رقم ( 23 ) : الباب الثانى : الدين السّنى وصناعة تشريع الحج .
الفصل الحادى عشر والأخير : لمحة عن إختلافات الدين السّنى فى مناسك الحج

الباب الثانى : الدين السّنى وصناعة تشريع الحج .

 الفصل الحادى عشر والأخير :  لمحة عن إختلافات الدين السّنى فى مناسك الحج

 أوّلا  ـ  إختلافات فى الحجّ السّنى ومحاولات التوفيق والتلفيق 

مقالات متعلقة :

1ـ الأختلافات هي السمة البارزة في فقه المناسك ورواياتها . فعن أركان الحج نجد اختلافاً بين المذاهب . فعند الأحناف هناك ركنان فقط للحج هما طواف الأفاضة والوقوف بعرفة ،أمّا الشافعية والمالكية والحنابلة فقد قالوا بالأركان الأربعة للحج وهي الأحرام وطواف الأفاضة والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة . وزاد الشافعية الحلق أو التقصير وترتيب معظم الأركان . ويرى صاحب تفسير المنار ان أركان الحج خمسة هي الأحرام من الميقات ،والوقوف بعرفة ،والطواف بالكعبة ،والسعي بين الصفا والمروة والحلق أو التقصير للشعر:( تفسير المنار 2/177 ). ثم هناك اختلافات فرعية في تفصيلات المناسك .

2 ـ ولأن الحج عبادة عملية يؤديها المسلمون معاً من كل ملّة برغم إختلاف أديانهم الأرضية فقد بدأت مؤلفات سنيّة حديثة تحاول تجميع الآراء الفقهية المذهبية في رأي واحد ، فما كان فيه بعض إتّفاق في الألتزام به جعلوه ركناً واجباً ، وما كان فيه أختلاف جعلوه مندوبا مستحباً ، وما كان فيه اختلاف في تحريمه جعلوه مكروهاً . وأبرز الكتب في هذا المجال هو " منهاج المسلم " لأبى بكر الجزائرى . وهذا الكتاب  يعبر عن الحج العملي السلفى الملتزم بالوهابية التى تسيطر على فريضة الحج ومناسك الحج وعلى البيت الحرام، وبالتالى فما ذكره الوهابى صاحب " منهاج المسلم " هو ــ فى أغلبه ـــ الذي يؤديه المسلمون اليوم . ومحاولة التجميع والتوفيق والتلفيق هذه تخفى إختلافات أساس بين صنّاع الدين السّنى فى مناسك الحج.   

ثانيا : إختلافات عامة في الحج

1 ـ طبقا لروايات العصر العباسى لأئمة الدين السّنى فإن أعلام الصحابة المتفقهين كانوا اول من بدأ الأختلاف في فقه المناسك في الحج . ولا نرى هذا ، بل نعتقد أن أولئك الفقهاء إختلفوا فيما بينهم فحاول كل منهم تعزيز رأيه ليس بالاستشهاد بالقرآن الكريم والاحتكام اليه، ولكن بأسهل طريق وهو الكذب ونسبة آرائه الى النبى عليه السلام والصحابة لتكتسب قدسية وتتحصّن من النقد والنقاش . ولكن لأنهم جميعا إحترفوا هذا الكذب على النبى الصحابة فقد تعارضت تلك الأحاديث وتناقضت مع بعضها ، لذا نرى شيوع الاختلاف بين أولئك الفقهاء ـ صُنّاع الدين السّنى ـ ليس فقط أختلافهم فيما بينهم ولكن تناقضهم مع أنفسهم . هذه لمحة تفسر ما سنورده هنا .

2 ـ يروي مسلم حديث انس انه رأي النبي جمع بين الحج والعمرة وقال الراوي : فسألت ابن عمر فقال : اهللنا بالحج فرجعت إلى انس فأخبرته ما قال ابن عمر فقال كأنما كنا صبياناً"  ( مسلم 4/53 ). أي أن أنس يعرض بابن عمر الذي كان صبياً في حياة النبي ، ويروي ابن سعد ان أنس بن مالك أحرم " فما سمعناه متكلماً إلا بذكر الله حتى حل وقال : با ابن أخي هكذا كان الإحرام. "( تفسير ابن كثير1/237 ) فهنا تعريض خفي من أنس بما يفعله الآخرون في الإحرام .

وقد نفهم من يقصده أنس بن مالك بالتعريض إذا قرأنا ما نقله ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس وهو يرى أن الرفث المحظور في الحج هو ما يقال فقط عند النساء ، أمّا ما يقال عن النساء بعيدا عنهن فليس من الرفث مهما كان الكلام فاحشا وبذيئا . ولذلك كان يرتجز وهو في الإحرام بألفاظ فاحشة ، فيروى أبوالعالية الرياحى عن ابن عباس أنه كان يحدو ـ أى يغنى ـ وهو محرم فيقول عن الابل التى يركبها:

وهن يمشين بنا هميسا                             ان تصدق الطير ننك لميسا

فقال أبو العالية : تكلم بالرفث وأنت محرم ؟ قال ما أنما الرفث ما قيل عند النساء.

وهناك رواية أخرى تقول أن أبا حصين بن قيس قال : أصعدت مع ابن عباس فى الحاج ، وكنت خليلا له ، فلما كان بعد احرامنا قام ابن عباس فأخذ بذنب بعيره ، فجعل يلويه ويرتجز ، ويقول

وهنا يمشين بنا هميسا                    أن تصدق الطير ننك لميسا

قال : قلت : أترفث وأنت محرم ؟ فقال أنما الرفث ما قيل عن النساء ( تفسير ابن كثير 1/237 ) والمعروف أن الرفث هو الجماع وما دونه من قول الفحشاء مع النساء أو بدونهن، ولميس هى جارية ابن عباس ، وهو يريد انه سيعود ليمارس معها الجنس،واستعمل لفظا نابيا ( ننك ) من كلمة ( نيك).

3 ـ وفي رواية أخرى في صحيح مسلم ترى إختلافاً في الرأي بين ابن عمر وابن عباس . يروي مسلم حديث وبرة " كنت جالساً عند ابن عمر، فجاءه رجل فقال أيصلح لي ان اطوف بالبيت قبل ان آتي الموقف ؟ فقال : نعم فقال : أن ابن عباس يقول : لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف. فقال ابن عمر : فقد حج رسول الله (ص) فطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف، فيقول رسول الله أحق أن تأخذ أو بقول ابن عباس ان كنت صادقاً ..". ويأتي مسلم برواية أخرى " سأل رجل بن عمر : أطوف بالبيت وقد أحرمت بالحج ؟ فقال : وما يمنعك ؟ قال : اني رأيت أن فلاناً يكرهه وانت أحب إلينا منه  ، رأيناه قد فتنته الدنيا . فقال : وأينا وأيكم لم تفتنه الدنيا . ثم قال : رأينا رسول الله أحرم بالحج وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة فسنة الله ورسوله أحق ان تتبع من سنة فلان إن كنت صادقا . " . ( صحيح مسلم 4/53 ).

ثالثا : إختلافات في المواقيت التى إبتدعوها فى الاحرام :

1 ـ إبتدعوا للإحرام مواقيت ثم إختلفوا فيها . قالوا إنّه يبدأ الأحرام من الميقات أو المكان الذي زعموا أن النبى قام بتوقيته أو ( وقّته ) للحجّاج القادمين من هذا المكان أو ذاك ، وأنه ينبغي عليهم الأحرام عنده وبحيث إذا تعداه بلا إحرام وجب ان يعود إليه ليحرم عنده،وهذا إبتداع لم يأت ذلك في كتاب الله جلّ وعلا .ولكن أوجبت الميقات كتب الفقه وصنعت  له الروايات .

2 ـ وحديث الميقات للحج جاء منسوباً لعبد الله بن عمر، أى جعلوا إبن عمر مشرّعا له ، يقول إبن عمر : ( يهلّ اهل المدينة من ذي الحليفة ويهلّ أهل الشام  من الجحفة ويهلّ اهل نجد من قرن )، ثم قال إبن عمر : (ويزعمون أنه ـ أي النبي ـ قال : ويهل اهل اليمن من يلملم ).( الموطأ 133 ، صحيح البخارى ، 2/165 صحيح مسلم 4/6:7 ) . ولكن الحديث يعنى أن أهل الشام كانوا يؤدون الحج في عهد النبي ، وليس لذلك سند في التاريخ لأن الفتوحات العربية توطّدت في أواخر عهد عمر في الشام والعراق.

3 ـ ورويت أحاديث تجعل ميقات العراق والمشرق في ذات عرق . ويروي البخاري حديثاً لابن عمر يقول فيه أنه لما فُتح المصران يعني الشام والعراق : ( أتوا عمر فقالوا : يا أمير المؤمنين ان رسول الله حدَ لأهل نجد قرناً وهو جور عن طريقنا وانا إن أردنا قرنا شق علينا . قال : فأنظروا خذوها من طريقكم، فحدّ لهم ذات عرق . )..  إذن فالميقات ليس تشريعاً إلهياً وإنما تشريع سنّى مصنوع صنعه عمر تارة ، وصنعه ابن عمر تارة أخرى .!.

4 ـ وشكّك الشافعي في " الأم " فيما نسبوه للنبي من توقيت ذات عرق لأهل المشرق بحجة أنه :( لم يكن أهل المشرق حينئذِ )، يعني لم يكن هناك إسلام وقتها في المشرق في عصر النبي ، وقال : (سمعنا أنه وقّت ذات عرق أو العقيق  لأهل المشرق قال ولم يكن عراق ) أى لم يكن العراق قد تمّ فتحه فى عهد النبى . وقال : ( لم يوقّت النبي ذات عرق ولم يكن حينئذِ أهل مشرق ، فوقّت الناس ذات عرق .)،وقال : ( لم يوقّت النبي( ص ) لأهل المشرق شيئاً فأتخذ الناس بجبال قرن ذات عرق .). أي ان الناس هم الذين أختاروا ذلك المكان وليس النبى عليه السلام . ويروي الشافعي أيضاً عن ابن سيرين أن الخليفة عمر هو الذي وقّت ذات عرق لأهل المشرق ، ثم يخلص الشافعي من ذلك إلى أن الحاجّ : ( لا يضيق عليه أن يبتدىء الاحرام قبل الميقات ، كما لا يضيق عليه لو احرم من أهله ، فلم يأت الميقات إلا وقد تقدم بإحرامه . ). والشافعي هنا اوسع عقلاً من غيره لأنه ألمح إلى عدم الأعتداد بالميقات في الأحرام بالكلية . إلا أنه عاد إلى تحفظه فقال : ( ومن سلك بحراً او براً من غير وجه المواقيت  أهلّ بالحج اذا حاذى المواقيت ) ثم إستمر فى إبداء رأيه فقال : ( وأحبٌ إلى أن يحتاط فيحرم من وراء ذلك ).( الشافعى الأم 2/118 ).

5 ـ والشافعى فيما ( يحبّ ) نراه متأثرا برأي الفقيه التابعى عطاء القائل : ( من سلك بحراً أو براً من غير جهة المواقيت أحرم إذا حاذى المواقيت ).أى إذا كان فى سفينة فى عرض البحر وحاذت السفينة الميقات فعليه أن يبدأ الإحرام والاهلال قائلا :( لبيك اللهم لبيك ) . فكيف يعرف وهو فى السفينة أنه حاذى الميقات ؟ هل كان لديه فى عصر الشافعى بوصلة أو خريطة من جوجل .؟ أو BJS؟.وما الذي يفعله الحجاج القادمون من شتى بلاد العالم من آسيا وأفريقيا واستراليا والأمريكيتين ؟. ثم ، ما الداعي إلى تشريع لم يأت في كتاب الله ولم نستفد منه إلا الإختلاف .؟ واضح أن هؤلاء قاموا بالتشريع بقدر ما تصل اليه مداركهم ، وصنعوا دينا سنيّا خاطوه ثوبا على قدر حجمهم ، ثم إختلفوا ونسبوا للنبى عليه السلام المتناقض من التشريعات .  وبدلا من هذا التخبّط والاختلاف ، لماذا لا نرجع الى كتاب الله جلّ وعلا ، والمفهوم منه أنّ المحرم يبدأ إحرامه إذا دخل الحرم. 

رابعا : إختلافات فى محظورات الاحرام  

1 ـ وقد إبتدعوا من محظورات الأحرام استعمال الطيب ، أي العطور. وكالعادة إختلف أئمة الدين السّنى فى هذا ، وتبارزوا بالأحاديث كعادتهم .  يروي الشافعي في ( الأم ) أن عمر قال : ( اذا رميتم الجمرة فقد حُلّ لكم ما حُرّم عليكم إلا النساء والطيب ):( الشافعى 2/128: 129 ). وردّ آخرون على الشافعى بوضع حديث نسبوه للسيدة  عائشة يزعمون أنها قالت :( كنت اطيّب رسول الله لإحرامه قبل أن يحرم ولحلّه قبل ان يطوف بالبيت ). أي أن عائشة في هذه الرواية المصنوعة لا ترى إستعمال الطيب للمحرم حراماً .  

2 ـ وفي صحيح مسلم رواية أخرى تحرّم إستعمال العطور والطيب ، يرويها عن ابن المنتشر عن أبيه قال : ( سألت عبدالله بن عمر عن الرجل يتطيب ثم يصبح محرماُ فقال : ما أحبّ ان أصبح محرماً أنضح طيباً ، لأن أطلى بقطران أحب إلى من أن أفعل ذلك .!!). ويقول الراوي فدخلت علي عائشة فأخبرتها ،فقالت : ( أنا طيّبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند احرامه ثم طاف في نسائه ثم أصبح محرماً ).( صحيح مسلم 4/12 :13 ). 

3 ـ وليس محظورا في كتاب الله استعمال الطيب في الإحرام .بل إنه من الممنوع فى شرع الله تحريم ما أحلّه الله جل وعلا من الطيبات : (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32). بل إن من أشد المحرّمات الافتراء على الله جلّ وعلا : (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33)( الاعراف ).

4 ـ إن المحظورات في الحج هي الرفث والفسوق والجدال وقتل الصيد وحلق الرأس أثناء الإحرام ـ حتى لا يقتل المحرم ما قد يكون في رأسه من حشرات ـ وقد جعل الله فدية على من يحلق رأسه وهو محرم أو من يقتل الصيد البري .يقول سبحانه وتعالى : ( وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ (196)البقرة ) . ولكنهم ـ في التشريع السّنى أوجبوا الفدية على كل المحظورات التي ابتدعوها. وقد رددت كتب الأحاديث حديث كعب بن عجرة وزعموا فيه أنّ النبى مرّ به وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة،والقمل يتهافت على وجهه فقال له النبى بزعمهم  : أيؤذيك هوامّك ؟ قال : نعم . قال : فأحلق رأسك واطعم فرقاً بين ستة مساكين ( والفرق ثلاثة أصع )أو صم ثلاثة أيام أو أنسك نسيكة ، قال بن أبي نجيح أو ذبح شاة .). هذا القول الذى زعموه يتفق مع كتاب الله ، ويتفق مع المفهوم من الحج ومعنى حرم الله الآمن الذي يأمن فيه كل مخلوق من الحشرة إلى الإنسان، والذى لا يحلّ فيه قتل أى دابة.  ولكن زعموا حديثاً آخر يبيح قتل  خمس فواسق في الحرم: (وهن الفأرة والعقرب والغراب والحديا والكلب العقور.)(صحيح مسلم 4/18 ، موطأ مالك 147 ) .

خامسا : اختلافات في الطواف بالبيت والحجر الأسود :

1ـ الأصل في الطواف ألا يلمس الطائف بالبيت جدار الكعبة حتى لا يتحوّل بناء الكعبة الحجرى الى وثن مقدّس، وهكذا كانوا يفعلون إلا إذا تعوذ احدهم ببيت الله عندئذ يتعلق بأستار الكعبة ، يروي ابن سعد عن الحارث بن عبدالله بن ربيعة قوله :( طُفت مع عبدالملك بن مروان بالبيت فلما كان الشوط السابع دنا من البيت يتعوذ، فجذبته فقال : مالك يا جابر ؟ قلت يا أمير المؤمنين : أتدري أول من فعل هذا ؟ عجوز من عجائز قومك قال : فمضى عبدالملك ولم يتعوذ..).( طبقات ابن سعد 5/171 ). لم تكن مبتدعات الدين السّنى قد استشرت في القرن الأول الهجري، إلا انها في العصر العباسي ازدادت واحتاجت إلى تسويغ شرعي كاذب ، فتكفلت بذلك أحاديث منسوبة للنبي ولكبار الصحابة بعد موتهم بقرنين وأكثر، ثم إختلفوا فيها كالعادة .

2 ــ ومن ذلك أنهم جعلوا من استلام الحجر الأسود والركن اليماني أهم ما يحرص عليه الطائفون.والحجر الأسود هو علامة لابتداء الطواف، ولكن ما لبثوا أن جعلوه حجراً مقدساً يتبرك به المسلمون ويتصارعون للوصول إليه مع أنه لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ، ومع انه لا تقديس لأي حجر في الإسلام . ومشهور ذلك الحديث الذي يقول أن عمر قال للركن ـ أو الحجر الأسود ، أما والله اني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا اني رأيت رسول الله ( ص ) استلمك ما استلمتك .)( البخارى 2/185، وبلوغ المرام لأبن حجر 72 ).ويعارضه حديث آخر يزعم أن ابن عباس كان يقبّل الحجر الأسود ويسجد عليه ، وقد رواه الحاكم مرفوعاً والبيهقي موقوفاً . ( بلوغ المرام لأبن حجر 698 ).وأتى مسلم بأقاويل منسوبة لابن عمر يقول فيها أنه لم ير النبي يمسح من البيت إلا الركنين اليمانيين.). ( صحيح مسلم 4 / 65 : 66 )

3 ــ وقد اورد الشافعي هذه الروايات عن الحجر الأسود واستلامه وتقبيله هو والركن اليماني ثم قال يعبّر عن وجهة نظره : ( وإذا ترك استلام الركن لم أُحبّ ذلك له ولا شيئ عليه ، اخبرنا سعيد ابن سالم عن إبراهيم بن نافع قال : طفت مع طاوس فلم يستلم شيئاً من الأركان حتى فرغ من طوافه.).( الأم 2/145 : 146 ). وطاووس هذا من التابعين ، وقد جعلوه مصدرا للتشريع .!!. وإذا كان النبي قد فعل ذلك فعلاً فهو من شعائر الطواف التي ينبغي التمسك بها ـ ولكن لأنّ الشافعي ليس متأكداً منها لذلك لم يجعل استلام الركن وتقبيل الحجر الأسود واجباً ولم يجعل شيئاً على الذي لا يفعل ذلك ، واستدل بإن طاوس ـ العابد ـ  كان لا يستلم شيئاً من الأركان ، والواقع أن عصر طاوس في القرن الأول الهجري لم يعرف ذلك التقديس لأركان الكعبة والحجر الأسود ، ولم يذكر مالك في الموطأ تقبيل عمر للحجر الأسود ،وذكر فقط ان ابن عمر كان يمسّ الركنين اليمانيين: ( الموطأ 161 ) .و يقول الشافعي لا اختلاف في ان حدّ مدخل الطواف من الركن الأسود وأن كمال الطواف إليه.. 

سادسا : أختلافهم فى زى الاحرام

1 ـ وقلنا إن طواف العرى " رجع في صورة جزئية فيما يعرف بزي الإحرام حيث يتجرد المحرم من المخيط فلا يلبس ثوباً ولا قميصاً ولا بُرنساً ولا يغطي رأسه ولا يلبس خفاً ولا حذاء .. وإذا فعل أوجبوا عليه فدية .. وذلك كله لا أصل له في الإسلام ، بل هو ردة إلى طواف العري الجاهلي . عاد طواف العري فيما عرف بالأضطباع أو الطريقة التي احدثوها في ارتداء زي محدد للأحرام. بدأ بها شباب قريش فى العصر الأموى مخالفين للغصلاح الذى حدث فى عهد الرسول عليه السلام . لذا كان طاووس الفقيه العابد يقول محتجّا على فتية من قريش يطوفون بالكعبة : ( إنكم تلبسون لبوسا ما كان آباؤكم يلبسونها، وتمشون مشية ما يحس الزفانون أن يمشوها )(طبقات ابن سعد 5 / 395 ).اذن أعادت العنجهية القرشية تواترها بالأبتداع في الزي . ثم ما لبث ذلك الأبتداع في الزي أن وجد مسوغاً شرعياً بالأحاديث التي راجت ثم تم تدوينها في العصر العباسي .

2 ـ ولأنه ابتداع لا أصل له في الدين فقد اختلفت فيه الأحاديث وتناقضت ..هناك حديث ابن عمر " لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويل ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد النعلين  " وهناك رواية أخرى لمسلم يزعم فيها ان النبي نهى أن يلبس المحرم ثوباً مصبوغاً بزعفران أو ورس)  ( مسلم 4 / 2 : 3 ، البخاري 3 / 19 الأم للشافعي 2 / 125 ، الموطأ 145 ). ثم نرى أحاديث أخرى تناقض ما سبق ،  فابن عباس فيما يزعمه مسلم ـ يبيح السراويل لمن لا يجد الأزار والخفاف لمن لم يجد النعلين ،وحديث جابر " من لم يجد نعلين فليلبس خفين ومن لم يجد ازاراً فليلبس سراويل)( مسلم 4 / 2 :3 ،الأم للشافعي 2 / 125 )،ثم حديث البخاري  الذى يزعم أنه (..وانطلق النبي من المدينة بعدما ترجل وأدهن ولبس أزاره ورداءه هو وأصحابه فلم ينه عن شيئ من الاردية والأزر تلبس إلا المزعفرة التي تزرع على الجلد )( البخاري 2 / 169 .) إذن لا نهي هنا عن القمص والعمائم والسراويل والبرانس .. الخ .

3 ـ . ثم نأتي إلى طريقة أرتداء ذلك الزي وهي ما يعرف بالأضطباع ، وهو ليس من مصطلحات القرآن أو من مفرداته ، وهو تعرية المنكب الأيمن مع جزء من أعلى الجسم والصدر ، والأصل فيه كما يزعم الشافعي ان أبن جريح بلغه أن رسول الله ( ص ) اضطبع بردائه حين طاف "  (الأم 2 / 148  ) .وكيف يعرف جريح بذلك وهو من التابعين ؟ ، فهذا الجريج ( جورج الصغير ) لم ير النبى عليه السلام لأنه من أبناء الموالى بعد الفتوحات. !! وبعد الشافعي زعمت كتب الأحاديث حديث يعلي بن أمية أن النبي طاف مضطبعاً ببرداً اخضراً ، وقد رواه الخمسة إلا النسائي :( الصنعاني سبل السلام 2 / 384 .)

4 ـ ونعود للشافعي وهو يزعم أن عمر بن الخطاب استلم الركن ليسعى ثم قال عمر متسائلا :( لمن نبدي الآن مناكبنا ومن نرائى وقد أظهر الله الإسلام ؟ ):( الأم 2 / 148 .)، ومعناه ان الأضطباع ـ أو أظهار المناكب في الطواف كان طريقة أظهر بها النبي للمشركين قوته وهو يطوف بأصحابه أمامهم . ولا يبدو الشافعي مقتنعاً بوجوب زي محدد للإحرام ولا يوجب الأضطباع ، فهو يقول : ( ومن لم يجد أزاراً لبس سراويل ، فهما سواء .)، ويرد من طرف خفي على تحريم الثوب المصبوغ فيورد رواية تقول أن أسماء بنت أبي بكر كانت تلبس المعصفرات المشبعات وهي محرمة ، ويقول أن عمر بن الخطاب أبصر على عبدالله بن جعفر  ثوبين مضرجين وهو محرم فقال ما هذه الثياب ؟ فقال علي بن أبي طالب : ما اخال أحداً يعلمنا السنة فسكت عمر.)(نفس المرجع 2 / 148)(وحديث في نفس المعنى في الموطأ 146) . ثم يقول الشافعي عن الزي والأضطباع معاً : ( والأضطباع ان يشتمل بردائه على منكبه الأيسر ومن تحت منكبه الأيمن حتى يكون منكبه الأيمن بارزاً حتى يكمل سبعة . وأن كان في ازار و عمامة أحببت أن يدخلها تحت منكبه الأيمن وكذلك إن كان مرتدياً بقميص او سراويل أو غيره . وان كان مؤتزراً لا شيئ على منكبيه فهو بادي المنكبين لا ثوب عليه يضطبع فيه ثم يرمل حين يفتح الطواف ، فإن ترك الأضطباع في بعض السبع اضطبع فيما بقى منه ، وإن لم يضطبع بحال كرهته له كما اكره له ترك الرمل في الأطواف الثلاثة . ولا فدية عليه ولا اعادة.)( الأم 2 / 148). والشافعى يجعل من نفسه مصدرا للتشريع ، فهو يكرّر فى كتابه ( الأم ):( أحبّ أن يفعل كذا أو أحببت أن يفعل كذا أو من السّنة كذا ، وأكره له كذا ..).والمقصد هنا أن الشافعي لا يرى بأساً إذا طاف المحرم في ازار وعمامة وقميص وسراويل وغيره .. ولا يرى بأساً إذا ترك الأضطباع ولا فدية عليه .اما نحن فنرى باساً وحرجاً في أن يكشف الرجل عن جسده وهو يطوف ببيت الله وحوله نساء ، ونرى انه خروج عن امر الله تعالى حين قال : ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ (31) الأعراف)، وأمر الله أولى بالطاعة . وطالما نحن في بيت الله فلابد أن نطيع صاحب البيت ولا نعصي امره ولا نكرر قصة الجاهلية في طواف العرى الكلّى أو الجزئى .

سابعا : إختلافهم فى ( الرمل )

1 ـ  وهناك إختلاف فى (الرمل) في الطواف ثلاث مرات ثم المشي أربعة. والرمل هو ان يسارع الطائف في مشيه مع تقارب خطاه . وهو طريقة في الطواف زعموا أن النبي بدأها وشرعها ليُري المشركين في مكة قوته وقوة أصحابه . ويزعم البخاري أن عمر إعترض عليها وقال :( فما لنا وللرمل ؟ انما كنا رائينا به المشركين وقد أهلكهم الله ، ثم قال : شيئ صنعه النبي فلا نحب ان نتركه ).(البخارى 2/185 )، وهنا تناقض فى حديث البخارى ، فقد جعل عمر يعترض على الرمل فى الطواف لأنه كان فى ظروف محددة إنتهت ، ثم يختم الحديث بألّا يتركوا شيئا عمله النبى .! .

2 ـ ويروي مسلم ان أحدهم سأل ابن عباس:( أرأيت هذا الرمل بالبيت... أسنُة هو ؟ فإن قومك يزعمون انه سنُة ؟ قال صدقوا وكذبوا..إن رسول الله ( ص ) قدم مكة فقال المشركون أن محمداً وأصحابه لا يستطيعون ان يطوفوا بالبيت من الهزال ، وكانوا يحسدونه ، فأراهم  رسول الله أن يرملوا ثلاثة ويمشوا أربعة.). ويؤكّد مسلم هذا الحديث بحديث آخر لابن عباس: ( إنما سعى رسول الله ( ص ) ورمل بالبيت ليري المشركون قوته.)(مسلم 4/64: 65 ).

3 ـ وبالتالى فإن طريقة الطواف بالرمل فى نظرهم شريعة إنتهى مفعولها ولم يعد لها محل من الاعراب ، وإذن فما الداعى للإختلاف حولها طالما أنه لا تقدّم ولا تؤخّر ؟  لذا لا نعجب إذا قال الشافعي: ( وترك الرمل عامداً ذاكراً وساهياً وجاهلاً سواء ، لا يعيد ولا يفتدى من تركه . ) وهنا يكون كلامه مقبولا . إلّا إن الشافعى كعادته يستدرك على نفسه ليقول لنا ما يحبّه وما يكرهه جاعلا نفسه مصدرا للتشريع ، يقول عن الرمل : ( غير أني أكرهه للعامد ولا مكروه فيه على ساهِ ولا جاهل ، وسواء في ذلك كله طواف نسك قبل عرفه وبعدها في كل حج وعمرة .) ( الأم 2/149 ).وقلنا إنّ منهج الشافعى فى كتابه ( الأم ) أن يكرّر كلمة ( أحبّ كذا ، وأكره كذا ) أى يعطى وجهة نظره الشخصية فيما يحبّ وفيما يكره. أى قال الشافعي هنا (إني أكرهه للعابد ) فجاء الفقهاء بعده يقولون إنه مكروه .. وأصبح المكروه حكماً فقهياً ، طالما كرهه الشافعى .!!.

ثامنا : اختلافات في السعي بين الصفا والمروة :

1 ـ لم يتحدث القرآن الكريم عن ( وجوب السعي ) بين الصفا والمروة  وإنما قال جلّ وعلا : ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) البقرة ) إذن هو طواف وليس سعياً. وقد ذكر القرآن أنه تطوع يثيب الله جلّ وعلا فاعله ، وبالتالي فليس فرضا واجبا يأثم تاركه . 

2 ـ ولكن الاختلاف ما لبث أن لحق بذلك الأمروتشعّب مع وضوحه. وقد ذكر ابن كثير بعض هذه الخلافات فى حديث صفية بنت شيبة أن إمرأة أخبرتها أنها سمعت النبي يقول : "كتب عليكم السعي فاسعوا ". فهل يقول النبى عليه السلام حكما يخالف قوله جلّ وعلا : ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ )؟.

ولكن هذا الحديث الباطل قد استدل به من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج . ويقول إبن كثيرعمّن جعل السعى بين الصفا والمروة ركنا من أركان الحج ومن إختلف معهم : ( كما هو مذهب الشافعي ومن وافقه ،ورواية عن أحمد ،وهو المشهور عن مالك . وقيل انه واجب وليس بركن فإن تركه عمداً أو سهواً جبره بدم وهو رواية عن أحمد وبه يقول طائفة ، وقيل بل هو مستحب وإليه ذهب ابوحنيفة والثوري والشعبي وابن سيرين وروي عن أنس وابن عمر وابن عباس،وحُكي عن مالك .).( تفسير ابن كثير 1/199) .

3 ـ وقد إختلفوا فى عدد مرات الطواف أو السعى بين الصفا والمروة ، فأوجب الشافعي أن يكون الطواف بين الصفا والمروة سبعاً وقال : ( فلو صدر ولم يكمله سبعا فإن ترك من السابع ذراعاً كان كهيئة لو لم يطف ورجع حتى يبتدئ طوافاً. ) . ( الأم 2/178 ) هذا مع ان مسلم يروي عن جابر: ( ولم يطف النبي ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً.). ( مسلم 4 / 70 ).

4 ـ والمفهوم من قوله سبحانه وتعالى : ( فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) أنه أستعمل الفعل مضعفا " يَطَّوَّفَ " ليدل على الزيادة ولم يقل ( يطوف ) بدون تضعيف ، ويلفت النظر ان القرآن العزيز استعمل نفس اللفظ في الطواف في البيت فقال (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) الحج ).إذن هو سبعة أشواط كالطواف بالبيت. مع كونه تطوعاً وليس ركناً يسقط الحج بتركه .

تاسعا : أختلافات في مناسك المرأة في الحج  

1 ـ ليس فى القرآن الكريم أحكام خاصة بالمرأة فيما يخصّ الحج . فالحج هو على المستطيع رجلا كان أم إمرأة . وكل مناسك الحج والأوامر الخاصة به تأتى للجميع رجالا ونساءا. ولا يمنع الحيض المرأة من الطواف وبقية المناسك . ولكن الذكور أئمة وصنّاع الدين السّنى المصنوع جعلوا التشريع السّنى يخالف ذلك لأنه يزدرى المرأة ويجعلها ناقصة عقل ودين. وهذا أيضا لم ينج من الخلافات بينهم ، وهم كالعادة تبارزوا بالأحاديث ـ كل منهم يصيغ وجهة نظره فى صيغة حديث ، فيردّ عليه الآخر بحديث ، وهى  أحاديث متعارضة لم يسمع بها الصحابة الذين إنشغل معظمهم بالفتوحات والفتنة الكبرى ، والسياحة فى البلاد المفتوحة والتزوج من بناتها والتسرى بالسبايا ، وجمع الأموال والضياع .

2 ـ صنع أئمة الدين السّنى أحاديث تفيد بإن المرأة تشارك في مناسك الحج من طواف وسعي . منها   حديث السيدة عائشة ( خرجنا مع رسول الله عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً ، قالت : فقدمت مكة وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة فشكوت ذلك لرسول الله فقال أنفقي رأسك وامتشطي واهلي بالحج ودعي العمرة ، قالت ففعلت فلما قضينا الحج  ارسلني رسول الله مع عبدالرحمن ابن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت .).وهناك رواية أخرى تزعم أنها  ( قالت خرجنا مع النبي (ص ) ولا نرى إلا الحج حتى إذا كنا بسرف أو قريباً منها  حضت ،  فدخل علي النبي وأنا ابكي فقال : أنفست ؟ ( يعني الحيضة ) قلت نعم قال إن هذا شيئ كتبه الله على بنات آدم فأقضي ما يقضى غير ان لا تطوفي بالبت حتى تغتسلي . ) وفي رواية جابر في نفس الحديث تقول : ( وكان رسول الله (ص) رجلاً سهلاً إذا هويت الشيئ تابعها عليه فأرسلها مع عبدالرحمن ابن أبي بكر فأهلت بعمرة من التنعيم . .. فكانت عائشة ‘ذا حجت صنعت كما صنعت مع نبي الله ..) ( مسلم 4/27، 30، 35:36) . أى رأى فريق من صانعى الدين السّنى منع الحائض من الطواف فقط  مع تأديتها بقية المناسك .

 إلا أن الشافعي يتطرف فيحكم بمنع المرأة من السعى والطواف جميعا ، ويزعم أن هذا قول ابن عمر :( وليس على النساء سعي بالبيت ولا بين الصفا والمروة )، ويقول : ( وسئل عطاء " أتسعى النساء ؟" فأنكره نكرة شديدة " وروى مجاهد : رأت عائشة النساء يسعين بالبيت فقالت أما لكن فينا أسوة ؟ فما عليكن سعي .). ( الأم 2/ 150 ) .

ويزداد التناقض برواية البخاري أن الخليفة الأموى هشام ابن عبد الملك منع النساء فى عهده من الطواف مع الرجال فاعترض عليه عطاء :( .. فقال عطاء : كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي مع الرجال ؟ )(البخارى 2/187). فهنا تناقض عجيب فى الأقاويل المنسوبة لعطاء. وهو من فقهاء التابعين فى العصر الأموى . نراه هنا  يعترض على منع النساء من الطواف مع الرجال ، أى يؤيد حقهنّ فى الطواف والسعى ، ثم نرى عطاء نفسه في رواية الشافعي يحتج على أن تسعى النساء مطلقاً وحدهن او مع الرجال ، ثم حديث آخر تحتج فيه عائشة على النساء سعيهن بالبيت ، وحديث سابق عن أداء عائشة للمناسك مع النبي والمؤمنين في حجة الوداع . نحن هنا أمام آراء متعارضة لبشر مختلفين فيما بينهم ، ولكن هؤلاء البشر هم صنّاع الدين السنّى الأرضى ، وهذا يؤكّد أنها شريعة بشرية ليست عالية الجودة ن بل متناقضة ومتخلّفة . ثم يأتى الوهابيون الأفّاقون فى عصرنا يزعمون بأن تلك الشريعة السّنية البشرية هى شريعة الله .!!

3 ـ ومن أسباب ذلك التناقض هو ذلك الانحلال الخلقى الذى كان يحدث في العصرالأموي وإستمر بعده ، ووصل الى الطواف حول البيت وقت إختلاط الرجال بالنساء مما ادى إلى ذلك التحذير الموجه للنساء ، وذلك أستدعى من الشافعي أن يقول : ( لا رمل على النساء ولا سعي بين الصفا والمروة ولا اضطباع .. وذلك انهن مأمورات بالأستتار ، والأضطباع والرمل مفارقان للأستتار.). ( الأم 150 ) .

4 ــ وقلنا إنه حين أنتقلت أضواء السياسة إلى دمشق عمد الأمويون إلى اغراق مكة والمدينة بالترف والجوارى والغناء والمجون والشعر الاباحى لينشغل أحفاد الصحابة عن مناوئتهم سياسيا، وبذلك برز بين صفحات الأدب أعلام من شعراء الماجنين والمعجبون بهم أمثال ابن عتيق ـ حفيد أبي بكر الصديق ، والعرجي ـ حفيد عثمان ، وسكينة بنت الحسين .. وقد عاشوا عصر الشاعر عمر بن أبي ربيعة الذي أشتهر في مكة وغيرها بمجونه وتعرضه للنساء في الطواف وفي الحرم ، ويقول الأصفهاني عنه " كان عمر بن أبي ربيعة يقدم فيعتمر في ذي القعدة ، ويحل ويلبس تلك الحلل والوشي .. ويلقى العراقيات فيما بينه وبين ذات عرق محرمات، ويتلقى المدينيات إلى مر ، ويتلقى الشاميات إلى الكديد .. " أى كان يتلقى النساء القادمات للحج ، ويطاردهن ويلاحقهنّ ويقول فى الحسناوات منهن شعرا. والمشهورات منهن كنّ يحرصن على الخلوة به فى مكة وقت الاحرام ، وكنّ لا يتورعن عن مغازلته وقت الطواف . والعجيب إن مجون عمر بن ربيعة لم يستجلب الانكار عليه ، بل على العكس كان إبن عباس من المعجبين بشعره ، ويحرص على أن يسمعه منه ، ويقول المؤرخ القرشى  الزبير بن بكار " أدركت مشيخة من قريش لا يزنون بعمر بن ربيعة شاعراً من أهل دهره في النسيب.( أى الغزل ).( الأغانى للأصفهانى : ط . دار الكتب 1/103 / 118 ، 221 وعن تعرضه للنساء فى الحرم وفى الطواف : 1/159 ، 160 ، 166-167 ، 169 ، 172 ، 176 ، 190 ، 199 ، 207 ، 247 ). . على أن عمر بن ربيعة لم يكن بدعا فى ملاحقة النساء فى الطواف بالكعبة ، فقد شاع هذا وذاع حتى لقد قال شاعر فى العصر الأموى :

ياحبذا الموسم من موقف   وحبذا الكعبة من مسجد

وحبذا اللاتى تزاحمننا      عند استلام الحجر الأسود

فقال خالد القسرى والى مكة فى العصر الأموى : أما إنهن لا يزاحمنك بعدها أبدا . ثم أمر بالتفريق بين الرجال والنساء فى الطواف . ( مروج الذهب للمسعودى: ج 2 ص 136 )

 وفى المقابل تطرّف زهاد مكة والمدينة والعراق فى الحظر والتحريم ، وعكسته فتاويهم بالحظر على النساء من الطواف والسعي خشية من اولئك المنحلّين خلقيا . والطريف أنّ الشافعي بعد أن قال أنه ليس على النساء سعي بين الصفا والمروة إستدرك على نفسه كعادته ، وقرّر ما ( يحبّه) ويهواه ، فعاد يقول : ( وأحبُ للمشهورة بالجمال أن تطوف وتسعى ليلاً ، وأن طافت بالنهار سدلت ثوبها على وجهها ، أو طافت في ستر ). ( الأم 178 ). ونتساءل :كيف يمكن تحديد المشهورة بالجمال ؟ هل نقيم حفلا لاختيار ملكات الجمال فى الحرم ومستويات الجمال للنساء لتحديد من تطوف نهارا أو ليلا ؟ والفائزات منهن عليها تطبيق ما ( يحبّه الشافعى )؟،ثمّ  إذا كان هذا هو الذى يحبّه الشافعى ، فهل ما يحبّه الشافعى وما يهواه بمزاجه الشخصى يكون لنا تشريعا ويصبح لنا .. دينا ؟ .  

5 ـ واقع الأمر إنّ المرأة فى الفقه السّنى ضحية .!. ثم جاء الوهابيون فأصبحوا هم الضحية للمرأة .. المرأة هى وسواسهم القهرى ، هى لهم الولع والجزع والهاجس والوجع ، هى لهم الجمر الذى عليه يجلسون والعذاب الذى به يحلمون .. ونخشى من فرط جنونهم بالمرأة أن يصدروا فتوى بإلغاء المرأة.!

فهل نصحو يوما لنجد العالم بلا مرأة ؟!!

يانهار إسود .!!  

كتاب الحج بين الاسلام والمسلمين
يوضح كيفية الحج فى الاسلام وكيف زيفت قريش والمحمديون شعيرة الحج للبيت الحرام ، ويقع الكتاب فى ثلاثة أبواب تتضمن 34 فصلا .
more