رقم ( 2 )
استهلال

 

 

استهلال

يقول تعالى للبشر جميعا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ : الحجرات 13 ) أى انه خلقهم جميعا من أب واحد وأم واحدة ، أى هم أخوة ينتمون لنفس الأب والأم ، وقد جعلهم أجناسا مختلفة وشعوبا مختلفة لا ليتنازعوا ويتقاتلوا ولكن ليتعارفوا ، والتعارف لا يكون الا بالعلاقات السلمية والتلاقى الحضارى وقبول الآخر والاستفادة من تجربته الانسانية وتراثه الحضارى ، والانفتاح على ثقافته والتسامح فى الاختلاف معه ايمانا بأن التنوع مطلوب لازدهار الحضارة العالمية الانسانية، اما من ناحية التدين فان أكرم الناس عند الله تعالى هو الأكثر تقوى ، وليس الاكثر ثروة او جاها او ذكاءا أو علما او حسبا ونسبا اوجمالا أو صحة او شبابا. وهذه التقوى سيكون مرجع الحكم عليها لله تعالى وحده يوم القيامة ، ومن يزعم تزكية نفسه الآن فقد عصى الله تعالى الذى قال (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) النجم 32 )اذن ليس فى الاسلام المقولة الوهابية التراثية التى تقسم العالم الى معسكرين ، وتحتم الجهاد ضد المعسكر الآخر باعتباره ( دار حرب ) فى مقابل ( دار الاسلام )  ، فماذا عن الآخر فى الاسلام فى ضوء ما ذكره القرآن الكريم عن الكفار والمشركين وقتالهم والجهاد ضدهم ؟

الآخر فى الاسلام هو كل معتد ظالم  ، و كل ارهابى يقتل الأبرياء والمسالمين

 هنا نؤكد ما سبق قوله من أن معنى الاسلام فى السلوك هو السلام فى الأرض وهو فى العقيدة الاستسلام والانقياد لله تعالى وحده. المسلم فى العقيدة هو من يسلم لله تعالى وجهه وقلبه وجوارحه ، وذلك هو معنى الاسلام العقيدى القلبى الذى يرجع الحكم فيه لله تعالى وحده يوم القيامة ، و ليس لمخلوق أن يحكم فيه والا كان مدعيا للالوهية متقمصا لدور الله تعالى رب العزة ومالك يوم الدين.المسلم فى السلوك هو كل انسان مسالم لا يعتدى على أحد ولا يسفك دماء الناس ظلما وعدوانا. وهذا هو المجال الذى نستطيع أن نحكم عليه ، فكل  انسان مسالم مأمون الجانب هو مسلم بغض النظر عن عقيدته واتجاهه ومذهبه وفكره ودينه الرسمى.

تشريعات الجهاد فى الاسلام هى لرد العدوان فقط ، والاستعداد للقتال هو لارهاب العدو المعتدى وتخويفه وردعه مقدما حتى لا يقوم بالاعتداء،  أى هى لحقن دماء العدو والدولة المسالمة أيضا ، حتى لا يغتر الخصم الراغب فى الاعتداء على العدوان متشجعا بضعف الدولة المسالمة. ومن هنا فان مصطلح الارهاب فى القرآن الكريم الوارد فى قوله تعالى (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ) الأنفال 60 ) يختلف عن  مفهوم الارهاب فى عصرنا الذى يعنى الاعتداء وقتل المدنيين والمسالمين. وقد تكررت بحوث لنا فى هذا الموضوع تثبت ان الاسلام هو دين السلام ، وأن العرب هم الذين انتهكوا تعاليمه السلمية قديما وحديثا. وهم بذلك ينطبق عليهم بسلوكهم مصطلح الكفر والشرك بالمفهوم القرآنى الاسلامى.

 الشرك والكفر بمعنى واحد فى مصطلحات القرآن ، وهما معا لهما معنيان حسب العقيدة والسلوك ، وكلا المعنيين يناقضان معنى الاسلام فى العقيدة والسلوك. 

الكفر ـ أو الشرك ـ فى العقيدةيعنى اتخاذ آلهة أو أولياء مع الله . والتدين العملى للبشر ـ خصوصا المسلمين ـ ممتلىء بتقديس البشر والحجر ، مع اعلانهم أنه لا اله الا الله. ولكن بغض النظر فان كل فريق يعتقد أنه على الحق ويتهم الآخرين بأنهم على الباطل. لذا فمرجع الحكم بين الناس فيما هم فيه مختلفون انما يكون لله تعالى يوم القيامة ، فهو جل وعلا القاضى الأعظم ، وقد اختلف الناس فى ذاته وصفاته ونسبوا له كذا وكذا ، لذا فهو الذى سيحكم فى هذا الأمر ، وليس لأحد أن يتدخل فى هذا الدور الالهى المؤجل الى يوم الدين الا فى معرض النصح والارشاد والعظة طلبا للهداية.

الشرك ـ والكفر ـ بمعناه السلوكىهو الاعتداء والظلم والبغى والطغيان والاجرام ، وهذه كلها مفردات الشرك والكفروالمشركين والكافرين فى القرآن الكريم . هذا الشرك السلوكى نستطيع أن نحكم عليه بسهوله طبقا للأعمال الاجرامية التى يقوم بها المجرم . نحن هنا لا نحكم على قلبه أو على ما يدعيه من عقائد ، وانما نحكم على أفعاله الاجرامية ، على سفكه للدماء وانتهاكه للحرمات ، وافساده فى الأرض ، نحكم على سرقته ونهبه وهتكه للأعراض،وتعذيبه للابرياء. ودائما ما يكون الأبرياء ضحايا لهذا الكافر المشرك بالسلوك .

مشكلتنا ـ كمسلمين ـ أننا نحكم بالعكس تماما. من ينطق بشهادة الاسلام نجعله مسلما مهما ارتكب من جرائم . وقد يكون هناك زعماء مصلحون مسالمون يعملون الصالحات النافعات ينتمون للمسيحيين أو الاسرائيليين أو البوذيين أو العلمانيين ، اولئك هم مسلمون حسب معنى الاسلام السلوكى الذى يعنى السلم ، ولكننا نعتبرهم مشركين كافرين ونحكم على عقائدهم متناسين أن الأولى ان نصلح عقائدنا نحن وهى مليئة بتقديس الأضرحة والأئمة بأكثر مما يفعله غير المسلمين. طبقا للسلوك وحده فكل دعاة السلام فى الأمم المتحدة وخارجها هم أعظم المسلمين وان لم ينطقوا بشهادة الاسلام . غاندى ومارتن لوثر كنج و مانديلا وكل دعاة حقوق الانسان من الغربيين هم المسلمون الحقيقيون فى مجال السلوك.

وطبقا للسلوك وحده فان مجرمى الحرب هم أشد الناس كفرا وظلما وعدوانا ، ليسوا فقط هتلر وموسولينى و ستالين بل يضاف اليهم الخلفاء غير الراشدين الذين اعتدوا وغزوا و استعبدوا الشعوب الأخرى واحتلوا أراضيهم ، ثم من سار على نهجهم مثل آل سعود وطالبان وصدام حسين وابن لادن والظواهرى وبقية سفاكى الدماء الذين حولوا العراق والجزائرالى سلخانة .

ليس فى الاسلام تقسيم العالم الى معسكرين ، وليس من الاسلام الاعتداء على الآخرين واحتلال أراضيهم مثلما فعلت قريش فى دولة الخلفاء الراشدين ودول الخلفاء غير الراشدين . قريش كانت المقصودة بوصف الكفر والشرك حين نزل القرآن ، فقد مارست الكفر والشرك العقيدى بعبادة الأولياء والأوثان على أنها تقربهم الى الله تعالى زلفا. ومارست قريش الكفر السلوكى والشرك السلوكى بمعنى الاعتداء واضطهاد المسلمين المستضعفين واكراههم فى الدين مما اضطرهم الى الهجرة الى الحبشة مرتين ، ثم هاجروا أخيرا الى المدينة. قريش لم تتركهم فى حالهم فتابعتهم بالغزو والقتل والقتال فى وقت صبر المسلمون كعادتهم لأنهم كانوا ممنوعين من رد العدوان. ثم جاءهم الاذن بالقتال فتغير الموقف تدريجيا الى أن صار لصالح المسلمين حربيا ودينيا ، وأصبحت قريش منعزلة فى وقت انتشر فيه الاسلام وأدركت فيه جماهيرالعرب سخافة عبادة الأوثان والقبور، رأت قريش فى النهاية أن مصلحتها تحتم عليها الدخول فى الاسلام فدخلت فيه متأخرا بعد تاريخ طويل من عداء الاسلام. أسلمت قريش قبيل موت النبى ، وبعد موته استعادت سيطرتها على دولة النبى بعد موت النبى ، منتهزة فرصة حرب الردة ، فحوّلت الانتصارعلى  المرتدين الى استمرار فى الغزو فاعتدوا على الروم ومستعمراتهم فى الشام ، وقضوا على الدولة الفارسية ، وبدأ ما يعرف بالفتوحات الاسلامية التى تناقض الاسلام، والتى بسببها اقتتل الصحابة ، ونتج عن الخلاف السياسى اختلاف فى التدين ، وانقسام المسلمين الى أحزاب كل حزب بما لديهم فرحون ، ونسوا تحذير رب العزة من الانقسام الدينى وكونه دليلا على الوقوع فى الشرك العقيدى والشرك السلوكى أيضا (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) (الأنعام 153 ، 159 ) (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)  الروم31 ـ 32  )

 لتبرير الاعتداء ولتسويغه باسم الاسلام افتروا حديثا نسبوه للنبى محمد يقول ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله ..) وجعلوا هذا الاعتداء على الغير جهادا . وباعتداء المسلمين على دولة الروم بدأت الحرب بين الامبراطوريتين ، ولكل منهما دين مختلف فى الظاهر ، وان كان نفس التدين فى الواقع ؛ التدين القائم على التسلط والظلم والاعتداء والاكراه فى الدين واستخدام الدين فى ظلم الناس ونشر الفساد فى الأرض. كان هذا هو منطق التدين فى العصور الوسطى ، وبه تم سفك دماء الملايين من الفريقين ، وكل منهم يحسب أنه يحسن صنعا ، وكل منهم يتهم المعسكر الآخر بالكفر ويرى نفسه محتكرا للحق.

ثم صحت أوربا وتخلصت من سيطرة الكنيسة والكهنوت والاكليروس ، وبدأت طريق الاصلاح العلمانى العقلى والاكتشاف العلمى . ثم حاولت مصر أن تنهج نفس الطريق مع بداية القرن التاسع عشر، وحققت خطوات لولا أن عادت خرافات وأساطير وتشريعات العصور الوسطى تحملها الوهابية ودولتها السعودية التى تمثل أردأ فكر أنتجه المسلمون فى القرون الوسطى. وبفضل البترول تم نشر هذا الفكر السلفى المناقض للاسلام تحت اسم الاسلام فى أكبر خديعة تعرض لها المسلمون طوال تاريخهم. وفى اطار هذه الخديعة الكبرى جرى استدعاء كل مظاهر التعصب الدينى واستئصال المخالف فى المذهب وفى الدين وفقا لحد الردة او الجهاد ضد دار الحرب أى الغرب.

وهذه الورقة البحثية تؤصل عقيدة الارهاب لدى الوهابية ، منذ نشأتها فى منطقة نجد وتوسعها باسم الاسلام .

والله تعالى المستعان

أحمد صبحى منصور