رقم ( 10 ) : القسم الثانى : قراءة فى مقدمة ابن خلدون
الفصل الثاني : مدى تأثر إبن خلدون بعصره في المقدمة منهجيا وموضوعيا

 

 ( ق 2 ف 2 )  ابن خلدون والمنهج القرآنى

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

مقالات متعلقة :

الفصل الثاني :  مدى تأثر إبن خلدون بعصره في المقدمة منهجيا وموضوعيا

 التأثر المنهجى  : ابن خلدون والمنهج القرآنى

  لمحة                    

1 ـ    ساد التصوف عصر إبن خلدون بحيث زال التعارض الحاد الذي كان محتدما بين الفقهاء والمحدثين من جانب والصوفية من جانب آخر، خصوصا بعد هزيمة إبن تيمية وصحبه في القرن الثامن الهجري . ومن ناحية أخرى فإن التقليد العلمي الذي أرساه التصوف ساعد على تقديس أئمة الفقه والحديث في عصور الإزدهار بالإضافة إلى تقديس الصحابة رواة الأحاديث ، ولايزال هؤلاء وأولئك حتى الآن يتمتعون بالتقديس والحصانة من النقد ، ولم يكن مستغربا أن يحظى جميعهم بالتقديس برغم ما كان بينهم من إختلاف سياسي وعقيدي ومذهبي ، سواء كانوا من الصحابة ، أو من الأئمة الفقهاء والصوفية وعلماء الحديث . لم يكن ذلك مستغربا لأن العصر أعطى العقل الناقد أجازة مفتوحة ، وعكف على التقليد الأعمى المذهبي ، لذلك كان معتادا في مناهج التعليم في الخوانق والأربطة والزوايا والمساجد تدريس التصوف مع الحديث والفقه ، وحفظ المؤلفات في هذا وذاك ، وهى – أي المؤلفات – عبارة عن شروح وملخصات ومتون ، تعيد إنتاج مخلفات الفكر السابق بصورة تزداد ضحالة وإسفافا في كل مرة .

2 ــ     وكان قدر إبن خلدون أن نشأ في شمال أفريقيا (تونس) وتنقل بين المغرب وتلمسان والأندلس قبيل نكبتها . وتردد في المقدمة وصفه لموطنه بالتأخر الثقافي والعمراني والحضاري بالمقارنة بمصر والمشرق . أي أنه نبت ونشأ في أكثر المناطق تخلفا ، وكان منتظرا منه – إذا كان شخصا عاديا – أن تتقاصر قامته العلمية أمام العلماء المصريين والمشارقة الوافدين إلى مصر ، ولكن حدث العكس ، وهذا في حد ذاته أكبر شاهد على عبقرية إبن خلدون وتفرده في عصره .

3 ــ     إلا أن هذا لا يعني أن إبن خلدون تمرد على عصره وأسس مشروعا فكريا متميزا . لم يحدث ذلك مطلقا على يد إبن خلدون ولا على يد غيره إلا حين بدأ محمد عبده في عصرنا الحديث ذلك المشرع الفكري في القراءة النقدية للتراث ( الصوفي والسلفي ) وناء بحمله ، وجاء تلميذه رشيد رضا فأجهض ذلك المشروع التنويري لصالح الفكر السلفي الوهابي ، ثم كان قدر كاتب هذه السطور أن يبنى على مشروع محمد عبده ليؤصل إسلاميا وتاريخيا التيار الفكرى القرآنى الاصلاحى فى مواجهة الوهابية وبقية أديان المحمديين الأرضية .

4 ــ     والمهم أن إبن خلدون كان في تناسق مع أساسيات المنهج الفكري السائد في عصره ، لم يتمرد عليه ، إلا أن عبقريته برزت بين السطور في شذرات هنا وهناك . ثم ظهرت جلية واضحة في مجال علم جديد إبتكره ، وهو علم العمران- الإجتماع  - وسار في ذلك العلم الجديد بدون أن يصطدم بالثوابت المقدسة لعصره ، ولذلك نجا من التكفير واتهاماته ومحاكماته، والتي كانت عادة سيئة في العصر المملوكي .  

5 ــ وأساسيات المنهج الفكري في العصر المملوكي دارت حول  نقيضين ، جعلهما التقليد العلمي صديقين ، وهما التصوف والسنة ، أو ( التصوف السنى ) الذى قام الغزالى بتقعيده وقام صلاح الدين الأيوبى بفرضه فى حربه ضد التشيع  . ففي القرن الثالث الهجري كان أرباب الحديث وأولياء التصوف في شقاق إلا أن الصلح الذي عقده الغزالي في القرن الخامس بينهما أثمر عن التقليد والتقديس، فاصبح العصر المملوكي يقلد ويقدس هؤلاء وهؤلاء ويدرس هذا وذاك ، ويلتزم بعدم الإعتراض على شيخيه الصوفي والفقهي وأئمة عصره والعصور السابقة . ولم يخرج إبن خلدون عن هذا الإطار . هذا بالاضافة الى تقديس الصحابة ـ مع ما حدث بينهم من حروب أهلية يُطلق عليها تأدبا ( الفتنة الكبرى ).

6 ــ    ونحاول هنا أن نحدد موقع عقلية إبن خلدون من خلال المناهج الفكرية لنتعرف إلى أي حد إلتزم بمنهج عصره ، ثم بعد المنهج نسير مع القضايا الأساسية في المقدمة .

أنواع ثلاثة للمناهج الفكرية

1 ـ    وقد عرضنا للمنهج الفكري القرآني وعرفنا أنه يقوم بالنسبة لعالم الشهادة ( العالم المادى الطبيعى المُشاهد )على البحث التجريبي ، وبالنسبة لعالم الغيب على أساس الإيمان بالغيب المذكور في القرآن وحده ، واعتبار ما عداه خرافة . وعرفنا أن فكر الحضارة العربية الإسلامية سار على المنهج اليوناني في مرحلتيه ، المرحلة العقلية النظرية الأرسطية التي تهمل التجربة العملية وتفسر من خلال العقل النظري والمنطق الصوري عوالم الغيب والشهادة ، ثم إنتهت إلى لا شئ فيأتي البديل الأسوأ ، وهو المنهج الإشراقي القائم على العلم اللدني بزعم أن الرياضيات الصوفية ترفع الحجاب فتشرق الأنوار الإلهية ويفيض العلم اللدني ، ومن خلاله يأتي الغيب ومفاتيح العلوم .. وهذا هو الصفر الذى وصلت إليه الحضارة  (العربية الإسلامية) في العصر المملوكي حيث تسيد التصوف وسيطر على العقل والعلم والتعليم والسياسة والمجتمع.

2 ـ     فأي منهج من هذه المناهج اتبع إبن خلدون في المقدمة : المنهج القرآني ، أم العقلي الأرسطي ، أم الصوفي ؟

المنهج القرآني لدى إبن خلدون

1 ـ    بالنسبة للمنهج القرآني نجده غائبا عن ذهنية إبن خلدون . فمع أنه – شأن السيرة العلمية المعتادة في عصره – حفظ القرآن منذ الصغر ، وتعلم القراءات القرآنية ، إلا أن هذه النوعية من التعامل مع القرآن هي في نظرنا المسؤولة عن الإبتعاد عن المضمون القرآني ومنهجه الفكري ، إذ إنصب ذلك التعامل على الشكل في القراءات والإعراب مع فهم نصوص الآيات من خلال آراء المفسرين وروايات النزول . وفق ما هو سائد حتى الآن في مناهج الأزهر العقيمة.

2 ـ     إلا أن حالة إبن خلدون كانت فريدة في بابها . إذ يبدو واضحا ذلك التباعد بينه وبين  القرآن ويتجلى هذا في عدة مظاهر منها :

2 / 1 : -- أنه لايجيد الإستشهاد بالآيات القرآنية بحيث يأتي بآية بعيدة الصلة عن الموضوع ، فتراه مثلا يتحدث عن ضرورة السعي للرزق ، والمتوقع أن يستشهد بقوله تعالى " فَامْشُوا  فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ  : الملك 15 " وذلك ما يردده أي خطيب متواضع على المنبر ، إلا أن إبن خلدون يستشهد بآية أخرى هي قوله تعالى "فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ [1]   العنكبوت 17  "  وهذه الآية جاءت في خطاب إبراهيم عليه السلام لقومه المشركين الذين تركوا عبادة الرازق ولجأوا لغيره ، فالإستشهاد هنا ليس في محله ، وإن كان قريبا بعض الشئ من الموضوع .

وفي موضع  آخر يدعو إلى عدم  البحث في الأسباب أو مظاهر الطبيعة ويستشهد بقوله تعالى "   ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [2] . الأنعام 91" وهذا إستشهاد ليس في محله وبعيد تماما عن الموضوع ، لأن الآية لا تتحدث عن  ترك الأسباب وتجاهل البحث في مظاهر الطبيعة ، ولكنها تتحدث عن تجاهل بني إسرائيل للتوراة .

بل قد يأتي أحيانا باستشهاد قرآني يتناقض تماما مع مقصده مما يدل على إبتعاده التام عن مضمون الآية ، فقد دافع عن الأدارسة وانتسابهم للأشراف العلويين ، وقال إنه يجادل عنهم في الدنيا ليجادلوا أي يدافعوا عنه في الآخرة . واستشهد بقوله تعالى "هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة [3].النساء 109" مع أن هذه الأية وما قبلها  وما بعدها تنفي شفاعة النبي وتؤكد أن أحدا لايستطيع الجدال عن أحد يوم القيامة .    

2 / 2 :  وعموما، فإن إستشهاداته القرآنية في المقدمة ضيئلة ، ونفتقد تلك الإستشهادات حين نراه يتحدث بعقلية ناضجة عن مظاهر إجتماعية ويقول رأيا سديدا ، ويستطيع أن يستشهد بالقرآن ويستزيد منه علما وبحثا ولكنه لايفعل . لأن القرآن فيما يبدو غائب عن  منهجه الفكري وتفصيلاته البحثية ، وعلى سبيل المثال تراه يتحدث كثيرا عن أثر الترف والظلم في سقوط الدولة [4]  ويستشهد بآية وحيدة ، وهي " وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً : الإسراء 16 " ويتجاهل تفصيلات القرآن الأخرى في الحديث عن أثر الظلم والترف في إهلاك الأمم ، ويتجاهل العنصر الآخر وهو أن هذا الترف يعني تكدس الثروة لدى أقلية يجعلها هذا التكدس تقع في الترف والسرف ، بينما تكون الأغلبية جائعة محرومة مما يجعل المجتمع يتفجر من الداخل . وهذه حقائق قرآنية وتاريخية كان بإمكان إبن خلدون أن يرصع بها المقدمة إذا كان القرآن في بؤرة شعوره .

2 / 3 :  إلا أنه من الواضح أنه كان بمعزل عن حقائق القرآن حتى ما كان منها معروفا ومفهوما ، بدليل أنه يجعل من خصائص النبوة أن يكون النبي ذا منعة في قومه [5] ، أي يكون عزيزا بعصببيته وأسرته ، ويتناسى قصص الأنبياء في القرآن واستطالة المشركين على النبي والمستضعفين الذين اتبعوه إلى درجة أن يأتي  الإهلاك للأمم السابقة ونجاة النبي بمن اتبعه ، وينسى قول لوط لقومه "  قَالَ يَا قَوْمِ هَـؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ." قال ذلك حين اقتحموا عليه داره يريدون إغتصاب ضيوفه ، ثم قال لهم يائسا عاجزا"  قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ: هود78 : 80" كما يتناسى قول مشركي قريش عن خاتم النبيين {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ . الزخرف 31 } ومقياس العظمة لديهم هو الجاه والمال والنفوذ أي المنعة والعصبية في لغة إبن خلدون ، وهذا ما لم يكن متاحا للنبي في مكة ، ولذلك تعرض مع أتباعه للأذى واضطر للهجرة بهم إلى المدينة . وتلك حقائق قرآنية وتاريخية كان أولى بإبن خلدون أن يعتبرها .

 3 ـ    ولو كان المنهج القرآني حاضرا في ذهنية إبن خلدون ما وقع في هذه الأخطاء وأخطاء كثيرة أخرى ، وعليه فقد كان إبن خلدون إبن الفكر السائد للحضارة( العربية الإسلامية ) في ذلك التجاهل للمنهج الفكري القرآني .

 ويبقى بعد هذا أن نبحث عنه في منهجي حضارتنا ، المنهج العقلي الأرسطي ، والمنهج الصوفي ، أين كان موقعه فيهما .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 ( ق 2 ف 2 ) مدى تأثر إبن خلدون بعصره منهجيا :ابن خلدون بين المنهج العقلى والصوفى  

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الثاني :  مدى تأثر إبن خلدون بعصره في المقدمة منهجيا وموضوعيا

 التأثر المنهجى  : العقلى و الصوفى

                                                      المنهج العقلي النظري وإبن خلدون

1 ـ كما سبق فقد صادر التصوف ذلك المنهج العقلي الفلسفي النظري الأرسطي لصالح النظرية  الأفلاطونية الإشراقية التي تتركز في العلم اللدني . ولكن عقلية إبن خلدون ودراسته للمنطق والعلوم العقلية وتعرضه لهذه العلوم في المقدمة – كل ذلك يفرض علينا أن نتحسس إلى أي مدى تأثر إبن خلدون بالمنهج العقلي النظري الذي لم يعد موجودا في عصره . .

وهنا نضع بعض الملاحظات :

(1) إن المنهج السائد في المقدمة هو الإتجاه الإشراقي الصوفي يبدو هذا في تقسيم إبن خلدون للعلوم إلى نوعين ، طبيعي يقوم على العقل " دون التجربة وفقا لما ساد في المنهج العقلي النظري " والنوع الآخر هو العلوم النقلية ، ويؤكد إبن خلدون على أنه لا مجال في هذه العلوم للعقل ، ولكن بالتسليم والإيمان.[6]

 ثم تراه يدعو إلى عدم البحث في الأسباب ، أي في مظاهر الطبيعة لأنه يستحيل الإحاطة بالكائنات ، لذا يكفي الإعتقاد بما أمر به الشرع ، كما أنه لا مجال أيضا للعقل أو التعقل في أمور التوحيد واليوم الآخر [7]، باختصار لا مجال للعقل في عالم الشهادة كما أنه لا مجال له أيضا في عالم الغيب ، والبديل هو العلم اللدني ، ومنه جاءت علوم الصوفية أو  بمعنى آخر خرافاتهم عن الله تعالى والأنبياء وعوالم الغيب .

    (2) إلا أن عقلية إبن خلدون كانت أحيانا تتغلب على منهجه بين السطور ، خصوصا حين يواجه المنطق ، وكان علم المنطق مكروها في عصره ، لذا تراه في نقد المنطق الصورى يقترب من الحقيقة حين يقول أن صناعة المنطق تقع في الخطأ بسبب ما فيها من تجريد وإبتعاد عن  الواقع ، وأن الواقع يخالفها عند التطبيق [8]  ، وقد يقترب بعقله المجرد إلى حقيقة نظرية لا تحتاج إلى تجربة ، فيثبتها بين سطور المقدمة ، كقوله بأن الإدراك الحسي يؤثر في إستقبال الأحلام ، ويستشهد بأن الأعمى لا يرى في المنام إلا ما يتناسب مع طبيعة مدركاته ، فلا يرى الألوان ، وكذلك الأصم  [9] لا يتخيل مدركاته في الأحلام ما يتناسب مع الأصوات ، وأحيانا تأتي التجربة الحياتية لإبن خلدون بآراء صائبة في العلوم النظرية ، كقوله أن العلماء بين البشر ابعد الناس عن السياسة ومذاهبها ، ويقصد أهل النظر السطحي المنحازين للقياس المنطقي البعيد عن الواقع لأن السياسة تقوم على الواقع ، وكذلك أحكام العمران [10].

    وأغلب إجتهاداته الصائبة تنتمي إلى هذا النوع من الفكر النظري القائم على تدبر أحوال العمران والمجتمعات وتطورها التاريخي ، بالإضافة إلى خبرته العملية السياسية ، وربطه العقلي الصائب بين الجغرافيا والتاريخ من خلال خبرته الثقافية بالعالم الإسلامي . إلا أنه عندما يدخل بعقله النظري إلى غير مجاله يقع في أخطاء ، وهذا موضوع الملاحظة الثالثة .

  (3) ذلك أن إبن خلدون تعرض في المقدمة لمجالات العلم الطبيعي ، أو عالم الشهادة التي ينبغي أن نبحثها بالسير في الأرض والتجربة العملية ، وليس منتظرا منه بأي حال أن يفعل ذلك ، لأنه ضد منطق عصره ، كما أنه ضد تخصصه العلمي  كمؤرخ وباحث نظري . ولانتوقع منه على أي حال أن يصحح أخطاء السابقين من علماء فترة الإزدهار الفكري في بحثهم للأمور الطبيعية . إلا أننا كنا نتوقع منه أن ينقل عنهم أفضل ما كتبوا ، وهذا ما لم يفعل ، ونعطي لذلك عدة أمثلة .

   ( أ) ففي الكيمياء أهمل الجهد العملي لجابر بن حيان في التبخير والتقطير والإذابة ، وركز على أوهام تحويل المعادن إلى ذهب وفضة عن طريق الكرامات .

  (ب) وفي الجغرافيا إكتفى بالنقل عن المسعودي مع إعترافه بما في كتابه من خرافات تولى هو بنفسه الرد عليها أحيانا ، وكان يخطئ في النقد ويصيب ، إلا أنه تجاهل البيروني أعظم عقلية عربية جغرافية ، وخصوصا كتابه " تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن " والذي كتبه في مدينة  غزنة سنة 416هـ . وربما لم يتيسر لإبن خلدون أن يطلع على أهم الكتب الهامة في الجغرافيا والعلوم الطبيعية والفلسفية وينقل عنها ، وربما وجد كفايته في كتب الأدريسي والمسعودي وغيرهما .. إلا أنه من الواضح أنه قرأ رسائل إخوان الصفا وتأثر بها . وبذلك ندخل على قضية أخرى تتعلق بما أشيع عن إنتحاله للمقدمة وتأثره البالغ بإخوان الصفا ، وهذه قضية  لا تبتعد بنا كثيرا عن موقف إبن خلدون من المنهج العقلي النظري .

   (4) من الواضح أن إبن خلدون نظر في رسائل إخوان الصفا ، وتأثر بهم ، ولكن هذا التأثر تراوح بين درجة الصفر حين لم ينقل شيئا عنهم في موضوع الجغرافيا مكتفيا بالإدريسي والمسعودي لأنهما الأقرب إلى عقليته ، وبين التأثر بهم حين ينقل عنهم شيئا يتفق مع مزاجه الشخصي مثل الحديث عن علم الغيب ، ثم كان يتجاهل ما يخالف وجهة نظره ، فقد جعلوا الخدمة من أوجه المعاش ، ولكن إبن خلدون يؤكد في فصل كامل على أن الخدمة ليست من وجوه المعاش ، ويؤكد ذلك بما يشبه الإستنكار ، ولكن في كل الأحوال فإن عبقرية إبن خلدون في المقدمة لا تتجلى في النقل من هذه الموضوعات أو إختراعها ، ولكن في إختراعه لعلم العمران ، وهذا ما أكد عليه في إفتتاحية المقدمة .

 ونقول بعد دراسة نقدية للتراث العربي الإسلامي أن إبن خلدون على حق في هذا الإدعاء ، صحيح أن هناك بعض البدايات جاءت في بعض المصادر الأولى ومنها رسائل إخوان الصفا عن حاجة الإنسان للتعاون وأثره في إزدهار الصنائع ومراتب الصناعات والغرض من الملك وأنواع العلوم [11] ، ولكن ما جاء به إبن خلدون هو تصور علمي كامل لعلم جديد ، بمنهج متكامل ، وقد سار فيه على وضع القواعد وتفسيرها تاريخيا ، وتفسيراته من واقع خبرته التاريخية ومتسقة مع تاريخه المكتوب – في الأغلب – ومتسقة أيضا مع شواهده ، وأغلبها أتى بها من ظروف موطنه شمال افريقيا ، وواضح أن تجربته السياسية العميقة قد أسهمت في صياغته لهذا العلم ، أي جمع بين التجربة السياسية والقراءة التاريخية والنظرة التأملية .

 ومن الطبيعي أن ينقل ثقافة عصره ، وأن يتاثر بمنهج عصره ، وإذا كان هذا المنهج عقيما يصادر إمكانية الخروج على العصر ، فإن عقلية إبن خلدون إستطاعت أن تتحرر من هذا التقليد الأعمى حين اختارت جانبا هادئا هو ( علم العمران ) تنطلق فيه وتبدع ، وإن ظلت حريصة على عدم الخصومة مع عصرها ، ولذلك هادنت أو سالمت الخرافات الصوفية والتراثية المقدسة وانصاعت لها . فقد كان ذلك منهج العصر .. المملوكي ، وهذه هي المحطة الأخيرة .

منهج إبن خلدون الصوفي

ونقصد بذلك إنحياز إبن خلدون لتفكير عصره ومنطق العلم اللدني الصوفى في التفسير والفهم ، وإن كان ذلك لم يؤثر على جوهر فكرته عن علم العمران ، وقد نجت بذلك تفسيراته التاريخية لتطور المجتمعات في الأغلب ، ولهذا كان أغلبها صالحا لعصرنا الراهن، أما ما تعرض منها للتأثر بالتصوف وسلبياته فقد كان صادقا فقط في التعبير عن ثقافة عصر إبن خلدون ورؤيته للمجتمع والفكر الديني والسياسي . وقد قلنا فيما سبق أن التصوف حين سيطر وقام بإجهاض الحركة العلمية وتعقيمها وأرسى التقليد . وهذا  التقليد السائد بديلا عن الإبتكار هو الذى آخى بين التصوف ومنهجه الذوقي الهوائي وبين علوم شديدة العداء للتصوف  كالفقه والحديث . وهذا هو المنهج السائد في مقدمة إبن خلدون في مجالات التصوف والعلوم الشرعية ، بل حتى ما يتصل بها من مناطق تشابكت مع علم العمران – الإجتماع . وفيها تمسك إبن خلدون بالتسليم والإيمان وأعطى عقله العبقري أجازة ، بل ودعا الآخرين بأسلوب عاطفي مسكين ليفعلوا مثله .

وهنا نتوقف مع  منهج إبن خلدون الصوفي التسليمي في مقدمته : .

1  :    بالنسبة للتصوف نراه يعتبر شيوخ التصوف المذكورين في  الرسالة القشيرية هم العلماء ورثة الأنبياء ، وفي موضع آخر يصف طريق التصوف بأنه طريق الهدى ، وفي إطار حديثه عن التصوف والغيب يتحدث عن المجاذيب من واقع الإعتقاد في كراماتهم وعلمهم بالغيب ، وقد إخترنا هذه المحطات السريعة عن التصوف في المقدمة لأنها تؤكد أن إبن خلدون قد أهمل عقله تماما ، ذلك أن من يريد الهجوم على التصوف وعقائده وشيوخه لن يجد أفضل  من الرسالة القشيرية لكي يستشهد بها ، وذلك بشرط وحيد ، هو أن يقرأها بعقله وبمنهج موضوعي لا مجال فيه لمحاولات التبرير وعواطف التقديس والتأويل . أي أن إبن خلدون إذا قرأ الرسالة القشيرية فهو بالتأكيد لم يقرأها بعقله ، وإنما بعواطف التسليم والإذعان . وقد دعا القارئ في حديثه عن علم التصوف إلى التسليم بالصوفية وتبرير شطحاتهم وتأويلها .

  وفي المقابل فإن إبن خلدون إستخدم عقله إستخداما سيئا لكي يقنعنا بأن في المجذوب شيئا إلاهيا يتمكن به من الكشف عن الغيوب، واستخدم نفس الطريقة العقلية لكي يدافع عن مظاهر صوفية أخرى تدور كلها حول العلم اللدني للأولياء الصوفية والأئمة الشيعة ، وتراه يحس بضعف حجته العقلية فيلجأ إلى الأسلوب العاطفي ، كما فعل في دفاعه عن تقديس شرف آل البيت من الأئمة الأدارسة [12] .

وبالتصوف شمل التقديس أئمة آل البيت مع أئمة الفقه والحديث ، مع الصحابة رواة الأحاديث ، وبذلك تدعم الصلح بين النقيضين الفقه السلفي السني والتصوف.

2 : ــ  وبالمنهج الصوفى تعامل إبن خلدون بنفس التسليم مع التراث المقدس السني وتاريخ الصحابة والتابعين ، وتطوع فاضاف إليه الخلفاء الأقوياء من الأمويين والعباسيين . وحين يحسّ بضعف حجته العقلية تراه يلجأ الى إبتزاز عواطف القارىء .

2 / 1 :     وإبن خلدون حين عرض لعلوم الحديث وأئمة هذا العلم بنفس الطريقة المتداولة والمتكررة قال في النهاية كأنه يسترحم العقول النقادة " .. فلا تأخذك ريبة في ذلك ، فالقوم أحق الناس بالظن الجميل بهم ، والتماس المخارج الصحيحة لهم ، والله سبحانه وتعالى أعلم بما في حقائق الأمور."[13] .

ويكاد القارئ العاطفي أن يتأثر بهذا الأسلوب ، لولا أن إبن خلدون بعد ذلك الأسلوب العاطفي يلجأ لأسلوب المغالطات في إثبات حجية الأحاديث المنسوبة للنبي ، أو ما اصطلحوا على تسميته بالسنة ، يقول " أجمع الصحابة على وجوب العمل بما يصل من السنة  بالنقل الصحيح قولا أو فعلا للنبي بما يغلب على الظن صدقه " [14] وهو كمؤرخ يدرك أن الصحابة فى انشغالهم بالفتوحات والفتنة الكبرى والسياسة والحكم  لم يتيسر لهم الإجماع بالمفهوم الأصولى  للإجماع. يكفي أن ذلك المصطلح " إجماع " تم إختراعه في عصر الإزدهار الفقهي ، بعد الصحابة بقرن ونصف القرن . وانكره ابن حنبل فقال : ( من زعم الاجماع فى شىء فقد كذب ، وما أدراه أن الناس إختلفوا وهو لا يعلم ) .!. ونفس الحال مع المفهوم التقليدي للسنة الذي برز في العصر العباسي في مواجهة التشيع .

ثم أن مفاهيم النقل الصحيح للأحاديث لم يعرفه تاريخ الفكر للمسلمين إلا فى العصر العباسى الثانى ، عصر تدوين الحديث  ، وإصطناع الأسانيد وما ترتب عليه من زعم التثبت من حال الرواة ، أو فيما يعرف بعلم الجرح والتعديل ، وذلك ما عرض  له إبن خلدون في كلامه عن علوم الحديث متأثرا بما جاء في مقدمة صحيح مسلم والتي نراها أروع من كتاب صحيح مسلم ذاته.

ونرجع لإبن خلدون وحديثه عن الصحابة وعلوم الحديث . فكيف للصحابة في إنهماكهم في الفتوحات والخلافات السياسية أن يتطرقوا إلى مفاهيم أصولية لم تظهر إلا بعدهم بقرنين تقريبا ؟

وأكاد أقطع بأن ثقافة الصحابة البسيطة ـ حتى لو تفرغوا للعلم والبحث ـ  لم تكن لتوافق على كلمة إبن خلدون" وجوب العمل بما يصل من السنة بالنقل الصحيح . . . بما يغلب على الظن صدقه ". ومع إفتراض علم بعضهم بالقرآن فإن  القرآن ينهي عن إتباع الظن في الدين ، ويجعل الحق القرآني الذي لا ريب فيه هو وحده الحديث الذي نؤمن به في مقابل الطرق الأخرى القائمة على الريب والظن .   

إلا أن بعض علماء الأصول فيما بعد فرقوا بين القرآن وتلك الأحاديث فجعلوها ظنية الدلالة وظنية الثبوت في مقابل القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . وبعدهم بخمسة قرون يأتي إبن خلدون لينسب تلك الأقاويل إلى الصحابة وهم لا يدرون عنها شيئا .

2 / 2  ــ     وبنفس المغالطة يقول إبن خلدون في موضع آخر " إن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثيلهما " [15] . وهي مغالطة فجة لم يقلها أحد قبل إبن خلدون ، إذ جعل للأحاديث المنسوبة للنبي إعجازا كإعجاز القرآن بحيث يعجز البشر عن الإتيان بمثلهما .. وهذه المغالطة غير المسبوقة تتناقض مع تأكيدات القرآن على أنه لا مثيل للقرآن ( الإسراء 88) بل تتناقض مع تأكيدات إبن خلدون نفسه في المقدمة ، حين يقول أن إعجاز القرآن في داخله ولا يحتاج إلى دليل صدقه من خارجه ، ففيه يتحد الدليل والمدلول [16]، فكيف يتساوى القرآن بأحاديث تحتاج لأسانيد كي نصدقها ؟

3 ــ وهذا يجعلنا نشير إلى قضية أخرى ، وهي الهوى المذهبي الذي كان مؤثرا في منهج إبن خلدون وهو يكتب المقدمة ، ففي موضوع الحديث بالذات نراه – على غير العادة ينتقد الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر وينفيها بالتشكيك في الرواة بمنهج الجرح والتعديل ، ولم ينس ألا يصل بالنقد إلى البخاري ومسلم . وكل ذلك بسبب هواه المذهبي ضد الشيعة ، ثم يذكر  أحاديث ضعيفة مشهورة بضعفها منها ما يأتي مدحا في علماء الموالي ، ومنها ما يأتي مدحا لبعض فروع العلم ، ومثل هذه الأحاديث المطعون فيها لايمكن أن نتصور أن إبن خلدون لا يعرف حالها ، إذا كان بهذه المقدرة على الجرح والتعديل في أحاديث المهدي المنتظر .

وبنفس الطريقة المذهبيبة نراه يمتدح تفسير الزمخشري ولكن يحذر من إتجاه الزمخشري المعتزلي ، ويحذر من علوم المنطق والفلسفة إلا بعد التعمق في علوم السنة والشرع [17] .

4 ــ     وفي تاريخ الصحابة نراه يخاصم عقله لكي يثبت لهم عصمة برغم ما وقعوا فيه من خلافات وخصومات واقتتال . ومانتج عن هذه الحروب الأهلية من عشرات الألوف من القتلى ، ثم استمرت تلك  الحروب في عصر التابعين وتابعيهم السائرين على طريق الفتنة والإقتتال . ويتعرض إبن خلدون لبداية الخلافة باكتناز الصحابة للأموال في عصر عثمان ، والخلاف بين الصحابة ، ويظل يؤكد أن ذلك الخلاف كان إجتهادا بالحق دون غرض دنيوي . ثم يصل إلى معاوية ويحاول أن يقنعنا أنه إضطر للإستبداد بالحكم واضطر لأن يجعل الحكم وراثيا بالعهد لإبنه حرصا على مصلحة المسلمين ، ثم يدافع عن الخلفاء الأقوياء من الأمويين والعباسيين . ومما يبعث على الغيظ أن يقول إبن خلدون عن إقتتال الصحابة أن الحق واحد لدى كل من الطرفين وكل منهم إجتهد ولا يأثم ، فكل واحد منهم على الحق ، فمن كان مع علي أو مع الحسين كان على الحق ، ومن كان مع معاوية او مع يزيد كان أيضا على الحق والكل مجتهدون والقتلى شهداء مثابون لأنهم قصدوا الحق . . . [18] ، وبالتالي فإن ذنب عشرات الألوف من القتلى يقع على الأسكيمو وسكان أمريكا الجنوبية !!

     وإبن خلدون لابد وأنه يعرف عقوبة قتل مؤمن واحد على سبيل العمد ، وأن جزاءه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ( النساء 93) وأن قتل نفس بريئة واحدة كقتل الناس جميعا ( المائدة 32) ولأنه يعرف أنه يفتقد المنطق العقلي والدليل القرآني فلم يبق له إلا إستجداء العطف حين يحذر من التعرض للصحابة باللسان أو سوء الإرتياب ، ويقول " فالتمس لهم مذاهب الحق وطرقه ما استطعت ، فهم أولى الناس بذلك ، وما اختلفوا إلا عن بينة وما قاتلوا أو قتلوا إلا في سبيل جهاد أو إظهار حق ، وأعتقد مع ذلك أن إختلافهم رحمة لمن بعدهم من الأمة ، ليقتدي كل واحد بمن يختاره منهم ويجعله  أمامه وهاديه ودليله "[19] .  وفعلا فإننا إتبعنا نفس منهجهم في قتل أنفسنا بأنفسنا ، ولا تزال أفضل الأمم في الإقتتال المحلى . وليهنأ إبن خلدون فوصيته مرعية .

  5 ــ  وهكذا التزم إبن خلدون بمنهج عصره الصوفي ولم يخرج عنه ، ومن الطبيعي أن يؤكد ثوابت عصره الفكرية والعقيدية والثقافية ، وسنناقش من هذه القضايا ما ركز عليه ، مع التأكيد المسبق أنه كان مدافعا جيدا  ( بالباطل ) عن تلك الثوابت( الخرافية ) في المقدمة ، وربما لم يستطع علماء الصوفية الدفاع عن التصوف بمثل ما فعل إبن خلدون .

6 ــ  ونبدأ المناقشة بموضوع الجغرافية باعتبارها من العلوم الطبيعية ، التي تقوم على المنهج التجريبي ، وبعدها نناقش الموضوعات المتصلة بالتصوف ونتفرغ أخيرا لآرائه في علم العمران ، أو الإجتماع .

 

 

 

 

 

( ق 2 ف 2 ) التأثر الموضوعي : المعارف الجغرافية بين المسعودي وإبن خلدون والشعراني

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الثاني :  مدى تأثر إبن خلدون بعصره في المقدمة منهجيا وموضوعيا

التأثر الموضوعي : نموذج للتأثر الموضوعي في العلوم الطبيعية :

                              المعارف الجغرافية بين المسعودي وإبن خلدون والشعراني  

بين ابن خلدون والمسعودى(283  :  346 )

1 ـ     يبدو من حديث إبن خلدون الجغرافي في المقدمة أنه كان ينقل عن السابقين ما يتفق مع عقله ويحاول الإجتهاد العقلي من خلال ما ينقل ، وذلك بالإستدلال العقلي وليس بطريق المعاينة والمشاهدة والتجربة العملية .    وقد نص على أنه ينقل عن الإدريسي في كتابه " نزهة المشتاق " وعن جغرافية بطليموس بالإضافة إلى المسعودي في مروج الذهب في جزئه الأول الذي حوى معلومات جغرافية تنتمي لعصره.

2 ـ  والجغرافيون قبل إبن خلدون من بطليموس إلى الإدريسي كانت معارفهم الجغرافية بالذات تأتي من خلال روافد مختلفة ، وهي التجربة والمعاينة الواقعية ، والمشاهدة والروايات أو الأخبار المتواترة ، ثم الإستدلال العقلي ، وفي عصر إبن خلدون حيث سيطر التصوف ظهر نوع جديد من الروافد المعرفية وهو العلم اللدني .

3 ـ    وقد أشار إبن خلدون في المقدمة إلى تجربة بطليموس الفريدة في قياس محيط الأرض ، وذلك في حديثه عن الإقليم الأول والجزائر الخالدات " التي بدأ بطليموس منها يأخذ أطوال البلاد " [20] وهي الطريقة الوحيدة والحقيقية التي تحصل بها على الحقائق الطبيعية ، طريقة المعاينة الحقيقية والوصفية والتجارب الواقعية .

    وأشار إبن خلدون إلى الطريق الآخر ، وهو المشاهدة والأخبار المتواترة ، وخلط بينهما وفق المنهج السائد في عصره يقول " إن الربع الشمالي من الأرض أكثر عمرانا من الربع الجنوبي . . ونحن نرى بالمشاهدة والأخبار المتواترة أن الأول والثاني من الأقاليم المعمورة اقل عمرانا مما بعدهما ..."[21]

 4 ــ وقد نفهم  إقتراب( المشاهدة ) من المنهج العلمي التجريبى القائم على المعاينة الحقيقية والوصفية والتجارب الواقعية ، ولكنها بهذا المعنى بعيدة عن مفهومها في عصر إبن خلدون وثقافته ، فهو يربطها بالأخبار – أي الروايات – المتواترة فى رأيه . أي أن هذه المشاهدة تكون بالنقل عن الآخرين وتصديقهم فيما يقولون ، والمهم عنده أن يتواتر النقل عن أكثر من واحد . أي أنه  منهج الفقهاء والمحدثين أصحاب علوم الشرع والحديث ، حين يشيع حديث ما منسوب للنبي في تواتر الإستشهاد به ويصبح معلوما من الدين بالضرورة مع أن النبي عليه السلام لم يقله ولم يعرفه عصره .

    وبنفس الطريقة شاعت أخبار كثيرة عن العوالم المجهولة غير المأهولة وغير المكتشفة في الكرة الأرضية ، وبسبب شيوع هذه الأخبار وتأكيد القائلين بأنهم رأوها وزاروها إرتبطت المشاهدة بالأخبار المتواترة . وأصبح هناك تلازم بين رافدين من روافد المعرفة الجغرافية ، وهما المشاهدة والأخبار المتواترة ثم العلم اللدني الصوفي .

 5 ــ     وإبن خلدون بعقليته الناقدة توقف كثيرا مع الروايات الخرافية في تاريخ الأمم السابقة وانتقد المسعودي خصوصا في رواياته التاريخية ، وعرض بالنقد له في تعليله لما يتصف به (الزنوج ) حسب قوله ، من الخفة والطيش وكثرة الطرب ، وقال إنه – أي المسعودي – إكتفى بالنقل عن جالينوس والكندي من أن السبب هو ضعف " أدمغتهم وما نشأ عنه من ضعف عقولهم ، وهذا كلام لا محصل له ولا برهان فيه ".   وكان تعليل إبن خلدون يرجع إلى المناخ الحار والبخار الذي يجعل الزنجي ينتشي من الفرح والسرور [22] وهو تعليل لا يزيد في سذاجته كثيرا عن رأي المسعودي .

6 ــ      لقد إكتفى إبن خلدون بالإعتكاف في بيته ينقل عن السابقين معارفهم الجغرافية وينتقد منها ما لا يتفق مع وجهة نظره ، ونظرا لأنه متأثر بعصره ولا يستطيع أن يفلت من هذا التأثر فالمنتظر أن يصدق الكثير من المعارف الجغرافية لأنها أتت وفق ثقافة هذا العصر ، أي بالأخبار المتواترة .

7 ــ     وعن هذا الطريق تسللت إلى عقل إبن خلدون بعض الروايات الخرافية ، وأخذت  طريقها إلى المقدمة.  يقول ــ  مثلا ــ متحدثا عن جزر المحيط الأطلنطي ، وقد كان ذلك المحيط يمثل نهاية العالم وقتها " وإنما هي في البحر المحيط جزر متكثرة أكبرها وأشهرها ثلاثة ، ويقال أنها معمورة ، وقد بلغنا أن سفائن من الإفرنج مرت بها في أواسط هذه المائة وقاتلوهم فغنموا منهم وسبوا ، وباعوا بعض أسراهم بسواحل المغرب الأقصي وصاروا إلى خدمة السلطان ، فلما تعلموا اللسان العربي أخبروا عن حال جزائرهم وأنهم يحتفرون الأرض للزراعة بالقرون ، وأن الحديد مفقود بأرضهم ، وعيشهم من الشعير ، وماشيتهم المعز ، وقتالهم بالحجارة يرمونها إلى خلف ، وعبادتهم السجود للشمس إذا طلعت ، ولا يعرفون دينا ولم تبلغهم دعوة ، ولا يوقف على مكان هذه الجزائر إلا بالعثور لا بالقصد إليها ، لأن سفر السفن في البحر إنما هو بالرياح ومعرفة جهات مهابها وإلى أين يوصل إذا مرت على الإستقامة من البلاد التي في ممر ذلك المهب ، وإذا اختلف المهب وعلم حيث يوصل على الإستقامة حوذي به القلع محاذاة يحمل السفينة بها على قوانين في ذلك محصلة عند النواتيةوالملاحين الذين هم رؤساء السفن في البحر والبلاد التي في حفافي البحر الرومي ( المتوسط) وفي عدوته ، مكتوبة كلها في صحيفة على شكل ما هي عليه في الوجود وفي وضعها في سواحل البحر على ترتيبها ومهاب الرياح وممراتها على اختلافها ، مرسوم معها في تلك الصحيفة ويسمونها الكنباص – البوصلة – وعليها يعتمدون في أسفارهم ، وهذا كله مفقود في البحر المحيط ، وكذلك لاتلج فيه السفن ، لأنها إن غابت عن مرأى السواحل فقل أن تهتدي إلى الرجوع إليها ، مع ما ينعقد في جو هذا البحر وعلى سطح مائه من الأبخرة الممانعة للسفن في سيرها ، وهي لبعدها لاتدركها أضواء الشمس المنعكسة من سطح الأرض فتحللها ، فلذلك عسر الإهتداء إليها وصعب الوقوف على خبرها " [23] 

 8 ــ     لقد كان المحيط الأطلنطي بالنسبة لإبن خلدون وعصره هو " بحر الظلمات " بكل ما يعنيه هذا المفهوم من رهبة وخوف وخرافات . وإبن خلدون هنا يستعمل المنطق العقلي التجريدي الذي يخدم هذه الخرافة ويؤسسها في العقول ويجعل من المستحيل على السفن أن تبحر وتكتشف هذا المحيط وما وراءه مع أنه كان يعيش في المغرب بجوار هذا المحيط .

 على العكس في حالة المسعودي  وحياته في العراق . والمسعودي ذكر أن رجلا من الأندلس اسمه خشخاش من قرطبة قد أبحر في المحيط مع بعض الفتيان ، وغاب مدة ثم رجع بغنائم واسعة . وأن خبره مشهور عند الأندلس ، هذا مع أن المسعودي يذكر أن البحر المحيط ( أو الأوقيانوس ، أو بحر الظلمات ، أو الأطلنطي ) قد ذكر هرقل أنه لا طريق لإقتحامه .

    أي أن المسعودي ذكر الرواية ، وذكر رواية أخرى تنفيها تثبت أنه من الممكن إقتحام بحر الظلمات وقد ردد هذه الروايات عن إقتحام المحيط الأطلنطي في كتابه " أخبار الزمان " [24] ، أي أنه قبل إبن خلدون بخمسة قرون ونصف القرن أكد إحتمال وجود عالم مسكون في الجانب الآخر ، أو ما يعرف الأن بأمريكا الجنوبية والشمالية ، ولكن كان المسعودي يعيش الفترة الذهبية في الإزدهار الفكري للحضارة (الإسلامية )  ، وقد أعقب هذه الفترة منذ القرن السابع الهجري عصر التقليد ، وجاء إبن خلدون بعقليته المتفردة في هذاالعصر فأخذ ينتقد المسعودي ، إلا أنه – أي إبن خلدون – لم يستطع الفكاك من التأثر بعصره وخرافاته ، بل إستخدم عقليته في تأصيل بعض تلك الخرافات عن بحر الظلمات .

9 ــ      والمسعودي لم يكن عقلية متفردة في عصره ــ عصر الإزدهار الفكريــ  بينما كان إبن خلدون عقلية متفردة في عصره (  التقليد والإنحدار الفكري) ، لذا فمن الطريف أن نراهما متعادلين .

 وإذا كان إبن خلدون ينتقد المسعودي ، فإن المسعودي كان ينتقد الجاحظ في آرائه الجغرافية ويتهمه بالنقل عن كتب الوراقين دون تمييز ، كما أن المسعودي كان يعول على المشاهدة والأخبار المنقولة عن المسافرين والمغامرين [25] وهو ما سار عليه إبن خلدون فيما بعد .

بين ابن خلدون والشعرانى ( 898 : 973 )

1 ـ   وبنفس القدر الذي إرتفعت به عقلية إبن خلدون لتسمو به عن عصره عصر التقليد والجمود لينافس المسعودي في عصر الإزدهار الفكري ، فإن إبن خلدون بنفس القدر إبتعد عن أسوأ نتاج فكري لعصره ، وهو ما أنتجه العلم اللدني الصوفي من معارف خرافية عن الجغرافية ، وقد أتاح لها الإعتقاد في التصوف وأوليائه أن تصبح خرافات مقدسة لا يستطيع أحد وقتها أن يجادلها .

    فالصوفي – تبعا لاعتقاد العصر – يأتيه العلم من لدن الله ، وينكشف عنه الحجاب البشري فيفيض الله تعالى عليه ــ بزعمهم ـ من  العلم أصنافا وأنواعا . ولا بأس بأن يتحدث في المعارف الجغرافية بما لديه من خيالات وأوهام ، ولذلك كان الإعتقاد في "جبل قاف " من أسس الإيمان في العصر المملوكي . وهو جبل يقع في آخر الدنيا وتحيط به حيّة عظيمة تلتف به ، وإلى هذا الجبل يطير الأولياء في سياحتهم الصوفية ، وقد تحاشي إبن خلدون الحديث عن هذا الجبل المزعوم ، سواء في كلامه عن الجغرافيا أو في كلامه عن كرامات الصوفية . ونعطي مثلا من جغرافية العلم اللدني :

  2 ــ   يقول الشعراني أشهر صوفي في القرن العاشر الهجري يفتخر بكراماته " ومما أنعم الله تبارك وتعالى به علي : مساعدتي لأصحاب النوبة في سائر أقطار الأرض في حفظ إدراكهم من براري وقفار ومدائن وبحار وقرى وجبال ، فأطوف بقلبي على  جميع أقطار الأرض في نحو ثلاث درج ، وإيضاح ذلك أن حكم القلب حكم المرآه المعلقة بين السماء والأرض ، فيرتسم فيها جميع العلويات والسفليات ، ويصير البصر القلبي يدركها كلها على التفصيل ، فالمدار على قوة وسع دائرة البصر لا غير ، وإن شككت يا أخي في ذلك فأمتحن ذلك بمرآه صغيرة تضعها فوق منارة عالية ، فإنك إذا قابلتها بمدينة مصر كاملة تجدها مرتسمة في تلك المرآه الصغيرة ، فأعمل يا أخي على جلاء مرآة قلبك من الصدأ أو من الغبار إن أردت العمل بهذا الخُلُق ، فإنك تطوف أقاليم الأرض كلها في مقدار ساعة . 

    ومما وقع لي أن شخصا من بلاد الحبشة أسلم عندنا في مصر ، فسألته عن بلده وعن الكنيسة الكبيرة التي في آخر زقاق داره ، وعن شجرة النبق التي في دار جاره ، مع أني ما رحت إليها قط بجسمي ، وإنما نظرت إليها بقلبي ، وكذلك وقع لي مع خادم نبي الله لوط عليه السلام ، لما قدم علينا مصر ، فقلت له : ما فعل شجر الليمون المغروس تجاه مقام السيد لوط ؟ فقال : موجود لم يقطع منه شئ ، مع أنني لم أره إلا بقلبي . وفي كلام سيدي أحمد بن الرفاعي رضي  الله تعالى عنه ، أن القلب إذا انجلى من محبة الدنيا وشهواتها صار كالبللور وأخبر صاحبه بما مضى وبما هو آت من أحوال الناس ، وإذا صدأ قلب الفقير ( أي الصوفي ) حدثه بأباطيل يغيب منها رشد الرجل وعقله . إنتهى .

    وصورة طوافي كل ليلة على مصر وجميع اقاليم الأرض أنني اشير بأصبعي إلى أزقة جميع المدائن والقرى والبراري والبحار ، وأنا أقول الله الله الله ، فأبدأ بمصر العتيقة ثم بالقاهرة ، ثم بقراها ، حتى أصل إلى مدينة غزة  ثم إلى القدس ثم إلى الشام ، ثم إلى حلب ثم إلى بلاد العجم ، ثم إلى البلاد التركية ، ثم إلى بلاد الروم ، ثم أعدي من البحر المحيط إلى بلاد المغرب ، فأطوف عليها بلدا بلدا حتى أجئ إلى الإسكندرية ثم أعطف منها إلى دمياط ، ثم منها إلى أقصى الصعيد ، ثم إلى أقصى بلاد العبيد ، ثم إلى بلاد الرجر وهي أقطاع جدي الخامس ، ثم أعطف إلى بلاد التكرور وبلاد السكوت ، ومنها إلى بلاد النجاشي ، ثم إلى أقصى بلاد الحبشة ، وهي سفر عشر سنين ، ثم منها إلى بلاد الهند ، ومنها إلى بلاد السند ، ثم إلى بلاد الصين ، ثم أرجع إلى بلاد اليمن ، ثم إلى مكة ، ثم أخرج من باب المعلى إلى الدرب الحجازي إلى بدر ، ثم إلى الصفراء  ، ثم إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فأستأذنه عند باب السور ، ثم أدخل حتى أقف بين يديه صلى الله عليه وسلم فاصلي وأسلم عليه وعلى صاحبيه ، وأزور من في البقيع ، ثم اقول " سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين " وما أرجع إلى داري بمصر إلا وأنا ألهث من شدة التعب ، كأني كنت حاملا جبلا عظيما . ولا أعلم أحدا سبقني إلى مثل هذا الطواف .

   وكان إبتداء حصول هذا المقام لي في سنة ثلاث  وثلاثين وتسعمائة ، فرأيت نفسي في محفة طائرة ، فطافت بي سائر أقطار الأرض في لحظة ، وكانت تطوف بي على قبور المشايخ من فوق أضرحتهم إلا ضريح سيدي أحمد البدوي ، وضريح سيدي إبراهيم الدسوقي  ، رضي الله تبارك وتعالى عنهما ، فإن المحفة نزلت بي من تحت عتبة كل من أحدهما ومرت من تحت قبره ، ولم أعرف إلى الآن الحكمة في تخصيص هذين الشيخين بذلك ، نفعنا الله تعالى بهما . والحمد لله رب  العالمين .. " [26]

3 ــ     ومع الإختلاف بين خرافات الشعراني في سياحته الفضائية المزعومة حول العالم  وفوق الأضرحة وتحت الأضرحة وبين الخرافات الهينة التي نقلها إبن خلدون عن المحيط الأطلنطي " بحر الظلمات " مع ذلك الإختلاف الشاسع بينهما إلا أنهما اتفقا في محاولة تسويغ الخرافة وتشريعها بالمنطق الأعرج .

   فإبن خلدون يعلل إستحالة الإبحار في الأطلنطي بالبخار وعدم وصول أشعة الشمس . كما أن الشعراني بعده بأكثر من قرن ونصف قرن من الزمان يعلل وصول الإنسان للعلم اللدني بتشبيه القلب بالمرآه التي تنعكس عليها صورة العالم ، وبذلك يستطيع أن يرى بقلبه كل ما في العالم إذا كان ذلك القلب صوفيا نقيا !!

   والنتيجة المشتركة بين عقلية إبن خلدون وعقلية الشعراني أنهما قاما معا بتسويغ الخرافات وجعلها منطقية . وقد إقتنع العالم ( الإسلامي ) وقتها بأن ليس في الإمكان أبدع مما كان وأن هذا هو كل المعروف عن العالم .

4 ــ    ومع أن المسعودي ( قبل الشعراني بستة قرون ونصف القرن ) كان قد  أشار إلى عوالم أخرى في الجانب الآخر من المحيط ، فإن الشعراني ( المتوفي 972هـ) حافظ بأساطيره وخرافاته على إستمرار الجهل وسيادته . وفي الوقت نفسه كان الأوربيون يكتشفون العالم الجديد ويقيمون لهم مستعمرات في شرق آسيا وفي ربوع  بلاد الجنس الأصفر ، الذين لا نجد لهم ذكرا عند إبن خلدون . . ثم إذا فرغ الأوربيون من إستعمار العالم الجديد ( الأمريكتين  وأستراليا ) وإستعمار العالم القديم في آسيا ( جنوب شرق آسيا والهند ) إقتحموا علينا الأبواب في الحملة الفرنسية ، فواجهناهم بالبخاري ودلائل الخيرات !! واليوم يقتحمون المريخ ونحن مشغولون بالإختلاف في المس الشيطاني والجلباب والنقاب وفوائد البنوك والثعبان الأقرع .

 

 

 

 

 

 

( ق 2 ف 2 ) التأثر الموضوعي لابن خلدون فى المقدمة في القضايا الدينية الصوفية

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الثاني :  مدى تأثر إبن خلدون بعصره في المقدمة منهجيا وموضوعيا

 

التأثر الموضوعي في القضايا الدينية الصوفية

 عقائد التصوف :

1 ــ     التصوف هو المحور الأساسي الذي دار حوله إبن خلدون في منهجه وفي تفسيراته للقضايا الدينية والتراثية ، وبعض قضايا العمران ( الإجتماع ) والفلسفة والسياسة .

2 ــ   وعقائد التصوف تدور حول الإتحاد بالله ، أو زعم الصوفي أنه يترقى بالرياضات الروحية حتى يتحد بالله – تعالى عن ذلك – أو العكس ، وهو الحلول ، أي أن الله – تعالى عن ذلك – هو الذي يتحد بالصوفي ويحل فيه ، وإذا ترقى الصوفي من هذا المقام أدرك أنه ليس وحده الذي يتحد بالله أو يحل الله فيه ، بل أن كل الكون جزء من الله – تعالى عن ذلك علوا كبيرا . بل يزعمون أنه – أي الكون – هو الله ،وتلك وحدة الوجود.

3 ــ وبين الإتحاد ووحدة الوجود توجد عقيدة وسطى ، وهى وحدة الفاعل ، أي أن كل ما يصدر عن الإنسان من خير أو شر يأتي من الله وليس من الإنسان ، باعتبار أن الذات الإلهية هي المسؤولة في داخل الإنسان .

4 ــ  وبالإضافة إلى تلك العقائد الصوفية ، هناك عقيدة أخرى لها جذور شيعية بحكم تأثر التصوف بالتشيع وهي الحقيقة المحمدية ، وتعني أن محمدا عليه السلام ــ فى زعمهم ـ هو نور إنبثق من الله تعالى ، قبل خلق الكون وخلق من أجله الكون ، ثم تنقل هذا النور من الله تعالى إلى آدم ثم في كل نبي إلى أن ظهر في خاتم النبيين ، وبعده تنقل في الأئمة الشيعة والأقطاب الصوفية على خلافات كثيرة ببينهم في تحديد التنقل ، منهم من يقول أنه توقف عند النبي محمد عليه السلام ،ومنهم من يتوقف به عند الأئمة الشيعة ومنهم من يتوقف به عند خاتم الولاية ، ويختلفون في تحديده .

5 ــ    هذه هي العقائد الصوفية التي راجت في العصر المملوكي ، في المشرق والمغرب من العالم " الإسلامي " ، فما هو موقف إبن خلدون منها ؟ وأيها سيطر على موضوعاته في المقدمة ؟

عقيدة إبن خلدون الصوفية

  مع تقدير إبن خلدون للتصوف وأوليائه إلا أنه نثر بين سطور المقدمة ما يجعل له عقيدة خاصة لاتخرج كثيرا عن عقائد التصوف .

1 ــ    بالنسبة للحقيقة المحمدية نراه في الإفتتاحية يشير إلى إيمانه بها حين يقول في الصلاة على النبي " الذي تمخض لفصاله الكون قبل أن تتعاقب الآحاد والسبوت "، إلا أنه حين عرض لعقيدة المهدي المنتظر وتأثرها بالتشيع هاجم تلك العقيدة طبقا لموقفه من التشيع .

أي أنه يعتقد في الحقيقة المحمدية ولكن يقصرها على النبي  ولا يقول بتنقل النور الإلهي فيمن بعده من الإئمة والأولياء من الشيعة والصوفية .

إلا أنه من ناحية أخرى في حديثه عن علم الغيب اللدني يسنده إلى أئمة الشيعة خصوصا جعفر الصادق ، ويجعل تصديقه بالغيوب التي جاءت في كتاب " الجفر " للشيعة متوقفا على صحة نسب هذا الكتاب إلى جعفر الصادق . وهنا نوع من التناقض ، وإبن خلدون يقع في التناقض كثيرا  .    

2 ــ    وعن عقيدة وحدة الوجود لا يبدو إبن خلدون سعيدا بهذه العقيدة ، بل أنه يرى أن الصوفية القائلين بها تأثروا بالشيعة. وهذا خطأ ( خلدونى ) لأن ابن خلدون لو قرأ الرسالة القشيرية بتمعن لأدرك أن أوائل الصوفية المعتدلين – قبل الحلاج – قد قالوا بها في عصور كانوا فيها مضطهدين ، ناهيك عن الغزالي في كتابيه " إحياء علوم الدين " و " مشكاة الأنوار " .

 ومع ذلك يحاول إبن خلدون أن يستجدي التعاطف مع أصحاب الشطح الصوفي والقائلين بوحدة الوجود على أساس أنه من " المتشابه " أو أنه صدر عنهم هذا الكلام في حالة غياب عن الوعي .[27]

3 ــ     وفي كلامه عن ( علم الكلام ) يسطر إبن خلدون عقيدته في الله تعالى ، وموجزها الآتي : الإيمان بالخالق الذي رد الأفعال كلها إليه ( أي وحدة الفاعل ) ولانعرف حقيقته لأنها فوق إدراكنا ، والمطلوب تنزيهه عن مشابهة المخلوقين وعن صفات النقص ، ثم يقول  " ثم توحيده بالإتحاد ، وإلا لم يتم الخلق للتمانع ، ثم إعتقاد بأنه عالم قادر ، فبذلك تتم الأفعال شاهد قضيته لكمال الإتحاد والخلق " [28] وهذه عقيدة توفق بين علم الكلام والتصوف ، ولا تنجو من ا لوقوع في التناقض . لأن  وحدة الفاعل الصوفية تنسب النقص لله تعالى حين تجعله أساس الشرور الإنسانية . ثم إن هذا الربط بين الإتحاد والتوحيد حتى يتم الخلق فيه  إنحياز ضمني لعقيدة الإتحاد الصوفية وتفسير للخلق بأنه جاء عن طريق الإتحاد ، أو بالمعنى الصوفي جاء إمتدادا لله تعالى وفيضا منه ، أو كما يقولون بأن الفارق بين الخالق والمخلوقات كالفارق بين البحر وأمواجه . أي أنه يشير إلى عقيدة وحدة الوجود التي لا يستريح إليها ، وبعد هذا يتحدث عن تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين وصفات النقص ، وأننا لا نعرف حقيقة الخالق لأنها فوق إدراكنا ، أي أن تلك العبارات على قلتها إحتوت على تناقضات شرحها يطول ، وذلك لأنه حاول التوفيق بين عقيدتين مختلفتين في المنهج ، وهما علم  الكلام الأرسطي الأصل والتصوف الإشراقي  ، وإن كانا معا على خلاف  مع القرآن الكريم .

4 ـ      والخلاصة أن إبن خلدون لم يفلت من عقائد التصوف ، ومن الطبيعي أن يتأثر موضوعيا بها . و حتى لا نتوه في تحديد هذا التاثير، وهو قاسم مشترك في العناوين والأبواب والفصول وفيما بين السطور.

وقد بدأنا بتحديد عقائد التصوف نفسه ، ويبقى أن نتتبع تأثير تفصيلاته الأساسية  فى المقدمة . إذ أنه بعد عقائد التصوف الأساسية التي أشرنا إليها ، فإن الصوفي عند إبن خلدون وعصره يتمتع بالكشف – أو علم الغيب ، وبالتصريف ، أي الكرامات . وفي القضايا المرتبطة بالكشف والعلم اللدني تحدث إبن خلدون عن الوحي وعلم الغيب وعلم الحرف والتنجيم  والعرافين والكهان .. الخ ، وفي القضايا المرتبطة بالكرامات تحدث إبن خلدون عن السحر والكيمياء والمطالب أي البحث عن الكنوز القديمة . والأهم من ذلك أنه ربط بين الثيوقراطية ، أو الخلافة في الدولة الدينية وبين وحدة الفاعل في عقيدة الصوفية . وكان تأثره بهذه العقيدة هائلا . وتلك أهم الموضوعات التي تأثر فيها إبن خلدون بعصره الصوفي .

ولسنا في حاجة لاستعراض آراء إبن خلدون في تلك الموضوعات ، فقد سبق ذلك في القسم الأول ، ولكننا هنا نكتفي برؤيتنا التاريخية الأصولية .

علم الغيب ( الكشف الصوفى )

1 ــ    أتاح تسيد التصوف للعصر المملوكي للأولياء الصوفية أن يزعموا ما يشاءون في علم الغيب ، فأبو السعود بن أبي العشائر تحدث عن " إيضاح أحوال الملكوت والآخرة ومنازل الرجال ومراتبهم من آدم إلى يوم القيامة "، ويقول علي وفا الشاذلي " ما من نطفة توضع في رحم . . إلا وقد أطلعني الله عليها " وقال المتبولي " لاتنزل قطرة من السماء ولا يطلع نبت من الأرض إلا علمته . . وهذا أمر قد أعطيته وأنا طفل "[29] ونكتفي بهذا ، لأنه لا تكاد تخلو صفحة من كتب المناقب الصوفية في العصر المملوكي من الحديث عن مزاعم الإدعاء بالغيب .

 2 ـ   وكان العصر على إستعداد لتصديق مزاعم الولي الصوفي مهما قال ، وذلك يسرى ليس فقط على العلماء الفقهاء والسلاطين والعوام ، ولكن كان يسري أيضا  على إبن خلدون بعقليته المتفردة التي سخرها لمحاولة تسويغ العلم اللدني أو الكشف الصوفي أو إدعاء العلم بالغيب ، وهو يتناسى حقائق القرآن في الموضوع.

حقائق القرآن الكريم فى موضوع الغيب:

1- أن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى" قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ: النمل 65" " وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ: الأنعام 59  "  إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ : يونس 20""

2- الغيب نوعان ، غيب كلي ينتمي إلى عوالم الغيب، من الذات الإلهية والبرزخ واليوم الآخر  والجن والملائكة والشياطين ، وهذه يستحيل على الإنسان العلم بها إلا من خلال الوحى الإلهي المكتوب والمحفوظ من التحريف . ثم الغيب الجزئي المرتبط بقصور الحواس البشرية عن إدراك ما يبعد عنها . فإذا كنت في القاهرة وأولادك في مكان آخر فلا تستطيع أن تعرف ماذا يفعلون . وهذا الغيب الجزئي يشترك فيه كل الخلق ، أي أن أولادك أيضا لا يعرفون ما تفعله وأنت بعيد عنهم ، ثم أن هذا الغيب الجزئي تضيق مساحته كلما تعاظمت قدرات المخلوقات ، فالجن مثلا بانطلاقها وقدراتها غير المحدودة تضيق مساحة الغيب الجزئي أمامها ، فإذا تم تحييد وتقييد تلك  القدرات تناقص مقدار ما تعلمه من الغيب بقدر ذلك التقييد ، والدليل على ذلك أنها حين سخرها الله تعالى للعمل أمام سليمان فأنها لم تعلم بموت سليمان إلا حين سقطت جثته " {  فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِين : سبأ 14}. وقد ضاقت مساحة الغيب الجزئي في عصرنا عصر ( العولمة وثورة الاتصالات ).

3- بعض الأنبياء يعطيهم الله تعالى العلم ببعض الغيب دليلا على صدقهم في النبوة ،يقول تعالى للمؤمنين في عصر النبي  { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ، وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ: آل عمران 179 } وهؤلاء الأنبياء يعلنون هذه الآية ، ويكون علمهم بالغيب الجزئي ، ويتجلى هذا في قول يوسف لصاحبيه في السجن {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي : يوسف 37} أي يخبرهما مقدما بالطعام الآتي لهما . وهذا غيب جزئي ، لأن إدارة السجن هي التي تعد ذلك الطعام ، ويقول عيسى لقومه {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ : آل عمران 49}وهذا أيضا غيب جزئي ، وكانت معرفتهما آية تشهد بصدقهما ، عليهما السلام.

4- والنبي الذي لا يعطيه الله تعالى علم الغيب ، يبدو ذلك من سيرته ، فإبراهيم ولوط ، كلاهما لم يعلم حقيقة الملائكة التي مرت عليه وكانت متجسدة فى هيئة بشرية ( هود 69: 81) وحين يُسأل ذلك النبي الذي لم يعط علم الغيب عن تلك الغيوب فإنه يعلن عدم معرفته بالغيب ، فعل ذلك نوح حين قال لقومه  {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ : هود 31} وفعل ذلك خاتم النبيين عليه وعليهم السلام ، حين كرر مقالة نوح {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ: الأنعام 50} والفارق بين مقالتي نوح ومحمد عليهما السلام أن محمدا كان مأمورا بإعلان أنه لايعلم الغيب ، بكلمة " قل ".

5- وقد تكرر هذا الأمر للنبي محمد بقل مقترنا بأنه عليه السلام يتبع الوحي، مما يؤكد على أنه لم يتحدث مطلقا في الغيوب التي لا يعلمها ، من ذلك قوله  تعالى له {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ : الأحقاف 9} وقد يتكرر هذا الأمر مقترنا بإثبات أن بعض الأنبياء كان يعلم بعض الغيب ، ولكن النبي محمدا لا يعلمه{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً، عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ: الجن 25: 27 } وقد يتكرر الأمر بقل ليؤكد مرات عديدة على أنه لا يعلم الغيب ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ، وأنه مجرد نذير وبشير (الأعراف 187: 188) هذا بالإضافة إلى الآيات العديدة الأخرى التي تحتاج بحثا مستقلا .

6- الإيمان بالنبي محمد عليه السلام يستلزم الإيمان بأنه بلغ الرسالة والتزم بتنفيذ أوامر ربه، فإذا كان الله تعالى قد أمره أن يعلن أنه لا يعلم  الغيب فلابد أن نؤمن أنه لم يتحدث في الغيب الكلي أو الجزئي ، وإذا كان الله تعالى قد هدده أنه إذا تقول على الله شيئا في كلامه أو في كتابه فإن الهلاك سيحيق به ( الحاقة45: 47 ) وحيث أن ذلك لم يحدث للنبي فهي شهادة من الله تعالى لرسوله الكريم بأنه بلغ الرسالة كما هي ، وأنه التزم بأوامر الله تعالى فلم يتحدث في الغيب أو في أي منطقة محظور عليه الحديث فيها . ويترتب على ما سبق أن كل الأحاديث المنسوبة للنبي في الغيب باطلة وأن الإيمان بها تكذيب للنبي والقرآن ، واتهام لخاتم النبيين بعصيان أوامر ربه . وتلك الأحاديث المنسوبة للنبي في أمور الغيب تشمل الحديث عن غيوب الماضي ( الأمم السابقة ) وغيوب المستقبل في الدنيا ( مثل التبشير بالجنة ، إختلافات الأمة ، وأحاديث الخلافة ، الخ ) وغيوب اليوم الآخر ( مثل موعد قيام الساعة ، وعلامات الساعة ، ومظاهر القيامة ، من بعث وحشر وشفاعة وميزان وحوض . . الخ ) وكلها أكاذيب ينبغي إذا كنا نحب النبي  عليه السلام فعلا أن نبرأ الرسول منها ، وإلا أصبحنا ضمن أعداء النبي الذين وصفهم الله تعالى بأنهم هجروا القرآن ( الفرقان 30، 31 ) كما وصفهم بأتباع الأحاديث الشيطانية المخالفة للقرآن ( الأنعام 112: 117).

   7 ــ    وفيما يخص موضوعنا عن مزاعم الصوفية العلم بالغيب ودفاع إبن خلدون عن ذلك ، فإنه إذا كان خاتم النبيين صاحب الوحي والرسالة لم يكن يعلم الغيب ، فغيره من المؤمنين أولى ، خصوصا وأن الله تعالى يخاطب المؤمنين يقول { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ : آل عمران 179 } . أما بالنسبة لمن لا يتبع الحق فإن من السهل عليه أن يزعم العلم بالغيب ، وهنا ننصح بقراءة الآيات القرآنية التي ترد على المشركين زعمهم بأن أولياءهم يعلمون الغيب ، مع هؤلاء الأولياء موتى في القبور لا يعلمون موعدهم عند البعث ( النحل 19: 21، النمل 65"> 2 ــ     وهناك تقسيم آخر للوحي الإلهي ، فقد يكون ذلك الوحي رسالة سماوية تحملها الملائكة المختارة إلى الأنبياء المرسلين وهم بشر مختارون : {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ: الحج 75 } وجبريل هو رسول الوحي الإلهي للأنبياء ،لذا فإن كلمة الروح في  القرآن لا تأتي إلا وصفا لجبريل ووظائفه في نفخ النفس في آدم والمسيح ، وفي النزول بالوحي ، وفي تثبيت المؤمنين ، ثم تأتي بالتبعية وصفا للقرآن والمسيح بسبب العلاقة ، وهذا هو المعنى الحقيقي للروح ، أما ما في داخل الإنسان فهي نفس وليست الروح .

3 ـ وعلى هامش الوحي الإلهي وتثبيت من هم حول النبي يأتي وحي آخر لغير الأنبياء ، يكون إلهاما بطريقة خاصة ومحددة ، ومنها وحى الله تعالى لأم موسى ( طه 28 القصص 7، 10) وأم عيسى ( آل عمران 41: 42) وللحواريين ( المائدة 111). وأولئك الذين نزل عليهم الوحي بمعنى الإلهام كانوا عونا للرسالة أو صاحبها ، ولم يتاجر أحدهم بذلك الإلهام ، ولم يزعم النبوة أو العلم اللدني الإلهي ، أو الألوهية والإتحاد بالخالق جل وعلا . إذ أن تلك المزاعم وجدت طريقها عبر نوع آخر من الوحى ، هو الوحي الشيطاني .

الوحى الشيطانى

1 ـ    ذلك أن الوحي على عمومه ينقسم إلى نوعين : وحي إلهي بالقوانين التشريعية للأنبياء أو  بالإلهام لصالح النبوة ، أو للملائكة رسلا بين الله تعالى والبشر ، وأما بالقوانين الطبيعية داخل الكون المادي والكائنات الحية ، ثم وحى شيطاني يأتي نقيضا للوحي الإلهى يحاول اضلال البشر .

2 ــ    وقد تعرض القرآن الكريم لملامح ذلك الوحي الشيطاني من خلال عدة مستويات : ـ

2 / 1 :   تارة في توضيح الفارق بين الوحي الشيطاني والوحي الإلهي ، فالقرآن تنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين جبريل على قلب النبي ليكون من المنذرين وذلك بلسان عربي مبين ، ولايمكن للقرآن أن تتنزل به الشياطين إذ أنه عن السمع  معزولون ، ثم يخبر القرآن على من تتنزل الشياطين ، إنها تتنزل لتوحي على كل كذاب افاك أثيم ( الشعراء 192 – 210 – 221).

2 / 2 :     وتارة في توضيح الفارق بين النبي الذي يتلقى الوحي ألإلهي وبين أعدائه الذين يتلقون الوحي الشيطاني ، فيخبر رب العزة جل وعلا أن لكل نبي عدوا من شياطين الأنس والجن ، يوحي بعضهم إلى بعض أحاديث من زخرف القول يغتر بها البشر حين يصدقونها ، ويصغون إليها ويقترفون على أساسها الشرور ( الأنعام 112: 113) وتأسيسا على ذلك فهم يهجرون القرآن مما يجعل النبي محمدا يوم القيامة يشكو قومه الذين هجروا القرآن ، وهم بذلك يستحقون الوصف بأنهم أعداء النبي ( الفرقان 30: 31) .   2 / 3 :ويتبع ذلك حديث القرآن عن إتباع الوحي الشيطاني وهم يحاولون إغراء المؤمنين بالجدال في آيات الله  { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ : الأنعام 121}.

 3 ــ    وتارة يتحدث القرآن عن آلية الوحي الشيطاني أثناء نزول القرآن ، وبعد اكتمال الوحي القرآني ، فأثناء نزول القرآن كان الجن والشياطين ممنوعين من الإقتراب والتسمع ، حيث كان الوحي يتنزل مرورا بعوالم البرزخ ، وهو نفس المستوى الذي تعيش فيه الجن والمطرودون من عالم الملائكة حيث أصبح إبليس من الجن بعد لعنه وطرده من عالم الملائكة ، وهذا العالم البرزخي تخترقه الملائكة وهي تحمل الوحي ، ومن المنتظر أن تسترق الجن والشياطين إهتزازات الوحي بين السماء والأرض ، وهي تمر بعالم البرزخ ، ومن هنا كان حجبها ومنعها عن التنصت واستراق السمع ( الجن 8: 10 ، الصافات 7: 10) وذلك معنى حفظ الله تعالى للقرآن ، إنه حفظ في التنزيل وحفظ في التدوين وسيبقى محفوظا بقدرة الله تعالى في لفظه ونصه إلى قيام الساعة " {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ. الحجر 9}.

 4 ــ    وقبل نزول القرآن إستطاع الوحي الشيطاني أن يتداخل بالتحريف في الرسالات السماوية السابقة ، ثم نزل القرآن الكريم مهيمنا على الكتب السماوية السابقة ومصدقا للحق الذي جاء فيها . وبسبب حفظ الله تعالى للنص القرآني في التنزيل والكتابة والتدوين ، فإن المجال المتاح أمام أتباع الوحي الشيطاني هو في تحريف المعاني وتغييرها ، وفي الكذب على الله تعالى ورسوله في أحاديث تسمى بالقدسية أو النبوية ، وهي تنوء بما تحمل من إسرائيليات ، بالإضافة إلى الإسرائيليات الأخرى في العلم المسمى بالتفسير ، وهذا يعنى إستمرار الوحي الشيطاني بعد اكتمال الوحي القرآني وحفظه .

5 ــ    والله تعالى حين تحدث عن شياطين الجن والإنس الذين يوحي بعضهم إلى بعض إستعمل اللفظ المضارع الذي يفيد الإستمرار ، ثم أكد جل وعلا أن مشيئته الإلهية إقتضت السماح  بوجود الوحي الشيطاني نقيضا للوحي الإلهي فقال{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ: الأنعام 112} وهكذا فالوحي الإلهي الحق محفوظ وباق ، وكذلك الوحي الشيطاني موجود وباق ، وذلك إختبار للبشر وإختيار . فالإختبار للبشر في حريتهم في اختيار حديث الله تعالى في القرآن ، أو الأحاديث المنسوبة كذبا لله تعالى أو رسوله ،ولا يمكن الجمع فى الايمان بهما معا ، فإذا آمنت بحديث الله جل وعلا فى القرآن فلا بد أن تؤمن به وحده ، بحيث لو آمنت معه بحديث آخر أصبحت كافرا ، وهذا معنى قوله جل وعلا : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) الاعراف ، المرسلات 50  ) (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) الجاثية ) .

6 ــ وفي سورة الحج بخير رب العزة إن كل رسول أو نبي كان يتمنى هداية قومه ولكن الشيطان بوحيه يعطل تحقيق هذه الأمنية ، فينسخ الله تعالى وحي الشيطان ، أي يسمح بكتابته وتدوينه ، والنسخ في مفهوم القرآن يعنى الكتابة والإثبات ، وليس الحذف والإلغاء ، ثم يحكم الله تعالى آياته ، وذلك حتى يكون الوحي الشيطاني المكتوب في نسخ وكتب فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم ، بينما يكتفي أولو العلم بالوحي القرآني الحق ( الحج 52: 54).

 7 ــ    ومن آليات الوحي الشيطاني المشار إليها في القرآن الكريم أن الوسوسة الشيطانية يتلقاها كل البشر حتى المتقين ، ولكن المتقين يسارعون بالإستعاذه بالله من الشيطان الرجيم . أما أتباع الشيطان فتكون له السيطرة عليهم ( النحل 98، الإسراء 63ـ الأعراف 20) وتتنوع هذه السيطرة وتتدرج في دركات الضلال ، من تبرير المعصية إلى النفاق والشرك والكفر ، ثم تتخذ في النهاية طابعا مرضيا بالوسواس القهري والمنامات واختراع الأحاديث  الكاذبة ونسبتها لله تعالى في تجارة الدين ، وذلك معنى المس الشيطاني الذي يحتل الدرك الأسفل من الضلال والإضلال في مقابل التقوى ، ويكفينا في المقارنة بينهما قوله تعالى  {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ، وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ:الأعراف 201: 202}.

وكان الوحي الشيطاني عاما في العصر المملوكي :

    شمل مروجي الأحاديث الضالة بين أهل الحديث والصوفية ، كما شمل أصحاب المنامات والهاتف ، ولم يخرج عنه بقية الدجالين من المهووسين بالكيمياء وبالمطالب ، أي البحث عن الكنوز الفرعونية . وعقلية إبن خلدون في تمردها على عصرها بين سطور المقدمة أشارت إلى ذلك الهوس أو الوسواس الشيطاني القهر لدى أولئك ، فقال على من أصيب بوسواس المطالب " أن يتعوذ بالله من العجز والكسل في طلب معاشه وينصرف عن طريق الشيطان ووساوسه ".[30]

الوحي في التراث الصوفي

1 ــ   أما عن الوحي في التراث الصوفي فيكاد يظهر في كل صفحة فيه خلال المنامات والهاتف ، من رسالة القشيري ، وحتى العصر المملوكي في تراثه الصوفي والفقهي أيضا .

2 ــ ونعطي بعض أمثلة من كتاب " لطائف المنن " لإبن عطاء الله السكندري ، وهو كتاب مشهور بالإعتدال كتبه إبن عطاء في مناقب شيخيه أبي العباس المرسي وأبي الحسن الشاذلي ، فالمرسي يقول " سمعت البارحة يقال لي : السلام عليكم يا عبادي )، وزعم آخر أنه وجد نفسه في الجنة تعرض عليه بحورها وقصورها ، وقيل له " يا عثمان لو وقفت مع الأولى لحجبناك عن الثانية ..." ، ويقول الشاذلي " إن الله تعالى عاتبه فقال له : ياعلي إف لمن يكون الكلب أزهد منه " وقيل له أيضا " من علامة الصديقية كثرة أعدائها " وقال الشاذلي " لما علم الله ما يقال في أوليائه  والصديقين ، فبدأ بنفسه فقضى على قوم أعرض عنهم فنسبوا إليه الزوجة والولد ، فإذا قيل في صديق أنه زنديق أو قيل في " ولي " أنه غافل عن الله غوى ، فإن ضاق الولي أو الصديق بذلك ذرعا قيل له – أي جاءه الوحي : الذي قيل فيك هو وصفك لولا فضلى عليك ، وقد قيل في ما لا يستحقه جلالي "، أي أن الصوفي إذا هوجم جاءه الوحي الإلهي يهون عليه بأن الله تعالى ذاته يتعرض للهجوم والإفتراء ، أى إنه – جل وعلا فى زعم الشاذلى  – أتاح للناس أن يهاجموه حتى لا يتضايق الولي الصوفي إذا هوجم ، وهكذا حمل الوحي الصوفي كل إفتراء الصوفية على  الله تعالى ودينه.  وفي موضع آخر يقول أبو الحسن الشاذلي " رأيت كأني بين العرش فقلت يارب يارب ، فقال : لبيك لبيك ، فقلت يارب ، فاهتز العرش ، فقلت يارب ، فاهتز اللوح المحفوظ والقلم ، فقلت : اسألك العصمة ، فقيل لي : لك ذلك "[31]

الكشف والتنجيم في العصر المملوكي :

1 ـ   واعتقاد إبن خلدون في التنجيم جاء متسقا مع عصره ، ليس فقط في سيطرة التصوف ، ولكن لما أشار إليه إبن خلدون من  إهتمام السلاطين بمستقبلهم السياسي ، وذلك في عصور كان من السهل أن تقوم فيها دولة على حساب أخرى ، أو يسقط فيها سلطان ويرتفع فيها سلطان آخر . وقد عاب إبن خلدون دور هذه المعتقدات في " تطاول الأعداء " وقيام الفتن والثورات [32].

2 ــ    وحياة إبن خلدون السياسة التي تقلب فيها بين دول وإمارات تونس والجزائر والمغرب والأندلس أعطت له بلا شك شواهد على ذلك ، إلا أن شواهد العصر المملوكي كانت أكثر تأثيرا في مصر والشام .

3 ــ والخصوصية هنا تتمثل في أن السلطة المملوكية كانت لا تأبه كثيرا بمنطق الوراثة في الحكم ، وإنما بمقدرة الأمير المملوكي الطموح على إجادة فن التآمر لكي يصل إلى السلطنة ويقتل السلطان القائم الضعيف أو القوي ، أو ينفيه عن الحكم . حيث تساوى المماليك كلهم في الأصل والجلب من الخارج ، والتفاضل بينهم هو في مقدار الطموح للسلطة والمهارة في الوصول  إليها . ، وهنا يأتي دور التبشير بالسلطنة  فى تشجيع الأمير الطموح ، فهذا التبشير بالسلطنة لهذا المير أو ذاك يأتي من شيخ صوفي دجال  يزعم العلم بالغيب ، ويؤمن العصر بعلمه بالغيب ، ونفس الحال مع أى دجال آخر يحترف التنجيم أو علم الحرف ، وتتعاظم الصلة  بين أولئك وأولئك ، من الشيوخ الصوفية أو المنجمين ومن الأمراء والسلاطين . ومن الطبيعي أن تكون تلك البشارات بالسلطنة من عوامل الفتن تزيد من حدتها ، وكان من الطبيعي في ذلك الجو المضطرب بالفتن أن يبحث الشيخ الصوفي عن مملوك طموح فيغذي طموحه بتبشيره بالسلطنة ، ويسعى ذلك المملوك لها ، وعندما ينجح في الوصول إلى الحكم يعتقد في ولاية شيخه الصوفي الذي تنبأ له وبقربه منه  ويسمع له ويطيع في سلطنته ، أما إذا فشل ذلك المملوك فسيكون مصيره الإختفاء بالقتل أو النفي ، وتختفي معه نبوءة الشيخ بالسلطنة .

وهكذا ، أفلحت تلك اللعبة الصوفية، ووصل بها كثيرون من الشيوخ إلى موقع الحظوة والـتأثير السياسي ، وأبرزهم الشيخ خضر العدوي الذي بشر الأمير بيبرس البندقداري بالسلطنة ، وعندما وصل بيبرس إلى السلطة إعتقد في كراماته ، وأصبح للشيخ خضر العدوي نفوذ هائل في سلطنة الظاهر بيبرس الذي كان لا يسمح لأحد أن ترتفع رأسه في عهده [33] . وعن هذا الطريق توصل قطب الدين الهرماس للسلطان حسن القلاووني وعلا شأنه معه حتى صار يدخل عليه بلا إذن [34]  ، واشتهر القاضي شهاب الدين المالكي بسوء سيرته وجهله إلا أن السلطان الأشرف برسباي لم يسمع فيه أحدا لأنه كان يعتقد ولايته حيث بشره بالسلطنة ، وكان برسباي وقتها في السجن [35] .

4 ــ  واستفاد المنجمون من هذا الجو فراج أمرهم مثل إبن الشاهد المنجم الذي " راج أمره عند الظاهر برقوق فولاه مشيخة الطريقة وانصلح حاله " على حد قول إبن حجر [36] وبعد برقوق إستمرت شهرة المنجمين وتكاثروا حول الأمير شيخ يبشرونه بالسلطنة [37]. وكان ذلك متوقعا لأن الأمير شيخ وقتها كان " نجمه " في صعوده كمرشح للسلطنة ، وفعلا تولاها فيما بعد .

5 ــ     ولقد اقتصرنا على الإشارة إلى التنجيم السياسي أو تدخل التنجيم والعلم  اللدني في التبشير بالسلطنة ، وهو نوع من التحايل على السلاطين والأمراء . ولكن التحايل بالعلم اللدني والكرامات المزعومة تطرق إلى نواحي إجتماعية وإقتصادية ، أجبرت إبن خلدون على أن يهاجم منتحلي الكيمياء والنجوم والمطالب لخداع الناس . ومن هنا وجب علينا أن نلقي الضوء على ذلك من التاريخ الإجتماعي للعصر المملوكي لنرى كيف كان إبن خلدون متسقا مع عصره في هذه القضايا ومتأثرا به .. حيث استقرت الحياة الاجتماعية في مصر وكثرت المصادر التاريخية بحيث يمكن رصد تأثرها بالعقائد التي تأثرت بها المقدمة أكثر من مجتمع إبن خلدون نفسه .

 

 

 

( ق 2 ف 2 ) التأثر الموضوعي في القضايا الإجتماعية : من ملامح التاريخ الإجتماعى الذي يتفق مع المقدمة 

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الثاني :  مدى تأثر إبن خلدون بعصره في المقدمة منهجيا وموضوعيا

 

التأثر الموضوعي: في القضايا الإجتماعية : من ملامح التاريخ الإجتماعى الذي يتفق مع المقدمة 

التحايل والعلم اللدني

 1 ـ   وإدعاء العلم اللدني ومشتقاته هو الأساس في ممارسة الصوفية للتحايل ، وإذا راجعنا أقاويل الصوفية المشهورين في عصرنا المملوكي أيقنا أنهم لا يختلفون عن باقي المشعوذين ، فالدسوقي يقول " إذا كمل العارف في مقام العرفان أورثه الله علما بلا واسطة وأخذ العلوم المكتوبة في ألواح المعاني ففهم رموزها وعرف كنوزها وفك طلسماتها وعلم إسمها ورسمها ، وأطلعه الله تعالى على العلوم المودوعة في النقط ، ولولا خوف الإنكار لنطقوا بما يبهر العقول. وكذلك لهم من إشارات العبارات عبارات معجمة وألسن مختلفة ، وكذلك لهم في معاني الحروف والقطع والوصل والهمز والشكل والنصب والرفع ما لا يحصر ولا يطلع عليه إلا هم ،  وكذلك لهم  الإطلاع على ما هو مكتوب على أوراق الشجر والماء والهواء وما في البر والبحر وما هو مكتوب على صفحة قبة خيمة السماء وما في جباه الإنس والجن مما يقع لهم في الدنيا والآخرة ، وكذلك لهم الإطلاع على ما هو مكتوب بلا كتابة من جميع ما فوق الفوق وما تحت التحت " [38] 

2 ـ    وكان أبو العباس المرسي " يتحدث في العقل الأكبر والإسم الأعظم  وشعبة الأربع والأسماء والحروف ودوائر الأولياء وإمداد الأذكار ومقامات الموقنين والأملاك المقربين عند العرش وعلوم الأسرار وإمداد الأذكار ويوم المقادير وشأن التدبير وعلم البدء وعلم المشيئة وشأن القبضة ورجال القبضة وعلوم الأفراد وما سيكون يوم القيامة من أفعال الله مع عباده .. الخ [39] وكان يقول " لولا ضعف العقول لأخبرت بما يكون غدا ، وكان يمسك بذقنه ويقول لو علم علماء العراق والشام ما تحت هذه الشعرات لأتوها ولو سعيا على وجوههم [40].

3 ـ  وادعى أفضل الدين الشعراني أنه  إستخرج من سورة الفاتحة مائتي ألف علم ونيفا وأربعين ألف علم [41] ،

4 ـ  وإبراهيم المتبولي ، كان صوفيا أميا ومع ذلك يقول أعطيت إستخراج العلوم من القرآن العظيم من فقه وأصول ومعان وبيان وجدل وعروض وغير ذلك ، فلو جلس إلى مصنف نظيف القلب من الأدناس خال من الحسد لبينت له مادة كل علم وأوضحت له ذلك حتى لا يبقى عنده في ذلك شك [42] ويقول المتبولي  أيضا " لا يكمل الرجل عندنا حتى يعلم حكمة كل حرف تكرر في القرآن  ويخرج منه سائر الأحكام الشرعية إذا شاء " [43] .

علوم وهمية للتحايل

1 ـ       لقد ادعى بعضهم علوما وهمية لا جود لها إلا في مخيلته ، واخترع لها العناوين مثلما فعل الدسوقي والمرسي ،وآخرون ادعوا علوما محددة وثيقة الصلة بادعاء العلم اللدني مثل علم الحرف والسيمياء والاسم الأعظم والمطالب والرمل ، هذا بالإضافة للكيمياء وهي بدورها وثيقة الصلة بادعاء الكرامات .

2 ـ      وقد وصف الكثيرون بمعرفة تلك العلوم مجتمعة فقيل عن الشيخ أمين البرهان الطيب ت 743 أنه كان عالما بالكيمياء " إلى غير هذا مما كان مغري به من الروحانيات واعتقاد ما يقال من المخاطبات النجومية "[44] وكان شيخ الطريقة إبن الشاهد المنجم ت 801 " عارفا بحل الزيج متقنا لكيفية عمله في كتابه التقاويم وكان يعرف الضرب بالرمل وغير ذلك من الأمور الغيبية مع سلامة فيه وملازمة لبيته " [45] أي مع اتصافه بالصفات الحسنة كان يدعي علم الحرف ويضرب الرمل وعلم الغيب ، وبسبب معرفة أحدهم بالرمل وغيره – كما يقال عن إبن الميقاتي ت 801 قربه الظاهر برقوق وجعله شيخ طريقة [46]

     أما إبن زقاعة ( 724 – 816) فقد كان مشهورا – في اعتقاد عصره – بكونه " إماما بارعا متفننا في علوم كثيرة ولا سيما معرفة النبات والأعشاب والرياضة والتصوف " مع علم الحرف ومعرفة الإسم الأعظم والنجوم والكيمياء [47] وحين تجرد إبن بهادر ت 816 للتصوف وتعلم علم الحرف وأقام بمنزله قصده الناس لتعلم علم الحرف على يديه خصوصا وقد كان يدري " طرفا من الشعوذة والكيمياء " على حد قول إبن حجر [48].    وقال السخاوي عن الشيخ بلال الحبشي ت 876 " تعانى علم الحرف واشتغل بالكيمياء مع إلمامه بالتصوف ومحبته في الفقراء والخلوة "[49] وكان إبن قرقماس الحنفي ت 882 يدعي معرفة علم الحرف وعلم الكيمياء وهو شيخ لتربة الظاهر خشقدم [50] وتأثر الكثيرون بما أحدثه التصوف من رواج لهذه العلوم الوهمية فوصف كثيرون بمحاولة  تعلمها ، فالمقريزي المؤرخ المشهور قال عنه السخاوي أنه كان يعلم الرمل والإصطرلاب والميقات [51].

  3 ـ    وإذا كان كبار الصوفية يجعلون من ضرب الرمل مجديا في معرفة الغيب إلى درجة أن يتأثر المقريزي نفسه بذلك فإن المنتظر أن يكون العامة أكثر اعتقادا في ضرب الرمل ، ولابد حينئذ أن يكثر مدعو علم الرمل ، وقد كان ذلك قبل عصر المقريزي الذي ذكر بنفسه في السلوك أن الناصر محمد منع الجالسين في الطرقات لضرب الرمل والتكسب  بذلك " [52]   وكان ذلك في حوادث سنة 735 ، وبعدها بقرنين إنتشر الدجالون مدّعو هذه العلوم الخرافية ، واكتشف الناس أمرهم فاستنكف الشعراني منهم ، فالشعراني يفتخر بكراهيته منذ صغره لتعلم علم الحرف وعلم الرمل والهندسة والسيمياء وغيرها من علوم الفلاسفة وزجر أصحابه عن تعلم ذلك " فإنها أمور إنما يفعلها المفلسون من صفات الصالحين فيريدون أن يكون لهم تأثير في الوجود تشبها بالصالحين ".[53]

علم الحرف

1 ـ  تكلم إبن خلدون عن ارتباطه بقسمة الطبائع من الماء والهواء والنار والتراب وبالأعداد ، وذكر طريقة حساب النيم وهي حساب للحروف الأبجدية من الواحد إلى الألف آحادا ، وعشرات ومئات وألوفا . فلكل حرف عدد يساويه ومن مجموع حروف إسم الشخص يمكن جمع القيمة العددية ويعرفون طالعه كما يزعمون .

 2 ـ    وقد ظل علم الحرف تقليدا صوفيا معمولا به حتى أوائل هذا القرن يقول أحمد أمين " يزعمون أن لكل حرف سرا وأن أسرار القرآن كلها وضعت في سورة الفاتحة لأن سر الفاتحة وضع في البسملة وأن أسرار البسملة وضعت في حرف الباء وهكذا . وكل حرف له خواص وله أعداد ، ومن ذلك حروف الجمل وتقابل أبجد هوز ، الخ فالألف بواحد والباء بإثنين  ، ويقولون أن بعض هذه الحروف ناري والآخر ترابي ، وهوائي ومائي والأعداد للحروف كالأجساد للإنسان وللحروف قوة في باطن العلويات ولها هوة في باطن السفليات ، وبعضهم يجعل للحروف طبائع فبعضها حار وهي ا، و ، ن ، م ، ع وبعضها يابسة وهي س ف ب ج  وبعضها رطبة وبعضها باردة وللحروف إتصالات بالبروج معقدة تسبب العداوة والبغضاء والسعادة والشقاء ولهم في ذلك حساب طويل وكتب خاصة "[54] .

3 ـ      ووضحت تطبيقات علم الحرف فيما كتبه أحمد أمين آنفا ، وذلك ما كان معمولا به في العصر المملوكي كمحاولة لمعرفة الغيب ، فشاع إستخدام الحروف وإعدادها ، فالسلطان الظاهر تمربغا المملوكي الرومي الأصل ت879 كان يتوهم طول مدته في الحكم وأن الأمر عاد إلى الروم وأخذ ذلك من قوله تعالى " سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ"حيث كانت الباء باثنتين والعين بسبعين والضاد بثمانمائة ، بل زعم أن طالبا شاميا أخبره أنه سمع بسلطنته في مدينة غزة ، وانه أخبر بدمشق بمشاهدة درهم عتيق  مسكوك باسم الظاهر تمربغا ، ويعلق السخاوي قائلا : فالله أعلم [55] .   وقال شيخ الرباط بالخانقاه البيبرسية ، كان أول خروج تيمورلنك في سنة عذاب " يشير إلى أن أول ظهوره سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة لأن العين بسبعين والذال المعجمة بسبعمائة  والألف والباء بثلاثة ، وعد إبن حجر هذه المقالة من لطائف شيخ الرباط [56] وقالوا عن السلطان العزيز يوسف بن برسباي " كانت مدته أربعة وتسعين يوما " ومن الإتفاق الغريب أن عدة حروف عزيز بالجمل أربعة وتسعين [57] مع أن مدة سلطنته فيها شك كبير .

   وقال إبن إياس عن إنقراض الدولة القلاوونية " وقد صح ما أخبر به أرباب الملاحم " ووفق بين تاريخ إنقراض الدولة ، وأبيات من الشعر قيلت في ذلك بعد قيام الدولة البرجية [58] ومعناه أن أصحاب علم الحرف كانوا يحاولون إثبات دعواهم بشتى الطرق .

  4 ــ   ومن مشاهير الأولياء الصوفية المعتقدين أصحاب علم الحرف كان شرف الدين الإخميمي ت 648[59] ، وأبوذر 780 [60] الذي قدم القاهرة وكان يعرف علم الحرف ويدرس  كتب إبن عربي فاعتقده الناس ، ومثله شهاب الدين أبو العباس الذي كان معاصرا له وقدم مصر وأقام"_ftnref64" title="">[64] ، وإلى علم الحرف نسب الشيخ محمد بن على" الحرفي " ت806 الذي كان من خواص الملك الظاهر [65].   وكان علم الحرف من ضمن العلوم التي درسها زكريا الأنصاري ، أخذه عن إبن قرقماس الحنفي [66] وقال الشاعر إبن نباته :

   عندي غلام بعلم الحرف مشتغل    وأي حرف إلى الفحشاء منحرف

   أحكي الأنام لدال في تفاجعه         وأنفق الناس من ميم على ألف [67]

 5 ـ    وبعضهم ساعدته الظروف فوصل بعلم الحرف إلى الشهرة لدى الحكام ، ومنهم إبن زقاعة ت 816 الذي " كان عارفا بالأوفاق وما يتعلق بعلم الحرف مشاركا في القراءات والنجوم وطرف من الكيمياء ، وقد عظمه الظاهر – برقوق – جدا بحيث كان لا يسافر إلا في الوقت الذي يحدده له " [68] والناس فيه فريقان فريق على أنه ولي ويحكي عنه خوارق ، وفريق يزعمون أنه مشعوذ " وظهر تحايله لدى  السلطان برقوق فأعرض عنه ثم ما لبث أن علا نفوذه لدى إبنه السلطان الناصر فرج حتى كان لا يخرج إلى الأسفار إلا بعد أن يأخذ له الطالع ، إلا أن السلطان التالي المؤيد شيخ نقم عليه وأهانه ثم أعرض عنه فترك القاهرة [69] .

     وقال المقريزي عن الشيخ  الزعيفريني ت 830 " كان يزعم معرفة الحرف ويستخرج من القرآن ما يريد معرفته من الأخبار بالمغيبات " [70] أي أن المقريزي لا يصدقه ويعتبره محتالا ، وذلك ما قاله عنه السخاوي المؤرخ " كان يزعم أنه يعلم علم الحرف ويستخرج من القرآن ما يعلم به علم المغيبات ، وخدع بذلك طائفة من الأمراء في الأيام الناصرية وغيرهم من الأكابر "[71]والخداع معناه الحصول على أموال كثيرة يقول عنه إبن حجر " كان يتكلم  في علم الحرف ويخبر عن المغيبات لذلك مال إليه جماعة من الأكابر وأثرى " [72] .

    وقال إبن حجر عن ">  6 ــ     وقد وقف بعض الفقهاء من علم الحرف موقف المعارضة ، فيقول عنه الذهبي " إن الدخول في علم الحرف ينافي طريق السلف ، وهو في شق وما جاء به الرسول في شق وهو في حرمة الله تعالى بقوله : وإن تقولوا على الله ما لا تعلمون ، وقال النبي (ص) إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ، وعلم الحرف يشبه الكهانة والنجوم ، بل هو شر منه فنسأل الله أن يحفظ علينا إيماننا "[75].

   " السيمياء ":

من تطبيقات علم الحرف وتخصصت كما يقول السبكي في إحداث المرض أو المحبة أو البغض أو التفريق بين الزوجين على وجه الحقيقة ، أو تكون تخييلا لا حقيقة له ، ويفرق بينها وبين الشعوذة في أن الأخيرة مبنية على خفة اليد  والأخذ بالبصر [76] ورأينا اتصاف الكثيرين بعلم السيمياء ، ومن ذلك ما يقال عن الهرماس الصوفي أنه " كان يعرف أشياء عن السيمياء " [77] .

المطالب :

1 ـ وهي عبارة عن طلب إستخراج الكنوز المدفونة في باطن الأرض من آثار الفراعنة ، وطالما أن  العصر المملوكي يعتقد في علم  الصوفية بالغيب فمن المنتظر أن يكون " علم المطالب " من ممارسات الصوفية وطرقهم في التحايل .

2 ــ     وقبل العصر المملوكي زار مصر المؤرخ الطبيب عبداللطيف البغدادي وقال عن آثارها " ومازالت الملوك تراعي بقاء هذه الآثار وتمنع من العبث فيها والعبث بها وإن كانوا أعداء لأربابها .. وأما في زمننا هذا فترك الناس سدى وسرحوا هملا وفوضت إليهم شئونهم فتحركوا بسبب أهوائهم وجروا نحو ظنونهم وأطماعهم .. فلما رأوا آثارها هائلة راعهم منظرها وظنوا ظن السوء .. وكان جل انصراف ظنونهم إلى معشوقهم .. وهو الدينار .. فهم يحسبون كل علم يلوح لهم أنه على مطلب وكل شئ منظور في جبل أنه يفضي إلى كنز ، وكل صنم عظيم أنه حاصل لمال تحت قدميه ، فصاروا يعملون الحيلة في تخريبه ويبالغون في تهديمه ، ويفسدون صور الأصنام إفساد من يرجو عندها المال .. وينقبون الأحجار نقب من لا يتماري أنها صناديق مقفلة على ذخائر .. ومن كان من هؤلاء له مال أضاعه في ذلك ، ومن كان فقيرا قصد بعض المياسير وقوى طمعه وقرب أمله بأيمان يحلفها له ، وعلوم يزعم أنه استأثر بها دونه وعلامات يدعي أنه شاهدها " [78] .

وقد وضح في هذا النص ما عاينه عبداللطيف البغدادي من تدمير للآثار الفرعونية بحثا عن الكنوز والمطالب ، وكيف أضاعوا الأموال في ذلك البحث المحموم ، والسلطة الأيوبية لم تتدخل في الأمر وتركتهم وشأنهم ، وأن بعض الفقراء – أي الصوفية – كانوا يخدعون الأثرياء ويطمعونهم بتمويل عمليات البحث ويدّعون العلم اللدني .

 3 ـ     وقد كثر عددهم في عصر إبن خلدون ، فقال عنهم " كثير من صغار العقول يحرصون على استخراج الأموال من تحت الأرض ويبتغون الكسب من ذلك ويعتقدون أن أموال الأمم السابقة مختزنة كلها تحت الأرض .. مختوم عليها كلها بطلاسم سحرية لا يفض خاتمها ذلك إلا من عثر على علمه واستحضر ما يحله من البخور والدماء والقربان " أي أنهم بعد أن عجزوا عن الوصول للكنوز الفرعونية التي أجاد أصحابها اخفاءها وجدوا المخرج في الإدعاءات الصوفية في الطلاسم    والبخور والدماء والقرابين أي استرجاع بعض الممارسات الفرعونية ، وبذلك إزداد إرتباط المطالب بالتصوف والتحايل .

 وبازدياد الصوفية إزداد عددهم، يقول إبن خلدون " وجدوا لهم سوقا  رائجة في مصر ، حيث قبورالقبط منذ آلاف السنين مظنة لوجود توابيت الذهب فيها لذلك عني أهل مصر  بالبحث عن المطالب حتى  أنهم حين ضربت المكوس على الأصناف آخر الدولة ضربت على أهل المطالب ، وصدرت ضريبة على من يشتغل بذلك من الحمقى والمتهوسين فوجد بذلك المتعاطون من أهل الأطماع الذريعة إلى الكشف عنه والتذرع باستخراجه وما حصلوا إلا على الخيبة في جميع مساعيهم ".

 4 ــ   والدلجي – من تلاميذ إبن خلدون – يبحث إمكانية العثور على المطالب بالطرق الصوفية فيقول " وأما المطالب فلا بحث في إمكان أن يجد الشخص دفينا جاهليا أو إسلاميا على الإتفاق والصدف ، وإنما البحث في أن تحت الأرض مساكن وعمارات مبنية وفيها كنوز وأموال عظيمة وعليها موانع وطلسمات ، ولتلك الموانع طرق تزول بها ، وعلى تلك المطالب علامات وأمارات يتوصل بها إلى أمكنتها ويستدل عليها بها ، فهذا من مخارق المحتالين "[79] .

5 ــ     وقد أشارت الحوليات التاريخية إلى بعض ما ذكره البغدادي وإبن خلدون والدلجي . فيذكر إبن حجر أن بكتوت القرماني ت749 كان " مغري بالمطالب والكيمياء مع كثرة أمواله [80] " وحين سافر الغوري سنة 918 للتنزه عند الأهرامات أشاعوا أن هذه " بسبب مطلب " [81]ورويت حكاية عن بعضهم مضمونها العثور على كنز ذهبي بجوار الأهرام [82].

     وبعضهم أضاع أمواله في المطالب دون جدوى مثل الشيخ شمس الدين الصالحي ت843 الذي " كان مولعا بالمطالب ينفق عليها مع التقتير على نفسه " [83] وإبن قاسم العاجلى 835 الذي " غلب عليه حب المطالب فمات ولم يظفر بطائل " [84] ومثله أبو البقاء الشيباني 935[85].

      وفي القرن العاشر حين أيقن البعض من عبثية الحصول على المطالب بالطرق الصوفية قال مقالة الشعراني " الفقراء الصادقون في غنية عن عمل الكيمياء وفتح المطالب " إلا أن الأغلبية كانوا يقعون فريسة لتحايل الصوفية من مدعي فتح المطالب وفك الطلسمات السحرية ، وكانوا يقدمون لأولئك المحتالين ما يريدون حتى الطعام والشراب والزنا بالزوجات يقول الشعراني " وبعضهم يقول للرجل عندك في بيتك مطلب ما يفتح إلا أن تخلي أجنبيا بإمرأتك سبعة أيام وأكثر ، وينام ويصبح معهما ، ويخدمهما بنفسه ويطعمهما أطيب الطعام حتى يأتي لهما بالخمر ، وبعضهم يقول : لا يفتح إلا أن مكنتني من زوجتك على باب المطلب ، ونحو ذلك "[86].

 6 ــ     واحتل جامع الحاكم مرتبة هامة في عقيدة الباحثين عن المطالب ، ربما لنسبته إلى الحاكم بأمر الله الفاطمي الذي ادعى الألوهية وأحاطت الأسرار بنشأته وحياته ومقتله وآمن بعضهم برجعته بعد موته ، وكان من حوادث سنة 841 أن بعضهم أقنع السلطان برسباي بأن إحدى الدعامات في جامع الحاكم مملوؤة ذهبا ، وركب السلطان إلى الجامع فعلم عجزه عن ذلك وقال " إن الذي نأخذه من الدعامة يصرف على عمارة ما نهدمه ولا ينوينا غير تعب السر " [87] .

      وفي سنة 857 أمر السلطان بهدم مكان مبني على يمين محراب جامع الحاكم لأن شخصا قال للسلطان : عندي ما يدل على أنه بالموضع الفلاني صندوق بللور فيه أوراق تدل على خبيئة بالجامع المذكور ، يقول أبو المحاسن " فأمر السلطان يهدمه في حضرة الشخص المذكور فلم يجدوا إلا التعب وانتشار القالة " [88].

     وفي سنة 871 أخبر مغربي جيران جامع الحاكم أن به كنزا عظيما ، وعلامة ذلك أن يجدوا بعد الحفر قبة كبيرة ، وذكر أنهم وجدوا القبة وتحتها ما يشبه القاعة [89].

    وفي سنة 914 يذكر إبن أياس أن بواب جامع الحاكم طلع للسلطان وذكر له أنه رأى في المنام قائلا يقول له : قل للسلطان أن في جامع الحاكم في بعض دعائمه تحتها دنانير ذهب لا ينحصر عددها ، فمال السلطان لكلامه ، وأرسل خاير بك الخازندار والمحتسب والمهندسين ، وسألوا البواب فقال لا أعلم الدعامة التي تحتها الذهب ، فقال المهندسون ما يظهر ذلك حتى نهدم جميع الدعائم التي هنا ، فاجتمع الناس وكثر القيل واللقال ولم يوافق السلطان على هدم الجامع [90].

 7 ـ     وفيما عدا جامع الحاكم ذكر إبن إياس أنه احتال تاجر إسمه إبن القماح على صاحب قيسارية وأوهمه أن في بئرها كنزا واستطاع بذلك أن يسرق القيسارية [91]. . ومعناه أن التحايل في المطالب لم يعد قصرا على الصوفية .

 8 ــ     ولا يزال التحايل بالمطالب مستمرا على فترات متقطعة ، فلا تزال المطالب تعيش في الضمير الشعبي لإرتباطها الديني بالتصوف وكونها حلما يداعب خيال الناس ، ويأتي المثل الشعبي في عصرنا يقول في حصيلة المطالب " كل مطلب وعليه مهلك " ويقول فيمن نزلت عليه ثروة لا يستحقها " كلب أجرب وانفتح له مطلب " [92].

     وإلى جانب العلم اللدني كان إشتهار الصوفية بالكرامات . وعن طريقها كان التحايل على الناس بالكيمياء .

الكيمياء ( إدعاء قلب الأشياء ذهبا ):

بين الكيمياء والتصوف

    يتردد في الكرامات الصوفية إدعاء قلب  الأشياء ذهبا ، وقبل التصوف كان الحلم المشهور يراود الجميع بإمكانية تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب ، وعلى هذا الطريق سارت الكيمياء حتى إكتسبت ذلك المفهوم ، ولما تعذر الوصول إلى هذه النتيجة أمل الباحثون إلى الوصول إلى إمكانية التحقيق عن طريق القوة النفسية أو ما يعرف بالكرامة في عصور التصوف .

    يقول إبن خلدون عن الكيمياء " علم ينظر في المادة التي يتم بها كون الذهب والفضة بالصناعة " ، ويشرح العمل الذي يوصل إلى ذلك " فيتصفحون المكونات كلها بعد معرفة أمزجتها وقواها لعلهم يعثرون على  المادة المستعدة لذلك حتى من الفضلات الحيوانية . . فضلا عن المعادن " ثم يشرح الأعمال التي تخرج بها تلك المادة من القوة إلى الفعل مثل حل الأجسام إلى أجزائها الطبيعية بالتصعيد والتقطير . . " وفي زعمهم أنه يخرج بهذه الصناعات كلها جسم طبيعي يسمونه الإكسير ، وأنه يلقى على الجسم المعدني المستعد لقبول صورة الذهب أو الفضة . . بعد أن يحمى بالنار فيعود ذهبا إبريزا ، وكلامهم في الكيمياء ألغاز ورموز"  أي كأي علم قائم على غير أساس .

 وفي فصل بعنوان " في إنكار ثمرة الكيمياء وإستحالة وجودها وما ينشأ من المفاسد عن إنتحالها " يقول إبن خلدون " وأعلم أن كثيرا من العاجزين عن معاشهم تحملهم المطامع على إنتحال هذه الصنائع ويرون أنها أحد مذاهب المعاش ووجوهه وأن اقتناء المال منها أيسر وأسهل على مبتغيه " " وتحقيق الأمر في ذلك أن الكيمياء إن صح وجودها فليست من باب الصنائع الطبيعية ولا تتم بأمر صناعي ، وليس كلامهم فيها من منحى الطبيعيات، إنما هو منحى كلامهم في الأمور السحرية وسائر الخوارق ، وما كان ذلك للحلاج وغيره . . ومن طلب الكيمياء . . ضيع ماله وعمله لأنه تدبير عقيم واقع مما وراء الطبائع والصنائع كالمشي على الماء وامتطاء الهواء ، ونحو ذلك من كرامات الأولياء الخارقة للعادة ، والكيمياء ربما يؤتاها الصالح وغيره فيكون عملها سحريا ".

    فإبن خلدون بفكره الثاقب نفي عن  الكيمياء في عصره صفة العلم وألصقها إما بكرامات الأولياء التي يؤمن بها أو بالسحر ، وتلميذه الدلجي يتابعه في رأيه فيقول " أما الكيمياء فلا بحث في إمكانها على يد ولي من قبيل الكرامات وخرق العادات ولا في الوصول إلى تصحيح صيغها ظاهرا على وجه التلبيس والغش كما يفعله الفساق ، وإنما البحث في تصيير النحاس ذهبا حقيقة على طريقة صناعية مطردة ، فهذا مما لا أعتقد صحته ، وقد صنف الشيخ تقي الدين إبن تيمية رسالة في إنكارها وكذلك إبن القيم الجوزية كما حكاه هو عن نفسه في كتابه المسمى مفتاح دار السعادة.[93]

      ومن الطبيعي أن يقف العقليون هذا الموقف من الكيمياء طالما إرتبطت بالتصوف والخرافة ، وفي الرسالة التي أشار إليها الدلجي يقول إبن تيمية " فصار كثير من الناس لا يعلمون ما للسحرة والكهان وما يفعله الشياطين من العجائب وظنوا أنها لا تكون إلا لرجل صالح فصار من ظهرت له هذه يظن أنها كرامة فيقوى قلبه بأن طريقته هي طريقة الأولياء [94] . وإبن تيمية يظن أن الكيمياء يمكن أن تؤتي ثمرة ويجعلها إحدى الخوارق التي يؤمن العصر بإمكانية وقوعها على يد الولي الصوفي أو السحرة والكهان .

    واليافعي يتحسب لذلك الخلط بين السحر والكرامة فيقول " فإن قال قائل : تشبه الكرامات بالسحر فالجواب ما أجاب به المشايخ العارفون العلماء المحققون في الفرق بينهما إن السحر يظهر على أيدي الفساق والزنادقة والكفار . . أما الأولياء فهم الذين بلغوا الدرجة العليا ، فافترقا . ثم إن كثيرا من المنكرين لو رأوا الأولياء والصالحين يطيرون في الهواء لقالوا هذا سحر أو قالوا هؤلاء شياطين، فواعجبا كيف ينسب السحر وفعل الشياطين إلى الأولياء "[95]

     والشعراني حاول أن ينزه طريقه الصوفي من الكيمياء وما شاع حولها حين تكاثر منتحلوها في القرن العاشر ، فروي أن أخاه افضل الدين الشعراني أمره بعدم الإصغاء " إلى كلام من يزعم من فسقة المتصوفة أنه يعرف علم الكيمياء ‘ ، فإنه كافر " وأمره بأن يزجر أصحابه الذين يشتغلون بالكيمياء وقال له " كيمياء الفقراء هو أن يعطيهم الله تعالى حرف كن " [96] ، يعني يقول للنحاس مثلا كن ذهبا فيكون بدون تعب .

    ولا أدل على ارتباط الكيمياء بالتصوف  من أشهر علماء الكيمياء العرب وهو جابر بن حيان وصف بالصوفي ، وكان من أوائل من تسمى بذلك ، كما أن عثمان بن سويد الأخميمي الصوفي كان من تلامذة جابر بن حيان ، وكان في نفس الوقت وثيق الصلة بذي النون المصري الصوفي الرائد ، وكان ذو النون  المصري من ناحية أخرى في طبقة جابر بن حيان في صناعة الكيمياء [97].

الصوفية وإدعاء الكيمياء

    والشاذلي حكى عن نفسه " لما كنت في إبتداء أمري أطلب الكيمياء وأسأل الله  فيها ،  فقيل لي ( أي جاءه الوحي ) الكيمياء في بولك اجعل فيه ما شئت ، يعود كما شئت فحميت فأسا ثم طفيته في بولي ، فعاد ذهبا "[98] وهي طريقة عجيبة في الإدعاء ، ولكنها تتكرر في المصادر الصوفية عن الشاذلي فيقول في موضع آخر " كنت أطلب الكيمياء فقيل لي : الكيمياء في بولك " [99].

      وتلميذه أبو العباس المرسي لم يجد بعد كلمة الشاذلي إلا أن يقول " ماذا أصنع بالكيماء ؟ والله لقد صحبت أقواما يعبر أحدهم على الشجرة اليابسة فيشير إليها فتثمر رمانا للوقت ، فمن صحب هؤلاء الرجال ماذا يصنع بالكيمياء ؟[100].

     وبعضهم لم يكتف بالتسابق في ادعاء الكرامات الكيميائية ، وإنما طرق مجالا جديدا فأشاع – أحمد الزاهد – عن نفسه أنه تعلم الكيمياء فصنع منها خمسة قناطير ذهبا ثم نظر إليها وقال: أف للدنيا  ، ثم رماهها في سراب جامعه [101]، وصدقه الناس لأنه ولي فلقبوه بالزاهد بسبب هذه الخرافة .

    لذلك كان الولي الصوفي إذا اشتهر بالولاية أو بعلم الكيمياء يتوافد عليه المريدون أملا في تعلم الكيمياء وما يعنيه ذلك من أحلام طيبة ، فالشاذلي يقول "صحبني إنسان.. فقلت له ياولدي ما حاجتك ولم صحبتني ؟ قال ياسيدي قيل لي إنك تعلم الكيمياء فصحبتك لأتعلم منك " [102].

     وجاء رجل إلى شمس الدين الحنفي ليعلمه الكيمياء لأنه " فقير ذو عيال "  [103]، وإتهم بدر الدين النوري بعمل الكيمياء " فخدمه لذلك جمع من الأمراء منهم تغري بردي رجاء أن يتعلموا منه "[104].

     وحكى الشعراني أنه إدعى لأحد الأولياء أنه يعرف علم الكيمياء فصار يخدمه وتبعه على  أن يعلمه إياها ، وبعد مدة قال له الشعراني " هيهات كيف أعلمك شيئا يشغلك عن الله تعالى فما زال يقسم عليه فلا يجيبه ، ثم قال له الشعراني : يا شيخ محمد إن شهرتك في الزهد وأنت تحب الدنيا " [105] .

وافتخر الشعراني بأنه لا ينصب على  الناس ويوهمهم بأنه يعرف علم الكيمياء ليجتذبهم إلى صفه ويرشدهم إلى طريق القوم " كما عليه جماعة ممن برزوا في هذا الزمان من فقراء العجم ، وقد أتلف  هذا الباب خلائق لا يحصون ، وصار أصحابهم يجلبون أولاد المباشرين والتجار والعلماء إلى أشياخهم ، ويقولون شيخنا يقلب الأعيان ويجعل الرصاص ذهبا فيتركون الاشتغال بالعلم أو التجارة التي هي قوام معاشهم ويصير أحدهم يجعل له عذبه وجبة بيضاء " [106].

     وتصوف كثيرون واشتهروا بالكيمياء مثل إبن عبدالرحمن المطري ت 822 [107] وكان إبن الجابي خطيبا واعظا مشهورا يقصده الناس لسماع خطبته من حسن صوته " وكان مهووسا بعلم الكيمياء " بل كان الفقيه المشهور إبن دقيق العيد أيضا " مهووسا بعلم الكيمياء معتقدا صحتها " [108]

إضاعة الأموال على الكيمياء

    وبعض أولئك المهووسين بالكيمياء أضاعوا عليها أموالهم وأعمالهم كما يقول إبن خلدون ،ومنهم منصورالجناني الذي "كان أكثر ما يحصله يصرفه في عمل الكيمياء " [109] وكان الشيخ الطبري ت 800 إماما بجامع الطيبرسي " وفتن بصناعة الكيمياء فأفنى عمره وماله فيها ولم يحصل على طائل " [110] وانشغل إبن الأبله ت886 في الكيمياء " فكان ينفق ما يحصله من كد يمينه . . بحيث يصير مملقا وربما ليم على ذلك وهو لا ينكف "[111]وقال الشعراني " بلغني أن جماعة من الفقراء وطلبة العلم باعوا كتبهم وأمتعتهم في طلب علم الكيمياء ، وفتح المطالب وكان عاقبتهم الحرمان " [112] وكان علي الأسكندراني ت 802 أشهرهم جميعا قالت عنه المصادر التارريخية " أفنى عمره في الكيمياء تصعيدا تقطيرا ولم يصعد معه شئ [113].

     وذلك يعني أنهم مارسوا الكيمياء العملية بالتصعيد والتقطير للحصول على الذهب دون جدوى ، أي لم يكتفوا بادعاء الكرامات وغيرها . وفي طرق الكيمياء كتب شرف الدين المقدسي ت 712 كاتب الإنشاء تخميسا لشذور الذهب في صنعة الكيمياء [114] . ولكن بعض الصوفية أفتوا ببعض الوصفات ضمن إدعاءات الكرامات الكيماوية الذهبية ففي كرامة للشيخ الفرغل كان يعلم فيها بعضهم الإكسير الذي " إذا وضع درهم منه على مائه درهم من النحاس الأحمر يصير ذهبا والرصاص يصير فضة " [115] ، وكان الشيخ المحلي إذا أتاه فقير يستعين به في شئ من الدنيا يقول له : هات ما تقدر عليه من الرصاص فإذا جاء يقول له ذويه بالنار فإذا أذابه يأخذ الشيخ باصبعه شيئا يسيرا من التراب ، ثم يقول عليه بسم الله  ويحركه فإذا هو ذهب " [116]. وماأسهلها طريقة ، وما أنظفها بالمقارنة بطريقة الشاذلي المشهورة !!

    وكان إعتقاد الناس في جدوى الكيمياء راسخا مهما قال إبن  خلدون والدلجي ومهما رأوا أنه لا فائدة منها ، وذلك لارتباط التصوف بها ، إذ كان الناس على استعداد للتصديق بأي كرامة أو بأي خبر عن نجاح عملية كيمياء بل إنهم كانوا ينسبون هبوط ثروة على شخص ما بأنه يعرف الكيمياء ، إذ أن الخواجا إبن القبيش البرلسي حين شرع في بناء زاويته قال أعداؤه أن هذا المصروف العظيم إنما هو من الكيمياء [117] .

     ومات التاجر الثري ناصر الدين الكارمي ت 776 وخلف أموالا كثيرة فقال عنه أبو المحاسن " خلف أموالا كثيرة من المتجر وعمل الكيمياء ، بحيث أنه لم يكن أحد من أهل عصره أكثر مالا منه " [118].

    وعاش الصوفي إبن سلطان طويلا في أرغد عيش فاتهمه بعض الناس بمعرفة الكيمياء أو طرف منها خصوصا وأنه لم يكن يقبل من أحد شيئا إلا نادرا حسبما يحكي أبو المحاسن [119]وبعض الصوفية إدعى أنه كان ينفق من الغيب من كوة في بيته أو من تحت البساط يمد يده فيخرج المال – كما جاء في مناقب المنوفي – فاتهموه بعمل الكيمياء ، فشق ذلك على بعضهم وقالوا له : يقولون عنك إنك تعمل بالكيمياء ، فلم يتأثر بذلك بل قال : نعم نحن نعمل الكيمياء وهي تقوى الله . . [120].

    وقيل في ترجمة محمد التوزي ت 930 " كانوا يقولون أنه يعرف الكيمياء وكان يعلم أنهم لا يعظمونه إلا لذلك " [121].

التحايل بالكيمياء

    واتخذت الكيمياء وسيلة للتحايل على البسطاء من الناس وأكل أموالهم بحجة تحويل الأشياء لذهب أو فضة ، وفي  حوادث سنة 872 ورد أن أحمد المكناسي أتلف أموال بعضهم بالكيمياء " وعمل له قرصا إدعى أنه فضة فضربه الداودار الكبير وجرّسه " وحدث ذلك أيضا مع إبن حمادة ، [122] وطبيعي أن المراجع التاريخية لم تذكر إلا من ظهر أمره وتعرض لعقوبة الضرب والتشهير والتجريس .

     وبعضهم لم يكتف بالتحايل على البسطاء وإنما خدع السلاطين ، فأوسعت له المصادر التاريخية مثل يوسف الكيماوي ت 731 الذي اشتهر بالكيمياء فطلبه الناصر محمد وأحضر له الأدوات فأخرج له سبيكة جيدة عن طريق الحيلة فانخدع به الناصر وقربه ، إلا أن الخدعة إنكشفت ففر ، وانتهت حياته مسمرا مشهورا على جمل [123].

     وتكررت الحادثة سنة 852 في سلطنة جقمق ، فالشريف الأعجمي أسد الكيماوي " تغير عليه السلطان جقمق " لكونه أتلف عليه مالا كثيرا ولم يظهر لما ادعاه أثر ، وكان قد نصب على التاجر ابن  الشمسي حتى أخذ منه جملة من  المال بإيهامه الكيمياء وتنازعا أمام السلطان فصدقه السلطان ونصره على التاجر وقربه ، واستغل الكيماوي هذه الصلة بالسلطان فأغراه بنفي التاجر ، وكان أسد الكيماوي أيام صحبته للتاجر قد أغراه بطلاق زوجته ، لأنها كانت تحذره منه ، وتقول له إذا كان يعرف الكيمياء فلن يحتاج إليك وإلى غيرك ، وعندما لم يظهر أثر لمحاولات أسد أمر السلطان بسجنه بالمقشرة ، وتغير السلطان على المحتسب يار على العجمي ، وعزله وقبض عليه ، لأنه كان الواسطة بينه وبين الكيماوي ، وأنه الذي أشاد به عنده [124] .

الإتهام بالكيمياء

    لذا كانت ممارسة الكيمياء إتهاما في بعض الأحيان فيقال إتهم الشاذلي عند السلطان بأنه كيميائي "[125] ، كما إتهموا الشيخ حسين أبو علي بعمل الكيمياء [126]، وكان بعض الصوفية يأمر باخراج من يتهم بعمل الكيمياء من الزاوية ، بذلك أمر المنوفي والشعراني القائل " أخذ علينا العهود ألا نمكن أحدا من إخواننا بأن يشتغل بعلم جابر الملقب بالكيمياء ، ويجب إخراج من يفعل ذلك من الزاوية ، لئلا يفسد حال الفقراء " [127].

     وانتهى العصر المملوكي ولم تنته مؤثرات التصوف ومنها الكيمياء فيقول كلوت بك " وفي مصر جمع غفير من المشتغلين بالكيمياء يضيعون أموال السذج والبلهاء في البحث عن الحجر الفلسفي الذي يحول المعادن إلى ذهب ، ويعتقدون أنهم سينجحون في ذلك إذا استطاعوا أن يقضوا سبعة أيام بلياليها من غير نوم مطلقا [128] وهذا هو التجديد الذي جاء به التصوف في العصر العثماني .

الكيمياء والسحر

    إرتبطت الكيمياء بالسحر حتى أن إبن النديم في الفهرست عد جابر بن حيان كبير السحرة في هذه الملة ، وفسر كيمياء جابر بقوله : لأن إحالة الأجسام النوعية في صورة أخرى إنما يكون بالقوة النفسية لا بالصناعة العملية ، فهو من قبيل السحر . . [129].

    وقال إبن خلدون في الكيمياء " والكيمياء ربما يؤتاها الصالح وغيره فيكون عملها سحريا " أي يعبر عن الرأي السائد ، وهو أن الخوارق إذا ظهرت على يد ولي صوفي فهي كرامة ، وإذا ظهرت على يد غيره فهي سحر ، وأدى ذلك الإرتباط بين الكرامة والسحر والكيمياء إلى إنتشار الإعتقاد في السحر واتخاذه وسيلة للتحايل عن طريق الإيهام بقيام أعمال سحرية والإتصال بالجان .

       وكانت بعض الغرائب تفسر في ضوء السحر ، فيقول إبن الفرات أن إبن البرهان كان يقع له عجائب فيظن بعضهم أن له رئيا من الجن يخبره [130] ، وفي إحدى الفتن كانت السهام تطيش حول الأمير يلبغا المجنون ، يقول أبو المحاسن " واختلف الناس في أمره ، فمنهم من يقول كان معه هيكل منيع ، ومنهم من يقول كان يتحوط بأدعية عظيمة ، ومنهم من يقول كان ساحرا "[131].

    وفي سلطنة جقمق إختفى السلطان المعزول العزيز بن برسباي فثارت فتنة ، وكالعادة فتشوا البيوت وأخذوا المظلوم بذنب الظالم ، وكان من المظلومين امرأة مسكينة " تزعم أن لها تابعا من  الجن يخبرها بما يكون ، فتتكسب بذلك من النساء وجهلة الرجال ما يقيم أودها ، وذلك أنه وشى بها "  في الفتنة فاعتقلت [132]. أي كان الناس يذهبون إلى محتالين يزعمون السحر والإتصال بالجان ، وكان السحر وسيلة هامة في مكائد النسوة لأنهن بالطبع أميل لتصديق الخرافات ، ولم تسجل المصادر التاريخية إلا أخبار المشهورات من النساء ، ففي سنة 802 ادعت والدة الناصر فرج أن إحدى جواريها سحرتها وماتت الجارية ومعها نصراني تحت العذاب [133]. وفي سنة 852 طلق السلطان جقمق زوجته خوند الكبرى مغل لأنه إتهمها بأنها سحرت جاريته المحبوبة سورياي الجركسية [134].

     إذن كانت السلطة المملوكية تعتقد بجدوى السحر ، وكان عنصرا في المؤمرات السياسية ، ففي حوادث سنة 843 إتهم الزيني عبدالباسط بأن معه الإسم الأعظم أو أنه يسحر السلطان ، فإنه كلما أراد عقوبته صرف عن ذلك ، وفتشوه فوجدوا في ثيابه أوراقا فيها أدعية ونحوها [135].

    وقيل في سبب موت محمد بن جقمق ت 847 أنه سُحر فمرض من ذلك السحر ومات [136]  .

واتهموا يحيي بن الأتابكي أزبك بأنه قتل والده بالسحر عن طريق شخصين [137] كان عاقبتهما القتل .

    ولأن الشائع أن الساحر يجب أن يقتل ، فقد وقع أحدهم في جريمة قتل ولكي يبرئ  نفسه إدعى أن القتيل كان ساحرا ، وإن العلماء أفتوا بقتل السحرة [138] .

    والمقريزي مع عقليته الناضجة فقد كان يعتقد بجدوى السحر ، وقال أنه بوسع المرأة أن تمنع سقوط المطر إذا تجردت من ثيابها ورفعت رجليها وباعدت ما بينهما وهي نائمة بشرط أن تكون حائضا [139].

     وكان طبيعيا أن يزداد الإعتقاد في السحر في بيئة تؤمن بالتصوف ، ولذلك إنتشرت التمائم ، ومنها فائدة لوجع الرأس " جربت مرارا وهي أن يكتب الصورة الآتية ويككتب حولها إسم سيدي أحمد البدوي وسيدي إبراهيم الدسوقي وسيدي محمد الحنفي ثم توضع الورقة على محل الوجع " [140].

     واستمر الإعتقاد في جدوى السحر في العصر العثماني ، يقول كلوت بك " ومسلمو مصر يعتقدون أن بالإمكان القيام بالإجراءات السحرية بحسب مبادئ الخير أو الشر وتسمى نظريتهم في الحالة الأولى بالعلم الروحاني ، وفي الحالة الثانية بالعلم الشيطاني ،  فالسحر الروحاني . . يعمل بقصد محمود ، لأنه يعتمد فيه على الوسائل غير المنافية للدين " [141]. والبيئة الشعبية لا تزال تعتقد في السحر ، فيقول المثل الشعبي معبرا " روحي ياساحرة لا نايبك دنيا ولا آخرة " [142].

    وحتى الآن لا يزال الناس معتقدين في الأعمال السحرية ومنتحليها الذين يوصفون بالمشيخة ، ويطاردهم القانون بتهمة الإحتيال ، وبالتصوف أصبح أولئك المحتالون أشياخا ، يرتدون العمامة ويتمتعون باعتقاد المثقفين من المصريين . وفي جريدة الأخبار في 11/11/1978 عنوان يقول " إعترافات دجال : لماذا يقبضون علىٌ ومعظم زبائني من المثقفين ؟" وهو تساؤل في محله ، والإجابة عليه بالرجوع إلى تصوف العصر المملوكي واشياخه الذين خلطوا الشعوذة والسحر بالدين ، ونقرأ ما يقوله الشعراني عن نفسه مفتخرا : " ومما أنعم الله تبارك وتعالى به علىّ إعتقاد كثير من الإنس والجن واليهود فيّ الصلاح وإجابة الدعاء .." وإذا علمت ذلك فمن جملة إعتقاد المسلمين في أنني أعطي أحدهم القشة من الأرض ، إذا طلب مني  الدعاء لمريضة أو كتابة ورقة واقول له بخّر المريض بها ، فيفعل فيحصل له الشفاء . . فأعرف أنه لولا شدة إعتقاد أحدهم ما شفي الله تعالى مريضه بدخان تلك القشة ، فإن الأمور تجري بها المقادير الإلهية سرعة وبطأً بحسب قوة الإعتقاد وضعفه . . ووقائعي في ذلك كثيرة وشهيرة ، ومن جملة إعتقاد اليهود والنصارى أنهم يطلبون مني كتابة الحروز لأولادهم ومرضاهم ، فأعطي أحدهم القشة فيبخر بها مريضه فيحصل له الشفاء ، فأتعجب في إعتقادهم مع إختلاف الدين ، وكثيرا ما أقول لهم : لم لا تسألون رهبانكم وعلماءكم ، فيقولون : أنت أعظم عندنا من البترك ومن جميع أهل ديننا " [143]

السحر في القرآن الكريم

    وحقيقة السحر أنه مجرد إعتقاد أو إيحاء ، فالساحر يؤثر على المجال البصري للمشاهدين الذين يعتقدون فيه ، أو على إستعداد لتصديقه ، أو يتمنون أن ينجح في عمله ويقنعون أنفسهم أنه ناجح فيما يفعل . وبمعنى آخر فإن الساحر لايستطيع أن يحول العصا والحبال إلى ثعابين تسعى ، إذ تظل تلك الحبال مجرد حبال ، ولكنه ينجح في التأثير البصري على المشاهدين حيث يقتنعون أن تلك العصي والحبال قد تحولت إلى حيات وثعابين تتلوى وتتحرك . وهذا ما كان عليه سحرة فرعون مع المصريين الذين كانوا مقتنعين ومعتقدين في السحر والسحرة . ولم يكن موسى عليه السلام بعيدا عن هذا التأثر والتأثير بالثقافة المصرية ، لذلك فإنه وقع تحت تأثير السحرة ، ويكفينا أن نتدبر آيات القرآن ، يقول تعالى عن حال المشاهدين "ْ{ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ : الأعراف 116}أي أن سحرهم إنصب على أعين المشاهدين وسيطر عليهم بالإيحاء وبالترهيب فكان بذلك سحرا عظيما . فالسحر العظيم هو السيطرة الكاملة على عقول المشاهدين وإقناعهم بأن الجماد قد  تحول لكائن حي ، ويقول تعالى  في نفس الموضوع يصف حال موسى { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىَ َفَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى :  طه 66: 69  }. إذن سيطر سحرهم على موسى نفسه فتخيل أن العصا والحبال قد تحولت إلى ثعابين مما أخافه واستلزم الأمر أن يأتيه الوحي يثبته ويؤكد له أنه مجرد سحر ستقضي عليه معجزته  الحقيقية ، ولذلك فإن السحرة حين رأوا عصا موسى قد تحولت إلى ثعبان حقيقي يأكل العصا والحبال ، فإنهم سجدوا إيمانا وتسليما  بأن موسى نبي وليس ساحرا محتالا .

 وهكذا فالسحر مجرد تحايل يثمر مع ضعاف العقول ممن لديه إستعداد للتصديق والتأثر بالإيحاء . ولذلك فإن مجال تأثيره الأكبر ليس في الإيهام بقلب الأشياء إلى كائنات حية ، ولكن يتجلى أكثر في التاثير على المشاعر النفسية بتحويل الحب إلى كراهية ، والعكس ، وهذا ماأشار إليه القرآن في سحر هاروت وماروت :  { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه : البقرة 102 } والتفريق بين المرء وزوجه يستطيعه كل إنسان خبيث ، وليس السحرة فقط ، ومع ذلك فإن الأمر يتوقف أساسا على مشيئة الله تعالى . وهكذا فالسحر مجرد وهم لا حقيقة له ، ولا يؤثر نفسيا إلا على من يصدقه ويؤمن به ، ولذلك يفلح السحر في عصرنا مع ضعاف العقول في شتى الطبقات ، خصوصا في الريف ، حيث يمارس الدجالون " الربط "الجنسي للرجال ليلة الزفاف طبعا الرجال الذين يؤمنون بهذا الدجل .

 

 

( ق 2 ف 2 ) التأثر الموضوعي فى المقدمة : في  القضايا السياسية من وحدة الفاعل الصوفية إلى الثيوقرطية واستبداد الدولة الدينية

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الثاني :  مدى تأثر إبن خلدون بعصره في المقدمة منهجيا وموضوعيا

 التأثر الموضوعي : في  القضايا السياسية من وحدة الفاعل الصوفية إلى الثيوقرطية واستبداد الدولة الدينية

1 ـ    أحسن إبن خلدون صنعا حين أنكر التحايل ببعض تجليات عقيدة العلم اللدني المزعوم ، والكرامات المدعاة ، فيما قاله عن الكيمياء والمطالب ، إلا أنه أسهم في ترسيخ أكبر عملية تحايل  راجت في العصور القديمة والوسطى ، ولازالت تروج بيننا حتى الآن ، وتجد لها الدعاة والأعوان ، وهي الحكم الديني ، أو الإستبداد السياسي بإسم الله ، أو أن يكون الخليفة حاكما بإسم الله ، أو الحق الملكي المقدس .

2 ــ  وتلك أسطورة تتضمن الكذب على الله تعالى أولا ، إذ أنه جل وعلا لم يعط أحدا الحق في أن يتكلم أو يحكم بإسمه من هؤلاء السلاطين والخلفاء ، وإنما هو التسلط بالقوة واخضاع الناس عن طريق فتاوي وتشريعات دينية يخترعها علماء السلطة ، وكان منهم إبن خلدون الذي أرهق عقليته العبقرية في صياغة أرضية دينية عقيدية للثيوقراطية ، ووجدها – ليس في القرآن – ولكن في عقائد التصوف  ، ونقصد بها وحدة الفاعل ، وهي العقيدة الحاكمة لدى عقلية إبن خلدون .

وحدة الفاعل بين سطور المقدمة

 وتناثرت عبارات إبن خلدون التي تعبر عن عقيدته في وحدة الفاعل ، وإنه الله تعالى وحده .

1 ــ  يقول مثلا في موضوع أبطال صناعة النجوم " تأثير الكواكب فيما تحتها باطل ، حيث لا فاعل إلا الله "[144]

2 ــ ويتحدث عن التوحيد باعتباره العجز عن إدراك الأسباب وكيفيات تأثيرها وتفويض ذلك إلى الخالق جل وعلا فيقول" إذ لا فاعل غيره ، وكلها ترتقي إليه وترجع إلى قدرته " [145] ، وذلك يعني أن البشر لا يفعلون الشرور ، بل إن مصدرها هو الله – تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. - وهذا ما يشير إليه إبن خلدون حين يقول " لا يتم الخير الكثير إلا بوجود شر يسير حتى في القضاء الإلهي ، وذلك معنى وقوع الظلم في الناس " [146] أي ينسب الظلم إلى الله تعالى.

3 ـ وهو هنا يتجاهل عشرات الآيات القرآنية التي تؤكد أن الله تعالى لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ، والآيات التي تؤكد مسؤولية كل نفس على ما تفعل ، ويتجاهل كذلك أن عقيدة الفاعل هذه تعني أنه لا حاجة إلى إرسال الرسل والأنبياء والكتب السماوية ، كما أنه لا داعي للحساب والثواب والعقاب واليوم الآخر طالما لا مسؤولية على البشر فيما يفعلون،  لأنهم ببساطة لا يفعلون، وأن الله جل وعلا بزعمهم هو الفاعل وحده .

4 ــ ولكن هذه العقيدة – الضالة – وإن كانت تتناقض مع عقائد الإسلام ، فإنها تتفق في نظرية إبن خلدون – مع الثيوقراطية أو الإستبداد الديني السياسي . وعلى ذلك فإنه إذا كانت الشورى الإسلامية تتفق مع عقيدة ( لا إله إلا الله ) ، فإن الإستبداد السياسي يحتاج إلى عقائد دينية أخرى لا تتفق والإسلام لأنها تؤله الحاكم المستبد وتزعم أنه ( ظل الله على الأرض ).!

5 ــ  فما هي نظرية إبن خلدون في الربط بين وحدة الفاعل والثيوقراطية ؟.

 من وحدة الفاعل إلى الثيوقراطية

1 ــ     وتبدأ ملامح هذه النظرية في أن إقامة الدولة إنما هي فعل منسوب لله ، يقول إن الناس يتناسون "ما فعل الله أول الدولة " " حين أقام الدولة [147] .

2 ــ ومن الطبيعي أن يكون ذلك بتدبير وسائل إقامة الدولة من القوة والعصبة المؤبدة ، أو العصبية في لغة إبن خلدون ، ويرى ان الله تعالى يساعد في إيجاد هذا التدبير لإقامة الملك الذي يريده والذي يحكم بإسم الله 3 ـ ويقول إن السياسة والملك هي " كفالة الخلق وخلافة الله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم ، وأحكام الله إنما هي خير ورعاية للمصالح .. بينما تقوم أحكام البشر على الجهل والشيطان ، والله تعالى فاعل للخير والشر معا ، إذ لا فاعل سواه ، ومن حصلت له العصبية والقوة مع أخلاق الخير لتنفيذ أحكام الله ، فقد تهيأ للخلافة وكفالة الخلق ".

4 ــ  ولأن أسباب القوة هي الدليل على التأييد الإلهي فإن إبن خلدون يستنكر دعوات الفقهاء السياسية وثوراتهم الفاشلة حيث يفتقرون إلى العصبية والقوة المؤيدة ، وحينئذ فهم عصاة ، يقول " وأكثرهم يهلكون في تلك السبيل مأزورين غير مأجورين ، لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم " [148] ، أي أنه لو أقام لهم عصبية مسلحة وقبولا بين الناس بحيث ينجحون فمعنى ذلك أن الثورة مفروضة عليهم ، وإلا فهم عصاة مخذولون ، وينبغي أن يفهموا أنه طالما حرمهم الله من القوة والعصبية فأنه لم يأذن لهم بالثورة تأسيسا على أنه الفاعل وحده – جل وتعالى عن ذلك .

5 ــ ومن هذا المنطلق  أيضا نرى إبن خلدون يستنكر الروايات التاريخية التي تنال من الرشيد والمأمون والعباسة وبوران  بنت الحسن بن سهل ويحيي بن أكثم قاضي  القضاة في عهد المأمون . ودفاعه عنهم عاطفي يفتقر إلى المنطق ، ويتردد فيه أن ذلك لا يليق بهم. ومع أنه إستعمل الأسلوب العقلي المنطقي في نفي روايات أخرى ، إلا أن المنطق تجافاه هنا في دفاعه العاطفي.  وبنفس القدر كان لا يحترم الضعاف من خلفاء الأمويين والعباسيين .

6 ـ  والواضح أنه – طبقا لعقيدته في وحدة الفاعل – يرى أن نجاح  الحاكم في إقامة وتوطيد سلطانه دليل كاف على صدقه وعصمته ، وبرهان كامل على دحض كل رواية تسئ إليه أو لا تتفق مع عظمته إذ لا ينبغي أن يقع في أخطاء وسقطات يمكن أن يقع فيها بقية الناس . ومن هنا كان دفاعه عن الرشيد والمأمون ضد من نسب لهما شرب الخمر ، وكان كذلك دفاعه عن نسب الأدارسة والفاطميين ، بل ونسب محمد بن تومرت منشئ دولة الموحدين.  وهو يقرن دفاعه بنبرة إستجداء دينية ، تؤكد أن عقيدته في وحدة الفاعل هي الأساس في ذلك الدفاع، أي فطالما يعتقد أن الله – تعالى عن ذلك علوا كبيرا– هو الفاعل  الحقيقي وهو الذي أقام لهم هذا الملك فلا يصح الإنتقاص من شأنهم أو التشكيك في نسبهم.  وعلى سبيل المثال يدافع عن الفقيه محمد بن تومرت ونسبه المزعوم لآل البيت ، فيقول " لو كان قصده غير صالح لما تم أمره وانفسحت دعوته ، سنة الله التي قد خلت في عباده " . [149]  .

7 ـ وعنده أنّ الخليفة إذا وصل إلى السلطة فهو أبلغ دليل على تأييد الله تعالى له ، وأنه على ذلك أصبح مالكا للرعية كفيلا بها بالضبط  مثل النبي عندما ينزل عليه الوحي ويصير به نبي إختاره الله تعالى للتبليغ . وإبن خلدون يقول " وإذا نظرت سر الله في الخلافة تأكد من ذلك أن الله جعل الخليفة نائبا عنه في القيام بأمور عباده ليحملهم على  مصالحهم ويردهم عن مضارهم ، وهو مخاطب بذلك ولا يخاطب بالأمر إلا من له قدرة عليه " [150] ويرى في موضع آخر أن الله قد استرعى السلطان على الخلق  والعباد[151]، ولذلك يوجب على الناس أن يكون الدعاء للخليفة بما فيه مصلحة العالم حيث أنه المسؤول عن مصالح العالم ، واستشهد بقول السلف " من كانت له دعوة صالحة فليضعها في السلطان "[152].

الثيوقراطية وقهر الرعية

1 ـ   وحيث يتملك السلطان الرعية ويقوم على رعايتها – شأن الراعي مع الأغنام – فإن  عليه كما يقول إبن خلدون أنه يحملهم على مصالحهم ويردهم عن مضارهم ، و ( حمل على ) يعنى قهر وألزم ، وبذلك يرتبط بالإستبداد قهر الناس وإكراههم في أمور الدين والدنيا ، يقول أن الملة لابد لها من قائم بها عند غيبة النبي يرغم الناس على أحكامها وشرائعها ، وهو يخلف النبي في الذي جاء به من التكاليف الشرعية . ويحتاج المجتمع إلى ملك يرغمهم على  العدل .

2 ـ ويصل الى تسويغ الجهاد ( السلفى ) أو الفتوحات التى قام بها الصحابة والأمويون ومن عداهم . هذا بالرغم من أنه إعتداء ظالم على أمم لم تقم بالاعتداء على المسلمين فى جزيرتهم العربية . وتشريع الاسلام يؤكد أن القتال هو للدفاع فقط (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)  البقرة ) (  لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (9) الممتحنة ) ، ولكن ابن خلدون بثقافته السلفية يتابع الفقه السلفى فى أن هذا الجهاد في الإسلام مشروع  لإرغام الناس على الإسلام طوعا أو كرها متناسيا أنه لا إكراه فى الدين ، ويقول أنه لذلك إتخذت فيها الخلافة والملك لتحقيق ذلك ، وبذلك إفترقت الملل الأخرى عن الإسلام إذ لم يكونوا كالمسلمين مكلفين بالتغلب على الأمم الأخرى [153].

3 ــ ويقول أن النبوة أو الدعوة تقوم على القهر ، وأن العصبية – أو القوة المسلحة الموالية للسلطان – يُحتاج إليها في كل أمر يتم فرضه على الناس من نبوة أو إقامة ملك أو دعوة إذ يتحتم القتال لما في طبائع البشر من العناد [154].  ويكرر ذلك في موضع آخر فيقول أن العصبية ليست مذمومة في حد ذاتها إلا إذ كانت في الباطل ، أما العصبية في سبيل الحق فهي المطلوبة لإقامة الشرع ، وكذلك الملك إذا كان للظلم والترف والشهوات فهو مذموم وإن كان للتغلب بالحق وقهر الكافة على الدين ومراعاة المصالح فليس مذموما ، واستدل بأن المسلمين إرتضوا أبا بكر للخلافة وهي  لحمل الناس كافة على أحكام الشريعة .[155]

تقعيد الثيوقراطية

1 ــ     ويقسم إبن خلدون النظم السياسية إلى ثلاثة أقسام (1) الملك الطبيعي وهو الإستبداد القائم على القهر والهوى والشهوة ، (2) الملك السياسي وهو حمل الناس أو قهرهم بالنظر العقلي لما فيه مصالحهم ودفع الأضرار ، (3) الملك الديني  أو الخلافة ، أو الثيوقراطية وهي حمل الناس أو قهر  الناس على التمسك بالشرع لمصلحة الدنيا والآخرة . ويرى القسم الثالث هو الأفضل [156].

2 ــ    ويقولها صراحة أن السلطان من له رعية ، والرعية من لها سلطان ، ويجمع  بينهما أن السلطان يملك الرعية [157] ، أي أن الرعية مجموعة قطيع من الأنعام يمتلكها السلطان بزعم أن هذه إرادة الله وفعله . 3 ــ بل يجعل إبن خلدون من الواجب على الرعية أن تقوم بنصب ذلك الراعي الذي يملكها ويقهرها ، فيقول أن نصب الإمام واجب شرعا بالإجماع  لأن الصحابة بايعوا أبا بكر وسلموا النظر إليه في أ مورهم ، وأهل الحل والعقد هم الذين يقومون بنصب الإمام ويجب على الخلق جميعا طاعته ويستشهد بقوله تعالى :  { أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ }[158].

4 ــ ويرى أن البيعة للسلطان هي مبايعة الأمير والتسليم له والإنقياد ، وأن يفوضه كل إنسان في النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين  لا ينازعه في شئ من ذلك ، وأن يطيعه فيما يكلفه به من أمر .

5 ــ     ويلتفت إبن خلدون إلى البيعة ببعض التفصيل فيقول أنها كانت بوضع اليد في يد الأمير ، فأصبحت في عهد إبن خلدون تقبيل الأرض او اليد أو  الرجل ، وصارت حقيقة عرفية حلت محل المصافحة  لحفظ منصب المملكة من الإبتذال حين يصافح الناس الملك ، ويجعل إبن خلدون من معرفة معنى البيعة فرضا واجبا نحو السلطان أو الإمام [159].

6 ــ    ولايكتفي إبن خلدون بأن يجعل السلطان متحكما في الناس في حياته ، بل يجعل ذلك مستمرا بعد وفاته ؛ يقول " الإمام ينظر ( أى يفكر ويدبر )  في مصالح الأمة لدينهم ودنياهم ، لأنه وليهم والأمين عليهم ، وهو ينظر لهم في حياته وبعد مماته، بأن يقيم لهم من يتولى أمورهم بعده، والأمة تثق بنظره وفيمن يوليه عليها " [160].

  7 ــ   وفي النهاية لا يرى إبن خلدون في الإستبداد عيبا ، فقد  إنفرد سليمان وداود بملك بني إسرائيل [161] !! . . إلا أنه سرعان ما يناقض نفسه فيجعل من الأمراض المستعصية إستبداد الملك وعشيرته ، ثم إستبداد الحاشية وحجّاب المملكة [162]. ثم يعترف بين السطور  وعلى إستحياء بأن العدل المحض لا يوجد إلا في الخلافة الشرعية ، أي الخليفة  الملتزم بالشرع ، ثم يقول " وهي قليلة الدوام [163].

8 ــ     ويطول بنا المقام لو رددنا على ما قرره إبن خلدون ، ولكن نكتفي بتقرير أن حرية الرأي والعقيدة في الإسلام بدون حد أقصى ، وذلك ما صادرته الدولة العباسية باختراع حد الردة المزعوم . وحرية الرأي في الإسلام هي أساس المسؤولية للبشر يوم القيامة ، وقد فصلنا القول في هذا الموضوع في مؤلفاتنا [164]،  ولكن نتوقف مع لمحة سريعة فى توضيح الفارق بين الدولة الاسلامية المدنية الديمقراطية فى التشريع الاسلامى والتى طبقها النبى عليه السلام وبين الدولة الدينية المستبدة  التي أقيمت فيما بعد عصر النبي عليه السلام .

 

 

 

 

 

 

 

( ق 2 ف 2 ) بين الشورى والإستبداد في تاريخ المسلمين : قراءة سريعة

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الثاني :  مدى تأثر إبن خلدون بعصره في المقدمة منهجيا وموضوعيا

ملاحظة : سبق نشره بالانجليزية فى الموقع


The Islamic History between Democracy and Despotism

http://www.ahl-alquran.com/English/show_article.php?main_id=2930

 

 

       بين الشورى والإستبداد في تاريخ المسلمين : قراءة سريعة

     من الصعب إيجاز تاريخ المسلمين السياسي في صفحات معدودة ، وهو يدور حول قضية الخلافة الرشيدة وغير الرشيدة ، ومن الأصعب أن يغطي هذا التاريخ الموجز قضايا عميقة التأثير دينيا وسياسيا.

    ولأنها قراءة سريعة فقد آثرنا أن نتوقف عند محطات تاريخية فاصلة ، نعطي كلا منها عنوانا يدل عليها . ونبدأ هذه المحطات بدولة النبي عليه السلام .

أ- دولة النبي في المدينة : الشورى = الديمقراطية المباشرة

   والملمح الأساسي هنا أن الشورى كانت فريضة إسلامية ، منبعها الأساسي عقيدة (لا إله إلا الله) ، وكان المسلمون يمارسون هذه الفريضة في المسجد . ويتفرع عن هذا الملمح الرئيسي المعاني القرآنية الآتية :

  1- الشورى جزء من عقيدة الإسلام ، فالله تعالى وحده هو الذي لا يسأل عما يفعل، وما عداه من المخلوقات يتعرض للمساءلة (الأنبياء 23) والنبي محمد عليه السلام كان مأمورا بالشورى ( آل عمران 159) ومعناه أن الذي يستنكف عن الشورى إنما يرفع نفسه فوق النبي أي يكون مدعيا للألوهية . ويرتبط بذلك التكرار القرآني لقصة فرعون وإستبداده الذي أدى به إلى إدعاء الألوهية وإهلاك نفسه وقومه . أي أن الإستبداد شرك وكفر ، وأن الشورى من ملامح عقيدة لا إله إلا الله .

   2- ولأنها جزء من عقيدة الإسلام فالمنتظر أن تكون فريضة إسلامية كالصلاة ، وهنا نلفت النظر إلى أن الأمر بالشورى كإحدى ملامح المجتمع الإسلامي جاء في سورة مكية قبل أن تقوم للمسلمين دولة ، وإسمها سورة الشورى ، وجاء الأمر بها بالجملة الإسمية التي تفيد تمام الثبوت وتمام التأكيد ، وجاءت الشورى ضمن عدة أوامر إسلامية أساسية ، بل جاءت فريضة بين فريضتي الصلاة والزكاة ( الشورى :38) أي أن الشورى فريضة كالصلاة ، فإذا كانت الصلاة تؤدى في المسجد وفي البيت وفي أي مكان فالشورى كذلك ، وإذا كانت الصلاة فرض عين لاتجوز فيها الإستنابة أو التمثيل النيابي ، فالشورى كذلك . فالمؤمن مأمور بالشورى في بيته وعمله ، كما هو مأمور بألا يتخلف عن الشورى في الأمور العامة في المسجد، حيث إعتاد المسلمون في دولة المدينة أن يرفعوا الآذان  بقول " الصلاة جامعة " فيجتمع المسلمون جميعا ، رجالا ونساء ويتكون مجلس عام – وليس مجلسا نيابيا – كل أعضائه أفراد المجتمع، ( أو جمعية عمومية )  ويتداولون في الأمر المعروض ، وهذا ما تردد في القرآن مجالس الشورى ، وهذا ما أهملته المصادر التاريخية للسيرة النبوية لأنها كتبت في عصور الإستبداد العباسي . بمثل ما أهملوا تدوين خطب الجمعة للنبي عليه السلام ، ومن مجالس الشورى وخطب الجمعة للنبي كل أسبوع تعلم المسلمون على يد النبي إقامة دولة مدنية في المدينة وسط المجتمع الصحراوي .

 3 ــ     ويكفينا من حديث القرآن عن مجالس الشورى تلك الآيات الأخيرة من سورة النور ، وهي أوائل ما نزل في المدينة ، والواضح من قراءتها أن بعض أهل المدينة لم يتعود حضور مجالس الشورى ، فكان يتخلف عنها بعذر أو بدون عذر ، أو كان يتسلل خارجا ، فجاءت الآيات بانذار شديد لهم تجعل حضور هذه المجالس فريضة إيمانية تعبدية ،حتى لا يتحول المجتمع إلى أغلبية صامته وأقلية متحركة تقبض على زمام الأمور وتمارس الحكم النيابي ، ثم بعده الإستبداد الفردي – وهذا فعلا ما حدث بالترتيب بعد

وفاة النبي . .

هذا عن الملمح الأساسي في الشورى الإسلامية كما عرفها وطبقها النبي عليه السلام في المدينة .  وهو كون الشوري جزءا من عقيدة الإسلام وفريضة تعبدية كالصلاة تماما.

   ونصل إلى الملمح الفرعي ، وهوالسياسي ، وتتفرع عنه المبادئ القرآنية  الآتية :

1- أن الأمة هي مصدر السلطات ، أي أن المجتمع هو صاحب الحق المطلق في الحكم.   والنبي محمد حين كان حاكما قال له ربه {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر: آل عمران 159}أي بسبب رحمة من الله جعلك لينا معهم ، ولو كنت فظا غليظ القلب  لانفضوا من حولك ، وإذا انفضوا من حولك فلن تكون لك دولة ولن تكون لك سلطة ،

  وستعود إليك سيرة الإضطهاد التي كانت في مكة ، إذن فاجتماعهم حولك هو الذي أقام  لك سلطة سياسية ، ودولة ، أي أنهم مصدر السلطات ، لذا فاعف عنهمم إذا أذنبوا في حقك واستغفر لهم إذا أساءوا إليك ، وشاورهم في الأمر لأنهم أصحاب الأمر والسلطة .

 2- ويترتب على هذا أن الدولة الإسلامية لا تعرف وجود الحاكم بالمفهوم الديمقراطي الغربي وفق نظرية العقد الاجتماعي الديمقراطية ، لأن المجتمع هو الذي يحكم نفسه بنفسه ، ولهذا تأتي الأوامر السياسية في القرآن لا تخاطب حاكما وإنما تخاطب مجتمع المسلمين تأمره بأداء الأمانة والحكم بالعدل ( النساء 58) ( النحل 90 ، الأنعام151).

 بل إن لفظ يحكم في القرآن جاء ليس بمعنى الحكم السياسي ولكن بمعنى التقاضي ، باعتبار أن إقرار العدل هو أهم واجبات الدولة الإسلامية. ولفظ ( الحكام ) بمعنى الحكم السياسى جاء فى القرآن الكريم مرتبطا بالفساد وأكل أموال الناس بالباطل (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) البقرة  )

3- أما آلية حكم المجتمع نفسه بنفسه فعلى أساس الشورى التي تعني الحكم الجماعي ومساءلة أولي الأمر بعد طاعتهم في إطار طاعة الله ورسوله . وأولوا الأمر في مصطلح القرآن تعني أصحاب الشأن والإختصاص في الموضوع المطروح ، وبهذا جاء المعنى في آيتين في  القرآن (النساء 59، 83 ) .

وليس هذا نظاما يوتوبيا خياليا ، بل نجح في إقامة دولة النبي وتأسيس أمة وكوادر ، وأقرب النظم  الحديثة له في عصرنا هو دول الإتحاد السويسري وبعض مناطق النمسا ، حيث يتناوب أفراد خبراء الحكم كموظفين يعينهم المجتمع ويسائلهم ويعزلهم ، وإذا أخرج من الحكم أصبح فردا عاديا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق .

4- ويرتبط بهذا النظام السياسي للشورى نظام إقتصادي يقوم على أساس حق المجتمع في ملكية الثروة ، وحق الأفراد النسبي في الثروة في ظل قواعد قرآنية تمنع الإنفاق الترفي والإستغلالي وتقطع الطريق أمام نشأة طبقة مترفة تتداول فيما بينها الثروة وتحتكرها وتسبب إهلاك المجتمع وتدميره .

ب – دولة قريش في عصر الخلافة الرشيدة :

1 ـ   طبقا للديمقراطية المباشرة في عهد النبي نستطيع أن نعثر على الإجابة الحقيقية للسؤال الذي احتار فيه المؤرخون ، لماذا مات النبي دون أن يعين خليفة من بعده ، والجواب ببساطة لأنه لا يوجد حاكم بالمعنى المفهوم ، ولأن المجتمع قادر على أن يحكم نفسه بنفسه وفق الآليات السائدة . ولكن حدث تطور خارجي هو حركة الردة التى قام بها الأعراب الكارهون لعودة الملأ القرشى للصدارة بعد موت النبى محمد عليه السلام .   وفى مواجهة حركة الردة إتحدت القوة الحربية لقريش في مكة مع القوة الحربية لقريش في المدينة ، أي إتحاد القرشيين بكل مجدهم السالف واللاحق قبل النبي وبعده ، وجاء هذا التحالف في وقت حرج ، وكان لابد أن تكون له ضحايا ، وأول الضحايا هم الأنصار ، وأبرز الضحايا هي دولة النبي " الديمقراطية المباشرة ". وبعد إخماد حركة الردة وخشية أن يعود الأعراب الى الثورة دفعت بهم قريش الى الفتوحات ، فأحدثت تغييرا هائلا فى التاريخ العالمى وقتها ، واشرف فيه العرب على العالم لأول مرة .

2 ـ      وقبل أن تأتي التفصيلات نشير إلى حقيقة أخرى ، وهي أن الحكم السياسي في العالم وقتها كان يتنفس الإستبداد الديني والسياسي على كل المستويات ، أي كانت دولة النبي جملة إعتراضية في هذا العصر ، ومن المنتظر أن يهزمها العصر بأدواته من الخارج ( حركة الردة ) ومن الداخل القرشيون في مكة والمدينة وخصوصا (الأمويين) . ولكن من المنتظر أيضا أن يتم التحول تدريجيا من الديمقراطية المباشرة في عهد النبي إلى الإستبداد السياسي المقيد ( فى عهد الراشدين ) ثم الاستبداد الوراثى المطلق ( في العصر الأموي ) ، وأخيرا الإستبداد السياسي الكهنوتي ( في  العصر العباسي ) ، وهذا التحول التدريجي دفع المسلمون ثمنه غاليا من حروب أهلية وإغتيالات  سياسية وإنشقاقات مذهبية بدأت بالسياسة وانتهت بالتفرق في  الفكر والدين ،من أقصى اليسار ( الخوارج ) إلى أقصى اليمين ( الشيعة ). ولا زلنا على نفس الدرب نسير . 

    والمحطة الأولى في درب الآلام هذا ، هو ماسميناه دولة قريش في عصر الخلافة  الرشيدة ،وهذه المحطة الرئيسية تتفرع عنها محطات فرعية نتوقف معها سريعا كالآتي:

   1- في بيعة السقيفة : وبها أمكن تهميش الأنصار ، وتم نفي زعيمهم سعد بن عبادة إلى الشام حيث تم إغتياله هناك ، وفي المقابل سلم الأنصار بأن العرب لا تخضع إلا لهذا الحي من قريش ، أي تحول الأمر إلى حكم وسيطرة . وفي بيعة السقيفة كاد عمر أن يقتل سعد بن عبادة والحباب بن المنذر .

   2- وبعد بيعة السقيفة البيعة الخاصة كان لابد من تنظيم البيت القرشي من الداخل ليرضى الهاشميون والأمويون – وهما معا أبناء عبد مناف – بحكم أبي بكر ، وتم استرضاء أبي سفيان حين إحتج على أن يحكم الدولة رجل من أقل بيوت قريش شأنا. إسترضاه أبوبكر بتعيين إبنه يزيدا قائدا في حروب الردة ، واستعمل عمر الشدة مع أنصار " علي " وكاد يقتل الزبير بن العوام وانتهى الأمر بأن بايع " علي " " أبا بكر ".

    3- واستطاعت قريش إخماد حركة الردة ، وحتى لا يعود الأعراب إلى الردة ثانيا، وحياتهم تقوم على السلب والنهب فقد قامت قريش بتصدير الشوكة الحربية  للأعراب إلى خارج الجزيرة العربية فكان القادة في الفتوحات من قريش ، وكان الجند من الأعراب ، وبالفتوحات العربية دخل المسلمون في وضع جديد فقدوا فيه ملمحين آخرين من ملامح الدولة الإسلامية ، وهو أن يكون القتال في الإسلام لرد الإعتداء بمثله فقط ،ودون إعتداء على أحد ، وأن يعاقب المعتدي عند الإنتصار عليه بإرغامه على دفع الجزية دون إحتلال أرضه ، ولكن الفتوحات كانت إعتداءا على دول وشعوب في عقر دارها وتخييرها – أو بمعنى أصح – إرغامها على واحد من ثلاث : الإسلام أو الجزية،أو الحرب ، وهكذا تمثلت في خلافة أبي بكر إقامة حاكم يستشير حلقة ضيقة من أعوانه،والباقون أصبحوا مهمشين وهم الأنصار ، ثم يقوم بعمل توازنات سياسية داخل قبيلته ،ثم يدخل حربا ضد أمم وشعوب ويحتل أرضها ويفرض على أهلها الجزية ، وبذلك أصبحت الفجوة هائلة بين دولة النبي الإسلامية ، ودولة أبي بكر القرشية العربية .

  4- ثم ازدادت الفجوة اتساعا في عهد عمر ، حيث أضيف إلى المهمشين أبناء الأمم المفتوحة ، والذين لم يقترفوا ذنبا في حق العرب المسلمين ، ومع ذلك فقد تعرضوا للسلب والنهب أثناء المعارك ، ودفع الجزية بعدها ، وأصبحوا مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة ، بالإضافة  إلى سبي نسائهم وتحول أبنائهم إلى رقيق . وفي نفس الوقت كان قواد الفتوحات من قريش هم أمراء الولايات المفتوحة . واتبع عمر سياسة

الحزم والعدل مع العرب ، ونعُمَ العرب بعدله دون أبناء الأمم المفتوحة . وحرم دخول المدينة على غير العرب خوفا على حياته منهم .وفعلا كان إغتياله على يدي أبي لؤلؤة المجوسي أحد سبايا نهاوند في صغره ، والذي كان يبكي حين يجد صبيان السبي في معسكرات الأسر بالمدينة فيمسح رءوسهم متوعدا عمر .

   5-  وتولى عثمان الأموي فخالف سياسة عمر في عدله وحزمه ، إذ سيطر الأمويون في خلافته على الثروة والسلطة ، وتكونت في قريش إحتكارات هائلة ، واكتنز كبار الصحابة أرادب الذهب ، وهذه الأموال تم جمعها بغير طريق شرعي من البلاد المحتلة بالجزية والسلب والنهب ، فكان من الطبيعي حين يكتنزها القرشيون دون الأعراب جند الفتح – أن يحدث النزاع . وهذا هو السبب الحقيقي في الفتنة الكبرى ، وقد بدأت بالثورة على عثمان وحصاره في داره وقتله ، وانتهت بتفرق المسلمين إلى أحزاب سياسية

متقاتلة  ، وإقامة حكم إستبدادي بين الأمويين ، يقوم على أساس التوارث والقوة المسلحة ، ويستخدم الصراع القبلي وسيلة للوصول للسلطة أو الإحتفاظ  بها . . وهذه هي سمات المحطة التالية .

ج – دولة قريش في الخلافة الأموية

1 ـ    والسمة الأساسية في هذه الدولة هي الإستبعاد والإستبداد والإستعباد .

2 ـ   فقد تعاظم إستبعاد القرشيين من خارج البيت الأموي ، واتخذ الإستبعاد شكل التعصب على كل مستوياته.

3 ـ  فالأمويون تعصبوا للجنس العربي ضد غير العرب من الموالي في العراق وإيران والأنباط في الشام والأقباط في مصر والبربر في شمال أفريقيا . وحولوا الأجناس غير العربية إلى رقيق أو ما يشبه الرقيق ، وذلك مفهوم الموالي في اللغة العربية ، وحتى من أسلم منهم كان  مرغما على دفع الجزية . وإن إحتج على الظلم واجهته الدولة بترسانتها العسكرية .

4 ــ والأمويون في لعبة السياسة أثاروا العصبية القبلية بين العرب ، فكانوا في الأغلب ينحازون إلى قبائل اليمن ضد قبائل مُضر ، وأحيانا ينحاز الخليفة الأموي إلى قبائل مُضر وربيعة إذا علا نفوذ القبائل اليمنية ، وقد استفاد الخلفاء من هذا التعصب القبلي وسخروه في تدعيم نفوذهم السياسي حيث كانت القبائل  هي عماد الدولة عسكريا ، ولكن عندما ضعف الخلفاء الأمويون أصبحوا ضحايا لهذه اللعبة القبلية .

5 ــ  وفي داخل قريش تعصب الأمويون لبني عمهم الهاشميين إجتماعيا فقط ، وذلك  ضد البطون القرشية الأخرى ، ولكن عاملوا الهاشميين بكل قسوة إذ ثاروا على الدولة ، وذلك تعصبا للأسرة الأموية ضد الهاشمية .

6 ــ وداخل الأسرة الأموية تعصب الخليفة لإبن عمه القريب ضد إبن عمه البعيد ، ثم على مستوى البيت نفسه كان الخليفة يتعصب لإبنه ضد أخيه ، إذ يولي إبنيه الخلافة بالعهد لهما من بعده ، ويخلع أخاه . فإذا تولى الإبن الأكبر بعد أبيه بادر بعزل أخيه والعهد لإبنه بدلا منه . وهكذا يفعل الإبن فيما بعد .

7 ــ    وبالتالي فإن المستبعدين من المشاركة السياسية لم يكونوا فقط الأنصار ( في عهد أبي بكر ) أو الأمم المفتوحة ( في عهد عمر ) أو بقية العرب ( في عهد عثمان ) أوبقية قرش ( في عهد معاوية ) بل إنضم إليهم أخوة الخليفة وأبناء عمومته فى ذرية مروان بن الجكم .  ولم يكن للقبائل العربية إلا إسترضاء الخليفة الذي كان يحكم مستبدا بالحديد والنار ، وذلك طمعا في بيت المال الذي إحتكره الخليفة لنفسه.

 وضاقت حلقة المستشارين ( أهل الحل والعقد) وخف وزنهم ، فأصبحوا بعض شيوخ القبائل من قادة الجيش وبعض الولاة والخدم والكتبة . وكانت وظيفة هذا الملأ هي المسارعة لإرضاء الخليفة ونزواته إذا كان ماجنا .

8 ــ     ويرتبط بالإستبداد والإستعباد والإستبعاد قسوة الدولة في معاملة رعاياها من غير العرب ، وقسوتها في معاملة العرب الثائرين عليها ، إذ كانوا من الخوارج أو من الهاشميين . وهذه القسوة لم تعرف القيود ولا الحدود ، ويكفي أنه في خلافة يزيد بن معاوية إرتكبت الدولة فظائع ثلاث في سنوات ثلاث هي حكم يزيد ؛ في السنة الأولى قتل الحسين وآله في كربلاء ، وفي السنة الثانية إقتحام المدينة وقتل أهلها وسبي نسائها، وفي السنة الثالثة حصار الحرم المكي وضرب الكعبة بالمجانيق أثناء ثورة إبن الزبير .فإذا كان الأمويون يفعلون هذا ببني عمومتهم الهاشميين وبمكة والمدينة وأهلها من قريش والأنصار فكيف بالموالي وبالخوارج ؟ ولهذا نفهم سطوة الولاة الأمويين كالحجاج بن يوسف وخالد القسرى وقرة بن شريك .  ولذلك لا تتعجب من خطبة عبدالملك بن مروان سنة 75هـ في  المدينة ، إذ قال لأهلها " أما بعد ، فلست بالخليفة المستضعف ( يعني عثمان ) ولست بالخليفة المداهن (يعني معاوية ) .. والله لا يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه ".

9 ــ إذن هو حكم عسكري إستبدادي يقوم على القوة الصريحة ، ويستخدم كل الوسائل في سبيل البقاء في الحكم ، ومن ضمنها الدين والفتوحات بإسم الدين ، والعروبة ، والعصبيات القبلية ، ثم سلاح السيف ، وسلاح المال . . وتكالبت كل هذه الأسلحة ضد الدولة الأموية  في النهاية ، فأسقطتها الدعوة العباسية في عز شبابها سنة 132 هـ .

د – دولة قريش في الخلافة العباسية

1 ـ    تخصص الأمويون في التجارة ورحلة الشتاء والصيف ، وأحرزوا مكانتهم بالتجارة، وفي سبيلها عارضوا الإسلام في مكة ، ثم دخلوا فيه بعد فتح مكة ، وكان العباس بن عبدالمطلب عم النبي (ص) في مكة باقيا على دين آبائه قائما على رعاية حقوق بني هاشم في رعاية المسجد الحرام ورعاية الحجيج ، وفي سبيل هذه التجارة بالدين حارب العباس  مع قومه المسلمين في بدر ، وكان من الأسرى وافتدى نفسه ، وعاد إلى مكة يمارس التجارة بالدين بينما يقود صديقه أبو سفيان التجارة ( العلمانية ) ،  وعند فتح مكة توسط العباس لصديقه أبي سفيان لدى النبي لأن أبا سفيان رجل يحب الفخر ، لذلك أعلن أن من دخل دار أبي سفيان فهو آمن . وظل العباس في مكة ومعه إبنه عبدالله بن عباس الذي لم ير النبي إلا مرتين أو ثلاث ، حيث مات النبي في المدينة وهو لا يزال صبيا في مكة .

2 ــ وانضم إبن عباس لإبن عمه علي بن ابي طالب في خلافته القصيرة الحزينة ، وحين إنهارت دولة علي بادر إبن عباس – وكان واليا لعلي على البصرة – بالهروب منها حاملا معه بيت  المال ورفض كل توسلات " علي " له بأن يرجع هو أو يعيد بيت مال المسلمين، وهذا في نفس العام الذي شهد مقتل علي .

3 ــ     إذن فأصحاب الحكم الإستبدادي ينتمون إلى الأمويين ( أبوسفيان ، الحكم بن العاص) وهم تجار إهتمامهم الأصلي الجاه والمال بأي طريق ، وكان ذلك مدار الحكم الأموي العسكري ( العلماني بمفهوم عصرنا) أو ينتمون إلى العباسيين ( عبدالله بن العباس )، وهم تجار دين يستخدمون الدين السائد طريقا للمال والجاه .

4 ــ  وهذا هو الفارق الأساسي بين الخلافتين الأموية والعباسية، تراه نفس الخلاف بين معاوية وأبيه أبي سفيان من ناحية ، وعبدالله وأبيه العباس من ناحية أخرى، وفي علاقة الفريقين بالنبي محمد  وإبن عمه علي بن أبي طالب .  وترى نفس الخلاف في سياسة الدولتين . . فالخلافة الأموية كانت سلطة عربية مستبدة تتعصب للعرب وتحتقر غير العرب ، أما الخلافة العباسية فكانت سلطة كهنوتية سياسية مستبدة تتعصب لمفهومها الديني عن الإسلام وتحتقر المذاهب  والأديان الأخرى ، من الشيعة وأهل الكتاب ، بغض النظر عن العرق والجنسية . ومن الطريف أن الأخطل الشاعر النصراني كان يدخل على الخلفاء الأمويين يحمل الصليب ويخرج مكرما لأنه عربي ، بينما يدفع المصري الجزية حتى لو أسلم لأنه غير عربي . وفي الدولة العباسية تقطع الدولة دابر من يخالفها في السياسة والفكر بدعوى الزندقة ، بينما يعيش زنادقة حقيقيون في داخل البلاط العباسي وفي معاهد الدولة العلمية وينالون التكريم لأنهم يؤيدون الدولة سياسيا ضد التشيع .

5 ــ     ولم تقم الدولة الأموية عن طريق دعوة فكرية أو مذهبية ، ولكن على أساس القوة  وحدها ، أي بقانون القوة ، ولذلك لم تلجأ إلى تبرير قسوتها بأى فتوى دينية حين ارتكبت المجازر أو الفظائع ضد آل النبي والمدينة ومكة . ولكن الدولة العباسية قامت عن طريق دعوة دينية مذهبية هي الدعوة للرضي من آل محمد ، وسرقت جهد الشيعة الكيسانية ، وأقامت الدولة العباسية عبر طريق مشوار طويل من العذاب قطعه من كان يعتقد أن الخليفة سيكون من ذرية " علي " . وبعد أن قامت الدولة العباسية إرتكبت نفس المجازر ضد أبناء عمومتهم من ذرية علي ، وضد الآخرين ، ولكن مع تغيير طفيف ، هو أن الخليفة كان يستصدر فتوى من علماء الدين الذين يعملون لديه ،أي أنها دولة قوةالقانون، ولكنه القانون الذي تستصدره عن طريق جهازها الفقهي والرسمي .

 6 ــ   باختصار كانت الدولة العباسية هي النموذج الكلاسيكي للدولة الدينية المذهبية الكهنوتية ، وعلى منوالها جاءت الدولة الفاطمية أكثر تطرفا في الكهنوت السياسي ، ثم كانت الدولة العثمانية وسطا بين هؤلاء وهؤلاء .

7 ــ     ولقد خطب الخليفة أبوجعفر المنصور يوم عرفة فقال : أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه ، أسوسكم بتوفيقه ورشده ، وخازنه على فيئه أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه ، وقد جعلني الله عليكم قفلا ، إذا شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وإذا شاء أن يقفلني عليه قفلني . . " .   أي أن المنصور العباسي كان يحكم بمنطق العصور الوسطى ، أي بالحق الملكي  المقدس حسبما  كان سائدا في أوربا ، يستوي في ذلك الخليفة وإمبراطور الدولة الرومانية المقدسة أو هنري الثامن ، وتلك هي المحطة الأخيرة في طريق الإستبداد والإستبعاد والإستعباد .

هـ - وأخيرا

1 ــ    يبقى أن نقول أن ثقافة الإستبداد إتخذت موقفا من تشريعات القرآن التي أسست دولة النبي ، خصوصا وأن تدوين الفكر في الحضارة الإسلامية تم في تلك الدول الدينية الإستبدادية ، ويمكن القول بأن الإستبعاد السياسي إقترن بإستبعاد تشريعي للآيات القرآنية التي تناهض الإستبداد والظلم والإسترقاق ، وأقيم بدلا منها منهج آخر يقوم على أحاديث موضوعة لم يقلها النبي عليه السلام ، وتغيير مفاهيم القرآن ومصطلحاته ، تحت دعوى النسخ ، مع أن مصطلح النسخ يعني في القرآن الكتابة والإثبات وليس الحذف والإلغاء . ومن المصطلحات التي غيروها مصطلح البيعة ، وهي في القرآن تعني المبايعة على التمسك بالحق والدفاع عنه ، فأصبحت في التراث تعني إعلان الخضوع للسلطان الجديد والتسليم له سياسيا ودينيا واقتصاديا . وفي نفس الوقت تم تجاهل مصطلح " الملأ "  في القرآن ،  ويعني الحاشية المفسدة التي تتبع

الحاكم المستبد ، وقد قام التراث بعملية تجميل لهذا المفهوم بوضع مصطلح جديد إسمه " أهل الحل والعقد " وهو مصطلح نراه يفتقر للواقعية السياسية ، لأن مراكز القوى في الخلافة العباسية كانت في أغلب الفترات مركزة في  الحريم ، وكانوا جميعا من الجواري السابقات من محظيات الخلافة وكانت أمهات الخلفاء من الجواري (ما عدا زبيدة زوجة الرشيد وأم الأمين ) وأولئك الجواري كن يحكمن الدولة من وراء ستار. وعلى نفس المنوال كانت الخلافة الفاطمية ، ثم العثمانية ، لا فارق بين  الخيزران

وقبيحة وشغب في الخلافة العباسية ، وست الملك في الخلافة الفاطمية وروكسلانة العثمانية .

2 ــ    لقد تبين لنا من قراءة نقدية للتراث وقراءة عقلية للقرآن أن دولة الإسلام دولة مدنية تقوم على الحق المطلق للفرد في حرية الرأي والفكر والإعتقاد ، والحق المطلق للفرد في العدل ، وعلى حق المجتمع المطلق في الحكم والسلطة وفي الثروة  وفي الأمن .وينشأ عن ذلك أن الدولة الإسلامية تقوم على الشورى التي تعني الديمقراطية المباشرة. وإذا كانت تلك المفاهيم تعارض العصور الوسطى فإنها تتفق مع عصرنا .

غير أن الأمر يستلزم إجتهادا ، والإجتهاد هو الفريضة الغائبة في مجتمعنا الراهن.

3 ــ    ونعود إلى إبن خلدون لنؤكد أنه أخضع عقله لمنطق العصور الوسطي وأبعده عن منطق القرآن وما كان عليه رسول الإسلام عليه السلام . وقد حدد هذا إنطلاق عقله في موضوع العمران ، فالروشته الإصلاحية التي قدمها إبن خلدون لإصلاح العمران ينقصها الإصلاح السياسي الديمقراطي ، وتتفق مع وجود مستبد عادل إذا صح وجود هذا الصنف من البشر ، وهذا لا يوجد في الواقع . ولقد حاول أحمد بن طولون أن يكون مستبدا عادلا فما أفلح ، لأن الاستبداد والعدل لا يجتمعان .



[1]
- المقدمة ، الفصل الأول ، الباب الخامس

[2]- المقدمة ، الفصل العاشر ، الباب السادس

[3]- المقدمة ص21

[4]- المقدمة ، الفصل الثامن عشر ، الباب الرابع

[5]- المقدمة ، 78: 79

[6]- المقدمة ، الفصل الرابع ، الباب السادس

[7]- المقدمة ، الفصل العاشر ، الباب السادس

[8]- المقدمة ، الفصل الرابع والثلاثون ، الباب السادس

[9]- المقدمة الفصل الثاني عشر ، الباب السادس

[10]- المقدمة الفصل الخامس والثلاثون ، الباب السادس ص 477.

[11]- رسائل اخوان الصفا ن دار صادر بيروت :1/100، 113، 153، 157، 158: 182، 266: 275، 284: 291.

[12]-  المقدمة : الفصل الثالث والخمسون ، والفصل الحادي والثلاثون من الباب الثالث . بالإضافة إلى ص 78: 79

[13]-  المقدمة ، الفصل السادس من الباب السادس .

[14]- المقدمة ، الفصل التاسع من الباب السادس ص 378.

[15]-  المقدمة ، الفصل الثامن والأربعون ، من الباب السادس

[16]- المقدمة ص 80

[17]- الفصل 53 من الباب 3 والفصل 35 من الباب 3 والفصل 14 من الباب 6 والفصل 5 من الباب 6 من المقدمة .

[18]-  المقدمة ، الفصل 30 من الباب 3.

[19] -  المقدمة ، الفصل 30 من الباب 3.

[20] - المقدمة ، 44: 45

[21] - المقدمة ، 40: 41

[22] -  المقدمة 73.

[23] - المقدمة 45

[24] -  مروج الذهب للمسعودي 1/60 تحقيق محيي الدين عبدالحميد 1966.

[25] -  نفس المرجع 1/74 ، 75، 77 ، 89، 97 . مجرد أمثلة .

[26] -  الشعراني : لطائف المنن 173: 174 ، عالم الفكر .

[27] - المقدمة ، الفصل الحادي عشر ، الباب السادس .

[28] -  المقدمة ، الفصل العاشر ، الباب السادس.

[29] - ابن الزيات : الكواكب السيارة 316: 317 المطبعة الأميرية 1907. مناقب الوفائية 43. الطبقات الكبرى للمناوي مخطوط بدار الكتب تحت رقم 1589 تاريخ تيمور 337 . على الترتيب . وهي مجرد أمثلة .

[30] المقدمة الفصل الرابع الباب الخامس

[31] -  لطائف المنن لابن عطاء :107، 126 – 141، 224. مكتبة القاهرة 1979 ، ومناقب الحنفي 147: 148 ، تأليف البتنوني مخطوط بدار الكتب تحت رقم 1164 تاريخ .

[32] -  المقدمة : الفصل الخامس والعشرون من الباب السادس .

[33]- تاريخ ابن كثير 13/278. مطبعة السعادة .

[34]-  السلوك للمقريزي 3/1/11. تحقيق د. سعيد عاشور ، الدرر الكامنة لابن حجر 4/ 253 نشر دار الكتب ، الطبعة الثانية 1996.

[35]-  أنباء الغمر لابن حجر 3/502: 504 تحقيق حسن حبشي 1972.

[36]-  ابن حجر ، ذيل الدرر الكامنة 17 . مخطوط بدار الكتب تحت رقم 641 تاريخ تيمور .

[37]-   تاريخ ابن إياس 2/20 تحقيق محمد مصطفي ، الطبعة الألمانية

[38]- الطبقات الكبرى للشعراني 1/ 147 ترجمة الدسوقي مطبعة صبيح .

[39]- ابن عطاء ، لطائف المننن 122: 123.

[40]- طبقات الشاذلية للكوهن 62 الطبعة الأولى 1347 .

[41]- لواقح الأنوار للشعراني 284 على هامش كتابه البحر المورود ص 308.

[42]-  لطائف المنن 55 ط 1288 هـ

[43]- لواقح الأنوار271 ط . 1308 هـ

[44]-  الصفدي الوافي بالوفيات 743 نشر ريتز . ط ألمانية

[45]-  ابن حجر ، ذيل الدرر الكامنة 10، 11.

[46]-  أنباء الغمر 2/77.

[47]- عقد الجمان ورقة 387 وفيات 816 مخطوط رقم 1584 تاريخ دار الكتب ، المنهل الصافي 1/152: 153 ، مخطوط بالدار تحت  رقم 1209 تاريخ تيمور .

[48]-  ذيل الدرر الكامنة 136.

[49]- الضوء اللامع 3/18 ، مطبعة القدس 1353 هـ .

[50]- تاريخ ابن إياس 2/181.

[51]- التبر المسبوك 24 للسخاوي .

[52]- السلوك 2/2/382.

[53]- لطائف المنن 350.

[54]- قاموس العادات والتقاليد 166 . مكتبة النهضة المصرية .

[55]- الضوء اللامع 3/41 للسخاوي .

[56]-  أنباء الغمر 2/111 ، ابن حجر

[57]- السلوك 4/3/1085 المقريزي.

[58]- تاريخ ابن إياس 1/ 2/311 ، تحقيق محمد مصطفي .

[59]-  الوافي بالوفيات 2/353 للصفدي .

[60]-  أنباء الغمر 1/181. ابن حجر. 

[61]-  عقد الجمان : 243 وفيات 780 العيني .

[62]-  أنباء الغمر 1/ 183.

[63]- النجوم الزاهرة 15/165: 166 لأبي المحاسن تحقيق د . طرخان .

[64]- أنباء الغمر 3/148.

[65]- السلوك 3/3/1149 ، النجوم 13/37.

[66]- الضوء اللامع 4/235.

[67]- ديوان ابن نباته 333 . الطبعة الأولى 1905.

[68]- أنباء الغمر 3/17

[69]- تحفة الأحباب 43: 44 . للسخاوي .

[70]-  السلوك 4/3/759.

[71]-  الضوء اللامع 2/250.

[72]-  أنباء الغمر 3/387.

[73]- نفس المرجع 3/451: 452.

[74]- ابن حجر : ذيل الدرر الكامنة 17، أنباء الغمر 2/113 المنهل الصافي 1/85 ، نزهة النفوس للصيرفي 2/68 : 69.

[75]- تاريخ الذهبي ، مخطوط مجلد 31/40: 41 . رقم 42 تاريخ بالدار .

[76]-  السبكي ، معيد النعم 155 على هامش تفريج المهج 1908.

[77]-  الدرر الكامنة 4/33.

[78]- الإفادة والاعتبار لعبداللطيف البغدادي : نشرته مطبعة المجلة الجديدة تحت عنوان عبداللطيف البغدادي في مصر 47: 48

[79]- الفلاكة والمفلوكون : 30، 31 مطبعة الشعب 1322.

[80] - الدرر الكامنة 2/23.

[81] - تاريخ ابن إياس 4/293.

[82] -  التبر المسبوك 173 ك 174 للسخاوي .

[83] - أنباء الغمر ، مخطوط 1124 تحت رقم 8844 الجزء المخطوط بالدار.

[84] - أنباء الغمر 3/485.

[85] - الضوء اللامع 3/172.

[86] - البحر المورود 40، لواقح الأنوار 375: 376.

[87] - النجوم الزاهرة 15/91، نزهة النفوس 3/402 لابن الصيرفي .

[88] - حوادث الدهور 2/197 لأبي المحاسن .

[89] - تاريخ البقاعي 12 مخطوط .

[90] - تاريخ ابن إياس 4/147 : 148.

[91] - نفس المرجع 1/2/299.

[92] - الأمثال الشعبية تيمور 324 ، 328 الطبعة الأولى 1949.

[93] - الفلاكة والمفلوكون 29

[94] - مجموعة الرسائل والمسائل 1/70 الطبعة الأولى بمصر 1323.

[95] - روض الرياحين 18، 19 ، ص 1307.

[96] - لطائف المنن 76 ، 73.

[97] -  ابن النديم الفهرست 498، 500، 505 .

 

[98] - ابن عياد الشاذلي : المفاخر العلية 11

[99] - تعطير الأنفاس 31 ، لابن محسن رقم 1209 تاريخ تيمور بالدار .

[100] - تعطير الأنفاس 226 ، ابن عطاء ، لطائف المنن 59.

[104] - الطبقات الكبرى للمناوي 385.

[105] - لطائف المنن 75، 85.

[106] -  لطائف المنن 75، 85.

[107]-  أنباء الغمر 3/204

[108] -  العيني ، عقد الجمان ورقة 269 ، وفيات 701.

[109] - الجزري  ، الذيل ، 2/365 رقم 5422 تاريخ مخطوط بالدار .

[110] - أبناء القمر 2/30.

[111] - الضوء اللامع  1/183

[112] - لطائف المنن 75

[113] - ذيل الدرر الكامنة مخطوط 26 ،تاريخ قاضي شهبة2/167 لرقم 392 تاريخ بالدار ، أنباء الغمر 123.

[114] - الصفدي ، أعيان العصر 7/1/32 ، مخطوط رقم 191 تاريخ .

[115] - مناقب الفرغل 28: 29.

[116] - الطبقات الكبرى للشعراني 2/99.

[117] -  نفس المرجع 2/80.

[118] - النجوم الزاهرة 11/ 132.

[119] - نفس المرجع 15/542: 543.

[120] - مناقب المنوفي 27، 32 .

[121] - الغزي ، الكواكب السائرة 1/94 ، ط بيروت 1945

[122] - تاريخ البقاعي 41 ب

[123] - العيني ، عقد الجمان حوادث 730 ورقة 16، 17 ، 18 . النويري : نهاية الإرب 31/105 ، الدرر الكامنة 4/455.

[124] - أبوالمحاسن : حوادث الدهور 1/33، 39، 40 السخاوي : التبر المسبوك 211 ، 212.

[125] تعطير الأنفاس 48  .    

[126] -  الطبقات الكبرى للشعراني 2/80 . ط صبيح.

[127] -  البحر المورود 154.

[128] - لمحة عامة إلى مصر 2/97 ، ط أبو الهول.

[129] - الفهرست 497

[130] - تاريخ ابن الفرات 8/56ط . بيروت 36- 1939.

[131] - حوادث الدهور 2/174.

[132] - السلوك 4/3/1130

[133] - نزهة النفوس 2/69.

[134] -  التبر المسبوك 209 ، تاريخ ابن إياس 2/263.

[135] - النجوم الزهرة 15/331.

[136] - التبر المسبوك 83.

[137] - تاريخ ابن اياس 2/350.

[138] - أنباء الغمر 3/457.

[139] -  المقريزي : حل لغز الماء 75 ، 76 مخطوط بالدار رقم 5 في مجموعة 33 تيمورية .

[140] - شمة : مسرة العينين 710 ، مخطوط رقم 1095 تصوف طلعت .

[141] - لمحة عامة إلى مصر 2/96.

[142] - تيمور ، الأمثال الشعبية 246.

[143] - لطائف المنن 272: 274.

[144] - المقدمة ، الفصل 25 ، الباب السادس .

[145] -  المقدمة ، الفصل العاشر ، الباب السادس .

[146] -  المقدمة ، الفصل السادس ، الباب الخامس

  -182 المقدمة ، الفصل الأول ، الباب الثالث

-183 المقدمة ، الفصل العشرون ، الباب الثاني – الفصل السادس ، الباب الثالث – الفصل الرابع ، الباب الثالث

[149] -  المقدمة ، الفصل الثاني عشر ، الباب الرابع والعشرون  

[150] -  المقدمة ، الفصل  السادس والعشرون ، الباب الثالث .

[151] - المقدمة ، الفصل الرابع والثلاثون ، الباب الثالث

[152] - المقدمة ، الفصل السابع والثلاثون ، الباب الثالث

[153] -  المقدمة ، الفصل الثالث والثلاثون ، الباب الثالث

[154] -  المقدمة ، الفصب السابع ، الباب الثاني .

[155] -  المقدمة ، الفصل الثامن والعشرون ، الباب الثالث

[156] -  المقدمة ، الفصل الخامس والعشرون ، الباب الثالث

[157] -  المقدمة ، الفصل الرابع والعشرون ، الباب الثالث

[158] -  المقدمة ، الفصل السادس والعشرون ، الباب الثالث

[159] - المقدمة ، الفصل التاسع والعشرون ، الباب الثالث .

[160] - المقدمة ، الفصل الثلاثون ، الباب الثالث

[161] -  المقدمة ، الفصل الثمن والعشرون ، الباب الثالث

[162] - المقدمة ، الفصل الواحد والعشرون  ، الباب  الثالث

[163] - المقدمة ، الفصل السادس عشر ، الباب الرابع .

[164] - راجع كتبنا : حد الردة : دار طيبة للنشر  .

       الحسبة : دار المحروسة .

حرية الرأي بين الإسلام والمسلمين : المنظمة المصرية لحقوق الإنسان .

 

كتاب ( مقدمة ابن خلدون : دراسة تحليلية )
كتاب ( مقدمة ابن خلدون : دراسة تحليلية )
تم نشر هذا الكتاب فى القاهرة عام 1998 ، وهو تحليل أصولى تاريخى لمقدمة ابن خلدون وتاريخه وعقليته ، ونعيد نشره هنا مع بعض تعديل وإضافة فصل جديد .
more