رقم ( 7 ) : القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون
الباب الخامس : في اقتصاد العمران في المعاش ووجوه من الكسب والصنائع وما يعرض في ذلك

 

 كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

   الباب الخامس :  في اقتصاد العمران في المعاش ووجوه من  الكسب

مقالات متعلقة :

            والصنائع وما يعرض في ذلك كله من الأحوال ، وفيه مسائل

                                              الفصل الأول

                                في حقيقة الرزق والكسب

                    وشرحهما وأن الكسب هو قيمة الأعمال البشرية

العمل = المكسب والمعاش

    الإنسان محتاج إلى القوت ، وقد سخر الله تعالى للإنسان ما في السماوات والأرض واستخلفه في العالم ، وإذا وضع إنسان يده على شئ لم يأخذه منه غيره إلا في مقابل ، ويسعى الإنسان بالعمل ويقتني المكاسب وينفق ويشتري في مقابل عوض . وقد يحصل الرزق بدون سعي كالمطر في الأرض القابلة للزراعة . إلا أن ذلك يستلزم أيضا نوعا من السعي .

المكسب الزائد= إستثمار وكماليات

     وتكون تلك المكاسب له معاشا إن كانت بمقدار الضرورة والحاجة ، فإذا زاد المكسب أصبح رياشا وزخرفا واستثمارا . وهذا المكسب إن عادت منفعته على الإنسان في إنفاقه على نفسه ومصالحه سمي رزقا ، واستشهد إبن خلدون بحديث "إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت " .

     وإن لم ينتفع بالمكسب في شئ من مصالحه وحاجاته فلا يسمى رزقا بل يسمى كسبا . وذلك مثل الميراث الذي يسمى للميت كسبا ولايسمى رزقا لأن الميت لم ينتفع به ، بل يسمى رزقا للورثة . وهذا هو رأي أهل السنة ، أما المعتزلة فيجعلون الرزق فيما يصح تملكه ، ولم يجعلوا المال المكتسب من الحرام ضمن الرزق .

    ولابد للرزق من سعي وعمل ، قال تعالى " فابتغوا عند الله الرزق ". ويكون السعي بإلهام الله تعالى وقدره . والعمل قد يكون عملا بنفسه وذاته مثل الصنائع وقد يكون باقتناء الحيوان والنبات والمعادن ، وقد جعل الله تعالى للذهب والفضة قيمة وثمنا لكل سلعة ، وإن اقتنى الإنسان غيرهما فإنما يكون ذلك بقصد الحصول عليهما . وما يكسبه الإنسان من الصنائع يأتي نتيجة عمله ، كما لابد من دخول قيمة العمل في غير الصنائع مثل اقتناء الأرض والحيوان والمعادن . وتخفي قيمة العمل في أسعار الأقوات في البلاد التي تتم الزراعة فيها بالمطر بدون عمل كثير .

إذا تناقص العمل تناقص العمران والإنتاج والمرافق

    وهكذا فالعمل الإنساني هو أساس المكسب ومسمى الرزق ، فإذا تناقص العمل تناقص الإنتاج ، وانتقص العمران ، ولذلك فالبلاد قليلة السكان قليلة الأيدي العاملة يقل إنتاجها ويقل عمرانها ،والعكس صحيح ، حتى أن البلاد التي يتناقص عمرانها يجف ماؤها في الآبار والعيون والأنهار بسبب انعدام الرعاية والعناية .ولذلك يقترن الخراب في البلاد بذهاب مائها كما يقترن الإزدهار برعاية المياه والأنهار.

                                          الفصل الثاني

                            وجوه المعاش وأصنافه ومذاهبه

المعاش هو ابتغاء الرزق والسعي في تحصيله

ووجوه المعاش أوتحصيل الرزق هي :

1- أخذه بالاقتدار بحكم القانون كالضرائب

2- الصيد البري والبحري .

 3- إستغلال الحيوانات من الدواجن والأنعام وعسل النحل ودود القز .

4- الزراعة والفلاحة .

5- الأعمال الإنسانية من الحرف والصنائع كالكتابة والخياطة والتجارة.

6- من البضائع بالشراء والنقل .. أي التجارة .

رأي إبن خلدون في أنواع الحرف

    ويقول إبن خلدون أن الفلاحة والصناعة والتجارة وجوه طبيعية للمعاش أما الزراعة فهي الأقدم والأبسط ، والصناعة جاءت متأخرة عن الفلاحة لأنها مركبة وتستلزم الإبتكار ، لذلك لاتوجد غالبا إلا في الحضر . أما التجارة فهي تحايل في الحصول على ما بين القيمتين في البيع والشراء إبتغاء المكسب .

                                         الفصل الثالث

                                 الخدمة ليست من الطبيعي في المعاش

     لابد لدولة من إتخاذ أعوان يخدمونها من الجند والشرطة والموظفين كل منهم في مجاله ، ورواتبهم من خزينة الدولة .

    وأما الأنواع الأخرى من الخدمة فمرجعها إلى استنكاف المترفين عن خدمة أنفسهم أو عجزهم عنها فيتخذون خدما ، وهذا نقص في الرجولة من المترفين ، ولكن تعودوا على أن يخدمهم غيرهم فأصبح ذلك كالطبع لديهم .

     ويرى إبن خلدون أن الخادم الأمين الموثوق به لايوجد غالبا ، فالخادم قد يكون كفئا ولكن غير ثقة ، وقد يكون عاجزا وثقة ، وقد يكون عاجزا وغير ثقة . والصنف الأخير العاجز غير الثقة لايستعمله عاقل . ويرى إبن خلدون أن الخادم الكفء غير الثقة أرجح من الخادم العاجز الأمين . أما الخادم الكفء الثقة فلا يرى له وجودا .

                                            الفصل الرابع

                    إبتغاء الأموال والدفائن والكنوز ليس بمعاش طبيعي

     يعتقد ضعاف العقول أن أموال السابقين مكنوزه تحت الأرض مختوم عليها بطلسمات سحرية ، لا يستطيع فك طلاسمها إلا أصحاب العلم بذلك عن طريق الدعاء والبخور والقرابين .

    وتنتشر هذه الخرافات في المشرق والمغرب ، وبعض طلبة العلم العاجزين عن الإكتساب الطبيعي يحترفون التحايل على الناس في المغرب بأوراق يزعمون أنها تحوي إشارات عن الكنوز المدفونة ، ويقنعون أصحاب الجاه على الحفر والتنقيب ، وقد يستعين بعضهم بأعمال السحر والخداع ليصدقه الناس . وبذلك إنخرط كثيرون في أعمال الحفر والتنقيب عن الكنوز ، فإذا لم يجدوا شيئا إعتقدوا أنهم لم يعرفوا حقيقة الطلسم . ويرى إبن خلدون أن سبب ذلك هو عجزهم عن السعي في سبيل الرزق بالصناعة والتجارة والزراعة مع ضعف عقولهم ، فاستسهلوا هذا الطريق للكسب السريع ، مع أنهم يبذلون فيه الكثير من الجهد بدون طائل وقد يتعرضون فيه للعقوبات ، وربما يكون تعود الترف وتطلع بعض الناس إلى الحصول على الأموال بلا تعب لينعموا بما ينعم به المترفون أحد أهم الأسباب حتى يحصل على كنز دفعة واحدة ، وتأخذه الأماني إلى هذا الطريق .

      ويقول إبن خلدون إن هذا البحث عن الكنوز يوجد في سكان البلاد الواسعة المترفة مثل مصر ، ولذلك يجد المغاربة سوقا رائجة فيها ، يقول " هكذا بلغني عن أهل مصر في مفاوضة من يلقونه من طلبة المغاربة لعلهم يعثرون منه على دفين أوكنز " ويعتقدون أن الكنوز مخبأة في مجرى النيل لذا يحاولون بالأعمال السحرية أن ينضب ماء النيل ليعثروا على الكنوز.  ويقول أن أهل مصر توارثوا السحر عن أجدادهم الفراعنة وآثارهم باقية.

    وذكر قصيدة تحكي كيفية القيام بعمل سحري يجعل الماء يغور ، ويراها من التخريفات ، ويقول أن بعض الدجالين يتسللون إلى البيوت فيجعلون فيها إشارات ويخبئون فيها علامات ، ثم يذهبون إلى صاحب البيت فيخدعونه أن في بيته كنزا ويطالبونه بالأموال للحفر وذبح الحيوانات والبخور .

    ويرى إبن خلدون أن هذا كله ليس له أصل في علم ولا في خبر ، وأنه قد توجد بعض الكنوز لكنها نادرة ويتم اكتشافها بالمصادفة كما يحدث في الركاز ، والأمر لا يستحق كل هذا السباق على التنقيب ، ثم إن من يخبئ ماله ويختم عليه بالطلاسم يكون عسرا الإهتداء إليه في رأي إبن  خلدون . كما أن العاقل إنما يختزن الأموال لآولاده وأحفاده ، ولايقصد إخفائها تماما عن كل الناس .

     وردا على حجة القائلين ، فأين أموال الأمم السابقة يقول إبن خلدون إن الأموال هي من الذهب والفضة والجواهر والأمتعة ، أي معادن ومكاسب ، أي هي متناقلة متوارثة بين الناس وبين البلاد الدول بحسب العمران وزيادته أو نقصانه هنا أو هناك . وأيضا فالمعادن الثمينة والجواهر يدركها الفناء كشأن غيرها .

    أما عن كنوز الفراعنة في مصر فقد كانوا يدفنون الموتى بما يملكه الميت من ذهب وجواهر ، فلما انتهت دولة الفراعنة وجاء الفرس واليونانيون سلبوا مافي القبور من ذهب وجواهر ، ومن هنا صارت القبور الفرعونية مظنة العثور على الذهب والكنوز ، ولذلك عني أهل مصر بالتنقيب عنها واشتهروا بالبحث عن " المطالب " حتى لقد فرضت ضريبة على " أهل المطالب " ممن يشتغل بالبحث عن الكنوز من الحمقى والمهووسين . مع أنهم لايحصلون على شئ.

   وفي النهاية ينصح إبن خلدون من أصيب بهذا الوسواس بأن يتعوذ بالله من العجز والكسل في طلب معاشه وينصرف عن طريق الشيطان ووسواسه.

                                          الفصل الخامس

                                           الجاه مفيد للمال

    الغنى صاحب النفوذ أكثر ثروة من المحروم من الجاه ، لأن صاحب الجاه يتقرب إليه الناس بالخدمات وقضاء المصالح على سبيل النفاق ، لذلك تزدهر أعماله وتزيد ثروته بأسرع وقت . ولهذا كان المنصب السياسي أهم أسباب المعاش والتكسب والمحروم من الجاه حتى لو كان غنيا لايكون غناه إلا بمقدار ماله وسعيه .

    ولذلك تجد التاجر صاحب الجاه أكثر غنى من التاجر الذي لا حول له ولا قوة .

الفقهاء أصحاب الشهرة والجاه يصبحون أغنياء

     بل إن الفقهاء وأهل الدين إذا اشتهروا واعتقد الناس في صلاحهم أصبح لهم جاه بين الناس ، وسرعان مايتجسد هذا الجاه في إغداق الناس الأموال عليهم فيصبحون أصحاب ثروات بدون رأسمال سابق . وترى أحدهم معتكفا في بيته ويسعى الناس له بالهدايا فتتكاثر ثروته بدون جهد .                                                                          الفصل السادس

                     السعادة والكسب يأتي لآهل الخضوع والتملق

                                وهذا الخلق من أسباب السعادة

     العمل يأتي بالمال ، والجاه يفيد في تنمية المال

     يأتي الكسب من العمل ، ولو فقد الإنسان عمله فقد كسبه ومعاشه ، وعلى قدر عمله وشرف عمله وحاجة الناس إليه تكون قيمته ومقدار كسبه . والجاه يفيد في تنمية المال حيث يتقرب الناس إلى صاحب النفوذ بالعمل والهدايا لدفع الضرر وجلب النفع لذلك سرعان ما يحوز صاحب النفوذ على الثروة .

الجاه يتركز في السلطان ومن حوله على قدر قربه

     ويتوزع الجاه في الناس طبقة بعد طبقة ، يبدأ من السلطان في الأعلى ثم ينتهي إلى الذي لايملك ضرا ولا نفعا في الأسفل . وبينهما طبقات متعددة يتم إجبارها على التعاون فيما بينها حفظا للنوع ، وهذا معنى قوله تعالى " ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا .." 

الجاه هو النفوذ والسيطرة على من هم دونه سياسيا أو شرعيا

     فالجاه هو القدرة التي تتيح للبشر التصرف فيما تحت نفوذهم من البشر الآخرين بالإذن والمنع طلبا للمنفعة وطردا للضرر وذلك بأحكام الشرع والسياسية . وأحكام الشرع مقصودها العناية الربانية بالذات ، أما أحكام السياسة والأحكام الأخرى فتدخلها الشرور لأنه لايتم وجود الخير الكثير إلا بوجود شر يسير حتى في القضاء الألهي . وذلك معنى وقوع الظلم في الناس.

الجاه بين الطبقات الاجتماعية

    وكل طبقة اجتماعية في مدينة أو إقليم لها سطوة وجاه على الطبقة التي دونها ، والطبقة السفلى تستمد جاهها من الطبقة التي تعلوها ،

 ويزداد الكسب على قدر ذلك الجاه . ولذلك فإن الكسب أو الثروة تتسع وتضيق في كل طبقة حسب ما لديها من الجاه .

لماذا يتزلف المنافقون لأصحاب الجاه

     وبدون الجاه يصير الكسب بقدر العمل أوبقدر المال الذي يتاجر به . وصاحب الجاه إذا ضاع منه جاهه واقتصر على عمله أصابه الفقر . ولذلك فإن الجاه أصل السعادة والخير ، وإعطاء الجاه للآخرين يعني إعطاء الثروة والنعيم . ومن هنا يتزلف المنافقون الباحثون عن الثروة والسطوة لأهل الجاه . لذلك كان الخضوع والتملق من أسباب حصول هذا الجاه ، ولذلك أيضا تجد أن من يترفع عن النفاق والتملق يقتصر في التكسب على عمله ولايلبث أن يصيبه الفقر.

إبن خلدون يعتبر الترفع عن النفاق صفة مذمومة

     ويقول إبن خلدون " واعلم أن هذا التكبر والترفع عن الأخلاق المذمومة ، إنما يحصل لمن توهم الكمال وأن الناس يحتاجون إلى بضاعته من علم أو صناعة .. وكل محسن في صناعته يتوهم أن الناس محتاجون لما في يده فيحدث له ترفع عليهم بذلك ، وكذا يتوهم أهل الأنساب ممن كان في آبائه ملك أو عالم مشهور .. يتوهمون أنهم استحقوا مثل ذلك بقرابتهم إليهم ووراثتهم عنهم"  .. وكذلك أهل الخبرة قد يتوهم بعضهم كمالا في نفسه ..

الكامل في المعرفة قليل الحظ

    ويرى إبن خلدون أن هذه الأصناف تترفع على صاحب الجاه ولاتتملقه ويستصغرون من سواهم ، ويحقد على الناس لأنهم لا يعطونهم ما يستحقون من فضل ، ويمقتهم الناس لما في طباع البشر من التأله الذي لا يخضع إلا بالقهر والغلبة أي الجاه ، وحيث أن أولئك لا جاه لديهم فإنه يفقد الحظ لدى الكبار والصغار أيضا ، ويعاني العزلة والفقر ، ولذلك اشتهر بين الناس أن الكامل في المعرفة محروم من الحظ ، وأنه حوسب بما لديه من المعرفة واقتطع ذلك من حظه.

عند شيخوخة الدولة يرتفع السفلة المنافقون

ويقول ابن خلدون كأنه يصف عصرنا أن الدولة إذا دخلت في دور الترف ارتفعت فيها منزلة الكثيرين من أهل السفلة وهبطت منزلة أهل الوجاهة . لأن السلطان في هذه المرحلة يتساوى عنده كل من يخدمه ، ويستريح أكثر لمن يهين نفسه في خدمته ونفاقه ،وهكذا يصل السفلة إلى حاشية الملك على حساب أصحاب العصبيات القديمة الذين أسهموا في إنشاء الدولة وتوطيدها ، الذين يمل السلطان من أمجادهم . فيستبدلهم بأولئك السفلة الذين لا يعرفون إلا الخضوع المطلق والنفاق ، فيتسع جاههم وتعلو منازلهم وتزيد ثروتهم .

                                          الفصل السابع

                       القائمون بأمور الدين من القضاء والفتيا

                      والتدريس والإمامة والخطابة والآذان

                       ونحو ذلك لا تعظم ثروتهم في الغالب

    الكسب على قدر قيمة الأعمال ، وتتفاوت الأعمال على قدر الحاجة إليها ، فالأعمال الضرورية للمجتمع تعم الحاجة إليها وتزيد . والصنائع الدينية لاتضطر إليها عامة الناس ، وإنما يحتاج إليها القلة المتدينة ، وحتى في القضاء الشعبي لا يضطر الناس كثيرا إلى الفتوى .

   ولكن الدولة تحتاج إلى علماء الدين في مناصبها الدينية ويأتي رزقهم من هذا السبيل ، ولكن لا وجه للمساواة بينهم وبين  القادة والرؤساء ، ولكن العلماء يعتزون بأنفسهم وبضاعتهم فلا يخضعون لأهل الجاه ولايهينون أنفسهم في طلب الدنيا ، ولذلك لاتعظم ثروتهم في الغالب ، واستدل إبن خلدون على رأيه بمرتبات القضاة والأئمة والمؤذنين في عهد المأمون .

                                                  الفصل الثامن

                                 الفلاحة من معاش المتضعفين (الضعفاء)

                                 وأهل العافية ( القوة ) من البدو

    لأن الفلاحة صنعة أصيلة في الطبيعة فلا يقوم بها أهل الحضر والمترفون ، ويوصف أهل الفلاحة بالذلة ، واستشهد بحديث عن أدوات الفلاحة " مادخلت هذه دار قوم إلا دخله الذل " ويرى إبن خلدون أن السبب فيما يتبعها من المغارم فيكون الفلاح ذليلا تحت سيطرة القهر .

 

عرض مقدمة ابن خلدون: ب5:(ف9: 22 )التجارة والاحتكار والصنائع

 كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

  تابع الباب الخامس :  في اقتصاد العمران في المعاش ووجوه من  الكسب

            والصنائع وما يعرض في ذلك كله من الأحوال ، وفيه مسائل

                                                 الفصل التاسع

                                         في التجارة ومذاهبها وأصنافها

    التجارة هى محاولة الكسب بتنمية المال عن طريق شراء السلع بالرخص وبيعها بالغلاء ، وذلك بخزن السلعة إلى أن يرتفع ثمنها أو نقلها من مكان لآخر يرتفع سعرها فيه . وقد قال بعض شيوخ التجارة عنها كلمتين : إشتراء الرخيص وبيع الغالي .

                                             الفصل العاشر

أي أصناف الناس يحترف بالتجارة ، وأيهم ينبغي له اجتناب احترافها         

علاقة الربح برأس المال

     ربح التجارة قليل بالنسبة لرأس المال ، إلا أن المال إذا كان كثيرا أصبح الربح كثيرا لأن القليل في الكثير كثير .

مصاعب التجارة

       وهناك مصاعب تواجه التجار هي قلة أصحاب الذمة ووقوع الغش وتطفيف الكيل والميزان والمماطلة في الدفع وجحود الحقوق ،وعدم وصول الحقوق عن طريق القضاء إلا بصعوبة وبعد مدة طويلة .

صفات التاجر الناجح

     لذلك لا يفلح في التجارة إلا من كان جريئا على الخصومة بصيرا بعواقب الأمور شديد المماحكة مقداما عند الحكام . أو أن يكون صاحب جاه ونفوذ يستند إليه حتى يضمن حقوقه طوعا أو كرها .

من ينبغي له الإبتعاد عن التجارة

       أما من ليست لديه جرأه ونفوذ فينبغي له الإبتعاد عن مهنة التجارة وإلا صار فريسة للباعة والرعاع ، لأن الناس وخصوصا الباعة شرهون إلى ما بأيدي الغير ولولا سلطة الحكم لأصبحت  أموال الناس نهبا بين الناس .

                                           الفصل الحادي عشر

                                خُلق التجار نازلة عن خُلق الأشراف والملوك

     لابد في البيع والشراء من المساومة وهي بعيدة عن المروءة وأخلاق الملوك والأشراف ، وقد يضاف إلى المساومة أخلاق السفلة من الغش والأيمان الكاذبة ولذلك تجد أهل الرئاسة يتحامون التجارة ، ويندر من يكون تاجرا شريفا سليما من هذه الرذائل .

                                               الفصل الثاني عشر

                                             نقل التاجر للسلع

الأفضل في النقل السلعة متوسطة الجودة

   التاجر الحاذق ينقل السلعة إذا كانت مطلوبة من الجميع من الغني والفقير ، وإلا كسدت تجارته بعد أن يتكلف نقلها ، وينبغي أن تكون السلعة المنقولة متوسطة الجودة لأن الصنف العالي يختصه المترفون وهم أقلية ، والأغلبية تستهلك السلعة متوسطة الجودة .

يرتفع ثمن السلعة المنقولة من بعيد أو من مكان خطر

     ويرتفع ثمن السلعة إذا أتت من مكان بعيد أو اجتازت طريقا خطرا ، لأنها في هذه الحالة تكون نادرة ، بعكس إذا أتت من مكان قريب وطريق آمن فإنها تأتي بوفرة ويكثر عرضها فيقل ثمنها ، ولذلك فإن التجار الذين يسافرون لمجاهل السودان هم أثرى الناس . إذ ينقلون منه السلع التي لا ينقلها غيرهم وتكون نادرة ، وبطبيعة الحال غالية الثمن .

                                                الفصل الثالث عشر

                                                       الإحتكار

   واشتهر عند أهل الحذق من التجار أن الإحتكار مشؤوم في الزرع ، والسبب اضطرار الناس للشراء لحاجتهم إلى الطعام ، وبسبب إكراههم على دفع الأموال فإن نفوسهم تحمل على المحتكر الكثير من الحقد والحسد فيفسد ربحه .

                                               الفصل الرابع عشر

                  رخص الأسعار يضر المحترفين بالرخص ( بالسلعة الرخيصة)

     التجارة هي الربح من بيع السلعة بعد شرائها ، فإذا ظلت السلعة رخيصة ضاع الربح وحل الكساد وقعد التجار عن السعي . وإذا رخصت أسعار المحاصيل الزراعية قلت أرباح الزراع وأصبحوا فقراء ، ويتبع ذلك فقر أصحاب الحرف المتعلقة بالزراعة كالطحن والمخابز ، ويتأثر بذلك إيراد الدولة مما تجمعه من ضرائب تغطي به  نفقاتها على الجند والعسكر . ونفس الحال يحدث مع رخص السكر والعسل والملبوسات ، فالرخص المفرط يجحف بمعاش المحترفين بذلك الصنف الرخيص .

     وكذلك الغلاء الفاحش ، لأن معاش الناس في التوسط وسرعة تغير الأسعار في الأسواق . ومن الأهمية أن تكون أسعار المواد الغذائية رخيصة نظرا لأنها سلع ضرورية يحتاجها الأغنياء والفقراء .

                                     الفصل الخامس عشر

                 خلق التجارة نازلة عن خلق الرؤساء وبعيدة عن المروءة

    لابد للتاجر من المساومة واللجاج والخصومة ، وهذه الأوصاف نقص من المروءة والذكاء ، وتتعود بها النفس على الرذائل لأن النفس تتأثر بما تتعود عليه.

     وتتفاوت هذه الآثار بتفاوت أصناف التجار ، منهم من يتعود السفالة محترفا للغش والفجور في الأثمان والأيمان ، ومنهم من يساعده الجاه على عدم الوقوع في ذلك ، وهو صنف نادر ، قد يكون قد ورث الأموال عن آبائه التجار فاتخذه سبيلا للوصول إلى أهل الدولة ، واستفاد بهذه الصلة جاها ونفوذا يمكنه من اصطناع الأعوان الذين يتاجرون باسمه فلا يختلط بالسوقة ويحتفظ بمكانته بعيدا عنهم . 

                                           الفصل السادس عشر

                                     الصنائع لابد لها من المعلم

الصناعة نشاط عملي فكري

الصنائع بسيطة ومركبة

    ومنها البسيط ومنها المركب ، البسيط يختص بالضروريات ، والمركب للكماليات . والبسيط متقدم في التعليم لأنه مختص بالضروري الذي تتوفر الدواعي لنقله ، ويتدرج تعليمه من النقص إلى الإجادة بالاستنباط والتدريج خلال أزمان وأجيال.

الصنائع ناقصة ومتطورة

    والصنائع في البلاد الصغيرة ناقصة وبسيطة ، فإن تزايدت حضارتها ودخلت مرحلة الترف تطورت الصنائع .

الصنائع ضرورية وكمالية

وتنقسم الصنائع أيضا إلى الضروري المختص بالمعاش ، وغير الضروري المختص بالأفكار كالعلوم والصنائع والسياسة ، فالأول مثل الحياكة والجزارة والتجارة ،والآخر مثل الوراقة والإنتساخ والتجليد والغناء والشعر ومن الثالث الجندية .

                                            الفصل السابع عشر

                         الصنائع إنما تكمل بكمال العمران الحضري وكثرته

السبب

    قبل اكتمال العمران يهتم الناس أساسا بالضروريات ، فإذا دخلوا طور الحضارة احتاجوا الكماليات ، وهذا هو السبب في اكتمال الصنائع باكتمال العمران . وهناك سبب آخر ، فالصنائع والعلوم تعبر عن الجانب الفكري للإنسان أما القوة فترتبط بالجانب الحيواني فيه ، لذا تأتي متقدمة لضروريتها لأي مجتمع إنساني في بدايته ، ثم تأتي الصنائع بعدئذ.

الصنائع في البدو

     وعلى مقدار العمران تكون درجة التقدم في الصنائع والتأنق فيها ، وأما العمران البدوي أو العمران البسيط فلا يحتاج من الصنائع إلا البسيط منها والضروري كالنجار والحداد والخياط والجزار ، وتوجد بدائية ناقصة وبمقدار الضرورة ولاتكون مقصودة لذاتها. أما في العمران المتكامل فيأتي التأنق في الصنائع واستنباط صنائع جديدة بدخول عصر الترف مثل الدهان والحمامي والطباخ والهراس والمغني والوراق وصناعات التجليد والزخرفة .

الصنائع في مصر

      وقد تخرج هذه الصنائع عن الحد إذا كان العمران خارجا عن الحد ، ويستشهد في ذلك إبن خلدون بأحوال مصر في عهده ، يقول " كما بلغنا عن أهل مصر أن فيهم من يعلم الطيور العجم والحمر الإنسية ، ويتخيل أشياء من العجائب .. وغير ذلك من الصنائع التي لاتوجد عندنا بالمغرب لأن  عمران أمصاره لم يبلغ عمران مصر والقاهرة ."

                                        الفصل الثامن عشر

                  رسوخ الصنائع في الأمصار برسوخ الحضارة وطول أمدها

    لأن رسوخ الصنائع من آثار العمران ، ويترسخ بتكراره وثباته واستمراره بتعاقب الأجيال ، وحتى لو تراجع العمران وتناقص تظل آثار الصنائع باقية في الناس ، ويتميز مجتمعهم بهذه الصنائع عن مجتمع آخر ناشئ في دور الحضارة أو داخل في الإزدهار .

    وضرب إبن خلدون مثلا على ذلك بالأندلس التي لاتزال فيها أحوال الصنائع باقية راسخة في المباني والمطابخ وآلات الغناء واللهو والولائم والأعراس وكل نواحي الترف ، مع تناقص العمران فيها .

    ونفس الحال في تونس إذ استكملت حضارتها بالدولة الصنهاجية ودولة الموحدين ، وإن كانت لاتصل إلى درجة الأندلس ، ولكن ساعد تونس في حضارتها قربها من مصر وتردد الزيارة والتوافد من مصر إلى تونس وبالعكس ، فتشابهت أحوالها بمصر .

                                                 الفصل التاسع عشر

                                      الصنائع تستجاد وتكثر إذا كثر طالبها

      وذلك لأن الإنسان لا يبيع عمله مجانا ، حيث يتكسب منه ، فإذا كانت الصناعة مطلوبة ومربحة إتجه الناس إلى تعلمها وإتقانها ، وإذا لم تكن تركها الناس ، ثم إن الدولة هي التي ترعى الصنائع الرابحة وتوجه لها الطالبين وتشجعهم على تعلمها .

                                           الفصل العشرون

                  الأمصار إذا قاربت الخراب إنتقصت منها الصنائع

    كما تزدهر الصنائع بالإقبال عليها فإذا تناقص العمران وتراجع الترف وعاد المجتمع إلى الإكتفاء بالضروريات فإن الصنائع تقل ، وأصحاب الصنائع القائمة على الترف تبور صنائعهم ، مثل النقاشة والجواهرجية ، وتنتهي .

                              الفصل الحادي والعشرون

                                     العرب أبعد الناس عن الصنائع

         لأنهم أعرق في البداوة وأبعد عن التحضر وما يستلزمه من الصنائع ، ويرى إبن خلدون أن أهل المشرق والعجم والأوربيين هم أصحاب الصنائع لأنهم أعرق في الحضارة ، ويستدل على ذلك بأن الإبل التي تعين العرب على التوغل في الصحراء والإبتعاد عن العمران – لا توجد في هذه المناطق ، والبربر في شمال أفريقيا مثل العرب ، وبلاد العرب والبربر قليلة الصنائع أو فقيرة بها ، في مقابل التقدم في الصنائع لدى الصين والهند والترك والأوربيين ، حيث ترسخت الصنائع لديهم من عصور الفرس والنبط والأقباط الفراعنة وبني إسرائيل واليونان والرومان . واستثنى إبن خلدون اليمن من بلاد العرب حيث قامت فيه حضارة وأسر حاكمة طال عليها الأمد فبقيت فيه رسوم الصنائع في الثياب والحرير .

                                          الفصل الثاني والعشرون

                        من حصلت له ملكة في صناعة قل أن يجيد صناعة اخرى

       فالخياط مثلا إذا أتقن حرفته فلا يفلح بعدها في حرفة التجارة أو البناء إلا إذا كانت الخياطة لم تسيطر على صاحبها ولم يتحكم فيها بعد .

    ويرى إبن خلدون أن السبب في ذلك أن الملكات صفات للنفس فلا تزدحم داخل النفس الواحدة ، بل إذا بدا الإنسان بفطرته يتعلم إحدى الملكات فإن نفسه تصطبغ بهذه الملكة ويكون أضعف عن قبول غيرها ، ولذلك لاتجد صاحب صناعة أجادها  وتخصص فيها ثم يستطيع أن يجيد  صناعة  أخرى بنفس القدر ، وحتى في مجال الفكر والعلم إذا تخصص عالم في فرع من العلوم وأجاد فيه لاتجده بنفس الإجادة في علم آخر .

 

 

 

عرض مقدمة ابن خلدون: ب5:(ف 23: 33 ) أنواع الصنائع 

 كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

 تابع الباب الخامس :  في اقتصاد العمران في المعاش ووجوه من  الكسب

            والصنائع وما يعرض في ذلك كله من الأحوال ، وفيه مسائل

                                        الفصل الثالث والعشرون

                                        الإشارة إلى أمهات الصنائع

    الصنائع كثيرة تستعصى على الحصر ، ويقتصر إبن خلدون على الضروري والشريف منها. ويجعل من الضروري الفلاحة والبناء والخياطة والتجارة ، أما الحرف أو الصنائع الشريفة فهي التوليد والكتابة والوراقة والغناء والطب . التوليد تتم به حياة المولود ورعاية الوالدة ، والطب حفظ الصحة ودفع المرض ، والكتابة تحفظ حاجة الإنسان وتحميه من النسيان وتخلد الأفكار والعلوم ، أما الغناء فهو الذي يظهر جمال الأصوات للأسماع ، وهذه الصنائع الثلاث ( الطب والتوليد ، ثم الكتابة ، ثم الغناء ) من وسائل الاتصال بالملوك ،ولذلك يجعلها إبن خلدون من الصنائع الشريفة .

                                  الفصل الرابع والعشرون

                                                    صناعة الفلاحة

     ثمرة الفلاحة إتخاذ الأقوات والحبوب عن طريق الإستنبات والرعاية بالسقي وخلافه إلى الحصاد ، وهي أقدم الصنائع لارتباطها بالقوت أول الضروريات . لذلك اختصت الفلاحة بالبدو لأن البداوة سابقة للحضارة ، لذلك كانت الفلاحة بدوية لا يقوم عليها الحضر ولا يعرفونها لأن أحوالهم كلها تالية بعد البداوة . وإبن خلدون هنا يعبر عن بيئته حيث لم يكن هناك فارق بين الفلاح في القرى الجبلية وبين البدو والقريبين منه ، وهذا وضع يختلف عن الأوطان فى أودية الأنهار مثل مصر والهند والصين  .       

                                   الفصل الخامس والعشرون

                                                 صناعة البناء

     أول صنائع العمران الحضري وأقدمها ، وهي معرفة العمل في إتخاذ البيوت والمنازل للسكن في المدن كي تدفع عن الإنسان الأذى والحر والبرد .

كيف تنشأ المدينة

     وأهل الحضر يتخذون البيوت بالأسقف والحيطان ، أما أهل البداوة فيسكن بعضهم الكهوف المعدة بطبيعتها ، أو يتخذون المأوى ، وقد يتكاثر البدو في المكان الواحد ، ويحدث بينهم شقاق فيأخذ كل فريق في التكتل داخل سور وحوله ماء ، وتنشأ بذلك المدينة التي تحتاج إلى حكم وإدارة وحصن وجيش وأمراء ونظام اجتماعي واقتصادي . وتختلف أحوالهم بين غني وفقير.

البناء يدل على الغنى أو الفقر

     وكذلك أحوال المدن ، من أهلها الأغنياء والحكام ويظهر ثراؤهم في البناء ، ومنهم الفقراء الذين يقيمون في بيوت بسيطة . وقد يقيم الملوك مدنا عظيمة وقصورا هائلة يتفننون في إتقانها . وصناعة البناء توجد في المناطق المعتدلة ، ولاتوجد صناعة البيوت في المناطق المنحرفة إذ يكتفي أهلها بحظائر من الطين والأعشاب .

اختلاف صناعة البناء

    ويتفاوت أهل صناعة البناء في المهارة ، كما تختلف الصناعة بين البناء بالحجارة التي تلتصق فيما بينها بالطين والكلس ، والبناء بالتراب ، وذلك بصنع ألواح الطين بطريقة الطابية. وذكر إبن خلدون طريقة أخرى في صناعة البناء بالتراب ، وطريقة لعمل السقف وبناء الصهاريج ، وقال أنه عندما يتسع العمران ويزدحم السكان تتكاثر الخلافات بين الجيران حول الطرق والمنافذ وارتفاع البناء والحوائط والمياه والمجاري ، ويحتكمون إلى السلطات وتحتاج بدورها إلى خبراء .

    وتختلف صناعة البناء حسب درجة التقدم الحضاري ، فالمجتمع البدوي بسيطة صناعته في البناء ،لذلك استورد الوليد بن عبدالملك العمال المهرة لبناء المساجد في دمشق والقدس والمدينة .

     وقال أن صناعة البناء تحتاج إلى دراية بالهندسة في تسوية الحيطان وإجراء المياه وجر الأثقال من أسفل إلى أعلى . وهنا يخلط إبن خلدون بين الهندسة والميكانيكا في رفع الأثقال عن طريق البكر.

                                       الفصل السادس والعشرون

                                           صناعة النجارة

معنى صناعةالنجارة

 من ضروريات العمارة ومادتها الخشب الذي يؤتي به من الشجر ، والشجر من نعم الله على الانسان .        

 وخشب الشجر يكون وقودا ويصنع منه العصيان والدعائم والأوتاد والرماح لأهل البدو ،والسقف والأبواب والكراسي في عمران أهل الحضر . وتحويل الخشب إلى هذه المنافع يكون بصناعة النجارة . والنجار يبدأ بتفصيل الخشب إلى قطع أصغر أو ألواح حسب الشكل المطلوب ثم بعدها بالإنتظام إلى أن تكون الشكل المطلوب .

إزدهار النجارة مع عصر الترف

    وتعظم صناعة النجارة بازدياد العمران ودخول عصر الترف ، وحينئذ يتأنق النجار في صناعته ويحتاج إلى الزخرفة في الأبواب والكراسي ،ويحتاج النجار إلى صناعة الخرط . وتدخل النجارة في صناعة المراكب البحرية ذات الألواح .

صناعة السفن

    ويصنع المركب على هيئة الحوت ويعتمد على طريقته في السياحة بالمجاديف ، وهي صنعة تحتاج إلى الكثير من الهندسة ، لذلك كان أئمة الهندسة اليونانيون من النجارين مثل إقليدس صاحب كتاب الأصول في الهندسة . وأبلونيوس صاحب كتاب المخروطات ، ويقال أن نوح عليه السلام هو معلم هذه الصناعة ، ولا يقوم على ذلك دليل . إلا أن سفينة نوح تؤكد قدم صناعة النجارة .

                                 الفصل السابع والعشرون

                                             صناعة الحياكة والخياطة

     هما ضروريتان للعمران ، والحياكة لنسج غزل الصوف والقطن والكتان ، والخياطة لتقدير المنسوجات المختلفة حسب الموضه ( العوائد) حيث يتم تفصيلها بالمقص ثم تلحم القطع بالخياطة . وتزدهر في الحضر لأن أهل البدو يستغنون عنها ، حيث يلبسون القماش بلا تفصيل أو خياطة ، وهذا سر تحريم المخيط في الحج حيث يعتمد الحج على نبذ الزخرفة الدنيوية حتى يزداد تعلقه بالله .

    وهاتان الصنعتان قديمتان في الخلق لأن طلب الدفء من ضرورات الحياة في المناطق المعتدلة ، أما السودان فأهله عراة في الغالب ، وينسبون هذه الصناعة إلى إدريس عليه السلام.

                                          الفصل الثامن والعشرون

                                                   صناعة التوليد

    هي استخراج المولود الآدمي من بطن أمه برفق ، وتهيئة أسباب ذلك ، ورعايته بعد خروجه ، وهي مختصة غالبا بالنساء . وتسمي " القائمة " بذلك القابلة من قبول واستقبال المولود. فالجنين إذا استكمل مدته يتهيأ للخروج ، فيحدث للمرأة ألام الوضع أو الطلق ، وهنا يأتي دور القابلة في تخفيف آلام الوضع بالضغط والتدليك لتسهيل خروج المولود. ثم إذا خرج تقطع الحبل السري من مكان معين ، ثم تعالج مكان القطع في بطن المولود أو في سرته ليلتئم. ثم تقوم القابلة بمعالجة وتحريك وتقليب الجنين حتى تكون أعضاؤه طبيعية ، ثم تراعى الوالدة بعد الوضع حتى تخرج منها الأفرازات التالية للولادة ، وتقوم على نظافتها الموضعية خشية التلوث والتعفن . ثم ترجع للمولود وتدلكه بالأدهان والمراهم ، كما تقوم بتخفيف رطوبات الرحم وتعمل على جفافه ليعود كما كان ، كما تداوي ما قد ينجم من جروح وتمزق في جدران المهبل . وللقوابل في كل ذلك خبرات وأدوية . ثم يقمن على رعاية المولود وهو يتناول رضاعته الأولى حتى الفصال والفطام ، وهن أمهر من الطبيب في هذه  الشئون ، وهي صناعة ضرورية للعمران الإنساني .

     وقد يستغنى عنها بعض الناس بمعجزة كالأنبياء أو بإلهام وهداية وكرامة. وعن المعجزة إستدل إبن خلدون بما روي عن النبي حيث قيل أنه ولد مختونا واضعا يديه على الأرض ، شاخصا ببصره نحو السماء ، وكذلك شأن عيسى في المهد ، وعن الإلهام يذكر غرائز الحيوان في الولادة ، ويستدل على ذلك بإمكانية الكرامات للأولياء في الولادة خصوصا وأن الطفل يلهم بالتقاط ثدي أمه بالفطرة .

     ويخالف إبن خلدون الفلاسفة المسلمين الذين أنكروا الإلهام الإلهي العام يقول : " وتكلف إبن سينا في الرد على هذا الرأي وأطنب في بيان ذلك في الرسالة التي سماها رسالة حي بن يقظان ".

                                         الفصل التاسع والعشرون

                        صناعة الطب والحاجة إليها في الأمصار دون البوادي

     هي صناعة ضرورية في المدن والأمصار لحفظ الصحة ودفع المرض بالمداواة حتى يأتي الشفاء . ويرى إبن خلدون أن المرض يأتي من الأغذية مستشهدا بحديث : المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء ،والحمية هي الجوع أو الإحتماء من الطعام ، فالجوع هو الدواء العظيم ، وكذا حديث " أصل كل داء البردة " والبردة هي إدخال الطعام على الطعام قبل أن يتم هضم الأول . ويشرح إبن خلدون بأسلوب عصره كيف ينشأ المرض من "البردة  ويتفرع في شرح الهضم ، وينشأ عن الخلط في الطعام الحمي ، وعلاجها قطع الغذاء أسابيع معلومة ، وإلا وقع المرض .

    ويقرر أن أهل الحضر تروج فيهم الأمراض لكثرة المأكل وتعدده وخلطه بالتوابل والبقول والفواكه ، ثم لايمارسون الرياضة . أما البدو فالأغلب عليهم الجوع وقلة الأكل وكثرة الحركة فيحسن بذلك هضم طعامهم البسيط في مناخهم الجاف . لذلك لا يوجد الطبيب في البوادي .

                                          الفصل الثلاثون

                              الخط والكتابة من الصنائع الإنسانية

معنى الخط والكتابة

    هو رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على مافي النفس ، وهو ثاني رتبة من الدلالة اللغوية . وهي صناعة شريفة لأنها تختص بالإنسان دون الحيوان ، ولأنها تطلع على ما في الضمائر وتتأدى بها الأغراض وتسجل بها العلوم والمعارف .

إزدهارها بالحضارة

    وهي تكون بالتعليم ، وعلى قدر الحضارة والعمران ، لذلك يجود الخط في المدن فيصبح من جملة الصنائع ، بينما يكون أغلب البدو أميين ، ومن يقرأ منهم يكون خطه قاصرا . وفي المقابل عندما يستحكم العمران والحضارة يزدهر الخط والكتابة ، يقول إبن خلدون " كما يحكي لنا عن مصر لهذا العهد وأن بها معلمين منتصبين لتعليم الخط ، يلقون على المتعلم قوانين وأحكاما في وضع كل حرف ".

الخط العربي حتى عهد النبي (ص)

    وبلغ الخط العربي غاية الإتقان في دولة  التبابعة في اليمن ، وهوالخط الحميَري ، ومنها إنتقل إلى الحيرة في دولة المناذرة بالعراق ومن الحيرة إنتقل للطائف ومكة ، ويقال أن أباسفيان هو الذي تعلم الكتابة من الحيرة .

     وكانت لحميَر كتابة تسمى المسند حروفها منفصلة ، وكانوا يمنعون تعلمها إلا بإذنهم . ومن حميَر إنتقلت إلى مُضر الكتابة العربية إلا أنهم لم يجيدوها لأنهم بدو لذلك كان الخط العربي في بداية الإسلام غير متقن ، وتأثرت بذلك كتابتهم الأولى للمصحف ، ثم اقتفى أثرهم التابعون تبركا بما كتبه الصحابة . ويعلل إبن خلدون إختلاف كتابة القرآن  عن الكتابة العادية بسبب عدم إتقان الصحابة للكتابة . وقال إن صناعة الخط ليست كمالا في حق الصحابة ، كما أن الأمية ليست عيبا في خاتم النبيين لأنه تنزه عن الصنائع العملية التي هي من أسباب المعاش .

الخط العربي بعد الفتوحات

    وبعد الفتوحات إحتاج العرب إلى الكتابة فراجت صناعتها خصوصا في الكوفة والبصرة . ثم ترقت صناعة الكتابة في العصر العباسي وظهر الخط البغدادي والخط الأفريقي ، والخط الأندلسي ، ومع ازدهار الحضارة إزدهرت الكتابة ونسخ المؤلفات ، وبعد تدمير بغداد إنتقل العلم والحضارة إلى مصر والقاهرة ، فازدهرت فيها أسواق الكتابة ، وتعليم الحروف وقوانينها .

    أما أهل الأندلس بعد نكبتهم فقد انتقلوا إلى شمال أفريقيا وشاركوا أهلها بما لديهم من صناعة ومعارف فغلب خطهم الأندلسي على الخط الأفريقي . ولما تراجعت الحضارة بزوال دولة الموحدين تراجع الخط والكتابة لارتباطهما بالتقدم الحضاري . ومع ذلك بقيت هناك آثار للخط الأندلسي . وفي دولة بني مرين في المغرب الأقصى تأثروا بالخط الأندلسي ، ثم لم  يلبث أن ضاع هذا التأثير فأصبحت الكتابة هناك رديئة مليئة بالأخطاء حيث تناقصت الحضارة .

                                      الفصل الحادي والثلاثون

                                         صناعة الوراقة

إزدهارها بالحضارة

    إزدهرت مع ازدهار الحضارة والعمران حيث عني بالدواوين العلمية والسجلات ونسخها وتجليدها وتصحيحها بالرواية والضبط ، وكثرت التآليف العلمية والدواوين ، وحرص الناس على تناقلها ونسخها وتجليدها ، وازدهرت في صناعة الوراقين القائمين بالإنتساخ والتصحيح والتجليد وكل مايتعلق بالكتابة والدواوين وتخصصت في ذلك الأمصار العظيمة العمران .

من الجلد إلى الكاغد

     وفي البداية إقتصرت الكتابة على الرسائل السلطانية وديوان الرسائل ومتطلبات الدولة فاستعملوا رقائق الجلد طلبا للصحة والاتقان . ثم ازداد التأليف والتراسل وعلاقات الدولة ولم تعد رقائق الجلد تكفي فاشار الفضل بن يحيي بصناعة الكاغد ، وراجت صناعته " والكاغد هو ورق البردي ".

الضبط  والتنقيح في النسخ

   ">    ويفسر إبن خلدون سبب المتعة التي يحس  بها الإنسان عند الطرب وذلك بتفسير عصره حيث تناسب المسموعات ما تهواه النفس وتمتزج به امتزاج أرواح العاشقين ويحسب الإنسان أنه قد امتزج بالكون واتحد به ،وتناسب الأصوات والألحان يعطيه هذا الإحساس. وبعض الناس يكون لديه القابلية للغناء والرقص مثل موهبة الشعر ومثل موهبة التلحين الذي يقوم عليه علم الموسيقي .  

قراءة القرآن بالتلحين

     ويقول إبن خلدون أن الإمام مالك  أنكر قراءة القرآن بالتلحين وأجازها الشافعي . وليس المراد تلحين القرآن بالموسيقى الصناعية ، فذلك محظور قطعا ، لأنه يخالف القرآن بكل وجه . ولكن المراد بالتلحين هنا هو التلحين البسيط الذي يهتدي إليه القارئ بطبعه فيردد صوته بالقراءة ترديدا  على نسب يدركها العالم بالغناء .

     ويقول إبن خلدون أن الظاهرة تنزيه القرآن عن ذلك كله كما ذهب إليه الإمام أحمد لأن القرآن محل خشوع وليس مقام تمتع بالصوت أو اللحن ، ويرى إبن خلدون أن حديث " أوتي مزمارا من مزامير داود" أنه ليس المراد به التلحين وإنما حسن الصوت .

العرب والغناء قبل الإسلام

     ويرى أن صناعة الغناء تنشأ في مجتمعات الترف التي تجاوزت مراحل الضروريات إلى الكماليات ويبدأ المجتمع في التفنن في المتع ومنها صناعة الغناء وهكذا كان العجم في حضارتهم . أما العرب فقد كان فيهم فن الشعر الذي امتازوا به وافتخروا ، وجعلوه ديوانا لأخبارهم وأيامهم ، وضم الشعر ( بما فيه من تناسب بين الأجزاء الساكنة والمتحركة ، ومافيه من وزن وقافية ) بداية الموسيقى العربية إلا أنهم لم يحفلوا بذلك حيث كانوا مطبوعين على الشعر بدون تكلف أو تعلم . إلا أن ترديدهم للشعر جعلهم يرجعون الأصوات ويترنمون بالشعر فظهر الغناء بالشعر . أما  إذا كان بالتهليل أو بالقراءة سمي تغييرا . وعرفوا التناسب البسيط بين النغمات وكانوا يسمونه السناد ، وكان أكثره في الوزن الخفيف الذي يرقص عليه مع الدف والمزمار ، وكانوا يسمونه الهزج ، وذلك من أوائل التلحين ، وواضح أنه كان تلحينا فطريا بدون تعلم .

الغناء بعد الإسلام

    وبعد الإسلام والفتوحات ودخولهم في عصر الترف عرفوا الغناء عن طريق الموالي وآلاتهم الموسيقية ، وظهر بالمدينة مغنون مشاهير منهم مثل طويس وسائب ونشيط ، وأولئك قاموا بتلحين شعر العرب وغنوه ، وأخذ عنهم شريح وأنظاره ، ثم اكتملت الصناعة في عصر بني العباس بإبراهيم بن المهدي وإبراهيم الموصلي وإبنه إسحق وإبنه حماد . وتفننوا في مجالس الغناء والرقص ، بل اتخذوا للرقص آلات تسمي الكرج وهي تماثيل خيل مسرجه من الخشب معلقه فيها أقبية تلبسها النسوة ويحاكين بها امتطاء الخيل ويمثلون الكر والفر ، وأقيمت في ذلك حفلات سمر في الولائم والأعراس والأعياد ومجالس المجون ، وكثر ذلك في العراق وغيرها ، واشتهر زرياب في الموصل وهجرها إلى الأندلس فأكرمه حاكمها الحكم بن هشام حفيد عبدالرحمن الداخل ، فأقام زرياب في الأندلس صناعة الغناء ، وظلوا يتناقلون تلك الصناعة في ملوك الطوائف ، وبعد انهيار حكمهم إنتقل الغناء إلى شمال أفريقيا مع من هاجر من الأندلسيين إليها . وبقيت منها آثار على عهد إبن خلدون ، لأن صناعة الغناء لا تروج إلا في التقدم الحضاري .

                                           الفصل الثالث الثلاثون

                  الصنائع تكسب صاحبها عقلا ، خصوصا الكتابة والحساب

    النفس الناطقة توجد في الإنسان بالقوة ، وتتحول إلى فعل يتحد مع العلوم والإدراك عن المحسوسات ، ثم يكتسب القوة النظرية إلى أن يصير إدراكا بالفعل وعقلا محضا ثم يصبح ذاتا روحانية كاملة .

   وينتج عن الصنائع إستفادة علمية ، فالحنكة تفيد عقلا شأن الحضارة الكاملة ، وذلك بسبب الإختلاط وتحصيل المعارف والآداب والقيام بأمور الدين وآدابه ، وكلها ينتج عنها قوانين وعلوم تزيد في إتساع العقل . والكتابة أبعد أثرا في ذلك لاشتمالها على العلوم وتنميتها للخيال والإبداع ، وكذلك الحساب لأنه يحتاج إلى إستدلال وإبتكار .

كتاب ( مقدمة ابن خلدون : دراسة تحليلية )
كتاب ( مقدمة ابن خلدون : دراسة تحليلية )
تم نشر هذا الكتاب فى القاهرة عام 1998 ، وهو تحليل أصولى تاريخى لمقدمة ابن خلدون وتاريخه وعقليته ، ونعيد نشره هنا مع بعض تعديل وإضافة فصل جديد .
more