رقم ( 23 )
ج 3 ف 3 انحلال المجتمع المصرى المملوكى بتأثير التصوف .

 

  الفصل الثالث : انحلال المجتمع المصرى المملوكى بتأثير التصوف .

انحلال القضاء فى العصر المملوكى بأثر التصوف : 

 القضاة وظيفيا:

          1 ــ القضاة فى أى عصر هم ضمير المجتمع وحراس الفضيلة والعدل فيه ، أو هذا ماينبغى أن يكون ، وإذا لحق التلوث بمجتمع القضاة والعلماء فمعناه أن الوباء قد أفنى الباقين .

مقالات متعلقة :

          والقضاة فى عصرنا المملوكى كانوا يؤمنون بالتصوف ، بل كانوا الحراس له ضد الفقهاء الحنابلة السنيين المتمردين على شطحات الصوفية ، وقد عانى ابن تيمية وصحبه الكثير من قضاة عصرهم ، فهم كانوا حراس العقيدة الغالبة والدين المسيطر ، والعقيدة كانت عقيدة التصوف ، والدين كان دين الصوفية ، ومن الطبيعى بعدها أن يكون القضاة الصف التالى مباشرة للأولياء الصوفية ، وإذا طبق الصوفية انحلالهم الخلقى دينا وسلوكا فالقضاة هم أول الناس اقتداء بهم .

           ومن ناحية أخرى لم يعد المجال متاحا أمام الفقيه النابغ الذى لا تأخذه فى الحق لومة لائم ، فقد أخفق هذا النموذج بانهزام ابن تيمية الفقيه السنى أبرز فقهاء العصر المملوكى ، وقضى حياته بين حبس ونفى واضطهاد ومؤامرات . وفى نفس الوقت فإن التصوف ــ وهو الدين المسيطرــ يعطى النموذج للقاضى المناسب للحاكم والمحكوم ، إذ هو فقيه متواضع العلم خانع للسلطة يأتمر بأمرها ، ويستريح الجميع من قلاقل ابن تيمية وأشباهه ، والحاكم المملوكى يجد فى التصوف وقضاته مايريد ، فهو حاكم يتمسح بالإسلام ويريد فى نفس الوقت أن يمارس غرائزه الجسدية وأن يظلم الرعية ويدخل الجنة ، والتصوف يقدم له هذه العملة الصعبة ، فهو يرفع شعار الإسلام ويمارس كل مانهى عنه الإسلام ، ويطبق الشريعة بهذه النوعية ، وكان من القضاة الصوفية أولئك الذين يحرمون ماحرمه الحاكم ولو أحله الله ويحلون مايريده السلطان ولو أغضب الله .. والإفاضة فى هذا الموضوع يخرج عن موضوعنا .

           2 ــ ومقاييس اختيار القاضى المملوكى لم يكن منها عدالة القاضى وأمانته وعلمه ونزاهته ، بل على العكس كان اختيار القضاة يتم بالرشوة وتوارث المنصب ، وإذا تولى القاضى بالرشوة فلابد أن يطمع فى استرداد مادفع من أموال ، ولن يكون ذلك إلا على حساب العدالة . يقول المقريزى فى حوداث 830( خُلع على ابن حجى واستقر فى قضاء القضاة بدمشق عوضا عن أبيه ، وهو شاب صغير لم يستتر عذاريه بالشعر ( أى لم تنبت لحيته) لكن قام بمال كبير( أى قدم رشوة كبيرة )  ، فلم يلتفت مع ذلك لحداثة سنه ولا لكونه ماقرأ ولا درى ، وقديما قيل :

تعـد ذنوبـه والذنـب  جمُ             ولكن للغنـى رب غفـور [1] .

            فهذا الطفل أصبح قاضيا للقضاة فى مصر وورث منصب أبيه بالرشوة  مع كونه صبيا لا يعلم شيئا وما تعلم شيئا .

ولم تكن تلك هى الحالة الوحيدة التى ذكرها المقريزى ، فقد سبقتها حالة مماثلة سنة 825، والمقريزى المؤرخ كان قاضيا وتولى الحسبة ، وهى شهادة منه على عصره ، ومثله العينى قاضى القضاة ، وهو يقول عن زميله قاضى القضاة جمال الدين يوسف الحنفى ( أنه حصل جملة من الوظائف) أى بالرشوة ( وأعطى السلطان وظائفه جميعها لابنه الصغير)[2]. وكان ذلك سنة 829 أى كان أمرا عاديا يتكرر دون إنكار من داخل النظام الحاكم . ولكن جاء الإنكار من خارج السلطنة ، ففى حوادث سنة 838 هجرية أن السلطان شاه رخ ( أنكر على السلطان برسباى أخذ الرشوة من القضاة )[3]..

            لقد أصبح القضاء من جملة المناصب التى  يتقلب فيها شيوخ الخوانق الصوفية الرسميون ، وربما يحصل أحدهم على عدة مناصب من بينها القضاء والتدريس والتصوف والمؤسسات الصوفية ، وفى حوادث 823 تعيين الشيخ البساطى شيخ الخانقاه الناصرية فرج قاضيا للقضاة المالكية [4]. وكان القاضى ابن الديرى ت 867 شيخا للخانقاه المؤيدية للتصوف والتدريس[5]. أى كانت الدولة المملوكية تبيع المناصب للراغبين، ومنها منصب القضاء ، وتحدث حركة تنقلات من المؤسسات الصوفية ووظائفها التعليمية الى منصب القضاء ، أويرث المنصب ابن القاضى المتوفى إذا دفع ابنه الرشوة بغض النظر عن مقدار علمه أو عمره أو كفاءته .

            3 ــ ومن الطبيعى أن يفرز ذلك النظام طائفة من القضاة الجهلة والأميين، فيحكى أبو المحاسن عن القاضى ابن السفاح ت 835  أمورا تظهره مخبولا جاهلا [6].ويقول المقريزى عن قاضى القضاة الهروى أنه ( ظهر نقصه وعجزه مع طمع شديد وجهل بما أسند إليه بحيث كان لايحسن قراءة الشكاوى ولا الكتابات الواردة إليه، فتولى عن ذلك نائبه)[7]. وقيل فى القاضى ابن الكويز ت 816 أنه( كان عاريا من العلم يكثر الصمت بين الفقهاء خوفا  من اللحن فى كلامه ، وكان لايحفظ من القرآن إلا القليل) [8].

             4 ــ وماأسهل أن يتخاصم أولئك القضاة ويدعى بعضهم على بعض ، فيذكر ابن حجر أن بعضهم ادعى على شمس الدين الرازى الحنفى بأنه وقع فى حق النبى (ص) ، ثم ادعى عليه قاض آخر أنه قال له : أنت يهودى ، وحوكم وقامت عليه البينة فعُزر وحقن دمه[9]، وتكرر نفس الموضوع فى عصر الغورى سنة 619 ( وقع أحد نواب الحنفية فى حق النبى (ص) بكلمات ، فبلغ السلطان ، وعندما طلع السلطان للتهنئة بالشهر أمرهم بإحضار ابن الرومى الحنفى وقد اختفى)[10]. أى كان من السهل أن يقع أولئك القضاة فى سب الرسول (ص). وجاء فى حوادث 786 ( وقع بين القضاة فى حلب فتنة عظيمة ، وقذفوا أعراض بعضهم بعضا بالفسوق ، فعزلهم السلطان برقوق )[11]  

         5 ــ  ومن الجهل وسوء الأدب الذى يصل إلى درجة سب النبى ( ص) نصل لظاهرة غريبة فى قضاة العصر المملوكى، فتاريخ القضاة كان يتميز قبل العصر المملوكى بذلك التعصب للمذهب ، حتى كان لابد من تعيين قضاة أربعة للمذاهب، وقد ورث العصر المملوكى هذا التقليد ، إلا أن القضاة الصوفية فيه لم يكن بهم ذلك التعصب المقيت لأحد المذاهب بسبب جهلهم بالفروق بين المذاهب الأربعة والخلافات المذهبية بينها .وبسبب رغبتهم فى التكسب بأى طريق وعلى أى مذهب ، لذا كان من السهل أن يتحول القاضى عن مذهبه إلى مذهب آخر تبعا لمصلحته الشخصية .

ففى حوادث 768 أن الأمير يلبغا تعصب فى أواخر دولته للمذهب الحنفى فتركه كثير من القضاة والفقهاء الشافعية مذهبهم إلى المذهب الحنفى [12].

والقاضى شهاب الدين الأذرعى المالكى كان شافعى المذهب ثم انتقل إلى مذهب مالك لأجل الوظيفة ، ولكنه لم يهنأ بمنصبه فقد قتله نائب طرابلس التى ولى قضاءها سنة 802.

ومثله أيضا القاضى شمس الدين البحاصى الحنفى الذى كان شافعيا ثم انتقل إلى مذهب أبى حنيفة لأجل القضاء وكان خاليا من العلم ، وقتله أيضا نائب طرابلس سنة 802 [13].

وتحول القاضى ابن الشحنة ت830 من الحنفى إلى المالكى بعد الفتنة العظمى حسبما يقول ابن حجر [14].

 وفى سنة 802 قال أبوالمحاسن عن القاضى شمس الدين الصلتى (ت803) أنه عمل مالكيا ثم شافعيا ولم تحمد سيرته فى مباشرته القضاء ، ويعلق أبوالمحاسن عليه( وكيف تحمد سيرته وهو ينتقل فى كل قليل إلى مذهب من أجل المناصب ، فلو كان يرجع إلى دين مافعل ذلك ، ومن لم يحذر على دينه يفعل مايشاء)، ثم يستمر أبوالمحاسن ( قلت ــ والشىء بالشىء يذكرــ وهو إننى اجتمعت ذات مرة بالقاضى كمال الدين ابن البارزى كاتب السر الشريف فدفع إلى كتابا من بعض أهل غزة ممن هو فى هذه المقالة ، فوجدت الكتاب يتضمن السعى فى بعض وظائف غزة ، وهويقول فيه : يامولانا . المملوك ــ يقصد نفسه ــ منذ عزل من الوظيفة الفلانية خاطره مكسور والمسئول من صدقات المخدوم أن يوليه قضاء الشافعية بغزة، فإن لم يكن فقضاء الحنفية ، فإن لم يكن فقضاء المالكية ، وإلا فقضاء الحنابلة ، فكتبت على حاشيته الكتاب بخطى " فإن لم يكن فمشاعلى ملك الأمراء"[15].

أى يحمل مشعل ملك الأمراء جنديا خادما له .!

ومن الغريب أن أحدهم كان يلحق باسمه مذهبه الفقهى حتى لو لم يتقلد منصب القضاء ، فيقال فلان الشافعى أو الحنفى ،ويصير مذهب الحنفى أو الشافعى أو المالكى عنوانا على إسمه وشخصه ، ومع ذلك فقد كانوا سرعان مايتنازلون عن هذه الصفة فى سبيل المبدأ الأساسى وهو المنفعة الدنيوية .

 6 ــ وقد يكون أحدهم متمتعا بحب الناس واعتقادهم فى صلاحه وولايته حتى إذا تولى القضاء ظهر على حقيقته وعانى الناس من شره وجهله ، فالقاضى الصوفى ابن بنت ميلق الشاذلى ت 797 قاضى القضاء بمصر( كان فى بداية أمره يعظ الناس ولهم فيه محبة واعتقاد ، ثم سئل بالقضاء فوليه ، فلم تشكر ولايته ولا سيرته وعزل ، ووزن ــ أى دفع ــ مالا كثيرا أخذه ظلما )[16].

  وكان السلطان برسباى يعتقد فى صلاح القاضى الأرموى المالكى( ت 836) فلم يعزله عن القضاء ( ولم يسمع فيه كلاما لأحد ، مع شهرته بسوء السيرة ومزيد الجهل والتجاهر بالرشوة ، حتى حصل من ذلك مالا جزيلا)[17] .

وكان قاضى القضاه السنباطى ت 868 مشهورا بالفضيلة مع لين الجانب وتدين قبل أن يتولى القضاء وعندما تولى المنصب ( لم تشكرسيرته فى القضاة )[18]

لقد كانت عقيدة العصر زائفة تحمل شعار الإسلام وتمارس نقيضه وهو التصوف، والفقهاء الصوفية هم أبرز من يعبر عن هذا النفاق وإظهار عكس مافى القلب ، وكان منصب القضاة هو المحك العملى لتنفيذ الدين الواقعى العملى السائد ، وهكذا فعندما يتولى القضاء أحد أولئك الذين يتمتعون بالشهرة والصلاح حتى يظهر للناس معدنهم الحقيقى . وقد اشتهر زكريا الأنصارى بتزعم الفقهاء فى الربع الأخير من القرن التاسع وحمل لقب شيخ الإسلام ، ولكنه كان فى عقيدته مريدا صوفيا ، وعرضنا لدوره فى كائنة البقاعى مع ابن الفارض ، ويهمنا منه هنا أنه تولى القضاء للسلطان قايتباى سنة 886 وقد كان على صلة وثيقة بالسخاوى المؤرخ ، يقول عنه فى الضوء اللامع ( وبيننا أنسة زائدة ، ومحبة من الجانبين تامة) ومع ذلك فإن السخاوى يقول عن ولايته للقضاء ( كانت ولايته على المستحقين نقمة ، وجهالته فى تصرفاته على المستحقين المسلمين غمة ، بحيث عادت محبة الناس فيه عداوة ، وزادت الرغبة إلى الله بزواله عقب الصلاة والتلاوة) ( ولو التفت لجهة المستحقين لانكف عنه بيقين ولكن حب الدنيا رأس كل خطيئة )[19].

وزكريا الأنصارى اعترف فيما بعد للشعرانى فقال ( توليتى للقضاء صيرتنى وراء الناس ، مع أنى كنت مستورا أيام السلطان قايتباى) وحاول الشعرانى أن ينافقه ويسرى عنه ( فقلت له ياسيدى أنى سمعت بعض الأولياء يقول : كانت ولاية الشيخ للقضاء سترا لحاله كما شاع عند الناس من زهده وورعه ومكاشفاته فقال : الحمد لله خففت عنى ياولدى) [20].

 تلك كانت لمحة سريعة عن طبيعة قضاة العصر المملوكى فى الجانب العلمى الوظيفى ، فأين كانوا فى الجانب الخلقى ؟   

انحلال القضاء خلقيا فى العصر المملوكى بأثر التصوف

 تمتع قضاة العصر بمفردات الانحلال الخلقى كلها وفق تشريع التصوف الذى به يدينون .

1 ــ فقد كان لهم مشاركة فى الشذوذ الجنسى سجلتها عليهم المصادر التاريخية ، يقول ابن طولون فى حوادث سنة 886 ( وفى هذه الأيام أشيع بدمشق عن قاضيين من الأربعة إشاعة فاحشة ، ولعلها تكون كذبا فلا حول ولا قوة إلا بالله )[21].

وحضر إلى المحتسب ابن سليمان أحد نواب القاضى ابن خير ، وقد قبض عليه جمع كبير من الناس متلبسا مع صبى صغير يفعل به الفاحشة نهارا، فضربه المحتسب وحبسه [22].

وفى سنة 825 حدثت فضيحة فى ( الوسط القضائى) أثبتها ابن حجر ـ فقد ادعى على شيخ شمس الدين بن عبدالمعطى الكوم ريشى الحنفى أنه قذف الشيخ شمس الدين محمد بن حسن الحنفى بالبغاء ، وأنه هو الفاعل به وإن ذلك كان بواسطة الشيخ شهاب الدين الكوم ريشى أحد قراء الكتب ، وكانت الدعوة عليه عند قاضى القضاة الحنفى زين الدين الأقفهسى ، وكان الذى قام عليه بالدعوة شهاب الدين بن عبدالله أحد نواب القاضى الحنفى ،وقد قال له الأمير برسباى: أنت الذى كان أخى فلان يتعشقك وغرم عليك مالا كثيرا، وأمر بالتوكيل به وعزله من نيابة القضاء فاعتقل ثم شفع فيه، فأطلقوه ، وأعيد للقضاء[23]. أى عاد قاضيا مع هذا السجل الحافل بالشذوذ السلبى .

وذلك القاضى شمس الدين بن عبدالمعطى الكوم ريشى كان أبوه أيضا يعمل قاضيا حنفيا ، وهو الشيخ زين الدين عبدالمعطى الحنفى ( ت 810) وقد أتوا إليه بشاب متهما باغتصاب صبى صغير ، وكان ذلك القاضى وقتها يعمل فى الإشراف على بناءعمارة للأمير أقباى الحاجب ، فما كان من ذلك القاضى إلا أن أمر فى الحال العمال الذين فى العمارة بأن يفسقوا بالشاب المتهم قصاصا بزعمه [24]، وذلك تجديد فى التفكير الصوفى ، ثم جاء ابنه القاضى شمس الدين يدعى على زميله أنه اغتصبه ، وحقيقة هى ذرية بعضها من بعض. والمضحك أن أولئك الذين كانوا منوطين بتطبيق الشريعة كانوا يحملون أسماء دينية مثل شمس الدين وشهاب الدين ، وكانت أعمالهم عكس مايأمر به الدين الذى يحملون اسمه ، وينفذون شرعه بزعمهم ، إلا إنّ التصوف دينهم العملى الواقعى يعتبر الشذوذ من طقوسه الدينية ، وذلك لم يكن عيبا أو لم يعد عيبا .

 2 ــ وبعضهم وقع فى جملة انحرافات خلقية ومالية ، ففى سنة 803 ولى السلطان برقوق الشيخ يوسف المالطى قضاء الحنفية ، يقول عنه ابن حجر ( فباشرها مباشرة عجيبة ، فإنه قرب الفساق ، واستكثر من استبدال الألقاب ، وقتل مسلما بنصرانى ، ولما مات الكلستانى استقر بعده فى تدريس الصرغتمشية ، ووقع فى ولايته أمور منكرة منها ما قدم من الأنجاس فى الاستبدال ، واشتهر أنه كان يفتى بأكل الحشيش ، ووجوه من الحيل فى أكل الربا وأنه كان يقول : من نظر فى كتاب البخارى تزندق )[25].

 وننقل من المقريزى رأيه فى بعض قضاة عصره : ( القاضى ابن حجى: قاضى قضاة دمشق وكاتب السر فى مصر ت 830 : كان يسير غير سيرة القضاة  ، وُيرمى بعظائم ، ولم يوصف بدين قط ) ( الشيخ بدر الدين البردينى ت 831 قاض شافعى بالقاهرة : لم يوصف بعلم ، ولا دين ، ومستراح منه) ( قاضى القضاه المالكى بمصر شهاب الدين أحمد ت 836 : لم يشتهر بعلم ولا دين )[26] .

وقيل نحو ذلك على بعض المشهورين من قضاة القضاء فابن خلكان ( كان يهوى بعض أولاد الملوك ، واتهم بحب الصبيان، وأكل الحشيش )[27].

وقيل فى الهروى ( جرت منه أمورفاحشة، السكوت عنها أجمل) [28] .  

وقيل فى سراج الدين البلقينى ( كان له ذكاء مفرط ، لكنه سىء المزاج ، مستغرقا فى اللهو واللذات التى تميل إليها النفوس ، ممتعا بالجاه والمال ، مثابرا على بلوغ الآمال [29].

وقيل فى ترجمة الشيخ ابن النقيب قاضى القضاة الشافعى ( كان غير مشكور السيرة، رث الهيئة ، يزدريه كل من يراه ، وقال فيه شاعر :

             ياأيهــا الناس قـفـوا واسـمـعـوا            صــفــات قـاضــينا التى تطرب

             يلـوط ، يزنـى، ينتشـى، يرتشـــى            ينمُ ، يقضـى بالهــوى ، يكــذب [30]

ولولا أن شأن القضاة قد هان على الناس ماجرؤ شاعر على مثل هذا القول .

 3 ــ وفى هذا الجو الفاسد كان بعض القضاة لايخجل من المجاهرة بالمعصية.

يقال عن قاضى القضاة ابن الأدمى ( كان لايحترز عن الحرام ، ويتهم باستعمال المنكر من الأشربة وغيرها)[31] .

 وتولى الشيخ السفطى القضاء ( فظهرت منه أمور مستقبحة مما لايعبر عنها ، وضج منه الفقهاء) ( وقد عزله السلطان وقد ثبت لديه قبح فعاله ، وإظهار معايبه ، وكان يتباهى فى قبح الأفعال فى تلك الأيام جدا)[32] .

وقال السخاوى عن الشيخ بكير أنه افتقر وباع كتبه بسبب تعاطى المغيبات ، ومع ذلك ساعده الأمير ططر ( حتى استقر فى قضاء الحنفية فى حلب ، وكان عريا عن الفقه ، يفتى بغير علم ، وربما أفحش فى الخطأ) ، وقال السخاوى عن شهاب الدين الكتانى قاضى القضاة الحنبلى ت 850 ( كان مدمنا المجاهرة بالفسق) [33].

4 ــ وأحيانا كان فساد القضاء أشد من فساد باقى طوائف المجتمع ، فيحدث أن  يضج الرأى العام من انحلال القضاة الخلقى ، وتلك ظاهرة غريبة وفريدة فى تاريخ القضاء على مستوى العالم ، حسبما نعلم .

 يقول المقريزى فى حوادث 825( أخذ الناس فى تتبع عورات القضاة والفقهاء لميل ولاة الشوكة إلى معرفة ذلك ، فإن الأحدوثة عنهم قبحت والمقالة فيهم شنعت .

وكنــا نستـطب إذا مرضنـــا            فجاء الداء من قبل الطبيب [34]  

 وقال المقريزى عنهم فى العام التالى 826 ( ساءت قالة العامة فيهم ، وأكثروا من التشنيع بما يغرمه المتداعيان فى أبوابهم ، حتى اتضعت نواب القضاة فى أعين الكافة ، وانحطت أقدارهم عند أهل الدولة ، وجهروا بالسوء من القول فيهم )[35].

ويقول أبو المحاسن فى حوادث 828 أن السلطان برسباى عين تاج الدين الخطيرى الأسلمانى بالقضاء ، وكان قريب عهد بالإسلام ، وله قدم فى دين النصرانية ، فصار لقبه القاضى ،وقد احتج أبو المحاسن على ذلك ثم قال معلقا ( وقد عيب هذا على مصر قديما وحديثا ، فقال بعضهم : قاضيها مسلمانى ، وشيخها نصرانى ، وحجها غوانى ، قلت فإن كانت ألفاظ هذه الحكاية خالية من البلاغة فهى قريبة مما نحن فيه )[36] .

وفى سنة 871 قال السلطان قايتباى للمحتسب يصف الفقهاء القضاة( فإن الفقهاء لادين لهم ، وهم أنجس الناس ، إن تولوا شيئا اخربوه ، وإن حكموا فى أمر جازفوا فيه وإن أفتوا فى شىء لهم فيه غرض أفتوا بالباطل ، ولا أعلم طائفة شرا منهم)[37]. وقد صدق قايتباى فى وصفه لأشياخ عصره .. وعصرنا المملوكى.

 ويقول العينى عن قاضى القضاة ابن الصالحى (ت806) كان عاريا من العلوم ومن الفقه أيضا ، بلغ المنصب بجاه الخليفة وبالبذل ـ أى الرشوة ـ ولقد كانت القضاة من قبله مايرضون به بالنيابة فضلا عن القضاء المستقل ، ولكن هذا الزمان لايقدم إلا غير أهله) .

وينقل الصيرفى هذا القول عن شيخه العينى ثم يقول معلقا( فلعمرى إذا كان هذا من مدة ستين عاما وشيخنا يذكرك ذلك ، فما حالنا هذا الزمان المنطوى على أمور لانحتاج إلى تفصيلها فى هذا المحل ، ولقد أجاد من قال:

 زمـــــاننـا كـــــــأهله                وأهــلـه كــمـــــا تــرى

وســــيــــرنا كـســـيرهم               وســـــــيرهم إلــــى ورا

وأصدق من ذلك كلام الصادق المصدوق (ص) كل عام ترذلون [38]. ). أى أن العصر المملوكى وضع حديثا منسوبا للنبى يعبر عن إستمرار الفساد وتطوره ، وهو ( كل عام تُرذلون ) . والصيرفى يتحدث عن سوء الأحوال فى قضاة عصره، ولكن السلطان قايتباى كان أبلغ تعبيرا حين قال: ( إن الفقهاء لادين لهم ، وهم أنجس الناس..)

وازداد فساد القضاة بمرور الزمن ، وفى عصر الغورى اهتز ( الوسط القضائى) بفضيحة نسائية تماثل تلك التى حدثت قبلها بقرن من الزمان تقريبا ، فقد كان القاضى الحنفى غرس الدين خليل متزوجا بامرأة حسناء ولكن عشقها الشيخ المشالى القاضى الشافعى ، فنَم عليهما ابن أخت القاضى نور الدين الدمياطى ، وكان يهوى المرأة هو الآخر ، فأعلم زوجها ، فضبط الزوجة وعشيقها ، يقول ابن اياس ( وهما تحت اللحاف متعانقين) وعوقبا بالضرب والتشهير ، وفى أعقاب الحادثة أرسل السلطان الغورى للقضاه الأربعة ووبخهم ( بالكلام القبيح) وقال لهم ( والله افتخرتم ياقضاة الشرع ، نوابكم شىء يشرب الخمر ، وشىء يزنى ، وشىء يبيع الأوقاف ) وضغط الغورى على مجلس القضاة فحكم برجم الشيخ المشالى والمرأة ، إلا أن المشالى رجع عن إقراره بالزنا فاختلف القضاه فى الحكم وطردهم السلطان ، واشتد غضبه على القاضى ابن الشحنة الحنفى ، لأنه وافق السلطان أولا على الرجم ثم رجع فوافق القضاه على اسقاط الرجم ، وعزل السلطان القضاة الأربعة ، فأقامت السلطنة شاغرة من القضاء خمسة أيام لم يعقد فيها نكاح وأغلق الشهود دكاكينهم وتعطلت الأحوال ، وأمر السلطان واليه على القاهرة بالقبض على أى فقيه يجده سكرانا ، وجعل له مكافاة على ذلك ، ومنع من دخول أحد من المباشرين عليه وهو لابس عمامة من بغضه فى الفقهاء ، ثم شفع الأمراء فى القضاة الأربعة فازداد حنق السلطان ، وأمر السلطان بشنق الشيخ المشالى والمراة [39].

5 ــ وفى هذا المستوى المتدنى لقضاة العصر كان نادرا مانجد قاضيا على مستوى لائق، وكان إذا وجد فيهم من يستحق المدح فكان يمدح بعدم وقوعه فى خطايا  القضاة الآخرين ، فالمؤرخ أبوالمحاسن يمدح القاضى ابن التنسى المالكى ت 853 بأنه ( كان بريا عما يرمى به قضاة السوء ) ويمدح بدر الدين البغدادى ت 857( بالعفة عما يرمى به قضاة السوء)[40] . والمقريزى يمدح البلقينى ت 824(بالنزاهة عما يرمى به قضاة السوء ) [41]. أى كانت القاعدة هى السوء والأصل أن القضاة هم قضاة سوء.

 6 ــ وفى حين تكالب القضاة على الوظائف فقد تفرد الشيخ برهان الدين بن جماعة بإعلان عزل نفسه من القضاء الشافعى ــ مجددا وحده سيرة القضاة العظام السابقين ، ففى حوادث سنة 779 ( وعزل برهان الدين ابن جماعة نفسه عن القضاء الشافعى لما رأى تغيرأحوال أرباب الدولة بالأمور الفاحشة، وسافر لبيت المقدس) وقد سبق لهذا القاضى أن سعى فى إبطال ضمان المغانى[42] .أو إباحة البغاء رسميا، وموقف ابن جماعة أكبر اتهام لعصره ورفاقه فى القرن الثامن ، وازدادت الأمور سوءا بعد ذلك ..

 وحدثت نادرة غريبة فى القرن التاسع ، وهى أن الشيخ عبادة (ت846) رفض تولى منصب القضاء ، وعلق المؤرخ أبو المحاسن على هذا الحدث بقوله ( وهذا شىء لم يقع لغيره فى عصرنا هذا ، فإننا لانعلم من سئل بالقضاة ، وامتنع غيره ، وأما سواه فهم على أقسام: قسم يتنزه عن الولاية ويظهر ذلك حيلة حتى يشاع عنه ذلك ، فإذا طلب بعد ذلك يأخذ فى التمنع ، وفى ضمن تمنعه يشترط على السلطان شروطا يعلم هو وكل أحد أنها لاتتم له ، وإنما لايقصد ذكرها إلا نوعا من الإجابة ، لكونه امتنع أولا فلا يمكنه القبول إلا بهذه الدورة ، فلم يكن بمجرد ذكره للشروط إلا وقد صار فى الحال قاضيا ، ووقع ذلك  لجماعة كبيرة فى عصرنا ، وقسم آخر هم الذين يسعون فى الولاية سعيا زائدا ويبذلون الأموال ويتضرعون لأرباب الدولة ويخضعون لهم ، وهيهات ، هل يسمح لهم بذلك أم لا )[43].

 7 ــ والصيرفى المؤرخ القاضى ألف كتابه ( إنباء الهصر فى أنباء العصر ) يسجل فيه تاريخ الحياة المصرية مابين(873 ــ 886 ) ، وهى فترة شهدت غياب المؤرخين الكبار بالموت كالمقريزى وابن حجر والعينى ، وقد كانوا نمطا من المؤرخين الفقهاء أصحاب الرأى ، وقد حاول الصيرفى فى (الهصر) أن يحذو حذوهم ، فأورد صورة لعصره فى هذه الفترة من واقع معاصرته للأحداث ومشاركته فيها بحكم كونه قاضيا يشارك فى تهنئة السلطان بحلول أول كل شهر عربى ، ومتصلا بمجتمع القضاة وخفاياه ، ومتصلا أيضا بالشارع بحكم عمله قاضيا يحكم بين الناس . إذن فهو شاهد على عصره والوسط القضائى الذى عايشه والمجتمع الذى تعايش معه .  والصورة التى نقلها الصيرفى  عن زملاء المهنة تلخص الأوضاع السابقة وتعكس سخط المؤرخ على أحوال علماءالعصر وقضاته ، وقد سبق أن نقلنا تعليقا له فى ذلك الشأن . وبدراسة سريعة لأحوال القضاة من خلال ( تاريخ الهصر) يتضح لنا الآتى :

   بعض القضاة كان يحكم بغير ما أنزل الله ، فالقاضى ابن جنة (خلف ثلاثة أخوة امرأة ورجلين ، وحرم أخويه المذكورين ) وخصص للأخت دارا ،أى لم ينفذ حكم الله فى المواريث ، يقول الصيرفى معلقا( والله يجمع بينهم ويحكم فيهم بعدله) .

 ونزاع القضاة فيما بينهم مستمر على أهون الأسباب ، وقد يصل إلى قذف الزوجات ، كما حدث بين ابن العيسى وشمس الدين الجوهرى.

والفساد المالى منتشر بينهم ، فقاضى الإسكندرية حاول التحايل لأخذ تركة أحد التجار الأثرياء فاشتكى ابنه الوارث ، وتنازع القضاة حول الأوقاف إذا مات القائم عليها ، فقد توفيت بنت الخازن وكانت عمرت أوقافا كثيرة ( ويؤول النظر بعدها إلى القاضى الحنفى ، وأراد القاضى الشافعى الوثوب والتكلم فى الأوقاف فبلغ السلطان ذلك فقال : أنا أحق من الإثنين ولكنى أعمل فيهم بالشروط وأحميهم من الغاصبين ) فالسلطان اعتبر قضاته غاصبين، وتدخل لحماية الأوقاف منهم.

وبعضهم استخدم نفوذه القضائى ليكون به بلطجيا مجرما ، فالشيخ محيى الدين الحنفى سعى عند قاضى الحنفية محب الدين الشحنة حتى قرره قاضيا، يقول عنه الصيرفى ( فصار يصول ويطول ويعزر ، وعمل له سوقا فصار نافقا ، ولقبه أهل مصر بكبش العجم ، وسكن القاضى المذكور فى حارة ، واجتمع عليه أرباب المصالح والمفاسد فصار ينفذ أغراضهم (  وسكن بالحارة يضرب ويرشى ويكشف الرءوس ويسجن)، وحاول ابن الشحنة قاضى القضاة حمايته ، ولكن تدخل السلطان فأصدر ابن الشحنة مرسوما بألا يحكم قضاته فى بيوتهم ، ولايعزرون أحدا إذا وجب عليه تعزير إلا بالباب العالى أى فى المحكمة الرسمية ، ويعلق الصيرفى على ذلك بقوله( وكم يقع مثل هذا فى الوجود وإلا اعتبار له فيه ) أى أن القضاة لم ينفذوا الأوامر.

وبعضهم جمع بين الفساد المالى والفساد الخلقى ، مثل القاضى هانى الذى ( مد يده وبلص أى سرق ــ من الخولية والمشايخ نحو خمسمائة دينار). وكان فى بدايته فلاحا أتى للأزهر وجاور فيه ثم لزم باب خونه فاطمة بنت الظاهر ططر وكانت مشهورة بفسادها فجعلته كاتبا لها وبنفوذها ( استمر حاله ينمو ويزيد) إلى أن تولى القضاء فظهر فساده .

وبعضهم جمع أنواع الفساد كلها من عقيدة وسلوك ، فالقاضى ابن الهيصم ( كان عريا عن الإسلام ، كثيرا الميل إلى دين النصرانية ، مدمنا على السكر ، لايكاد يوجد صاحيا لحظة) وضربه الوزير ثلاث علقات ،لأنه لم يشهد صلاة الجمعة ،إذن يستحق ميدالية الشرف فى الوسط القضائى وقتها.

وبعضهم تميز بالنذالة ، فقاضى القضاة الشافعى أبو السعادات البلقينى شكته زوجته أنها استدانت له مائتى دينار وأنها كلما طالبته بالسداد ( يأسى عليها ولا يدفع لها شيئا).فصارت قضية تدخلت فيها السلطة المملوكية ، ويعلق الصيرفى على ذلك( فانظر إلى إهانة القضاة والعلماء والأصلاء ، وانظر إلى النساء وكيدهن ،وانظر إلى حقارته ودناءة نفسه) يقصد القاضى زوجها.

وواضح أن النذالة ظهرت فيما يخص المال ، إذ سيطر على هذه النوعية من القضاة عبادة المال إلى درجة تثير الاشمئزاز ، وبرزت النذالة فى صراعهم حول المناصب ، وما تعنيه من مخصصات مالية ، وقد وصل الصراع بينهم إلى درجة لاتوصف ، من ذلك أن القاضى نور الدين البرقى ــ وكان أبوه قاضيا أيضا ــ كان من أتباع قاضى القضاة السفطى فأودع السفطى عنده أمانه عشرة آلاف دينار ، وحدث أن الظاهر جقمق غضب على السفطى واستولى على أمواله كلها ماعدا تلك الأمانة التى حفظها عند البرقى (للزمن)، ولكن البرقى بادر بتسليم تلك الأمانة للسلطان كى يحظى عنده ، ومات السفطى فى نكبته مقهورا مما فعله تلميذه معه.  

ومن ذلك مافعله قاضى القضاة الحنفى ابن الشحنة وولده عبدالبر ، إذ قاما بزيارة الشيخ الأردبيلى وهو يحتضر على فراش الموت ، وكانت له وظائف كثيرة فاستكتبوه وهو يموت تنازلا عن وظائفه ، ووصل الخبر للسلطان فغضب واعتقلهم وشتمهم قائلا( تشهدوا على شخص غايب عن الوجود، ومصداق ذلك أنه مات من ليلته وأخرتوه إلى يوم السبت ) وتوسط كاتب السر بشأنهم للسلطان ، ويعلق الصيرفى على مافعله ابن الشحنة يقول ( قضاة الشرع لو عظموا أوامر الله وحقوقه لعظمهم ، ولكنهم خافوا على وظائفهم ، فأهانوا أنفسهم ، والأمر لله ) وبالمناسبة فالصيرفى كان من قضاة التابعين لابن الشحنة . والقاضى برهان الديرى كان قاضيا للقضاة مثل أبيه وكان أخوه كذلك ، وقد دفع رشوة خمسة آلاف ليتولى كتابة السر ، ثم تسبب فى عزل أخيه عن القضاء ، إذ صعد للداودار والسلطان وأخبرها أن أخاه عجز عن القضاء وأنه ذهل ، ووعد برشوة ثمانية آلاف دينار إن عزلوا أخاه وتولى منصبه بدلا منه( فحصل لأخيه منه حصر زائد). 

وبسبب هذا الإنحدار الخلقى والإنسانى فى أولئك القضاه فقد هان أمرهم على الحكام المماليك وعلى العوام ، وقد حكى ابن الصيرفى قضية طويلة وأحدثت بعض المشاكل واحتد فيها السلطان على القضاة ووبخهم مما دعا بعض العلماء إلى التشفع فيهم للسلطان ، فقال له قايتباى ( أنا مابهدلت الشرع والقضاء وإنما أريد أن يكونوا على الأوضاع ) وقال له ذلك العالم ( يامولانا السلطان .. إن الناس من باب المدرج إلى آخر باب النصر اجتمعوا لينظروا مايفعل  بالقضاة ، ومن ينزل منهم مجبور ، ومن ينزل منهم مكسور ) أى توسل للسلطان بغضب العامة ، ولكن العامة كانوا يكرهون القضاة أيضا ، ذلك أن السلطان وقد انعدمت ثقته فى أولئك القضاة قام بنفسه بالحكم بين الناس واستدعى القضاة إليه فجاءوا ومروا بالقاهرة ، يقول الصيرفى ( والخلق والعوام والأوباش ينظرون إليهم ، ويقولون ماشاءوا، وصار بعضهم ينسبهم إلى خراب الأوقاف ، وبعضهم ينسبهم إلى بيعها) وأمل الناس خيرا فى عدل السلطان بعد أن يئسوا من العدل على يد العلماء والقضاء ، لذا انهالت الشكاوى على السلطان حين تصدر للقضاء ، يقول الصيرفى ( وكثرت الشكاوى حتى أن بياع الفجل : اشتكى للسلطان ) . وبعدها قام السلطان باستعراض القضاة ونوابهم وناقش رؤساء القضاة . وقد أورد الصيرفى جانبا من مناقشات السلطان مع القضاة وكان الصيرفى حاضرا ، وقد كان السلطان حين يعرض عليه القضاة النواب يقول مستنكرا( من عمل هذا قاضى) وفى إحدى المناقشات اشتد غضبه وقال ( قضاة القضاة يدلسوا علىَ ويغطوا؟).

 وهوان القضاة على الحكام ظهر فى نوعية التعامل معهم حين يخطئون ، فقاضى القضاة الشافعى صلاح الدين المكينى استبدل بعض الأوقاف ( فأغلظ له الداودار الثانى) وهى عقوبة خفيفة لاتقارن بما فعله السلطان مع ابن الصابونى قاضى قضاة دمشق حين أمر بضربه بين يديه، وحدث أن قاضى البرلس باع ولدا صغيرا حرا لبعض العربان فعرفه أبواه وشكياه للسلطان فأمر السلطان بضرب القاضى بالمقارع .

وهان أمرهم على الأمراء المماليك فعاقبوهم لأتفه الأسباب ، فالأمير جانبك ضرب القاضى عز الدين البلقينى ( علقة على مقاعده ( أى مؤخرته) لأنه كلمه بكلام مزعج ) ، ويعلق الصيرفى ( ولم ينتطح فيها عنزان ، والقتل مايهدى ، وآخر الأمر الرضى وكل مفعول مضى ، وهذه الحادثة من أقبح مايكون فى حق الفقهاء ، فلا قوة إلا بالله)[44].

 إن هذه النوعية من القضاء هم صوفية الفقهاء أو الفقهاء الذين خضعوا للتصوف خصوصا فى أواخر العصر المملوكى . وفى عصر البقاعى المعاصر للصيرفى كان أولئك القضاة الفقهاء أشد الناس خصومة للبقاعى حين هاجم ابن الفارض فى عصر الصيرفى  وكان الصيرفى من القضاة المؤرخين المتحاملين على البقاعى فى تاريخه . والفساد يبدأ بالعقيدة .

 8 ــ والصيرفى متأثر بشيخه المقريزى الذى ملأ( السلوك) بنقمته على أحوال عصره ، يقول المقريزى فى حوادث 820( وأهل هذا الشهر ــ ربيع الآخر ــ وفى جميع أرض مصر .. من أنواع الظلم مالا يمكن وصفه بقلم ولا حكايته بقول ، من كثرته وشناعته . فجملته أن الحكام بالقاهرة وأعمالها مابين محتسب ووالى وحجاب وقضاة ونائب الغيبة والأمير فخر الدين الاستادار ، فالمحتسب بالقاهرة والمحتسب بمصر يأكل مايكسبه الباعة .. يجبى منهم بضرائب مقررة لمحتسبى القاهرة ومصر وأعوانهما ، فيصرفون مايصير إليهم من هذا السحت فى ملاذهم المنهى عنها، ويؤديان منه مااستداناه من المال الذى دفع رشوة عند ولاياتهما . ويؤخران منه بقية لمهاداة أتباع السلطان ليكونوا عونا لهما فى بقائهما، وأما القضاة فإن نوابهم يبلغ عددهم نحو المائتين مامنهم إلا من لايحتشم من أخذ الرشوة على الحكم ، مع مايأتون ــ هم وكُتَابهم وأعوانهم ــ من المنكرات بما لم يسمع بمثله فيما سلف ، وينفقون مايجمعونه من ذلك فيما تهوى أنفسهم ، ولايغرم أحد منهم شيئا للسلطنة ، بل يتوفر عليهم فلا يتخولون فى مال الله بغير حق ويحسبون أنهم على شىء ، بل يصرحون بأنهم أهل الله وخاصته افتراء على الله سبحانه) [45]. فالقضاه يظلمون ويفسقون ويأكلون الأموال بالسحت ويعتبرون أنفسهم مع ذلك ( أهل الله وخاصته ، افتراء على الله سبحانه) ، وهنا يشير المقريزى إلى المؤثر الصوفى الذى جعل القضاة ينهمكون فى الانحلال دون أمل فى التوبة .

 وإذا كان هذا حال القضاة والعلماء وهم القدوة فى الدين والأئمة فى الصلاة والسلوك فالطبقة العسكرية الحاكمة لا أمل فيها .

 

 

 

ج3 / ف 3 :إنحلال المماليك بأثر التصوف :

  كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية 

الفصل الثالث : انحلال المجتمع المصرى المملوكى بتأثير التصوف .

:إنحلال المماليك بأثر التصوف (  السلاطين ، الأمراء ، جمال المملوك طريقة للوصول للمناصب ، المدح بقلة الوقوع فى الفواحش ،  الشذوذ عامل فى الفتن السياسية .)                                                               

 مقدمة

كان المماليك اكثر طائفة تأثرت بالدين السائد، خصوصا وقد جاءوا من بلادهم أطفالا سرعان ماتعودوا وتطبعوا بطابع المجتمع الذى عملوا فى خدمته صغارا ثم حكموه كبارا . إن المماليك حين اعتنقوا الإسلام أفرادا وأطفالا إنما اعتنقوا التصوف دينا عمليا بعقائده وأخلاقه . والمماليك سواء كانوا سلاطين أم أمراء وقعوا فريسة للإنحلال خصوصا الشذوذ الجنسى الذى جعله التصوف دينا ، وساعده عليه تحول المعسكرات التى تجمع صغار المماليك إلى أوكار لممارسة الشذوذ ، وهو نفس الدور الذى كان مؤسسات التصوف تلعبه .

إنحلال السلاطين :

1 ــ لم تبخل الحوليات التاريخية التى كتبت فى عهد السلطة المملوكية بالإشارة إلى انحلال السلاطين وشذوذهم الجنسى ، فيصف المقريزى السلطان فرج بن برقوق ( ت 815) ( بالتجاهر بالفسوق من شرب الخمر واتيان الفواحش والتجرؤ العظيم على الله جلت قدرته ، والتلفظ من الاستخفاف بالله تعالى ورسله ماتكاد الألسنة تنطق بحكايته لقبح شناعته)[46]. أى جمع بين شطحات التصوف وانحلاله الخلقى .

2 ــ وقد يقلع السلطان عن الفسوق إذا مرض وعجز ، وذلك ماحدث للسلطان المؤيد شيخ (ت 822)[47].  وبعضهم كان يتمادى فى التدين الصوفى فيتمادى فى الانحلال الخلقى ، فالظاهر ططر(ت824) كان مريدا للشيخ شمس الدين الحنفى وكان مشهورا فى نفس الوقت ( بمحبة الشباب)[48].

3 ــ والسلطان برقوق أبرز مثل لهذا الجمع بين التدين الصوفى والشذوذ الجنسى والفساد السياسى ، فقد أوصى برقوق عند موته أن تُعمّر له تربة ( مقبرة ضخمة كمؤسسة صوفية ) تحت الجبل ويوقف عليها الأوقاف ، وأن يدفن فى لحد تحت أقدام مجموعة من الأولياء الصوفية ليتشفعوا فيه ، وهم علاء الدين السيرامى وأمين الدين الخلوتى وعبدالله الجبرتى وعبدالكريم الجبرتى . [49]. ومع ذلك فإن شهرة برقوق فى الشذوذ الجنسى أثرت على عصره  . والناس على دين ملوكهم سواء كانوا صوفية أو سلاطين . يقول أبو المحاسن عنه وعنهم ( اشتهر فى أيامه اتيان الذكور ، من اشتهاره بتقريب المماليك الحسان لعمل الفاحشة فيهم) [50].

4 ــ ووصلت شهرة السلاطين المماليك فى الشذوذ إلى خارج الدولة ، فالسلطان غازان التترى سأل مستنكرا الأمير حسام الدين المجيرى ( كيف تركت امراؤكم النساء واستخدموا المردان؟)[51]

الأمراء المماليك :

1 ــ وكان المؤرخون أكثر صراحة فى وصف كبار الأمراء المماليك بالفسق ، وفى هذا المجال برز المقريزى بحدة ألفاظه ، فيقول عن الأمير قنباك( كان من سيئات الزمان جهلا وظلما وفسقا) ويقول عن الأمير ابن الطبلاوى وموته( أراح به الناس من ظلمه وفسقه وعتوه)[52]

2 ــ وفى نظرة سريعة لبعض صفحات تاريخ (السلوك ) نقرأ للمقريزى الآتى :

( الأمير يشبك اليوسفى (ت824) (من شرار خلق الله لما عليه من الفجور والجرأة على الفسق) .

الأمير آق قجا (ت 824) كاشف الوجه القبلى فى عهد ططر وبرسباى ( افتض مائة بكر غصبا) .

الأمير ابن الرملى (ت 826) ناظر الدولة( من ظلمة الكتاب الأقباط وفساقهم) .

الأمير تيبك ميلق (ت 826) ( كان ظالما سخيفا ماجنا متجاهرا) اى بالمعاصى .

الأمير سودون الأقىت827  ( كان عيبا كله) ،( لشدة بخله وكثرة فسقه وظلمه) .

الأمير تغرى بردى ت( 827)( والد المؤرخ ابى المحاسن ) قال عنه المقريزى:(ماهو إلا الظلم والفسق). الأمير إينال الطوروزى ت828 (كان ظالما فاسقا).

الأمير تاج الدين القازانى ت 839 والى القاهرة ( لم يعف عن حرام ولم يكف عن الإثم) ( ولقد كان عارا على جميع بنى آدم) .

الأمير سودون ت841( كان مصرا على مالا تبيحه الشريعة من شهواته الخسيسة).

الأمير طوخ نازى ت843( من شرار خلق الله فسقا وظلما وطمعا)[53].

   ومن خلال تنويع المقريزى فى وصفهم بالفسق والظلم نتعرف على تجاهرهم بذلك إلى درجة أصبحت لازمة من لوازم السلطة. وحتى الأقباط من خدم السلطة اتصف بنفس الملامح ، كالأمير ابن الرملى.

3 ـ  وقبل المقريزى يذكر ابن ايبك الصفدى فى القرن الثامن ان الأمير بغا الداودار الناصرى ت 737 كان يميل الى الشباب وكان يختلق الأعذار ليختلى بهم ، وأن الوزير توبة بن على ت 698 اشتهر ( بشراء المماليك الملاح )، وانه اشتهر بحب مملوك مليح اسمه اقطوان . ( الوافى 10 / 175 ، 10 / 438 : 439 )

4 ــ وبعد المقريزى يذكر ابن اياس أن عمر ابن الأمير دولات باى الداودار كان من أعيان ( أولاد الناس ) أى ( ابناء الأمراء المماليك ) و ( كان شابا حسن الشكل جميل الوجه بهى المنظر ) وأورد ابن اياس شعر عشق فاحش قالها بعضهم فى هذا الشاب المملوكى الذى مات فى طاعون ذى الحجة عام 881. ( تاريخ ابن اياس 3 / 125 )

5 ــ  وبعض الأمراء كبعض السلاطين خلط انحلاله الخلقى بانحلاله العقيدى ، ورأينا الناصر فرج يخلط الشطح بالفسق ، ومثله كان خادمه الأمير سيف الدين بلاط (ت 815) وصفه أبوالمحاسن فقال ( كان فاسقا زنديقا يرمى بعظائم فى دينه وكان يقول للناصر فرج .. أنت استاذى وأبى وربى ونبيى ، أنا لا أعرف أحدا غيرك ، وكان يسخر ممن يصلى ويضحك عليه )[54].

ومثله الأمير شاهين الأفرم ( كان مشهورا بقلة الدين ، بل كان بعض الناس يتهمونه فى إسلامه ) مع إدمانه الخمر واللواط[55].

والأمير يشبك الموساوى ت 814 ( كان يتجاهر باللواط )[56]

6 ــ وفى دراسة سريعة لتاريخ الهصر للصيرفى نرى هذه النوعية من الأمراء كالآتى :

الأمير قانم نعجة (ت873) ( كان من الأشرار الظلمة ، كثير الفسق والزنا ، وإن سكر عربد) .

وخوند فاطمة بنت  الظاهر ططر لها علاقات متعددة وخلطت ذلك بالتحايل على أموال الناس.

الأمير طومان باى الظاهرى ت 874 ( كان ظلوما غشوما منهمكا فى اللذات ) .

الأمير تانى بك المحمدى ت872 ( كان يظلم نفسه كثيرا لانهماكه فى الملذات ).

 ثم الوزير قاسم ( ضبطه الوالى بالجزيرة ومعه امرأة ) [57].

وكالعادة أيضا خلط بعضهم بين طريقه الصوفى وطريقه فى الانحلال  مثل الأمير بتمس الياجاسى الجركسى ( كان يحب الفقراء ويجالسهم ،ولكنه كان له ميل زائد فى الذكور)[58].

7 ــ  وواضح أن معرفة المماليك بالشذوذ كانت تبدأ مع بداية تعليمهم فنون الحرب .

يقول ابن كثير: ( رسم السطان الناصر محمد بالمنع  من رمى البندق ، وألا تباع قسيها ولا تعمل ، وذلك لإفساد رماة البندق أولاد الناس، ( يقصد أولاد الأمراء المماليك وصغارهم ) وأن الغالب على من تعاناه ــ أى احترفه ــ اللواط والفسق وقلة الدين ، ونودى بذلك فى البلاد المصرية والشامية ) [59]. وكان ذلك سنة 733 والنماذج السابقة كانت بعد ذلك بأكثر من قرن .

جمال المملوك طريقة للوصول للمناصب :

1 ــ وفى مجتمع تسيطر عليه آفة الشذوذ الجنسى ويتسارع أربابه على التجاهر بذلك يكون من المألوف اعتبار الجمال فى الذكور أهم طريقة للوصول إلى المناصب.

وقد عرضنا للسلطان برقوق واتهامه بحب الذكور، ولذلك يقول ابن حجر عن الأمير شيخ الخاصكى ت 801( كان جميل الصورة جدا ، فكان من أخص مماليك الظاهر برقوق به ) [60]. وعنه أيضا يقول السخاوى ( كان أجمل مماليك الظاهر برقوق وأقربهم إلى خدمته وأخصهم به ، وكان بارع الجمال فائق الحسن منهمكا فى الملذات )[61].

2 ــ ويقول المقريزى عن الأمير طنبرق أن السلطان المظفر حاجى( شغف به وأنعم عليه بإمرة مائة) .

وابن الأشرف خليل كان ( يهوى طغجى الأشرفى أحد مماليكه ، فقدمه وخوّله وأنعم عليه بمال كثير ) .

وقال عن الناصر محمد ابن قلاوون أنه ربى طقتمر الدمشقى صغيرا ( وشغف بحبه شغفا زائدا ، فأمَره سنة 710 ( أى جعله أميرا ) وأنشأ  له دارا جليلة )[62] .

وأن الأمير سكربيه ت 824 ( أصبح من خواص السلطان المؤيد لجمال صورته )[63]

3 ـ ويقول أبوالمحاسن عن الأمير تغرى برمش ت 840 أنه كان يجلس عند بعض الخياطين تحت القلعة ثم أعجب به الأمير قرا سنقر لجمال صورته فتدرج فى المناصب [64].

وقال عن الأمير على باى ( كان خصيصا عند استاذه الملك الأشرف إلى الغاية لجمال صورته )[65].

 4 ــ ويقول السخاوى عن يلخجا بن رامش ت 850 ( كان مفرط الجمال ، فأخذه السلطان الناصر فرج فجعله " خاصكى" ثم ساقيا واختص به جدا)[66] .

ويقول عن الأمير شاهين غزالى ( كان من خدام نائب قلعة دمشق ، فرآه جرباش المحمدى فأعجبه جمال صورته ، وأعلم الظاهر جقمق بذلك ، فراسل بطلبه فأرسله له سيده مع تقدمه ( هدية) وحينئذ أعتقه الظاهر وجعله خازنا ثم ساقيا، إلى أن عمله الظاهر خشقدم راس نوبة الجمدارية)[67] .  

وعن نفس الأمير شاهين غزالى يقول الصيرفى ( كان من خدام نائب قلعة دمشق ، فرآه الأمير كرد الناصرى فابتهج به ، وأعجبه جماله وحسن صوته وشكالته وقامته وهيفه وصار ذلك فى نفسه ، فلما عاد إلى القاهرة أعلم الملك الظاهر جقمق به ، فطلبه من سيده ، فأرسله مع تقدمه معه ، وكان صاحب هذه الدرجة ( أى شاهين غزالى ) من أجمل أبناء جنسه وجها وقدا ويدا وأعذبهم لفظا ، وبالجملة فإنه عديم النظير سيما على مايقال إذا انشرح وانبسط ، وكان منهمكا فى اللذات النفسية ، ويحب السماع الحسن ، وقد هام فيه الشعراء ومدحوه وقالوا : شاهين غزالى ، فصار لايعرف إلا بذلك وترنموا فيه.  وكان فى الواقع كل من رآه يكاد لايفارقه لحسن مداعبته . وكان يعاشر ابن رمضان ويحب البسط ولايفارقه )[68]. أما ابن اياس فقد أورد قول الشاعر فيه :

أيها العشاق اصغوا واسمعوا حسن مقالى       كل عاشق له غزال وأنا شاهين غزالى[69]   

 5 ــ  وهذا الوباء شمل غير المماليك ، إذ أصبح الجمال فى الذكور وسيلة للوصول لدى غير المماليك ، فيقول العينى فى ترجمة الشيخ جمال الدين التنسى ت 808 ( كان شابا جميلا خدم بعض الأمراء فتعصب له وولاه القضاء ، فقام جماعة من بينهم الجلال البلقينى على أهل الدولة وتحدثوا فيه لكونه لايليق فعُزل )[70]. أى كان الجمال من مسوغات تعيين القضاة وغيرهم  أيضا .

ويقول ابن حجر فى ترجمة الشيخ فتح الدين الحنفى ( كان بارع الجمال  فانتزعه برقوق .. وصار من أخص المماليك عنده وأسكنه عنده فاشتهر حينئذ وشاع ذكره )[71] أى تداخلت الفوارق بين المماليك والفقهاء طالما اشتركوا فى الجمال الذى أصبح  طريقا للوصول .

6 ــ ونتوقف مع قول المقريزى فى حوادث سنة 735 : ( وفيها كثر شغف السلطان ــ الناصر محمد ــ بمملوكه الطنبغا الماردينى شغفا زائدا فأحب أن ينشىء له جامع)[72]. وتم انشاء ذلك الجامع تذكارا لهذه العلاقة الآثمة ، ولايزال جامع الطنبغا الماردينى قائما فى القاهرة حتى الآن شاهدا على هذه النوعية من الدين الصوفى .

7 ــ وبعضهم أنقذه جمال وجهه من القتل صلبا وتسميرا . فقد أرهق الثائر ( سوار)  الدولة المملوكية حين قاتل جيوشها على الحدود شمال العراق. وفى النهاية هزمته الدولة وجىء به وبكبار أتباعه أسرى للقاهرة ، وتم تجهيزهم للتشهير مسمرين ليُطاف بهم على الجمال قبل أن يتم صلبهم . وكان من بينهم شاب جميل الصورة . يقول ابن اياس فى أحداث ربيع الأول عام 877 ، وكان حاضرا شاهدا ان هذا الشاب واسمه سليمان ( كان أمرد مليح الشكل ، فرقّ له الناس ، فشفع فيه الأمير بشبك فخلّصه من الشنكلة ) ( تاريخ ابن اياس 3 / 77 : 78 ) . ومعروف ان هذا الشاب سيدفع الثمن للأمير يشبك .

8 ــ ـ وفى الوقت الذى استمرأ فيه الأغلبية هذا الإنحراف نجد الصورة الأخرى فى قلة من الأمراء الذين استهواهم فكر ابن تيمية مثل الأمير بران ت 757، والأمير جنكلى ت 746 الذى كان يميل إلى ابن تيمية ويتعصب له ، ولم يكن له ميل إلى المردان [73]. أى تميز بين أقرانه بعدم الميل للشذوذ الجنسى.

المدح بقلة الوقوع فى الفواحش :

1 ــ كان وجود الصوفى العفيف الطاهر نادرة من النوادر تستحق التسجيل ، نفهم ذلك مما قيل فى ترجمة الشيخ حيدر الرفاعى ( كان خيرا عما ترمى به أوباش الأعاجم ــ أى الصوفية المشارقة ــ وكان قد اجتمع فيه خصال حميدة قلَ أن تكون فى أبناء جنسه ، من اقتدائه بالسنة ومحبته للصحابة وعدم ميله إلى لقيمة الفقراء ــ أى الحشيش ــ والمرد من الشباب [74].

2 ــ ونفس الحال مع المماليك كان أحدهم يمدح بأنه ( قليل الفسق) كما قيل فى ترجمة أقبغا شيطان [75] أو أنه ( غير مشهور بارتكاب الفواحش ) [76].

أو أنه لايمارس كل الفواحش بل بعضها ، فقد مُدح السلطان اينال ت 865 باشتهاره بحب الملاح من الصبيان إلا أنه كان يعف عن تعاطى المنكرات والمسكرات [77].

أو يقال فى السلطان قايتباى على سبيل الفخر( أنه كان لايلوط)[78]. وكما لوكان من الواجب المعتاد والمألوف أحدهم أن يقع فى الشذوذ .

بل يصل الأمر ببعضهم إلى أن يقسم بأغلظ الأيمان بأنه ( قط ما زنا فى عمره ، ولا لاط ، ولا ليط فيه )[79] . وطبعا ذلك استثناء يحتاج إلى تأكيد وأقسام مغلظة وربما إلى شهود أيضا !!

3 ــ ثم كانت هناك قلة لم يشتهر عنها الوقوع فى الفواحش فوصفت ( بالتنزه عن القاذورات المحرمة كالخمر واللواط والزنا) مثل ابن الكويز وتنبق البجاسى ويلبغا الناصرى[80]. والزردكاش[81].

أما الآخرون فقد أحدث انحلالهم الخلقى ضجة وصخبا فاستحقوا الخلود بين سطور التاريخ .

الشذوذ عاملا فى الفتن السياسية :

وكما كان الشذوذ عاملا من عوامل الوصول للسلطة والنفوذ فإنه بالتالى كان من عوامل الفتن السياسية فى الدوائر الحاكمة من المماليك والقضاه والولاة .

1 ــ  ففى سنة 737 اعتقل السلطان الناصر محمد الخليفة العباسى فى القاهرة وحبسه لمدة سنة ونصف السنة ، وذلك لأن الخليفة توصل إلى الإيقاع بحمدان، وهو أمرد حسن الوجه من حظايا السلطان ، فهجر حمدان السلطان وأقام عند الخليفة ، وتردد الأمراء من عشاق حمدان إلى الخليفة فى مجلسه ، وأهملوا خدمة السلطان ( فاشتد غضب السلطان فضرب حمدان وضرب الواسطة بينهما ، واعتقل الخليفة وأولاده بالقلعة، ثم نفاهم إلى قوص)[82].

2 ــ وبعض الأمراء كان مرشحا للسلطنة إلا أن فتنته بالشذوذ أطاحت بآماله فى وقت حرج كاد ان يكون فيه سلطانا ، كما حدث للأمير عز الدين الأفرم الذى كان مرشحا للسلطنة بعد مقتل طغجى وكرجى اللذين قتلا السلطان لاجين، وقد عين الأمراء الأمير سيلار بعد أن تخلوا عن فكرة تعيين  عز الدين الأفرم ، والسبب أن الأمير الأفرم لم يضبط أعصابه إذ( كان يهوى مملوكا من مماليك طغجى يقال له تستاى ، فلما قتل طغجى تغيب تستاى مدة وهو يتطلبه حتى أحضر إليه ، وهو جالس بشباك النيابة مع الأمراء ، فعندما عاينه لم يتمالك نفسه، فقام وأخذ بشعره وجذبه إلى خلوة ( ليفعل فيه )، والأمراء تنظر إليه ، فإشتد الإنكار عليه ، وأعرضوا عنه إلى سيلار ، ورتبوه بمجلس فى رتبة النيابة )[83].

وقد كان ذلك فى عصر دولة المماليك البحرية، وحيث كان هناك بعض الإنكار عليه . وقبل أن يسود وباء الشذوذ فى دولة المماليك البرجية

3 ــ وكان للوزير القبطى ( النشو ) نفوذ هائل فى سلطنة الناصر محمد ، واستخدم هذا النفوذ  وسيلة فى الكيد لخصومه فى إتهامهم بالشذوذ الجنسى ، وتمكن بذلك من عزل ضياء الدين من حسبة القاهرة. واستعمل خصوم (النشو) معه نفس الوسيلة فألقوا ورقة تتهم صهر النشو بأنه تعشق شابا تركيا اسمه عمير الذى كان معشوقا من قبل للأمير الماس ، وأن أقارب النشو أولعوا بهذا الشاب وأنفقوا أموالهم عليه ، وحقق السلطان مع النشو فأنكر ، فاعتقل الشاب وعوقب ، فأقر على كثيرين من الأعيان منهم أخو النشو فخشى الحاجب الذى يتولى تعذيبه على الناس من الفضيحة ، فقال للسلطان هذا الكذاب ماترك أحدا فى المدينة حتى اعترف عليه ، فنفى السلطان الشاب وأباه إلى غزة .  وقد هجم ولى الدولة أخو النشو مع بعض أخوته على مملوك للأمير الطنبغا القاسمى واغتصبوه فضبطهم الطنبغا ، فما كان من النشو إلا أن اتهم الطنبغا بالشذوذ عند السلطان وتسبب فى نفيه للشام.

4 ــ وفى هذه الأيام 738 عزل قاضى القضاه جلال الدين القزوينى لإتهام ابنه بكثرة اللهو والشراب وأخذ الرشوة ليعين القضاة ونحوهم بنفوذ أبيه ، واشتهر ذلك الإبن بسماع الغناء ومعاشرة الأحداث من أولاد الأكابر ومماليك الأمراء وتجاهر بالمنكرات ، فأخرجه السلطان للشام، ثم أعاده حين توسط أبوه له ، إلا أن الإبن عاد لأقبح مما كان فيه فنفى ثانية ، وأعاده أبوه أيضا ليعود لنفس سلوكه ، واتهموه بأنه لا يولى القضاة إلا بعد أن يجتمع بأولادهم وبعد أن يرتشى منهم . ( وصنع الشاعر الغزى فى ذلك قصيدة شنيعة )[84].

5 ــ وقامت بعض الثورات والفتن بسبب ( تعرض المماليك لأولاد الناس فى بلادهم)، فالأمير شيخ الصفوى ت 801  ثار عليه اهل  القدس بسبب ( تعرضه لأبنائهم ، وإكثاره من الفساد )[85]. والأمير جانبك ( فسدت عليه أهل قبرص بسبب فسقه بأولادهم) ، وانتهى الأمر بقتله وفشل حملته على قبرص [86].

 

 

 

  المجتمع المملوكى المنحل خلقيا بالتصوف: صورة عامة للإنحلال فى القاهرة

 صورة عامة للإنحلال فى القاهرة المملوكية

مقدمة

الحوليات التاريخية تركز على التأريخ للسلطان أو الخليفة فى عاصمته ، تسجل ما يحدث سنويا أى بالحول فسميت ( الحوليات التاريخية ) . والعادة أن تكون الأجزاء الأخيرة من الحوليات التاريخية هى الأهم لأن المؤرخ يكون فيها شاهدا على العصر . النقص الأكبر فى الحوليات التاريخية أن المؤرخ فى تركيزه على العاصمة وأصحاب النفوذ فيها يتجاهل غيرها من المدن والأقطار . حدث هذا فى العصر العباسى مع الطبرى و ابن الأثير وابن الجوزى فى التركيز على بغداد والعراق ، وحدث هذا أيضا فى العصر المملوكى فى التركيز على القاهرة ، نرى هذا مع المقريزى فى ( السلوك ) وابن حجر فى ( إنباء الغمر ) وابى المحاسن ( النجوم الزاهرة ) و الصيرفى فى (  إنباء الهصر ) وابن اياس فى ( بدائع الزهور ) . بل إن بعض المؤرخين الشوام المقيمين فى الشام التابع للدولة المملوكية كان أيضا يركيز على القاهرة ، كما حدث فى الأجزاء الأخيرة فى تاريخ ابن كثير ، وفى موسوعة النويرى ، وتاريخ ابن الفرات وتاريخ الغزى وتاريخ ابن طولون .

هذه مقدمة نؤكد بها أن ما كان يحدث من انحلال خلقى بأثر التصوف فى القاهرة المملوكية هو مجرد ( عيّنة ) لما يحدث بعيدا عنها . بل ربما فى مجال الانحلال تتفوق المدن الأخرى فى الأطراف وفى الريف عن القاهرة ، إذ تمارس الانحلال بلا رقيب وبلا تسجيل تاريخى . أسعفتنا كتابات المؤرخين المنجذبين للقاهرة وأضواء السلطة المملوكية فوجدنا مادة تاريخية عن القاهرة المملوكية تعطى فكرة عن الانحلال الذى نشره التصوف فى العصر المملوكى والدولة المملوكية الممتدة من غرب العراق الى برقة ، ومن جنوب تركيا الى جنوب الحجاز وشمال السودان . فالقاهرة كانت ــ ولاتزال ــ الوجه المعبر للمنطقة ، فيها مركز الحكم والفكر واهتمامات المؤرخين، وعلى وجهها تنعكس الأحوال الصحية والمرضية للعصر التاريخى الذى تحياه المنطقة .

         1 ــ وفى عصرنا المملوكى يقول الشاعر القاهرى الخفيف الظل البهاء زهير[87]

         تســــابقنــا إلى اللهــــو          ووافـــــينا بتــبكيـــر

         وفــــينا رب مـــحـــراب          وفــــــينا رب مــاخـور

         ومن قـــوم مــســـاتيــر          ومن قـــوم مــسـاخـــير

          والشاعر هنا يعطى صورة للمجتمع المملوكى القاهرى إذ يستيقظ الناس فيه مبكرين يتسابقون إلى اللهو لافرق بين عربى ولا عجمى إلا فى الدرجة فى التبكير، كلهم يتسابقون إلى اللهو منهم رجال الدين( رب محراب ) ومنهم رجال الفساد (رب ماخور ) وفيهم أهل الطبقات الراقية ( ومن قوم مساتير) والعوام ( ومن قوم مساخير).

2 ــ وليس الشاعر مبالغا فى شىء وإنما ينقل ماكان يحدث فى الشارع المصرى ورددته المصادر التاريخية ،والمقريزى يقول عن القاهرة ( والفقير المجرد فيها مستريح من جهة رخص الخبز وكثرته ، ووجود السماعات والفُرج فى ظواهرها ودواخلها ، وقلةالاعتراض عليه فيما تذهب إليه نفسه يحكم فيها كيف شاء ، من رقص فى السوق، أو تجريد ، أو سكر من حشيشة أو غيرها ، أو صحبة مردان ، وما أشبه ذلك ، بخلاف غيرها من بلاد المغرب)  . فشوارع القاهرة مليئة بأماكن اللهو والحفلات ، والصوفى يتمتع بحريته ، يرقص كيف يشاء ويدخن الحشيش ويشرب الخمر كما يحلو له ، أو يمارس الشذوذ مع المردان إذا أراد ، ولا اعتراض عليه فيما يفعل ، والمقريزى ينقل وجهة نظر شيخه ابن خلدون حين أتى للقاهرة من المغرب وصدمه واقع القاهرة المنحل وقارنه بما يحدث فى المغرب .

          ثم يقول ( ولا ينُكر فيها إظهار أوانى الخمر ولا آلات الطرب ذوات الأوتار ، ولاتبرج النساء العواهر ، ولا غير ذلك مما يُنكر فى بلاد المغرب) أى كانت القاهرة عاصمة للفن ، و"العواهر" وكل شىء فيها ظاهر للعيان. ثم يقول ( وقد دخلت فى الخليج الذى بين القاهرة ومصر .. فرأيت فيه من العجائب .. وربما وقع قتل فيه بسبب السكر ، وهو ضيق ، عليه فى الجهتين مناظر ، كثيرة العمارة بعالم الطرب والتهكم والمخالفة) . أى زار بعض أماكن الفساد وتعجب مما فيها من مشاجرات ومنازل للهو والمرح .

    ثم يقول عن المصريين فى عهده ( ومن أخلاقهم الإنهماك فى الشهوات والإمعان فى الملاذ وكثرة الاستهتار وعدم المبالاه ، قال لى شيخنا عبدالرحمن بن خلدون : أهل مصر كأنما فرغوا من الحساب ) ، وابن خلدون بحاسته النافذة يشير إلى الأساس الدينى الذى جعل المصريين ينهمكون فى المعاصى أكثر من غيرهم من بلاد المغرب . وهو اطمئنانهم على مستقبلهم فى الآخرة وأمنهم من الحساب والسبب واضح هو أن التصوف أرسى فى عقيدتهم أن الأولياء يشفعون فى العصاة ــ والنبى أيضا ، إذن لا عليهم مهما بلغ انحلالهم الخلقى.  ويقول المقريزى: (  ولقد كنا نسمع أن من الناس من يقوم خلف الشاب أو المرأة عند التمشى بعد العشاء بين القصرين ويجامع حتى يقضى وطره ، وهما ماشيان من غير أن يدركهما أحد، لشدة الزحام واشتغال كل أحد بلهوه ) "[88]. .. والمقريزى فى تلك اللوحة التاريخية الرائعة النادرة يرسم صورة للشارع المصرى فى عصره مليئة ، بالحركة والازدحام والانحلال والصخب حتى تتم ممارسة الزنا والشذوذ فى الشارع وسط الزحام دون خوف أو خجل . والمقريزى يشير الى عدم الاعتراض وإشتغال كل واحد بلهوه ومجونه .

         3 ــ وبازدياد سيطرة التصوف زاد الانحلال وعمَ . وبعد قرنين من الزمان يقول الشعرانى يصف عصره ( ونحن فى زمان وعد الشارع فيه بظهور المعاصى والفتن وكثرة الزنا واللواط والقتل وشرب الخمر وغير ذلك )[89]. ويأبى الشعرانى أن يتخلى عن عقيدته الصوفية وهى أساس البلاء ــ حين يتحدث متحسرا عن شيوع مفردات العصيان من الزنا واللواط والقتل والخمر ( ونحن فى زمان وعد الشارع فيه بظهور المعاصى) أى يعبر عن عقيدة وحدة الفاعل الصوفية التى تجعل المعاصى قضاء إلاهيا لامفرمنه ، ولا مسئولية على البشر من ارتكابه . وفى موضع آخر ينصح الشعرانى الحكام المعزولين بالتوبة ثم يقول ( وكثيرا ماتزول النعمة عن بعضهم بالذنوب التى كان يستهان بها لكثرة وقوعها كشرب الخمر والزنا واللواط والتعاون عند الحكام وإخراج الصلوات عن أوقاتها)[90].ومعناه أن الناس تعودوا العصيان حين أكثروا الوقوع فيه واعتادوه .

4 ــ  إذن اتفقت الصورة عن الشارع المصرى المملوكى حين نقلها شاعر ومؤرخ وشيخ صوفى ، كل منهم عاش فى وقت مختلف فى العصرالمملوكى.

أهل الكتاب فى الميدان :

1 ـ وبشيوع الانحلال فإنّ   أهل الكتاب لم يتخلفوا عن الركب وعن التسابق إلى اللهو ، خصوصا فى الأعياد القبطية كعيد الشهيد والنيروز وشم النسيم ، إذ عرف العصر المملوكى إذابة الفوارق بين جميع الطوائف الدينية والاجتماعية فى ممارسة الانحلال.

 2 ــ  على أن بعضهم لم يكتف بممارسةالانحلال داخل طائفته ، وإنما انفتح على المسلمين يمارس الزنا واللواط بنساء المسلمين وأولادهم ، وبعضهم ضبط فى حالة تلبس فكان مصيره القتل ، وحين قتل استحق الخلود فى سطور الحوليات التاريخية ، ففى حوادث سنة 734( وجد بالقاهرة يهودى مع امرأة من بنات الترك ــ أى المماليك ــ فرجم اليهودى إلى أن مات وصودر ماله ، وحبست المرأة)[91]. وفى حوادث سنة 820 يقول المقريزى( أُمسك بالقاهرة نصرانى قد زنا بمسلمة، فرجم خارج باب الشعرية ، وأحرق العامة النصرانى ودفنت المرأة)[92]. ويقول ابن حجر فى نفس الحادثة ( زنا نصرانى بمسلمة فرجم وأحرق النصرانى ، ودفنت المرأة)[93]. وفى حوادث سنة836 يقول ابن حجر ( ضربت رقبة نصرانى كان قد أسلم خوفا من الوالى لأنه ظفر به مع امرأة مسلمة ، ثم ارتد فقتل ، وأحرقت جثته)[94]. ويقول الصيرفى فى نفس الحادث ( نصرانى وجده رجل مع زوجته فاحتمى عن القتل بإظهار الإسلام بلسانه، وبعد مدة ارتد ، فحكم بقتله)[95].. وواضح أن العقاب للكتابى كان أسرع وأشد ، أما المرأة فكان يخلى سبيلها أحيانا.

3 ــ ويختلف الحال حين يكون الكتابى صاحب نفوذ وليس من العامة ، كما فعله أقارب النشو الوزير النصرانى القوى فى عصر الناصر محمد .

وفى عهد الأشرف برسباى شكا أهل دمياط من ابن الملاح لأنه ( يتجاهر باللواط ، ويستخدم من كان جميل الصورة من أهل البلد) ويبالغ فى إظهار الفاحشة ( حتى أنه ربما قام بحضرة الناس فخلا به الشاب منهم بحيث لايواريه إلا جدار المخدع أو شبهه ، ثم يخرجان على الهيئة الدالة على المراد ، وكثر ذلك منه ، وأنف جماعة من الناس ومنعوا أولادهم من الخدمة عنده ، وهو يفسدهم بكثرة العطية ومعاقرة الخمر والغناء ، مع ماهو فيه من الجاه العريض ، حتى كان والى البلد يقف فى خدمته .. فقعد له مجلس بحضرة السلطان فأنكر ، فقامت عليه البينة ، فبادر وأسلم ونجا من العقوبة ).[96]

        وكان بمقدور الكتابى أن يمارس الرذيلة دون عقاب مع المحترفات ، وأغلبهن مسلمات ، وكانت الدولة المملوكية تأخذ عليهن الضرائب وذلك مايعرف ب( ضمان المغانى).

 

  طبقة البغايا والمخنثون 

ضمان المغانى :

        1 ــ يقول عنه ابن أياس فى حوادث 778 ( أبطله الأشرف شعبان ، وكان قد بطل فى الزمان القديم وأعاده وزراء السوء لكثرة مايتحصل منه من المال الجزيل ، وهو عبارة عن مال كبير مقرر على المغانى من رجال ونساء ، فكان لاتقدر المرأة من المغانى تضرب بدف فى عرس أو ختان أو نحو ذلك إلا بإطلاق ــ أى تصريح  رسمى ــ وعلى كل إطلاق ( تصريح رسمى ) مال مقرر للديوان المفرد ، وكان على كل مغنية مال مقرر تحمله إلى الضامنة ، وكان فى كل ليلة يدور على بيوت المغانى من جهة الضامنة لمعرفة من باتت منهن خارج بيتها، وكان مقررا على النساء البغايا ضرائب مقررة .  وكان ببلاد الصعيد والوجه البحرى حارات للمغانى والبغايات ، وكان هناك يظهر التجاهر بالزنا وشرب الخمر مايشنع ذكره ، حتى لو مر على تلك الحارات رجل من الغرباء من غير أن يقصد الزنا ، فتنقض عليه بغية من تلك البغايا التى فى الحارة وتلزمه غصبا بالزنا ، أو يفتدى نفسه بمبلغ حتى يخلص من يدها من الفعل القبيح إن فعل وإن لم يفعل ، وتقوم بما تأخذ منه من المبلغ مما عليها من الضريبة المقررة عليها فى كل يوم ) [97]                                                                         

وواضح أن الدولة كانت تشجع الانحلال بفرض هذه الضريبة التى تدفع البغايا لاغتصاب الرجال ، ولم تفرق الدولة بين محترفات الغناء(المغانى) ومحترفات الدعارة (البغايا) فألزمت الجميع بدفع الضريبة رجالا ونساء بغايا ومغنيات ، ومعناه أن الفن كان من مظاهر الانحلال الخلقى وقتها حتى أن المغنية إذا باتت خارج بيتها دفعت الضريبة سواء غنت أو فجرت فلا فرق.

2 ــ وصار وجود العاهرات فى الشارع المصرى أمرا مألوفا، وقد تحررن من إرتداء النقاب ، ولبسن أزياء تلفت النظر . يقول المقريزى عن القاهرة ( ولاينكر فيها إظهار أوانى الخمر ولا آلات الطرب .. ولا تبرج النساء العواهر)[98]. وعن الصعيد يذكر كاتب مناقب الفرغل أن بعضهم مر على البغايا( وهن مزينات مكشوفات الوجوه) أى تميزت العاهرات بكشف الوجه ، بينما تنقبت الأخريات[99] .

 وقد سبق أن بيوت الدعارة قد تمتع بعضها ببركات المشايخ الصوفية مثل الشيخ وحيش الذى كان يتشفع فى الزناة ، والشيخ حسن الخلبوص الذى كان يحمل العاهرات فوق ظهره.

 وفى حوادث سنة 876  يقول الصيرفى أن السلطان قايتباى بلغه ( أن الخواطىء ــ أى العاهرات ــ يفعلن المنكر بالجنينة التى هى من أرض الطبالة ــ العباسية الآن ــ ففحص عن من يأخذ جعلهم ــ أى يفرض الضريبة عليهم ــ ورسم بالكبس عليهم)[100]. فالسلطان الورع قايتباى صاحب الأوراد تحمس للبحث عمّن يسترزق بالقوادة ليفرض عليه الضريبة ، ولم يتحمس لمنع البغاء ذاته .

ويقول البقاعى فى نفس الموضوع ( طلع ناس من العامة وشكوا من دويدار والى القاهرة ، وكان قد أقام ثلاثين امرأة للفسوق فى ناحية الجنينة وأرض الطبالة ، وقرر على كل امرأة منهن نصفا من الفضة كل يوم ، فظهر للسلطان صدقهم)[101].  وواضح أن الإنكار هنا سببه أن الوالى هو الذى كان يأخذ الضريبة لنفسه دون السلطان ، وأن الوالى ــ وهو مدير الأمن بمفهوم عصرنا ـ كان يرتزق من عرق المومسات ولا يدفع عنهن ضريبة للدولة المملوكية التى تطبّق الشريعة .!!

 3 ــ وقد أبطل ضمان المغانى عدة مرات فى العصر المملوكى . أبطله الظاهر بيبرس سنة 656هـ حين أراق الخمور( ومنع النساء الخواطىء من التعرض للبغاء من جميع القاهرة ومصر وسائر الأعمال المصرية ...) ( وحبست النساء حتى يتزوجن).  ثم أبطله الناصر محمد سنة 715  ، ثم أبطله برقوق من بعض المناطق[102]. وكان ضمان المغانى لا يلبث أن يعود دائما بسبب جشع القائمين على الدولة ، أو حسبما يقول ابن أياس ( وكان قد أبطل فى الزمان القديم وأعاده وزراء السوء لكثرة مايتحصل منه من المال الغزير ).

 ويقول المقريزى فى حوادث سنة 827( وفيه تُتُبعت البغايا ، وألزمن بالزواج ، وألا يزاد فى مهورهن عن أربعمائة درهم من الفلوس ، ونودى بذلك فلم يتم منه شىء)[103].

ومن الطبيعى ألا يتم شىء مع وجود تلك النداءات والتسهيلات ، فلم يتزوجن ولم يقلعن عن الفحشاء لأن وجودهن ضرورة فى مجتمع يدين بالتصوف الذى شاهدنا جذور الانحلال الخلقى تشكل أساسا فى عقيدته وفى شريعته وفى نظام حمكه الفعلى.

 4 ــ وظلت مصر تحمل عار فرض ضريبة البغاء حتى أواخر العصر العثمانى وما بعده حتى تم إلغاؤه مؤخرا من حوالى ستين عاما . يقول كلوت بك عن العاهرات فى العصر العثمانى : ( كان وجودهن فى الديار العثمانية نادرا جدا ، ولكن مصر ــ التى خالفت ممالك الشرق فى أكثر من حال من أحوالها العامة ولاسيما فى ارتخاء حبل الأخلاق ــ تجاوزت الحد، فلم تقتصر على قبول العهارة وإجازتها، بل كانت تجبى من العاهرات مبلغا جسيما يدفع سنويا لخزانة حكومتها ، وكانت طائفة العاهرات فيها إلى حد قريب منا طائفة معروفة ذات رؤساء يهيمون عليها ، وأنظمة خاصة تسير على منهاجها)[104].

ضريبة المغانى تشمل الشواذ

1 ـ  وقد شملت ضريبة المغانى المخنثين من الذكور مع النساء العاهرات ، وابن أياس يقول عن ضمان المغانى ( وهو عبارة عن مال كبير مقرر على المغانى من الرجال والنساء)، فذكر الرجال والنساء معا ووصفهما معا بالمغانى .  

2 ــ ومن أنواعه مايعرف " بشد الزعماء" وهو ضريبة يقول عنها المقريزى ( مقرر على كل جارية أو عبد حين نزولهم بالخانات لعمل الفاحشة ، فتؤخذ من كل ذكر وأنثى مقدار معين)[105]. ومعناه أن الخانات حفلت بالمخنثين والبغايا لطلاب المتعة الحرام بنوعيها السوى والشاذ، وكان أولئك من الجوارى والعبيد لمن لايستطيع أن يشترى جارية أو مملوكا خاصا به، وأما السادة فلهم بالطبع قطعانهم الخاصة من الغلمان . وفيما عدا بين السادة المكتفين بمماليكهم والعوام المترددين على الخانات فقد كثر الترافق بين أصحاب الشذوذ ، يقول المقدسى الرجائى ( وأما زماننا فقد كثر فيه الفساد ، واكتفت الرجال بالمردان )[106].

تشريعات للمخنثين والشواذ

1 ــ  وبانتشار هذا الإثم لم يعد عيبا أوعارا ، بل صارت له آدابه برعاية التصوف .

 يقول ابن القيم( ولما سهل الأمر فى نفوس كثير من الناس صار كثير من المماليك يمتدح بأنه لايعرف غير سيده ، وأنه لم يطأه سواه كما تمتدح المرأة بأنها لاتعرف غير سيدها وزوجها ، وكذلك كثير من المردان يمتدح بأنه لا يعرف غير خليله وصديقه أو مؤاخيه ، أو معلمه ، وكذلك كثير من الفاعلين يمتدح بأنه عفيف عما سوى خدنه الذى هو قرينه وعشيره كالزوجة أو عما سوى مملوكه الذى هو كسريته أى مثل سريته ، أى مملوكته) [107].

أى أصبح هناك مفهوم جديد للشرف ، فالمفعول به يفتخر باخلاصه للفاعل به وأنه لا يعرف غيره ، والفاعل يفتخر بأنه مخلص للمفعول به لا يمتد ( طرفه ) لغيره.

2 ــ وبرز نوع عجيب من الشذوذ ( الشريف ) أو ( الشذوذ العفيف ) أى ان يستغرق أحدهم فى ( حب ) الأمرد دون أن يمارس معه الفحشاء . وكان بعض الصوفية يزعم هذا ، ولسنا مرغمين بتصديقهم وهم ينامون مع أولئك الصبيان ، ويزعمونها ( محبة الفقراء ) .

ولكن يمكن أن نصدق بعض المصادر التاريخية ، خصوصا ابن أيبك الصفدى الذى يبدو من تأريخه التشوق لايراد الأخبار الماجنة مع الأشعار الفاحشة والكلمات الفاحشة تعبيرا عن عصره ومن يؤرخ لهم . ومع هذا فقد كتب عن بعض معاصريه بما ينطبق عليهم مفهوم الشذوذ العفيف او الشريف . فهو يقول عن الشيخ تقى الدين السروجى إنه كان يغلب عليه حُبّ الجمال مع العفة والصيانة ، وأنه كان يكره النساء ويرفض أن يلمس طعاما من عملهن. وأنه كان يُحبُ فتى( حبا شريفا ) وأن والد الفتى كان يعرف ذلك ويباركه . ثم مات الفتى فحزن عليه الشيخ السروجى الى أن مات . فقال والد الفتى : ( والله ما أدفنه إلا فىقبر ولدى ، وهو كان يهواه ، وما أفرّق بينهم فى الدنيا ولا فى الآخرة ) ( الوافى 17 / 341 : 342 )

ويقول الصفدى أيضا عن الأمير المملوكى ايدكين علاء الدين الصالحى ت 690 أمير صفد أنه كان يلعب مع أولاد صفد الكرة ، وكان يعاشر الفقراء الصوفية ، ويحاضر العلماء ( ويميل الى الصور الملاح من غير فعل فاحش ) ( الوافى 9 / 490 : 491 ).

عشير الناس ( جلسات السمر للشذوذ الجنسى )

1 ــ ونجوم الشذوذ أقيمت لهم حفلات السمر ، وتمتعوا فى نهاية العصر المملوكى بلقب ( عشير الناس )   وهو شخص شاذ شذوذا إيجابيا أو سلبيا أو النوعين معا ( البدل ) ، وهذا الشخص الشاذ يكون فى العادة حسن الوجه حُلو المعشر جذّابا ظريفا ماهرا فى الحديث ليميل الناس الى صحبته والتسامر معه و ( معاشرته ) أى ممارسة الفحشاء الشاذة معه بحيث يستحق لقب ( عشير الناس ) ، ويشتهر، فيلتفت اليه المؤرخون فيجد طريقه للخلود بين صفحات التاريخ إذا إشتهر فى عصره ، أو أن تصل شهرته الى الأعيان فيطلبونه لمجالسهم الخاصة ( جدا ) ، ويصل أمره الى المؤرخين فيكتبون عنه .

2 ـ وبدأ الأمر فى عصر المؤرخ ابن أيبك الصفدى . وسجله بين سطور موسوعته التاريخية ( الوافى بالوفيات ) دون أن يستعمل مصطلح ( عشير الناس ) الذى لم يكن قد ظهر وقتها فى القرن الثامن الهجرى .

وكان منهم : بهاء الدين بن غانم ت 735 ، وهو من معارف ابن ايبك الصفدى ، وقد قال عنه ( وكانت بينى وبينه محاورات ومناقضات ومعارضات ومناقشات ) ( الوافى 10 / 258 ) . وقد وصفه الصفدى بأنه ( كان حسن الشكل لطيف العشرة، عليه أُنس فى السماع ، وله حركة فى الرقص ، وكان يهوى ( طقصبا ) وهو صبى يغنى ، وكان يعمل به السماعات ( اى الحفلات الغنائية الصوفية ) ، ويرقص علي غنائه ، ويحصل له وجد عظيم ) ( الوافى 10 / 253 ) . هذا الوجد العظيم كان يحدث علنا فى حفل السماع ، فكيف بالخلوة ؟

ومنهم الشيخ محمد الغزى ، يقول عنه المؤرخ الصفدى وكان معاصرا له وقت تأليف موسوعة ( الوافى بالوفيات ) : ( سألته عن مولده فقال : فى سنة خمس وثمانين وستمائة ) . وقد نقل له الصفدى شعرا فاحشا فى الشذوذ الجنسى لا نستطيع إيراده . وقال عنه : ( وخالط الناس وعاشر ، وفيه خفة روح وكيس ( أى ذكاء وظُرف . ) ( الوافى 4 : 323 ). وهنا نرى الصفدى يستعمل مصطلحا قريبا من مصطلح ( عشير الناس ) الذى انتشر فيما بعدُ.

ويقترب الصفدى أكثر من مصطلح ( عشير الناس ) فى تأريخه للصاحب علاء الدين ابن الحرانى الذى مات فى رمضان 752 ، أى  قبل موت الصفدى ب 12 عاما . يقول عنه الصفدى ( وكان فيه كيس ولُطف عشرة ن وبيته مجمع الأصحاب والعشراء )( الوافى 22 / 180 ).   

3 ـ وفى أواخر العصر المملوكى تكاثر المخنثون من أصحاب الشذوذ السلبى ، وانتشر الشذوذ أكثر ، وصارت له مجالسه ، وصار له نجومه ، فاشتهر بهم مصطلح عشير الناس، وكان هذا من أوصافهم التى جاءت فى تاريخ ابن إياس . ونأخذ أمثلة تعبّر عن عصر ابن إياس ، مع تقديم الاعتذار الكافى عن إضطرارنا لايراد بعض الشعر الفاحش للتعرف على ذوق العصر الذى خلا من الذوق .!!.

3 / 1 : قال عن الشيخ أمين الدين الغيطى ت 844 هـ : ( كان عشيرا للرؤساء والأعيان ، لايبرحون من منادمته ساعة واحدة ، وكان مُقعدا ، يُحملُ على الأكتاف الى بيوت الأعيان ، وكان يُنسب الى أٌبنة به ( أى مدمنا على الشذوذ السلبى مريضا به مُضطرا اليه ) ، وقد اشتهر بذلك. يقول القائل فيه :

عجبا من صاحب كان لنا    فيه للعاقل منا معتبر

جمع المال صغيرا بإسته  ثم أعطاه عليها فى الكبر

فإذا عاتبته فى فعله          قال : هذا قضاء وقدر

وقال آخر :

قيل أن الأمين أضحــى رفيعا          قلت كُفـُّوا فليس هـذا حقيـقة

كـيف يبــدى تكبــرا لأناس                 وأقل العــبـيـد يعلو فـوقـه

وقال آخر :

يقول لى والإير فى إسته             كانه مبرد حدّاد

إن شيوخ الأرض فى عصرنا تفضّلُ الميم على الصاد.

( الميم رمز للإست أو المؤخرة ، والصاد رمز لمهبل المرأة )( تاريخ ابن اياس 2 / 225 : 226 )

3 / 2 : الشيخ اسبل الخضرى المالكى ت محرم 873 ، قال عنه ابن اياس ( كان عشير الناس ، كثير المداعبات والنوادر ، لطيف الذات ، محببا لأرباب الدولة ) ( تاريخ ابن اياس 3 / 19 )

3 / 3 : القاضى الشافعى  الشيخ كتكوت ( بدر الدين الدميرى ) ت ذو الحجة 887 : ( وكان فكه المحاضرة كثير العشرة للناس ، طلق اللسان. ) ( تاريخ ابن اياس 3 / 198 )

3 / 4 : كلب العجم ( الشيخ محب الدين عبد الرحمن بن حسن ) ت  ذو القعدة 887 ، ( كان عشير الناس ، فكه المحاضرة ، ومن أخصّاء الأمير يشبك من مهدى الداودار الكبير ، كان يسرف على نفسه ، يميل الى محبة الأحداث ، وله فيهم أشعار كثيرة ، قال له الشهاب المنصورى يداعبه .....) ( تاريخ ابن اياس 3 / 197 )

3 / 5 : الأديب الشهاب الحجازى . ت شعبان 875 . ( كان عالما فاضلا بارعا فى الأدب ، وله عدة مصنفات فى الآداب ، وكان ظريفا لطيف الذات عشير الناس ، حسن المحاضرة . ومن شعره  .... )

( تاريخ ابن اياس 3 / 57 )

3 / 6 : وفى حوادث شهر بيع الأول عام 873 : تعيين مثقال الحبشى الساقى فى مشيخة الحرم النبوى . والسبب كما يقول ابن اياس : ( وكان مثقال هذا عشير الناس ، كثير الانهماك على شرب الراح ، فمقته السلطان ( قايتباى ) وألبسه مشيخة الحرم النبوى الشريف لعله يتوب ) ( تاريخ ابن اياس : 3 / 23 ) . جدير بالذكر أن السلطان قايتباى كان عفيفا ومشهورا بالتعبد والأوراد .!!

شيوخ مخنثون

1 ــ  وبعضهم أصبح شيخا صوفيا فقال فيه ابن النقيب الشاعر، ونعتذر عن اضطرارنا للنقل :

رُب علــق صـــار شيخـا          يـــدعى دينـا وعفة

قال لـى من ليس يدربـــه        ولا يعـــرف وصفــه     

ذا لــــه حـــال وكشـف           ذا لــه حــج ووقفه

قلـت له كـم بينى وبـين الشيخ  قبل الكـشف كـشفه

وقال فى آخر :

علـق ترهـب خـــده وتصـوفا       ورأى وأبعـد فـيه قلبى واشتـفا[108]

ويقول الشاب الظريف فى أحد القضاة المخنثين :

                    صـدودك هل له أمـد قــريب          ووصلك هل يكـون ولا رقـــيب

                    قضــاة الحسن ماصنعى بطرف         تمنى مــثله  الرشــــأ الرتيب

                    رمى فـأصــاب قلبى باجتهـاد        صـدقتم كـل مجــهد مصـــيب  [109]

التحذير من الاعتراض على المخنثين الشواذ

1 ــ  وحذر الصوفية من الاعتراض على المخنثين ، يقول الشعرانى أن من المنن عليه عدم اعتراضه على المخنثين ( لأنهم أصحاب أمراض ، فربما ازدراهم أحد ، فابتلاه الله بمثل ما ابتلاهم به)[110].

أى أنه طبقا لعقيدة التصوف فى ( وحدة الفاعل ) فقد جعل الله جل وعلا مسئولا عن وجود هذه الطائفة، تعالى رب العزة عن ذلك علوا كبيرا  .

شيوع الشذوذ الجنسى السلبى فى مصر منذ القرن الثامن

وبسبب وجود هذه الطائفة وشهرتها فقد كتب المؤرخ ابن ايبك الصفدى  ساخرا فى كتابه ( شرح لامية العجم ) يقول مثلا : ( والمصريون يتنافسون فيه ــ أى الشذوذ السلبى ــ ويتفاخرون به ، ويعتبرونه منقبة سامية ومرتبة علية ، وإذا إدعاه مدع ، ممن لا يعتزى إلى مجد شريف ولا ينتمى إلى منصب منيف ــ دفعوه عنه وأنفوا له منه ، وقالوا بأى أبويه استحق هذه المنزلة ، أم بأى رياسة وصل إلى هذه المرتبة ، وإذا وصفوا إنسانا برقة الحال قالوا : فلان يبوس ملتفتا )[111].

وقد ملأ الصفدى كتابه ( شرح لامية العجم ) بأبشع من هذا . ولقد اخترنا أخف النصوص .وكالعادة نعتذر عن النقل لإضطرارنا اليه ليعرف القارىء أخلاقيات العصر المملوكى وذوقه .

  انحلال النساء العاديات بالنقاب

 1 ــ كان إرتداء النقاب فريضة سُنية ، وكان الانحلال الخلقى شريعة صوفية . والعصر المملوكى كان يتبع التصوف السّنى ، أى بتعبيرهم :( الحقيقة والشريعة ) ؛ الحقيقة تعنى التسليم التصوف وتقديس أوليائه ، مع تطبيق ما تيسّر من الشريعة السّنية عبر قُضاة صوفية ، وتحت شعار "الشرع الشريف ".

وفى موصوعنا عن الانحلال الخلقى قام ( النقاب ) بعقد الصلح بين دينى السُّنّة والتصوف وفق التدين السطحى المظهرى المتفق عليه بين الدينين الأرضيين ، فالنقاب تمسك ظاهرى بالشريعة السًّنية التى تُحرم سفور المرأة ، وهو فى نفس الوقت يعطى المرأة ــ ولا يزال يعطيها ـ فُرصة التخفى لتمارس الانحلال كما يحلو لها ، ولا يستطيع أن يتعرف عليها أحد . المومسات المحترفات لم يكنّ يلجأن للنقاب ، بل يقفن سافرات الوجه فى الطرقات والشوارع ، وأحيانا فى زىّ متميز ، لجذب الزبائن . أما غيرهن من الهاويات فكان النقاب سترا لهن وهن يمارسن الانحلال دون أن يدفعن للدولة المملوكية الضرائب . وفطنت الدولة المملوكية لهذا ، فلاحقتهن بضريبة المغانى أو ضريبة إحتراف الزنا .

2 ــ ولأنه قد فشا الزنا فى عصرنا المملوكى فقد تضاءل الفارق بين المرأة العادية ( العاهرة ) والمرأة المحترفة ( المومس ) ، فطالما فسد الرجال فلابد أن تفسد النساء لأن الانحلال الخلقى عملة واحدة لها وجهان متلازمان .( ملاحظة : مصطلح المومس تعبير تراثى يعبر عن المعنى المراد ، وهو مستعمل فى العصر العباسى ، وورد فى البخارى )

3 ــ  وقد ساعد على كثرة انحلال المرأة هو خروجها من البيت ترتدى النقاب مطموسة الشخصية تبحث عن الانحلال ، وكان خروجها من البيت عادة دائمة للبحث عن المتعة إلى درجة أن السلطة المملوكية تدخلت تحاول ــ دون جدوى ــ منع النساء من الخروج ، وفى حوادث  سنة 793هـ  (أشهر النداء بالقاهرة بمنع النساء من الخروج ، وعدم اجتماعهن مع الرجال فى مركب للفرجة ، وعدم ذهابهن للقرافة يوم العيد ، وأى مكارى أركب امرأة وُسط بلا معاودة )[112]. أى هددوا المكارية ، أى الحمَارين بالتوسيط ، أى القطع نصفين إذا أركب أحدهم امرأة على حماره . وكل ذلك لحصر الانحلال داخل البيوت فقط. !

وفى حوادث سنة 835 منع والى القاهرة دولات خجا خروج النساء والمُرد من بعد العشاء ( المٌرد ـ جمع أمرد ـ والأمرد أيضا مصطلح من العصر العباسى يدل على الشاب المفعول به أو الذى يُراد به ذلك ).  ، ( وشق ذلك عليهن ) أى لم تتحمل العاهرات الحبس فى البيوت والمنع من الانحلال ، ( حتى قالت بعضهن :  راحت دولة عمر وجت دولة خجا) ، والمقصود أن دولة عمر بن الخطاب ذهبت ، ولكن جاءت دولة الأمير خجا الذى جاء يعيد تشدد عمر بن الخطاب، أى سخرت النساء من ذلك الأمير المملوكى . يقول الصيرفى باسلوبه العامّى الشعبى :( وحرموا علقا أو قحبة تخرج من العشاء)[113] ..

وفى العام التالى تولى الأمير منكلى الحسبة فى القاهرة فى سلطنة المؤيد شيخ، فشدد على النسوة فى عدم الخروج من بيوتهنّ ، فألفت فيه النساء أغنية راقصة ظريفة كُنّ يرقصن بها ، تقول :

         لاتمـــسـك طـــرفـــى            مـــنـكــلـى خـــلفــــى

        علـقــتــو مـــايتـــين            قلَ مـــــايعـــــــــفى[114]

         أى سخرت النساء منه بتأليف الأغانى الراقصة التى تعبر عما كان يحدث فى الشوارع والأزقة.

وفى سنة 841 إثر الطاعون ، اتبع السلطان برسباى نصيحة بعض العلماء، ومنع خروج النساء من بيوتهن ، وتهدد من خرجت من دارها بالقتل[115]. وتكرر ذلك سنة 844 [116] .

وفى سنة 848 حين حاول المحتسب (يار على) إلزام النساء بيوتهن تأسيا بمن كان قبله ، ولكن دون جدوى ، فيقول السخاوى فى ذلك ( وياليتها كانت القاضية إذ خروج النساء من قبله كان أعم ، والله يعلم المفسد من المصلح) [117]. فالعادة أن يصدر النداء بعدم خروجهن ، ثم يتم نسيان الأمر ، وتعود النساء للخروج . وفى مصر فإن كل شىء فيها يُنسى بعد حين ..كما قال أمير الشعراء أحمد شوقى .! فلقد تعودت المرأة المصرية الخروج إلى حيث أماكن التجمهر والخلاعة ، كما لاحظ الجوبرى فى كتابه فى كشف الأسرار[118].

4 ــ ـ وإعتادت نساء القاهرة الخروج الى التُّرب ( اى المقابر ) حيث كانت تُستخدم شعبيا فى التلاقى والاجتماعات والتنزُّه والتبرك بما فيها من مقابر الأولياء ، وبالتالى ممارسة الانحلال فى ثناياها وظلالها وأزقتها . يقول ابن الحاج عن هذا فى القرن الثامن ( فهن يخرجن فى الغالب فى الأيام والليالى الشريفة كليالى الجمعة سيما المقمرة منها ، ويقمن فيها يوم الجمعة ويرجعن يوم السبت ، هذا بالإضافة إلى يوم عاشوراء والعيدين وليلة النصف من شعبان ، ثم أضفن يوم الأثنين لزيارة الحسين ، ويوم الأربعاء لزيارة الست نفيسة ، ويوم الأحد لحضور سوق مصر ، فلم يتركن الإقامة فى البيت فى الغالب إلا يوما واحدا وهو يوم الثلاثاء . وفى القرافة ( التربة ) تختلط الرجال بالنساء فى سماع الواعظ أو الواعظة فى الغناء والسماع ، فإذا وصلن البلد تنقبن واستترن ،وصار ذلك عادة تستتر المرأة فى البلد ولا تستتر فى القبور أو الطريق إليها)[119].

إذن هو خروج يومى ــ تقريبا ـ من البيت تحت حماية النقاب ، وهو خروج يقترن أحيانا بالمبيت خارج المنزل عند الأضرحة الصوفية وفى المناسبات الدينية وذلك يتضمن الاختلاط بالرجال بعد خلع النقاب وغير النقاب ، أى سهولة الوقوع فى الفاحشة ، ولذلك كانت تحرص الدولة على تحريم خروجهن . وطالما اصطبغ خروجهن بالصبغة الدينية فى مواسم وأماكن دينية فلا يمكن منع هذه العادة ، ويقول ابن الحاج أنهن فى القرافة كن يختلطن بالرجال أى أصبحت القرافة كما يذكر السخاوى الصوفى ( مجمعا للنسوان ومحلا للعب)[120] . وذلك للنساء المتنقبات غير المحترفات .

وترسب من هذا قول المثل الشعبى المصرى عن المرأة العاهرة أنها ( تمشى على حلّ شعرها ) أى تخرج منقبة ثم تخلع النقاب وتحل أو تفك ضفائرها للرجال .

5 ــ  وكانت النساء يذهبن للحمامات أيضا ، وقد عدَ المقريزى بعض الحمامات الخاصة بالنساء ، وبعضها يفتح للرجال أول النهار وللنساء فى آخر النهار[121]

وعن طريق الحمامات كانت تلتقى النساء بالقوادات ، وتقوم القوادات بمهمتهن خير قيام ، وفى ( بابة) أو مسرحية ( طيف الخيال) لابن دانيال شخصية القوادة أم رشيد الخاطبة ، التى ( كانت تخرج بالليل خاطبة ، لأنها تعرف كل حرة وعاهرة ، وكل مليحة بمصر والقاهرة ، وكُنّ يخرجن من الحمامات متنكرات فى ملاحف الخدامات ، وتعيرهن الثياب والحلى بلا أجرة ، أقود من مقود )[122]. فابن دانيال يذكر أنهن كن يذهبن الى الحمامات ويقابلن القوادات ، ويخرجن من الحمام متنكرات فى زى الخادمات ، وتصحبهن القوادة إلى الموعد المتفق عليه ، وهذا هو دور الحمام والتلاقى فيه . بين المرأة والقوادة ، وحيث تجهز القوادة بثياب التنكر للمرأة وتحدد لها مكان وزمان اللقاء المحرم.

6 ــ وكانت النساء يخرجن أيضا لمناسبات الأعراس والختان والموالد ،وكانت الدولة تعلم أن اجتماع النساء مع الرجال فى هذه المناسبات معناه الانحلال ، ولذلك فرضت عليها ضريبة المغانى ، وقد سبق إيراد قول ابن أياس عنه( وهو عبارة عن مال كبير مقرر على المغانى من رجال ونساء، فكان لاتقدر امرأة من المغانى تضرب بدف فى عرس أو ختان أو نحو ذلك إلا بإطلاق) ، أى تصريح رسمى بفرض ضريبة البغاء، حتى يُقام ويستمر ويحظى برعاية الدولة التى تطبق الشريعة السُّنيّة  . ونفس الضريبة كانت تدفعها المرأة صاحبة العرس يقول المقريزى: ( كان على النساء إذا تنفسن أو أعرسن أو خضبت امرأة يدها بالحناء أو أراد أحد أن يعمل فرحا لابد من مال بتقرير تأخذه الضامنة ) [123]. أى أن الدولة تعرف أن أى تجمع فيه نساء يعنى الانحلال ، فتفرض عليه ضريبة المغانى حتى لو كانت الحاضرات من النساء العاديات غير المومسات .

7 ــ ـ والصوفية كانوا نجوم العصر وزينة المجالس فى مناسبات الأفراح.

وفى  العصر الذى كتب فيه ابن أياس أن المغنية لاتضرب بدف فى عرس أو ختان إلا بعد أن تدفع ضريبة المغانى ــ كتب الشعرانى فى نفس الوقت يعيب على شيوخ عصره المشهورين حضور هذه المناسبات التى كانت مرتعا للفسق ، يقول: ( ويقبح على من شابت لحيته من العلماء والصالحين وصار قدوة للناس أن يحضر مع الأطفال والفساق فى مواضع لهوهم )[124].

ولكن أولئك الذين( شابت لحيتهم) من شيوخ الفسق من المتعذر عليهم أن يتوبوا عنه ، خصوصا إذا اعتبروه دينا، ولذلك فإن صيحة الشعرانى ذهبت سدى لأن حضور الأولياء الصوفية هذه المناسبات كان مدعاة للتفاخر والإسراف فى إعداد الطعام وتوافد الرجال والنساء والصبيان ، مما يعنى بالتالى كثرة الانحلال ، بل كان بعضهم يستدين ليقيم الأفراح ثم يعجز عن السداد فيدخل السجن . يقول الشعرانى: ( دخل كثير من إخواننا الحبوس بسب التزويج وعمل الأعراس والعزومات وهم عليهن دين )[125]. أى بسبب الإسراف كانوا يستدينون ويعجزن عن سداد الديون فيدخلون السجون . والسبب يكمن طبعا فى حضور الأولياء المشهورين ، يقول الشعرانى معلقا( حتى صار الناس يتخاصمون فى أن زفة فلان أكبر من زفة فلان)[126]. والشيوخ ومريدوهم هم الذين يجعلون للزفة " قيمة".

 8 ــ  ولاننسى أن الشيخات اللائى كن يقمن حفلات الذكر الصوفى كن يدفعن ضريبة المغانى شأن العاهرات ، أى أن الدولة كانت تعرف أن تلك السماعات الصوفية كانت ستارا للفسق يذهب إليها النساء( متزينات) حسبما يحكى ابن الحاج.  وفى تلك الحفلات كانت المرأة تخرج عن كل التزام بدعوى الجذب والوجد حين الذكر أو الرقص الصوفى ، فترقص كما يحلو لها وتجد المبرر بالوجد الصوفى ، أى ( أخذها الحال وإنجذبت ) .!!. يقول ابن الحاج ( ويأخذهن الحال بزعمهن ، وتقوم المرأة وتقعد وتصيح بصوت ندى، وتظهر منها عورات ولو كانت فى بيتها لمُنعت ، فكيف بها فى الجامع بحضرة الرجال ؟ فنشأ عن ذلك مفاسد جملة ) أى أن بعض السماعات الصوفية أقيمت فى الجوامع وحضرها النساء مع الرجال ، وأتيح فيها للنساء الرقص والغناء والصراخ تحت شعار الجذب، ومع وجود النقاب على الوجه، فقد كان من المتاح أن تنكشف جزءا من جسدها، ولا تهتم طالما تكفل النقاب بإخفاء شخصيتها.

ثم يضاف لذلك دور المنشد الصوفى فى إغواء النساء ، يقول ابن الحاج ( وبعض المغنيين كان يبالغ فى أسباب الفتنة ، فيتقلد العنبر ( عطر العنبر ) بين ثيابه لتشم رائحته ، ويجعل على رأسه فوطة من حرير لها حواش عريضة ملونة يصففها على جبهته . ولهم فى استجلاب الفتن بمثل هذا أمور يطول ذكرها ) . ثم يقول يصف أثر المنشدين فى غواية النساء (فإن ذلك يحرك عليهن ساكنا لما ورد أن الغناء رقية الزنا، وهن ناقصات عقل ودين ، سيما إذا انضاف كون المغنى شابا حسن الصورة والصوت ، ويسلك سلك المغنيات فى تكسيرهم وسوء تقلباتهم ، مع ماهو عليه من الزينة بلباس من الحرير والرفيع ).. أى كان المنشد يتبذل فى إغواء النساء بالمظهر والحركة والصوت .

ثم كانت النساء يرقصن مع الرجال ومع المردان ، يقول ابن الحاج ( يرقص بعضهم مع بعض رجالا ونساءا وشبانا) خصوصا فى ليلة 27 رجب[127]. أى أن العصر المملوكى عرف  أيضا الرقص المشترك المختلط بين الرجال والنساء والمخنثين.

القوادات :

 1 ــ  وفى هذا الجو الإباحى كان للقوّادة دورها ، وفى حوادث سنة716 أنه كان لأحد الأمراء المماليك دار تسمى دار الزعيم ، وله ناس يدورون على جوارى الناس وعبيدهم يفسدونهم ويهربون ، فإذا هربت الجارية أو العبد يأتون إلى دار الزعيم عند باب زويلة[128]. ولايستطيع أحد استعادة الجارية أو المخنث الهارب.

وفى حوادث سنة 874 أنه كانت إحدى العاهرات تسمى نفسها بإسم إحدى الأميرات ( وتدور للفساد على العام والخاص) فلما سمعت بها الأميرة ( شكتها للسلطان ، وأنها أتلفت إسمها ، فطلبها السلطان ، فأحضرها هى وأخاها والعجوز التى كانت تقود عليها، والمكارية الذين كانوا يركبونها)[129]. وسبق أن كان للقوادات دور مع بقية النساء وأنهن كن يتحايلن على الفسق بالتخفى بزى الخادمات .

ودور القوادات يتضح أكثر فى قصص ألف ليلة وليلة المستوحاة من المجتمع المملوكى.

2 ــ  والمرأة فى الدولة المملوكية كانت تتمتع بحرية مطلقة فى الإنحراف إذا شاءت طالما أدت حق الدولة فى ضمان المغانى ، فإذا سجلت إسمها عند ضامنة المغانى فلا يستطيع أحد التعرض لها لأنها أصبحت فى حمى وحماية الدولة . ( فلو خرجت أجلٌ امرأة فى مصر تريد البغاء حتى نزلت إسمها عند الضامنة وقامت بما يلزمها ، لما قدر أقدر أهل مصر على منعها من عمل الفاحشة [130] .على حد قول المقريزى، أى أن الدولة المملوكية التى تطبق الشريعة كانت تحرض المرأة على الفسق وتحميها إذا انحرفت.

(رسوم الولاية) و( حقوق القينات) وحفلات الجنس الجماعى المستترة داخل البيوت:

1 ــ وحرصت الدولةالمملوكية على تتبع حفلات الجنس الجماعى المستتر داخل بيوت الأعيان فإعتبرتها من بيوت الانحراف التى لاتدفع ضريبة ، فاخترعت لذلك ضريبة جديدة هى : ( رسوم الولاية) يقول عنها المقريزى: ( وكانت جهة تعلق بالولاة والمقدمين ، فيجيبها ــ من الجباية ــ المذكورون من عرفاء الأسواق وبيوت الفواحش ، ولهذه الجهة ضامن ، وتحت يده عدة صبيان ، وعليها جند مستقطعون وأمراء وغيرهم ، وكانت تشتمل على ظلم شنيع وفساد قبيح ،  وهتك قوم مستورين،  وهجم بيوت أكثر الناس )[131] .

أى هجمت السلطة المملوكية على بيوت( أكثر الناس ) من علية القوم  والقوم المستورين التى تمارس فيها الرذيلة بعيدا عن إذن السلطة وضرائبها . وكان أولئك( العرفاء) ( يعرفون ) بيوت الأعيان المستورين التى يتم فيها ممارسة الانحلال الجماعى ، فيهجمون عليها ويكشفون خفاياها . وبالتالى فإن الدولة تعرف أن فى بعض بيوت الأكابر أوكارا لممارسة الجنس الجماعى بنوعيه العادى والشاذ ، وقامت بفرض ضريبة عليهم ، ممّا سبب فضيحة لأولئك الأكابر وهم أكثرية ، أو على حدّ قول المقريزى : (وهتك قوم مستورين،  وهجم بيوت أكثر الناس ).

2 ــ  وكانت للفقراء ( الغلابة ) حفلاتهم الجنسية الجماعية بعيدا عن عيون الدولة وضرائبها . ولكن الدولة التى جرأت على هتك بيوت الكبار بفرض ضريبة ( رسوم الولاية ) لاحقت بيوت العوام بضريبة أسموها :( حقوق القينات ) ( وهو عبارة عما يجمع من الفواحش والمنكرات ، فيجبيه ( من الجباية )  مهتار الطشتخانه السلطانية من أوباش الناس )[132]. أى تساوى المصريون من عوام ومستورين وأقباط ومسلمين أمام عادة الرذيلة الجماعية.

3 ــ ولازلنا مع المقريزى الذى يؤكد هذه الحقيقة عن المصريين من قومه ، حين يقول ( وأما أخلاقهم فالغالب عليها اتباع الشهوات والانهماك فى الملذات .. ورجالهم يتخذون نساء كثيرات ، وكذلك نساؤهم يتخذون عدة رجال ، وهم منهمكون فى الجماع ، ورجالهم كثيرو النسل ، ونساؤهم سريعات الحمل) .

ثم يقول ( ومن أخلاق أهل مصر  قلة الغيرة .. أخبرنى الأمير الفاضل ناصر الدين الكركى أنه منذ سكن مصر يجد فى نفسه رياضة فى أخلاقه ، وترخصا لأهله ، ولينا ورقة طبع من قلة الغيرة )[133] . أى أنه تطبع بأخلاق  المصريين فى العصر المملوكى الصوفى وذهبت حميته..

4 ــ وفيما بعد وصف العلاّمة الأستاذ أحمد أمين المرأة المصرية بأنها ( أكثر شبقا من جميع النساء)[134]..!!

أحمد أمين ـ فى نظرى ـ أعظم عقلية بحثية عربية فى القرن العشرين . وقد يكون العلّامة الراحل مُبالغا .. ولكنه التأثُّر ببحث التاريخ الماضى المسكوت عنه .

 إدمان الحشيش:

1 ــ عمل الصوفية على نشر الحشيش بين طوائف المجتمع ، فألفوا لذلك أحاديث نسبوها للرسول منها( أن فى بلاد الهند أوراقا مثل آذان الخيل فكلوا منها فإن فيها منفعة)[135]. وانتشر الحشيش بين الناس يحمل صفته الصوفية ( لقيمة الفقراء) ( حشيشة الفقراء) ( لقيمة الفكر والذكر ).

2 ــ ويعزو المقريزى انتشار الحشيش فى مصر إلى مجىء أحمد بن أويس سلطان بغداد إلى مصر فارا من تيمور لنك ، وقد كان مدمنا للحشيش فانتشر إدمانه فى القاهرة ، كما أن بعض صوفية الأعاجم ( صنع الحشيشة بعسل خلط فيها عدة أجزاء مختلفة كعرق اللقاح ونحوه ،وسماها العقدة ، وباعها بخفية فشاع أكلها ، وفشا فى كثير من الناس عدة أعوام . ) ويقول المقريزى عن تأثيرها السيىء فى المجتمع : ( ، فلما كان سنة 815 شنع التجاهر بالشجرة الملعونة ، فظهر أمرها واشتهر أكلها ، وارتفع الاحتشام من الكلام بها ، حتى لقد كادت أن تكون من تحف المترفين ، وبهذا غلبت السفالة على الأخلاق وارتفع ستر الحياء والحشمة من بين الناس ، وجهروا بالسوء من القول تفاخروا بالمعايب )[136].

 وقبل ذلك بنحو قرنين من الزمان (أبطل السلطان بيبرس ضمان الحشيشة وأمر بتأديب أهلها )[137]

أى كان لها ( ضمان ) أى معترف بها قانونا وتؤخذ عليها ضرائب .  وروى المقريزى أن نائب السلطنة بمصر وقتها وهو عز الدين الحلى تعرض لمحاولة اغتيال فاشلة بطلها مدمن حشيش[138].  

ومعناه أن المصريين عرفوا إدمان الحشيش منذ القرن السابع أى ببداية العصر المملوكى ، وأن ذلك عم بمرور الزمن طيلة العصرين المملوكى والعثمانى، حتى يقول كلوت بك فيما بعد عن الحشيش : ( يأكله المصريون ويشربونه ويدخنونه فى القهاوى العامة وفى حوانيت خاصة به تسمى المحاشش)، ( والمصريون أميل للحشاشين من غيرهم)[139]. ويقول المثل الشعبى الحديث ( مايقطعش بالحشاشين ، يفرغ العنب بيجى التين) أى لايخلو الحشاشون من عناية تحف بهم فإذا انقضى أوان العنب ظهر التين [140].

3 ـ ويقول المقريزى عن طريقة استعماله ( ورأيت الفقراء ــ أى الصوفية ــ يستعملونها على أنحاء شتى ، فمنهم من يطبخ الورق طبخا بليغا ويدعكه باليد دعكا جيدا حتى يتعجن ويعمل منه أقراصا ، ومنهم من يجففه قليلا ثم يجمعه ويفركه باليد ويخلط به قليلا من سمسم مقشور وسكر ويستفه ويطيل مضغه ، فإنهم يطربون عليه ويفرحون كثيرا ، وربما أسكرهم)[141]. وهى نفس طريقة الاستعمال التى حافظ عليها المصريون حتى القرن الحالى حسبما يذكر أحمد أمين فى ( قاموس العادات المصرية)[142].

 4 ــ ويقول المقريزى عن أماكن إدمان الحشيش ( وكان قد تتبع الأمير سودون الشيخونى الموضع المعروف بالجنينة من أرض الطبالة ــ أى العباسية الآن ــ وباب اللوق وحكر واصل ببولاق ، وأتلف هنالك من هذه الشجرة الملعونة، وقبض على من كان يبتلعها من أطراف الناس ورذائلهم ، وعاقب على فعلها بقلع الأضراس ، فقلع أضراس كثير من العامة فى نحو سنة ثمانين وسبعمائة)[143].

وورد فى كتابات الشعرانى أن الأولياء الصوفية المتهمين ببيعها كانوا موجودين فى باب اللوق. إذن اشتهرت باب اللوق بإدمان الحشيش حتى يقول المثل الشعبى فى العصر المملوكى ( ذكروا مصر بالقاهرة ، قامت باب اللوق بحشاشيها)[144].

5 ــ وفى القرن التاسع ــ عصر تسيد التصوف وإدمان الحشيش ــ وقع كثير من المماليك فى شراك الحشيش ، فالسلطان المؤيد شيخ ت824 وصف بالميل (إلى شرب الراح واستعمال الأشياء المخدرة وأكل الحشيش المستقطر)[145]. وقيل عن الأمير ابن سيفا الشويكى ت839( كانت عيناه من الحشيش كأنهما جمرتان)[146].وقال أبو المحاسن عن الأمير جانبك التاجى ت868 ( كان يستعمل لقيمة الفقراء الخضراء )[147]. أى الحشيش حسبما سماه الصوفية ونشروه.

6 ــ ويتحدث المقريزى عن أثر إدمان الحشيش فى معاصريه فيقول ( فما بُلى الناس بأفسد من هذه الشجرة الملعونة لأخلاقهم ، وقال بعضهم اعتبرتها فوجدتها تورث السفالة والرذالة ، وكذلك جربنا فى طول عمرنا من عناها ، فإنه ينحط فى سائر أخلاقه إلى مالا يكاد أن يبقى له من الإنسانية شىء البتة) وسبق قوله عن أثرها فى المجتمع حين انتشرت (وفى سنة 815 شنع التجاهر بالشجرة الملعونة، فظهر أمرها واشتهر أكلها وارتفع الاحتشام من الكلام بها، حتى لقد كادت أن تكون من تحف المترفين ، وبهذا غلبت السفالة على الأخلاق وارتفع ستر الحياء والحشمة من بين الناس وجهروا بالسوء من القول وتفاخروا بالمعايب )[148].

وأحد الصوفية الحشاشين يعبر بصدق عن أثر الحشيشة الذى أشار إليه المقريزى فيقول . ونعتذر مقدما عن النقل :

            لو قــــال لى خــــالقـى تمــنى          قلت لــه ســـــائلا بصـــدق

            أريــد فـى صـــــبح كل يـــوم          فتــوح خــــيــر ياتــى برزق

            كف حـــشـــيش ورطــل لحم          ومنّ خـبـــــز ونيك علق  [149]

        فخلط الكفر بالانحلال الخلقى .

7 ــ وكانت أماكن الحشيش هى بؤر الانحلال الخلقى فى العصر المملوكى ، وكانت صلة الحشيش بالشذوذ الجنسى وثيقة جدا كما يبدو فى الشعر ، وأهونه مايقوله أحدهم :

            ومـهـفهف بادى النفار عهدته          لا التــقـية  قط  غـيـر مـعـبس

           فـرأيتــه بعض الليالى ضاحكا           سهل  العـريكة ريضـا  فى المجلـس

           فـقضــيت منه مآربى وشكرته          إذا صـــارمن بعــد التنـافر مؤنسى

           فــأجابــنى لاتشـكرن خلائقى        واشـكر شفيعك فهـو خمر المفلــس

           فحشيشة الأفراح تشفع  عنـدنا            للعاشـــقين ببــــسطها للأنفـس

           وإذا هممت بصيد ظبى نافـــر           فأجهد بأن  يرعى  حشيش القنبـــس

          واشكر عصابة حيدر إذا ظهــروا           لـذوى الخلاعة مذهب المتخمـــس

        وحيدر هو الشيخ الصوفى الذى اكتشف الحشيش ، ويقول شاعر آخر :

          دع الخمر وأشرب من مـدامة  حيدر          مـعـنبرة خضراء مثل الزبرجــد

          يــعاطيكها ظــبى من الترك أغيد          يميس على غصن  من ألبان  أملد[150]

الخمـــر:

  ومع انتشار الحشيش فلم يؤثر ذلك على سوق الخمر إذ أن مسرح الانحلال اتسع لكل الأصناف ، وكانت مناسبات الانحلال  ـــ وسنعرض لها ــ فرصة للجمع بين الحشيش والخمر والزنا والشذوذ .

وبعض الصوفية اشتهر بالخمر ففى مناقب الشاذلى أنه كان له ولد سكير يحظى بحماية والده الشيخ[151]. وابن المرحل الذى كان يناظر ابن تيمية ضبط مع جماعة يشربون الخمر[152]. والشيخ أبوبكرالزقاق ( الرائد الصوفى) سمى بالزقاق لأنه كان يبيع زقاق الخمر[153]. وكان أحد الصوفية فى الخانقاه البيبرسية مسرفا على نفسه مجاهرا بالمعاصى وانتهى أمره بالغرق وهو ثمل سنة852 [154].

وكان من شعائر المملكة فى عصر السلطان برقوق ــ المتحمس للتصوف ــ شرب القمز ( وهو سكر ، وهو من شعائر المملكة ، يجتمع الأمراء فى شربه فى الميدان تحت القلعة فى كل يوم أحد ويوم أربعاء ، وكل أحد منهم فى منزلته)[155]. أى رتبته العسكرية .

 وكانت قصائد الخمريات الصوفية تنشد فى مجالس الأنس والخمر ، خصوصا قصائد ابن الفارض مما دعا بعض الصوفية من محبى ابن الفارض إلى اختراع اسطورة لتهديد أولئك المنشدين ، حرصا على قدسية ابن الفارض من جهة وحتى ولا تعطى فرصة لإثارة الانكار على شعر ابن الفارض كما حدث من البقاعى من جهة أخرى . وتقول تلك الأسطورة أن مداحا أنشد خمرية ابن الفارض فى مجلس خمر ( فحول الله تعالى بوله وغائطه إلى أنفه وفمه حتى مات )[156]. وهو تجديد مقزز فى التفكير الصوفى فى اختراع الكرامات .

من أنواع الشذوذ :

وفى العصر المملوكى ــ عصر التحرر من كل شىء والغلو فى الانحلال ــ لم يكتف فيه الناس بممارسة نوع واحد من الشذوذ ــ وهو وطء الذكران ــ وإنما تعدوه إلى مالا يخطر على بال المجانين .

1 ــ وقد أفاض الصفدى فى شرح أنواع الشذوذ الجنسى فى عصره من السحق والبدال والجلد وأتى بمالا يستطاع ذكره [157].

وفى ( بابة طيف الخيال) لابن دانيال قصيدة من خمسة وسبعين بيتا تحوى كل الأنواع البهيمية العجيبة من الشذوذ الذى مارسه مع الكلاب والجمال والأطفال والنساء وكل دواب الأرض ماعدا العقرب والزنبور.[158]

 2 ــ وقد اشتهر الكاتب القبطى ابن مماتى فى الدولة الأيوبية بكتابه ( الفاشوش) الذى سخر فيه من شخصية الأمير قراقوش باختراع حكايات يشنع فيها عليه فيه ،حتى صار مثلا شعبيا مصريا يقال حتى الآن : ( هو إحنا فى حكم قراقوش ). وقد كان بهاء الدين قراقوش قائدا عسكريا مخلصا لسيده صلاح الدين الأيوبى ، وهو الذى أقام له القلعة والسور الذى يحيط بالقاهرة ليحميها من أى غزو صليبى، وكالعادة كان يُسخّر العوام فى هذا ، فتمتع بسخطهم ، ووقع فى خصومة مع الكاتب القبطى إبن ممّاتى فكتب فيه ابن مماتى ( الفاشوش فى حكم قراقوش ) ، وشوّه فيه سُمعة هذا القائد الأيوبى الذى يُذكر له وفاءه بعد موت صلاح الدين الأيوبى لابنه ضد العادل الأيوبى أخ صلاح الدين والذى عصف بمُلك ابن أخيه .   

وفى القرن العاشر كتب السيوطى ملخصا لكتاب الفاشوش أضاف إليه حكايتين ليستا فى الأصل ، استوحاهما مما شاع فى العصر المملوكى من انحراف شاذ ، منها أن أحدهم ضبطوه مع حمارة فأمر قراقوش بأن تعاقب الحمارة أيضا ، والحكاية الأخرى أن امرأة اشتكت إليه أن زوجها( يأتيها من خلف فقال: جزاه الله خيرا ، ثم ألبسه خلعة وطاف به فى شوارع المدينة ، ينادى عليه هذا جزاء رجل قنع بثقب زوجته عن أولاد الناس ) ( فمات الرجل من الخجل).[159]

3 ــ والشذوذ مع الحيوانات ــ والذى أشار إليه السيوطى ــ مارسه بعض الأولياء على قارعة الطريق مثل الشيخ على وحيش الذى ( كان إذا رأى شيخ بلد أو غيره ينزله من على الحمارة ويقول له أمسك لى رأسها حتى أفعل فيها ، فإن  أبى شيخ البلد تسمر فى الأرض لايستطيع أن يمشى خطوة ، وإن سمع حصل له خجل عظيم ، والناس يمرون عليه )[160]

 والشعرانى يروى هذه الحكاية لكى يحول شذوذ الشيخ وحيش إلى كرامة ، بمثل ما رواه عن الشبلى وهو أحد رواد التصوف فى القرن الثالث ، وقد دخل خرابة فوجد فيها حمارة ( فراوده الشيطان عليها، فلما أحس الشبلى بذلك صاح وقال يامسلمون يامسلمون الحقونى واخرجوا عنى هذه الحمارة فإنى أعرف ضعف نفسى عن سلوك طريق الصيانة )[161].  فالشبلى كان ضعيفا أمام الحمارة لم يستطع منع نفسه عنها فإستغاث بالمسلمين ، أما الشيخ وحيش بعد الشبلى بسبعة قرون فقد أعطى نفسه ماتريد على قارعة الطريق.

4 ــ وانتشر بالتصوف ( صحبة الأحداث) و( الشذوذ مع النساء) ، والغزالى فى القرن الخامس يجعل من آداب الجماع ( ألا يأتى زوجته فى غير المأتى فهو أشد تحريما من اتيان الحائض)[162].

إلا أن فقهاء التصوف بعد الغزالى حاولوا إضفاء الشرعية على هذا الشذوذ ،مما حدا بابن الحاج فى القرن الخامس لأن يقول  ( وليحذر أن يفعل مع زوجته أو جاريته هذا الفعل القبيح الشنيع الذى أحدثه بعض السفهاء وهو أتيان المرأة فى دبرها .. وليتهم اقتصروا على ذلك لكنهم نسبوا ذلك للجواز ) واستدل ابن الحاج بكثير من الروايات التى تحرم ذلك[163]. وكان ابن القيم أشد الناس هجوما على أولئك الذين أجازوا ذلك الشذوذ ونسبوه إلى مذهب مالك ، وقد رد عليهم ابن القيم[164].فى كتابه( إغاثة اللهفان).

5 ــ وفى داخل مجتمع النساء وبينهن انتشر نوع آخر من الشذوذ وهو السحاق الذى يقابل اللواط ، وقد أورد الصفدى عدة روايات عنه نستحى من ذكرها.وأهون منه ماذكره ابن دانيال على لسان الخاطبة أم رشيد فى بابة ( مسرحية ) طيف الخيال تقول : ( ياولدى عندى صبية كأنها الشمس المضيئة ، إلا أنها نفرت من زوجها الأول من ألم الإفتضاض وداوتها القوابل بدواء ماض . وكانت بسلامتها قد ألفت السحاق وتعودت به من دار معلمتها أم اسحق ، والعهد هى معذورة إذ نفرت من البعل ، وألقت النعل على النعل )[165].

على أن ( السحاق ) لم يخترعه الصوفية أو العصر المملوكى ، وإنما كان معروفا فى مجتمع العراق فى العصر العباسى من قبل ، خصوصا بين قطعان الجوارى فى القصور ، وتفصيل ذلك يخرج عن موضوعنا .

 

 

 

 

 

   بؤر الانحلال الشعبية

مقدمة

اختاروا أروع الأماكن لممارسة الانحلال الخلقى ، يقول السخاوى عن النيل ( وأعلم أن النيل من النعم العظام والآيات الجسام اللائق مقابلتها بالشكر والخضوع والذكر ،لا بما يُفعل من الركوب فى الشخاتير ( أى المراكب) والتجاهر بالمناكير ، بحيث زيد فى ذلك على العهد وفاق على العدّ .  ولله در المظفر بيبرس (الجاشنكير) حيث منع من الركوب فى الخليج للنزهة ـ بل لمن تكون له حاجة ، لما ينشأ عن ذلك من الفساد وليته دام ، كما رام ما أبطله أيضا من موسم عيد الشهيد حيث كان يحدث فيه من الفسق والفجور والمجاهرة بالمعاصى أمر عظيم )[166].

أى كان يحدث أن يحاول بعضهم القضاء على الانحلال الخلقى فى هذه الأماكن ولكن سرعان ماتعود الأمور إلى ماكانت عليه ، ففى حوادث سنة 782 قيل للأمير بركة ( قد كثر الفسق والمعاصى فى الخلجان وبركة الرطلى وقد خرجوا فى ذلك على الحد) فأمر بركة بوضع سلاسل الحديد على أفواه القناطر لتمنع المراكب[167].  وفى سنة832 تتبع الأمير قرقماس صاحب الحجاب( مواضع الفساد فأراق الخمر وحرق الحشيشة المغيرة للعقل ، وهدم مواضع ، ومنع من الإجتماع فى مواضع الفساد)[168].

ونتوقف مع أهم تلك المواضع:

بولاق:

1 ــ  انحسر النيل بعد سنة 570 فأظهر جزيرة نيلية أسموها جزيرة الفيل ، وتقلص المياه عن سور القاهرة الذى ينتهى إلى المقس ، وصارت هناك رمال وجزائر كان يمر فيها النيل وقت الفيضان فقط ، ثم بدأت العمارة فى هذه المنطقة بتشجيع الناصر محمد سنة 713 فصار ساحل النيل حتى منية السيرج منتظما بالعمائر، وتنافس الناس فى الإقبال على اللذات والإنهماك فى المسرات ( مما لايمكن وصفه ولايتأتى شرحه) ثم حدث لها الخراب بعد سنة 806 فأصبحت على حد قول المقريزى ( كيمانا موحشة وخرائب مقفرة ، كأن لم تكن مغنى صبابات وموطن أفراح وملعب أتراب ومرتع غزلان، تفتن النساك هناك ، وتعيد الحليم سفيها .! )[169]

 2 ــ ويقول ابن اياس ( كان الفسق قد كثر ببولاق جدا حتى خرج الناس على الحد ، وقد أصابها حريق فتلاشى أمرها)[170]. واستعادت بولاق مكانتها فى عالم المجون بعد سنوات من موت المقريزى ، ففى حوادث سنة 865( خرج الناس عن الحد فى الفتك والقصف بسبب الفرجة فى بولاق ، ونصبوا هناك الخيام حتى سددوا رؤية البحر ، يقيمون فى الرمل ليلا من نساء ورجال ، وهم فى غاية التزخرف ، فهجم عليهم المنسر ( أى اللصوص ) على حين غفلة ونهبوهم فى منتصف الليل)[171]

3 ــ  وفى نفس العام حين توقف النيل وخشيت السلطة المملوكية من المجاعة و( غضب الله) فاعتقلوا كثيرا من الفساق فى بولاق وجرسوهم ( ومن جملتهم ابن قاض القضاة القاياتى ، فشُهر مع غيره)[172]

4 ــ  إذن لم تفلح الحرائق ولا غارات اللصوص أو هجمات السلطة المملوكية أو حتى توقف النيل من استمرار مسيرة الانحلال الخلقى فى بولاق النيل. ومن آثار بولاق كان الى عصر قريب ( روض الفرج ) وذكرياته الماجنة.

أرض الطبالة :

1 ــ وإلى جانب بولاق من ناحية الشرق تقع أرض الطبالة ( العباسية الآن ) .وسميت كذلك لأن الخليفة الفاطمى المستنصر كان قد أقطعها لإحدى المغنيات التى أشادت بالفاطميين وهى تدق له الطبلة ، فسميت ( أرض الطبالة ).

2 ــ  والمقريزى يقول عنها ( كانت من أحسن منتزهات القاهرة ) وكان يمر النيل إلى جانبها الغربى ، وكانت رؤيتها من العجائب بما فيها من مناظر وبساتين ، ثم خربت فى غلاء سنة 696 فى سلطنة كتبغا ، ثم بدأ الناس فى عمارتها ثانيا سنة 711، وازداد عمرانها بعد حفر الخليج الناصرى سنة 725 ومروره إلى جانبها ، ثم أصابها الغلاء بالخراب سنة 777 وبقى منها فى عهد المقريزى مايعرف بالجنينة( تصغير جنة) يقول عنها المقريزى ( من أخبث بقاع الأرض ، يعمل فيها بمعاصى الله عزوجل ، وتعرف ببيع الحشيشة التى يبتلعها أراذل الناس ، وقد فشت هذه الشجرة الخبيثة فى وقتنا هذا فشوا زائدا، وولع بها أهل الخلاعة والسخف ولوعا كثيرا ، وتظاهروا بها من غير احتشام،  بعد ما أدركنا تُعد من أرذل الخبائث وأقبح القاذروات ، وماشىء فى الحقيقة أفسد بطبائع البشر منها، ولاشتهارها فى وقتنا هذا عند الخاص والعام بمصر والشام والعراق تعين ذكرها.  والله أعلم. )[173]

3 ــ  إذن اشتهرت أرض الطبالة بتخصصها فى عصر المقريزى فى إدمان حشيشة الفقراء، ثم نافستها ( بركة الرطلى) فى كل شىء.

بركة الرطلى:

1 ــ  يقول عنها المقريزى ( هذه البركة من جملة أرض الطبالة. ) ، فقد ترتب على حفر الخليج الناصرى أن اتصل النيل ببركة الطوابين فامتلأت وسميت ببركة الرطلى ، نسبة إلى رجل يصنع الأرطال الحديد كان يعيش فى زاوية إلى جانبها.  وأقيم جسر بين البركة والخليج الناصرى ، وأقيمت البيوت على الجسر ، وصارت المراكب تعبر للبركة آتية من الخليج ، وهى تحمل أرباب الخلاعة والمجون ، يقول المقريزى ( وصارت المراكب تعبر إليها من الخليج الناصرى .. فتمر هنالك ، وللناس أحوال من اللهو يقصر عنه الوصف ، وتظاهر الناس فى المراكب بأنواع المنكرات ، من شرب المسكرات وتبرج النساء الفاجرات واختلاطهن بالرجال من غير إنكار ، فإذا نضب ماء النيل زرعت هذه البركة بالقرط وغيره ، فيجتمع فيها من الناس يومى الأحد والجمعة عالم لايحصى لهم عدد).

2 ــ  وقد تعرضت البركة للمحن فى المجاعات ولكن بقيت تؤدى دورها الماجن فى عصر المقريزى.  يقول: ( وأدركت بهذه البركة من بعد سبعين وسبعمائة إلى سنة ثمانمائة أوقاتا انكفت فيها عمن كان بها أيدى الغير.. ثم لما تكدر جو المسرات وتقلص ظل الرفاهية من سنة ست وثمانمائة تلاشى أمرها، وفيها إلى الآن بقية صبابة ومعالم أنس)[174]

  3 ــ ثم عادت لبركة الرطلى شهرتها بعد موت المقريزى فأعيد السماح للناس بالسكن فيها وفتح الجسر وعادت ليالى المجون الى بركة الرطلى كما كانت ، حتى أن الوزير العبادى لكى يوفر الأموال للسلطان خشقدم اصنطع طريقة جديدة للمصادرة سنة 868 هى أن يصادرالسكارى من الرؤساء فى بركة الرطلى ، فهجاه الناس هجاءا فاحشا[175].

4 ــ ثم تمت شهرة بركة الرطلى فى نهاية العصر المملوكى حين زرع الحشيش فيها سنة 915، يقول ابن اياس ( ومن النوادر اللطيفة أن بركة الرطلى زرعت فى هذه السنة حشيشا ،وهذا لم يتفق قط .  وكان الذى زرع الحشيشة كمال الدين بن قوسان ، وقد استأجر أرض بركة الرطلى ، فكان كل من دخل إليها يبتهج بذلك ، ولاسيما أصحاب الكتبة من الحشاشين.  فجاءت إليها الناس أفواجا يتفرجون على ذلك الحشيش ، وقد وضع من أهله محله ، حتى عُدّ ذلك من النوادر الغريبة ، وفيه يقول بعض الشعراء:

            تناهت بركـــة الرطلى حـسنا          وصارت جنة فـيها عروش

            وقد زرعوا الشوانق فى ثراهــا         يبدو نسيمها طلع الحشيش[176]

 والنص لايحتاج إلى تعليق ..                                              

5 ــ وبالتطور الجديد فى بركة الرطلى سكنها كثيرون من رجال الدولة والقضاة ، وأنفقوا أموالهم على الفسق والإدمان ،  مما حدا بالسلطان الغورى للتدخل حرصا على الأموال.  ففى حوادث سنة 917 أى بعد زرع الحشيش بعامين فقط ـ منع الغورى جماعة من المباشرين ــ أى كبار النوظفين المنفذين لأوامر الدولة ــ من أن يسكنوا بركة الرطلى ( وضيق عليهم فى ذلك) وقال لهم( أنتم تضيعوا مالى فى بركة الرطلى فلا يسكن أحد منكم بها ، فلم يسكن أحد من المباشرين فى هذه السنة حتى ولا القضاة ، فكانت بركة الرطلى فى هذه السنة فى غاية الإهمال وقلة البهجة)[177]. أى طالما هجرها كبار المفسدين من الأعيان والقضاة...

  6 ــ  ولم يستمر ذلك شهورا ، فقد عين السلطان الغورى الزينى بركات محتسبا ، وكان ساكنا ببركة الرطلى ، وحدث أن السلطان غضب عليه واعتقله ثم أفرج عنه ، فأقامت له بركة الرطلى مهرجانا ، ويقول ابن إياس عن الزينى بركات بعد الأفراج عنه : ( وكان ساكنا ببركة الرطلى فزينت له بيوتها وزغردت له النساء ولاقته الطبول والزمور ومغانى النساء)، ومفهوم أن هؤلاء النساء من المحترفات .

وأصبح لبركة الرطلى نفوذ بوجود المحتسب الزينى بركات ونفوذه الزائد ، وقد مرض السلطان الغورى وعندما عوفى السلطان أمر الزينى بركات سكان بركة الرطلى بالإحتفال بشفاء السلطان ، وقامت المغانى بالدور خير قيام فانطلقت " الزغاريدوالطبول والزمور فى المراكب " ثلاث جمع متوالية ، وصار يقع بالبركة من القصف والفرجة مالايحصى وصفه ولاسيما وصار أمر سلطانى .. وصار يقع فى البركة كل ليلة أمور غريبة من سماع .. وأشياء حافلة .."[178]

 7 ـ  وظلت بركة الرطلى تؤدى دورها الماجن حتى قيام الثورة المصرية سنة 1952م

 

 

 

 

 

  بيوت العبادة/ بيوت الانحلال    

 بيوت العبادة  داخل مناطق الانحلال الخلقى :

 1 ــ  وقد يبدو غير واضح  أثر التصوف فى الانحلال الخلقى على النيل . هذا إذا تجاهلنا الصبغة الدينية فى الانحلال الخلقى فى عقيدة التصوف . إلا أن حركة الحياة على النيل فى العصر المملوكى عبرت عن جعل الانحلال طقسا دينيا ، ففى بؤر الانحلال على شاطىء النيل أقيمت دور العبادة كما أن مؤسسات التصوف من زوايا وأضرحة ومساجد مورس فيها الانحلال .

2 ــ وقد اشتهرت باب اللوق ببيع الحشيش وتعاطيه. وفى باب اللوق أقيمت زاوية اليونسية من الفقراء الأعاجم الذين نشروا الحشيش ، كما اشتهر فيها جامع الطباخ [179].

 3 ــ وحين انحسر النيل وأظهر ساحل بولاق وأصبح مسرحا للانحلال لايمكن وصفه ولا يتأتى شرحه كما يقول المقريزى فإن العمران اتسع للمساجد ودور العبادة ، كما اتسع للعصيان وعبادة الشيطان ، ففى بولاق جامع الخطيرى ، وكان مكانه قبل ذلك دارا للفسق عرفت ( بدار الفاسقين لكثرة مايجرى فيها من أنواع المحرمات ) ، ثم هدمت وأقيم مكانها جامع الخطيرى فلم ( يزل هذا الجامع مجمعا يقصده سائر الناس للتنزه فيه على الناس ويرغب كل أحد فى السكنى بجواره ) وسماه منشئه باسم( جامع التوبة) ثم هدم بعد ذلك المسجد . وأطلق اسم ( جامع التوبة) على مسجد آخر بجوار باب البرقية فى خط بين السورين ( كان موضعه مساكن أهل الفساد).

4 ــ  وفى بولاق المشهورة بالفسق تكاثرت فيها أيضا الجوامع وبيوت العبادة . منها جامع الأسيوطى ( بطرف جزيرة الفيل فى بولاق) وأنشىء حين عمرت بولاق ، وأنشأ ابن صارم شيخ بولاق جامع " ابن صارم"  ، وأنشأت الست مسكة جامعا لها على الخليج الكبير ، بالإضافة إلى جامع الباسطى ، ورباط داود بن إبراهيم ، وزاوية إبراهيم ابن الصائغ التى تطل على بركة الفيل وكان شيخها( عز الدين العجمى ت 723 يعرف بصناعة الموسيقى وله نغمة لذيذة وصوت مطرب وغناء جيد)

5 ــ  وعلى مقياس النيل أقيمت زوايا كزاوية ابن منظور وزاوية القصرى والأساسى والركراكى وجامع أحمد الزاهد الذى كان مشهورا بتخصصه فى وعظ النساء.

6 ــ وعلى الخليج الذى يصل مابين النيل ببولاق وأرض الطبالة أقيمت مؤسسات صوفية للعبادة ،  كان أشهرها زاوية أبى السعود بن أبى العشائر على حافة الخليج خارج القنطرة،  وإلى جانبها زاوية الحمصى ثم زاوية الجاكى وزاوية الظاهرى ثم خانقاه ابن غراب ..

7 ــ  ثم إذا اقتربنا من أرض الطبالة وجدنا جامع الكيمختى المعروف بجامع الجنينة (على شاطىء الخليج من جملة أرض الطبالة ) ثم إذا توقفنا عند بركة الرطلى عاصمة الانحلال الخلقى رأينا المقريزى يقول عنها : ( وفيها عدة أسواق وحمام وجوامع تقام بها الجمعة . وأقبل الناس على التنزه بها أيام النيل والربيع ، وكثرت الرغبات فيها. ) ، ويتحدث ضمن الجوامع عن جامع بركة الرطلى ويربط بين بداية تعميرها وإنشاء جامعها الصوفى بضريح الشيخ ابن عبد ربه المقصود بالزيارة يقول ( لما عمرت بركة الرطلى أنشىء هذا الجامع ،  وفيه قبة تحتها قبر يزار ، وهو قبر الشيخ خليل بن عبد ربه.) . وكان الذى تولى عمارة هذا الجامع أحد الوزراء الظلمة الذى (أخذ الأموال بأنواع الظلم ) على حد قول المقريزى.            أى اقترن الانحلال الخلقى بالظلم وتقديس الأولياء ، ثم يقول المقريزى عن جامع بركة الرطلى ( وهذا الجامع عامر بعمارة ماحوله) وهى إشارة لطيفة تربط عمران الجامع باستمرار تواجد الناس فى بركة الرطلى وما حولها من انحلال خلقى .  وذكر المقريزى جامعا آخر فى بركة الرطلى هو جامع صاروخا[180].

8 ــ وبعد عصر المقريزى يذكر ابن إياس أن الولى الصوفى المشهور الدشطوطى أنشأ له جامعا فى أرض الطبالة ، وأن السلطة المملوكية عملت بإشارته وفتحت الخليج ليصل بالبركة وتسير فيها المراكب[181].

9 ــ لقد كان انشاء المؤسسات الدينية الصوفية أكبر دليل على الأنغماس فى الانحلال الخلقى ليس فقط للتكفير عن الذنوب والتماس شفاعات الأولياء ولكن لأسباب صوفية أخرى يعبر عنها المقريزى حين يذكر ضمن حوادث سنة 735 : ( وفيها كثر شغف السلطان ( الناصر محمد) بمملوكه الطنبغا الماردينى شغفا زائدا فأحب أن ينشىء له جامعا)[182]. فبالتصوف لم يعد الشذوذ الجنسى معصية بل أصبحت المكافأة عليه إقامة مسجد باسم المفعول فيه .!!

وهى حادثة تاريخية تدفع الباحث الوقور المكتئب الى الضحك الى درجة الصراخ ..!!.

أماكن دينية للانحلال الخلقى :

  وكما انتقل التصوف بمؤسساته إلى أماكن اللهو على النيل تركز  الانحلال داخل مؤسساته التى انتشرت فى ربوع العمران المصرى .ونعطى عنها فكرة سريعة :

الزوايا :

1 ــ وقد تجمع الصوفية فى الزوايا التى أقامتها لهم الدولة أوتلك التى أنشأوها بأنفسهم ليتمتعوا بحريتهم فى ممارسة عقائدهم ، ومنهم من جعل تلك الزوايا مستعمرات للانحلال الخلقى كعبادة دينية صوفية ، كما كان المطاوعة يفعلون فى زواياهم . وقد عرضنا لهم . وحاول الصوفية الآخرون الدفاع عنهم والتخويف من الاعتراض عليهم كما يحكى الشعرانى حين أنكر بقلبه ( على مايفعله القلندرية فى زاويتهم) ، فيزعم " فإذا بشخص متربع فى الهواء يقول لى تنكر على القلندرية وأنا منهم"[183].

 2 ــ  وحتى فى الزوايا التى أقامها لهم رجال الدولة فإن رجال الدولة أنفسهم كانوا يعرفون مايجرى فى تلك الزوايا، وسبق أن ذكرنا أن الوزير توبة بن على غضب على أحد مشايخ الخوانق حين رفض إلحاق أعرابى بالخانقاه برغم توسط الوزير فسأل الوزير الأعرابى بضع أسئلة أمام الشيخ كان من بينها ( ماتعرف تلوط بالمردان؟) فقال العرابى : بلى فقال له الوزير: صوفى أنت طول عمرك)[184]. أى أن شهرة الزوايا الصوفية فى اللواط كانت ذائعة مسموعة .

 3 ــ وقد حاولت الكرامات الصوفية أن تستر ماكان يحدث فى الزوايا الصوفية من شذوذ جنسى ،من ذلك ماترويه أسطورة كرامة طويلة عن أحدهم أنه دخل دارا صوفية فيها أربعمائة شاب كلهم من سن خمس عشرة سنة ثم صاروا يجتمعون فى السماعات ، ثم بعد تفصيلات طويلة ومعجزات تنتهى القصة بقوله

( فإذا البلد قد أرجف بأخذ الفقراء وكان السبب فى ذلك أن الشيخ قد نهى أصحابه أن يجتمعوا على تلك الصورة ، وكان ذلك بسبب مخالفتهم الشيخ )[185].

4 ــ   وفى القرن التاسع اشتهرت زاوية الشيخ المتبولى بأنها وكر للشذوذ ، خصوصا وأن المتبولى كان مبتلى بالإنكار عليه فى هذه الناحية كما يذكر الشعرانى فى ترجمته ، وقد ترجم المؤرخ السخاوى للمتبولى وقال عنه:( أكثر ماأنكر عليه اختلاط المردان من أتباعهم بغيرهم ، سيما وكان البرهان العجلونى يتوجه للإقامة هناك برسم إقراء الطلبة ( أى بحجة تعليم الطلبة) .. والله أعلم بهذا كله )[186]. وكان البرهان العجلونى متهما بالشذوذ. وحاول الشعرانى ــ بتأليف الكرامات ــ الدفاع عن شيخه المتبولى حين يذكر أن جماعة من فقهاء الأزهر أقاموا عنده فى الزاوية فوجدوا عند الشيخ مملوكين من المردان ينامان مع الشيخ فى الخلوة ، وأن رجلا عشق أمرد فهرب الأمرد إلى إبراهيم المتبولى فوضعه فى خلوته فبلغ ذلك الرجل فغير هيئته وادعى التصوف والتحق بالزاوية عند المتبولى فأدخله  مع ذلك الأمرد[187].

 5 ــ   وكان من عادة المخنثين من الصوفية المقيمين فى الزوايا أن يتزينوا كالنساء مما دعا بعض الأشياخ من غير المدمنين لهذا اللون من الانحلال أن ينكر ذلك ، فكان أبو الحسن بن الصايغ يقول( لاينبغى للمريد إذا كان جميل الوجه لا لحية له أن يجلس قط مع الرجال إلا فى حلقة الشيخ ، ولايكتحل بالكحل الأسود ولا يتطيب ولا يلبس اللباس الفاخرة ، وإنما الأدب أن يلبس الثياب الخشنة والمرقعات لاسيما إن أقام فى الزاوية ) وفى نفس الوقت كان يحذر الآخرين فيقول ( إياكم والتساهل بالنظر لشىء من الصور الجميلة فإن كل نظرة تورث فى القلب حسرة وظلمة )[188].

6 ــ  وضاعت نصائح ابن الصايغ ، فبعده بثلاثة قرون كان محمد الشناوى يقول : ( لاينبغى للمريد أن يجالس الأمرد الجميل ولايسكن هو وإياه فى خلوة واحدة ما أمكن ، فليحذر العاقل من مجالسة الأحداث إلا فى حلقة الذكر أو الدرس بحضرة الشيخ أو الأخوان الصالحين مثلا ، لكن مع غض البصر )[189].

ومعناه أنهم كانوا يعايشون المردان صباح مساء فى الخلاوى ، وأنهم كانوا يعاملونهم كالنساء بحيث يعتبرون النظر إليهم شهوة جنسية ينبغى التحرز منها ، حتى أن ابن عنان حين أراد أن يمدح شيخه مازن قال كلاما عجبا:  ( خدمت الشيخ نحو عشر سنين فطلعت لحيتى وكملت،  ولم يشعر بذلك ، حتى أخبره الناس بذلك فنظر إلى وجهى من ذلك الوقت )[190]. ولايمكن أن نصدق أن الشيخ مازن وضع وجهه فى الأرض عشر سنين حتى لايرى وجه خادمه ابن عنان ، ولكن المبالغة فى مدح عفة الشيخ بهذا الأسلوب فيه اتهام واضح للأشياخ الآخرين الذين تنظر أعينهم إلى المريدين المردان ، ولايعقل أن يكتفوا بمجرد النظر إليهم بشهوة وهم يساكنونهم فى الزوايا وطوع أمرهم ويعتبرهم الأشياخ " شواهد" على الإله عندهم .

7 ــ  ورأى شمس الدين الحنفى ــ كما يروى الشعرانى ــ ( شابين أمردين ينامان فى خلوة فلم يفش عليهما أمرا ، وصار يحكى الحكايات المناسبة للتنفير عن مثل ذلك)[191]. وكان شمس الدين الحنفى مشهورا بعلاقاته النسائية ، ولم تكن له ولزاويته شهرة فى عالم الشذوذ السلبى . مع أن ذلك وصل لزاويته .

 8 ــ واشتهر أبو العباس الغمرى ـ 905 بأنه ( لايمكن أحدا صغيرا يمزح مع كبير، ورأى مرة صبيا يغمز رجلا كبيرا  فأخرجهما من الجامع ورمى حوائجهما، وكان لايمكّن أمرد يؤذن فى جامعه أبدا حتى يلتحى ) [192]. وكان صعود الشاب الأمرد للمأذنة ليؤذن مثار شهوة للسامعين المرضى بالشذوذ . وواضح أن الغمرى كان ينكر هذا ، وينكر مااعتاده الناس فى مؤسسات التصوف من تحرش جنسى بين الفاعل والمفعول به ، بدليل أنه تشدد فى منع مااعتاده الناس حتى الصبيان الذين تجرأوا على الشيوخ بمثل ماحكاه الشعرانى .

 9 ــ  والشعرانى يفتخر بما فعله أبو العباس الغمرى ويفلسف الموضوع من وجهة نظره فيقول( كان محمد الغمرى من أشد الفقراء فى عصره غيرة على جناب الفقراء ، وكان قد جعل للأطفال الذين هم دون البلوغ مقصورة يقرءون فيها، لايدخل عليهم فيها غير الفقيه والعريف ، وجعل للرجال رباطا لايدخله غيرهم ، وجعل الشبان البالغين مكانا لايدخله غيرهم ، وكان لايمكن أحدا منهم ينام مع أخيه فى خلوة ، ويقول احفظوا قلوب العامة عن اللوث فى عرض الفقراء قياسا على حالهم)[193] . إذن قام الغمرى بعملية " فصل عنصرى "بين المريدين فى زاويته ، فجعل الصبيان فى مستعمرة والشباب فى أخرى والرجال فى ثالثة ، ولم يمكن أحدا من اقتحام خلوة الآخرين وذلك حتى يواجه الفضائح الصوفية التى انتشرت عن أفاعيل الصوفية فى الزوايا ، ولسان حاله كما يفلسف الشعرانى يقول: ( احفظوا قلوب العامة عن اللوث فى عرض الفقراء قياسا على حالهم ) وكلمة ( قياسا على حالهم ) فيها الاعتراف الكامل بأن حال الفقراء الصوفية فى عصر الشعرانى كان الشذوذ فى الزوايا.

10 ــ  والشعرانى يفتخر على صوفية عصره بأنه لم يقع فى اللواط ، ويفتخر بأنه صحب جماعة من الأشياخ ممن لايشك أحد فيهم من جهة المال أو العيال ، ومع ذلك كان لا يسمح لهم بالخلوة بأولاده خوفا على سُمعة أولاده وسُمعة هؤلاء الشيوخ . الى هذا الحد ساءت سُمعة الشيوخ الصوفية ـ شيوخ الشذوذ الجنسى . يقول: ( فلو ترك أحدهم عند عياله فى محل خلوة لايخطر بباله قط أنه يراودهم عن أنفسهم ، ومع ذلك فلا يمكنهم قط من الجلوس مع عياله إلا بحضرته ، صيانة لهم عن التهمة وصيانة لعياله عن لوث أهل الفساد بهم ، قياسا على أنفسهم)[194] .الشعرانى مع اعتقاده فى عفة أشياخه إلا أنه لايوافق على ترك عياله عند واحد منهم ، ويحتج بأن ذلك صيانة للأشياخ وللأولاد معا، ونحن لانوافق الشعرانى فى هذا التعليل ، ونتفهم رفضه لترك أطفاله مع أشياخه خصوصا من كان منهم على طريقة شيخه إبراهيم المتبولى .

11 ــ وبعض الصوفية الذين تحرزوا على أطفالهم كالشعرانى لم يكتفوا بالتحرز من الأشياخ الآخرين وإنما فتشوا الحمامات التى كانت تطفح بالشذوذ الجنسى ، فيقول الشعرانى عن الشيخ أبى الفضل بن أبى الوفا أنه كان إذا طلب عياله الحمام ينزلهم بالليل فى زورق من الروضة إلى مصر العتيقة ، ويجدف بهم وحده ، ثم يطلع بهم إلى الحمام ، فيدخله قبلهم ويفتش جميع أركانه من المستوقد إلى السطوح ثم يخرج من يكون هناك ، ويغلق باب الحمام ويجلس على بابه[195].  

وهذه الحمامات كانت معدة للرجال فحسب ، أى كانت مرتعا للشذوذ ، مما جعل الأشياخ الصوفية الذين ينكرون هذا اللون يتخوفون على أولادهم إلى هذا الحد.

الأضرحة:

1 ــ  وكان غالبا مايدفن الشيخ فى زاويته ، وسرعان ما يصبح ضريح الشيخ وكرا للانحلال ، وتنبه بعض الصوفية إلى أن تعود الناس على الفسق فى أركان الأضرحة مما يُذهب بقدسيتها ، ولذا اخترعوا أساطير تحذر من يرتكب ذلك الفعل من غضب الولى المدفون ، فالشعرانى يحكى أن شخصا أراد أن يفعل الفاحشة فى أمرد فى مقبرة الشيخ أبى الحسن بن أبى الصائغ فصاح الشيخ من داخل القبر : أما تستحى من الله يافقير [196]. أى أنهم اعترفوا من خلال هذه الأسطورة أن الواقع فى الفاحشة فقير صوفى .

 2 ــ  ويقول الشعرانى عن عبدالعال تلميذ البدوى " وماشهدته من كراماته رضى الله تعالى عنه فى سنة سبع وأربعين وتسعمائة أن شخصا راود امرأة عن نفسها فى قبة سيدى عبدالمتعال فسمّره ويّبس أعضاءه فصاح حتى كاد يموت ، فأخبرونى به ، فمضيت إلى ضريحه وأمرت بعض الفقراء أن يسأل سيدى عبدالمتعال فى الصفح عنه ، فقرأ الفاتحة ودعا الله تعالى فانتشرت أعضاؤه وتاب إلى الله تعالى من ذلك ، وصارمن الفقراء الملاح )[197]. أى أصبح من ( الفقراء الملاح) بعد أن تاب عنه عبدالمتعال فانتشرت أعضاؤه ، أما حين راود المرأة فلم يكن وقتها من ( الفقراء الملاح).

  3 ــ  ويروى السبكى عن بعضهم أنه زار وهو صبى أمرد قبر أحد الأشياخ فوجد هناك فقيرا قلندريا فتوارى خوفا منه .[198] أى كان وجود صبى أمرد فى تربة مما يشجع على الانحراف ومما يدفع الصبى للفرار إذا رأى صوفيا هناك ، فالصوفى كانت هوايته معروفة وهويته معروفة .

4 ــ  وهناك وثائق تدل على إتخاذ الأضرحة وكرا للانحلال ، حيث ينصّ الواقف على حفظ الضريح من من ممارسة الانحلال فيها . ففى وثيقة وقف السلطان حسن جاء مايلى:  ( يرتب عشرة من الخدم الأدب الثقات الأمنا، يقيمون بالقبة المذكورة لحفظها وصيانتها ممن يتطرق إليها من أهل التهم والفساد ، على جارى عادة أمثالهم فى مثل ذلك)[199].  أى أن أهل التهم والفساد اعتادوا إتخاذ القباب والأضرحة أوكارا للانحلال الخلقى مما  اضطر أصحاب الأوقاف إلى تعيين حراس لمنع ذلك.

5 ــ  والشعرانى هو الذى حكى الأساطير التى تجعل الولى المدفون فى الضريح يستيقظ فجأة صارخا فيمن يفسق فى الضريح ، هذا الشعرانى هو الذى حكى عن نفسه فقال ( ولما دخلت بزوجتى فاطمة أم عبدالرحمن وهى بكر مكثت خمسة شهور لم اقرب منها، فجاءنى ــ أى البدوى فى المنام ــ وأخذنى وهى معى وفرش لى فرشا فوق ركن القبة على يسار الداخل وطبخ لى حلوى ودعا الأحياء والأموات إليه وقال: أزل بكارتها هنا ، فكان الأمر تلك الليلة)[200].

وواضح أن الشعرانى كأى رجل يواجه عجزه الجنسى خمسة شهور قد جرب كل الوسائل ليثبت رجولته أمام زوجته البكر ، فكان أنجح وسيلة أن يتم ( الفتح عليه)  فى قبة البدوى أشهر الأولياء الصوفية ، وبما لمولده وضريحه من ايحاء جنسى وتاريخ طويل فى تلاقى العشاق ، ونجحت هذه الطريقة فصاغها الشعرانى كرامة للبدوى ، ودليلا لنا على أن الموالد والأضرحة فى التفكير الصوفى لها مدلولها الجنسى الذى يجعل الشعرانى ( الكهف الصمدانى) يلجأ إليه فى حل مشكلته الجنسية مع زوجته البكر.

6 ــ  وأسلفنا أن النساء كن يذهبن لزيارة المقابر والمشاهد أغلب أيام الأسبوع فى عصر ابن الحاج[201]. وأن الرجل كان يصطحب زوجته وأولاده فى زيارةالقرافة حيث يبيتون . وشهد الرحالة ابن بطوطة هذه العادة وسجلها فى رحلته ، يقول ابن بطوطة ( يخرج الناس للمبيت فى القرافة بأولادهم ونسائهم ويطوفون على المزارات الشهيرة ، ويخرجون أيضا للمبيت بها ليلة النصف من شعبان )[202]

وارتبط هذا المبيت بقصص شنيعة من الانحلال الخلقى فى طرقات القرافة وانحناءاتها ، وظل ذلك الانحلال مرتبطا بالقرافة وزيارتها حتى عصرنا الحديث حتى ألغتها الحكومة ، يقول أحمد أمين عن القرافة ( وكان الناس عادة يبيتون فيها ، وكانت تحدث فظائع من هذا المبيت ، ولذلك منعته الحكومة )[203].

الخوانق :

وبعض الخوانق الصوفية تغير فيها شرط الواقف لما لبث أن لحقها الانحلال ، يقول المقريزى عن خانقاه بيبرس الجاشنكير ــ أروع الخوانق فى عصره ــ ( وقد أدركتها ولا يمكّن بوابها غير أهلها من العبور إليها والصلاة فيها ، لما لها فى النفوس من المهابة ، ويمنع الناس من دخولها حتى الفقهاء والأجناد ، وكان لاينزل بها أمرد ، وفيها جماعة من أهل العلم والخير . وقد ذهب ماهنالك ، فنزل بها اليوم عدة من الصغار ومن الأساكفة وغيرهم من العامة ، إلا أن أوقافها عامرة وأرزاقها دارة بحسب نقود مصر)[204]. أى كان شرط الوقف ألا يدخلها الغرباء والمردان ، فتغير ذلك ، والسبب مفهوم.    

المساجد:  

1 ــ  إذن حوَل التصوف بيوته الدينية إلى أوكار للانحراف ، ولم يكتف بذلك بل وصل الانحلال للمساجد المشهورة المنشأة قبل العصر المملوكى ، فالتصوف قد أرهق الناس فى العصر بإنحرافه ، والناس هم رواد المساجد وبيوت العبادة سواء أنشئت فى العصر المملوكى أم قبله ، والنسوة بما تمتعن به من حرية الخروج كن يغشين الجوامع كلها حتى فى صلاة الجمعة ، وكان وجودهن داعيا للعصيان ، وفى حوادث سنة 863 فى يوم الجمعة ثانى عشر رمضان نهبت العبيد والمماليك الأجلاب النسوة اللآئى حضرن صلاة الجمعة بجامع عمرو ( الجامع العتيق ): ( وأفحشوا فى ذلك إلى الغاية ، وكل مفعول جائز) حسبما يقول أبوالمحاسن[205].

 2 ــ أما جامع الحاكم قد حوله النساء والصبيان إلى مباءة للانحلال ، فإهتم السلطان جقمق بعمارته يقول المقريزى ( وكانت أحوال الجامع ـــ بمرور النساء والصبيان وغيرهم ــ ملعبة ، فمنع من دخول النساء الجامع ، وألزم بوابيه ألا يمكنوا امرأة ولا صغيرا من الجلوس فيه ولا المرور منه ، وكان هذا الجامع قد فسدت أحواله ). أى منعوا النساء والصبيان من دخوله تحاشيا من إتخاذه مسرحا للزنا والشذوذ .!

وقبل ذلك بإثنين وعشرين عاما يقول المقريزى فى حوادث سنة 822 أن محتسب القاهرة صدر الدين العجمى منع النساء من عبور الجامع الحاكمى والمرور فيه وتطهير المسجد من قبائح كانت به بين النساء والرجال ومن لعب الصبيان فيه[206]. ويقول ابن حجر فى نفس الموضوع أن المحتسب ( طهر جامع الحاكم من قبائح كانت تقع من النساء والرجال والشباب والصبيان[207]. أى كان هناك إصرار على إتخاذ جامع الحاكم مباءة للانحلال مهما تدخلت السُّلطة المملوكية .

الجامع الأزهر

 1 ــ  وبالتصوف تحولت مؤسسات العبادة إلى أماكن للمبيت والنوم بمثل ماتعوده الصوفية فى الخوانق والربط والزوايا ، فاعتاد الناس النوم فى الجوامع المشهورة مثل جامع الحاكم والجامع الأزهر . وكان ذلك مدعاة للانحراف كما سبق.

2 ــ ويقول المقريزى عن الأزهر ( وكانت العادة أيضا قد جرت بمبيت كثير من الناس فى هذا الجامع ما بين تاجر وفقيه وجندى وغيرهم ، ومنهم من يقصد بمبيته البركة ، ومن الناس من لايجد مكانا يأويه ، ومنهم من يستروح بالمبيت فيه خصوصا فى زمن الصيف وأيام المواسم فإنه يمتلىء صحنه وأكثر رواقاته)[208].  

ويقول المقريزى فى حوادث سنة 818 ( طرق الأمير سودون القاضى الجامع الأزهر بعد الفراغ من صلاة عشاء الآخرة ومعه كثير من مماليكه وأعوانه ، فنهبوا شيئا كثيرا من ثياب الناس وفرشهم ، ومنع الناس من المبيت به ، وكان قد وشى إليه بأن كثيرا ممن ينام به تصدر منه منكرات قبيحة) ولم يعجب المقريزى ماحدث فقال( فكان أمرا من الشناعة لم يسمع بأقبح منه ، سيما والناس يتظاهرون بأنواع المحرمات القبيحة تظاهر من يتبجح بما يعمل ويفتخر بما يبدى )[209]. ولكن المنكر فى الشارع لايبرر حدوث منكر آخر فى المساجد ، ويبدو أن العلاقة لم تكن على مايرام بين المقريزى والأمير سودون.

  أما ابن حجر فيقول عن نفس الموضوع بأن سودون القاضى بلغه أنه حدث بالجامع الأزهر فساد بمبيت الناس فيه فأمر بعدم مبيت الناس  فيه ، فلم يرتدعوا فطرقهم ونهب أعوانه الموجودين فامتنعوا بعد ذلك من المبيت فيه[210].

 أما أبوالمحاسن فكان أصرح فى التعبير فيقول عن طلبة الرواق فى الأزهر( وتغيرت خواطر الخاص والعام عليهم وانطلقت الألسن بسبهم وذكر مساوئهم ومايفعلونه من القبائح[211].

تبادل الأدوار بين بيوت العبادة وبيوت الفسق :

1 ــ وقد سبق أن الجامع الخطيرى فى بولاق كان قبلا دارا للفسق ومثله جامع التوبة فى خط بين السورين ، ومعناه أن المساجد كانت تتبادل الأدوار مع بيوت الفسق.

2 ــ وتردد فى المصادر التاريخية حالات أخرى ، فالمارستان المؤيدى فى القلعة : ( حوّلوه إلى جامع ، وقد تحول المارستان قبل أن يتحول إلى جامع ــ ثم إلى حانة خمارة برسم شرب المسكرات وضرب الطنابير وعمل الفواحش ومع ذلك تربط به الخيول .. فطهره الله من تلك الأرجاس وجعله محل عبادة)[212].

 3 ــ  وبعدها بنحو نصف قرن تحولت زاوية التاج إلى موضع (سماه العوام المخلوعة فصار مأوى للحشاشين والفسقه)[213].

4 ــ ويقول الشعرانى فى ترجمة عثمان الحطاب أنه حاول توسيع زاويته، ( وهناك ربع  فيه بنات الخطأ فطلع للسلطان وقال يامولانا هذا الربع كان مسجدا وهدموه وجعلوه ربعا ، فصدق قوله ورسم بهدم الربع وتمكين الشيخ من جعله فى الزاوية ، فأرشوا بعض القضاة فطلع للسلطان فقال السلطان له ثبت عندى قول الشيخ ، فهدمه فظهر المحراب والعمودان ونزل السلطان فرآه بعينيه)[214].

أى كان مسجدا فتحول إلى " ربع لبنات الخطا" ثم رجع إلى زاوية صوفية مرة أخرى .

وقديما قال أبو الطيب المتنبى :

وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا ..

 

 

 

 

ج3 / ف 3 :المجتمع المملوكى المنحل خلقيا : مواسم دينية للانحلال الخلقى :

   كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية 

الفصل الثالث : انحلال المجتمع المصرى المملوكى بتأثير التصوف

المجتمع المملوكى المنحل خلقيا : مواسم دينية للانحلال الخلقى :

ــ مواسم دينية للانحلال الخلقى :

  ( الموالد : مولد البدوى ، مولد الأنبابى ، موالد أخرى ، دوران المحمل ، الأعياد الإسلامية ، الأعياد القبطية.)

 بالتصوف أصبح للانحلال الخلقى مواسم دينية كما كان له أماكن دينية .

الموالد:    

1 ــ  أصبحت الموالد الصوفية أهم المواسم الدينية للانحلال الخلقى ، وكانت موالد البدوى الثلاثة أهم مناسبات للانحلال الخلقى إلى درجة أن الكرامات الصوفية تكفلت بالدفاع عما يحدث فى المولد الأحمدى من انحلال . وفى مناقب البدوى أسطورة تقول أن شخصا أنكر على مايحدث فى مولد البدوى فعاقبه البدوى بأن سلب إيمانه فأصبح كافرا ، فاستغاث الشخص بالبدوى فرد عليه إيمانه أى جعله مؤمنا ثانية ، ثم سأله عما ينكره فى المولد فقال ( اختلاط الرجال بالنساء) فقال البدوى( ذلك واقع فى الطواف ولم يمنع منه أحد) ثم قال ( وعزة الربوبية ماعصى أحد فى مولدى إلا وتاب وحسنت توبته ، وإذا كنت أرعى الوحوش والسمك فى البحار أفيعجزنى الله عن حماية من يحضر مولدى؟)[215] .  ودافع كاتب مناقب البدوى عن البدوى فى الإتهام القائل كيف لايتصرف بكراماته ( فى دفع أصحاب المعاصى عن حضور مولده) فكان من جملة الردود أنه ( قد يكون من عناية ربه أنه من حضر مولده بمعصية يتوب الله عليه ولو بعد حين)[216]. وهى دعوة لتكرار الانحلال وتكرار التوبة طالما استمر مولد البدوى . وذلك مايحدث حتى الآن .

 2 ــ  ويقول السخاوى فى القرن التاسع عن المولد الأحمدى ( كانت تُتّخذ فيه أماكن تُعدُّ للفساد فى تلك الأيام ، لكثرة الجموع )[217]. وعندما تولى السلطنة الظاهر جقمق كان ( شديدا على من يفعل المنكرات فكسدت فى حاله أرباب الملاهى والمسكرات )[218]. فأمر سنة 851 ( بإبطال مولد البدوى لما يقع فيه من المفاسد) على حد قول ابن إياس الذى يذكر أن الفقراء الأحمدية شق عليهم ذلك ووقفوا للسلطان أكثر من مرة فسمح لهم بإعادته فى العام التالى .  ويصف ابن إياس السلطان جقمق بأنه كان عفيفا عن الزنا واللواط يكره من يشرب الخمر ومن يزنى[219].

3 ــ ولقد كان المولد الأحمدى ضرورة شعبية لممارسة الانحلال الخلقى لايستطيع الناس فى عصرنا المملوكى الإستغناء عنه، لذلك فإنه فى سنة 851 يقول السخاوى ( عندما أبطل جقمق مولد البدوى عمل شخص يسمى رمضان بناحية محل البرج بالقرب من المحلة الكبرى المولد، ووقع فساد كبير على العادة )[220]. إذن كانت الموالد "حاجة" طبيعية يضطر الناس لإفرازها فى مناسبتها ، وبمجرد أن أعلن ذلك الشخص رمضان أنه سيقيم المولد فى المحلة الكبرى حتى توافد عليه الناس " ووقع فساد كبير على العادة".

4 ــ  وكان إسماعيل الإمبابى من أهم أتباع البدوى فى إمبابة ، ويقال عنه " صار يعمل المولد البدوى فى كل سنة ، فيأتيه الناس من الأقطار ، وترحل إليه من الأطراف ، وتخرج بياض أهل مصر والقاهرة إليه وتضرب بزاويته الخيم ، ويعقد سوق ، ويجتمع من النسوان والشباب خلق كبير)[221]. إذن فالمنتظر أن يحدث فساد كبير من هذا الجمع الكبير .

 5 ــ وتناقلت المصادر التاريخية ماحدث فى مولد الإنبابى سنة 790 يقول ابن الفرات عنه فى ذلك العام ( حصل فيه من الفساد مالا يحصى من كثرة النساء والفساق ، حتى أشيع أنهم وجدوا فى ثانى يوم فى المزارع مائة وخمسين فارغة من جرار الخمر ) ( وفتحت بنات بكور)[222]. أى بنات أبكار فقدن عذريتهن.

       ويقول المقريزى عن هذا المولد فى ذلك العام ( فى هذه الليلة عمل الشيخ المعتقد إسماعيل بن يوسف الأنبابى المولد على عادته فى زاويته بناحية انبوبة ( إمبابة) من الجيزة تجاه بولاق ، فكان فيه من الفساد مالا يوصف ، إلا أنه وجد فى الخمر فى المزارع مائة وخمسون جرة فارغة من جرار الخمر التى شربت تلك الليلة فى الخيم ، سوى ماحكى عن الزنا واللياطة ، فجاءت ريح كادت تقتلع الأرض بمن عليها ، وامتنع الناس من ركوب النيل وتأخروا هناك )[223].

         ويقول أبو المحاسن يحكى ذكريات تلك الليلة ( فذكروا أنه عمل المولد على عادته فى شهر ربيع الأول سنة 790 فهرع الناس لحضور المجتمع حتى غص الفضاء بكثرة العالم، وتنوعوا تلك الليلة فى الفسوق لكثرة اختلاط النسوان والمردان بأهل الخلاعة ، فتواتر الخبر أنه وجد فى صبيحة تلك الليلة من جراء الخمر التى شربت بالليل فوق الخمسين فارغة ملقاة حول الزاوية فى المزارع ، وافتضت فى تلك الليلة عدة أبكار ، وأوقدت شموع بمال كثير ، فبعث الله يوم الأحد بكرة صباح المولد قاصفا من الريح كدرت على من كان هناك وسفت فى وجوههم التراب واقتلعت الخيم ، ولم يقدر أحد على ركوب البحر ، ولم يعد يعمل مولد بعدها خصوصا وأن الشيخ مات فى آخر شعبان من سنة  790 [224] .

         ويقول ابن حجر بعد أن ذكر نفس التفصيلات ( وقد انقطع إسماعيل بزاويته ، ثم صار يعمل عنده المولد كما يعمل بطنتدا ، ويحصل فيه من المفاسد والقبايح مالا يعبر عنه)[225]. ويردد الصيرفى ماذكره المقريزى وأبوالمحاسن.

6 ــ   واستمرمولد الإنبابى يؤدى دوره فى الانحلال حتى أواخر العصر المملوكى ، إذ كان ابن اياس يذكر مايحدث فيه تباعا ، فيقول عنه فى حوادث سنة 913 ( كان ببولاق ليلة حافلة بسبب وقت سيدى إسماعيل الإمبابى رحمة الله عليه ، فضربت فى تلك الجزيرة التى تجاه بولاق نحو خمسمائة خيمة وصنعوا سوقا بدكاكين ، وخرج الناس فى الفتك والفرجة عن الحد، وأقاموا هناك ليالى متوالية، وموجب ذلك أن كان الرخاء والأمن موجودين ).  وفى حوادث السنة التالية 914 يقول عن نفس المولد( كانت ليلة سيدى إسماعيل الإمبابى ونصبت الخيام فى الجزيرة التى تجاه بولاق ، وخرج الناس فى تلك الليلة عن الحد فى القصف والفرجة ، وكانت ليلة حافلة)، وفى العام التالى يقول ( فى ليلة سيدى إسماعيل الإمبابى كانت ليلة حافلة ، وضربت فى الجزيرة نحو خمسمائة خيمة ، وخرج الناس فى القصف والفرجة عن الحد).           وفى العام التالى 917 يقول ( كانت ليلة من الليالى المشهورة فى القصف والفرجة، وخرج الناس فيها عن الحد)[226]. وهكذا فى السنوات التالية يكتفى أن ابن إياس بوصف الفسق فى مولد الإنبابى بأن الناس خرجوا فيها عن الحد ، ولو كان ابن إياس على نفس مستوى المؤرخين السابقين لأتى بتفصيلات الانحلال فى تلك الليلة .. إلا أنه اهتم أساسا بحالة الأمن فيقول مثلا عن ليلة 913 ( واقاموا هناك ليالى متوالية وموجب ذلك أن كان الرخاء والأمن موجودين) ثم يقارن بمولد آخر لم يحظ العصاة فيه بنفس الأمن فيقول ( وفى عقيب ذلك عمل مولد الشيخ سويدان المجذوب فى مدرسة ابن الزمن التى ببولاق عند الرصيف ، فكان له مولد حافل وضربت هناك الخيام الكثيرة عند المدرسة ، لكن حدث هناك حريقة أتت على مركبة ومعصرة ).

  ويقول عن ليلة الإمبابى سنة 917 ( وضربت نحوا من خمسمائة خيمة فى الجزيرة وصنعوا هناك سوقا بدكاكين مبنية ، وكانت ليلة هادية من الفتن والشرور )[227] . ومعنى ذلك أن العصر المملوكى فى نهايته تعود على الانحلال الخلقى ، فلم يهتم مؤرخه ابن إياس إلا بإستقرار حالة الأمن فى الموالد حتى يمارس العصاة انحلالهم فى المولد فى هدوء واطمئنان .

7 ــ  والشعرانى ــ وكان معاصرا لابن إياس ــ افتخر على بقية الصوفية بحفظ زوجاته من حضور الأعراس والموالد ( التى لاينضبط أصحابها على القوانين الشرعية ، بل يخلطونها بعدة محرمات كضرب الآلات والمحيطين الذين يحكون الحكايات السخريات ،مع اختلاط الرجال بالنساء ومع عدم التورَع من كل الفريقين عن الوقوع فيما لاينبغى ، وهذ الأمر قد كثر وقوعه فى الأعراس والموالد)[228]. والشعرانى يحاول تجميل الصورة قدر مايستطيع.

 8 ــ  واستمرت نفس الصورة المنحلة للموالد إلى عصر الجبرتى بعد الشعرانى بقرنين.  فيقول ( أقيم ضريح للشيخ عبدالوهاب بن عبد السلام ، وصيروه مزارا عظيما يقصد للزيارة وتختلط به الرجال والنساء ، ثم أنهم ابتدعوا له مولدا وعيدا ، وكل سنة يدعون إليه الناس من البلاد القبلية والبحرية ، فينصبون خياما كثيرة وحدادين وصواوين ومطابخ وقهاوى ، ويجتمع العالم الأكبر من اختلاط الناس وخواصهم وعوامهم وفلاحى الأرياف وأرباب الملاهى والملاعيب والغوازى والبغايا والقرادين والحواة ، فيملأون الصحراء والبساتين، فيطأون القبور ويوقدون عليها النيران ويضعون عليها القاذروات ويبولون ويتغوطون ويزنون ويلوطون ، ويلعبون ويرقصون  ويضربون بالطبول والزمور ليلا ونهارا ، ويستمر ذلك نحو عشرة أيام أو أكثر ، ويجتمع لذلك الفقهاء والعلماء وينصبون لهم خياما، ويقتدى بهم الأكابر من الأمراء والتجار والعامة من غير إنكار ، بل ويعتقدون أن ذلك قربة وعبادة ، ولو لم يكن كذلك لأنكره العلماء ، فضلا عن كونهم يفعلونه ، فالله يتولى هدايتنا جميعا )[229]. فى هذه اللوحة التاريخية نرى ممارسة للإنحلال فى مولد أقيم خصيصا لممارسة الانحلال بكل صوره ، ولأنه شعيرة دينية فقد كان يقوده ( العلماءوالفقهاء ) على أنه شعيرة دينية يتقربون بها لله تعالى عن ذلك علوا كبيرا ..

ولا تزال الموالد الصوفية تمارس دورها فى الانحلال الخلقى بنجاح ساحق ، وأيضا يحضرها ( العلماء والفقهاء وأرباب الدولة ). 

دوران المحمل:

  1 ــ  ورث المماليك عن الفاطميين عادة الإحتفال السنوى بدوران المحمل ، فيطوف الجمل يحمل كسوة الكعبة وقافلة تحمل الصدقات ومخصصات ( الحرمين) ، وينتظر الناس فى القاهرة دوران المحمل قبله بثلاثة أيام ، وتمتلىء الطرقات والشرفات بالناس ، وحتى عصر قريب يقول أحمد أمين : ( ويتبرك المصريون بالمحمل) ( والناس عادة يتبركون بالمحمل ويتمسحون بالكسوة ويقبّلون شراشيبها، ومن استطاع ذلك كان له الفخر حتى كأنه قبّل يد النبى (ص)[230]).  والتصوف الذى حول المحمل إلى نصب مقدس يتبرك الناس بتقبيله هو الذى جعل من الإحتفال بدوران المحمل مناسبة سنوية للانحلال الخلقى حين يتزاحم الرجال والنساء والصبيان أياما بسبب المحمل .

2 ــ  والحوليات التاريخية للعصر المملوكى كانت تذكر دوران المحمل مشفوعا بما يحدث فيه من انحلال خلقى . ففى حوادث سنة825 يقول المقريزى عن دوران المحمل ( زينت القاهرة لإدارة المحمل على العادة  فمنع المحتسب النساء من الجلوس على حوانيت الباعة، وتشدد فى ذلك فإمتثلن، وكانت العادة أن تجلس النساء صدرا من النهار ويبتن بالحوانيت حتى ينظرن المحمل من الغد ، فيختلطن بالرجال فى مدة يومين وليلة وتقع أمور غير مرضية ، فعُدّ منعهن من جميل ماصُنع ، لكنه لم يتم ، وعُدن فيما بعد كما كُن ، لإهمال أمرهن )[231] .

3 ــ  ويذكر المقريزى عن دوران المحمل سنة 841 أنه خطف مماليك السلطان النساء والصبيان للفساد ، ورسم بعد ذلك بمنع المماليك من النزول للقاهرة لأنهم صاروا ينزلون فى طوائف فى أماكن اجتماع العامة ويتفننون فى العبث والفساد، من أخذ عمائم الرجال واغتصاب النساء والصبيان وتناول معايش الباعة ( فلم يتم منعهم)[232]. . أى أن عادة المحمل جرأت المماليك السلطانية على الإسهام فى الانحلال الخلقى ، وصارت عادة للجند المماليك ــ خصوصا الأجلاب ــ أن يهجموا على النساء فى أى وقت يقول ابن إياس أن مماليك يلبغا( صاروا يهجمون على النساء فى الحمامات ، ويخطفون الصبيان المردان فى الأسواق [233].               

  4 ــ  ويقول ابن حجر فى حوادث سنة 831 أن الشيخ علاء الدين البخارى التمس من السلطان أن يبطل إدارة المحمل حسما لمادة الفساد التى جرت به العادة عند إدارته فى الليل والنهر من ارتكاب المنكرات والتجاهر بالمعاصى[234].

   5 ــ   ويذكر الصيرفى وقائع دوران المحمل سنة832  نقلا عن المقريزى أما أبو المحاسن فقد عاصر دوران المحمل سنة 841 فأورد ماحدث فيه من خطف للنساء والصبيان [235].

 6 ــ  واستمرت عادة المحمل تحمل سنويا عناصر الفساد فيقول ابن إياس عنه فى سنة 861( أدير المحمل على العادة ،ولكن حصل فيه المماليك الجلبان غاية الضرر فى حق الناس من خطف النساء والصبيان وعمائم الناس ) وتكرر ذلك فى السنوات اللاحقة[236]

الأعياد الإسلامية :

1 ــ  لقد كان دوران المحمل عادة دينية أحدثها الفاطميون فما لبث التصوف أن ترك عليها بصماته الانحلالية .وبالمثل حوَل التصوف من الأعياد الإسلامية مناسبات للانحلال . ففى رمضان شهر التقوى اعتاد العصر المملوكى أن يحول لياليه إلى سهر صاخب ولم ينس البعض نهار رمضان ، ففى سنة 909 فى رمضان قبض الوالى على أربعة أنفار من العوام وجدهم (فى بستان ومعهم امرأة، وهم يأكلون ملوحة بالنهار، وقيل أنهم كانوا سكارى )[237].

  2 ــ  وفى عيد الفطر سنة 801 يقول المقريزى ( أقبل الناس فى يوم العيد ومابعده على أنواع من اللهو فى القرافة والترب خارج القاهرة وبخرطوم الجزيرة الذى انحسر عنها ماء النيل ببولاق ، فمرّ لهم فيه مسرات وتفننوا فى أنواع اللذات ، وكأنما كانوا يودعون الأمن والراحات[238].  إن ماء النيل عندما انحسر أمام بولاق وأظهر الجزيرة ــ أو مايعرف الآن بالجزيرة والزمالك ــ فقد تحولت تلك الجزيرة الرائعة إلى مناطق للهو حتى فى المناسبات الإسلامية .

الأعياد القبطية :

 1 ــ  والتصوف فى العصر المملوكى لم يعرف التعصب الدينى فى ممارسة اللذات فى المناسبات الدينية المختلفة ،  فاحتفل الناس بالمناسبات الصوفية مع الإسلامية ومع القبطية . أى جعل المسلمين والأقباط أُخوة متحابين متعاونين فى خدمة شيطان الانحلال الخلقى فى وحدة وطنية رائعة .!!.

2 ــ  وأشهر الأعياد القبطية التى كان المصريون جميعهم من مسلمين وأقباط ــ يحتفلون بها هو عيد الشهيد ، يقول عنه المقريزى ( ومما كان يعمل بمصر عيد الشهيد ، وكان من أنزه فُرج مصر ــ ويخرج عامة أهل القاهرة ومصر على إختلاف طبقاتهم وينصبون الخيم على شطوط النيل وفى الجزائر ، ولا يبقى مغن ولا مغنية ولا صاحب لهو ولا رب ملعوب ولا  بغى ولا مخنث ولا ماجن ولا خليع ولا فاتك ولا فاسق إلا ويخرج لهذا العيد، فيجتمع عالم عظيم لايحصيهم إلا خالقهم ، وتصرف أموال لاتنحصر ، ويتجاهر هناك بما لا يحتمل من المعاصى والفسوق ، وتثور فتن وتقتل أناس ، ويباع من الخمر خاصة فى ذلك اليوم بما ينيف على مائة ألف درهم فضة عنها خمسة آلاف دينار ذهب ، وباع نصرانى فى يوم بمائتى عشر ألف درهم فضة من الخمر، وكان اجتماع الناس لعيد الشهيد دائما بناحية شبرا من ضواحى القاهرة ).

 وقد أبطل الأمير بيبرس الجاشنكير ذلك العيد فى سلطنة الناصر محمد بن قلاوون ، وأعاده الناصر محمد فيما بعد، ونترك المقريزى يحكى ظروف إعادة الإحتفال بذلك العيد القبطى يقول ( فبطل العيد من تلك السنة (702) ولم يزل منقطعا إلى سنة 738 وعمر الناصر محمد بن قلاوون الجسر فى بحر النيل .. فطلب الأمير يلبغا اليحياوى والأمير الطنبغا الماردينى من السلطان أن يخرجا إلى الصيد ويغيبا مدة فلم تطب نفسه بذلك لشدة غرامه بهما وتهتكه فى محبتهما ، وأراد صرفهما عن السفر فقال لهما : نحن نعيد عمل عيد الشهيد فيكون تفرجكما عليه أنزه من خروجكما إلى الصيد ــ وكان قد قرب أوان وقت عيد الشهيد ــ فرضيا منه بذلك ، وأشيع فى الإقليم إعادة عمل عيد الشهيد ، فلما كان اليوم الذى كانت فيه العادة بعمله ركب الأمراء النيل فى الشخاتير ، واجتمع الناس من كل جهة ، وبرز أرباب الغناء وأصحاب اللهو والخلاعة ، فركبوا النيل وتجاهروا بما كانت عادتهم المجاهرة به من أنواع المنكرات ، وتوسع الأمراء فى تنوع الأطعمة والحلاوات وغيرها توسعا خرجوا فيه عن الحد فى الكثرة البالغة ، وعم الناس منهم مالا يمكن وصفه لكثرته واستمروا على ذلك ثلاثة أيام.! ) ، أى أن السبب فى إعادة الإحتفال بعيد الشهيد هو أن السلطان كان مغرما جنسيا باثنين من الأمراء ، وأراد استبقاءهما إلى جانبه ، فأعاد الإحتفال بعيد الشهيد ومايحدث فيه من الفواحش[239]. والناس على دين ملوكهم .. وشيوخهم ..

  3 ــ  وفى عيد النوروز كانوا ــ على حد قول ابن إياس ( يتجاهرون فى ذلك اليوم بشرب الخمور وكثرة الفسوق فى أماكن المفترجات حتى يخرجون فى ذلك عن الحد ، وربما كان يقتل فى ذلك اليوم جماعة ممن يعربدون على بعضهم فى السكر ، ولاينكر ذلك بين الناس) وقد أبطل برقوق ماكان يعمل فى يوم النوروز وقبض الوالى ( على من يفعل ذلك فى  أماكن المفترجات ، وضربوا بالمقارع ، وقطعت أيدى بعضهم ونصبت المشانق تهديدا ، فأسكت الناس عما كانوا يفعلون فى ذلك اليوم ، وصاروا يفعلون بعض شىء من ذلك فى أماكن المفترجات فى الخلجان والبرك أو نحو ذلك )[240]

4 ــ         وفى عيد وفاء النيل ــ وهو من التراث الفرعونى ــ كان الناس يجتمعون ، وعلى حد قول الصيرفى : ( وأظهروا مفاسد وقبائح لايسعنا ذكرها)، وكان ذلك سنة 875، وقد ذكر الصيرفى بعض رءوس الموضوعات فيما حدث فى ذلك اليوم يقول ( فهرع الناس إلى الأماكن المقدم ذكرها ، وهى الروضة والجسر والجزيرة وغير ذلك ، وأظهروا المفاسد والقبائح والزنا واللواط والخمر والحشيش وركوب البحر بالملاهى)[241].

ويقول ابن إياس عن نفس المناسبة سنة 918 أن والى القاهرة كان طيلة الليل يدور فى مركب وينادى فى الناس بالأمان والإطمئنان ( وأن لا أحد يشوش على أحد ، ولامملوك يعبث على امرأة ) فكل ماكان يهتم به الناس فى عصر ابن إياس هو الأمان أثناء العصيان ، ولكن قلما يكون أمان ، يقول ابن إياس: ( ولكن عبث المماليك فى الطرقات على الناس .. وقتل مملوك امرأة )[242]

 

 

ج3 / ف 3 :المجتمع المملوكى المنحل خلقيا:الانحلال بدون مناسبات، وفى الأزمات :

   كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية 

الفصل الثالث : انحلال المجتمع المصرى المملوكى بتأثير التصوف

المجتمع المملوكى المنحل خلقيا : الانحلال بدون مناسبات وفى الأزمات.

الانحلال بدون مناسبات :

 1 ــ والواضح أن أى تجمع بشرى فى أى مناسبة دينية كان يعنى الانحلال الخلقى أو بالتعبير الماثور كان ( يختلط الرجال بالنساء) وكانت شهوة الناس مفتوحة لممارسة الانحلال فى أى مناسبة بسبب وبدون سبب، فالمهم أن يحدث تجمع فيختلط الرجال بالنساء ويتم الانحلال بمجرد الإجتماع.

2 ــ  ففى سنة 800 انتصر برقوق على الأمير ايتمش فى لعب الكرة فأقام سماطا ولم يمنع أحدا من الدخول فى الميدان فتكاثر الناس فى الميدان ، وبعد أن طلع السلطان إلى القلعة نهب العامة المآكل والمشارب ، يقول ابن إياس ( وكان يوما فى غاية الشناعة أبيحت فيه المسكرات وتجاهر الناس من الفحش والمعاصى بما لم يعهد مثله)[243].

3 ــ  ويقول السخاوى فى حوادث سنة 848 أنه ظهر للسلطان ( عدم تمكنه من إزالة الفساد بالكلية فرأى حسم مادته ، وذلك بإبطال زينة الحوانيت فإنها السبب فى جلوس الناس فيها لكثرة مايوجد فيها من الشموع ويجتمع فيها من أهل الفساد . ) ..( وأمر السلطان ..إدارة المحمل من غير تقدم أعلام الناس بذلك حصل الجمع بين المصلحتين )[244]. وطبعا لم يحدث ذلك ، والمهم أنه كان الناس على استعداد فورى للإنحلال إذا أضيئت الشموع ، إذ سرعان مايجتمعون وسرعان مايحدث الإنحلال .

 4 ــ   وفى سنة 854 إشتهر بالولاية ( عبد أسود)  ( هرع له الخلق  لاشتهاره عندهم بالولاية ، ولم يعهد مفترج يجتمع فيه الناس مثل هذا الجمع ، ونشأ عنه من المفاسد ما الله به عليم ، وأعلم السلطان بالمناكير التى تحصل بسبب الإجتماع هناك فأمر بالقبض عليه)[245].. أى مجرد إشتهاره بالولاية هرع الناس اليه يتبركون به ، وباجتماعهم حوله حدث الانحلال ، وعلم بها السلطان فاعتقل العبد المشهور بالولاية ، ولم تنفعه كراماته المزعومة فى حمايته من الاعتقال .

 5 ــ وفى حوادث سنة 859 أقيم احتفال بمناسبة شفاء ( خوند) أى أميرة مملوكية وكان فيه من الطبل فتجمع الناس فازدحموا فى الطرقات ( وصارت كأيام دوران المحمل بل أعظم) ( وأما االنسوة فكن أضعاف الرجال ، ودام ذلك من أول النهار إلى بعد عشاء الآخرة ، ووقعت فى تلك الليلة من القبائح والمفاسد والأمور الشنيعة مالا يزيد عليه ، وعيب عليهم ذلك فلم يلتفت أحد لما قيل ، وأنشد لسان الحال .

               من راقـب النــاس مــات غما         وفاز باللــذة الجســـور[246]

  6 ــ وفى سنة 875 أقيم الموكب السلطانى وضرب البندق أى الرصاص ، فاجتمع ( النساء والرجال والشيوخ والصغار وغالب سكان مصر ، وانقلبت مصر والقاهرة لأجله ، وتهتكوا) أى وقعوا فى الانحلال[247].

7 ــ  وفى العام التالى 876 يقول البقاعى باختصار ( فى محرم زينت القاهرة وحصل لذلك فسق كثير )[248]. ويأتى الصيرفى بتفصيلات الأنباء فقد زينت مصر لاستقبال الداودار وسهر الناس لذلك ( لكن ترتب على هذا من المفاسد مالايحصى ولايحصر من شرب الخمور وتهتك النساء مع الرجال والصبيان ، وانهماك العوام والأكابر والأواسط ، على استمرارهم فى ذلك ، بحيث أنه لم يقع له  أمر مثل هذا ، سيما عدم تعرض المماليك السلطانيةلأحد من الخلق )[249]. وهى لوحة تاريخية مختصرة تصور الجميع فى حالة انحلال لمجرد خروجهم من البيوت .

8 ــ  لقد عرف العصر المملوكى عبادة الانحلال فى أى مناسبة وبدون مناسبة ، وشارك الجميع فيه من عوام وخواص وعلماء ومماليك ورجال ونساء وأطفال ، وكان المؤرخون يسجلون الأحداث الشهيرة فقط ، والتى تحدث فى القاهرة فقط ، والتى يهتم بها السلطان والحكام فقط . أما ما يحدث فى بقية المدن وفى الريف والصعيد فلم يحظ بالتسجيل التاريخى .

وفى غمرة هذا الانحلال فى أى مناسبة وبدون مناسبة لم يكن يتوب الناس من هذه الحياة إلا عند الأزمات القاتلة ، كالطاعون والمجاعات التى كانت تحدث بسبب انخفاض مستوى النيل أو زيادته إلى حد الإغراق .وبعدها يعودون سيرتهم الأولى يعبدون شيطان الانحلال كالمعتاد .

الانحلال الخلقى والأزمات :

 1 ـ        عاش العصر المملوكى هزات قلقة بسبب المجاعات والأوبئة التى كانت تتكرر كل عدة سنوات وفيها كان المماليك والعلماء يفيقون من حياة الانحلال ويطاردون مظاهر الفسق ويرغمون الناس على التوبة أملا فى انكشاف الأزمة ، وبعد عودة الاطمئنان يعودون إلى سابق العهد كأن شيئا لم يكن .

 2 ـ  وكان الرأى السائد أن المجاعات والأوبئة هى عقاب الاهى على إنغماس الناس فى الانحلال الخلقى       والفقيه السنى الحنبلى البقاعى يقول إن الطواعين والمجاعات كانت تأتى ( بسبب المبالغين فى الفسق فيهلك بقية الناس لأجلهم)[250].   وفى طاعون سنة 841 سأل السلطان برسباى العلماء عنده عن الذنوب التى إذا ارتكبها الناس عاقبهم الله بالطاعون ، فقالوا إن الزنا إذا فشا فى الناس ظهر فيهم الطاعون ، وأن النساء يتزين ويمشين فى الطرقات ليلا ونهارا وفى الأسواق ، فأشار بعضهم بمنع النساء من المشى فى الأسواق ونازعه آخر فقال: لا يمنع إلا المتبرجات أى العاهرات المومسات . ونودى فى القاهرة بمنع النساء جميعا من الخروج وأن من تخرج من بيتها مصيرها القتل[251]. ثم عاد الأمر إلى ماكان عليه بعد انتهاء الأزمة .

 3 ــ وكانت العادة أن يشتد المماليك فى مطاردة المنحرفين والمنحرفات فى الطاعون والمجاعات ، ففى طاعون سنة 791 أمر يلبغا الناصرى بإراقة الخمور ( فكسر منها خمسة آلاف جرة تحت القلعة ، وكبست الحارات التى يباع فيها الخمر ، وفى كسر جرار الخمر يقول بدر الدين بن القاضى سراج الدين البلقينى :     كــســر الجـــرة عمـــدا          وســقى الأرض شــــــرابا

               صــحت والإســلام دينـــى           ليــــتنى كــــنت ترابــا[252].

4 ـ وكان توقف النيل عن الزيادة مبعث قلق للسلطات الحاكمة ، يؤذن بمجاعة ، لذا تسارع السلطة المملوكية بمحاربة الانحلال . يقول المقريزى فى حوادث سنة 802  أن النيل توقفت زيادته ، فركب عدة من الأمراء وكبسوا أماكن اجتماع الناس للفرجة ونهوا عن عمل الفواحش[253].

5 ــ ونفس الحال مع الأوبئة . وفى طاعون سنة 819 ركب الأمير سودون حاجب الحجاب إلى شاطىء النيل وأحرق ماكان هناك من الأخصاص ، أى الأكواخ ، ( وطرد الناس ومنعهم من الاجتماع فإنهم كانوا قد أظهروا المنكرات من الخمور ونحوها من المسكرات واختلاط النساء بالرجال من غير استتار)[254]. أى أن الاستتار مباح أما التجاهر بالزنا والشذوذ فهو حرام .!. ويقول ابن حجر فى نفس الموضوع أن سودون أحرق الأخصاص التى على النيل وطهرها مما فيها ( من المناكر كالزنا وشرب الخمر واللواط وكانوا يتجاهرون بذلك)[255]. فالتجاهر فقط هو الممنوع.

 وفى طاعون سنة 822 تتبع المحتسب أماكن الفساد بنفسه فأراق آلافا من جرار الخمر ( وكسرها، ومنع النساء من النياحة فى الأسواق على الأموات ، ومنع التظاهر بالحشيش ، وكف البغايا عن الوقوف لطلب الفاحشة فى الأسواق ومواضع الريب )[256]

 وفى طاعون سنة 831 ( أمر السلطان وشدد بإراقة الخمر وحرق الحشيشة ، وأكثر ذلك كان بدمياط ، وكان فى القاهرة وغيرها من الأعمال على ذلك ضمان وعليه اقطاعات ( أى ضريبة يتم الانفاق منها على المماليك ) ، فبطل ذلك ولله الحمد ،ثم أعيد قليلا بدسائس أهل الظلم والمكر حتى عاد كما كان بعد مدة قريبة[257].

6 ـ وأصبح هذا عادة مرعية . فى سنة 832 ( قام صاحب الحجاب قياما تاما فى إراقة الخمور وحرق  الحشيش ، وهدم مواضع الحانات وبيوت الفسق وكسر من أوانى الخمور نحوا من عشرة آلاف جرة حتى صار بركة خمر تجرى فى الرملة ، وقد قال القائل فى المعنى.

               الخــــمــــر قـــــد بددوه           فى الأرض طولا وعرضــــا

               مـــا كنت أرضى بهــــــــذا           ياليـــــــتنى كنت أرضـا

( ومنع السلطان من الأعراس والزفف) خوفا عليهم من فساد مماليكه الذين كانوا يخطفون النساء والمردان من الطرقات )[258].

  وفى العام التالى 833 أمر السلطان بالإقلاع عن المعاصى ومنع النساء من الخروج إلى الترب[259] .

وفى سنة 839 حينما تناقصت الغلال صار الوالى يكسر جرار الخمر ( وحجر على الحشيش ومنع الخواطىء من عمل الفواحش).

وفى سنة 841 فى الطاعون (كُبست حارات زويلة والجوانية والعطوف وقنطرة سنقر والحكر والكوم ، وهجم على بيوت اليهود والنصارى ، وكسر مالديهم من الخمور، وحجر على بنات الخطا ومنعهن من عمل الفاحشة ، وكتب عليهم قسامة بالزواج)[260].

  وفى سنة 866 لم يزد النيل أياما فتزايد سعر الغلال ورسم السلطان خشقدم بكف الناس عن المعاصى ، فركب الوالى إلى بولاق واعتقل المتفرجين ونزل الجزيرة فقبض على جماعة من الرجال والنساء ، وشهرهم ، وكان من جملتهم أحد أولاد قاضى القضاه ابن القاياتى[261].

  وفى سنة 870 تناقض النيل فأغار الوالى ( تمر) على المتفرجين فى الروضة وأحرق الخيام هناك[262]. وفى سنة 875 نقص النيل فأمر السلطان قايتباى بالمناداة فى الروضة ( بأن أحدا لايفعل منكرا ، ومن وجد عنده شىء من المنكر ينكَلُ به)[263].

وعندما هبط النيل سنة 879 أمر حاجب الحجاب( فكبس الفسقة ، وأوقع بهم وفرق جمعهم وكانوا حول النيل)[264].

وفى طاعون سنة 910 ( رسم السلطان بكبس بيوت النصارى وتكسير جرار الخمر عندهم وإحراق أماكن الحشيشة.. وأظهر العدل وأبطل المشاهرة على الحسبة)[265].

وفى سنة 915 نادى السلطان ( بألا  يتجاهر الناس بالمعاصى ، وأن يواظبوا على الصلوات الخمس فى الجوامع) ( فسمعوا من أذن وخرج من أخرى)[266].

وفى سنة917 تأخر وفاء النيل فأشيع ين الناس أن السبب فى ذلك هو الفسق الذى كثر فى الروضة : ( فرسم السلطان بكبسها فتوجهوا وكبسوا على الناس الذين بالخيام)[267].

وبسبب طاعون 919 أمر السلطان ( بمنع بيع النبيذ والحشيش والبوزة ، ومنع النساء الخواطىء من عمل الفاحشة، واستمرت المناداة بذلك ثلاثة ايام متوالية ، وأبطلت المظالم) وانكشف الطاعون فأعاد السلطان المظالم[268].

 7 ــ وبعض السلاطين كانت لهم أسبابهم الخاصة والمختلفة فى مطاردة أسباب الفسوق .

فالأشرف شعبان مرض سنة 775 فالتمسوا منه ابطال المظالم حتى يشفى ،وهى ضمان المغانى وضمان القراريط ، فلما عوفى ذكروه بوعده فأبطلهما ( وكان يتحصل منهما مال جزيل)[269].

 وتوجه السلطان برقوق لحرب تيمور لنك سنة 803 وكان يتخوف منه، فشرع فى إراقة الخمور وكسر جرارها، حتى قيل أن جملة ماكسر منها يقارب خمسين ألف جرة[270].

  وبعضهم لم يكن له ميل للا نحلال الخلقى مثل الأميرين بيبرس الجاشنكير وسلار عندما تحكما فى سلطنة الناصر محمد ، فمنعا المراكب من عبور الخليج الحاكمى خارج القاهرة ( لكثرة ماكان يحصل من الفساد والتظاهر بالمنكرات وتبرج النساء فى المراكب وجلوسهن مع الرجال مكشوفات الوجوه بكوافى الذهب على رؤوسهن، وتعاطيهن الخمر، وكانت تثور الفتن بسبب ذلك وتقتل القتلى العديدة ، فلم يدخل الخليج إلا مركب فيها متجر ، وأما مراكب النزهة فامتنعت ، وعدُوا ذلك من أحسن الأفعال)[271].

  وبعدها بعامين أى سنة 709 كان بيبرس الجاشنكير سلطانا بعد أن هرب الناصر محمد إلى الكرك، فاشتد بيبرس الجاشنكير فى مقاومة مظاهر الانحلال،  يقول عنه المقريزى( فى أيامه كبست أماكن الريب والفواحش بالقاهرة ومصر، وأريقت الخمور ، وضرب أناس كثيرون فى ذلك بالمقارع ، وتتبع أماكن الفساد وبالغ فى إزالته ، ولم يراع فى ذلك أحدا من الكتاب ولا من الأمراء ، فخف المنكر وخفى الفساد)[272].

 وفى أعقاب ذلك حدث توقف فى الفيضان وانتشر وباء وارتفعت الأسعار واضطربت أمور بيبرس الجاشنكير ، خصوصا وانه فى حملته التطهيرية الأخلاقية أنزل بالناس بلاء شديدا ( وافتضح كثير من المستورين) وهو يكبس بيوتهم بحثا عن الفواحش ( وتعدى الأمر دور الأمراء)[273] أى أن الانحلال شمل الميسورين والمستورين والأمراء والكبار ، أى لم تكن حركة حرب الفساد الخلقى بسبب  الخوف من الطاعون وتوقف النيل.

 وقبله كان الظاهر بيبرس المشهور بالجهاد والجدية قد أمر بإراقة الخمور وإبطال المفسدات واستتابة الخواطىء والمخنثين وتشدد فى الأمر ، يقول المقريزى عنه 670 ( أهلت والسلطان متشدد فى إراقة الخمور وإزالة المنكرات )[274].

8 ــ   وفيما عدا ذلك كان السلاطين كسائر الناس فى عصرهم فى ممارسة الانحلال ، ولم يكن منتظرا أن يكونا قدوة فى الخير ، والسبكى يحتج على الأمراء المماليك عندما ينكرون على الشيوخ العصاة ، فيقول: ( ومن قبائح كثير من الأمراء أنهم لايوقرون أهل العلم ولا يعرفون لهم حقوقهم ، وينكرون عليهم ماهم مرتكبون أضعافه ، وما أقبح الأمير إذا كان مرتكبا معصية ووجد فقيها يقال عنه مثلها أن ينتقصه ويعيبه ، وماله لاينظر إلى نفسه) ويستشهد السبكىى بأن فقيرا اقتيد إلى بعض الأمراء لأنه سكران فأخذ الأمير يجلده والأمير هذا سكران[275]!!

  9 ــ  وفى غير الأزمات اعتاد العصر على تنفس الانحلال الخلقى خصوصا إذا أضيئت الشموع فى الأسواق ليلا، يقول المقريزى عن سوق السلاح: (إذا أقبل الليل اشعلت السرج من الجانبين ،وأخذ الناس فى التمشى بينهما على سبيل الاسترواح والتنزه، فيمر هنالك من الخلاعات والمجون مالا يعبر عنه بوصف)[276]

توبة سريعا ..والعودة سريعا للإنحلال

1 ــ  وأدمن الناس مع الانحلال الإعلان  عن التوبة الوقتية ثم نسنيانها سريعا ، وفى مناقب الحنفى أنه قال فى ميعاده بأعلى صوته( أعلم أن الذى اشبك الكلب مع الكلبة قادر على أن يشبك الزانى مع الزانية فى حال زنا).  وصدق الجمهور كلامه وخاف كل منهم على نفسه فأعلن الجميع التوبة فى حالة عاطفية وجدانية ، يقول كاتب المناقب( فارتفع صياحهم وضجيجهم ووجدهم ، فتكلم معهم فى التوبة حتى عادوا إلى أحوالهم ، وخرجوا من المجلس يقول بعضهم لبعض : ما أظن أن أحدا خرج من مجلس سيدى إلا وقد تاب من الزنا)[277].. أى أن كلهم زناة، وخافوا على أنفسهم ان يحدث لهم مايحدث بين الكلب والكلبة.

2 ــ ثم كان من الطبيعى ان ينسوا ذلك كله ، لأن شفاعة الحنفى وغيره حسب اعتقادهم تشجعهم على الرجوع للانحلال الخلقى ، فالسلوكيات المنحلة تصدر دائما عن عقائد مختلة.

 لو كانت عقائدهم خالصة لله تعالى بدون وسائط وأولياء وشفاعات لتطهرت أخلاقهم من العصيان والفواحش .

3 ــومن مصطلحات القرآن العظيمة  التقوى ومشتقاتها ، والتقوى ليس مجرد الخوف من الله ولكنه الخوف الممتزج بالحب والتقديس والرجاء ، والمتقى هو الذى يتعامل مع الله تعالى مباشرة فى صلاته وعبادته وفى قلبه وعقيدته ، وفى سلوكياته وتعاملاته مع البشر .ولذلك لايتخذ مع الله وليا، لأن الله تعالى هو وحده الولى المستحق للتقديس، ولايتوجه بعبادته ودعائه لغير الله تعالى. وفى تعامله مع البشر وفى اخلاقه وسلوكياته يخشى الله تعالى وحده، وحتى إذا وقع فى المعصية سارع بتذكر الله تعالى واستغفر وتاب وأناب .

وهكذا تقترن التقوى باخلاص العقيدة وسمو الأخلاق، كما أن  فساد العقيدة إذا ساد أفسد أخلاق العباد .

           

 

 

 

 



[1]
ـ السلوك 4/2/751، 619.

[2]ـ عقد الجمان وفيات 829، لوحة 198.

[3]ـ النجوم 15 /59.

[4]ـ النجوم 14 /95.

[5]ـ الضوء اللامع 4 /249.

[6]ـ النجوم 15/ 174 : 175.

[7]ـ السلوك 4 /2

[8]ـ تاريخ ابن اياس 2 / 8.

[9]ـ إنباء الغمر 3/401.

[10]ـ تاريخ ابن اياس 4/180 :181.

[11]ـ تاريخ ابن اياس 1/2/349

[12]ـ تاريخ ابن اياس 1 / 2 / 52  .

[13]ـ نزهة النفوس لابن الصيرفى 2/68.

[14]ـ إنباء الغمر 3/389.

[15]ـ النجوم 13 / 39: 40.

[16]ـ نزهة النفوس 1/419 .

[17]ـ الضوء اللامع 1/ 369: 370.

[18]ـ  النجوم 16: 187.

[19]ـ الضوء اللامع3/237، 238

[20]ـالطبقات الصغرى :41.

[21]ـ تاريخ ابن طولون 1/39.

[22]ـ إنباء الغمر 3 /242.

[23]ـ إنباء الغمر 3/268: 269.

[24]ـ نفس المرجع 2/387 ، ذيل الدرر الكامنة 222 مخطوط .

[25]ـ نفس المرجع 2 / 196 ، 197.

[26]ـ السلوك 4 / 2 / 76، 788، 899.

[27]ـ  فوات الوفيات 1 /101.

[28]ـ تاريخ ابن اياس 2 /24 تحقيق محمد مصطفى .

[29]ـ نزهة النفوس 1 / 279.

[30]ـ تاريخ ابن اياس 4/92

[31]ـا العينى عقد الجمان ورقة 387.

[32]ـ تاريخ ابن اياس 2/ 258.

[33]ـ التبر المسبوك 78، 170.

[34]ـ السلوك 4/ 2/ 616 ،638.

[35]ـ السلوك 4/2/616، 638.

[36]ـ  النجوم 14 /274: 275.

[37]ـ  تاريخ البقاعى 12ب .

[38]ـ نزهة النفوس والأبدان 2/190.

[39]ـ تاريخ ابن اياس 4 / 340 ، 345، 18 ، 349.

[40]ـ النجوم الزاهرة 15/538، 16/ 164.

[41]ـ السلوك  4 /2/ 600.

[42]ـ  تاريخ ابن اياس 1/2/ 216.

[43]ـ النجوم 15 /492 : 493.

[44]ـ إنباء الهصر تحقيق حسن حبشى 1970

       351، 331، 266، 225، 153، 323، 129، 132، 151، 365، 366، 232، 248، 446، 374: 391، 235، 22 ، 344،

       238 على الترتيب .

[45]ـ السلوك 4 /1/ 388: 389.

[46]ـ  السلوك 4/1/227

[47]ـ إنباء الغمر 3/ 196: 197.

[48]ـ النجوم الزاهرة 14/209.

[49]ـ  السلوك 3/2/936: 937، 773. النجوم الزاهرة 11/317.

[50]ـ النجوم الزاهرة 11/ 291: 292.

[51]ـ تاريخ زيتر استين 102.

[52]ـ ا لسلوك 4/1/201.

[53]ـ السلوك 3/2/ 570، 592،650، 651، 674، 701، 729، 983.، 4/3/1067، 1196.

[54]ـ النجوم الزاهرة 14/ 111.

[55]ـالضوء اللامع 4/292 ، نزهة النفوس 2/346.

[56]ـ إنباء الغمر 2/490.

[57]ـ إنباء الهصر 113، 131، 133، ع135، 148، 215.

[58]ـ الضوء اللامع2 /324.

[59]ـ تاريخ ابن كثير  14/161.

[60]ـ ابن حجر  ذيل الدرر الكامنة  مخطوط :9.

[61]ـ الضوء اللامع 3/305.

[62]ـ المقريزى : المقفى : مخطوط 2/7، 12.

[63]ـ السلوك 4/2/ 597.

[64]ـ النجوم الزاهرة 15 /471، 548.

[65]ـ النجوم الزاهرة 15/471، 548.

[66]ـ التبر المسبوك 168.

[67]ـ الضوء اللامع 4/294.

[68]ـ إنباء الهصر 85: 87.

[69]ـ تاريخ ابن اياس 3/24.

[70]ـ عقد الجمان . مخطوط ورقة 229، وفيات 808.

[71]ـ إنباء الغمر3/29.

[72]ـ السلوك 2/815.

[73]ـ.ا لدرر الكامنة2/6، 76.

[74]ـ. أبوالمحاسن : المنهل الصافى. مخطوط 3/105.

[75]ـ.إنباء الغمر 2/179، نزهة النفوس 2/434.

[76]ـ  السلوك 4/2/842.

[77]ـ النجوم الزاهرة 16/159.

[78]ـ إنباء  الهصر 188.

[79]ـالعينى .عقد الجمان وفيات 809.

[80]ـ السلوك 4/2/652، 673،4/1/295.

[81]ـ الهصر 454.

[82]ـ فتوح النصر . مخطوط 2/270. السلوك 2 / 2 /416.

[83]ـالسلوك 1/3/869.

[84]ـ السلوك 2/2/440: 441، 444، 386: 387.

[85]ـ الضوء اللامع 3/308، تاريخ ابن اياس 1/2/508.

[86]ـالنجوم الزاهرة 16/275 ــ 276 ، 333 ، 286.

[87]ـ ديوان البهاء زهير : 47.

[88]ـ خطط المقريزى ج2/55، ج1/90، ج2/338.

[89]ـ الشعرانى. لطائف المنن 271، 287 ط قديمة.

[90]ـالشعرانى لطائف المنن271، 287ط قديمة

[91]ـ تاريخ الجزرى. مخطوط ج2/292.

[92]ـ السلوك ج4/1/415.

[93]ـ إنباء الغمر ج3/141

[94]ـ نفس المرجع ج3/836.

[95]ـ نزهة النفوس . مخطوط 146ب

[96]ـإنباء الغمرج3/399، 400.

[97]ـتاريخ ابن اياس ج1/2/166 :167.

[98]ـ خطط المقريزى ج2/55.

[99]ـ مناقب الفرغل  26.

[100]ـ إنباء الهصر 337

[101]ـ تاريخ البقاعى مخطوط 98، 90.

[102]ـ خطط المقريزى ج1/197، 198 السلوك ج3 / 2/ 945. الجوهر الثمين لابن دقماق 149، نزهة النفوس ج1/211.

[103]ـ.ـ السلوك ج4/ 2/ 666

[104]ـ لمحة عامة إلى مصر ج1 /627.

[105]ـ الخطط ج1/ 164.

[106]ـ المقدسى الرجائى. حكم الأمرد 44.

[107]ـ إغاثةاللهفان ج2/ 146.

[108]ـ عيون التواريخ . مخطوط ج2/384 :386.

[109]ـ ديوان الشاب الظريف 32، 33.

[110]ـلطائف المنن 468.

[111]ـ الصفدى . شرح لامية العجم ج2/281 :282.

[112]ـ نزهة النفوس ج1/334، ج2/236 :237

[113]ـ نزهة النفوس 1/334، ج2/236 237.

[114]ـ ابوالمحاسن : المنهل الصافى ج5/403.

[115]ـ السلوك ج4/2/1032

[116]ـ نفس المرجع ج4/2/1032.

[117]ـ التبر المسبوك 87.

[118]ـ المختا ر 35.

[119]ـ المدخل ج1/151، 160، 161.

[120]ـ تحفة الأحباب 35.

[121]ـ خطط المقريزى ج2/431 :432.

[122]ـ طيف الخيال لابن دانيال 161 تحقيق إبراهيم حمادة.

[123]ـ خطط المقريزى ج1/198

[124]ـ البحر المورود 104 :105 .

[125]ـ لواقح الأنوار 134 :135.

[126]ـ البحر المورود 104 : 105.

[127]ـ المدخل ج1/152، 155، 158، 157، 135، ج2/11، 12، 104.

[128]ـ تاريخ ابن الداودار ج2/290.

[129]ـ تاريخ البقاعى مخطوط ورقة 59 ب.

[130]ـ خطط المقريزى ج1/198، 163، 164، 88، 98، 90.

[131]ـ خطط المقريزى ج1/198، 163، 164، 88، 98، 90.               

[132]ـ خطط المقريزى ج1/ 198، 163، 164، 88، 98، 90.

[133]ـ خطط المقريزى ج1/ 198ن 163، 164،88، 98، 90.

[134]ـ أحمد أمين قاموس العادات والتقاليد المصرية 88.

[135]ـ رسالة الصنعانى فى الأحاديث الموضوعة : مخطوط 122 مجاميع تيمور 427ب.

[136]ـ خطط المقريزى ج2/521.

[137]ـ النويرى . نهاية الارب ج28/39.

[138]ـ السلوك ج1/2/55.

[139]ـ لمحة عامة إلى مصر ج2/18، 19.

[140]ـ الأمثال الشعبية لتيمور 367.

[141]ـ خطط المقريزى جـ 2/520.

[142]ـ قاموس العادات 170.

[143]ـ خطط المقريزى جـ2/ 521.

[144]ـ الأبشيهى : المستظرف 35.

[145]ـ تاريخ ابن اياس جـ2/61 :62.

[146]ـ نزهة النفوس . مخطوط 162.

[147]ـ النجوم الزاهرة جـ16/332.

[148]ـ خطط المقريزى جـ2/520، 521.

[149]ـ شرح لامية العجم للصفدى جـ2/138.

[150]ـ خطط المقريزى جـ2/517، 518.

[151]ـ تعطير الأنفاس 77.

[152]ـ البدر الطالع جـ2/235.

[153]ـ تحفة الأحباب جـ4/206

[157]ـ. شرح لامية العجم: 358 : 359.

[158]ـ طيف الخيال : 173 تحقيق إبراهيم حمادة

[159]ـ. السيوطى : الفاشوش 471.

[160]ـ. الطبقات الكبرى للشعرانى جـ 2/135، 91 ط صبيح

[161]ـ الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2/ 135،  91 ط صبيح

[162]ـ. الاحياء جـ 2/46.

[163]ـ المدخل جـ 2/ 37.

[164]ـ إغاثة اللهفان جـ 2/144

[165]ـ ـطيف الخياال 163

[166]. التبر المسبوك 12.

[167]ـ تاريخ ابن اياس جـ1/2/242.

[168]ـ السلوك جـ 4/2/790.

[169]ـ. خطط المقريزى جـ 2/ 524: 527

[170]ـ.تاريخ ابن اياس جـ2/347،373،374،394.

[171]ـ تاريخ ابن اياس جـ2/394، 374، 373، 347.

[172]ـ تاريخ ابن اياس جـ2/394، 374ـ 373ـ 347.

[173]ـ خطط المقريزى جـ2/514 : 516، 581.

[174]ـ خطط المقريزى جـ 2/ 514: 516، 581.

[175]ـ تاريخ ابن اياس جـ 2/ 264، 265، 416

[176]ـ.تاريخ ابن اياس جـ 4/156، 234، 274، 333، 334.

[177]ـ تاريخ ان اياس ـجـ ـ4/ 156، 234، 274، 333، 334. 

[178]ـ تاريخ ابن اياس  جـ4 /156، 234، 274، 333، 334.

[179]ـ خطط المقريزى جـ3/230، 430، 224 :251، 423: 434، 516.

[180]ـ خطط المقريزى جـ3/230ـ 430، 224: 251، 423: 434، 516.

[181]ـ تاريخ ابن اياس جـ4/97.

[182]ـ السلوك جـ2/835

[183]ـ. لطائف المنن 192، 315 ط قديمة

[184]ـ الصفدى . فوات الوفيات جـ 1/285، 296.

[185]ـ الكواكب السيارة 152.

[186]ـ الضوء اللامع جـ1/85 : 86 .

[187]ـ الطبقات الكبرى جـ2/77 : 80.

[188]ـ الطبقات الكبرى للشعرانى جـ1/137، قواعد الصوفية جـ1/146، 147.

[189]ـ قواعد الصوفية جـ1/75.

[190]ـ قواعد الصوفيةجـ1/75.

[191]ـ الطبقات الكبرى جـ2/91

[192]ـ الطبقات الكبرى جـ2/110

[193]ـ.لطائف المنن 427، 415، 416 ط قديمة.

[194]ـ لطائف المنن 427، 415، 416 ط قديمة.

[195]ـ لواقح الأنوار 259.

[196]ـ. الطبقات الكبرى جـ2/140

[197]ـ. الجواهر السنية . عبدالصمد الأحمدى 224.

[198]ـ السبكى . طبقات الشافعية جـ5/63.

[199]ـ وثيقة وقف السلطان حسن : الأوقاف 881 نقلا عن محمد أمين الأوقاف

[200]ـ الطبقات الكبرى جـ1/161

[201]ـ المدخل جـ1/151، 160، 161.

[202]ـ. رحلة ابن بطوطة جـ1/21.

[203]ـ قاموس العادات والتقاليد 322.

[204]. الخطط جـ3/406

[205]ـ النجوم الزاهرة جـ16/132

[206]ـ. السلوك جـ4/1223  / ، جـ 4/1/511

[207]ـ.إنباء الغمر جـ3/202

[208]ـ السلوك جـ 4/1/320، 324.

[209]ـ السلوك جـ 4/1/320، 324

[210]ـ إنباء الغمر جـ1/74.

[211]ـ حوادث الدهور جـ2/193.

[212]ـ السلوك جـ 4 /2/ 610

[213]ـ حوادث الدهور جـ 2/217.

[214]ـ الطبقات الكبرى جـ2/97

[217]ـ. التبر المسبوك 176.

[218]ـ أبوالمحاسن : المنهل الصافى . مخطوط جـ2/736  ،737

[219]ـ. تاريخ ابن اياس ج2/258

[220]ـ. التبر المسبوك177

[221]ـ. المنهل الصافى مخطوط ج1/556

[222]ـ. تاريخ ابن الفرات ج9/1/27، 42 : 43

[223]ـ. السلوك ج3/2/576

[224]ـ. المنهل الصافى ج1/556: 557

[225]ـ. إنباء الغمر جـ1/351 :357.

[226]ـ. نزهة النفوس جـ1/169

[227]ـ تاريخ ابن اياس جـ 4/114، 132، 152، 214، 375

[228]ـ لطائف المنن 334 ط قديمة

[229]ـ. تاريخ الجبرتى جـ 2/142.

[230]ـ قاموس العادات والتقاليد 48، 360.

[231]ـ. السلوك ج4/2/614 ، 800، 1026، 1027

[232]ـ السلوك ج4/2/614 ، 800، 1026، 1027

[233]ـ. ـ تاريخ ابن اياس ج1/2/67

[234]ـ. نزهة النفوس 832 مخطوط

[235]ـ النجوم الزاهرة ج15/90

[236]ـ..تاريخ ابن اياس ج2/339، 340، 428، 447.

[237]ـ تاريخ ابن اياس ج4/62

[238]ـ السلوك ج3/2/935.

[239]ـ الخطط ج1/125:126

[240]ـ.تاريخ ابن اياس ج1/2/363: 364،  365.

[241]ـ إنباء الهصر 203. .

[242]ـ تاريخ ابن اياس ج4/277 .

[243]ـ نفس المرجع ج1/2/501: 502 .

[244]ـ التبر المسبوك 95، 96، 302 .

[245]ـ التبر المسبوك 95، 96، 302.

[246]ـ حوادث الدهور ج2/288 .

[247]ـ إنباء الهصر 271.

[248]ـ تاريخ البقاعى85. محطوط.

[249]ـ إنباء الهصر319

[250]ـ تاريخ البقاعى7

[251]ـ السلوك ج4/2/1032، النجوم الزاهرة ج15/93

[252]ـ تاريخ ابن اياس ج1/2/410، 411

[253]ـ السلوك ج3/3/1021، ج4/1/357: 358

[254]ـ السلوك ج3/3/1021، ج4/1/357: 358

[255]ـ إنباء الغمر ج3/93.

[256]ـ السلوك ج4/1/486، إنباء الغمر ج3/192

[257]ـ إنباء الغمر ج3/399

[258]ـتاريخ ابن اياس ج2/119، 122، 125.

[259]ــ إنباء الغمر ج3/437، 439.

[263]ـ إنباء الهصر 205.

[264]ـ تاريخ البقاعى 141ب. محطوط.

[265]ـ تاريخ ابن اياس ج4/76: 77، 161، 231، 303: 304.

[266]ـ تاريخ ابن اياس جـ4/76: 77، 161، 231، 303: 304

[267]ـ تاريخ ابن اياس جـ4/76: 77، 161، 231، 303: 304

[270]ـ نزهة النفوس جـ2/95 السلوك ح3/3/1030.

[271]ـ السلوك جـ2/1/29.

[272]ـ خطط المقريزى جـ3/406.

[273]ـ السلوك 2/1/53:55.

[274]ـ السلوك ج1/2/597 .

[275]ـ السبكى . معيد النعم 60، 61 .

[276]ـ خطط المقريزى ج2/463.

[277]ـ مناقب الحنفى 159، 160، 161.

كتاب ( التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية
يقع فى ثلاثة أجزاء تتناول بعد التمهيد أثر التصوف فى العقائد الدينية والعبادات الدينية والحياة الأخلاقية فى مصر العصر المملوكى . تعطى مقدمة الكتاب لمحة عن أصل هذا الكتاب ، وأنه كان ضمن الأجزاء المحذوفة من رسالة الدكتوراة التى قدمها المؤلف للمناقشة حين كان مدرسا مساعدا فى قسم التاريخ الاسلامى بجامعة الأزهر عام ذ977 ، ورفضوها وبعد إضطهاد دام ثلاث سنوات تم الاتفاق على حذف ثلثى الرسالة ، ونوقش ثلثها فقط ، وحصل به الباحث على درجة الدكتوراة بمرتبة الشرق الأولى فى اكتوبر 1980 . من الأجزاء المحذوفة من الرسالة ينشر المؤلف هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة ، يوضخ فيه أثر التصوف فى مصر المملوكية ويعرض فيه عقائد التصوف
more