رقم ( 2 )
الباب الأول : تدبر قصة موسى والعبد الصالح فى القرآن الكريم

الباب الأول : تدبر قصة موسى والعبد الصالح فى القرآن الكريم 

الفصل الأول : وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي

الفصل الثانى : المنهج القصصى

الفصل الثالث : تحديد المصطلحات  

الفصل الرابع : الوحى التوجيهى وانواع من التدبر : الايجاز بالحذف ، الجملة الاعتراضية ، حول نقل الاقوال البشرية فى القرآن الكريم ،  المجاز ، اختيار اللفظ  ،  

 الفصل الخامس : الحتميات

الفصل السادس : بين موسى ومحمد عليهما السلام

الفصل السابع :  ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) صدق الله العظيم   

الباب الأول : تدبر قصة موسى والعبد الصالح فى القرآن الكريم 

الفصل الأول : وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي

  جاءنى هذا السؤال مرارا بصيغ مختلفة ، واجيب عليه فى هذا المقال :

السؤال هو : ( قال الله جلا وعلا :(فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال اقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا ) الكهف 74 ثم قال :(وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفر ) الكهف :80 السؤال:هل يجوز أن تكون هناك عقوبة قبل وقوع الجريمة ؟  نرجو التوضيح ولكم جزيل الشكر.

وأقول :

 1 ـ الأحكام الشرعية لا تؤخذ من القصص القرآنى ، فالقصص القرآنى هو للعبرة والعظة وانه لا إله إلا الله ، ومنهج القصص القرآنى تبعا لذلك هو عدم الاهتمام بالتفاصيل التى تخص تحديد المكان والزمان واسماء الأشخاص . أما منهج التشريع الاسلامى فى القرآنى فهو موضوع آخر ، وأكثر تعقيدا .

  2 ـ العقوبة تالية للجريمة فى التشريع الاسلامى القرآنى .

عن الجرائم يضع رب العزة القواعد التالية : (  وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) النساء) فى القواعد الثلاث هناك جريمة حدثت ، فمن يرتكب سوءا ثم يستغفر الله جل وعلا يغفر له الله جل وعلا . والمجرم هو وحده الذى يتحمل عاقبة جريمته . ثم إن الذى يرتكب جريمة ثم يتهم بها بريئا  فهو يتحمل البهتان والاثم معا ، أى عقوبة مضاعفة عند رب العزة جل وعلا . هذا فى التعامل مع رب العزة .

فيما يخص العقوبات عن جرائم الزنا والقذف للمحصنات وقطع الطريق والسرقة والقتل :

فى البداية تأتى الجريمة وإلتصاقها بمن ارتكبها ، ثم تكون العقوبة تالية لارتكاب الجريمة ، إذا لم يعلن المجرم توبته . ونراجع معا قوله جل وعلا عن جريمة الزنا : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (2)  النور).

 وعن جريمة قذف المحصنات بلا برهان مثبت يقول جل وعلا : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) النور ).

 وعن جريمة قطع الطريق يقول جل وعلا : (  إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) المائدة ) .

وعن جريمة السرقة يقول جل وعلا : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) المائدة ) .

وعن جريمة القتل يقول جل وعلا  : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) البقرة  ).

3 ـ وحتى فى القانون الوضعى العادى فى دولة القانون فى النظم الديمقراطية ليست هناك عقوبة تسبق جريمة إفتراضية لم تحدث بعد . هذا لا يوجد إلا فى النظم الاستبدادية التى يمتلىء تشريعها فى العقوبات بصياغات قانونية هُلامية مطّاطة تعاقب الناس على التفكير لتهدىء مخاوف  المستبد وظنونه وهواجسه . وإمام المستبدين فى عصرنا هو فرعون موسى الذى إضطهد بنى إسرائيل مقدما ، يذبح أبناءهم المواليد الذكور ويستبقى الاناث . فعوقب بأن قام بنفسه بتربية موسى الذى كان تدمير فرعون وملكه وقومه على يديه .

4 ـ يولد الانسان مخلوقا بريئا طفلا يستحوذ على حب من يراه . ثم ينمو ويتأثر بمجتمعه وظروفه فيتحول  (خلقا آخر )، ربما يكون مصلحا إجتماعيا أو فعالا للخير مثل غاندى ومارتن لوثر كنج ونيلسون مانديلا  ، وربما يكون زعيم عصابة ، أو يتطور ليصبح وحشا  زعيم ثورة أو مؤسس دولة . يتوقف هذا على نشأة الانسان ومدى إستجابته للظروف ، وإختياراته نحو الخير أو الشّر. الطفل اليتيم هو الأكثر إحساسا  بالافتقار للحنان والرعاية والأكثر عُرضة للقهر . بعض اليتامى شبوا فى مُعاناة وجعلتهم ينتقمون من مجتمعهم ، وكان منهم طُغاة عاقبوا مجتمعاتهم على معاناة اليُتم مثل هتلر وصدام حسين ، وبعض اليتامى إرتفع فوق معاناته فأصبح فعالا للخير نافعا للمجتمع . ولهذا يؤكد رب العزة على رعاية اليتيم .

وعموما فالمجتمع المُسلم الحقيقى  ــ القائم على الحرية والعدل وحفظ حقوق الانسان وكرامته والذى لا يتحكم فيه كهنوت أرضى ــ  ينشأ أطفاله فى مستوى افضل . بينما تفرز المجتمعات المؤسسة على القهر والاستبداد أطفالا أبرياء كبقية أطفال العالم ثم لا يلبثون أن يتحولوا الى النمط السائد من الأخلاقيات المعوجة من كذب ونفاق واستحلال ، والمتفوق فى هذه الشرور هو الذى يصل الى دائرة الحكم وحاشية السلطان ، وأكثرهم وحشية وأسوؤهم هو الذى يصبح طاغية .

 وهكذا كان السفاحون الذين قتلوا ملايين البشر وأقاموا مذابح لبنى قومهم وللآخرين . هولاكو كان طفلا وديعا وكذلك كان تيمورلنك و ستالين وهتلر وموسولينى وعبد العزيز آل سعود  وماو تسى تونج وعبد الناصر وصدام حسين والقذافى ومبارك وعمر البشير و زين العابدين بن على وعلى عبد الله صالح ..والقائمة لا تنتهى . كل منهم كان طفلا وديعا فى لفافته . لو تم قتل الطفل محمد بن عبد الوهاب المولود فى نجد لنجا الملايين من وباء الوهابية . لو قُتل الطفل ماوتسى تونج لنجا من القتل والتعذيب ملايين الصينيين فى الثورة الثقافية وغيرها . ولو قتلوا الطفل أدولف هتلر ما كانت الحرب العالمية الثانية ودمار أوربا ، ولو قتلوا الطفل المولود صدام حسين لنجا العراق وأهله مما حدث ويحدث الآن .

ولكن من يعرف إن هذا المولود البرىء سيكون هتلر أو هولاكو أو تيمورلنك أو ماوتسى تونج أو صدام  او القذافى ؟

5 ـ الذى يعلم الغيب هو الله جل وعلا وحده.

والله جل وعلا لا يُطلع على بعض غيبه إلا بعض رسله، يقول جل وعلا :( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ  )(179) آل عمران )،

بعض الأنبياء أوتى العلم ببعض الغيب مثل يوسف عليه السلام الذى قال لصاحبيه فى السجن ( لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) يوسف ) ومثل عيسى عليه السلام الذى أعلن لقومه :( وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ (49) آل عمران ) .

وبعض الأنبياء لم يؤت علم الغيب مثل نوح القائل  لقومه: ( وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ  ) (31) هود ) ومثل ابراهيم الذى لم يتعرف على الملائكة الذين تجسدوا بشرا وأتوا يبشرونه باسحاق ومن وراء اسحاق يعقوب . ظنهم بشرا فأسرع يقدم لهم عجلا مشويا ، ومثله لوط عليه السلام ظن نفس الملائكة بشرا فخاف ان يعتدى عليهم قومه المُصابون بالشذوذ : (  هود 96 : 83 ).

خاتم النبيين محمد عليه وعليهم السلام أمره الله جل وعلا أن يعلن ـ مثل نوح ـ أنه لا يعلم الغيب : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّقُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) الانعام ). وعن موعد قيام الساعة والعذاب الذى ينتظر الظالمين أمره ربه جل وعلا مرتين أن يعلن أنه لا يعلم ذلك الموعد : (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) الجن )، وأيضا : (  قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)الاعراف  )، وامره ربه جل وعلا أن يعلن أنه لا يعلم ما سيجرى فى المستقبل بالنسبة له أو لغيره ، وانه ليس متميزا عمن سبقه من الرسل وأنه مُتّبع للوحى ومجرد نذير مبين : ( قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) الاحقاف ). وإذا كان هذا حال النبى محمد عليه السلام فغيره أولى .

وبالتالى فلا يمكن أن تقول إن هذا الطفل أو ذاك الشخص سيرتكب جريمة ونعاقبه عليها مقدما لأننا لا نعلم الغيب ، ولأن هذا الزعم كفيل بإبادة ملايين الأبرياء . ونرجو ألا تصل هذه الفكرة الى المستبد الشرقى فى عصرنا البائس فيتصرف مثل سيده وإمامه فرعون موسى  .

6 ـ لو رجعنا الى قصة موسى مع العبد الصالح لعرفنا أن ذلك العبد الصالح كان نبيا أعطاه الله جل وعلا العلم ببعض الغيب ، وهو الذى ورد فى القصة فيما يخص خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار . فى كل ما فعل هذا النبى العبد الصالح كان مأمورا بالوحى وبالوحى أعلمه الله جل وعلا تلك الغيوب ، وأرسله ليقابل موسى ليتعلم منه موسى أن لا يندفع فى تصرفاته . إذ أن نشأة موسى فى قصر فرعون وعلم موسى بأنه ينتمى الى بنى إسرائيل الذين يتفنن فرعون فى إضطهادهم ـ جعلته يتوقع الخطر ويتحسب مقدما بهواجسه لأى فعل ، فكان سريع الغضب ، ومحتاجا لمن يعلمه التريث والصبر . وكانت هذه مهمة هذا الرسول الذى لا نعرف إسمه . والذى إفترى الصوفية له إسما هو ( الخضر ) وإفتروا أنه (ولى ) صوفى حىّ لا يموت وجعلوه إلاها فى المملكة الصوفية الخرافية ، على نحو ما شرحناه فى كتابنا عن التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية ، ومنشور حلقاته هنا . كما أننا خصصنا حلقتين فى برنامج ( فضح السلفية ) عن اسطورة الخضر عند البخارى وغيره .

يهمنا هنا أن هذا الرسول العبد الصالح قالها لموسى عليه السلام : (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) الكهف  ). الله جل وعلا أخبر ذلك النبى بغيب مستقبلى يخص هذا الغلام ، والله جل وعلا هو الذى أمر هذا النبى بقتل ذلك الغلام . وفى قتله رحمة به وهو الخير له . فكل إنسان مصيره الموت فى الموعد المحدد والمكان المحدد سلفا ومقدما .

 ولو مات فى براءته فهو الأفضل له . وفى النهاية فكل الحتميات ومنها الموت ( موعده ومكانه ) ترجع للخالق جل وعلا ، مهما كره المستبدون .!!.

 

 

 

 

 

 

الفصل الثانى : المنهج القصصى

يقول جل وعلا :( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيه إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً (64) فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قَالَ فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (72) قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82))الكهف ) .

أولا : منهج القصص القرآنى :

1 ـ عدم تحديد الأسماء . لم يذكر إسم الفتى :( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ ) ولم يذكر إسم النبى العبد الصالح: (  فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) .وإن كنا نفهم أنه رسول نبى ، لأنه يوحى اليه ، ولأن الله جل وعلا علمه علما من لدنه.  ولم يذكر إسم الغلام (حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ ) ولا أسماء اهل القرية الذين رفضوا ضيافتهما (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا )  ولا أسماء المساكين : (  أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ ) ولا إسم الملك (وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ  ) ولا أسماء  أبوى الغلام المقتول : (  وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ ) ولا أسماء الغلامين اليتيمين ولا إسم والدهما الصالح : (  وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ).

2 ـ عدم تحديد الزمان ، فلا نعرف بالتحديد العصر الذى عاش فيه موسى ، ولا عصر فرعون موسى .  وإن كنا نفهم أن هذه القصة حدثت بعد خروج موسى بقومه من مصر ،

3 ـ عدم تحديد المكان : لا نعرف مكان حدوث القصة ، إلا أننا نفهم أن اللقاء تم على الساحل ، أى كانوا وقتها على سواحل سيناء ، البحر الأحمر أو المتوسط . ولا نعرف إسم القرية ولا موضعها (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ  )

4 ـ ترك فجوات فى الاحداث . فقد انتقل موسى وغلامه من مكان الى آخر ، وانتهى دور فتى موسى بعد لقاء موسى بالعبد الصالح . وبينما ذُكر الحوار بين موسى والعبد الصالح عند لقائهما ثم بعد تنقلهما من مكان لآخر إلا إن هناك السكوت عن ظروف هذا التنقل من البر الى السفينة ثم منها بعد خرقها الى البر والتنقل فى البر من مكان الى آخر. علاقات متشابكة حدثت فى هذا المكان وذاك ، لم يهتم رب العزة بذكرها. وذكرها ضرورى فى تسجيل التاريخ ، وللتسجيل التاريخى منهجه فى تحديد الزمان والمكان واسماء أبطال الأحداث . ولكن منهج القصص القرآنى مختلف لأنه يركز على العظة والعبرة  .

ثانيا : العبرة والعظة :

عدم الاهتمام بالتفصيلات السابقة كان للتركيز على العبرة ، وحتى تتحرر الحادثة التاريخية من أسر الزمان والمكان الى ( قصة ) للعظة والاعتبار يستفيد منها القارىء فى كل زمان ومكان . وأهم العبر فى هذه القصة :

1 ـ شخصية موسى الانسانية : ويمكن أن نرى مثيلا لها فى حياتنا اليومية من أى إنسان عاش ظروفه ، حيث نشأ فى قصر فرعون الرهيب الذى لا يتردد فى ذبح الأطفال وصلب الرجال وتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف . نشأ موسى فى ظل هذا الفرعون  الوحشى عالما بجرائمه مع قوم موسى ، نشأ وهو يرى زوجة فرعون نفسها ( المؤمنة ) تدعو ربها أن ينجيها من فرعون وعمله وقومه الظالمين: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) التحريم  ) ، وفيما بعد كان الأمير الفرعونى المؤمن يكتم إيمانه خوفا من فرعون : (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) غافر ) ظل ينصح قومه الى أن يأس فقال لهم : (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) ) وكادوا أن يوقعوا به لولا أن أنجاه الله جل وعلا من مكرهم : (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) غافر )  . فى قصر هذا الفرعون نشأ الطفل موسى يحسُّ بالخطر ويتوقعه ، ويتصرف بسرعة دفاعا عن نفسه، لذا قتل المصرى خطأ ، وكاد أن يبطش بآخر ، وعندما عاد من ميقاته مع ربه جل وعلا ووجد قومه يعبدون العجل إشتعل غضبه وألقى الألواح المكتوب فيها الوحى وكاد أن يبطش بأخيه هارون: (  وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) ، (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)  الأعراف ) (قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) طه  )  . كان لزاما أن يتعلم موسى الصبر وعدم الاندفاع . فكان هذا اللقاء التعليمى مع العبد الصالح . ونظن أنه كان بعد إتخاذ بنى اسرائيل العجل وذلك الغضب الهائل الذى تملك موسى .

ومن قراءة القصة نتعلم نحن أيضا عدم الاندفاع فى التفسير وفى رد الفعل ، بل لا بد من التروى وتعقل الأمر ، ونتعلم أن الأمور ليست بظواهرها .

2 ـ  ، ونتعلم أن الحتميات التى يرجع تدبيرها لرب العزة جل وعلا لا مفرّ منها ولا سبيل لتعليلها وتفسيرها . ومثلا عن تدبيره جل وعلا فى قضائه وقدره قال جل وعلا يخاطب موسى : (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنْ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40 ) طه ) كل شىء حدث لموسى كان بقدر، من الوحى لأم موسى الى إيصال الوليد الرضيع موسى ليقوم فرعون نفسه برعايته ، الى خروجه الى مدين ثم رجوعه منها والوحى المباشر له عند الشجرة المباركة فى جبل الطور . وفى هذا القدر تدخل الأشخاص فى تطبيق هذا القدر بما فيهم فرعون نفسه الذى جعله رب العزة سخريا ، سخره لتنشئة موسى ، وكان موسى سبب هلاك فرعون وقومه وجنده وآله ونظام حكمه . وفى هذه القصة نفسها يقول العبد الصالح يفسّر ما فعله وأنه بأمر الله جل وعلا وليس بدافع شخصى منه : (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ).

3 ــ ثم نفهم عدم تقديس الأنبياء وعدم عصمتهم . هذا هو موسى بشخصيته الانسانية الذى أوقعه إندفاعه فى كثير من الأخطاء ، ومع ذلك فقد وصفه ربه جل وعلا بمناقب عالية . قال جل وعلا عنه : ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً (164) النساء ) وكان جل وعلا يُناجيه وجعله مقربا له جل وعلا ، ويكفى التمعن والتدبر فى قوله جل وعلا عن موسى:(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً (53) مريم ) وصفه رب العزة جل وعلا بانه كان مخلصا بفتح اللام ، أى نقيا ، وأنه جل وعلا قربه يناجيه ، بل إنه جل وعلا استجاب لرغبة عبده موسى وجعل أخاه هارون نبيا معه . أى إستجاب رب العزة لدعاء موسى ووهبه أخاه هارون نبيا . موسى دعا ربه فقال : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) طه ) (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) الشعراء ) (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً (36) الفرقان  ) . ثم هل هناك أروع من قول الله  جل وعلا لموسى فى خطاب مباشر له : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) طه ) .

4 ــ ومن خلال هذا يجب أن يكف ( المحمديون ) عن تفضيل ( محمد ) عمن سبقه من الأنبياء ، فما قاله جل وعلا لموسى فى حياة موسى لم يقله جل وعلا لمحمد فى حياة محمد . أليس كذلك ؟

5 ــ العبد الصالح : مع أنه كان نبيا يعيش بالقرب من موسى ، وارسله الله جل وعلا ليتعلم منه موسى إلا إن إسمه ليس مذكورا فى هذه القصة التى كان بطلا لها . والله جل وعلا لم يقص علينا كل قصص الأنبياء فى القرآن الكريم : ( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) ً (164) النساء ). وبعض الأنبياء جاء قصصهم بدون أسمائهم وبدون ذكر إسم قريتهم:(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) يس) ومع هذا فقد صنع المحمديون إسما زائفا لهذا النبى هو ( الخضر ) وجعلوه وليا صوفيا يحقق لهم زعمهم بأن الولى الصوفى أعلى شأنا من النبى طبقا لقول ابن عربى :

مقام النبوة فى برزخ     فوق الرسول ودون الولى

ثم صنعوا لهذا ( الخضر ) حياة أبدية خالدة لا يموت بل ينتقل من مكان الى مكان يستجيب للداعى إذا دعاه فيما يزعمون . هذا مع أن الله جل وعلا قال لخاتم المرسلين أنه ( ميّت ) (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) الزمر ) وقال له جل وعلا : (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ (35) الانبياء  )

وكان أبوهما صالحا

إهتم الصوفية أيضا بوالد الغلامين اليتيمين ووصفه بأنه كان صالحا ، وصنعوا المثل الشعبى المصرى ( التقوى تنفع الذرية ) . وهو رأى صحيح فيما يخص الدنيا فقط ، لأن الله جل وعلا يقول : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) النساء ). أى أن من يتقى ويحافظ على تقواه حتى الموت فإذا ترك ذرية صغارا ضعافا فإن الله جل وعلا يرعاهم . وفى المقابل فإن الفاسد الذى يجمع المال السُّحت ويُكاثر فى الأموال والأولاد يكون أولاده وتكون امواله نقمة وعذابا له فى الدنيا ويموت كافرا بما جمع . يقول جل وعلا يخاطب النبى عن أثرياء المنافقين :( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) التوبة). أما فى الآخرة فسيفر كل منا عند البعث والحشر من أخيه وامه وأبيه وصاحبته وبنيه (فَإِذَا جَاءَتْ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) عبس ) لن تدخل الجنة إلا بعملك ، ولن تدخل ذريتك الجنة إلا بعملها ، يقول جل وعلا : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) الطور) القاعدة يوم القيامة أن كل نفس ستكون رهينة بعملها : (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) المدثر ). وليس هناك وقتها أنساب (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ (101) العبرة بميزان العمل :( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) المؤمنون ) ، لذا يأمر الله جل وعلا المؤمنين مقدما وبخطاب مباشر لهم بالانفاق فى سبيله قبل ان يأتى اليوم الآخر المختلف عن يوم الدنيا ، فإذا كان فى الدنيا واسطة وصداقة وشفاعة فلن يكون هذا فى يوم الدين : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ (254) البقرة  ). أين هذا من خرافات المحمديين فى أساطير الشفاعة ؟ 

 

الفصل الثالث : تحديد المصطلحات

   من هو العبد الصالح تحديدا : ( عبدا من عبادنا ) فى قول الله جل وعلا : ( فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65))

( ا ) ليس ملكا من الملائكة

 قد يُقال أن هذا العبد الصالح كان ملكا من الملائكة . وهذا خطأ فى تصورى للأسباب التالية

1 ـ نحن لا نرى الملائكة فى صورتها الحقيقية البرزخية طالما لا نزال أحياء على الأرض نسعى . نرى بعضها عند الاحتضار ، وعندما نراها يأتى اليقين بالموت ، ولا يمكن أن نعود بعدها للحياة . هناك إثنان من الملائكة تسجل وتكتب أعمال كل فرد موكلة به : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) ق ) يوم القيامة يتحولان الى سائق وشهيد وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) ق )  ، ويراهما الفرد منا يومئذ بعد أن زال عنه الحجاب أو الغطاء البشرى وهو الجسد الأرضى الذى يحجب عنا الآن رؤية البرزخ وعوالم البرزخ من الجن والشياطين ..والقرين . لذا سيقال : (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)(  لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) ق ) . حسب علمنا فإن الوحيد من البشر الذى رأى ملكا عظيما على حقيقته البرزخية كان خاتم النبيين عليهم جميعا السلام ، وهذا ليلة الاسراء ، حين نزل الروح جبريل من مستواه البرزخى ورآه محمد عليه السلام بفؤاده ـ أى قلبه ـ وعند التلاقى فى ليلة القدر التى هى ليلة الاسراء كان إنزال القرآن كتابا مكتوبا مرة واحدة فى قلب النبى محمد عليه السلام. والتفاصيل هنا فى كتاب منشور عن ليلة القدر هى ليلة الاسراء . بدون ذلك نكرر : نحن لا نرى الملائكة فى صورتها الحقيقية البرزخية طالما لا نزال أحياء على الأرض نسعى .

2 ـ بعض البشر رأوا بعض الملائكة ولكن فى ظروف خاصة إستدعت تجسد هؤلاء الملائكة بشرا وقيامهم بمهمة خاصة فوق طاقة البشر ثم أن هذه الملائكة تقول للطرف الآخر أنهم ملائكة . حدث هذا مع مرور الملائكة على ابراهيم فى طريقها لتدمير قوم لوط . ظنهم ابراهيم ضيوفا من البشر (فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) هود) خاف منهم فأعلموه بحقيقتهم وبمهتمهم وبشروه وزوجه باسحاق ثم يعقوب . وساروا الى لوط فجعلوه فى موقف عصيب خوفا عليهم من شذوذ قومه لأنه ظن الملائكة بشرا : (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) هود ). وعندما إقتحم بعض قومه بيته قالت الملائكة للوط تخبره بحقيقتها : (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)هود).قامت هذه الملائكة بتدمير قوم لوط . أى هى ظروف خاصة إستدعت تجسد هؤلاء الملائكة بشرا وقيامهم بمهمة خاصة فوق طاقة البشر ثم أن هذه الملائكة تقول للطرف الآخر أنهم ملائكة .

نفس الحال مع إرسال الروح جبريل عليه السلام يحمل كلمة ( كن ) الى مريم العذراء ، يقول جل وعلا : (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيّاً (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً (19) مريم ) تمثل لها بشرا سويا وأعلمها بمهمته التى لا يستطيعها بشر . النبى صاحب موسى كان بشرا ، وما قام به يستطيع أى بشر فعله . وإذا كان يعلم بعض الغيب فهو من الأنبياء الذين يوحى اليهم ببعض الغيب .

( ب ) هو عبد من الأنبياء الممدوحين بأنهم ( عبادنا ) ( عبدنا ) ( عبده ):

وطالما أن (( عبدا من عبادنا ) لا تعنى ملكا من الملائكة ، إذن فهو رسول من الرسل ونبى من الأنبياء ، خصوصا وأنه أوتى العلم ببعض الغيب ، وتلقى أوامر بوحى سماوى . وعرضنا لهذا من قبل . ولكن نتوقف هنا مع مصطلح (عبدا من عبادنا ) ، وهو من أوصاف الرسل الأنبياء فى القرآن الكريم ، يؤتى به فى معرض المدح والتكريم للنبى الرسول  ( عبدنا ) ( من عبادنا ) ( عبده ) أى بضمير يربط النبى بربه إكراما لهذا النبى . ونتتبعه فى القرآن الكريم عن أنبياء الله ، كالآتى :

1 ـ عن كل الرسل قال جل وعلا : ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ (172) الصافات ) وصفهم ب ( عبادنا ).

2 ـ فى سورة الصافات قصص لبعض الأنبياء ، يأتى مدح أحدهم بأنه من المحسنين وأنه من ( عبادنا المرسلين ) مع تحيته بالسلام من رب العزة . نقرأ عن نوح : ( سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) الصافات ) وعن ابراهيم : ( سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) الصافات ) وعن موسى وهارون : ( سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) الصافات ) وعن ال ياسين : ( سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) الصافات ) .

3 ـ يذكر الله جل وعلا مجموعة من الأنبياء ويمدحهم بنفس الوصف ( عبادنا ) : ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ (45) ص ) وقال جل وعلا عن نوح ولوط عليهما السلام ( عبدين من عبادنا ) : ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) التحريم ).

4 ـ وصف بعض الأنبياء تكريما بأنه ( عبده ) أو ( عبدنا ):

4 / 1 : عن ( محمد ) عن الاسراء به عليه السلام حيث تلقى القرآن الكريم كتابا ،  يقول جل وعلا : (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) الاسراء ). وليلتها تلقى وحى القرآن الكريم مكتوبا فى قلبه أو كتابا فى مطبوعا فى قلبه،وهو موصوف وقتها  وعندها بأنه ( عبده ) :( فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) النجم ). ولأن الكتاب القرآنى تمّ نزولا مرة واحدة فقد قال جل وعلا فى مفتتح الكهف سورة المكية : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (1) ) النبى محمد عليه السلام ممدوح هنا بأنه ( عبده ) . ونفس الحال فى السورة المكية الفرقان:(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً (1)).وتوالى نزول القرأن الكريم بعدها متفرقا فى مكة والمدينة ( قرآنا ) مقروءا . وفى المدينة قال جل وعلا يخاطب المؤمنين : ( هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) الحديد ) . الرسول ممدوح هنا بأنه ( عبده ).

وحين تحدى رب العزة منكرى القرآن الكريم قال لهم جل وعلا : ( وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (23) البقرة  ). مدحه ربه بوصفه ( عبدنا ). وبالمناسبة فإن ما نزل علي الرسول هو ( سور ) . هل فى البخارى وغيره ( سور ) أو سورة واحدة ..أيها المحمديون ؟ وفى مناسبة موقعة بدر وما نزل فيها من آيات قرآنية يقول جل وعلا يخاطب المؤمنين وقتها : (إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) الانفال ) .  مدحه ربه جل وعلا فقال ( عبدنا ).

عن نوح: ( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)  القمر )

عن  يوسف عليه السلام : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) يوسف )

عن أيوب عليه السلام : (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ص)

وعن زكريا عليه السلام  ( ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) مريم ).

وأخيرا عن النبى صاحب موسى قال عنه جل وعلا :( فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا ).

( ج ) : ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا  )

ذلك النبى العبد الصالح آتاه رب جل وعلا رحمة من عنده ، يقول جل وعلا : ( فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65). وهذه الرحمة من لدن الله جل وعلا هى الرسالة السماوية التى نزلت على هذه النبى الرسول . وكل الرسالات السماوية كانت رحمة ، وبهذا جاء الوصف للأنبياء .

1 ـ خاتم المرسلين فى حياته كان رحمة للمؤمنين وكان بهم رءوفا رحيما ، يقول جل وعلا : ( وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) التوبة ) ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) التوبة ) .

2 ـ والقرآن الكريم خاتم الرسالات الالهية هو الرحمة الباقية بعد موت النبى محمد عليه السلام : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)  الانبياء )ووصف الرسالة الخاتمة بأنها رحمة جاء فى قوله جل وعلا : ( وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) الاعراف ) ، وتتجلى هذه الرحمة عند الانصات للقرآن الكريم ، يقول جل وعلا : ( وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) الاعراف )، وهى رحمة متاحة للناس جميعا لمن شاء الايمان بها ، يقول جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) يونس )، ويتوالى وصف القرآن الكريم بأنه رحمة للمؤمنين به : ( مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) يوسف )( وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) النحل ) وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)النحل)( وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً (82) الاسراء )( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) النمل )( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) العنكبوت) ( الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)  لقمان )( حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) الدخان )( هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) الجاثية ).

خاتم المرسلين آتاه الله جل وعلا القرآن رحمة من عنده . وكذلك النبى صاحب موسى آتاه الله جل وعلا رسالة الاهية رحمة من عنده :( فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا ).

3 ــ الملائكة قد تنزل بالتدمير ولكن الله جل وعلا يرسل النبيين مبشرين ومنذرين ، وليسوا رُسُل تعذيب لأقوامهم . كفار العرب كانوا يطلبون آية حسية و العذاب كراهية فى القرآن الكريم فقال جل وعلا ردا عليهم : (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) الاسراء  )، أى الذى منع إرسال الآيات انها لم تنفع فى هداية الأمم السابقة حتى أن قوم ثمود رأوا بأنفسهم  صخرة تتحول الى ناقة فعقروها ، وأن الله جل وعلا يرسل الايات تخويفا لأنهم حين لا يهتدون بها يحلُّ بهم الاهلاك ، وقد يأتى الاهلاك عن طريق الملائكة . وآخر أية حسية هى المائدة التى طلبها الحواريون ، ووعد الله جل وعلا بإنزالها مع تهديد بهلاكهم إن كفروا بعدها : (قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ (115) المائدة ).

كفار العرب طلبوا آية حسية وطلبوا أيضا الاهلاك والعذاب ، كراهية منهم للقرآن الكريم وكفرا به : ( وإذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) الانفال). كانوا يستعجلون العذاب، فيرد رب العزة جل وعلا  : ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) الحج  ) ولكن العذاب الأكبر بعد القرآن الكريم مؤجل لمن يموت كافرا يوم القيامة : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمْ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) العنكبوت  ) وليس بإمكان النبى إيقاع العذاب ، وهو الذى يتعرض لإيذائهم ، لذا امره الله جل وعلا أن يقول لكفار مكة أنه على يقين من ربه جل وعلا ومن كتابه الذى يكذبون به ، وانه  ليس عنده العذاب الذى يستعجلونه، ولو كان بيده تعذيبهم لانتهى الأمر: (  قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) الانعام ). وقبل أن يقصّ رب العزة قصة موسى والعبد الصالح جاء الحديث ردا على طلب كفار مكة الاهلاك العام كما كان يحدث للأمم السابقة ، فقال جل وعلا :( وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً (56) الى أن يقول جل وعلا عن طلبهم الهلاك والعذاب : ( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمْ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59) الكهف ).

( د ) ( وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65))

العلم اللدنى من مستلزمات النبوة ، والرسالة الالهية . ليس فقط صاحب موسى الذى قال عنه جل وعلا : (فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65)) بل جاء هذا فى القرآن الكريم فى قصص الأنبياء الآخرين .

1 ـ يوسف عليه السلام أبرز هؤلاء الرسل ، آتاه الله جل وعلا من لدنه علما . حدث هذا عندما بلغ مبلغ التكليف والرجوله فى بيت إمرأة العزيز ، وبالطبع لم يكن أحد يعلم كيفية هذا التعليم اللدنى الالهى الذى نزل على الشاب يوسف بن يعقوب فصار به نبيا مرسلا ، يقول جل وعلا عن يوسف : ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) يوسف ) . ونفس الحال مع موسى عليه السلام الذى نشأ طفلا ثم شابا فى قصر الفرعون ، يقول جل وعلا عنه : ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) القصص ) قصر فرعون المزدحم بالجند والحرس والجواسيس لم يعرف أحد منهم بالعلم اللدنى الالهى الذى نزل على الشاب موسى عليه السلام .

2 ـ وتكرر فى قصة يوسف الكلام عن العلم اللدنى الذى أوتيه من رب العزة . حين قصّ الطفل يوسف على أبيه يعقوب ـ عليهما السلام قال له أبوه يعقوب : ( وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) يوسف ) وحين وجد الطفل يوسف ملجأ فى بيت العزيز الذى إتخذه ولدا قال جل وعلا : (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ) (21) يوسف ). وفى بيت العزيز نزل عليه العلم اللدنى ، وحين كان يوسف عليه السلام فى السجن قال لصاحبيه : ( لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي )(37) يوسف ). وفى تمام نصره قال موسى شاكرا لربه جل وعلا على نعمائه : ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) يوسف ) .

3 ـ يعقوب نفسه أوتى من ربه علما لدنيا ، عرف به مكيدة أبنائه لأخيهم الطفل يوسف : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) يوسف ) . وكان بهذا العلم الالهى يعلم ما لا يعلمه أولاده ، قال عنه جل وعلا : ( وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) يوسف ) ولما رجع بنوه من مصر وقد إستبقى يوسف أخاه الشقيق معه ، وكان الأبناء لا يعلمون أن أخاهم يوسف هو عزيز مصر ، كان يعقوب هو الذى يعلم وقد إبيضت عيناه حزنا على غيبة ابنه يوسف : (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) يوسف ) فوجئوا بأبيهم يذكر يوسف الذى نسيه الأخوة فقالوا لأبيهم : ( قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ (85) ورد عليهم بأنه يعلم ما لايعلمون : ( قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (86) وأمرهم أن يعودوا لمصر بحثا عن يوسف وأخيه إشارة الى الأخ المفقود هو مع أخيهم يوسف : ( يَا بَنِي اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ (87) يوسف ). وعادت القافلة بخبر العثور على يوسف وأخيه وتحمل قميص يوسف والأب المكلوم فى الانتظار وقد شمّ رائحة يوسف وهو فى مكانه : (وَلَمَّا فَصَلَتْ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (96) يوسف  ) قال لهم يعقوب : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ  )

4 ــ وقال جل وعلا عن  العلم اللدنى الذى آتاه لوطا عليه السلام:(وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً )(74)الانبياء ) وقال جل وعلا عن داوود وسليمان وعلمهما اللدنى الخاص بهما : ( وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) الانبياء ) وقال جل وعلا : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) النمل ). وقال جل وعلا عن العلم اللدنى للمسيح عليه السلام : ( وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (48) آل عمران  ) ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ )(110) المائدة ).

5 ــ وحين خدع بعض الصحابة خاتم المرسلين الذى لم يكن يعلم الغيب نزل عليه الوحى القرآنى يخبر بما فعلوا من خيانة ، ويقول له ربه جل وعلا : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) النساء ).

وقال جل وعلا له عن القصص القرآنى  ليوسف عليه السلام : ( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)يوسف ) وعن نوح (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)هود  ) وعن مريم : (ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) آل عمران  ) وعن قصة موسى يقول له ربه جل وعلا : (  وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنْ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) القصص  ).

القرآن الكريم نزل يكشف غيوبا من الماضى وغيوبا من أسرار المنافقين ومن غيوب المستقبل . والقرآن الكريم هو العلم اللدنى الحقيقى الباقى الذى نزل على نبى لم يكن يعلم الغيب . لذا يوصف القرآن الكريم بأنه ( علم ) و ( حُكم ) من لدن العليم الحكيم . وهذا موضوع شرحه يطول ، ولكن ننتهى الى أن العلم اللدنى الالهى ينزل وحيا على النبى قد يحوى غيبا . وبالتالى فإن صاحب موسى كان نبيا أوتى من لدن رب العزة علما . ( وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65)

مصطلحات أخرى :

( الفتى )

1 ــ جاء بمعنى الشاب ( الفتىّ ) فى قوله جل وعلا  عن ابراهيم عليه السلام : ( قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ)الأنبياء: 60 ) وعن الفتية أهل الكهف قال جل وعلا : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً)الكهف: 10 ) ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)الكهف: 13 ) .

2 ـ وجاءت بمعنى الخادم ، حين يكون مضافا فى قوله جل وعلا عن خادم موسى : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً  فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً  فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً)يوسف:60 : 62 ).  وفى قوله جل وعلا عن يوسف وهو فى بيت إمرأة العزيز : ( وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يوسف:30 )

( الغلام )

1 ـ يأتى بمعنى الطفل المولود ذكرا .

عن تبشير ابراهيم عليه السلام بإبنه اسماعيل ( الغلام الحليم ) قال جل وعلا : ( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ (102 ) الصافات ). وعن تبشير الملائكة ابراهيم عليه السلام بإبنه إسحاق ( الغلام العليم ) قال جل وعلا : (  وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) الحجر  )  (  إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) الذاريات ).

 وعن تبشير الملائكة النبى زكريا بابنه يحيى قال جل وعلا : ( فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) آل عمران ) ( يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنْ الْكِبَرِ عِتِيّاً (8) مريم ). وُصف الطفل المولود يحيى بأنه ( غلام ) .

وقال جل وعلا هن تبشير مريم بوليدها المسيح عيسى : (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيّاً (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُنْ بَغِيّاً (20) مريم  ). وصفته بأنه ( غلام )

2 ــ ـ ويأتى مصطلح ( غلام ) بمعنى الولد الذكر دون البلوغ ، يقول جل وعلا عن الطفل يوسف بعد أن ألقاه أخوته فى الجُبّ : (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) يوسف  ). وبنفس المعنى جاءت كلمة ( غلام ) فى قصة موسى والعبد الصالح فى قوله جل وعلا :  (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) الكهف  )، (  وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) الكهف ) .  

( الحوت ):

لم يرد فى القرآن الكريم لفظ ( السمك ) بل وصف لحم الأحياء المائية بأنها ( لحم طرى ) (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً )(14) النحل  ). وجاء وصف السمك بالحوت على نوعين :

1 ـ صغير الحجم الذى يكون فى متناول اليد مثل الحوت فى قصة موسى : (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) ، ( قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيه إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63). وواضح انه سمك يمكن حمله والانتقال به ، وأنه ظل حيا مع فتى موسى ، فلما نساه قفز الى الماء .

2 ـ وقد يكون حوتا ضخما يبتلع الشخص مثل حوت يونس، يقول جل وعلا : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) الصافات ) قوله جل وعلا (فَالْتَقَمَهُ الْحُوت ) إى إبتلعه مرة واحدة أو لقمة واحدة . وهذه  ــ هى حسبما ـ أعلم طريقة الحوت الضخم فى الأكل ، وتختلف مثلا عن التمساح والثعابين المائية  الضخمة التى تبتلع الضحية قطعة قطعة وبتمهل .

 ( البحر ) :

 يأتى فى القرآن الكريم إسما للبحر وللنهر ، يقول جل وعلا : ( وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) فاطر ) . والواضح ان ( البحر ) فى هذه القصة مقصود به البحر المالح .

 (الآثار والقصص ) فى قوله جل وعلا : (فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً (64) .

1 ـ  ليس المراد هنا القصص القرآنى مثل قوله جل وعلا (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ )(3) يوسف) وليس المقصود بالآثار عمل الانسان الذى يتم تسجيله وحفظه وكتابته (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) يس  )  ليحمله يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ، كما فى قوله جل وعلا (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) الاسراء  )

2 ـ إنّما المرد هو (قصُّ الأثر ) ماديا . وهناك حرفة قصُّ الأثر وتتبع الخطوات ، خصوصا فى الصحراء.

  ( مساكين ) .

1 ــ يأتى هذا المصطلح وصفا للفقير المحتاج الى أولى الضروريات للحياة وهى الطعام ، وهو يحتاج الى الطعام  أولا بأول . لذا يرتبط المسكين والمساكين بالحث على إطعامهم ، يقول جل وعلا مثلا : (إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) الحاقة ) ( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) المدثر ) (كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) الفجر ) (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) الماعون ).

2 ـ ولكننا هنا مع مساكين يعملون فى البحر على سفينة (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ )، لا نعرف إن كانوا يملكونها أو كانوا مجرد عاملين عليها . ولكن المهم أن قوتهم اليومى وطعامهم كان متوقفا على ما يصيدون . لذا كان وصفهم بالمساكين ، مع أنهم يعملون ويتكسبون .    

( ملك )

1 ــ هنا ملك ظالم لا يتورع أن يغصب سفينة يرتزق بها مساكين :(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79)، ومع ذلك فرب العزة جل وعلا يعتبره ملكا .

2 ــ وقلنا فى مقالات سبقت أن الناس لو إرتضوا الخضوع وبالخنوع والاذلال ملكا ظالما وإعترفوا به ملكا عليهم فإن الله جل وعلا يعتبره ملكا عليهم . وهذا هو الحال مع ذلك الملك فى هذه القصة ، وكذا نفس الحال مع فرعون الذى زعم الالوهية ، ومع الملك الذى جادل ابراهيم عليه السلام زاعما الالوهية ، وقال جل وعلا أنه أتاه المُلك : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) البقرة ).

3 ــ  وطالما إرتضى الناس بفلان ملكا ظالما فقد إعترف به رب العزة ملكا عليهم . أما إذا أرادوا تغيير ما بأنفسهم من ذل وخنوع الى العزة فإن الله جل يعترف بهذا التغيير (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ )  (11)  الرعد  )

 ( قرية / مدينة ) :

1 ــ قلنا فى القاموس القرآنى أن القرية فى المصطلح القرآنى هى المجتمع أو الدولة ، وأن المدينة هى جزء منها . ومن ذلك قوله جل وعلا (  وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) يس ) ثم يقول جل وعلا (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) يس  ). فالبداية بالقرية التى تضم الجميع ، ثم فى التفاصيل أتت كلمة المدينة .

2 ــ نفس الحال هنا : البداية بالقرية ،  فى : (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) أما البيت فكان فى مكان معمور من القرية ـ فى المدينة : ( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا   (82)) ).

3 ــ  والعادة أن مصطلح القرية فى العموم يدل على كل المجتمع أو الدولة. وتكرر هذا فى القرآن الكريم ومنه مثلا عن إهلاك القرى فى سورة الاسراء : ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً (58)).

( أبواه  )

قلنا سابقا أن من المساواة بين الذكر والأنثى وصف الأب والأم بالوالدين والتوصية بالاحسان اليهما دون تفرقة بينهما . والمساواة بين الأبوين فى الميراث (وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (11)النساء    ) . وجاء هنا وصف الأب والأم بالأبوين (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ ).

( صالح ):

1 ــ  لا يصف رب العزة احدا بالصلاح وهو حىّ يرزق ، بل إن النبى فى حياته يدعو أن يلحقه رب العزة يوم القيامة  بالصالحين ، قالها ـ عليهم السلام ـ  ابراهيم (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) الشعراء )  وقالها يوسف عليه السلام : ( تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) يوسف)، وقالها سليمان عليه السلام : (  وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) النمل ). والرجل ( المؤمن) والد الفتاتين فى مدين قال لموسى عن نفسه ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ (27)  القصص ). لم يصف نفسه بالصلاح لأن المؤمن لا يزكى نفسه .

2 ــ  الله جل وعلا وحده هو الأعلم بخلقه ، وهو الذى يصف بعض الناس بالصلاح بعد موتهم وقفل كتاب أعمالهم ، ولهذا قال عن والد الغلامين اليتيمين الذى مات من قبل : ( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ). هذا بينما قال عن أبوى الغلام انهما مؤمنين ( وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) الكهف )  أى لأنهما كانا لا يزالان على قيد الحياة . وهما موصوفان بالايمان . وقد يكون الايمان سلوكيا فقط بمعنى الأمن والمُسالمة ، وقديكون سلوكيا وقلبيا معا . ولكن فى كل الأحوال فطالما يكون الانسان حيا فإيمانه يزداد وينقص تبعا لظروفه ومدى نجاحه فى إبتلاء الحياة ، ولا يتحدد عند رب العزة هل هو صالح أو خاسر إلا بالموت وقفل كتاب اعماله .

3 ــ  ولكن من العادات السيئة فى أديان المحمديين الأرضية وصف النفس والغير بالصلاح وتزكية النفس والغير إفتراءا على الله جل وعلا كذبا . وقد قال رب العزة ناهيا عن تزكية النفس بالتقوى: ( فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى (32) النجم  ) وقال جل وعلا عن بعض أهل الكتاب الذين زكوا أنفسهم : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) النساء  ).

4 ــ  الأنبياء العظام يدعو كل منهم ربه جل وعلا ويتمنى (أن يلحقه ربه بالصالحين ) وغوغاء المحمديين يفترون بكل جُرأة أن فلانا ( صالح )..!

 

 

الفصل الرابع : الوحى التوجيهى وانواع من التدبر : الايجاز بالحذف ، الجملة الاعتراضية ، حول نقل الاقوال البشرية فى القرآن الكريم ،  المجاز ، اختيار اللفظ    

الوحى التوجيهى

 1 ـ ينزل وحى توجيهى للرسول النبى قبل وأثناء وربما بعد ( الرسالة السماوية ).

2 ـ وفى القرآن الكريم شواهد على هذا الوحى التوجيهى للنبى محمد عليه السلام ، فى هجرته الى المدينة والأمر بكف اليد عن القتال الدفاعى و موقعة بدر وموقعة الأحزاب وسورة التحريم والثلاثة الذين خُلّفوا فى سورة التوبة . ولكن الذى أنزل على الرسول هو ( سور ) القرآن ، ولا وجود لسور خارج القرآن ولا إيمان بحديث خارج القرآن ، وبالتالى فالايمان بوجود هذا الوحى التوجيهى محصور بما جاء عنه من إشارات قرآنية . لا إيمان بأى كلام أو حديث خارج نصوص القرآن الكريم بإعتباره الرسالة الخاتمة والنهائية ، وهذه الاشارات عن الوحى التوجيهى لخاتم المرسلين جاء على هامش تفصيلات التاريخ المعاصر للنبى محمد عليه، وهو جزء قليل بالمقارنة بالقصص الماضى عن الأنبياء والأمم السابقة ،وهذا القصص القرآن كله ( الماضى والمعاصر ) ليس سوى جزء من القرآن الرسالة العالمية والأخيرة للبشر ، بما فيها من تشريعات وقيم أخلاقية و إشارات علمية . وبهذا يختلف القرآن الكريم عن الرسالات السماوية السابقة .

2 ـ  والرسالات السماوية قبل القرآن الكريم كانت مؤقتة بقومها ورسولها ، لذا كان الوحى التوجيهى منزلته نظرا لظروفه الوقتية المحلية . وأمثلته كثيرة ، منها فى قصة نوح عليه السلام كيفية صُنع السفينة وانه لن يؤمن من قومه أحد إلا من آمن (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)هود) .ومنها تبشير ابراهيم بابنه اسماعيل ، وتبشير زكريا بابنه يحيى .

2 ـ  والوحى التوجيهى سمة بارزة فى قصة موسى عليه السلام الذى ( كلّمه الله تكليما ) : (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً (164) النساء ). وبدأ الوحى التوجيهى بمولد موسى طفلا مع وحى الله جل وعلا لأم موسى ، ثم تعليم موسى العلم اللدنى وهو فى قصر فرعون ، حيث عرف وضعه ودقّة موقفه وصعوبة وضعه . وكان الوحى التوجيهى يصاحب موسى من حديث رب العزة معه عند الشجرة المباركة فى طور سيناء بالوادى المقدس طوى الى ظروفه مع قومه فى حركته فى مصر وهم تحت ضغط الفرعون ، ومنه مثلا : حين خاف من ألاعيب السحرة : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) طه ) وفى صلاتهم خُفية بمصر: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (87) يونس ) ، وفى هروبهم من مصر خُفية (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) الشعراء ) و فى إستسقائه لقومه وهم 12 قبيلة : (وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً ) (60) البقرة ).. وبالوحى نودى موسى لميقات ربه جل وعلا على جبل الطور ، وفيه تلقى الألواح ، الكتاب المُنزّل .وبعده أوحى اليه ربه بما فعله بنو اسرائيل من عبادة العجل إثناء غيابه : (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ (85) طه )  وتتابع الوحى التوجيهى لموسى بعدها، ومنه حين رفض قومه دخول الأرض المقدسة التى كتبها الله جل وعلا فأوحى رب العزة اليه : ( قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) المائدة ).

ومنه الوحى لموسى أن يقابل هذا الرسول النبى ليتعلم منه موسى الصبر وعدم الانفعال . وبالهذا الوحى تحدد المكان الذى سيقابل فيه موسى ذلك الرسول النبى ، نفهم هذا من هذا الحوار الذى دار بين موسى لفتاه : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيه إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً (64) فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) الكهف  ).

 :الايجاز بالحذف :

1 ــ قال جل وعلا (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16)الاسراء ). هنا إيجاز بالحذف فى (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا ) أى أمرنا مترفيها بالعدل ففسقوا فيها . وقد تعرضنا لهذا فى مقال خاص منشور هنا . الايجاز بالحذف يأتى فى القرآن الكريم كثيرا ، وأنواعه مختلفة حسب نوعية المحذوف ، وله أغراض بلاغية متعددة ، اهمها الاختصار والتركيز على المذكور دون المحذوف  .  وهو موضوع شرحه يطول .

2 ــ ونعطى أمثلة من هذه القصة ، ونضع اللفظ المحذوف بين قوسين: ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ ( هذا المكان ) حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ ( سائرا ) حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ ( الحوت ) سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ ( موسى )  لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً (62) قَالَ ( الفتى )  أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيه إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ ( الحوت ) سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قَالَ ( موسى ) ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً (64) فَوَجَدَا عَبْداً ( نبيا ) مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قَالَ ( عبدنا ) إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قَالَ ( موسى )  سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قَالَ ( عبدنا ) فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ ( عبدنا ) أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قَالَ  ( عبدنا) أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (72) قَالَ ( موسى ) لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ ( موسى ) أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قَالَ ( عبدنا ) أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (75) قَالَ ( موسى ) إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ( عبدنا ) قَالَ ( موسى ) لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قَالَ ( عبدنا ) هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ ( ظالم ) يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ ( سليمة ) غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا ( عندما يكبر ) أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82))الكهف ) 

   الجملة الاعتراضية 

1 ــ الجملة الاعتراضية هى التى يمكن حذفها دون تأثير على السياق ،وهى عكس الايجاز بالحذف . يؤتى بالجملة الاعتراضية لأغراض بلاغية ، وقد تكون لا لزوم لها ومجرد حشو وثرثرة ، فيفسد بها أسلوب الكاتب، لذا فإن الجملة الاعتراضية تعتبر مؤشرا على مدى فصاحة الكاتب ، هل يأتى بها لمجرد الإطناب والتطويل والثرثرة ، ام لهدف التوضيح وبصيغة موجزة جذابة . الجمل الاعتراضية من أوجه الفصاحة القرآنية التى لم تحظ بإهتمام علماء البلاغة القرآنية . ونعطى لها أمثلة قرآنية ـ على أمل أن يتوفر لنا الوقت والجهد لاعداد بحث متكامل عنها .

يقول جل وعلا : (وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) البقرة  ). السياق فى الآية 24 أن يقال ( فإن لم تفعلوا فاتقوا النار ) . جاءت جملة ( ولن تفعلوا ) إعجازا يؤكد التحدى ويخبر مقدما بعجزهم، مع ما تحمله العبارة من سخرية ضمنية .

ويقول جل وعلا : ( قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) الاسراء ). السياق أن يقال ( قل لو كان معه آلهة إذا لابتغوا الى ذى العرش سبيلا ) . جاءت جملة ( كما يقولون ) وهدفها واضح هو عدم الاعتراف بهذه الآلهة .

يقول جل وعلا : (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) الواقعة  ) هنا أروع مثل للجملة الاعتراضية ، إذا جاءت جملة إعتراضية كبرى داخلها جملة إعتراضية أخرى ، مع عدم الاخلال بالفصاحة . السياق أن يقال : ( فلا أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم ....). جىء بجملة إعتراضية كبرى هى آية كاملة  (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76). وهذه الجملة سياقها العادى أن يقال ( وإنه لقسم عظيم ) وجىء بجملة إعتراضية صغيرة هى ( لو تعلمون ). الجملة الاعتراضية الكبرى فى الآية : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ  ) تأكيدا لعظمة القسم بمواقع النجوم . والجملة الصغيرة الاعتراضية داخلها ( لو تعلمون ) ذات دلالة عجيبة وهائلة . وبعض ( ما نعلم ) أن القسم هنا ليس بالنجوم ذاتها ولكن بمواقعها . ولقد علمنا مؤخرا أن الذى نراه هو ضوء قادم من مواقع بعض النجوم وليس منها ذاتها ، لأن هذه النجوم إنفجرت وتحطمت وتحولت الى ثقب أسود وأبيض وتلاشى جُرمها المادى ، ونظرا لبُعدها السحيق ــ  الذى يبلغ ملايين السنوات الضوئية ــ فإن ضوءها هو الذى لا يزال يأتينا بعد زوالها ، وهو يأتينا ليس من النجم الذى زال وانتهى ولكن موقعه القديم . هنا نتعرف على الروعة فى الآية رقم 76  التى جاءت جملة إعتراضية ، وبالتالى نفهم عظمة القرآن الكريم الذى لم نقدره حق قدره . ونعيد قراءة قول الخالق جل وعلا  : (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) الواقعة  ) .

2 ــ فى قصة موسى مع العبد الصالح عليهما السلام جاءت كلمة إعتراضية بالغة الدلالة فى قول موسى له : ( قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69)). السياق أن يقول ( ستجدنى صابرا ولا أعصى لك أمرا ). ولكن موسى قال جملة إعتراضية هى ( إن شاء الله ) متوكلا على الله . هو لم يعط عهدا قاطعا ، بل علقه على مشيئة الرحمن لأنه ـ موسى ـ يعلم إندفاعه وعدم قدرته على الصبر والتريث ، فتوسل بمشيئة الرحمن ليكون صابرا ولا يعصى لصاحبه أمرا. وفعلا لم يصبر موسى ، يقول جل وعلا : ( فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (72) قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (75)) بعدها إندفع غضب موسى يلوم نفسه : ( قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) الكهف )

 حول نقل الاقوال البشرية فى القرآن الكريم

يتردد فى القصص القرآنى نقل أقوال بشرية ، وهى تنقسم من حيث القائلين الى أقول من الأنبياء والمؤمنين وأقوال الكافرين .و تنقسم من حيث تاريخها الى نوعين : احدهما  ماضى ، ينتمى الى الزمن السابق على نزول القرآن الكريم ، ويأتى فى قصص الانبياء ومنها أقوال فرعون موسى و الكفرة من قوم نوح وهود وصالح وشعيب وابراهيم  ، والاخر معاصر ، ينتمى الى عصر نزول القرآن الكريم مما قاله النبى والمؤمنون والمشركون العرب واهل الكتاب . وتنقسم أيضا الى نوعين من حيث الموضوع ، أحدهما جاء فى القصص وما تناثر فيه من حوار ، والآخر جاء حوارا قائما بذاته مع من عاصر نزول القرآن الكريم وعاند وكفر .ومن حيث الموضوع تنقسم أيضا الى نوعين ، منها ما ذكره الله جل وعلا وقام بالردّ عليه مباشرة ، والاخر ذكره الله جل وعلا  دون الرد المباشر عليه لأن الرد واضح وقد تكرر من قبل ومن بعد . وفى موضوع الرد نفسه هناك أقوال لهم قام رب العزة بالرد فيها دفاعا عن النبى و المؤمنين ، وهناك أقوال قام جل وعلا فيها بالرد عن ذاته.  هو موضوع طويل معقد نرجو أن يتسع الوقت لتأصيله . ولكن نعطى أمثلة للتوضيح أورد فيها رب العزة أقوال الكافرين وردّ عليها :

1 ـ الكافرون من أهل الكتاب : (وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ  ) ( البقرة 80 : 82 )

(لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ  ) (آل عمران 181 : 182 )

(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا  ) (المائدة 64  )

الكافرون  العرب : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)  العنكبوت  ).

2 ـ وذكر رب العزة قول موسى لقومه : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) البقرة ). قول موسى لقومه أن يقتلوا أنفسهم هو رأى خاص به ، وليس تشريعا .

3 ـ ومن قصة موسى مع هذا النبى جاءت أقوال موسى وفتاه وهذا النبى . وترددت فيها  كلمة ( قال ) ليكون القائل مسئولا عن قوله .

   لمحات بلاغية :

  المجاز :

1 ـ فى القرآن الكريم أسلوب علمى تقريرى يأتى خصوصا فى التشريع وغيره ، مثل قوله جل وعلا عن الاسراء (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ) (1) الاسراء ). هنا كلمات محددة بالذى أسرى وهو رب العزة (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى  ) ، وبالذى أُسرى به ، وهو (بِعَبْدِهِ ) والبداية للرحلة (مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) والنهاية (  إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى) والهدف من هذه الرحلة الليلية (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا  ).

ولكن الاسلوب المجازى من مشاكلة وتشبيه وكناية واستعارة يؤتىبه فى مجالات الدعوة ، ومنها القصص وما يعرف بالسمعيات أى الغيوب التى لم نرها بعد مثل أحوال الآخرة والملائكة ، أو فيما يخص رب العزة جل وعلا الذى يعلو على كل الأفهام . ومنه التعبير عن ملكوت الرحمن بالعرش والكرسى وعن تحكمه جل وعلا فى ملكوته بالاستواء على العرش .

2 ــ  مثلا يأتى أسلوب المشاكلة المجازى فى : ( وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) النمل ) (  وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) آل عمران ) (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16)الطارق ) ، أى على ( شاكلة ) الفعل البشرى يأتى الرد الالهى باسلوب المجاز . ومن أسلوب المشاكلة قول عيسى عليه السلام لربه جل وعلا : (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) المائدة ). إضافة النفس لرب العزة أسلوب مجازى جىء به بالمشاكلة . وهناك إستعمالات أخرى لكلمة ( نفس ) مضافة للرحمن جل وعلا على سبيل المجاز ، ومنها قوله جل وعلا : (وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) (وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) آل عمران  ) (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ  ) (12) (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) الانعام  ) ، لا يمكن أن يزعم أحد هنا أن لرب العزة جل وعلا ( نفسا ) بالاسلوب العلمى التقريرى مثل الذى نعرفه من صفات البشر لأن رب العزة يقول (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ )( آل عمران 185 ) الأنبياء (35) العنكبوت(57)) ، وهو جل وعلا الحى الذى لا يموت. أى فاستعمال النفس هنا هو بالاسلوب المجازى غير الحقيقى .  وكلمة ( الأعمى ) تأتى فى التشريع بالاسلوب العلمى الحقيقى ( لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ )(61) النور) (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ )(17)الفتح).ويأتى (اعمى) بالاسلوب المجازى بمعنى الضلال فى الدنيا والآخرة ( أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (19)الرعد )( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) الاسراء )  ويستحيل فى ضوء عدل الرحمن ان يكون المصاب بالعمى بالمعنى العلمى التقريرى من أهل النار لمجرد أنه أصابه العمى أو خُلق أعمى . أى فلا بد هنا من التسليم بوجود اسلوب مجازى وأسلوب علمى، ولكل مقام مقال . 

3 ــ من هنا نفهم الاسلوب المجازى فى قوله جل وعلا :( فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ   ). ليس الجدار كائنا حيا ( يريد ) شيئا . هنا إستعارة مجازية ، وهو اسلوب مجازى بالغ الدلالة ورائع التعبير عن جدار آيل للسقوط .

4 ــ القائلون بأنه ليس فى القرآن ( مجاز ) يقعون فى ضلال هائل ، فالقرآن الكريم نزل بلسلن عربى مبين . وأسلوب المجاز هو الأبرز فى الشعر العربى قبل نزول القرآن الكريم وبعده ، حتى إنه يقال ( أعذب الشعر أكذبه ) أى عذوبته فى المجاز والمبالغة فيه بدءا من مدح المحبوبة فى الغزل الى المبالغة فى الفخر كقول عمرو بن كلثوم: ( إذا بلغ الرضيع منا فطاما   تخر له الجبابر ساجدينا )  . وبهذه الكذبة الكبرى صارت قصيدته فخرا لقومه من بنى تغلب ومن المعلقات السبع . رب العزة يستعمل اسلوب المجاز فى القرآن الكريم بالصدق لتقريب المعنى للافهام البشرية دون أن ينال المجاز من صُدقية القول .

  اختيار اللفظ :

  1 : يقول جل وعلا : ( فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيه إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63)) عن الحوت فى الآية 61 : (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) ) هنا وصف رب العزة جل وعلا للمشهد ، فبمجرد أن نسيا حوتهما (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً ) . الفاء فى (فَاتَّخَذَ ) هى للعطف السريع ، تقول : ( جاء محمد فأحمد ) أى جاء أحمد مباشرة بعد محمد . وهناك العطف بالواو الذى يفيد المصاحبة ( جاء محمد وأحمد ) وهناك العطف ب ( ثم ) وهو الذى يفيد التراخى : ( جاء محمد ثم أحمد ) . من اسلوب العطف السريع  بالفاء قوله جل وعلا عن ( حمل ) مريم بالمسيح كآية من رب العزة : (فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَنْسِيّاً (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً (24) مريم  )  الحمل تلاه مباشرة الاعتكاف فى مكان قصى بعيد ومجىء المخاض ..الخ. الآية 63 : عن قول فتى موسى عن الحوت  :( وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبا ) أى يتعجب من تسرب الحوت للبحر ، واستعمل العطف بالواو . لأنه لم يكن شاهدا على ما حدث ، إذ نسى الحوت ( وإتخذ الحوت سبيله للبحر .. يا للعجب .!! ) بينما وصف رب العزة المشهد باستعمال العطف بالفاء أى بمجرد تركهما الحوت تسرب الى البحر .

 2 / 2 : ونرى تنوعا فى إختيار اللفظ فى كلام موسى لصاحبه . الأصل فى موسى تلك النفس الراقية المهذبة ( طالما لا يحس بالخوف والخطر ) . وهو فى تعامله مع هذا النبى كان يتكلم معه فى رُقى هائل ، نلمح هذا فى قوله بكل أدب لنبى مثله : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66)). طلب منه بسؤال مهذب أن يكون تابعا له يتعلم منه بعض علمه . لم يستكبر ولم يستنكف أن يطلب التعلم منه بهذا الاسلوب المهذب . وموسى كان مدركا لطبيعته الغاضبة المتسرعة لذلك طلب من ربه جل وعلا أن يكون أخوه هارون مساعدا له : (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) الشعراء ) (قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) القصص  )

 وكان موسى يضبط ردود أفعاله فى حدود الممكن ، حين خرق صاحبه السفينة قال : ( أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) أى شيئا عجبا . ثم إذا قتل الغلام زادت نبرة التعليق لتكون إحتجاجا بالانكار : (( قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً ). قالها موسى مستنكرا ، وهو الذى لم ينس كيف تسرّع من قبل فقتل رجلا مصريا معتديا .

وصاحب موسى حذّره من البداية : ( قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) ورد موسى بكل تواضع :( قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) فاشترط عليه صاحبه  (قَالَ فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) وطبعا وافق موسى على هذا الشرط . وحين إحتج موسى على خرقه السفينة قال له صاحبه يُذكّره : ( قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (72)وردّ موسى برجاء : ( قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) وعندما قتل الغلام وارتفعت نبرة موسى بالاحتجاج قال له صاحبه ( أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (75)) . المراد هنا فى ( إختيار اللفظ ) أنه فى الاية 72 (( قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (72)) لم يأت فيها بكلمة ( لك ) ، اى كان لوما من صاحبه مهذبا . ولكن فى المرة التالية وجّه له الخطاب بلوم مباشر إستعمل فيها كلمة ( لك ) :( أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (75)) . 

وهناك مواضيع أخرى تدخل فى موضوع معقد هو الحتميات التى يتعرض لها البشر ، ومنها الموت قتلا ، نعرض لها فى المقال التالى .

 

 الفصل الخامس : الحتميات

 مقدمة :

1 ــ المعضلة الكبرى هى قتل العبد الصالح للغلام خشية أن يكبر ويرهق أبويه المؤمنين طغيانا وكفرا .  . وتعرضنا سابقا تحت عنوان ( وما فعلته عن أمرى ) عن نواحى من هذه القضية أساسها أن العبد الصالح كان نبيا أعلمه الله جل وعلا ببعض الغيب فيما يخص هذه المواقف  الخاصة بالسفينة والغلام والغلامين أصحاب الجدار ، وأنه مُرسل ليفعل ما فعله ، وأنه كما قال ( وما فعلته عن أمرى ) .

2 ــ هنا نناقش الموضوع من زاوية أخرى هى الحتميات ، أو القضاء والقدر ، وهى الحتميات التى لا مفر لكل فرد من مواجهتها ولا بد من وقوعها عليه ، وليس مسئولا عنها يوم القيامة. هو مسئول فقط عن حريته فى الايمان أو الكفر ، فى الطاعة أو المعصية . هذه الحتميات هى الخاصة بالميلاد ( فأنت لا تختار موعد أو مكان ميلادك ، ولا أصلك وأبويك وأقاربك ، ولا تختار ملامح وجهك ولا لونك ، أو حجمك أو طولك أو قصرك ) والحتمية الخاصة بالرزق المقدر لك سلفا ، لو كان الأمر بيدنا ما أصبح فقير فى هذا العالم وما تعرض غنى ثرى للإفلاس ولأصبحنا كلنا بليونيرات ، والحتمية الخاصة بالمصائب من خير وشرّ والتى نُفاجأ بها بها فى موعد لا نتوقعها ولا نتوقعها ، ولذلك فالمؤمن عليه أن يتقبل المصائب من خير أو شرّ ، يصبر ويشكر ، يقول جل وعلا عن حتميتها : (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)الحديد ) ويقول جل وعلا عن موقف المؤمن منها : ( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ )(23) الحديد ).

ثم الحتمية الكبرى وهى الموت المقدر سلفا لكل منا موعده ومكانه وكيفيته . وحتمية الموت هى قضيتنا هنا بسبب موضوع قتل العبد الصالح للغلام .

3 ـ هذه الحتميات منها ما يحدث بفعل إلاهى صرف ( 100 % )، ومنها ما يحدث فيه تدخل البشر بتقدير الرحمن وقضائه . ميلاد الفرد ينتج عن علاقة جنسية بين رجل وإمرأة ( سواء كانت شرعية أو زنا ). المصائب قد تحدث بفعل الاهى صرف ؛ فقد تعثر على بئر بترول أو كنز بالصدفة ، أو يُصاب الفرد بمرض من جرثومة سابحة فى الجو أو تتكاثر فيه خلية تكاثرا سرطانيا ، وقد تحدث مصيبة المرض أو الجروح أو الحريق للبيت أو المصنع نتيجة مؤامرة وتدخل بشرى.  والرزق الظاهر يتدخل فيه البشر فى تعاملاتهم الاقتصادية بين البائع والمشترى والمنتج والمستهلك والعامل وصاحب العمل ، وقد يأتى الرزق الخفى ــ وهو الأهم ــ فى الصحة والسعادة والرضى النفسى وراحة البال والنجاة من الحوادث . ثم الموت ـ وهو موضوعنا ـ والذى قد يأتى بفعل إلاهى محض كالمرض ، وقد يكون قتلا خطأ ، وقد يكون قتلا بجريمة مع سبق الاصرار والترصد. ونتوقف هنا مع حتمية الموت .

حتمية الموت :

نتعرض باختصار لبعض القضايا المرتبطة بحتمية الموت :

1 ــ إنه لا مفر منه ، وسيحدث لكل منا موتا أو قتلا فى المكان والزمان المحددين سلفا قبل وجودنا فى هذه الحياة الدنيا . بمجرد ميلاد الفرد يبدأ العد التنازلى لحياته وموعد موته ، فالعُمر محدد لكل فرد سلفا قبل مولده . يقول جل وعلا : ( وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ )(11) فاطر ) . ومثلا فلو كان العُمر المقدر لى سلفا سبعين عاما بالتمام والكمال فإنه من دقيقة ولادتى فى أول مارس 1949 بدأ العد التنازلى مع أول دقيقة : بقى من عُمرى سبعين سنة إلا دقيقة ، إلا دقيقتان ..الا ساعة ..إلآ يوم ..االا شهر إلا عام .. الى : بقى من عمرى عام .. شهرين ، يومين ساعة ، دقيقة ..ثم يأتى الموت فى موعده وقد تم (إستيفاء) عمرى المحدد لى سلفا ، وقد تم ( إستيفاء ) رزقى المقدر لى سلفا ، وتم (إستيفاء) المصائب المقدرة لى من خير وشر. وتم ( إستيفاء ) عملى من خير أو شر فى كتاب أعمالى . هذا ( الاستيفاء ) هو ( الوفاة ) والتى تأتى مرادفة للموت . ثم يأتى يوم الحساب بتوفية أخرى ، وهو توفية الحساب. عن التوفية المؤقتة بالنوم والتوفية النهائية بالموت يقول جل وعلا  : (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى )(42) الزمر )، وعن التوفية القادمة للجميع يوم الحساب يقول جل وعلا  (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) النحل).

2 ـ ولأنه لا مفرّ منه فلا يصح إلا التسليم به قدرا مكتوبا محددا بالزمان والمكان . بعد الهزيمة فى موقعة أُحُد إتّخذها المنافقون فرصة يلومون بها النبى محمدا والمؤمنين . حين زحف جيش قريش نحو المدينة عقد النبى مجلسا للتشاور، هل يخرج لمواجهتهم قبل إقترابهم من المدينة أم ينتظر ليقاتلهم على أبواب المدينة . المنافقون رأوا الانتظار ، والأغلبية قالت بالخروج لمواجهتهم فى الطريق عند جبل (أُحُد ) ، وهو الرأى الأصح عسكريا ، ونفذه النبى ، وحدثت الهزيمة لسبب آخر ، ولكن وجدها المنافقون فرصة فقالوا عن القتلى فى المعركة :لو أطاعونا ما قتلوا ، ورد عليهم رب العزة  : ( الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) آل عمران ) . وبالغ بعضهم واتخذها فرصة للمزايدة السياسية وأن أمرهم لا يُطاع ، فقال عنهم جل وعلا : (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) آل عمران ). أى إن أمر الموت قتلا أو موتا طبيعيا مرجعه لرب العزة جل وعلا المحيى المميت . الرد الالهى الذى يهمنا هو (لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ )، اى إن الفرد المكتوب عليه القتل سيذهب بنفسه الى مكان قتله ليلقى حتفه هناك .

3 ـ حتمية الموت قتلا المحددة لبعض الناس لا تعفى القاتل من جريمته ، لأن القاتل فكّر وقدّر ودبّر الأمر ونفّذه ، فهو مؤاخذ بما فكّر وقدّر ودبّر ونفّذ .

4 ـ الفيصل فى ذلك كله أننا لا نعلم الغيب ، ولو كنا نعلم الغيب لاستكثرنا من الخير وما مسّنا السُّوء . وهذا ما أمر رب العزة رسوله أن يقول : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) الاعراف ). ولو كان عليه السلام يعلم الغيب ما حدثت هزيمة موقعة (أحد ) وما حدث هذا القتل لأصحابه . الذى يخطط لجريمة القتل هو لا يعلم الغيب ، بل ولا يضمن إن كان تخطيطه سينجح أو يفشل . ولكن فى كل الأحوال هو مؤاخذ بما يخطط له وبما يفعله . 

5 ـ إذن هناك حتمية الموت بكل انواعه . وفى كل هذا يأتى نسبة الموت لرب العزة حينا فيقول جل وعلا : (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا )(42) الزمر)، وتأتى نسبة الموت الى ( ملك الموت ) المخصص لهذه المهمة، يقول جل وعلا : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) السجدة )، وتأتى نسبة الموت للملائكة مساعدى ملك الموت:(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61)الانعام )، ويأتى أحيانا نسبة القتل لرب العزة ، يقول جل وعلا عن موقعة بدر:( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)الانفال ). وتأتى نسبة القتل للشخص سواء كان قتلا خطأ كقوله جل وعلا عن موسى:( فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ )(15) القصص) ونسب موسى القتل لنفسه فقال :( قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) القصص ) وعن العبد الصالح : (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ )(74) الكهف ). وفى أول جريمة قتل فى تاريخ البشرية ، قتل ابن آدم أخاه فكانت أول حرب عالمية أنتجت أول جثة أدمية ، يقول جل وعلا عن القاتل : ( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ (30) المائدة ).  قبل أن يركب جريمة القتل ( طوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله ) . هنا مسئوليته عن القرار وعن التنفيذ ، مع أن القتيل محدد سلفا موعد ومكان قتله .

6 ـ فى كل هذا يأتى الابتلاء للبشر ، ونعيد تدبر قوله جل وعلا  عن موقعة بدر : :(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)الانفال ). هو ابتلاء نجح فيه المسلمون فى موقعة بدر فكان إبتلاءا حسنا . وقوله جل وعلا عن موقعة أُحّد : (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) آل عمران). ووصف رب العزة جل وعلا ما قام به فرعون من ذبح أطفال بنى اسرائيل بأنه إبتلاء عظيم من رب العزة لبنى اسرائيل ( وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) البقرة ) (الاعراف ٌ (141)(ابراهيم (6)).

وفى كل الحتميات التى يتدخل فيها البشر بقضاء الله جل وعلا وقدره يكون بعضنا إختبارا وفتنة لبعضنا ، والمؤمن الناجح فى هذا الاختبار هو الذى يصبر، يقول جل وعلا:( وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) الفرقان).

7 ـ هنا نفهم ما جاء فى آيات سورة الكهف عن العبد الصالح :

7 / 1 : يقول : ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79)) هو الذى أراد أن يخرقها عيبا لها ليحول بين الملك الظالم وإغتصابها . هو نسب إرادة العيب لنفسه ، لم يقل ( خرقتها ) ولكن قال (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا )، هذا مع إنه كان مأمورا من رب العزة بخرق السفينة . لم ينسب فعل ( العيب ) للرحمن أدبا مع الرحمن ، وهذا يذكّرنا بقول ابراهيم عليه عن ربه جل وعلا : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)الشعراء).كان السياق أن يقول(والذى يمرضنى ثم يشفين ). ولكنه نسب المرض لنفسه فقال (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) .

7 / 2 : . جاءه الأمر الالهى بقتل الغلام . وهو ( موت الغلام ) أمر حتمى مقدر سلفا فى موعده ومكانه . ليس مقدرا للغلام أن يكبر ليكون خطرا على أبويه ، بل المقدر له الموت قتلا فى ذلك الوقت فى ذلك المكان . لذا فإن العبد الصالح بعد تنفيذ الأمر بالقتل يعبّر عن وجهة نظره من خشيته أن يكبر الغلام فيكون خطرا على ابويه ومن إرادته أن يرزق والدى الغلام بمن هو خيرا منه ، جاء هذا فى قوله : ( وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81)). 

7/ 3 : إقامة الجدار لحفظ كنز الغلامين اليتيمين كان أمرا لاهيا وإرادة إلاهية ، ولم يفعله العبد الصالح بأمره . قال : ( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)).

 هناك مجرم عادى يرتكب الجريمة وينسبها لنفسه . وهناك مجرم كافر فظيع يرتكب الجريمة ويزعم أنها إرادة الله جل وعلا متمسحا بها مبررا جريمته ، وهذا ما كانت تفعله الدولة الأموية ، وعرضنا لهذا فى بحث ( فلسفة الجبرية فى الدولة الأموية ) . وهناك ما هو أفظع هو ما يقوله الصوفية فى عقيدتهم ( وحدة الفاعل ) أى إن الله ـ تعالى عن ذلك ـ هو فاعل الشر والخير بلا تدخل من الانسان . وقد فصلناها فى كتاب الحياة الدينية بين الاسلام والتصوف الجزء الأول . وهناك الأكثر فظاعة هو أن ترتكب الجريمة وتعتبرها عبادة كما يفعل السنيون فى جهادهم وإغتصابهم وسلبهم ونهبهم تحت مسمى الجهاد.

مهما كانت التبريرات والمسوغات فإن الله جل وعلا يقول ( بل الانسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره ) أى أن كل انسان بينه وبين نفسه يستطيع ـ لو أراد ـ أن يتعرف على الصواب بعيدا عن التاويلات والتخريجات ..

الفصل السادس : بين موسى ومحمد عليهما السلام

 مقدمة :

جاء هذا التعليق من الاستاذة داليا سامى  تقول : ( (وقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ  ) .. نفهم من الايات ان نبي الله موسي قتل نفسا بريئة لان الله لم يقل بغير نفس ، ثم نفهم ان تلك الواقعه اورثت الهموم فى قلب النبي موسي فمن الله علية بالهدوء والارتياح .. لولا ان حضرتك قلت يا دكتور احمد ان القصص القرآني لا نستمد منها تشريعات ،  ولكن ما هي الا للموعظة والعبر لتساءلت اين دية القتل الخطأ ؟ واين تعنيف الله لنبية على التسرع والعجله التي اودت بحياة برئ !! وهل قتل النفس اهون من تجاهل اعمي !! التي عنف الله بها نبية محمد (عبس وتولي ان جاؤه الاعمي ) .؟ .. وأقول :

أولا :

1 ـ إن تشريع الدية فى القتل الخطأ جاء فى القرآن الكريم ، ولم يكن موجودا قبل ذلك ، ثم إن الفرعون كان يطبق شريعته الخاصة يذبح الأطفال ويسبى النساء . وكانت مشكلة الشاب موسى وقتئذ هى النجاة بحياته ، علاوة على أن هذا القتل الخطأ كان ضمن الأقدار المقدرة سلفا ، وله موقعه فى حياة موسى ، التى تنقسم الى مراحل متعاقبة : من أحضان أمه الى قصر الفرعون ـ النشأة فى قصر الفرعون ـ القتل الخطأ وهروبه الى مدين ، ثم عودته الى مصر . وفى عودته كلمه ربه جل وعلا عند جبل الطور ليرسله رسولا  لفرعون مهمته إرجاع بنى اسرائيل الى الأرض التى كتبها الله جل وعلا لهم . وقد قال له ربه جل وعلا  عند جبل الطور ، يشير  الى تلك المراحل بإختصار  : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنْ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) طه).

2 ــ إلا إن المهم هنا هو المقارنة بين نشأة موسى ونشأة محمد ، والتى يتضح منها الفارق بين العناية بموسى حين قتل نفسا ولوم محمد حين وعبس وتولى . وهذا هو موضوع هذا المقال .

ثانيا : الجذور الاجتماعية للأنبياء :

1 ـ من القصص القرآنى نعلم أن بعض الأنبياء كان ينتمى الى ( الملأ ) و ( علية القوم ) . وبعضهم مثل موسى كان ينتمى الى المستضعفين .

 النبى ( صالح ) عليه السلام كان ذا مكانة فى قومه ( ثمود )، وإحتجّ عليه كبار قومه بهذه المنزلة ، فقالوا له : ( يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) هود).

 النبى شعيب عليه السلام  فى ( مدين ) قال له المستكبرون الملأ من قومه : (  قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) هود ). أى بسبب عائلة أو أسرة أو ( رهط ) شعيب لرجمه الملأ . 

النبى ( محمد ) عليه السلام كان ينتمى الى بنى عبد مناف ، والذين تفرعوا الى  أسرتين قادتا مكة وقريش ، وهما ( بنو عبد شمس بن عبد مناف ـ ومنهم بنو أمية بن عبد شمس ) وبنو هاشم بن عبد مناف . والايلاف الذى تزعمت به قريش قبائل العرب كان يقوم على رعاية البيت الحرام وهذه وظيفة بنى هاشم بن عبد مناف ، وعقد محالفات مع القبائل العربية فى طريق القوافل فى رحلتى الشتاء والصيف ، والتى كان يقودها بنوأميه بن عبد شمس بن عبد مناف . كان محمد طفلا يتيما ولكنه كان من أسرة ينطبق عليها وصف ( الملأ ) . ولقد وقفت الى جانبه معظم أسرته تحميه بزعامة عمه أبى طالب ، حتى قاطعتهم قريش كلها . وتحملت أسرته هذه المقاطعة تعصبا لابنهم ( محمد ) عليه السلام .

يختلف الوضع مع موسى الذى كان ينتمى الى قوم يتسلى الفرعون بذبج أبنائهم ويسومهم سوء العذاب . هذا الفرعون الطاغية أرعب زوجته وجعل أميرا من أقاربه يكتم إيمانه خوفا .. فكيف بشاب ينتمى للقوم المستضعفين يعيش فى كنف الفرعون وتحت رحمته ؟ وكيف إذا كانت إمرأة فرعون نفسها التى تحميه هى التى ترتعب خوفا من فرعون وتدعو ربها تقول (  رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) التحريم )؟

2 ـ من القصص القرآنى نعلم وصف هذا الملأ بالاستكبار ، وطالما آمن المستضعفون فأولئك المستكبرون يكفرون : ( قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) الاعراف ).

وكان من حُجة المسكبرين من آل فرعون كيف يتبعون موسى وهارون وقومهما يعبدون الفرعون وآله : ( ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) المؤمنون )

3 ـ  ونعلم وصفهم بالمترفين ، وهم دائما يكفرون بالحق لأنه يهدد مكانتهم التى تكونت وترسخت بالظلم ، وأصبحت دينا أرضيا ، من الثوابت والتقاليد الاجتماعية المتوارثة وما وجدنا عليه آباءنا ، يقول جل وعلا فى حُكم عام : ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) سبأ ) وحدث نفس الحال فى قريش يقول جل وعلا : (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) الزخرف  ) لذا يجعلها رب العزة قاعدة عامة فيقول : (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) الزخرف )

4 ــ ومن القصص القرآنى نعلم تأفف الملأ من إتباع الحق لأن الحق بما فيه من عدل سيجعلهم على قدم المساواة مع المستضعفين . قالها قوم نوح لنوح عليه السلام ، يصفون المستضعفين المؤمنين بالأراذل: ( فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) هود  )، (  قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ (111) الشعراء ) . أى كيف يثقون فيه ويطمئنون اليه وأتباعه من الغوغاء . لذا طلبوا من نوح أن يطردهم من حوله حتى يؤمنوا له ويطمئنوا له ويثقوا به .

ثالثا : موقف الأنبياء  فى الانحياز للمؤمنين المستضعفين

1 ـ ومن القصص القرآنى نعلم رفض نوح عليه السلام طرد المؤمنين بل واجه قومه المستكبرين قائلا  يتحداهم : ( قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) الشعراء  ) وقال يجادلهم : ( وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنْ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمْ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِينَ (31) هود ) أفحمهم بالحجة فقالوا : (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ (32) هود ).

2 ـ نفس الحال مع شعيب الذى ( كان ) ذا مكانة فى قومه ، ولكنه لم يساوم  فى قضية المؤمنين المستضعفين معه ورفض الرجوع الى الدين الأرضى لقومه ودعا ربه أن يفتح بينه وبين قومه : ( قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) الاعراف )

3 ـ وكانت العادة بعد هلاك المستكبرين أن يتم نجاة النبى والمؤمنين المستضعفين .

رابعا : موقف موسى عليه السلام

1 ـ موسى الذى تربى على التوجس والخوف وسرعة الانفعال كان متعاطفا مع قومه المستضعفين الذين كانوا ضحية سهلة لأى فرد من قوم فرعون . كان عاديا أن يتسلط أى فرد من آل فرعون على بنى اسرائيل يضربه ، وهذا أول مشهد عاينه موسى حين دخل المدينة على حين غفلة من أهلها . نتدبر هذا الجزء من قصة موسى : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) كانا يقتتلان ، أحدهما يهاجم والآخر يدافع عن نفسه خشية القتل ، ورأى الضعيف موسى فإستغاث به ، فوكز موسى الطرف المعتدى فقتله . واستغفر موسى : ( قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17)).  تملكه الخوف بعدها وأخذ يترقب ويتوقع العقوبة ، وسار فى المدينة فوجد نفس الرجل المستضعف يتعرض للضرب ويستصرخ طالبا النجدة ، ونقرأ الآيات : ( فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ (19)). الرجل المستضعف يتوقع الشر ويعيش حالة دائمة من الخوف ، لذا بمجرد أن قال له موسى إنك لغوى مبين تصور أن موسى سيقتله هو فافشى سر القتيل فى اليوم السابق . والملآ الفرعونى طبقات ودرجات ، لذا وصل الأمر الى الملأ المحلى  فتآمروا على قتله ، وحذره رجل من أقصى المدينة ، فهرب :( وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) القصص ).

2 ـ جمع موسى بين الخوف والانحياز للمستضعفين من قومه . لم يكن له إختيار فى كونه من بنى اسرائيل ، ولم يكن له إختيار فى تنشئته فى قصر فرعون الطاغية . بعدها كان له الاختيار فى الانحياز للمستضعفين ضحايا فرعون أو أن يكون حسب نشأته ضمن ملأ فرعون وصاحب نفوذ فى القصر الذى تربى فيه . وحينئذ كان سيجد كل الترحيب . ولنتذكر أن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وإصبح من ملأ فرعون . ولا شك أن الفرصة كانت أسهل لموسى وهو ابن للقصر والأقرب الى سيد القصر . إلا أن موسى إختار الانحياز الى قومه فإختار أن يعيش وأن يعايش الخوف الذى يعيش فيه المستضعفون .  وتجلى هذا فى حادث القتل الخطأ الذى وقع فيه بلا قصد . كان من الممكن أن يساعد المعتدى ، أو أن يرفض مساعدة المستضعف الذى يستغيث به ، ولكنه فى لحظة إختيار فارقة تصرف بشهامة فقتل المعتدى دون قصد . لذا نجّاه الله جل وعلا من الغم : ( وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ ) . ( الغم ) شعور مركب من الخوف والقلق والندم والحزن . هذا ( الغم ) تملّك موسى بسبب وقوعه فى جريمة قتل لم يقصدها ، فأنجاه الله جل وعلا منه .

خامسا : إختلف موقف محمد عليه السلام فتعرض للتأنيب

1 ـ إختلف الحال مع خاتم النبيين محمد عليه وعليهم السلام . إختار بمحض إرادته التقرب للملأ ، فتعرض للتأنيب  . بل وعصى ربه مرارا ، نهاه ربه فى مكة مرتين عن طاعة الكفار ،( وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) القلم )( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) الانسان )  ثم نهاه مرة ثالثة فى المدينة عن طاعة الكفار والمنافقين قائلا له : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) الاحزاب )

2 ــ كان يتحرج من المؤمنين المستضعفين تقربا للملأ المستكبر ، فأمره ربه جل وعلا أن ( يصبر نفسه ) معهم أى أن يرغم نفسه على ذلك ، ونهاه فى نفس الوقت عن طاعة الملآ المستكبرين ، يقول له ربه جل وعلا : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) الكهف ).

3 ــ  لم يفعل ذلك ، بل كان يطردهم فقال له ربه جل وعلا  يحذره أن يكون من الظالمين : ( وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)) وأرشده الى البديل فى كيفية التعامل معهم إذا جاءوا اليه : ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) الانعام )

4 ــ فى هذا السياق الموضوعى  نفهم كيف قال عنه جل وعلا فى البداية يٌذكره : ( عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11)) .

أخيرا

لا نقصد إطلاقا تفضيل موسى على محمد عليهما السلام . التفضيل بين الأنبياء مرجعه لرب العزة فقط ، وهو جل وعلا العليم بهم.
وننبه الى أن خاتم النبيين حين كان ينزل عليه الوحى كان لا يزال حيا يسعى ، وكتاب أعماله كان لا يزال مفتوحا ، وتلك الانتقادات كانت فى مراحل مبكرة فى حياته نبيا . وجاءت موازية لآيات أخرى تمدحه ، والعادة أن الله جل وعلا يصف بالصلاح من مات من الأنبياء وقد تحددت درجته ومنزلته .  فالنبى فى حياته يدعو ربه أن يُلحقه بالصالحين ( ابراهيم ــ يوسف ، سليمان ) ثم جاء فى القرآن مدحهم كما فى سور الأنعام والأنبياء و الصافات والنحل . بل إن نبيا مثل يونس تعرض للنقد ثم جاء وصفه فيما بعد بالصلاح كما فى سورة القلم (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنْ الصَّالِحِينَ (50 )

ودائما : صدق الله العظيم .!!

 

الفصل السابع : ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) صدق الله العظيم

مقدمة :

جاءت هذه الرسالة من استاذة جامعية مثقفة محترمة ، أنقلها وأرد عليها : تقول : ( بعد أن قرأت المقارنة التي عقدتها بين موسى ومحمد عليهما السلام وبعد أن قرأت النصوص التي التي فيها تنبيه وتأنيب للرسول الكريم تعاملت مع هذه النصوص بالقبول والرضا ذلك أنها تثبت أن الكمال لله وأن أبناء ادم خطاؤون مهما كانوا . ولكن هناك من ينكر ذلك ويقول هذا لا ينسجم مع قوله  سبحانه وتعالى : "وأنك لعلى خلق عظيم" ولا تنسجم مع قوله سبحانه وتعالى : "وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين" . لذلك فسرت هذه الآيات بما ينفي تنبيه الله سبحانه للرسول الكريم ، فاحدى هذه التفاسير لسورة عبس يقول مفسروا الشيعة أنها نزلت تأنيبا لعثمان بن عفان فما رأيكم؟ ) . وهى فرصة لتوضيح عدة قضايا  ، ونرتبها كالآتى :

أولا : لا عوج فى القرآن الكريم :

1 ـ وصف رب العزة جل وعلا كتابه الكريم بأنه لا عوج فيه . قال جل وعلا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (1) الكهف   ) (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) الزمر).

2 ـ بتدبر القرآن الكريم يتأكّد الراسخون فى العلم أن القرآن الكريم لا عوج فيه ولا إختلاف برغم ما فيه من تفصيلات وتكرار . هذه التفصيلات وهذا التكرار لو كان فى كتاب من تأليف البشر لوقع فيه إختلاف كثير ، يقول جل وعلا : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)النساء )

3 ـ وعرضنا كثيرا لكيفية تدبر القرآن من داخل القرآن ، فالقرآن يفسر بعضه بعضا (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الفرقان ) وآياته مثانى ، أى يتكرر شرح الاية فى آيات أخرى فيكون بها القرآن الكريم أحسن الحديث (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ ) (23)الزمر ) ، وعليه يكون بيان القرآن بالقرآن ، وتكون آياته ( بينات ) بنفسها قد بينها رب العزة فى داخل القرآن ، بحيث لا يحتاج الأمر سوى التلاوة وعدم الكتم ، يقول جل وعلا يتوعد من يكتمون الحق القرآنى المبين الواضح بيانه بنفسه : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) البقرة) .

وليس الأمر عسيرا فى التدبر القرآنى ، لأن مصطلح ( التدبر ) يحوى فى داخله منهج التدبر . أى أن تسير فى ( دُبُر ) الآية أى خلفها ، أى تكون الآية القرآنية ( أمامك ) بالهمزة المفتوحة أو ( إمامك ) بالهمزة المكسورة ، تبحث الموضوع بلا هوى شخصى أو رأى مسبق تحاول إثباته ، أى تتعرف على مفهوم الكلمة القرآنية من داخل القرآن ، ثم تتبع سياقها المحلى قبل الاية وبعدها فى نفس السورة ، ثم تتبع سياق موضوعها فى القرآن الكريم كله ، وبعد تجميع الايات تفهمها معا ، لو كان فيها متشابه سترى آيات أو آية محكمة تحكم غيرها من الايات المتشابهة ، وفى النهاية تصل الى رأى قرآنى فى الموضوع الذى تبحثه .

ثانيا :أعداء القرآن يبغون القرآن عوجا .

1 ـ هذا التدبر هو ما يقوم به الراسخون فى العلم القرآنى ، أما غيرهم فلهم منهج آخر ، يقول جل وعلا : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (7) آل عمران  ). من فى قلوبهم زيغ يدخلون على القرآن الكريم بهذا الزيغ ، يغيرون مفاهيم ألفاظه ، ويلوون معنى الآية لتوافق هواهم ومعتقداتهم وأحاديثهم ، ويتجاهلون الآيات الأخرى التى تتناقض مع هواهم ، فيقسمون آيات القرآن تبعا لأهوائهم وبالتالى ينطبق عليهم وصف الرحمن بأنهم ( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)الحجر ). وموعدهم مع رب العزة يوم الحساب : (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)الحجر ).

2 ـ هؤلاء ( المقتسمون ) هم الذين يصدون عن القرآن الكريم ـ وهو سبيل الله جل وعلا ـ  يبغونه عوجا ، وهو الذى لا عوج فيه .! . وصفهم رب العزة جل وعلا بالكفر والضلال البعيد ، وتوعدهم بعذاب شديد   يقول جل وعلا  لهم فى هذه الدنيا مقدما : ( وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3)ابراهيم ).

ويوم الحساب سيأتى الأشهاد من ( أهل القرآن ) يشهدون عليهم وعلى أحاديثهم الضالة وعلى تكذيبهم بآيات الله القرآنية وعلى صدهم عن سبيل الله القرآنى ومحاولتهم جعله عوجا مستخدمين نفوذهم الدنيوى وتصورهم أنهم معجزون فى الأرض . فى هذا يقول جل وعلا : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمْ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ (22)هود ). وبعد دخول اهل الجنة الجنة ودخول أصحاب النار الى النار ينادى أصحاب الجنة أصحاب النار : ( أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ(45)الاعراف ). التأكيد وقتها بهذا المؤذن بأن الظالمين الملعونين هم الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا لأنهم إستحبوا الحياة الدنيا ومن أجلها كفروا بالآخرة .

هل تريد أن ترى أمثلة لهؤلاء .. هم آلاف من دعاة الأديان الأرضية يتزاحمون فى القنوات الفضائية والمواقع الاليكترونية ، يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ، وخلفهم طُغاة ينفقون أموالها ليصدوا عن سبيل الله ، فسينفقون تلك الأموال ثم تكون عليهم حسرة ، يقول جل بأسلوب المضارع يُنبىء بما حدث ويحدث الآن : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)الانفال ).

3 ــ هؤلاء الذين يصدون عن سبيل الله ويتخذونها عوجا هم انفسهم الذين يسعون معاجزين فى آيات الله القرآنية ، توعدهم رب العزة بالجحيم فقال : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)الحج )، وتكرر هذا مرتين فى سورة سبأ ، بأسلوب الماضى : ( وَالَّذِينَ سَعَوْفِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) ) والفعل المضارع للتأكيد على أنه عادة سيئة مستمرة  فقال جل وعلا :( وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38)سبأ ).

4 ـ ومن مظاهر سعيهم فى آيات الله معاجزين وصدهم عن سبيل الله يبغونها عوجا تلاعبهم بقوله جل وعلا : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) وقوله جل وعلا : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).

ونتدبرهما قرآنيا .

ثالثا :  (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) :

1 ـ كلمة ( خُلُق ) جاءت مرتين فى القرآن الكريم ، بمعنى ( الدين ) . والدين نوعان : دين الله الحق الذى يعبر عنه القرآن الكريم ، والدين الأرضى الباطل الذى يعبر عن الثوابت والتراث والسلف وما وجدنا عليه آباءنا .

2 ـ فى قصة قوم (عاد ) مع رسولهم ( هود ) عليه السلام ، دعاهم الى تقوى الله جل وعلا فقال : ( أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) ، وإستمر فى وعظهم فقالوا له :  (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ (137)الشعراء )، أى مهما وعظهم  فهم مستمسكون ب( خُلُق ) الأولين ، أى دين الأولين ، أى ما وجدوا عليهم آباءهم والسلف (الصالح ) عندهم .

3 ـ قبلها جاءت كلمة (خُلُق ) وصفا للقرآن الكريم الرسالة الالهية الخاتمة لدين الاسلام ، دين الحق .فى اوائل ما نزل من القرآن يُقسم رب العزة بالقلم وما يسطّره القلم بأن خاتم المرسلين ليس مجنونا حين نزلت عليه نعمة ربه ، وهى القرآن الكريم ، وأنه عليه السلام بهذه النعمة القرآنية على خُلُق عظيم ، اى على الدين العظيم ؛ الاسلام العظيم . يقول جل وعلا : ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)). وبعدها تتوالى الايات عن الكافرين ممن يتهم الرسول بالجنون لأنه نزلت عليه نعمة القرآن ، بأن الزمن قادم ليُثبت من هو المفتون وأن الله جل وعلا هو الذى يعلم الضالين والمهتدين ، وينهى رب العزة رسوله عن طاعة المكذبين للقرآن الكريم النعمة الكبرى ، يقول جل وعلا : ( فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمْ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعْ الْمُكَذِّبِينَ (8)... القلم ) .

4 ـ أى إن قوله جل وعلا : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍلا تعنى ( الأخلاق ) ولكن الدين العظيم الذى هو القرآن الكريم والدليل هو وصف القرآن الكريم بأنه نعمة الله جل وعلا على رسوله : ( مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)).

5 ـ ونتوقف هنا سريعا لمعنى كلمة  ( نعمة ) فى القرآن الكريم، ونقول :

5 / 1 : لا يمكن أن نُحصى كل النعم الالهية : ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)ابراهيم )(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)النحل )

5 / 2 ـ من نعم الله جل وعلا الكتب السماوية ، ومنها ما نزل على بنى اسرائيل ، وقد توعّد الله جل وعلا من يبدل نعمة الله بالتحريف والتخريف فقال : (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)البقرة ). وتكرر هذا فى قوله جل وعلا :  ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)ابراهيم ). وهى آيات تنطبق على المحمديين اليوم بالذات ، ونراها تتحقق فى بوار ديار المحمديين .!!

5 / 3 : جاء وصف القرآن الكريم بالنعمة فى أوائل ما نزل فى مكة ، فى سورة القلم ( مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)) ، وفى الأمر بنشر القرآن الكريم نعمة الله جل وعلا بالتحدث به : ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)الضحى ) . ثم فى أواخر نزول القرىن الكريم بعد أكمل الله جل وعلا دينه وأتم نعمته ورضى لنا الاسلام دينا : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)المائدة ).

المستفاد أن الخُلُق العظيم هو دين الله العظيم وكتابه الكريم. ولا علاقة لذلك بالأخلاق فى مصطلحاتنا .

رابعا : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)

1 ـ فى حياته عليه السلام كان رحمة للمؤمنين من حوله ، وصفه جل وعلا فقال : ( يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ)(61)التوبة  ) وقال أيضا :( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)التوبة ). كان عليه السلام يعيش فى إطار الزمان والمكان المحيط به ، وهو إطار محلى مؤقت ، وانتهى هذا بموته عليه السلام . ولكن القرآن الرسالة الخاتمة بعده هى الرحمة المستمرة الى قيام الساعة ، وهذا معنى قوله جل وعلا :( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)الانبياء ). أى أرسلناك بالقرآن الكريم بالرسالة الالهية المحفوظة من لدن رب العزة رحمة للعالمين فى كل زمان ومكان بعد موتك . لو كان المقصود ب ( رحمة للعالمين ) هو شخص محمد لاستلزم هذا أن يُقال ( وما أنت إلا رحمة للعالمين ) ولاستلزم هذا أن يظل محمد حيا لا يموت وأن يكون موجودا فى كل مكان يوجد فيه البشر والجن من كل العالمين . هذا يعنى كون محمد إلاها مع الله . ولا إله إلا الله ، فهو وحده الحى الذى لا يموت .

2 ـ وكما أنه عليه السلام مُرسل بالقرآن رحمة للعالمين فهو أيضا مرسل بالقرآن نذيرا للعالمين ، يقول جل وعلا : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً (1)الفرقان ). القرآن مُتاح لمن أراد الهداية والرحمة ، والحرية متاحة ايضا لمن حاول الصّدّ عن سبيل الله ، والله جل وعلا يتوعدهم مقدما ويقول : (  إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) فصلت ) .

3 ـ الرحمة من صفات الكتاب السماوى ، قبل القرآن الكريم . قال جل وعلا عن الألواح التى تسلمها موسى :( وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)الاعراف )،أى هى هدى ورحمة للمتقين، وتكرر هذا فى قوله جل وعلا : ( وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً)(17)هود )( وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً ) (12)الاحقاف )( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)القصص )

( ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)الانعام ).

4 ـ تكرر وصف القرآن الكريم بالرحمة والهدى لمن شاء الهدى ورغب فى رحمة الله جل وعلا : (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)الدخان )(هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)الجاثية ) ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)يونس ) (مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)يوسف  )( وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)النحل ) (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) النحل  )( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77)النمل )( الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)لقمان ) ( وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)الاعراف ).

5 ـ وكما يكون القرآن شفاءا ورحمة للمؤمنين به يكون أيضا للظالمين خسارا ، يقول جل وعلا :  (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً (82)الاسراء ). والخسارة هى فى الدنيا قبل الآخرة . وانظر ما يحدث الآن فى بلاد المحمديين الذين أعرضوا عن كتاب الله فعاشوا فى ضنك برغم ثروات البترول .

أحسن الحديث :

يقول جل وعلا : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) طه)

ودائما : صدق الله العظيم .!!

كتاب ( الخضر بين القرآن الكريم وخرافات المحمديين )
هذا الكتاب
بدأ الأمر بسؤال من استاذة جامعية قرآنية عن قتل العبد الصالح للغلام فى قصة موسى ، فكتبت مقالا بعنوان ( وما فعلته عن أمرى ) ، ثم توالت أسئلة فتوالت المقالات تحت عنوان ( تدبر قرآنى فى قصة موسى والعبد الصالح ) . ثم جاءت فكرة متابعة الموضوع ، ليكون كتابا عن الخضر بين القرآن الكريم وخرافات المحمديين . يكون فيه ما سبق نشره من المقالات هو الباب الأول من الكتاب . ثم يكون الباب الثانى عن صناعة اسطورة الخضر فى العصر العباسى الثانى بين السنيين والصوفية ، ثم تطور هذه الصناعة للخضر فى العصر المملوكى فى الباب الثالث ثم فى العصر العثمانى فى الباب الرابع . ثم الخاتمة.
more