأمويون الذين حاربوا الاسلام فى بدايته ،لم يلبث أن تحكموا فى المسلمين وأقاموا تحت اسم الاسلام أكبر دولة تمتد من حدود الهند والصين شرقا الى جنوب فرنسا غربا ، وهم الذين تحولت بهم دولة الاسلام الديمقراطية الحقوقية الى دولة استبدادية ظالمة باغية .

ولم يكن هذا التحول سهلا ، فقد أشعل حربا أهلية بين المسلمين ومعارك طاحنة بينهم من الجمل الى صفين والنهروان وكربلاء وغيرها . وأشعل ثورات الخوارج وامتدت بها من الجزيرة العربية الى أواسط أسيا شرقا وشمال أفريقيا غربا ، مما أدى الى سقوط الدولة الأموية فى ريعان شبابها لتحل محلها دولة أشد عتوا هى الدولة العباسية التى خدعت المتشوقين للعدل باسطورة المهدى المنتظر الذى يملأ الارض عدلا بعد أن إمتلأت جورا .

7 ـ وانتصر الأمويون عسكريا على كل أشكال المعارضة المسلحة التى قادها الخوارج والموالى و الشيعة والعلويون من آل البيت ، وتتبعوا بالاضطهاد أى معارضة قولية حادة ، مما أوجد نوعا مهذبا من المعارضة ، أسميناه ( وعظ السلاطين ) .

8 ـ أعتمد ( وعظ السلاطين ) على عدم استفزاز السلطان ، بل الاعتراف به سلطانا ، ووعظه من داخل دينه وهو الاسلام ، مستشهدا بالكتاب الذى يؤمن به السلطان ، وهو القرآن الكريم .

9 ـ وفى القرآن الكريم ذخيرة لا تنتهى للوعظ من مبادىء وقيم للحرية والعدل والمساواة والاحسان ، وفيه تخويف هائل من يوم الحساب ومن العذاب ومسئولية كل فرد عن عمله امام اه ا جل وعلا .

وفى القرآن الكريم ما يشجع الواعظ على الاقدام على وعظ الجبابرة ، فالقرآن الكريم يدعو الي إيجابية التحرك باقامة القسط والعدل ،والبدء بتغيير ما بالنفس من خضوع وخنوع حتى يغير اه ا ما بهم من هذا الخضوع والخنوع ، والوقوف ضد الظلم ولعن المستبدين الفراعنة ، مع التأكيد على أهمية التعاون على البر والتقوى وليس على الاثم والعدوان ، والأهمية القصوى للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا فارق بين حاكم او محكوم ، ثم الأساس العقيدى فى عدم تأليه البشر من الحكام وغيرهم ، والايمان باليوم الآخر عمليا بالعمل الايجابى ، وليس بالعزلة والرهبنة ولكن بالنهوض والتفاعل والتواصى بالحق وبالصبر.

10 ـ وجد المثقفون الأحرار زادا لهم أيضا فى أهم معالم السيرة النبوية لخاتم المرسلين ، سواء ما جاء منها فى القرآن الكريم أو فى الروايات الشفهية ، كما أنّ تلك السيرة التى كتبها البشر للنبى محمد لم تستطع أن تغفل كل مظاهر الحكم الديمقراطى للنبى محمد مما يعطى بالتالى تناقضا مع حكم السلاطين الذين يزعمون الايمان بالله تعالى ورسوله.

الايمان القولى بالاسلام من سلاطين الاستبداد وقرابتهم من النبى محمد عليه السلام  وتمسكهم بالشعار الاسلامى شجع المثقفين المعارضين على صبغ دعوتهم باسلوب الوعظ ، مستدلين بالقرآن الكريم أساسا ، وبما جاء فيه من آيات الترهيب وعذاب الآخرة و عاقبة الظالمين . وكان أكثرية أولئك المثقفين من الموالى ـ أى غير العرب ، أى ممن دخل آباؤهم الاسلام ، وكانوا من قبل مسيحيين يؤمنون بأن ما لله لله وما لقيصر لقيصر ، فلما أسلموا وقرءوا القرآن تشجعوا على دخول المعارضة القولية من باب الوعظ.

أخيرا :

هذه هى الأرضية التى اختلف بها المسلمون فى القرون الوسطى عن أسلافهم وأقرانهم المسيحيين فى مجال (وعظ السلطان ). والله تعالى اعلم..

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(وعظ السلاطين من الخلفاء الفاسقين الى ( حسنى مبارك ) اللعين)
مقالات تمت كتابتها ونشرها قبيل الثورة على مبارك . وتم تجميعها فى هذا الكتاب فى فبراير 2016 .
more