رقم ( 5 ) : كتاب : أثر التصوف السياسى فى الدولة المملوكية
الفصل الثاني : استفادة الصوفية سياسياً

كتاب : أثر التصوف السياسى فى الدولة المملوكية

الفصل الثاني : استفادة الصوفية سياسياً

مقدمة

1 ـ أسهم الصوفية في السياسة المملوكية إلى درجة يمكن معها اعتبارهم جزءاً من النظام المملوكي ..والمشاركة السياسية فى النظام المستبد تعني أن ينال كل شريك حظه في الاستفادة على حساب المحكوم. ومن الطبيعي أن ينال المماليك نصيب الأسد من الاستفادة ويتركوا الباقي لأعوانهم الصوفية شأن أتباع المستبد القانعين بالفتات،  ولكنها استفادة ـ على كل حال ـ يكفي في بيانها أنها سمحت للصوفية بالوصول للمناصب على حساب أعدائهم من الفقهاء السنيين ، ثم استخدموا نفوذهم في حرب خصومهم من الفقهاء السنيين والأقباط مع تأكيد ذلك النفوذ على الساحة الشعبية عن طريق الشفاعات لدى أولى الأمر من المماليك..

مقالات متعلقة :

2 ــ  الأهم ، إن الصوفية نعموا بالأمن والغُنم في أحضان السلطة الحاكمة الظالمة وعلى حساب الشعب ومعاناته، وتمتعوا ـ مع ذلك ـ بتقديس الرعية وحبها، بينما افتقد المماليك ذلك الإحساس الشعبي. ولا أدل على ذلك من أنه إذا كانت الدولة المملوكية قد انتقلت إلى متحف التاريخ ومجلداته فإن دولة الصوفية المملوكية لا تزال حية في نفوس الشعب حتى أن القارئ لهذا الكتاب وما سبقه يُصدم بما ورد فيه من حقائق تناقض ما ترسب في الضمير المصري بتتابع القرون من تقديس الصوفية والإشادة بهم . هذا في الوقت الذي يرتبط فيه ذكر المماليك بالاستبداد والعسف..

3 ـ هذا ، وسنعرض في هذا الفصل إلى النواحي التي أفادت الصوفية سياسياً مع ذكر الناحية الأخرى من الاستفادة وهي بناء المماليك لحلفائهم الصوفية الخوانق والربط والزوايا.. الخ .

التصوف طريق للوصول للمناصب والنفوذ والمشاركة في السياسة المملوكية ـ

1 ــ بانتشار التصوف وعلو نفوذه في العصر المملوكي ازداد عدد الداخلين فيه وقد أطمعهم في اتخاذه طريقاً للوصول للنفوذ والمناصب السياسية .وأعانهم في طريق الوصول اعتقاد العصر ـ حكاماً ومحكومين ـ في معرفة الصوفية للغيب أو (الكشف) ــــ كإحدى لوازم التصوف ـــ فصارت مزية للصوفي في عصر تميز بالاضطراب السياسي وافتقر فيه الحكام والمحكومون للأمن والخوف مما يخبئه الغد ، فشغفوا باستكشاف المستقبل المجهول ومعرفته ، وبالتالى أصبح الكشف الصوفي عنصرا أساسيا في الفتن المملوكية سنعرض له في حينه ووصل به دعاته للنفوذ ،وبه انتهوا أيضا ..

2 ــ والمهم أن الصوفية الواصلين لم يختلفوا عن سادتهم المماليك في الفساد والإفساد بل ربما فاقوهم سوءا ، بادعاء ما ليس في طاقة البشر ألا وهو علم الغيب . أو ادعاء ما ليس في طاقتهم ـ وهو الصلاح والتقوى .

على أن بعضهم لم يقنع بالوصول إلى أعلى المناصب المدنية والدينية في الدولة المملوكية العسكرية ولكنهم انغمسوا في السياسية المملوكية نفسها مع السلاطين والأمراء وما تعنيه تلك السياسة من فتن ومؤامرات ودماء فأصبحت مؤسساتهم الصوفية ملتزمة بتقديم نصيبها من المكسب والخسارة ، كمسرح للمؤامرات والثورات..

3 ــ وسنعرض لذلك بالتفصيل .

  استغلال التصوف طريقاً للوصول للمناصب والنفوذ السياسي.

1ـ غنى عن البيان أن "القضاء" من اختصاص الفقهاء السنيين، إلا أن الصوفية ـــ  برغم جهلهم ــ زاحموا الفقهاء فيه واحتكروه حتى صار القضاء سيفاً مسلطاً على خصوم  الصوفية من الفقهاءن ولا أدل على ذلك من موقف القضاة الأربعة من ابن تيمية (الفقيه) والبقاعي (الفقيه) ..

   وصار التصوف طريقاً مضموناً للفوز بمنصب قاضي القضاة ، ومن أبرز من سلك هذا الطريق ابن ميلق الشاذلي ، الذي تزيا بزى الفقراء وأظهر الصلاح ووعظ وعمل المواعيد فتبرك به الناس وصار له مريدون فألبسه الظاهر برقوق تشريف القضاء بيده وأخذ طيلسانه تبركاً به . ومن المضحك أن الناس (خافوا ولايته ظناً منهم أنه سيحملهم على محض الحق وطريق السلف إلا أنه ما لبس أن عزل جميع قضاة مصر من العريش إلى أسوان ،وأعاد بعضهم بالواسطة بعد يومين ثم خلع زى الفقراء ولبس الغالي الثمين وترفع في مقاله وشح في العطاء ولاذ به جماعة غير محببين من الناس[1].

   وبشَر شهاب الدين الأرموي الأمير برسباي بالسطنة ـ وكان في السجن ـ فلما تولى السلطنة اعتقد ولايته وولاه القضاء (ولم يسمع فيه كلاماً لأحد مع شهرته بسوء السيرة ومزيد الجهل والتجاهر بالرشوة حتى حصل من ذلك مالاً جزيلاً )[2]، وسنعرض لأصحاب الكشف فيما بعد، والمهم أن لوازم التصوف فتحت الطريق لمنصب القضاء أمام الصوفية، ولم يتعفف عنه كبار الصوفية مع ما تمتعوا به من جهل فى الفقه ، إلا أن عملهم بالقضاء كان يظهرهم على حقيقتهم كما سبق القول في ابن ميلق والأرموي..

وقد تولى ( شيخ الاسلام ).!! " زكريا الأنصاري"" القضاء (فكانت ولايته) على حد قول السخاوى(على المستحقين نقمة وجهالته في تصرفاته على المستحقين المسلمين غمة ، بحيث أعادت محبة الناس فيه عداوة ، وزادت الرغبة إلى الله بزواله عقب الصلاة والتلاوة )[3]، وزكريا الأنصاري يعترف بنفسه للشعراني يقول (توليتي للقضاء جعلتنى وراء الناس مع أني كنت مستوراً أيام السلطان قايتباي )[4]، والمشهور عن زكريا الأنصاري أنه من الفقهاء وأنه (شيخ الإسلام) ولكنه صوفي اتحادي كتب في تعظيم ابن عربي حتى عذله السخاوي مرة بعد أخرى (فما كفّ بل تزايد)[5] ، فهو يمثل قمة السيطرة الصوفية على الفقهاء، يقول فيه الشعراني (.. وقال لي مرة من صغري وأنا أحب طريق القوم ـ الصوفية ـ وكان أكثر اشتغالي بمطالعة كتبهم والنظر في أحوالهم حتى كان الناس يقولون هذا لا يجئ منه شئ في علم الشرع) وأراد أن يظهر تصوفه (فأشار عليه بعض الأولياء بالتستر بالفقه)[6]، ولمكانته بين الصوفية والفقهاء ولى القضاء فانكشف أمره وكان (مستوراً) ..

2- ويبدو أن انتحال التصوف طلباً لمنصب قد صار طريقاً مشهوراً نلمح ذلك من نبرة المؤرخين ـ خاصة الفقهاء المسالمين للصوفية كإبن حجر الذى يقول :  ( وأظهر عبد العزيز بن جماعة التقشف الزائد لأصحاب السلطان فتولى القضاء)[7] وقيل عن القاضي السباطي ( أنه كان يظهر للناس نسكاً على وظيفة وعد بها)[8] ولولا هذا الوعد بالمنصب لما كان النسك والتصوف .

وفي تاريخ حياة القاضي ابن خالد البساطى ارتباط بين لوازم التصوف وتدرجه في المناصب، فقد تصوف حتى ناب في القضاء ، ثم تقشف وبذل طعامه للواردين وكثر مريدوه وادعى الاجتماع بالخضر وسعى لتولي القضاء فرقي إلى منصب قاضى القضاة سنة 778[9].

3ـ وبازدهار التصوف قدم لمصر كثير من الصوفية الأعاجم ومن شمال أفريقيا فتولوا بالتصوف منصب (قاضي القضاة) كالهروي الذي ( تزيا بزي الفقراء وتنقل في قضاء القضاة ومناصب أخرى)[10] وقيل في قاضي القضاة القصيري أنه قدم من الروم على هيئة الفقراء وخدم بالمدرسة الضرغتمشية حتى اشتهر بالتصوف فصار قاضياً للقضاة[11] ..

4 ـ وتنافس القادمون مع الآخرين للحصول على المناصب واستخدموا أسلحتهم (الصوفية) من منامات ادعوا كذبا رؤيتها تؤيد وجهة نظرهم ، وانقلب السحر على الساحر ، مثل (كائنة سرور المغربي) القادم من تونس إلى الإسكندرية ثم إلى القاهرة وتبع الرؤساء ثم ادعى كذبا أن الرسول عليه السلام ـ في رؤيا منامية ـ فقأ عين كاتب السر وقال له : أفسدت شريعتى وآتت هذه الدعوة أكلها في عصر يعتقد في المنامات فكان أن عزل كاتب السر, فافتخر سرور بمسعاه ونقل أعداؤه ذلك للسلطان فنفاه وأعيد إلى تونس[12].

5ـ ونالوا مناصب سياسية أخرى . فالهروى تقلب في وظائف غير قضاء القضاة وكان يغير زيه مع كل منصب جديد[13] وساعدهم في ذلك المنصب الأول ـ القضاء ـ وتوثيق صلتهم بالحكام .. فوصلوا إلى مناصب خطيرة مثل كتابة السر والأستادارية[14] والحسبة ). أو ربما يقنع أحدهم بالقرب من ذوي السلطة متمتعا بنفوذه بلا منصب رسمي . فمن الذين تولوا منصب الأستادارية كان ابن أصغر وقد بدأ فقيراً صوفياً ثم خدم بعض الأمراء إلى أن وصل الأستادارية للظاهر برقوق[15] .. وأكثر ابن المغيربي من معاشرة المماليك (فراج أمرهم عندهم لاسيما مع انتسابه للفقراء) إلا أنه كان مدعياً فوصف بأنه( كثرت فيه الشكوى إذ كان يأكل الدنيا بالدين)[16] ..

6ـ وبرز القادمون من الصوفية في هذا المجال أيضا  فالصوفي نصر الله العجمي ( قدم مصر على هيئة المتجردين ومعه جماعة من المريدين، واختلط بالأمراء فاعتقدوه اعتقادا عظيماً، واستحوذ على كثير من الأموال منهم وعرضت عليه كتابة السر فأبى مكتفياً بإنعام السلطان والأمراء عليه)[17].  وكان نصر الله العجمي بعيد النظر إذ ابتعد بنفسه عن مسرح الفتن متمتعا مع ذلك بالشهرة والنعيم والنفوذ أما نظام الدين العجمي الصوفي فقد اتصل بالمؤيد شيخ فولاه ناظرا للأوقاف (وساءت سيرته واشتهر بأخذ الأموال)[18].

 وقدم يار على العجمي مصر في سلطنة برسباي ماشيا لا يملك القوت اليومي ولأن مصر كانت جنة الصوفية الأعاجم خاصة فقد لاقى يار علي كثيرا من الترحيب فأنزله الأمير سودون عنده وبنى له جامعا. ووثق صلته بالأتابك جقمق ـ قبل أن يتسلطن ـ فلما تسلطن جقمق جعله من اخصائه فولاه الحسبة وعظم شأنه وأثرى مع محافظته على زى الفقراء[19].

7ـ وتدخل بعضهم مستغلا نفوذه في تعيين اخصائه في المناصب الهامة أو توصيلهم للسلطان كما فعل يار على العجمي سالف الذكر مع الشريف أسد الكيماوي. وكان أسد هذا  يدعي علم الكيمياء ـ وتعني تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب ـ فمهد له يار على عند السلطان جقمق فوثق به السلطان وصار أسد الكيماوي يتحكم في السلطان وحاشيته حتى أن السلطان أمر أعيان المباشرين بالتردد على الكيماوي وكلما دخلوا عليه لم يلتفت إليهم ( بل كلمهم على لسان ترجمانه بتعاظم زائد..)[20]. ونصر المنبجي الصوفي الشهير في سلطنة بيبرس الجاشنكير توسط في تعيين أحد اخصائه سفيراً للدولة وهو التاج ابن سعيد الدولة[21] ..

8ـ وغنى عن الذكر وجوب أن يكون منصب شيخ الخانقاه أو المدرسة وظيفة مهنية يقوم بها المتخصصون إلا أنها تحولت على يد أولئك الوصوليين إلى مجرد منصب كبير يتساوى مع الوظائف الأخرى في إمكانية تعيين الآخرين فيه وانتقالهم إليه أو جمعهم بينه وبين الوظائف الأخرى، مثل ابن الأشقر ت 863 الذي كان شيخا للشيوخ بخانقاه سرياقوس ثم تولى نظارة الجيوش ثم كتابة السر[22]. وشرف الدين الأشقر ت 791 الذي قرره الظاهر برقوق إماماً عنده فتقدم في دولته فولاه قضاء العسكر ومشيخة الخانقاه البيبرسية ,ومع أنه لم ترو في ترجمته أي علاقة بالتصوف[23]..

9ـ وادعى بعهضم معرفة الغيب أو (الكشف) وهو ما ساد الاعتقاد في جدواه في العصر المملوكي، فاستغل بعضهم الظروف السياسية السائدة في العصر المملوكي حيث الطموح لدى كل أمير مملوكي والخوف من مؤامرات الأعداء لدى كل سلطان ، وفي هذا الجو المضطرب بالفتن كان بعض الطموحين من الأمراء ينتظر تبشير أحد المدعين للكشف ـ أو معرفة الغيب ـ له بالسلطة لكي يشحذ همته للوصول للسلطة ، وعندما ينجح ذلك الأمير في الوصول للحكم يعتقد في ولاية شيخه الذي تنبأ له ويقربه منه ويسمع له ويطيع .. أما إذا فشل فسيكون القتل أو الابتعاد عن المسرح نصيبه فيختفي وتختفي معه نبؤة الصوفي بالسلطة ، وهكذا ،  أفلحت تلك اللعبة وبها وصل كثيرون من أدعياء الكشف في العصر المملوكي وأشهرهم في هذا المجال الشيخ خضر العدوي الذي بشر الأمير بيبرس بتولية السلطة فاعتقده وقربه وزاد نفوذه في عهده[24]..

   وعن هذا الطريق توصل قطب الدين الهرماس للسلطان حسن وعلا شأنه معه حتى صار يدخل عليه بلا إذن[25] , واشتهر القاضي شهاب الدين الأرموي المالكي بسوء سيرته وجهله إلا أن السلطان برسباي لم يسمع فيه أحداً لأنه كان يعتقد ولايته حيث بشره بالسلطنة وكان وقتها في السجن[26], مع أن ما قام به شهاب الدين قام به آخر من المماليك كان رفيقا لبرسباي في نفس السجن وهو تغرى بردى المحمودى الذي رأى مناماً يدل على سلطنة برسباى فبشره به وعاهده برسباي أن يقدمه إذا تسلطن [27]. (وبشر أحدهم قايتباي بالسلطنة قبل أن يليها بزمن)[28] .

10ـ واحتفى الأمراء الطموحون (للسلطنة) بأولئك الصوفية من أدعياء علم الغيب " الكشف "، على أمل أن يتحقق لهم حلم السلطنة فكان للشيخ كمال الدين النويري ( قبول زائد عند الأمراء سيما جانم الأشرفي قريب برسباي فإنه كان عنده في أوج العظمة والكمال ويرجع إليه ويصغي لقوله... وكان بشره بأن يصير إليه الأمر أي يتسلطن ..)[29]، أي أن ذلك الأمير طمع في السلطنة بعد برسباي لتقدمه في دولته وقرابته منه وعُرف ذلك عنه، فبشره النويري بالسلطنة. ومع ذلك فلم يكن له في الملك نصيب ، لأن برسباي عهد لابنه وتسلطن بعده جقمق  ولم يعد للجانم الأشرفي من ذكر .

11ـ ومن الطبيعي أن يكون ذلك الكشف المزعوم من عوامل إثارة الفتن خاصة في أوقات الاضطراب السياسي ـ وسنتعرض له فيما بعد ـ والمهم أن الضرر أصاب بعض أصحابه من  أتباع المغلوب مما حدا ببعضهم بإيثار التريث في تبشيره إلى أن تتبين له الكفة الراجحة، فالظاهر تمربغا بمجرد جلوسه على العرش زعم له أحدهم أنه سمع بسلطنته قبل ذلك بغزة ودمشق[30]... وفي هذا السلامة ..

12ـ وامتد ادعاء الكشف إلى نواحٍ أخرى تهم السلطان القائم ليحيط الصوفي برعايته ، كالتبشير بالنصرة على العدو مثلما حدث لبرقوق حين تجهز لحرب تيمورلنك فادعى أحدهم مناما رأى فيه النبي عليه السلام يبشر برقوقا بالنصرة وجعل على تلك الرؤيا إمارة، ويعلق ابن حجر على تلك الواقعة بقوله: والذي يظهر لي كذب هذا الرائي .. وإلا فلو كان صادقاً لكان قد انتصر والواقع أنه لم يقع له قتال لأحد[31]) ويذكر أن السلطان صدق ذلك الرائي وأعطاه مالا رده ذلك الدعي إظهاراً للتقشف إذ كان يطمع في الوصول لا مجرد المال وكان أن خسر ذلك الهدف برجوع السلطان بلا حرب أو انتصار أو هزيمة ..

13- ومع ذلك فإن برقوق كان من أكثر المماليك فطنة في تعامله مع الصوفية ويكفى أنه أبرز من استخدمهم في بناء دولة الجراكسة . ولذا كان برقوق يعاقب من يتحايل عليه بالتصوف وقد حدث أن جاءه أعجمي يخبره بأن النيل لن يزيد شيئاً واتفق أن النيل زاد زيادة عظيمة فقبض برقوق على الأعجمي وضربه وأشهره على جمل ونودي عليه (هذا جزاء من يكذب على الملوك ).[32] ، واختلف الحال مع قايتباي فقد أخبره أحدهم بأن شاه سوار الخارج عليه قد هزم وأشاع آخر الخبر في المدينة ولم يصح الخبر ومع ذلك فإن قايتباي قد تفاءل به واعتبر ابن الصيرفى المؤرخ ذلك الكشف الكاذب كرامة[33]..

14- ولا ريب أن أولئك الأدعياء قد استفادوا من اعتقاد العصر في نسبة الكرامات وعلم الغيب إليهم من دون البشر جميعاً مهما أخطأوا، فحرص بعض الأدعياء على الوصول بتلك المزاعم إلى دائرة النفوذ عند السلطان وذلك مثل القاضي ابن خلكان الذي كان كلما طولب ببرهان على ما يدعيه من وحى وكشف لم يأت به ، وعقدت له المجالس لامتحانه في ذلك وأثبتت كذبه وهو مع ذلك لا يكف عن محاولته الاجتماع بالسلطان ومصر على دعواه بأنه حكيم الزمان وأنه اطّلع على العلوم الكثيرة ومعرفة الطلاسم وهزيمة العدو بها إلى غير ذلك دون إثبات أو برهان [34] .

15- وتخصص بعض أولئك في علم الحرف أو معرفة الغيب عن طريق حساب الأعداد والحروف ، وقد حظوا بقدر كبير من التقدير، مثل ابن زقاعة الذي كان معظماً في دولة الظاهر برقوق وابنه الناصر فرج [39] ، وطبعاً من المنتظر أن يحدث هذا لأن شيخ كان نجمه في صعود وهو مرشح للسلطنة ..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

انغماس الصوفية في الفتن السياسية

كتاب : أثر التصوف السياسى فى الدولة المملوكية

الفصل الثاني : استفادة الصوفية سياسياً

 انغماس الصوفية في الفتن السياسية .

1 ــ وقد دفع بعضهم ضريبة الوصول بالتصوف فغرقوا في بحر الفتن وأسهموا في المؤامرات السياسية وأصابهم ضررها . والشيخ خضر العدوى  ـ الذي وصل بادعاء الكشف فاعتقده الظاهر بيبرس فعلا نفوذه عنده ـ مثل لأولئك الوصوليين، فقد هدد بنفوذه بقية الأمراء المماليك في دولة الظاهر بيبرس ، حتى أنه تنقص نائب السلطنة في حضرة بيبرس وقال له ( كأنك تشفق على السلطان وعلى أولاده كما فعل قطز بأولاد الملك المعز) وفى قوله إشارة للسلطان بأن نائب السلطنة سيستحوذ على السلطة من ابن الظاهر بيبرس بعد موته كما فعل قطز سابقاً . وكانت للشيخ خضر انحرافاته مع النساء والصبيان اشتهر بها دون علم الظاهر بيبرس فاتفق خصومه على إعلام الظاهر بيبرس بها وأحضروا الشهود فأقروا واعتقل خضر واستراح الأمراء [40]..

واشترك ابن الميلق الشاذلي في كتابة محضر ضد برقوق أثناء فتنة برقوق مع منطاش ، وكان برقوق قد اعتقد صلاحه وولايته وولاه القضاء، إلا أن ابن ميلق تنكّر لبرقوق في محنته ، حين تغلب منطاش عليه ، وكتب ابن الميلق الشاذلى  في المحضر ما يؤدى للحكم على برقوق بالقتل. فلما عاد برقوق للسلطة أهان ابن ميلق، ( وانقلب اعتقاده فيه بغضاَ )[41]والواقع أن أولئك الوصوليين من القضاة كانوا ـ في الغالب ـ أدوات في الفتنة لدى المتغلبين من المماليك استخدموهم في كتابة المحاضر بالعزل أو الولاية أو القتل وذلك لاعتبارهم ممثلين للشرع السنى ويكون الحكم على يدهم شرعياً , وتلك جنايتهم على الشرع السنى الذي يدعون الانتساب إليه , وكابن ميلق كان ابن جماعة الذي تعاون مع المظفر بيبرس الجاشنكير حين عزل الناصر محمد فلما عاد الناصر عزل ابن جماعة ووبخ الآخرين[42]..

   ومثله الباعوني الذي مدح منطاش وغض من برقوق ولما انتصر برقوق اعتذر إليه حتى عفا عنه [43] . وتنكر الباعوني أيضاً للجميل مع فرج بن برقوق فكان ممن قام في خلعه ليتولى قضاء الديار المصرية[44]. وفي عصر الناصر فرج كانت نكبة الصوفي الزعيفراني بعد أن راج أمره في أوائل سلطنة فرج ( وعظّمه كثير من الأتراك ( المماليك ) لعلمه بالحرف ثم سُعى به عند السلطان بأنه يمدح الأمير نوروز ويختلط بحاشيته (وهم ثائرون على السلطان) وأنه كان يذم السلطان ويهجوه وأنه نظم قصيدة يتنبأ فيها لجمال الدين الاستادار بأنه يمتلك مصر هو وولده،  فقطع الناصر فرج لسانه وعقدين من أصابعه ، ولم يستطع الظهور في أيام المؤيد شيخ بعد مقتل الناصر فرج فانقطع كمداً حتى مات سنة 830 [45] .

2ـ وكان السلاطين يخشون ـ غالبا ـ المتصوفة الأعاجم فالظاهر ططر عزل ابن العجمي من الحسبة وولى البساطي مكانه لأنه نقل عن ابن العجمي (كلام فيه فضول)[46] ذلك أنه مهروا في المؤامرات وقد دبر أحدهم مؤامرة في عهود برسباي ضد ابن الكويز كاتب السر واتهم بأنه يريد إقامة ابن المؤيد شيخ في السلطنة في ورقة ألقيت إلى السلطان برسباي الذي تحرى الأمر واكتشف تدبير الصوفي ونفاه إلى الصعيد[47]..

وتكررت هذه المؤامرة ضد (الأمير) جقمق الداودار قبل أن يتسلطن حيث اتهم بتهمة خطيرة وهى اتصاله بالأمير قرا يوسف عدو الدولة فيما عرف بفتنة (على الدربندي) وكان كاتب الخطاب أعجمياً صوفياً بمدرسة العنتابي ، واكتشف الحقيقة وبرئت ساحة جقمق عند السلطان، وغُرّق ابن الدربندي في النيل وألزم الأعاجم في الخوانق خاصة بالعودة إلى بلادهم فضجوا ومازالوا يستعطفون السلطان إلى أن أهمل أمرهم[48] ..

ولقد تزايد نفوذ الشيخ حسن العجمى في دولة الأشرف برسباي حتى كان يدخل على السلطان في خلواته بغير إذن ويقف فوق الأمراء ، وبذل له الأكابر الأموال خشية منه ، فثقل على أهل الدولة لأخذه الأموال منهم ولسوء أثره فيهم عند السلطان ، إلى أن زالت دولة الأشرف برسباي وتولى جقمق السلطنة فضربه وسجنه وصادره ونفاه[49].

 ومع ذلك فإن جقمق نفسه لم يتحرر كثيراً ـ كسلفه برسباي ـ  من تصديق أعوان السوء فقد نفى شمس الدين ابن العطار أحد الصوفية بخانقاه شيخون وكان من خيار الناس ومن أعيان الحنفية وذلك بوشاية شمس الدين الكاتب وكان واسطة سوء عند السلطان[50] .

3ـ واستخدم أولئك الأدعياء مناماتهم الكاذبة واستغلوها في التبشير للسلطنة كما سبق. ويكفي أن برقوق استغل منامات الشيخ الروبي في قتل السلطان القلاووني الصغير , ومع ذلك فإن أولئك الصوفية كان إخلاصهم للسلطان القائم . وسبق أن ابن ميلق تنكر لبرقوق وتعاون مع عدوه منطاش . وسار على نهج ابن ميلق آخرون في فتنة يلبغا التي أسفرت عن نفي برقوق واعتقاله في الكرك فتناساه أصدقاؤه من الأولياء الصوفية وتعاونوا مع يلبغا المتغلب على الأمر حتى أن يلبغا حين توجه لمحاربة برقوق تنبأ بزوال مملكته ونصرة أصحاب يلبغا وأن النبي عليه السلام قال في المنام أنه أرسل خالد بن الوليد ليكسر أصحاب برقوق ، ورأى آخر النبي عليه السلام يقول ليلبغا أنت سيف الله (... وصار جماعة من الناس يقولون رأينا كذا وكذا .. ويحكون أنهم رأوا في منامهم ما يدل على زوال ملك برقوق ونصرة يلبغا )[51].  ولم تجد هذه الحرب الدعائية النفسية شيئاً إذ كانت محلية وبعيدة عن أرض المعركة التي انتهت بانتصار برقوق، إلا أنها مع ذلك بقيت دليلاً على تعاونهم مع السلطان القائم وتنكرهم للسابق صاحب الفضل إذا سقط ..

4ـ وتطور استعمال المنامات فاتخذت في الفتن دورا ايجابيا لا مساعدا ، وذلك بتغذية الطموح لدى الأمير فيثور وقد تنتهي بذلك حياته ، كما حدث سنة 809 حين أثّرت المنامات على الأمير جكم نائب السلطنة في حلب فاعتقد صحتها وأعلن نفسه سلطانا باسم الملك العادل وأطاعه نواب الشام وانتهى الأمر بمقتله[52] . وبالمنامات قتل جاني بك الصوفي الذي أحدث فتنة لأنهم أشاعوا أنه لابد أن (يتسلطن ولو بعد حين) فلم يهدأ برسباي إلا بعد قتله[53] . ومع أن قتله كان تكذيبا عمليا لتلك المنامات ، إلا أن بعضهم أوّل منامه للأشرف برسباي بما يفيد صحته ولو على حساب أبرياء ، فقد رأى أحدهم أن البدوى كان يطفئ نارا دون جدوى ، وأوّلت بفتنة تطفئ،  فشاع بعد ذلك لأن السلطان ظفر باثنين أو ثلاثة يريدون الفتك به ونجاه الله تعالى منهم[54]..

 وبعد موت برسباي فُهِمَ عن الأمير قرقماس طموحه للسلطنة( فتقرب اليه عدة من الّذين يوهمون جهلة الناس أنهم أولياء الله ولهم إطلاع على الغيب ،وصاروا يعدونه بأنه لابد له من السلطنة، وتخبره جماعة أخرى بمنامات تدل على ذلك) وبعد تولى جقمق السلطنة بتأييد قرقماس نفسه ثار عليه بتأثير المنامات الصوفية وانتهى الأمر بمقتله[55] .

ومثله ( كان جانم نائب الشام يطمع في السلطنة مما أوحى اليه الكذابون من أقوال الفقراء ورؤية المنامات فتحقق المسكين أنه لابد له من السلطنة فكان في ذلك نهايته)[56] والظاهر تمربغا بشره بعض الصالحون بأنه سيلي السلطنة في سنة 872 وكان الأمر كذلك[57] في زعمهم.

5ـ وكان من الطبيعي أن يخشى أولوا الأمر من أصحاب المنامات والمنجمين .. فقد اشتهر أحدهم بالصلاح وبلغ السلطان جقمق أنه يبشر بعض الأمراء بالسلطنة فقبض عليه وسجنه بالمقشرة[58] .

وكان تأثرهم واضحاً ففي تاريخ البقاعي "أن المنجمين توقعوا فساد الأمر فتشجع الجند بذلك". وكان ذلك بعد وفاة خشقدم[59] , إذ كانت المنامات تأتي عادة في فترة الإضطرابات السياسية إثر موت السلطان.

6ـ وكانت أصابع أولياء الصوفية وراء غالب الفتن فقد( أُمسك شرف الدين بن الدمامسي وحبس بالقلعة بسبب أنه افتعل عليه أنه كان سبب مخامرة يلبغا المجنون[60], ) . ( المخامرة بمعنى المؤامرة ).

وكان ابن النقاش خطيب جامع ابن طولون قد ( خالط الأمراء وحصل له كائنة فأخرجت عنه الخطابة وقاسى مالا خير فيه ولقد تمشيخ ابن النقاش بعد أبيه وقد دفن بحوش الصوفية البيبرسية)[61] . وفي قتنة على باي ـ الذي حاول قتل برقوق ـ( سِمَّر أعجمى) أى قُتل صوفى أعجمى بالصلب على جمل بالمسامير ، والسبب أن ذلك الأعجمى كان شيخا للأمير على باى ، و( كان على باي يقول له يا أبي فما استفاد منه إلا التوسيط)[62].  وأثناء صراع السلطان حسن مع ضرغتمش قبض على جماعة من الأعاجم الصوفية بمدرسة ضرغتمش لأنهم ساعدوه ونهبت المدرسة الضرغتمشية[63]، وضرب الناصر فرج صوفياً أعجمياً لأنه آوى عنده بعض المماليك الهاربين[64]،وحين زينت القاهرة لنبأ انتصار الناصر فرج بن برقوق على المماليك الخارجين عليه في الشام أنكر صوفي صحة هذا النبأ فعُزر وشهر بالقاهرة[65]. والتعزير عقوبة بالتعذيب والضرب.

7ـ وفي نهاية العصر المملوكي أيقن بعض الصوفية أن بامكانهم الاحتفاظ بمكانتهم لدى العامة والمماليك مع عدم الزج بأنفسهم في الفتن السياسية، خاصة وقد بلغ الاعتقاد في الأولياء مداه. فكان الخواص يقول :( إذا جاءكم أمير يطلب الصحبة فقولوا له نحن في غنية عن الحاجة إليك وليس لنا قدرة على القيام بحق صحبتك ولا على مشاركتك في الشدائد والمصائب التي ربما تطرأ لك في الدنيا والآخرة)[66].

8 ـ وكان لبعض المماليك اهتمامات صوفية استخدمها في طموحها السياسي كما قيل عن الأمير سودون الفقية وعن أستاذه لاجين الجركسي الذي كان (أعجوبة في دعوى العلم والمعرفة مع عدمها ولقب كبير الجراكسة واعتقد الكثيرون أنه لابد أن يلي السلطنة[67] .

9 ـ واتخذت بعض ثورات المماليك الوجه الصوفي السائد في العصر المملوكي لدى طائفة الاتحادية وقد ادعى كثير منهم النبوة والشطحات فقلدهم بعض الأمراء المماليك الثائرين مثل أقس القفاجائي الذي أدعى النبوة فاعتقله الظاهر بيبرس وأمر بتسميره[68]

   هذا .. وإذا كان أولئك الأولياء قد تغلغلوا في الفتن المملوكية حتى أثروا على مصائر ومجرى حياة بعض المماليك أنفسهم فإن بعض الصوفية استطاع بنفوذه الصوفي وبمعزل عن السلطنة المملوكية أن يكون مصدر تهديد لتلك السلطة، كالشيخ زين الدين ابن أخي الشيخ الصوفي الشهير عدي بن مسافر.. وقد انقطع زين الدين في زاويته (على هيئة الملوك وأنعم عليه بإمرة دمشق، ثم نقل إلى إمرة صفدن وترك الإمرة ، وتردد إليه الأكراد وحملوا له الأموال، وأرادوا أن يخرج بهم على السلطان ، فاشتروا الخيل والسلاح ، ووعد رجاله بنيابات البلاد واختلفت الأخبار ، بشأنهم فقيل أنهم يريدون سلطنة مصر وقيل يريدون ملك اليمن فقلق السلطان الناصر محمد بن قلاوون لأمرهم ), وانتهى الأمر باعتقالهم وتفريق الأكراد (ولو لم يتدارك لأوشك أن يكون لهم نوبة)[69]على حد قول المقريزي.

 دور المؤسسات الصوفية في الفتن : ـ

أنشئت تلك المؤسسات لأغراض دينية وثقافية ولم يكن لها أن تشارك سياسيا في الخير أو الشر لولا انغماس أصحابها في الحياة السياسية ..

1 ـ والواقع أن تلك المؤسسات استغلها البعض مسرحا للفتن حتى أن بعضها تعرض للنهب حين يهزم من بداخلها كالمدرسة الضرغتمشية حين هزم الأمير في صراعه مع السلطان حسن[70].

وشارك العوام في عمليات النهب بعد التحقق طبعاً من وقوع الهزيمة للمنهوب كما حدث في صراع الأميرين قوصون وأيدغش فنهبوا خانقاه قوصون وجامعه[71] ، ومع شهرة خانقاه سرياقوس وغناها فقد نجت من غارات العربان الذين اكتفوا بقطع الطريق على زائريها وذلك لأن خانقاه سرياقوس كانت محطة حربية حتى لقد لجأ إليها المقر الزيني أبو بكر هربا من عرب بني حرام[72]. واستخدم بعض المماليك الأعراب في الفتن فأسهموا في النهب ( فصاروا ينهبون الترب ومزارات الصالحين) ( ودخل أقبروي الداودار على مشهد السيدة نفيسة ) فلما بلغ ذلك خصمه قانصوه أحضر العربان (فأقاموا بالجامع)[73].

2 ـ واتخذت تلك المؤسسات مكانا للإختفاء، فاقبروي الداودار سالف الذكر حينما اختفى ( كسبوا بسببه عدة أماكن ودور بالخانقاه حتى هجموا هناك على الجوامع والزوايا) وعندما فشل قانصوه اتجه بأصحابه نحو خانقاه سرياقوس[74].

3 ـ وكانت الترب أماكن صالحة للفتن بمسالكها وزواياها ، فعندما قتل المنصور لاجين بيد طغجي وكرجي وفشلت مؤامرتهما في السلطنة هرب كرجي إلى القبور فقتل هناك واختفى بعض أعوانهما في زاوية تقي الدين العجمي [75] ، وبفشل السلطان العادل طومان باي اختفى حتى قبض عليه عند زاوية الشيخ خلف[76]قاا ااااالل.

وفي سنة 767 حاول الأمير يلبغا أن يزيح خصمه الأمير طنبغا الطويل فأقام في تربة منكوتمر المارديني ومنها بعث لمنافسه يوجهه لدمشق نائبا للسلطنة فرفض، فغضب وأكد عليه بأن أرسل اليه عدة من الأمراء على أن يقبضوا عليه إن لم يمض للشامن فأصر على الرفضن واستمال اليه بعض الرسل.  وفر آخرون إلى يلبغا في التربة فركب من فوره إلى القلعة واستعد وعمل كميناً هزم به طيبغا الطويل الذي اختفى في خانقاه بيبرس حتى قبض عليه[77].

ولقد لعبت تربة يلبغا نفسه دورا آخر في فتنة الأتابك الجاي اليوسفي مع السلطان سنة  775 ، فقد استمال السلطان اليه الأمير عز الدين أيبك أحد أخصاء الجاي اليوسفي ووعده بإمرة طبلخانة فتوجه إلى تربة أستاذه يلبغا وبات بها وبعث إلى المماليك اليلبغوية،  فانسحبوا من عند الجاي اليوسفي ، وأتوه في تربة يلبغا، فصعد بهم للسلطان فتلاشى أمر الجاي اليوسفي، وحاولوا القبض عليه بين الترب، فهرب إلى أن مات غريقاً[78].

وفي الحرب بين بركة برقوق ركزت كل طائفة من أصحاب برقوق على تربة من الترب  فيما ببن القلعة وقبة النصر ليرموا من أعلاها أصحاب بركة[79].  وعندما دهم يلبغا الناصري برقوق بعث يلبغا بعض أعوانه إلى تربة شيخ الشيوخ ولكنهم انهزموا فرجعوا إلى قبة النصر[80]،. وفشلت ثورة الأمير يشبك فاختفى في تربة الست سمرا وأخبر بمكانه بعض الصوفية فأحاط به الجند في التربة حتى اعتقلوه[81]. وقد غيب الناصر فرج بتخطيط من وزيره ابن غراب فكثر القيل و القال بسبب ذلك وقيل أنه خرج من باب القرافة[82].

 وبتولي خشقدم السلطنة حدثت بعض الإضطرابات واعتقل بعض الأمراء فصار أعوانهم وتوجهوا للأمير الكبير جرباش المحمدي وهو مقيم بتربة الظاهر برقوق حيث كان مأتم ابنه وذلك ليحاربوا به السلطان فاختفى منهم، ولكنهم ظفروا به ولقبوه بالملك الناصر، فأركبوه غصباً من تربة الظاهر برقوق، وانتهت الفتنة بتسلل جرياش واعتذاره للسلطان[83], ويرى أبو المحاسن أن ذلك من عدم تدبيرهم (فإن الصواب كان جلوسه بالتربة المذكورة إلى أن يستفحل أمرهم)[84]مما يدل على أهمية استغلال المؤسسات الصوفية كمسرح هام في الإضطرابات السياسية.  وحين واجه قايتباي تهديدات العثمانيين سنة 896 (توجه إلى قبة يشبك الداودار فجلس هناك وأرسل خلف القضاة الأربعة) وشكي لهم متاعبه المالية وتهديد العثمانيين له وجشع المماليك الجلبان( وأقسم بالله أن الخزائن قد نفدت وقصد أن يفرض على الأملاك والأوقاف أجر سنة كاملة يستعين بها على خروج تجريدة لحرب العثمانيين)[85].

لقد استفاد الصوفية بكونهم جزءاً من النظام العسكري الحاكم ودفعوا مقابل ذلك حين انغمسوا في الفتن الخاسرة بأشخاصهم ومؤسساتهم .

فى الشفاعة عند الحكام والنفوذ الشعبي عند المحكوم

  1 ـ كان الصوفي إذا اشتهر أمره وعرف بين الأمراء والسلاطين قصده الناس للشفاعة به عند الحكام. و شفاعة الصوفية تكفير بسيط عما اقترفوه من مساعدة الظلمة وتأييد الظلم ، على أن هذه الشفاعة لم يستفد بها السواد الأعظم من الناس إذ اقتصر أثرها على الأتباع والمريدين ولم تؤثر بحال في جبل الظلم الذي ساعد الصوفية في إرساء قواعده، هذا في الوقت الذي استغل فيه الأولياء الشفاعة لصالحهم في زيادة نفوذهم الشعبي وأخذ الأموال عليها وجعلوا منها مجالاً للتزايد الكرامات ..

2- وعنى بعض الصوفية بوضع القواعد للشفاعة لحصرها في أضيق مجال ممكن وتفخيم القيام بها في نفس الوقت عند جموع الناس . فالصوفي يخرج للشفاعة ماشيا على طهارة ظاهرة وباطنة ، وإذا علم بالقرائن عدم قبول شفاعته فلا يتصدر لها[86] ، بل إن المتبولي وضع شرطاً مستحيل التنفيذ للشافع حين قال :" من لم يقدر على قتل الظلمة بالحال أو عزلهم لا يصح له دوام قبول الشفاعة عندهم."[87]، وبرر الدشطوطي والشعراني تعاونهم مع الظلمة ونفاقهم له بأنه بغرض الشفاعة [88] .

3- ومن ناحية أخرى جنى بعضهم الأموال نظير شفاعته واشتهر أبو العباس الشاطر بمساومته مع صاحب الحاجة مقابل أن يشفع له [89]، وكان ابن جامع البحيري(يأخذ على الشفاعات حتى حصل شيئاً كثيراً)[90]

ورأى الشعراني شيخاً يساوم امرأة عجوز على الشفاعة في ابنها[91]، بل إن بعضهم استغل الشفاعة في أكل أموال الناس بالباطل حيث كان يأخذ الأموال ولا يقضى الحاجة [92]" وأكثر من ذلك كانت الشفاعة متنفساً لحقد بعض الأشرار من الصوفية كالسفطى الذي (عظم اختصاصه بالظاهر جقمق فهرع الناس لباب وانثالت عليه الدنيا بسبب ذلك ودخل في قضايا فأنهاها حتى أنه كان ليصمم على منع الشيء ثم يسهله بسفارته ويلزم فعل الشيء فينقضه بشفاعته .. وظهرت سيئاته فتحاشى الناس المجيء إليه )[93].

4- وبينما استفاد الصوفية من الشفاعة في الغير مادياً وشعبياً وتسلطوا بها على الناس حرصوا في نفس الوقت على أن يكون لأتباعهم فيها القسط الأكبر فجعل الخواص من الأدب الذي يلتزم به الأمير مع شيخه: ( أن يوفى جميع ما كان وعد به الشيخ مثل ولايته من الوصية بأصحاب الشيخ لا يطلب منهم أن يزنوا شيئاً من المغارم إكراماً للشيخ ." وحذر الخواص الأمير من عاقبة ذلك.[94] .

5- وبالغت كتب المناقب الصوفية في وصف شفاعات الأولياء وإن كان لذلك أصل تاريخي اعترفت به مصادر التاريخ،فيقول السخاوى عن شمس الدين الحنفي ( انتفع الناس بشفاعاته ورسائله وعظمه الملوك )[95].

   وفي مناقب الحنفي تفاصيل أسطورية عن شفاعات الحنفي منها أن السلطان ططر قال له : يا سيدي بالله سألتك بالله لا تقطع عنى رسالتك في شفاعة أبداً فإني والله أفرح بذلك وأنى إذا جاءتنى شفاعة سيدي اطمأن قلبي وخاطري . وفيها أن المؤرخ ابن حجر عزل فأرسل الحنفي خادمته للسلطان فتشفعت فيه حتى أرجعه السلطان إلى مناصبه ، وغير ذلك [96].

   وقد جعل الشعراني من المنن كثرة شفاعاته وقبولها على صغر سنه، وأنه شفع عند الغوري وطومان باى .[97]  وأسند الشفاعة لكثير من شيوخه الأولياء [98] ، ونقل ذلك عنه المؤرخون بعده[99]، واعترف ببعضها المؤرخون في عصره [100]، على أن كتب التاريخ الصادقة اعترفت بشفاعات بعض الأولياء [101] ، ورددت شفاعة بعضهم في ابن عمير الثائر العربي في الصعيد وقد قبل الأشرف برسباى الشفاعة فيه[102]، وكانت زاوية الشيخ نصر المنبجى ملاذاً للمستجيرين من المماليك والوزراء[103].

6- ومن الطبيعي أن تصول كرامات الصوفية في ميدان الشفاعة اعتماداً على ذلك الأصل التاريخي [104]، ورددت المراجع اقتتال الناس عليهم للتبرك بهم وتقبيل أيديهم والخضوع لهم [105] تجسيداً لنفورهم الشعبي وذلك قصدهم الأصلي في الشفاعة .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ف 2 : استغلال الصوفية نفوذهم السياسي في إضطهاد الفقهاء السنيين  

كتاب : أثر التصوف السياسى فى الدولة المملوكية

الفصل الثاني : استفادة الصوفية سياسياً

استغلال الصوفية نفوذهم السياسي في إضطهاد الفقهاء السنيين  

1 ـ ألمحنا في التمهيد إلى ما قاساه أوائل الصوفية من اضطهاد في القرن الثالث الهجري وما تلاه إلا أن تقرير التصوف – بجهد الغزالي – قد حول وجهة الإنكار على التصوف إلى مجرد إنكار على المتطرفين من الصوفية. وبانتشار التصوف واحتلال الصوفية لأماكن النفوذ السياسي أتيح لهم الثأر من أعدائهم التقليديين (الفقهاء السنيين) وهو مكسب لا بأس به للحركة الصوفية. ومن قبل أدرك الشافعي وابن حنبل بوادر ظهور التصوف الفردي وإنكراه وإن لم يعطياه أهمية ، إذ كان وقتها لا يستحق الاهتمام يدلنا على ذلك أقوال الشافعي مصوراً نظريته في التصوف ورجاله : ( أُسّس التصوف على الكسل )( لو أن رجلاً تصوف أول النهار لا يأتي الظهر حتى يصير أحمق) ( ما لزم أحد الصوفية أربعين يوماً فعاد إليه عقله أبداً)[106]       

وبتسلط التصوف وتسيده الحياة العملية حولها إلى مجرد حفظ خالٍ من العقل ، فأخذ مستوى الفقهاء في الضعف المتزايد بتزايد التصوف وتأثيره ، حتى إن العصر المملوكي ـ على طوله ـ لم يشهد إلا شخصية فقهية واحدة – هو ابن تيمية- في عصر أنجب كثير من مشاهير الصوفية دونه علماً وفضلاً . وازداد الأمر سوءاً بعده فلم تضم مدرسته بعده شخصية على نفس مستواه ، وقد انصب إنكار الفقهاء المملوكيين على متطرفي الصوفية وأتباع ابن عربي خاصة. ومع كثرة المتطرفين ونفوذهم إلا أن جهد الفقهاء كان أقرب إلى دعوة لإصلاح الطريق الصوفي تأسياً بأبي حامد الغزالي ..

2 ــ والواقع أن شخصية الغزالي قد فرضت نفسها على مجريات الصراع الصوفي/ الفقهي بحكم تقدير الطرفين له ولفكره في العصر المملوكي . ودليلنا أن ( إحياء علوم الدين) قد ضم بين دفتيه أقاويل و شطحات للغزالي لا تختلف من حيث الكفر والخروج عن جادة الإسلام[107]ـ عن أقاويل ابن عربي وعفيف التلمساني والمدرسة الاتحادية التي جهد ابن تيمية في حربهم في العصر المملوكي . . إلا أن الغزالي قد اكتسب قداسة في العصر سرت على آرائه وتصوفه فتوجه جهد الفقهاء في العصر المملوكي إلى العودة بالصوفية إلى طريق الغزالي . ومن أجل ذلك قاسى الفقهاء من نفوذ الصوفية واضطهادهم مما سنعرض له .

3 ــ ولا نجد للصوفية عذراً في اضطهادهم (مصلحيهم) من الفقهاء . وإن كان العذر قائماً بالنسبة للفقهاء الذين أضاعوا جهدهم في عبث الإنكار على أشخاص الصوفية مع الحفاظ على المبدأ نفسه ، وعذر الفقهاء أنهم أبناء العصر المملوكي ، والعصر المملوكي يدين للتصوف عقيدة ومذهباً ويرى في الخروج عليه خروجاً على الدين يعتبر بدعة تستحق العقاب .. إنه العصر الذي أصبح الاعتقاد في الصوفي حياً و ميتاً شهادة لا تجدي بدونها شهادة التوحيد .. إنه العصر الذي أصبح فيه الإيمان بالأولياء ثالث الشهادتين كما جاء في نص شهادة الإسلام التي أرسلها ابن هلاوون إلى قلاوون وفيها أنه يقر بأنه لا إله إلا الله (والشهادة بمحمد عليه أفضل الصلاة والسلام..وحسن الاعتقاد في أوليائه الصالحين )[108] أي صارت شهادة ثلاثية وليست شهادة واحدة بالتوحيد لاإله إلا الله وحده ، ولكن احمد بن هلاوون يعبّر عن عقيدة التصوف فى تثليث الآلهة . وهذا لا يكون إلّا شركاً .

الفقهاء السنيون في العصر المملوكي: ـ

1 ــ يقول ابن تيمية ــ عدو الصوفية ــ عن الصوفية ( إن الصوفية مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم ففيهم السابق بحسب اجتهاده وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين  .. وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم كالحلاج مثلاً فإن أكثر مشايخ الطريق أنكروه وأخرجوه عن الطريق مثل الجنيد سيد الطائفة وغيره)[109] ، فابن تيمية ـ لا ينكر التصوف من حيث المبدأ .

2 ـ وقد أنجبت مدرسة ابن تيمية في القرن التاسع علماً مجهولاً هو البقاعي الذي أنكر على الاتحادية وأتباع ابن الفارض ومع ذلك يقول عن المتصوفة السنيين الأوائل (إن المحققين منهم بنوا  طريقهم على الإقتداء بالكتاب والسنة )[110] ،واحتج بأقوالهم في صراعه مع الاتحاديين فيقول( وقد قال أهل الله كالجنيد وسرى السقطي وأبو سعيد الحراز وغيرهم ..كذا [111] . وسنعرض لصراع هؤلاء مع صوفية عصرهم وكيف تمكن النفوذ الصوفي من وأد تلك الحركات الإصلاحية .

3 ـ وانتشار التصوف أثر على القضاء ـ وهم رؤوس الفقهاء بل إن بعضهم انحاز للصوفية أو كان منهم أو وصل بالتصوف إلى منصب القضاء وانعكس ذلك كله على مسيرة الصراع بين الفقهاء والصوفية .

4 ــ والأزهر  كان في العصر المملوكي مؤسسة صوفية أسوة بسائر المعاهد العلمية والدينية في العصر ..فقد أطلق على طلبة الأزهر لقب الفقراء قياساً على الصوفية، وأقام بالأزهر طائفة من الصوفية المعتقدين مثل الصوفي عفيف الدين الطفاري الذي( سكن بالجامع الأزهر إلى أن مات وقد أقام مع الفقراء )[112]

وأشهر الصوفية المعتقدين الذين أقاموا بالأزهر قنبر العجمي السيرامي[113]، و الجزرى [114] ، وولى الدين الرومي[115]واللحفي [116]، و  الغمري [117] وجمال الدين الأصفهاني[118]وابن المجدي [119]، وقد زار برسباي الشيخين المغربيين خليفة وسعيد في الجامع الأزهر وقد كانا معتقدين  [120]..

 ولإقامة بعضهم في الأزهر لقب  بالأزهري مثل سليمان العسقلاني الأزهري[121]وابن جامع البحيري ثم الأزهري[122]وسليم الجناني الأزهري[123] ، وكان ابن يوسف إمام الجامع الأزهر: ( مُعتقداً فيه ويتبرك الناس بدعائه [124].. وعليه اتخذ الصوفية من الأزهر حصناً ضد المنكرين عليهم من الفقهاء . وفي واقعة البقاعي مع الصوفية انضم للصوفية أهل الجامع الأزهر وامتنع أحد أصحاب البقاعي من مصاحبته لأن ( أهل الجامع الأزهر هددونا بأنهم يحرقون بيوتنا )[125]. أى كان من فى الأزهر وقتها من متعصبى الصوفية .

5 ــ ولتأريخ الصراع بين الفقهاء والصوفية ــ سياسيا ــ نتوقف عند ابن تيمية ومدرسته وصراعه مع الصوفية وانعكاس ذلك على الرؤية السياسيةن ثم واقعة البقاعي مع أتباع ابن الفارض ثم نقدم لمحات للنزاعات المتفرقة بين أفراد الصوفية والفقهاء السنيين بترتيب القرون وسيظهر من خلال ذلك كله كيف كانت الغلبة  إلى جانب الصوفية وكيف أضر النفوذ السياسي للصوفية بالفقهاءالسنيين ..

صراع ابن تيمية مع الصوفية

بدأ ابن تيمية فقيهاً يحارب البدع فاصطدم بالمتصوفة . وانتصر في الجولة الأولى على الفقراء الأحمدية بالشام وألاعيبهم من أكل الحيّات والدخول في النار . ( وكادت تقوم فتنة، واستقر الأمر على العمل بحكم الشرع ونزعهم هذه الهيئات)  [126]..

والطريقة الأحمدية طريقة صوفية مصرية . ولم يكن صوفية مصر ليسمحوا لابن تيمية بانتصار آخر في الجولة التالية ، خاصة وأنه تشجع بجولته الأولى فكتب رسالة في الرد على ابن عربي بعنوان (النصوص على الفصوص) ووجهها إلى زعيمي الاتحادية في عصره الشيخين نصر المنبجى وكريم الدين شيخ الشيوخ بسعيد السعداء، وفيها لعن ابن تيمية الاتحاديين في شخص ابن عربي . وانتهى الأمر بطلب ابن تيمية إلى مصر متهماً بالقول بالتجسيم[127]، دون أن يحاكموه لإنكاره عقيدة الاتحاد الصوفية. وحاكمه أعداؤه القاضي ابن عدلان والقاضي ابن مخلوف، ومنعوه من الدفاع عن نفسهز واعتقل بالقاهرة مع أخيه وأرغم الحنابلة ـ أتباعه ـ على الرجوع عن عقيدته وأهين بعضهم واعتقل آخرون في بلبيس والقاهرة والشام [128].

وتشجع الصوفية بدورهم ـ والدولة في أيديهم وهو معتقل ـ فكشفوا عن بعض أغراضهم في الحصول على موافقته ورجوعه عن آرائه عن طريق الضغط ، وكان ابن تيمية ينهى في مصر عن تعظيم المشاهد .

وأفتى تلميذه ابن الجوزية بأن قبور الأنبياء لا تُشدُّ لها الرحال، أى لا تُزار ولا يُحجٌّ اليها . فعُقد له مجلس للتحقيق معه ،فأصرّ على أنه لا يُزار قبر النبي إلا مسجده، وثارت فتنة بالشام، وأفتى القاضيان الشافعي والمالكي بتكفير ابن القيم الجوزية واعتقلوه  [129]. ويبدو أن ابن تيمية كان هدفهم الأول فيما فعلوه مع ابن الجوزية ، لأن الخطوة التالية اتجهت نحوه في حبسه يتزعمهم ابن عطاء وابن يعقوب البكري[130]ويرعاهم نصر المنبجى . وهكذا تغيرت الأدوار فكان خصوم ابن تيمية في المجلس الأول قضاة يعملون لصالح التصوف فأصبحوا في الجولة التالية صوفية لحماً ودماً ، ووزعوا فيما بينهم الأدوار حيث بدأ نصر المنبجى يدعوه للصلح ويحصل على موافقته ثم يرفض الصلح معه إلا بعد أن يتنازل عن آرائه منتهزاً فرصة اعتقاله. وجاءت رُسُل المنبجى لابن تيمية فى السجن . وفي مخطوطة تكسير الأحجار، يقول مؤلفها وهو تلميذ لابن تيمية وكان معه فى السجن : ( قالوا: يا سيدي قد حملونا كلام نقوله لك وحلفوا إلينا أنه ما يطلع عليه غيرنا: أن تتنزل لهم عن مسألة العرش ومسألة القرآن ونأخذ خطك بذلك نوقف عليه السلطان ونقول له هذا الذي يحبس ابن تيمية عليه قد رجع عنه ونقطع نحن الورقة ، فقال لهم : بيدعوني أن أكتب خطى إن ما فوق العرش رب يعبد ولا في المصاحف قرآن ولا لله في الأرض كلام ، ودق بعمامته الأرض وقام واقف ورفع رأسه إلى السماء اللهم إني أشهدك على أنهم بيدعوني أنى أكذبك ...[131]). وتوسط الأمير حسام الدين بن مهنا لدى السلطان في ابن تيمية وتوجه بنفسه فأطلقه[132] ، كنوع من التكريم له ، ولم يسكت الصوفية وتزعمهم ابن عطاء فأثاروا على ابن تيمية الغوغاء وامتدت أيديهم له بالضرب فتجمع أهالي الحسينية ليثأروا للشيخ فألح عليهم ابن تيمية بالرجوع لأنه لا ينتصر لنفسه . وفى نفس هذا الشهر رجب 711 اعتدى آخر عليه بالقول المقذع . وأخيراً لجأوا للسلطان وتجمهروا حول القلعة فاضطرب السلطان وعقد له مجلساً أعاده للحبس باختياره.  وفي الحبس كان الشيخ يُزار ويُستفتى فضاق الصوفية به ، فنقلوه للإسكندرية لعل أحد الاتحادية يقتله هناك[133].

لم يكن التصوف في مثل سطوته في نهاية العصر المملوكي ومع ذلك أرهق ابن تيمية الذي دفع كثيراً من سني حياته معتقلاً في سبيل جهاده لبعض انحرافات المتصوفة في عصر دان بالتصوف. ومع أنه ابن لهذا العصر إلا أنه تمرد عليه في نواحي كثيرة،  فقد اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها ، كما اعترف بذلك خصمه القاضى كمال الدين الزملكاني، وقال ابن الوردي عنه (أعان أعداءه على نفسه بدخوله في مسائل كبار لا يتحملها عقول أبناء زماننا)[134].

مدرسة ابن تيمية وصراعها مع الصوفية : ـ

أثمرت حركة ابن تيمية مدرسة كان روادها من تلاميذه الأوائل وسارت تلك المدرسة على نهج زعيمها من تحمل المصاعب في سبيل المبدأ والاستمرار في الإنكار على المتصوفة وكونوا مجموعات متفرقة في مصر والشام  .

ففي أثناء اعتقال ابن تيمية ضُرب ابن القيم وحُبس لأنه أنكر الشفاعة والتوسل بالأنبياء وزيارة القبر النبوي وزيارة قبر الخليل. وحُبس مع شيخه ابن تيمية في المرة الأخيرة بالقلعة منفرداً عنه . ولم يفرج عنه إلا بعد موت الشيخ[135].

وكان ابن مري البعلبكي منحرفاً عن ابن تيمية ثم اجتمع به فأحبه وتتلمذ له ، ( وكتب مصنفاته وبالغ في التعصب له وقدم  القاهرة فتكلم على الناس بجامع الأمير حسين وبجامع عمرو وهاجم الصوفية وأنكر التوسل بالنبي والزيارة على طريقة ابن تيمية فأراد الصوفية قتله فهرب ، فطلبه القاضي المالك الإخنائي ، ومنعه من الوعظ ، وعقد له مجلس، وتعصب عليه الصوفية بالباطل، وكادت تقوم فتنة، وآل الأمر إلى تمكين المالكي منه ، فضربه بحضرته ضرباً مبرحاً حتى أدماه ، وأشهره على حمار مقلوباً، ونودي عليه: " هذا جزاء من يتكلم في حق رسول الله" ، فكادت العامة تقتله ثم أعيد للسجن ثم شفع فيه فسافر من القاهرة للخليل .

وحضر ابن شاس درساً ( فصوّب ما نُقل عن ابن مري في مسألة التوسل فوثب به الصوفية وحملوه إلى المالكي ليفعل معه ما فعل مع ابن مري فلم يفعل، فنسبوه للتعنت) [136] .

وفى سنة 726 أبان حركة ابن تيمية حكم عبد الله بتكفير من قال من مؤذني الجامع :" يا رسول الله أنت وسيلتي" ، فعُقد له مجلس بتكفيره أمام قاض حنبلى ، فتاب ورجع ( فردّ الحنبلي إسلامه وحقن دمه وقبل توبته . ) وهنا نرى قاضيا صوفيا ينتمى للمذهب الحنبلى ـ نفس مذهب ابن تيمية ومدرسته ـ ولكن التصوف هو الذى ساد وسيطر حتى على أغلب الحنابلة ، إذ أصبح التصوف حرفة لا تلتزم بالانتماء المذهبى .  وأُدُّعى على الصلاح الكتبي أنه قال : "لا فرق بين حجارة جيرون وبين حجارة صخرة بيت المقدس" ، وأيده آخر ، وعُزّر الاثنان معاً ، وعزر معهم آخر قال : كل من قال عن ابن تيمية شيء فهو كذب[137].

وبعد موت ابن تيمية ازداد أنصاره يواصلون مسيرته خلال القرن الثامن وحدثت بينهم وقائع مع الصوفية ومحن تعرضوا لها من القضاة . وقيل في المؤرخ ابن كثير( كانت له خصوصية بالشيخ ابن تيمية ومناضلة عنه وأتباع له في كثير من آرائه .. وامتحن بسب ذلك وأوذي)[138].

 ونظر ابن البرهان المصري في كلام ابن تيمية ( فغلب عليه بحيث صار لا يعتقد أن أحداً أعلم منه)[139]، وتخرج ابن سعد بابن تيمية( ورأى رأيه في المسائل التي تفرد بها فتألم منه قاضى القضاة تقي الدين السبكي ونازعه عدة مرات ولم يرجع )[140].

وكان يوسف بن حسين الكردي ( يميل إلى ابن تيمية ويقول بآرائه في الأصول والفروع و ينكر على الأكراد في عقائدهم وبدعتهم وكان من يحب ابن تيمية يجتمع إليه)[141]

وكان يوسف بن ماجد شديد التعصب لابن تيمية ، وسجن بسبب ذلك ولا يرجع . وبلغه أن ابن المصري يحط على ابن تيمية في درسه فجاء إليه وضربه وأهانه [142].

وكان أبو بكر الهاشمي نزيل القاهرة يميل إلى مذهب ابن تيمية وامتحن بسبب ذلك مرة وكان يحفظ كثيراً من كلام ابن تيمية  [143].

وقيل شبه هذا الكلام على إبراهيم الأمدي [144] وابن المنصفي [145] وابن عبد الله الناسخ  [146]وابن المحب الحافظ [147] وابن الأعمى المصري[148] والصدر اليوسفي [149] وكان الغزل( يحب أهل الحديث وأصحاب ابن تيمية )[150].

وأنكر ابن العز الحنفي على قصيدة لابن أيبك الصفدي يعارض فيها (بانت سعاد) وشاع الأمر بفعل بعض المتعصبين إلى أن انتهت القضية إلى السلطان فكتب مرسوماً طويلاً منه : بلغنا أن على بن أيبك مدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة وإن على بن العز اعترض عليه وأنكر أموراً منها التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والقدح في عصمته وغير ذلك ) وطالب المرسوم بتعزيره وقال المرسوم ( وبلغنا أن جماعة من الشافعية والحنابلة والمالكية يظهرون البدع ومذهب ابن تيمية )[151] .أى صار مذهب ابن تيمية من ( البدع ) تبعا لثقافة العصر المملوكى وتدينه بالتصوف . وترتب على هذا أن  ( صارت فتنة عظيمة بين الحنابلة والأشاعرة ، وبالغ الصوفي علاء الدين البخاري في الحط على ابن تيمية ، وصرّح بتكفيره ،  فتعصب جماعة لابن تيمية. وصنف الحافظ شمس الدين جزءاً في فضل ابن تيميةن وسرد أسماء من أثنى عليه ، وأرسله للقاهرة ، فكتب عليه بالتصويب غالب المصريين. وخرج مرسوم السلطان بأن ( أحداً لا يعترض على مذهب بلده ومن اظهر شيئاً مجمعاً عليه سمع منه )[152].

 وفي سنة 863 أُستفتى القاضي سراج الدين الحمصى في حكم من كفر ابن تيمية وقد اتفق على تخطئته، فأعلن الحمصي أن من كفر ابن تيمية هو الذي يكفر ، فقام عليه ابن  زهرة ، وقال:" كفر القاضي" ، وتعصب لابن زهرة أهل طرابلس ، ففر الحمصي إلى بعلبك، وكاتب المصريين، فجاء المرسوم بالكف عنه واستمراره على قضائه [153].

 وكان ابن السكري من المغالين في محبة ابن تيمية ( متعصباً على من يخالفه ، وقد جدد المدرسة السكرية وهى في يد ابن رجب) ( لكون تلك المدرسة كانت لابن تيمية محبة له. وقد فهم ابن السكري من ابن رجب بعض المخالفة لابن تيمية ، فأخذ في معاداته وأراد إخراجه من المدرسة لكونه عمرها من ماله )[154]..

واجتذبت مدرسة ابن تيمية لصفها بعض أمراء المماليك، كالأمير بران أمير أخور، الذي كان كثير الحب في ابن تيمية وأصحابه ، ووصفوا الأمير جنكلى ابن البابا بعدم ( الميل إلى المُرد ، والمحافظة على العبادات ، والميل لابن تيمية ، والتعصب له، والرد على من يهاجمه )[155]  . وقبل ذلك ( لازم الأمير سيف الدين قديدار ابن تيمية في مقامه بمصر ، فتأثر به ، وظهر ذلك في ولايته على مصر، فكان شهماً فأراق الخمور وأحرق الحشيشة واستقامت به أحوال مصر والقاهرة )[156]

  وضمت مدرسة ابن تيمية بعض المثقفات المتدينات مثل الناسكة فاطمة بنت عباس التي كانت تحضر مجلس ابن تيمية، وكانت تنكر على الفقراء الأحمدية ( مؤاخاتهم النساء والمردان ، وتنكر أحوالهم ، وتفعل من ذلك ما لا يقدر عليه الرجال )[157]، أي أن أتباعه وقفوا ضد انحرافات الصوفية الخلقية مع تمسكهم بالشرع .

وقد كان ابن تيمية حنبلياً وكان الحنابلة أهم أنصاره فأصبحت ( الحنبلية) علماً على الاعتقاد المضاد للتصوف بالنسبة للعقيدة أو المتشدد في السلوك، ولا تزال تعيش بيننا بالمعنى الأخير. ويقول ابن حجر في ترجمة ابن أبى حجلة ( كان حنفي المذهب حنبلي المعتقد ، وكان كثير الحط على الاتحادية ، وصنف كتاباً عارض فيه قصائد ابن الفارض ، حتى بأنه أمر عند موته بأن يوضع الكتاب الذي عارض به ابن الفارض ـ وحط عليه فيه ـ في نعشه ويدفن معه في قبره ففعل به ذلك)[158].  وسُمّي الأمير الكبير سيف الدين أقتمر الصاحبي بالحنبلي ( لكثرة مبالغته في الطهارة والوضوء)[159] ، وهذا التشدد رد فعل لانحلال المتصوفة الخلقي والديني .

ولكن مع ذلك عوملت مدرسة ابن تيمية فى إطار دين التصوف السائد في العصر المملوكي، فقيل عن أربابها مثلما يُقال عن المتصوفة المقدسين المعتقدين، فكان على الغزي منتسباً لابن تيمية ومع ذلك ( كان مباركاً ، فيه ذوق وتأمل في كلام أرباب الطريق) على حد قول ابن حجر الذي يصف الزرعي أحد أصحاب ابن تيمية بأنه (طار صيته وقصد للتبرك)[160]، مع أن أستاذهم ابن تيمية نهى عن ذلك ...

السياسة المملوكية  بين ابن تيمية والصوفية.

وسنعرض لحركة ابن تيمية من واقع الرؤيا السياسية مع احتسابها ـ جملة ـ لصالح الموقف الصوفي وجهد الصوفية الذي أحسن استغلال عناصر اللعبة لصالحه .وحتى تتضح الصورة كاملة نقول أن حركة ابن تيمية يمكن تقسيمها إلى مرحلتين سياسيتين، الأولى: في سلطنة المظفر بيبرس الجاشنكير الذي اغتصب الحكم من صاحبه الشرعي الناصر محمد بن قلاوون .الثانية : حين عاد الناصر محمد وهزم خصمه بيبرس الجاشنكير.

على أن جهد الصوفية في مقاومة ابن تيمية قد سبق هذين المرحلتين  وقد تحرك في اتجاهين: الأول : في إثارة الأمراء المماليك على ابن تيمية في الشام وقد كانوا يميلون إليه ـ في وقت قد كانت لهم في الشام السلطة بسبب ضعف السلطان الناصر محمد في القاهرة ـ وقد حيكت مؤامرة صوفية اتهم فيها ابن تيمية بمعاونته لأحد الأمراء ليكون نائب السلطنة وحقق في الأمر وظهر التزوير وعوقب الصوفية أصحاب المؤامرة[161].

والاتجاه الثاني: هو محاولة التأثير على العامة ـ وهم أميل للصوفية وعُدتهم في الشدائد ـ وقد اعترف كمال الدين الزملكاني أحد أعداء ابن تيمية بأنه (حُبّب للناس القيام عليه)[162] يعنى على ابن تيمية .

 ثم نعود إلى  المرحلتين السابقتين : ـ

المرحلة الأولى : في سلطنة المظفر بيبرس الجاشنكير .

وعلى عادتهم وقف الصوفية مع الجاشنكير المغتصب للحكم، وكان رأسهم نصر المنبجى، وهو  من أتباع ابن عربيز نصر المنبجى هذا كان شيخاً للجاشنكير . والجاشنكير كان العدو الأكبر لابن تيمية في نفس الوقت. لذا فإن السلطان لم يكن بحاجة إلى جهد صوفي لإثارته على ابن تيمية ، لأن ابن تيمية وقف يناوئ الجاشنكير ــ الحاكم المغتصب ــ  رغم أن ابن تيمية كان فى الاعتقال وقتها ، فقد استحضره من الحبس ليوافق علماء مصر على مبايعته بالسلطنة فأبى ، ولم يعترف بتنازل الناصر محمد عن السلطنة، وكذّب الشهود الذين جاء بهم الجاشنكير، وأعلن أن البيعة ـللجاشنكير باطلة ( فاغتاظ الملك المظفرن وقال : " ردُّوه إلى الموضع الذي كان فيه".  فردُّوه إلى حبس الإسكندرية.  ولم ينقطع ابن تيمية عن مهاجمة الجاشنكير في سلطنته فكان يهاجمه :( ويقول: زالت أيامه وانتهت رياسته وقرب انقضاء أجله، ويتكلم فيه)  [163] ) .

 وانتهز الصوفية الفرصة فعقدوا له مجلساً بمحاكمته بإشارة نصر المنبجى ، وادعى عليه فيه ابن عطاء السكندري بأشياء لم يثبت عليه منها شيء . وانتهى الاجتماع بأن خيرته الدولة بين السير إلى دمشق أو الإسكندرية بشروط أو الحبس،  فاختار الحبس.  ومع أن السلطة كانت للصوفية إلا أنهم لم يستطيعوا النيل من ابن تيمية أكثر من ذلك. وقد اشتوروا في أمره ، واتفقوا على إرساله للإسكندرية، وهى  معقل الصوفية وحيث لا نصير له هناك، فيقتله أحد أتباع ابن عربي ـ ( فيتخلصون منه دون مشاكل فانقلبت عليهم مقاصدهم الخبيثة وصار له أتباع فيها )[164].

وانتهت هذه المرحلة بسقوط السلطان بيبرس الجاشنكير وعودة الناصر محمد إلى السلطنة . وكان ابن تيمية في المعتقل. وكان الصوفية ــ  وهم أعوان السلطان الغالب ـ أي سلطان غالب ــــ يعدون العدة لاستقبال السلطان الناصر الذى تخلوا عنه من قبل ، كما تخلوا عن الجاشنكير فى محنته .

المرحلة الثانية: فى السلطنة الثالثة للناصر محمد بن قلاوون

1 ــ وكسب الصوفية هذه الجولة أيضاً على حساب ابن تيمية الذي نال من الإيذاء في عصر صديقه الناصر أضعاف ما قاساه في عهد عدوه بيبرس الجاشنكير. وإذا كان الجاشنكير قد بنى للصوفية خانقاه لهم فإن خانقاه سرياقوس التي بناها لهم الناصر محمد أكثر شهرة ومكانة إذا قيس نفوذ الصوفية في العهدين بالمقياس المعماري. وهذا الوضع المقلوب يستدعى وقفة للتأمل..

حقيقة لقد بدأ الناصر محمد عهده بالنيل ممن تألب عليه من القضاة الصوفية ـ إلا أنه ما لبس أن عفي عنهم بتأثير صديقه ابن تيمية [165]  الذي خرج من الحبس معززاً مكرماً إلى فترة من الزمان . ثم ما لبث أن خسر ابن تيمية لأنه كفقيه حنبلى يؤمن بتغيير المنكر باليد والتدخل فى السّلطة لا بد أن يصطدم بالسلطان . ثم ،  لقد حملت شخصية ابن تيمية في داخلها عوامل إخفاقها السياسي بما تمتع به من قوة التأثير في الأتباع وإفراطه فى التكفير لمن يخالفه حتى فى التفصيلات الفقهية الفرعية ، ومواجهة المخالفين له حتى بالسيف، أى يُنازع العقيدة المملوكية فى إحتكارها السلاح واستعماله . لذا كان من المتوقع أن يخشى السلطان منه على نفوذه ، وكان الناصر محمد عائداً إلى سلطنته الثالثة وقد ذاق الأمرّين من تجارب الحكم ، وهو حريص أشد الحرص ألا يعلو رأس في مملكته وأن يقضى في حكمه مستبداً بالأمر، والصوفية من ناحيتهم خير مطية للحاكم المستبد ولا يخشى منهم مناوئاً، فتهيأ الجو لإنجاح مساعيهم ضد خصمهم ابن تيمية.

ونعود إلى التاريخ لترتيب الحوادث.

2- عندما وصل الناصر إلى الحكم لم يكن له دأب إلا طلب الشيخ ابن تيمية من المعتقل فأحضره وأحسن استقباله وأراد قتل من آذاه ولكن الشيخ مازال بالسلطان حتى صفح عنهم .. وزاد نفوذ الشيخ في الدولة حتى عين الأفرم في نيابة طرابلس بإشارته ، وعزل نائب دمشق لأنه شتم بعض فقهاء المدينة [166]، واستفحل خطر الشيعة بالشام فقاتلهم ابن تيمية ، وكتب إلى أطراف الشام يحث على قتالهم، واستمر في حصارهم حتى أجلاهم . وكتب بذلك للسلطان فخشي نفوذه ( لأن الناس اجتمعوا عليه ولو طلب الملك ما بَعُد عنه) وأشاع أعدائه أنه يسعى في الإمامة الكبرى وأنه كان يلهج بذكر ابن تومرت ويطريه)[167].

وكان من الطبيعي أن يستجيب السلطان لدسائس الصوفية ويميل إليهم،  فبنى لهم الخانقاه الشهيرة بسرياقوس وأقيم لافتتاحها حفل عظيم حضره السلطان والقضاة والصوفية وذلك في سنة 725  )[168] ، وفي سنة 726 أمر السلطان باعتقال صديقه السابق بقلعة دمشق بسبب فتوى سابقة عن زيارة القبور[169]،  وتلك أمور يُعنى بها الصوفية ، وذُكرت صريحة في دعوى الاتهام ، مما ينهض دليلاً على ازدياد النفوذ الصوفي.وقد حمل ذلك الاعتقال الأخير كل حقد الصوفية على ابن تيمية ، حيث منعوه من الكتابة ونشر آرائه مما أثر في نفسيته وقد كان يفرح بالحبس حيث يتوفر على العبادة والتأليف) [170] . وجاء ذلك الاعتقال في أخريات حياة ابن تيمية الذي أمضى عمره مكافحاً ضد التتار والصوفية والشيعة ، ولم ترحمه أحقاد "> قيل في ترجمته أنه ( نظر في كلام ابن تيمية فغلب عليه حتى صار لا يعتقد أحداً أعلم منه، وكانت له نفس أبية ومروءة وعصبية ، وطمحت نفسه إلى المشاركة في الملكن وليس له قدم فيه لا من عشيرة ولا من وظيفة ولا من مال .. فلما غلب الظاهر برقوق على المملكة وحبس الخليفة غضب ابن البرهان وخرج في سنة 785 إلى الشام وإلى العراق يدعو إلى طاعة رجل من قريش ، فاستنفر جميع الممالك ، فلم يبلغ قصداً ، ثم رجع إلى الشام فاتبعه كثير من أهلها، وكان أكثر من يوافقه ممن يتدين،  لما يرى من فساد الأحوال والمعاصي والرشوة، وأبرز القائمين معه ابن الجبال الطرابلسي وابن قاسم العاجلي ، وبلغ أمرهم إلى بيدمر نائب الشام ، فسمع كلامه إلا أنه لم يشوش عليه ، وقد وجد نائب القلعة ابن الحمصي منافس بيدمر وعدوه الفرصة في الكيد فاستحضر ابن البرهان وأظهر أتباعه وفهم مقالته، وكاتب السلطان بأمره، فبعث برقوق يأمر بيدمر بتسمير ابن البرهان وأتباعه، فتورع بيدمر، وأجاب بالشفاعة فيهم والعفو عنهم وأن أمرهم تلاشى ولا عصبية لهم . فكان أن بعث ابن الحمصي للسلطان أن بيدمر موافق لهم على العصيان ، فأرسل برقوق إليه باعتقال ابن البرهان وصحبه وأن آل الأمر في ذلك إلى قتل بيدمر . ولما حضر ابن البرهان وصحبه موثقين بالحديد متهمين بالسعي في المملكة ، سأله برقوق عن سبب قيامه، فأعلمه أن غرضه أن يقوم رجل من قريش يحكم بالعدل وأن هذا هو الدين ولا يجوز غيره ، وسأله برقوق عمن معه على مثل رأيه من الأمراء فبرأهم وأردف بالمواعظ ، وعدد للسلطان مظالمه ، فأمر السلطان بمعاقبته هو وأصحابه حتى يعترفوا عمن وافقهم من الأمراء ، وسجنوا مع أهل الجرائم ز ثم أفرج عنهم سنة 791 . واستمر ابن البرهان مقيماً بالقاهرة إلى أن مات سنة 808 وحيداً)  [174]، .

وقد قام أبو يزيد الرمادي بجهد منفرد فدخل العراق ومصر ثم تحول إلى البادية  فأقام بها يدعو إلى الكتاب والسنة فاستجاب له حيار بن مهنا فلم يزل عنده حتى مات واستمر ولده نعير على إكرامه ، ولما حدثت حركة ابن البرهان خشي على نفسه فاختفى بالصعيد، ثم قدم القاهرة وبها مات. وقد كان شهماً قوى النفس ، ومن شعره  الذى يهاجم فيه الصوفية :

ما العلم إلا كتاب الله والأثر              وما سوى ذلك لعين ولا أثر

فعد عن هذيان القوم مكتفياً               بما تضمنت الأخبار والسور[175]

حركة البقاعي ت 885

و البقاعي تلميذ متأخر لابن تيمية حيث قام ينازع صوفية عصره في الربع الأخير من القرن التاسع ، وجهد البقاعي في محاربة الصوفية ينحصر في مبدأين : الكتابة والدعوة الإيجابية بنفسه. ووصلنا من تصنيفات البقاعي في ذلك ( تنبيه الغبي في تكفير ابن عربي )( وتحذير العباد من أهل العناد) وفي المصنفين حمل البقاعي على الاتحاديين وزعيمهم ابن عربي وابن الفارض وقام بالرد على أقوالهم معتمداً على فطنة القارئ، ذلك أنه قليلاً ما يعلق على أقوال الاتحاد الصوفية ، بل يكتفي بالإشارة ، ويورد أقوال من كفّرهم دون أن يكثر من الاستشهاد بأقوال أعداء الصوفية كابن تيمية ، بل اعتمد على آراء المحايدين وبعض الصوفية الذين أعلنوا براءتهم من الاتحادية [176]، وبهذه الطريقة استطاع أن يصل إلى غرضه في الصوفية ، لأن القارئ يدرك فظاعة أقوال ابن عربي في الفصوص ويقتنع بتكفير المحايدين له ولفرقته .ودعوة البقاعي الإيجابية في مقاومة المتصوفة أهمها في تكفيره ابن الفارض شيخ الاتحاديين المصريين وهى ما تعرف فى المصادر التاريخية المعاصرة للبقاعى بكائنة البقاعيوابن الفارض.

ويظهر تحامل المؤرخين [177] على البقاعي ــ الذي جرؤ على تكفير ولى مقدس في القرن التاسع كابن الفارض ـــ  تحاملاً وصل إلى حد التجريح والسَّباب ، إلا أن البقاعي في تاريخه عرض لتلك الحادثة ( الكائنة ) بصورة يظهر فيها الصدق والترتيب المنطقي للحوادث، واتفق في بعضها مع ما أورده المؤرخين الآخرون الذين تجاهلوا سياق تلك الحوادث وذكروا نهايتها مبتورة ومشفوعة بالتشنيع على البقاعي ..

ونتابع البقاعي صاحب الواقعة في سرده لواقعته[178].

أ – بعث البقاعي بخطاب مطول يثبت فيه كفر ابن الفارض بالأدلة والحجج وأرسله لابن الديري يطلب رأيه حتى يلزمه بالوقوف معه إلى جانب الحق .

ب- لجأ الصوفية إلى المكر ، وحاولوا الحصول على كتاب البقاعي لابن الديري ـ بحجة أن أبن مزهر الأنصارى ــ كاتب السر ــ يطلبه ـ وفشلوا . ولكن البقاعي من ناحيته طلب منهم ـ وقد اطلعوا على ما في كتابه ـ أن يردوا عليه.

جـ - عجزوا عن الرد بالحجة فلجأوا إلى أساليبهم التي تفوقوا فيها ـ  والتي يتحرج منها البقاعي وأصحابه من الفقهاء ـ فنشروا الإشاعات وأثاروا الجماهير وأصحاب الجاه حتى صاروا يؤذون البقاعى واصحابه في الطرقات .

د- اقترح زعيم الصوفية الفارضية عبد الرحيم أن عقد مجلس ذكر تسبقه مظاهرة صوفية لإثارة الجماهير ويمرون على بيت البقاعي لتنهبه الغوغاء ، وسقط الاقتراح خشية أن تتطور الأمور لغير صالحهم. ولجأوا إلى طريقة أخرى؛ استكتبوا أعوانهم ، وأذاعوا أن البقاعي قد كفّر المساعد لهم والساكت عنهم ، ليثيروا المحايدين عليه ، ونجحوا في إثارة زين الدين الأقصرائي على البقاعي، الذى فهم أن البقاعى أفتى بتكفيره ، وحدثت بينهما مشادة كلامية.

هـ - ضاقت الحال بالبقاعي فحاول الاتصال بالدودار الكبير ليشرح له حقيقة الحال،وبعض (أهل الخير ) بتعبير البقاعى ــ اجتمع بالدودار وأفهمه حقيقة الاتحادية، فخفّف ذلك عن البقاعي بعض الشيء ، إلا أن نفوذ الصوفية مع ذلك كان غالباً . وتزايد الموقف لصالحهم ، وكاتب السر يخيفه ويرهبه ، إلا أنه ظل على سكينة . فقد أرسل ابن مزهر الأنصارى ـ كاتب السّر ــ  للبقاعي بعض أصدقائه يشير عليه بالرجوع عن رأيه لأن السلطان ومن دونه كلهم ضده ، ورفض البقاعي التراجع وعرض من جانبه أن يقبلوا منه أحد حلول ثلاثة : المجادلة أو المباهلة أو المقاتلة بالسيف في حضرة السلطان والعلماء ، وقرأ على الرسولين بعض كتابات ابن عربي فاستمالهما إلى جانبه .

و- بدأ موقف كاتب السر يتغير، إذ سأله الصوفية أن يكتب لهم ضد البقاعي فرفض إلا بعد أن يسمع أدلة البقاعي، وارسل للبقاعى فاشترط البقاعي أن يكون ذلك بخلوة، فسعوا في عدم اجتماعهما خوفاً من أن يستميله البقاعي للحق .

ز- عمل البقاعي ميعاده في الجامع الظاهري ،واستمال الحاضرين فضجوا بالدعاء على أعدائه ، وابتدأ الميزان يتحول لصالحه ، فقد حاول الصوفية استكتاب قاضى الحنابلة معهم ولكنه أفتى بتكفير ابن الفارض وتابعه في ذلك آخرون . ولما رأت العوام أن أمر الصوفية ابتدأ في التراجع وأن البقاعي لا يزال يقرر رأيه وأنهم عجزوا عن مقابلة حجته خف الهرج . وقد اعترف ابن الصيرفي أن جماعة من الفارضيين حضروا ميعاد البقاعي وأساءوا إليه فشكاهم للحاجب فطلبهم ، وجنّد البقاعي من أتباعه فرقة للدفاع.[179]

ح- واستهلت سنة 875 وحاول السلطان عقد مجلس بسبب ابن الفارض وسأله كاتب السر في ترك ذلك وبذل همته لدى العلماء وسعى لتأخير عقد المجلس، مع أن السلطان صمم على عقده، وانتهى المجلس على لا شيء. واقتنع البعض بأن البقاعي على حق.

1-  ويقول ابن الصيرفي عن ذلك المجلس أن الخصوم منعوا البقاعي من حضور المجلس وأنه ادعى على بعضهم أنه حاول قتله (.. وحصل له بهدلة ما توصف وانفصلوا على غير طائل ولم يحصل للبقاعي مقصوده فإنه مخذول سيما أنه يتعرض لجناب سيدي العارف بالله عمر..[180]). ويقول ابن إياس ( كثر القيل و القال بين العلماء  بالقاهرة في أمر عمر بن الفارض وقد تعصب عليه جماعة من العلماء بسبب أبيات قالها في قصيدته التائية .. وصرحوا بفسقه بل وتكفيره ونسبوه إلى من يقول بالحلول والاتحاد، وكان رأس المتعصبين عليه برهان الدين البقاعي وقاضى القضاة ابن الشحنة وولده عبد البر ونور الدين المحلى وقاضى القضاة عز الدين المحلى وتبعهم جماعة كثيرة من العلماء يقولون بفسقه ) . أي أن البقاعي استطاع أن يضم له هذا الرعيل من الفقهاء ..

2-  إلا أنه أخفق في أن يضم له شيخ الإسلام ـ في عهده - زكريا الأنصاري الذي مثل ذروة النفوذ الصوفي على عقلية الفقهاء في أواخر القرن التاسع الهجري. وقد قام زكريا الأنصاري بدور هام في وأد حركة البقاعي وتفريق من اتبعه ،يقول ابن إياس ( ثم أن بعض الأمراء تعصب لابن الفارض.. فكتب سؤالاً وجهه للشيخ زكريا الأنصاري فيمن زعم فساد عقيدة ابن الفارض فامتنع الشيخ عن الكتابة غاية الامتناع فألح عليه أياماً حتى كتب بأنه يحمل كلام هذا العارف على اصطلاح أهل طريقته وأن ما قاله صدر عنه حين استغراقه وغيبته ) فسكن الاضطراب الذي كان بين الناس بسبب ابن الفارض ، وعزل ابن الشحنة عن قضاء الحنفية وتعرض البقاعي لمحاولة قتل أخرى[181]  .

ثم لجأ زكريا للمنامات الصوفية ليحسّن صورة ابن الفارض بعد الذي أثاره البقاعي عنه . يقول ابن الصيرفي المؤرخ المعبر عن خصوم البقاعي ( وقع لي من وجه صحيح أخبرني به الشيخ العلامة الرباني شيخ الإسلام زكريا الشافعي أبقاه الله تعالى إلى الجناب العلائي على بن خاص بك، أنه ركب إلى جهة القرافة ،ورأى أمامه شخصاً عليه سمت وهيئة جميلة ، فصار يحبس لجام الفرس .. إذ وافى الرجل رجل عظيم الهيئة جداً، فتحادثا ،وانصرف الرجل المذكور .. فسأله سيدي على : " من هو هذا الرجل؟ " فقال له: " أنت ما تعرفه؟" ثلاث مرات، وهو يقول : لا . فقال : هذا عمر بن الفارض في كل يوم يصعد من هذا المكان وهو يسعى في أن الله يكفيه في من تكلم فيه)[182] ..

ولم يكن ( شيخ الاسلام ) زكريا الأنصارى رأساً للصوفيةً في تك الكائنة ، وإنما كان لهم تابعاً وقد سبق رفضه في الكتابة في القضية رغم إلحاح الأمير. يقول الشعراني في ذلك ( وامتنع الشيخ زكريا ، ثم اجتمع بالشيخ محمد الاصطمبولى فقال: اكتب وانصر القوم ( أى الصوفية ) وبيّن في الجواب أنه لا يجوز لمن لا يعرف مصطلح القوم أن يتكلم في حقهم بشرِّ ، لأن دائرة الولاية تبتدئ من وراء طور العقل لبنائها على الكشف) يعنى علم الغيب ـ وعموماً فهذا الموقف من زكريا الأنصاري ينسجم مع تصوفه وموقفه من الفقه والفقهاء رغم كونه شيخاً لهم فهو القائل ( إن الفقيه إذ لم يكن له معرفة بمصطلح القوم فهو كالخبز الجاف من غير أدام ) ومنذ كان شاباً استهوته مجالس الصوفية (حتى كان أقرانه يقولون زكريا لا يجئ منه شئ في طريق الفقهاء)[183].

3-  وقد أحدثت حركة البقاعي في هذه الحقبة الراكدة هزة ظهر أثرها بين القضاة فرجع بعضهم إلى الحق وأيد البقاعي فكوّن منهم (جماعة من أهل السنة ) على حد تعبيره يقول في تاريخه( تخاصم شخص من جماعة أهل السنة يقال له محمد الشغري مع جماعة من الفارضيين من سويقة صفية ، فرفعوه إلى قاضى المالكية البرهان اللقان، وادعوا عليه أنه كفر ابن الفارض، فأجاب بأنه قال بأن العلماء قالوا بكفره . فضربه القاضي بالسياط، وأمر يتجريسه بالمناداة عليه في البلد: هذا جزاء من يقع في الأولياء . ثم توسط القاضي الشافعي لدى المالكي حتى أطلقه من الحبس. وقال ( القاضى ) الشافعي : " أيفعل مع هذا هكذا ولم يقل إلا ما قال العلماء ويرفع إليهم حربي استهزأ بدين الإسلام في جامع من جوامع المسلمين ولا يفعلون به مثل ما فعلوا بهذا مع أنه حصل اللوم في أمره من السلطان ومن دونه ولم يؤثر شئ من ذلك".. هذا كله والحال أن البرهان المذكور قال لغير واحد أن له أكثر من ثلاثين سنة يعتقد كفر ابن الفارض) [184] .

4-  وعدا موقفه من ابن الفارضن كانت للبقاعي وقائع أخرى مع الصوفية ، فكان له دور في إبطال المولد الأحمدي بطنطا اعترف به السخاوي وعبد الصمد الأحمدي[185]، وألمح البقاعي بالحطّ على الغزالي في أن قوله : "ليس في الإمكان أبدع مما كان" كلام أهل الوحدة من الفلاسفة والصوفية ، وكذلك حط على ابن عطاء السكندري[186] ـــ وأنكر على زيادة الصوفية في الآذان وأبطله في كل مئذنة له سيطرة علي مؤذنها . وحاربه الصوفية ونازعوه في حوادث كثيرة ذكرها في تاريخه[187]

 وبعد .. فلقد وضح من النصوص مدى ما عاناه رءوس  الفقهاء ( ابن تيمية والبقاعى و أتباعهما) من تسلط الصوفية ونفوذهم ذلك التسلط الذي يعبر عن روح العصر ورأيه العام ـ. وإن لم يمنع ذلك من ثباتهم على المبدأ.

  وفى الوقت الذي تمتع فيه الاتحاديون بحرية الاعتقاد واضطهاد المعترضين من الفقهاء فإن القضاة ــ  وهم رءوس الفقهاء ــــ خدموا المتصوفة في ذلك الصراع ، بل وكان بعضهم صوفية اتحاديين ، مثل السراج الغزنوي القاضي الحنفي الذي ( كان متعصباً للصوفية الاتحادية وله في ذلك تصانيف وعزر ابن أبى حجلة بسبب كلامه في ابن الفارض 9[188]) وكان قاضى القضاة ابن ميلق الصوفي الشاذلي يؤذى الفقهاء [189] ..

كان ذلك في القرن الثامن الذي شهد صراع ابن تيمية مع الصوفية وانتهى بانتصارهم فجاء القرن التاسع ليشهد تحول كثير من الفقهاء عن مواقعهم ودخولهم في دائرة التصوف كما يقول السخاوي عن الفقيه ابن صديق ( وقد كان من المشتغلين بالفقه .. وبلغني أنه في هذه السنين تحول عن طريقته فسلك التسليك والشياخة الصوفية وكأنه لمناسبة الوقت  )[190]..وعبارة السخاوى ( وكأنه لمناسبة الوقت ) تعبير ظريف عن تسيّد التوصف فى القرن التاسع . وزكريا الانصارى شيخ الفقهاء السنيين الرسمي كان مريداً صوفياً يقول عن نفسه ( فأشار على بعض الأولياء بالتستر بالفقه .. فلم أكد أتظاهر بشيء من أحوال القوم إلى وقتي هذا)[191] . أي أنه كان محسوباً على الفقهاء ليعمل ضدهم وذلك ما حدث فعلاً في واقعة البقاعي ..

  ومع الضجة التي أثارتها واقعة البقاعي فإن الأمور عادت إلى ركودها وأشد فاضطُّهد من يقول مقالته كما حدث لفقيه أعلن ـ بعد موت البقاعي ـ أنه يجب إحراق كتاب الفصوص لابن عربي فامسكوه وأرادوا تكفيره  .. وآل أمره إلى أن عزروه )[192]..

أمراء المماليك بين الصوفية والفقهاء :ـ

1-  وأخذ بعض أمراء المماليك بنصيب فردى في ذلك الصراع، وانضم بعضهم إلى جانب الصوفية وأيد آخرون الفقهاء ، إلا أنهم جميعاً تمتعوا بالجهل المفرط . ولعل انضمامهم إلى هذا الفريق أو ذاك  جاء بجهد الصوفية والفقهاء ،بالإضافة إلى الاستعداد الشخصي لكل منهم .

2-  وقيل في ترجمة أزدمر الطويل أنه (كان يقرأ قراء الجوقة وكان يخوض فيما لا يعنيه مع عقيدة واستخفاف بأمور الدين وتنكيل بكثير من الفقهاء وازدرائهم )[193] ، وانضم قاسم ابن قطلبغا للاتحادية في فتنة ابن الفارض [194]، وقبله كان لاجين الجركسى يناضل عن أتباع ابن عربي وله أتباع في ذلك، وكان يطمح للسلطة ووعد بأنه إذا تولى يحرق كتب الفقهاء ،وأول من يعاقب شيخ الإسلام البلقيني [195]، وقال فيه أبو المحاسن ( كان يعد الناس أنه إذا ملك مصر يبطل الأوقاف التي على المساجد والجوامع ويحرق كتب الفقه ويعاقب الفقهاء ويولى مصر قاضياً واحداً من الحنفية .. وكان يتمعقل ويدعى العرفان مع جهل مفرط وخفة عقل) [196] ..

3-  وفي الناحية المقابلة يطالعنا تغرى برمش الذي كان يتعصب للحنفية مع محبته لأهل الحديث وإكثاره الحط على ابن عربي بحيث صار يحرق ما يقدر عليه من كتب الاتحادية ، مع أنه لم يكن بالماهر في العلم ، وقام في هدم البدع الاعتقادية، وكان أعداؤه يقعون فيه كثيراً ، ونالته الألسن كثيراً بسبب ذلك.  وكان السلطان المؤيد شيخ يعظمه ورتبه مدرساً فتخرج به جماعة من الجراكسة [197] ، ونفوذ التصوف واضح هنا أيضاً فمع أن تغرى برمش كان أميراً مملوكياً يتمتع بتعظيم السلطان فإن أعداؤه من الصوفية كانوا (يقعون فيه كثيراً ) وينالونه بألسنتهم لذمّه في ابن عربي ، ولم نلحظ في سيرة لاجين الجركسى الصوفي عدو الفقهاء ـ صوتاً يعاديه .. مع ما كان للأمراء الصوفية من استخفاف بالدين وتنكيل بالفقهاء .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ف 2 : استغلال الصوفية نفوذهم السياسي ضد النصارى  

كتاب : أثر التصوف السياسى فى الدولة المملوكية

الفصل الثاني : استفادة الصوفية سياسياً

استغلال الصوفية نفوذهم السياسي ضد النصارى  

فى التصوف تسامح فى الحرية الدينية، وتسامح فى الحرية الشخصية ، وعندهم عقيدة ( عدم الاعتراض ) المُناقضة لعقيدة ( تغيير المنكر ) لدى السنيين والحنابلة منهم خصوصا ، وهى العقيدة التى كانت تُحرّك ابن تيمية ضد الشيعة و الصوفية . ولكن تسيّد التصوف وعلو نفوذ أربابه وتسلطه ودخول الكثرة الكاثرة فيه جعلتهم يضطهدون أهل الكتاب ، وخصوصا النصارى . ويمكن أن نجد للصوفية بعض التبرير فى إضطهادهم لابن تيمية والبقاعى وأتباعهما لأن هؤلاء الفقهاء السنيين هم الذين بدءوا بالهجوم والتكفير فلجأ الصوفية للمواجهة دفاعيا وإستعمال نفوذهم كما سبق ذكره .ولكن لا نجد عُذرا لأولئك الصوفية الذين قاموا بحركات إضطهاد فردية وجماعية ضد النصارى ، سوى أن بعض النصارى كان عندما يصل الى الجاه فى الدولة المملوكية يقوم بإضطهاد من يستطيع الايقاع به من ( المسلمين ) .

وبيئة التعصب تنتج نفسها بنفسها ، والمجتمع الذى يسوده التعصب الدينى والمذهبى يقوم بتعذيب نفسه بنفسه .و لا حل هناك إلا بتقرير الحرية الدينية المطلقة كما أرساها الاسلام ، تحت شعار ( لا إكراه فى الدين ) و ( لكم دينكم ولى دين ) .

على أن هذا التعصب كان يحدث ـ غالباً ـ في أوقات أمن فيها المتصوفة من انتقام النصارى والسلاطين ، وفترة تحكم النشو ـ أصدق شاهد على هذا .. فالنشو كان نصرانياً تظاهر بالإسلام وتولى نظارة الخاص في سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الثالثة . وتقرب إليه بالوشايات والأموال التي يصادرها من الأعيان والمغضوب عليهم ، وازداد نفوذه وكثر الناقمون على طغيانه وظلمه ونال من الصوفية ، لأن السلطان في أيامه كان يسمع له ويطيع ، حتى عندما بلغه أن الناس تجتمع مع الوعاظ في المساجد لتدعوا الله عليه، فلم يزل بالسلطان حتى منع الوعاظ بأجمعهم من الوعظ . وبلغ تحديه للصوفية مداه حين أخرج صوفياً كردياً معتقداً للشام منفياً ، وقبض على شيخ خانقاه بهاء الدين أرسلان بالإسكندرية واتهمه بتهمة باطلة [198] ..

ومع ذلك كله ومع تحكم النشو وآله في رقاب المسلمين انعدم صوت التعصب ضد النصارى ليرتفع في أوقات لهم فيها السطوة والنفوذ .. وسيعرض البحث  للحركات الفردية الصوفية ضد النصارى ثم يتوقف عند حركة الشيخ عبد الغفار بن نوح كحركة جماعية عامة لها ذيولها الداخلية والخارجية ..

حركات فردية

1-  وبدأ الشيخ خضر العدوى ت 672 ) حركات التعصب الصوفية اعتماداً على نفوذه في دولة الظاهر بيبرس وعلى ما أثارته حروب الظاهر بيبرس من حماس ديني ، فهدم كنيسة الروم بالإسكندرية وكانت تعقد فيها ( البتركية ويزعمون أن رأس يحيا بن زكريا عليه السلام فيها ) وصيرها مسجداً وسماها ( المدرسة الخضراء) وأنفق في تعميرها الأموال الكثيرة من بيت المال [199].

2-  سنة 687 وقع بعض وجهاء النصارى في حق النبي عليه السلام وقام في دفع القتل عنه والى البلد فقام ابن ناشئ في ذلك ومشى والعوام خلفه إلى دار الوالي ولم يزل كذلك حتى قتل النصراني[200] .

3-  سنة 723 جاء الشيخ ضياء الدين الدريندي إلى مصر لأنه أولع بشاب في الشام فغاضبه فجاء ليجاهد النصارى في مصر فقتل نصرانياً بالقلعة فدخلوا به للسلطان فظنه جاسوساً فقتله.[201]

4-  حركة البكرى سنة 714 ــ بلغه أن النصارى قد استعاروا من قناديل جامع عمرو شيئاً فهجم على الكنيسة ونكل بالنصارى فيها وعاد إلى جامع عمرو فأهان موظفيه. وعُقد له مجلس أمام السلطان الناصر محمد بن قلاوون ، فأغلظ البكرى للسلطان فأمرالسلطانبقطع لسانه ، فانهار وانقلب يستغيث بالأمراء حتى رقُّوا له ، وتشفعوا فيه ، فأمر السلطان بنفيه ، وقد كان البكرى يشدد على ابن تيمية عند محنته بالقاهرة ويؤذيه وينال منه [202].

5-  سنة 785: أهان نصارى قرية برما مؤذن المسجد ، فجاء للقاهرة يشكوهم مع بعض مسلمي القرية فسجنهم الأمير جركس الخليلي صاحب الإقطاع  التابع له تلك القرية . فتوجه المؤذن الى الشيخ الصوفي ابن الميلق، فتوجه ابن الميلق للأمير وأغلظ عليه وأعلم السلطان ،فأنكر على الخليلي ، وانتهى الأمر بمقتل المعتدين من النصارى [203]..

6-  وكان البوصيري الشاعر يناصب أهل الذمة العداء ، وطالما هجا الفريقين في قصائد مستقلة أو في أبيات متفرقات [204] رغم أنهم كانوا يداهنونه خوفاً من لسانه ..

7-  سنة 838 ( كائنة الشيخ سليم ) وموجزها أن النصارى جددوا كنيسة لهم في الجيزة، فقام الشيخ سليم وهدمها بأعوانه، فاشتكاه النصارى عند السلطان وسعوا به حتى أهين. فاشتد ألم المناصرين له ،  خاصة وقد أذن  بعض القضاة للنصارى في إعادة بناء ما تهدم [205].

8-  حركة ناصر الدين الطنتاوي : ـ قام في هدم دير العطش الذي تعظمه النصارى وتحج إليه كل عام ويجتمع هناك المسلمون والنصارى للفرجة والتجارة ، مما أثار غيرة الطنتاوي ، لأن ذلك الدير منافس لما يحدث في مولد البدوي في طنتدا، فكتب محضراً يرجو هدم ذلك الدير ، فلم يتفق له ذلك ، إلا أنه لم ييأس ، وعاود سعيه حتى رسم بهدم الدير، فهدم [206]  ..

9-  وكان الشيخ ( النعمان ت 852 نقمة على أهل الذمة فيما يجددون في كنائسهم ، فقام في هدم كنيسة النصارى الملكيين بقصر الشمع حتى صارت جامعاً ، ولم يبق في قصر الشمع ولا في دموة ولا في المدينة كنيسة إلا وقد شملها منه هدم أو بعض هدم )[207]

حركات جماعية

كان شيوخ  الصوفية ينتهزون فرصة الأوبئة والمجاعات لإثارة السلطة على النصارى واليهودبإعتبارهم سبب النكبات ، ويصدقهم السلطان ، فيضيق على اليهود والنصارى في الزى ويشتد في إيذائهم .

وفيما عدا ذلك تذكر دور الصوفية في الإحراق العام للكنائس المصرية سنة 721 .

مؤامرة الشيخ عبد الغفار بن نوح القوصي لحرق الكنائس المصرية:ـ

 وقد خطط لذلك ونفذه أتباعه في وقت واحد عام 721 ، وفى المدن المصرية التي بها كنائس.

 ففي كل مدينة بعد صلاة الجمعة والناس مجتمعون ــــ أي في ساعة الصفر ــــ يقوم مجذوب صائحاً مضطرباً داعياً لحرق الكنائس ، وحين يتوجه الناس إلى الكنيسة يجدونها قد سويت بالأرض، فيتعجبون ويعتبرونها كرامة لذلك المجذوب. وقد ذكر العيني أسماء الكنائس التي هدمت ، وهى ستون كنيسة  مصرية ، ولم يسلم غير الكنيسة المعلقة بارسكندرية . وقد سئل عبد الغفار في ذلك فقال ( كثر فسادهم وزاد طغيانهم فنودى بالانتقام منهم) [208] . وسرت حمى هدم الكنائس بين العوام ، حتى خشي السلطان أن يفسد عليه أمر مملكته ، فأقنعه الأمراء والقاضي بأن ذلك: " أمر الله وإلا فكيف يقع كل هذا في وقت واحد ، وإذا أراد الله أمراً فلا راد لقضائه".

ولم يقتنع النصارى بهذا التفسير ، وفطنوا إلى أن ذلك مخطط نُفّذ بإتقان ، فقاموا بإشعال الحريق في نواحي مختلفة من القاهرة فى المساجد والمؤسسات الصوفية ، ولا يكاد يفرغ الناس من حريق حتى يفاجئهم حريق أخر، واعتقد المسلمون أنها إرادة الله، إلا أنهم فوجئوا بقنبلة كبيرة ملوثة بالنفط قد ألقيت ، كل ذلك مع توالى الحرائق في الجوامع والمدارس، يأتي الحريق من أي منفذ في المبنى بما يلقى من خرق ملفوفة بزيت وقطران ، فاتفقوا على اتهام النصارى.  وضبط بعض الرهبان متلبسين فأقروا ، فأحرق أربعة منهم، وشرع الناس في إيذاء النصارى وبالغوا في ذلك ، فأمر السلطان بتوسيط جماعة كيفما اتفق . وكان منهم بعض المتعممين والتجار ، فشفع في بعضهم وعوقب الآخرون . وقامت الحرائق من جديد وقبض على ثلاثة من النصارى واعترفوا ، فثارت العامة على السلطان، وواجهوه بصيحة رجل واحد بالدعوة لنصر دين الله، فخشع لهم السلطان وسمح بقتل كل من وجد من النصارى ، ثم قيّد ذلك الحكم بمن يلبس العمامة البيضاء ومن يركب دابة من النصارى ، وفرض عليهم ألا يركب أحدهم الحمار إلا مقلوباً ولا يدخلون الحمامات إلا وفي رقابهم جرس ، وألا يتزيا أحدهم بزى أهل الإسلام ، ونودي بعدم استخدامهم إلا إن أسلموا، وصُرف جميع المباشرين من النصارى في الأقاليم..[209]

وقد كان لإحراق الكنائس المصرية ذيولها السياسية التي انعكست على العلاقات الخارجية بالحبشة وعلاقة الحبشة بالإمارات الإسلامية هناك ، ذلك أن ملك الحبشة كان يعتبر نفسه مسئولاً عن حماية الأقباط المصريين لأنه يتبع الكنيسة المصرية مذهباً ، وكانت مصر ترسل له بطريكاً مصرياً للإشراف على الكنيسة الحبشية [210]، وعندما علم ملك الحبشة ( عمد صيهون ) بما حدث من إحراق الكنائس المصرية بعث للناصر محمد باحتجاج شديد اللهجة يهدد فيه باتخاذ إجراءات مماثلة ضد مسلمي الحبشة وتحويل مجرى النيل ليجيع مصر، غير أن الناصر لم يعبأ بهذا الاحتجاج وطرد السفارة الحبشية ، فبدأ عمد صيهون الحرب ضد الإمارات الإسلامية بالحبشة، وتابع خليفته وابنه (سيف أرعد ) أعماله العدوانية ضد التجار المصريين والمسلمين بالحبشة ، واعترض طريق القوافل بين القاهرة وشرق أفريقيا المارة به [211]

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ف 2 : المماليك يقيمون للصوفية العمائر الدينية

كتاب : أثر التصوف السياسى فى الدولة المملوكية

الفصل الثاني : استفادة الصوفية سياسياً

المماليك يقيمون للصوفية العمائر الدينية

مدخل:ـ

    قبض الصوفية ثمن تحالفهم مع السلطة المملوكية على شكل نفوذ سياسي عرضنا له , بالإضافة  للمؤسسات الصوفية التي أقامها المماليك لهم تجسيدا حيا للتحالف بين الفريقين على حساب الشعب المحكوم. ومن الطبيعي أن تعبر تلك العمائر عن دين التصوف  ففيها مورست طقوس التصوف  وحفلات الرقص والسماع وأقام فيها أرباب المتصوفة وجماعاتهم .ومؤسسات التصوف تعبر بصدق عن مدلول (المعابد) . فالمعبد يقام في كل ناحية يحمل اسم الإله أو الولي المقدس في ناحيته ويضم في ردهاته الكهنة والرهبان ، وأؤلئك ينعمون برعاية الحاكم المسيطر ويأكلون من الأوقاف ويعملون من ناحيتهم على إخضاع الشعب لسلطة الحاكم ، والشعب يقبل عن طيب خاطر توجيهاتهم ويقدم لهم النذور والقرابين ويعتقد في نفوذهم السماوي فهم عنده جواز المرور للجنة .وهذا كله مخالف للاسلام . ولا يقتصر الأمر على كون تلك المؤسسات الصوفية معابد لتقديس الآلهة الصوفية ، بل لأنها كانت ثمنا لتعاون الصوفية مع المماليك ( الظالمين ) فإن إنشاء تلك ( المعابد ) كان بالظلم وبالمال الحرام السُّحت .وهذا يحتاج بعض التقصيل .

ملاحظات حول إقامة المؤسسات الصوفية

1ـ هناك ارتباط بين شدة الظلم المملوكي وكثرة إنشاء المعابد الصوفية ، وقد لفت ذلك نظر المؤرخين في العصر المملوكي يقول أبو المحاسن ــ وهو شاهد على عصره ــ عن سلاطين المماليك : ( "_ftnref214" title="">[214].

  ولم يكن الناصر فرج أقل ظلماً من جمال الاستادار فقد ( نودي في القاهرة ألا يعمر أحد من خلق الله إلى أن تتم عمائر السلطان فرج) ومنع بيع المؤونة (فحصل بذلك ضرر كثير للناس)[215] .

وأصبحت عادة مملوكية أن يقترن إنشاء المؤسسة الصوفية بسرقة ما أقامه السابقون وغصب الرخام من البيوت ..فلما بنى المؤيد شيخ جامعه ( حصل للناس بسببه غاية الضرر لأجل الرخام ، وصار المؤيد يكبس الحارات التي بها بيوت المباشرين وأعيان الناس بسبب الرخام ، وكان والي القاهرة يهجم على الناس في بيوتها ومعه المرخمون (صناع الرخام) فيقلع رخام الناس طوعاً أو كرهاً . وأخرب دوراً كثيرة ثم قلع باب مدرسة السلطان حسن التي في القبو وجعله على جامعه وأخذ التنور الكبير النحاس منها أيضا ... وأخذ العمود السماقي من جامع قوصون... ونقلت أشياء كثيرة من أعتاب ورخام من مساجد بمصر العتيقة)[216].

   وعلق ابن إياس على ذلك بقوله "فكان كما قيل في المعنى : ـ

بنى جامعاً لله من غير حله                         فجاء بحمد الله غير موفق

كمطعمة الأيتام من كد فرجها                 فليتلكِ لا تزني ولا تتصدقي[217]..

  وهو نفس التعليق الذي أورده أبو المحاسن على زين الدين الاستادار الذي (استولى على معاش الفقراء وأرباب التكسب وصار هو يأخذها ثم يبيعها بأضعاف أضعافها، حتى جمع من هذا المبلغ الخبيث أموالا كثيرة وعمر منها الجوامع والمساجد والسبل) ويقول فيه أبو المحاسن : فهو كما قال الشاعر :

 بنى جامعا لله من غير ماله  

                                 فكان بحمد الله غير موفق

كمطعمة الأيتام من كد فرجها     

                                 لكِ الويل لا تزني ولا تتصدق[218].

  وذلك يدل على وجود الإنكار في العصر المملوكي وإن لم يستطع أحد تفسير السبب في الجمع بين الظلم وبناء المؤسسات الدينية .

ويذكر أن زين الدين الاستادار هذا اشتهر بالاثنين معاً : الظلم وكثرة العمائر يقول فيه أبو المحاسن أنه (حسَن للسلطان أخذ جميع الرزق ( أى الأوقاف الخيرية ) التي على وجوه البر والصدقة . وبضواحي القاهرة ، وبتأثيره على السلطان عم البلاء غالب المسلمين حتى الجوامع والمساجد والفقهاء والفقراء وغير ذلك . ولما أثرى وكثر ماله من هذه الأنواع أخذ في عمارة الأربطة والجوامع والمساجد ، فعمّر جامعه بالقرب من داره بين الصورين عند باب سعادة ، ثم جامعه الذي بخط بولاق على النيل ، ثم جامعه الذي يخط الحبانية على بركة الفيل ، وفي غير القاهرة عدة أملاك وسبل ومساجد تفوت على الحصر , كل ذلك وهو مستمر على ما هو عليه وزيادة إلى أن كانت نكبته )[219]..

   وقد بنى الأمير أقبغا المدرسة الأقبغاوية وجعل فيها صوفية . يقول فيها المقريزي ( وهى مدرسة مظلمة ليس عليها من بهجة المساجد ولا أنس بيوت العبادة شيء البتة) وذلك لأن أقبغا ـ حسبما يصفه المقريزي ـ ( كان من الظلم والطمع والتعاظم على جانب كبير) . وقد سخر في عمارة مدرسته كل صانع بالقاهرة ومصر : (وأقام بها أعواناً لم يُر أظلم منهم ، كانوا يضربون العمال ، وحمل لها الأصناف من الناس،  فكانت بين غصب وسرقة . ومع ذلك فإنه ما نزلها قط إلا وضرب فيها من الصناع عدة ضرباً مؤلماً , ويعبر ذلك الضرب زيادة على شدة عسف مملوكه الذي أقامه شاهداً بها ... فلما تمت جمع بها القضاة والفقراء ـ يعني الصوفية)[220].

وقاسى العمال الفقراء  من السخرة والضرب في بناء تلك المنشئات الدينية  كما نلمح من النص السابق، حتى أن شدة الأمير قان بردى الأشرف في تسخيرهم دفعت المؤرخ المملوكي الارستقراطى أبا المحاسن إلى الاحتجاج الذي نحسه من النص التالي ( ابتدأ الأمير سيف الدين قان بردى الأشرف في عمارة تربة عظيمة عند الريدانية (العباسية ) وشرع في ذلك أيام يسيرة ، ومع هذا ظلم في تلك الأيام الظلم الزائد وعسف الصناع وأبادهم بالضرب وباستعمالهم بغير أجرة ، فما عفّ ولا كفّ ، إلى أن أخذه الله أخذ عزيز مقتدر [221].

3- واقترنت سيئات أخرى بالظلم مثل الرشوى فوصف يونس الداودارى بأنه ( كان يحب المال، ويأخذ الرشوة ، وعمّر مدرسة وخانقاه ورباطاً وزاوية وتربة وأحواض سبيل بالديار المصرية والشامية )[222].

وبعضها إقترن بالشذوذ الجنسى الذى كان منتشراً بفعل الصوفية، وأدمنه بعض أرباب الدولة ، ومنهم السلطان الناصر محمد بن قلاوون ، حتى يقال في حوادث سنة 735 ( وفيها كثر شغف السلطان (الناصر محمد)  بمملوكه الطنبغا الماردينى شغفاً زائداً فأحب أن ينشئ له جامعاً) .. وهكذا ارتبط الشذوذ الجنسى  بإنشاء جامع الماردينى المشهور، وارتبط بالطبع بالظلم فقد وصف المقريزي أصناف الظلم التي واكبت إنشاء ذلك الجامع[223].

4- وأسهم الظلم بطريق غير مباشر في ازدهار العمائر الدينية والوقف عليها .. ذلك أن المصادرات كانت أبرز سمات الانتقام من المهزوم أو الحصول على الأموال من الأغنياء والمباشرين فتحايل المماليك ـ سلاطين وأمراء ـ على تحصين أموالهم من المصادرة بعد وفاتهم بالبناء والوقف عليها وجعل ورثتهم متمتعين بعائد الوقف مشاركين فيه ، فكان أن استشرى الوقف على الأراضي الزراعية المصرية وأقيمت مؤسسات دينية تتعيش من ذلك الوقف . ومع ذلك فقد احتال الغالب على سلب أوقاف عدوه المغلوب بتشجيع القضاة المتصوفة، إذ  كان يتم استبدال الوقف ـ على الورق ،  أو يغّير كتاب الوقف على المؤسسة الدينية كما ذكرنا في حادثة الناصر فرج وخانقاه جمال  الاستادار ..

5ـ وفي نهاية العصر المملوكي حيث ساد التصوف ارتفعت القباب على الأضرحة فاضطر الشعراني  لأن يقول في رسالته (للمغترين) من صوفية القرن العاشر عن السلف الصالح (ولم يكن أحدهم يبنى على قبره قبة ولا يعمل له مقصورة ولا يزخرف له حائطاً ولا يجعل له في طبقات قبته قمرية خلاف ما حدث من بعض متصوفة زماننا وربما كان ذلك من مال بعض الظلمة .. فقد قالوا : كم من ضريح يزار وصاحبه في النار)[224]    . أي أن الظلمة أسهموا في بناء أضرحة لأشياخ هم على قيد الحياة ..

6- ومن الطبيعي أن يهتم الواقف على المؤسسة الصوفية بإلزام الصوفية فيها بالدعاء له للتكفير عن ظلمه وفي اعتقاده أن ذلك كفيل بالغفران له مهما ظلم . وقد ورد في وثيقة وقف الغوري (ويتولى شيخهم الدعاء فيحمد الله سبحانه وتعالى  ثم يصلي كثيراً على نبيه ويهدي ثواب القراءة إلى حضرته الشريفة ثم في صحيفة مولانا السلطان  .. ثم في صحيفة نجله وصحيفة كريمته المرحومة خوند الصغرى)[225].

7- على أن بعض المماليك ـ من معتقدي الصوفية ـ أقاموا لهم المؤسسات من واقع تقديسهم للمتصوفة ورغبة في الحصول على شفاعتهم في الآخرة حسب الاعتقاد السائد في العصر المملوكي . فالظاهر بيبرس بنى لشيخه خضر زاوية بالقاهرة وزاوية بالحبشة وزاوية على الخليج[226] .

وأحب عز الدين الأقرم الفقراء فبنى لهم ( الربط والخوانق والزوايا والمدارس والمساجد والجوامع)[227]

وعمّرت خوند مُغل للشيخ مدين ( مدرسة وزاوية ومدفنا ، وغرمت عليها أموالاً كثيرة  في الرخام والأحجار والذهب واللازوارد والأخشاب وأوقفت عليها أوقافا. )[228].

   وكان يونس النوروزي ( كثير الإكرام للفقهاء والفقراء، وعمّر مدرسة وخانقاه ورباطاً وزاوية وتربة وسبيلا )[229] . ( وكان الأمير يحي بن عبد الرزاق براً بالفقراء ( أى الصوفية ) فعمّر عدة مدارس وجوامع وربط )[230] وأقام شيخون الخانقاه الشيخونية لشيخه أكمل الدين البابرتي[231]..

وموعدنا مع تفصيل أكثر لأثر التصوف المعمارى فى مصر المملوكية .  



[1]
ـ المنهل الصافي : مخطوط 5/ 17 ، تاريخ ابن الفرات 9/2/ 423 ، النجوم الزاهرة 12 / 146 .نزهة النفوس 1/419 .

[2]ـ الضوء اللامع 1/ 369 : 370 .

أثر التصوف السياسي في الدولة المملوكية
فكرة عن الكتاب
كان بابا من أبواب رسالة الدكتوراة التى نوقشت فى قسم التاريخ جامعة الأزهر فى اكتوبر 1980 . بعد حذف ثلثيها. وقد نشرنا معظم المحذوف فى كتاب ( اثر التصوف فى الحياة الدينية فى مصر المملوكية ) وننشر الآن الباب الأول من الرسالة التى نوقشت عن اثر التصوف السياسى فى الدولة المملوكية . ولم يسبق نشره من قبل. وأنشره كما هو بالصيغة المكتوب بها عام 1977 مع بعض تعديلات ، ومع حذف فصل كبير عن الصراع السياسى بين التصوف السنى والتصوف الشيعى وحركة السيد البدوى الفاشلة التى كانت تعمل لتأسيس دولة شيعية فى مصر على نسق الدولة الفاطمية . وهذا الفصل المحذوف كان أول كتاب أنشره فى مصر عام 1982 بعنوان ( السيد البدوى بين الحقيقة
more