رقم ( 11 )
ج 1 ب2 ف 2 الفصل الثانى : التزكية بين الاسلام والتصوف خرافات التزكية فى الأديان المحمدية

 الفصل الثانى :  التزكية بين الاسلام والتصوف

خرافات التزكية فى الأديان المحمدية 

  ملاحظة  :

1 ــ تم توسيع مبحث التزكية ليكون فصلا مستقلا ، وذلك لمواجهة التوسع الإجرامى فى إستخدام الاسلام العظيم فى الطموحات السياسية والاقتصادية ، بدخول الوهابية السنية والشيعة وتنافسهم مع الصوفية فى هذا الحضيض .!!

2 ـ ولا مجال فى هذا الفصل لعقد مقارنات بين التزكية فى الدين الصوفى وفى الدين الشيعى أو السنى ، ولكن التركيز هنا على التزكية فى الاسلام ، ومن ثمّ تناقضها مع التزكية لدى الصوفية . وما يقال هنا ردا على التصوف فى توضيح التزكية الاسلامية يعتبر أيضا ردا على السنيين والشيعة فى تزكية أنفسهم وأئمتهم .

أولا :

1 ــ التزكية فى الأديان الأرضية هى مدح النفس أو الغير ، وحين تسود ينتج عنها الرياء الدينى والتدين السطحى والاحتراف الدينى . وهذا الاحتراف الدينى يتم إستغلاله سياسيا من قٍبل الحاكم المستبد ، فى إستخدام ( رجال الدين ) فى قهر الشعب ، يركب رجال الدين الذين يركبون الشعب . وحين يضعف الحالم المستبد يطمح بعض المشتغلين بهذا الدين الأرضى بزعم التميز عن الغير والاستعلاء عليهم  وأنهم وحدهم المُختارون من لدن الله جل وعلا  متحدثين باسم دينه ، وانهم وحدهم المُخوّلون  باسم الله جل وعلا بالحُكم على الناس والتحكم فى الناس  . وهذا هو السائد فى بلاد المسلمين ( المحمديين ) . تخلصت منها اوربا فحصرت دينها الأرضى فى الكنيسة ، ولكن لا يزال المحمديون  أسرى لأديانهم الأرضية من السّنة والتشيع والتصوف، ولا تزال تزكية النفس والغير أهم ملامح دينهم الأرضى .  

2 ــ أما التزكية فى الدين الالهى فلا مجال فيها للرياء والاحتراف وإبتغاء رضى الناس ، بل تقوم على خشية الله جل وعلا بالغيب ، أى فى الخلوة بعيدا عن الناس ، أو بالتعبير القرآنى:( إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) الملك )( الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنْ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)) الأنبياء ). هذا المتقى الذى يقوم بتزكية نفسه بنفسه ومحاسبتها قبل يوم الحساب يؤمن أن الله جل وعلا الشهيد على كل شىء ، وأنه جل وعلا يرى كل شىء ، ليس ممّن  قال فيهم جل وعلا ( أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) العلق )( يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108)النساء ) . تتأسّس تزكية النفس خلال حياتها فى هذه الدنيا فى بإستمرار التمسك بالايمان الخالص بالله جل وعلا لا إله غيره وعمل الصالحات وإجتناب السيئات .هى التقوى التى يتمسك بها المؤمن الى لحظة الوفاة ، فتأتيه الملائكة الموت تبشره بنجاحه فى تزكية نفسه وأنه أصبح من أولياء الله جل وعلا الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنزن ، وأن مثواه الخلود فى الجنة .

 3 ــ  وقد انتهينا إلى أنه لا يوجد في الحياة العملية  ولي لله تعالى كشخص معروف ، وإنما الولي أو الولاية مجموعة صفات عامة تزيد وتنقص ، وطالما كان الإنسان حياً فلا يُقطع بحكم دائم على إنسان ما بالولاية ، لأن الحكم لله وحده الذي يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور ، وهو أعلم بنا من أنفسنا جلا وعلا. 

وإذا كانت مزاعم الصوفية بالولاية منكورة مرفوضة من القرآن ، فلقد  ذكر القرآن الكريم نوعاً آخر من الأولياء ، مختلفاً عن النوع الأول تمام الاختلاف – وذلك هو ولي الشرك المعبود من دون الله أو المعبود مع الله . ولى الشرك هذا يتفق مع مزاعم الصوفية والسنيين والشيعة فى تزكية أوليائهم وأئمتهم ، ويحقق إعجازا للقرآن الكريم الذى أوضح معالم الشرك فى كل زمان ومكان قبل وبعد نزول القرآن ، ثم جاء السنيون والشيعة والصوفية بعد نزول القرآن بثلاثة قرون يكررون نفس الملامح  فى تقديس الولى التى أنبأ بها رب العزة من قبل ,.  

ثانيا : ردّ السنيين على تزكية الصوفية لأوليائهم

1 ـ والغريب أن يُنكر السنيون على الصوفية تزكية أوليائهم ، مع إن السنيين يفعلون نفس الشىء فى تزكية أئمتهم .   وقد صاغ السنيون هذا الانكار في صيغة أحاديث صنعوها، تحتجُّ بطريق غير مباشر على الصوفية فى تزكية أنفسهم . منها :  أنه عليه الصلاة والسلام قال لمن مدح رجلاً أمامه ( ويحك قطعت عنق صاحبك لو سمعها ما أفلح ، ثم قال : إن كان أحدكم لابد مادحاً فليقل أحسب فلاناً ولا أزكي على الله أحداً ، حسيبه الله إن كان يرى أنه كذلك ..) وفي حديث آخر يقال ( أنه عليه السلام سمع قائلة تقول لطفل مات ( هنيئاً لك عصفور من عصافير الجنة)  فغضب وقال : وما يدريك أنه كذلك . والله إني رسول الله وما أدري ما يصنع بي ، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً لها لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم ) وعندما مات عثمان بن مظعون قالت أم سلمة : هنيئاً لك الجنة ، يقال ( فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال ( وما يدريك أنه كذلك ) فكانت أم سلمة تقول بعد ذلك والله لا أزكي أحداً بعد عثمان . وفي حديث آخر عن رجل من أهل الصفة استشهد فقالت أمه ( هنيئاً لك عصفور من عصافير الجنة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلت في سبيل الله ) وينسبون للنبي عليه السلام أنه قال لها ( وما يدريك . لعله كان يتكلم بما لا ينفعه ويمنع ما لا يضره ..). وأن النبى عليه السلام دخل على بعض أصحابه وهو عليل فسمع امرأة تقول ( هنيئاً لك الجنة ) وينسبون للنبي قوله ( من هذه المتألية على الله تعالى ) ؟؟ فقال المريض : هي أمي يا رسول الله وزعموا أن النبي قال ( وما يدريك لعل فلاناً كان يتكلم بما لا يعنيه ويبخل مما لا يغنيه ..).

2 ــ ولم يكتف السنيون بذلك بل صنعوا أقوالا نسبوها لكبار الصحابة ، منها هذا القوال المنسوب لأبى بكر و على ابن ابى طالب ، قالوا إن أبا بكر وعلا كانا إذا مدحهما شخص قالا ( اللهم أغفر لي ما لا يعلمون ، ولا تؤاخذني بما يقولون ، واجعلني خيراً مما يظنون ) ، وقالوا إن عمر قال لمن اثني عليه ( أتهلكني وتهلك نفسك ) ، وأنه كان يقول ( لو نادى مناد ليدخل الجنة كل الناس إلا رجلاً  واحداً ، لخفت أن أكون ذلك الرجل ) ، ونفس المعنى نسبوه لأبى بكر، قال : ( لو كانت إحدى قدمي في الجنة لم آمن مكر الله تعالى ) وأن  ابن مسعود كان إذا خرج من منزله يتبعه الناس فيلتفت إليهم قائلا ( علام تتبعوني ؟ فو الله لو تعلمون ما أغلق عليه بابي ما تبعني منكم رجلان ) .  ويدخل فى ذلك قول منسوب لمحمد بن على بن أبى طالب ( ابن الحنفية ) يقول : ( والله لا أزكي أحداً غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبي الذي ولدني. )

3 ــ وهذه الأقوال المنسوبة للنبي وغيره عن طريق السنيين حملت إحتجاجا على الصوفية فى تزكية أنفسهم ، وفيها النهي عن تزكية الناس للمتوفى مهما بلغت مكانته.

 ثالثا : ونلاحظ الآتى على الرد السُّنّى :

1 : التشابه بينها لأن صانعيها أرادوا تأكيد إحتجاجاتهم على خصومهم الصوفية عبر تكرار الروايات .

  2 ــ  والقارىء لهذه الروايات فى عصر تسيد التصوف لا بد أن يقارن بين تقديس الأولياء الصوفية فى عصره وتلك الأقاويل السابقة المصنوعة والمنسوبة للنبى وكبار الصحابة . وهذه براعة لصانعى هذه الأحاديث لا شك فيها .

  3 ـ ولكنّ الاكتفاء السنى بصناعة تلك الأحاديث ردا على الصوفية تحمل ملمحا سلبيا للسنيين الذين إتخذوا القرآن مهجورا . إذ كان يكفيهم الرد على الصوفية من خلال القرآن الكريم ، لو كان القرآن حاضرا فى قلوبهم .

  4 : التجاهل السنى للقرآن فى الرد على الصوفية أوقع السنيين فى خطأ أعظم. ففى القرآن الكريم رد على كل من يزكى نفسه بالتقوى ، وفيه الرد على المشركين الذين يتخذون البشر أولياء من دون الله جل وعلا ، وهو جل وعلا وحده الولى الحميد ، وليس للناس غيره من ولى ولا شفيع . لم يلتفت السنيون الى كثرة الآيات القرآنية التى خكمت بكفر من يؤمن بالأولياء مخالفا للأمر الالهى بإخلاص الدين لله جل وعلا وحده لا شريك له .

  5 ـــ مع تجاهل السنيين للقرآن فقد قصروا فى ردهم المصنوع بالأحاديث على ناحية واحدة ، وهى تزكية النفس بالتقوى ودخول الجنة . وتجاهل السنيون أن الصوفية لم يزكوا أنفسهم بالتقوى البشرية ودخول الجنة مثل الكذابين من البشر، ولكن زكوا أنفسهم بالصفات الالهية التى ترفعهم فوق مستوى البشر. زكّوا أنفسهم بمزاعم الاتحاد بالله جل وعلا وحلول الاله فيهم وجلوسهم فى حضرته وإستمدادهم العلم اللدنى منه جل وعلا مباشرة ، و الوحى المباشرة من الله بالهاتف ورؤية الله جل وعلا مناما وفى اليقظة ، بل وتحكمهم فى يوم الدين ، وترفعهم عن الجنة والنار أو ترفعهم عن تأدية العبادات الاسلامية من صلاة وصيام وحج ، لأنهم بزعمهم يريدون الاستغراق فى الاتحاد بالله والفناء فيه ، وأن الاسلام هو دين العوام وليس دين ( الخواص ) ،أى رفعوا أنفسهم فوق الأنبياء والى مستوى الألوهية .  الرد علي كل هذا ميسور من القرآن الكريم ، ولكن لم يقم به السنيون لأنهم ــ أى السنيين ــ لم يكتفوا بهجر القرآن والتكذيب به ، وإنما آمنوا بحديث آخر معه ، وهذا خلافا لقوله جل وعلا ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) المرسلات ) (أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) الأعراف ) (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) الجاثية ). كانوا يصنعون تلك الأحاديث فى إطار صناعة دينهم السّنى الأرضى ، وجاء الصوفية على آثارهم يهرعون ، يصيغون أحاديث يؤسسون بها دينهم الأرضى الصوفى، وكتب الأحاديث المشهورة إمتلأت بتلك الأحاديث ( الصوفية ). ولقد صنع البخارى ت 256 الحديث ( القدسى ) الفاجر ( من عادى لو وليا آذنته بالحرب ) والذى يجعل فيه الولى الصوفى جزءا من الله جل وعلا . ( كنت يده .. كنت رجله ..الخ ) .  

6 ــ على أن بعض الصوفية قام بصناعة أحاديث تعزز التصوف وعقائده مثل ( عبدى أطعنى تكن عبدا ربانيا تقول للشىء كُن فيكون ) ( أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر) ( كنت نبيا وآدم بين الماء والطين وكنت نبيا وآدم لا ماء ولا طين ) ( رب أشعث أغبر لو أقسم على لأبرّه ) وغيرها كثير ، ولم يحتج عليها فقهاء الحنابلة الذين كتبوا مؤلفات فى الأحاديث الموضوعة ، مثل ابن الجوزى فى ( الموضوعات ) وابن تيمية فى ( أحاديث القُصّاص ) وابن القيم الجوزية فى ( المنار المنيف فى الصحيح والضعيف ) . ومن دراسة لنا فى هذه المؤلفات إتّضح أن أولئك الفقهاء الحنابلة لم يتعرضوا بالنقد للأحاديث ( الصوفية ) التى صنعها الصوفية من قبل فى القرن الثالث الهجرى مع بداية التصوف ، وتم تدوينها فيما عرف بكتب الصحاح .بل لم يتعرضوا للأحاديث التى ملأ الغزالى بها كتبه ، وأشهرها ( الإحياء )  . اهتموا فقط بالأحاديث الموضوعة فى عصرهم .

7 ــ : تجاهل السنيين للقرآن الكريم فى الرد على الصوفية ومزاعمهم بتقديس الولى الصوفى يرجع أيضا لأنهم آمنوا بالتصوف السّنى ، وقبلها آمنوا بتقديس الولى الصوفى وكراماته ، وتردد هذا فى كتابات ابن تيمية وابن القيم والبقاعى ثم ابن عبد الوهاب .  

8 ـ الأهم مما سبق أن السنيين والشيعة سبقوا الصوفية فى تزكية أئمتهم . وهذا يحتاج لبعض التوضيح .

  تأليف خرافات التزكية فى كتب المناقب الشيعية والسنيةوالصوفية

أولا : مقدمة عن المناقب لدى طوائف المحمديين

1 ــ إزدحمت كتب المناقب بتزكية الأولياء والأئمة وصنعوا الروايات فى  كراماتهم وأساطيرهم وتقديس الناس لهم وما يعتقدونه في جدوى التوسل بهم وبقبورهم.  الواقع أن السنيين والشيعة شاركوا الصوفية فى تقديس البشر والحجر. وتقديس البشر يبدأ بتزكيتهم ليس فقط بالتقوى البشرية ولكن بالصفات الالهية بالخوارق وغلم الغيب والعصمة . وهناك نوع من الكتابات تخصصت فى ( المناقب ) هى أصدق ما يعبّر عن وقوع ( المحمديين ) فى تقديس البشر ، وتزكية من يؤلفون فى مناقبه بصفات تعلو به فوق مستوى البشر .

2 ــ جميعهم يشتركون فى تأليف كتب فى ( مناقب ) النبى محمد ، ويصيغون مدائح فى مناقبه وتأليهه ، وكلهم يؤلفون مناقب فى مناقب كبار الصحابة ، فالسنيون يؤلفون فى مناقب الخلفاء الأربعة ( الراشدين ) . والشيعة يؤلفون فى مناقب ( على ) و من أسموه ( سيد الشهداء ) وآل البيت ، والصوفية يؤلفون فى جميع أولئك . ثم يتخصص الشيعة فى تأليف مناقب لأئمتهم ، ويؤلف السنيون فى مناقب أئمة المذاهب الأربعة ، ويؤلف الصوفية فى مناقب أوليائهم . وقد سبق السنيون فى هذا الإفك ، فبدءوا بكتابة ما أسموه بفضائل الصحابة كما فعل مسلم القشيرى فى ( صحيح مسلم ) ، وإتفق من أسموهم بعلماء الحديث على تزكية كل الصحابة بالعدالة ، أى العصمة من الخطأ ، أى تأليههم لأن الذى لا يخطىء قط وأبدا هو الله جل وعلا . وتزكية كل الصحابة بالعدالة فى موضوع رواية الحديث ليس فقط تأليها لهم ورفعا لهم فوق مستوى الأنبياء الذين هم بشر يخطئون ويتعرضون لتأنيب رب العزة ، بل هو أيضا كفر بالقرآن الكريم الذى حفلت عشرات الآيات فيه عن المنافقين وهم صحابة عايشوا البنى عليه السلام ، وحكم رب العزة بكفرهم وأنهم فى الدرك الأسفل من النار إن ماتوا على نفاقهم : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) النساء )

3 ــ  وكتابة المناقب ليست كتابات تاريخية بالمفهوم العلمى ، إذ تمتلىء بالخرافات التى تم إفتراؤها بعد موت الشخصية التاريخية ( صاحب المناقب ) بقرن وأكثر ، والتى تزداد خرافاتها بمرور القرون ، والتى لم يذكرها المؤرخون المعاصرون لهذه الشخصيات التاريخية ، أى إنهم يصنعون بهذه المناقب شخصية خرافية لا علم لصاحب الشخصية نفسه بها ولا شأن له بها. والدليل حين تقارن ما كتبه المؤرخ ابن سعد ( 168 : 230 ) فى ( الطبقات الكبرى ) عن ابن حنبل (  164 : 241 )، وهو مجرد سطور ، وقد كان ابن سعد رفيقا لابن حنبل فى محنة خلق القرآن ، وكتاب الطبقات الكبرى لابن سعد من أقدم الكتب التاريخية . ولكن المؤرخ ابن الجوزى( ت 597 ) يكتب مجلدا ضخما فى مناقب ابن حنبل ملىء بالخرافات التى تؤله ابن حنبل بعد وفاته بثلاثة قرون . هذه الأساطير وروايات التمجيد والتقديس والتأليه تخالف الواقع التاريخى ( والبشرى ) ولكنها فى نهاية الأمر تعكس بصدق عقائد مؤلفيها فى تقديس هذه الشخصيات التاريخية ، وكيف إنزلق بهم تقديس البشر وتزكيتهم الى الوقوع فى حضيض الكفر ، مع زعمهم الايمان بالاسلام .

4 ـ فى مناقب الأئمة الشيعة : كتب أبوجعفر بن رستم الآملى ( نوادر المعجزات فى مناقب الأئمة الهداة )، وكتب على بن عيسى الأبلى ت 692 : ( كشف الغمة فى معرفة الأئمة : المعصومين الأربعة عشر ) ، وكتب الموفق بن احمد الخوارزمى الشيعى ( 448 : 568 ) ( المناقب ) وكتب جمال الدين الشامى ت 667 ( الدر النظيم فى مناقب الأئمة اللهاميم ) ، وكتب عماد الدين الطبرى ت 701 ( تحفة الأبرار فى مناقب الأئمة الأطهار ) ..مجرد أمثلة . ويلاحظ على كتب المناقب الشيعية أن أغلبها لا يؤلف فى إمام وحده كما يفعل السنيون والصوفية ، كما أن نبرة التأليه للأئمة عالية وواضحة وزاعقة كما يفعل الصوفية فى مناقب أوليائهم ، وليست مستترة كما فى المناقب السُّنية .

5 ــ والمناقب السنية هى الأكثر عددا من الصوفية والشيعية .  ونعطى لها أمثلة  فى تقديس أئمة المذاهب :

فى مناقب أبى حنيفة : كتب الامام شمس الدين الذهبى ( مناقب أبى حنيفة ) وكتب ابن حجر الهيثمى ( الخيرات الحسان فى مناقب الامام الاعظم ابى حنيفة النعمان ) وكتب السيوطى ( تبييض الصحيفة فى مناقب ابى حنيفة ) وكتب الصالحى ( عقد الجمان فى مناقب الامام الأعظم ابى حنيفة النعمان ) وكتب ابو المؤيد الهندى المكى ( مناقب الامام الأعظم ابى حنيفة ) وكتب الغنيمى الخزرجى الانصارى ( الشذرة اللطيفة فى شرح جملة من مناقب الامام ابى حنيفة ) وكتب شرف الدين القرشى الحنفى ( الروضة العلية المنيفة فى فضائل ابى حنيفة ) وكتب عبد الله بن سعد بن عبد الكافى المصرى ( الحر النفيس فى مناقب ابى حنيفة ) وكتب محمد بن محمد الكردى ( مناقب الامام ابى حنيفة ) وكتب المُلّا على القارى ( مناقب الامام الأعظم ) . مجرد أمثلة .!

وفى مناقب مالك :  كتب السيوطى ( تزيين الممالك بمناقب الامام مالك ). وكتب عيسى الزواوى ( مناقب الامام مالك ) وكتب عبد البارى بن عوض الثُبيتى ( مناقب الامام مالك ) وكتب عشيرة آل عجى ( مناقب الامام مالك ) وكتب شرف الدين الحميرى : ( مناقب الامام مالك ). مجرد أمثلة .!

وكتب أئمة كبار فى مناقب الشافعى كابن كثير وابن حجر العسقلانى والبيهقى وابن ابى حاتم الرازى والجعبرى و الجوهرى و والابرى والسجستانى والنسولى وابن الصلاح وابن الجوزى ..مجرد أمثلة .

أما فى مناقب ابن حنبل فيكفى ( كٌفرا ) ما كتبه ابن الجوزى فى ( مناقب ابن حنبل ) والذى يزعم فيه ان الله جل وعلا كان ينزل الى مقبرة احمد بن حنبل يزوره ..!

 ثانيا : بداية الكتابة فى المناقب قبل العصر المملوكى  

1 ـ كتب المناقب فرع مجهول من مصادر التاريخ للمسلمين ، ولابد أن يتأثر ذلك الفرع مما تأثر به علم التاريخ . وقد نشأ علم التاريخ بالسيرة النبوية أو ما يعرف بالمغازى ثم انفصلت السيرة وبدأ علم التاريخ للخلفاء الراشدين وغير الراشدين والدول الإسلامية والأمم السابقة .ومع ذلك الانفصال فقد ظل علم التاريخ محافظا على منهج الحديث والسيرة مثل طريقة العنعنة وسرد الروايات بالسند وفحصها أحيانا ، وساعد على زيادة الارتباط بين علمي الحديث والتاريخ أن الحضارة العربية وقتها لم تعرف التخصص ، وكان أكثرية المؤرخين من علماء الحديث والتفسير مثل الطبري وإبن الأثير وإبن كثير . أى كان علم الحديث مؤثرا في علم التاريخ ، وابرز مظاهر التأثير تتجلى في طريقة المحدثين في الإسناد وفحص الرواة ، أو الحكم على الرواة طبقا لمصطلح الحديث ، أو علم الجرح والتعديل فذلك الراوي متهم أو هو صدوق ثقة ...وهكذا . وترتب على ذلك أن كتب علماء الحديث في تاريخ الرواة كتابة تاريخية كما فعل البخاري (ت256) في كتابه (التاريخ الكبير ) وهو مصنف جمع فيه تراجم لنحو أربعين ألف رجل وامرأه من رواة الحديث مرتبة على حروف المعجم وتبدأ بمن اسمه محمد ، وله ( التاريخ الأوسط) وهو مرتب على أساس السنوات ، وله أيضا ( التاريخ الصغير) و( والتاريخ في معرفة رواة الحديث).

2 ـ ولكن ما صلة ذلك بكتابة المناقب ؟  إن بحث حال الراوي من الصدق أو الكذب معناه وصف حاله بالصلاح أو بالفسق ، أي أنه بحث عن مناقبه الحسنة أو السيئة فأن كان صالحا فهو صدوق ثقة ، وان لم يكن فهو مجروح مطعون فيه ومن هنا كانت الصلة بين علم الجرح والتعديل وكتابات المناقب ، وإن كانت كتابات المناقب قد اتجهت نحو كفة واحدة في الميزان ،وهى ترديد المناقب الفاضلة لأشياخ الصوفية واثبات عصمتهم وتفردهم بالولاية ، بينما سار علم الجرح والتعديل كما يدل عليه اسمه على ذكر المحاسن والمساوئ وتجريح الرواة أو تعديلهم وتوثيقهم .  

3 ـ  وقبيل بروز كتب المناقب الصوفية برز نوع من كتابات المناقب ( المقارنة ) ينحو نحو علم الجرح والتعديل في ذكر المساويء والمزايا . وتلك النوعية من كتب المناقب التي تذكر المساوىء والمزايا تبدو واضحة في رسائل الجاحظ (ت255) الصغيرة . وقد كان الجاحظ معاصرا للبخاري ، وللجاحظ رسائل تحمل سمات التفاضل والموازنات بين مناقب الأسرات والطوائف والأمم مثل رسائله في بنى أمية ، والعباسيين ، وتفضيل بنى هاشم ومناقب الترك وجنود الخلافة وفضل السود ومفاخر الجواري وفى مدح الحجاب وذمه وفى مدح التجارة وذم عمل السلطان وفى العرب والعجم والعرب والموالى.الخ . وإستعرض الجاحظ فيها علمه الموسوعي ودرايته بالجدل والمناظرات وتفنن في عقد المقارنات وفى ذم الشيء ثم مدحه، الأمر الذى باعد بينه وبين كتابات المناقب الصوفية ذات الاتجاه الواحد فى التزكية الى درجة التأليه .

4 ـ وربما وضحت كتابة علم المناقب أكثر لدى سعد بن عبد الله الأشعري ت299 وهو شيعي له مشاركة في علم التاريخ وعلم الرواية والمصطلح ، وقد مزج بينهما في كتابيه (كتاب مناقب رواة الحديث )(كتاب مثالب رواة الحديث).

5 ــ ثم أنتهي الارتباط بين المناقب والموازنات والمفاضلات في القرن الرابع الهجري حيث صار لوصف الإنسان بالصلاح والتقوى هيبته ومكانته . في هذا العصر استغرق الحكام في المجون والترف والتصارع والتنافس والفساد وتحكم الغلمان في بنى العباس ، مما أدى إلى اكتساب مفهوم (الصلاح ) عند الناس معنى جديدا هو الزهد في الدنيا التي تكالب عليها الظلمة . لذا ارتبط مفهوم (الصلاح )عند الناس بالزهاد الذين صاروا ملوك الآخرة في مقابل الحكام ملوك الدنيا .  وأوسعت المصادر التاريخية مكانا لأولئك الزهاد وترجمت لهم كالحكام والقادة ، وكتاب المنتظم لابن الجوزي أبرز مثل لذلك في الحوليات التاريخية . وبالتالي فإن مُحبّي الزهد ما لبثوا أن وضعوا كتبا خاصة في مناقب الزهاد والنساك كما فعل أبن سهل البلخى ت332 في كتابه (العتاك والنساك) وابن الأعرابي العنزي ت341 في كتاب ( طبقات النساك) والمرزبانى ت378 في (الزهد والزهاد ).

6 ــ على أن هناك اختلافا بين الزهد والتصوف عرضنا له من قبل . وذلك الاختلاف بين التصوف والزهد انعكس على طبيعة المؤلفات في مناقب الزهاد ومناقب الصوفية؛ فالكاتب لمناقب الزهاد يركز على المناقب الخاصة بالعبادات و التقلل من الدنيا والبكاء والحزن والصبر على الجوع ، مع قليل من الكرامات الساذجة والمنامات التي تبشر بالجنة ، كما فعل ابن الجوزى فى تاريخه ( المنتظم ) حين ترجم للبكائين . أما كاتب المناقب الصوفية فهو يرتفع بصاحب المناقب إلى درجة الألوهية من تقديس له وتصريف في الدنيا والآخرة وقدرة على النفع للمعتقدين . مع تخصص المناقب الصوفية بالذات فى الدفاع عن الولي الصوفي وتهديد المعترضين وتبرير شطحاته وكلماته .

6 ــ وقد شهد القرن الرابع الهجري البداية الحقيقية لكتابة المناقب لأولياء التصوف ، وأقدم من كتب في المناقب الصوفية كان النسوى المتوفى 396 في كتابه " طبقات الصوفية " ثم تتابعت الكتابة في مناقب الصوفية تحمل طابع الطبقات حينا وسمة الحكايات أحيانا ، وأهمهم في القرن الخامس : أبو عبد الرحمن السلمي ت 412 في (طبقات الصوفية ) وابن جهضم ت414 في (بهجة الأسرار ولواقح الأنوار في حكايات الصالحين والأخبار والصوفية الحكماء الأبرار ) وهو مخطوط . وبعضهم خلط في كتابة المناقب بين النساك والصوفية مثل أبى منصور العارف ت418 في كتابة ( طبقات النساك) وكان يهدف لان ينال الصوفية حظا من التكريم مثل الذي كان للزهاد. وبعضهم خلط في تراجمه بين الصحابة والزهاد والصوفية كما فعل أبو نعيم الأصفهاني ت 430 في كتابه المشهور (حلية الأولياء ).

7 ـ ثم شهد القرن الخامس الهجري ظهور الرسالة القشيرية لعبد الكريم بن هوزان القشيرى ت465 وكانت ولا تزال من أهم المصادر الصوفية في الجانب التاريخي والجانب العقيدى . وقد كتبها القشيرى يهاجم فيها صوفية عصره ويتهمهم بكل نقيصة ، ثم يؤرخ لأشياخ التصوف السابقين ويجعل منهم قدوة . والمتمعن في كتابه يرى بين السطور اتفاقا بين الصوفية اللاحقين والسابقين  فى الانحلال الأخلاقى وعقائد الاتحاد والحلول ووحدة الوجود ، مع أن القشيرى ينكر على هؤلاء ويمدح أولئك . ومع الجانب التاريخي فقد عرض القشيرى لعقائد التصوف ورسومه وتفصيلاته ، ومع اعتماد القشيرى على السلمي في كتابه " طبقات الصوفية " فقد أصبح القشيرى عمدة لدارسي التصوف وأربابه في القرون التالية .

8 ــ وانتهى القرن الخامس باشتهار أبى حامد  الغزالي( ت 505) الذي نجح في تقرير التصوف كمبدأ فانحصر الإنكار على أشخاص الصوفية دون مساس بالمبدأ ، وأصبحت سمة لازمة فيما بعد أن يهاجم محققو الصوفية الشيوخ الصوفية المعاصرين لهم ــ أو المنافسين لهم ــ وان يقدسوا السابقين منهم .. وأصبح من المتبع أن يهاجم الفقهاء متطرفي الصوفية وصرحاءهم وان يمتدحوا محققي الصوفية باعتبارهم معتدلين . وأثر ذلك على نوعية المناقب في القرن السادس الهجري . فابن الجوزي ت 597 يهاجم الصوفية في كتابه " تلبيس إبليس " ، ولكنه يلخص كتاب أبى نعيم الاصفهانى " حلية الأولياء " في "صفوة الصفوة" ، ثم يكتب ابن الجوزي في مناقب الزهاد ومناقب عمر ابن عبد العزيز ومناقب الحسن البصري ومناقب احمد بن حنبل ، أي انه تأثر بالصوفية في الربط بين الزهد والتصوف ، ثم انه سار على النسق المألوف في كتب المناقب الصوفية من ذكر الكرامات والمنامات والمبالغة في التزكية والمدح وفضائل التوسل بقبور الأولياء والأئمة والزهّاد الذين يكتب فى مناقبهم . وعلى نفس المنوال سار آخرون مثل الكعبى في القرن السادس ت552 في كتابيه "طبقات الأولياء " و " مناقب الأبرار" وهما مخطوطان وكتب مجد الدين ابن الأثير شقيق عز الدين المؤرخ المشهور  كتاب ( المختار في مناقب  الأخيار ) وهو محفوظ وتوفى مجد الدين في سنة 606.

   تطور خرافات كتب المناقب وإزدهارها في العصر المملوكي

أولا : التطور

1 ـ  العصر المملوكي هو عصر التصوف ، وهو أيضا عصر الازدهار لكتب المناقب الصوفية ، وهو عصر التوسع الأفقي والكمي في الناحية العلمية والتعليمية ، من الناحية العلمية هو العصر الذي أعاد تدوين الحضارة والمؤلفات بعد تدميرها في الزلزال التترى المغولي 656سنه هـ . وهو العصر الذي اقتصر على التدوين وعلى الشرح والتلخيص دون إضافة أو تعمق ، إذا هو ازدهار فى الكم دون النوع ، وكان من الممكن أن يقترن الازدهار الأفقي بالتعمق والابتكار لولا أن التصوف سيطر على هذا العصر وحارب الاجتهاد فيه تمسكا بمقولة أبى حامد الغزالي  " ليس في الإمكان أبدع مما كان". وقد فرض التصوف أن تزدهر  كتب المناقب الصوفية بديلا عن ازدهار الابتكار العلمي . وفى ذلك الدليل الكافي على أن العقل فى العصر المملوكي قد امتلأ بالخرافات بديلا عن التبحر في العلوم الحقيقية ، ليس علوم التفسير والحديث والفقه ، بل علوم الفلسفة والكيمياء والطب والرياضيات والجغرافيا ، وسائر العلوم التى إزدهرت فى العصر العباسى الأول ثم قضى عليها الحنابلة ، الذين حصروا العلم والعلماء فى الفقه والحديث وما يتصل بهما . ثم بالتصوف إختفى فى العصر المملوكى ذكر العلماء الحقيقيين مثل الفارابى وابن سينا والرازى وابن حيان والخوارزمى والبيرونى والزهراوى .وحل محلهم تمجيد علماء ( الهجص ) فى الفقه والتفسير والحديث ، كالبخارى وأمثاله  ومالك والشافعى وابن حنبل ..الخ ، وقد أصبحوا آلهة بالتزكية وكتب المناقب التى تم تأليفها فيهم . بينما لحق النسيان والتجاهل بالعلماء الحقيقيين  الذين قامت على أكتافهم النهضة الأوربية فيما بعد .  الحنابلة السنيون هبطوا بالعقلية الى الحضيض فى أواخر العصر العباسى ، ثم هبط الصوفية بنفس العقلية الى أسفل سافلين فى نهاية العصر المملوكى وإنمحت فى العصر العثمانى، الى أن صحا المحمديون على أوربا تغزو ديارهم .

2 ــ وكتب المناقب الصوفية هي المصدر الأساسي لمن يريد التعرف على واقع الدين العلمي الواقعى عند المسلمين في العصرين المملوكي والعثماني ، وهى مع أهميتها الشديدة في دراسة الأحوال الدينية والاجتماعية إلا أنها لم تحظ بالاهتمام الكافي لأن القارئ لها الآن يستشعر الفزع الشديد مما يملؤها من الخرافات والتأليه الواضح للأولياء الصوفية على نحو لا يستسيغه ذوق عصرنا ، وإن كانت معبرة عن العصور التي كتبت فيها بدليل أنها كانت السمة السائدة في تأليفات العصرين المملوكي والعثماني في التراجم والتأريخ للأشخاص المشهورين من الصوفية والفقهاء .

3 ـ وقد قلنا أنه حين بدأ التصوف في القرن الثالث الهجري كان الفقهاء يعقدون المحاكمات لرواد التصوف . وقاسى من هذه المحاكمات الحلاج وذو النون المصري و الجنيد وغيرهم ، ثم دارت الأيام وأصبحت للتصوف سطوة ، وقام فقهاء التصوف وأربابه باضطهاد الفقهاء الحنابلة ، وأوذي ابن تيمية في القرن الثامن كما أوذي ــ من قبل ــ  أعيان الصوفية في القرن الثالث . ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك الانقلاب على طبيعة المؤلفات في المناقب ، إذ ظهر نوع جديد من الصوفية احترف الفقه وتكلم بأسلوب الفقهاء ليدافع عن التصوف كالشعرانى  كما ظهر نوع آخر من الفقهاء خنع للتصوف واستكان لأشياخه كالسيوطى . وكلاهما شارك في كتابة المناقب ، ومن الطبيعي حينئذ أن تزدهر الكتابة في المناقب الصوفية في العصر المملوكي تبعا لكثرة الداخلين في تيار التصوف وتبعا لنوعياتهم وتسيد التصوف الذي أعلن عقائده بوضوح فيما عُرٍف بالشطح الصوفى ، فأتيح لكتاب المناقب أن يقولوا ما يشاءون فى تقديس أوليائهم .

ثانيا : التطور الكمي لكتب المناقب :

انتشر التصوف وأزداد أولياؤه فى العصر المملوكي ، ومن الطبيعي أن تتكاثر الكتب التي تتحدث عن مناقبهم ، ويمكن ان نصنفها كالآتي : ـ

1 ـ  مؤلفات كتبت فى مناقب مجموعة من الأولياء الصوفية مثل الطبقات الكبرى للشعراني ت (973) هـ  وهو مطبوع فى جزئين ، تحدث فى الجزء الأول عن مشاهير الصوفية قبل القرن السابع تقريبا ، وخصَّ الجزء الثاني عن صوفية العصر المملوكي. وختمه بترجمة الصوفية المعاصرين له فى القرن العاشر.وللشعراني أيضا (الطبقات الوسطى ) وهو مخطوط ، (والطبقات الصغرى ) وهو مطبوع . ومنها ما كتبه أيضا عبد الله بن أسعد اليافعي ت ( 768 ) فى كتابين فضل ( فضل مشايخ الصوفية ) ، ( روض الرياحين فى حكايات الصالحين ) وهما مطبوعان ، وكتب الشطنوفي ت 713 ( بهجة الأسرار فى مناقب السادة الأخيار ) وهو مخطوط فى جزئين ، وكتب أبن عطاء الله السكندري ( لطائف المنن ) فى مناقب الشاذلي وأبي عبد الله المرسى ، وهو منشور ومشهور. وعلى منواله كتب إبن محسن فى العصر العثماني ( تعطير الأنفاس بمناقب أبى الحسن وأبى العباس ) وهو مخطوط ، وكتب بن فارس ( المنح الإلهية فى مناقب السادة الوفائية ) الشاذلية ،وهو مخطوط . وفى العصر العثماني كتب أيضا عبد الرؤف المناوي على نسق الشعراني وطبقاته ( الطبقات الكبرى ) للمناوى ،الجزء الأول منه مطبوع والباقي لا يزال مخطوطا، وللمناوي أيضا (الطبقات الصغرى ) ولا يزال مخطوطا .وكتب البلقينى ( طبقات الشرنوبى ) فى مناقب الدسوقي والرفاعى والبدوي والجيلانى، وكتب البكري ( تراجم صوفية ) وكلاهما مخطوط ، ولأبن عياد الشاذلي مخطوط فى مناقب الشاذلي عنوانه ( المفاخر العلية ) وقد تمت طباعته .مع ملاحظة أن قولنا ( مخطوط ) هو فى وقت كتابة هذا البحث عن التصوف ، وربما تم طبع ونشر بعض تلك المخطوطات فيما بعد .

2 ـ مؤلفات فى مناقب ولى معين ، فابن إسحاق المالكي ت 767 كتب (مناقب المنوفي ) في القرن الثامن وكان المنوفي من أعيان الصوفية فى عصره وتمتاز ( مناقب المنوفي ) بالاعتدال وعدم المغالاة فى تقديس المنوفي. ولا يزال مخطوطا . وهناك (مناقب الفرغل ) وهو وليّ أمّي فى الصعيد ، ولا يزال الكتاب مخطوطا . وللشعراني كتاب ( الوصية المتبولية ) عن الشيخ المتبولي ، وكتب العيدروسى ( النجم الساعي فى مناقب القطب الرفاعى ) وهو مطبوع ومعتدل ويدور حول أحمد الرفاعى الولي الصوفي بالعراق . وأشتهر فى القرن التاسع الشيخ الصوفي شمس الدين الحنفي  ، وهناك ( مناقب الحنفي ) التي كتبها البتنوني فى أواخر القرن التاسع بعنوان ( السر الصفي فى مناقب الشيخ الحنفي )،ولا يزال الكتاب مخطوطا. ونقل الشعرانى ترجمة الحنفى فى ( الطبقات الكبرى ) من هذا الكتاب ( السر الصفى فى مناقب الحنفى ).  ومسجد الحنفى مشهور حتى الآن فى القاهرة .

3 ــ ويلاحظ أن العصر العثماني تابع ما كتب من مناقب في العصر المملوكي وزاد عليها بما يتناسب وشهرة أولئك الأولياء التي عمت العصر العثماني.  فالأولياء الصوفية المشهورون في العصر المملوكي ازداد تقديسهم بمرور الأيام حتى إذا جاء العصر العثماني أضيفت إلى مناقبهم مؤلفات أخرى . ثم أن الشعراني و السيوطي كان لهما اكبر الأثر في تشكيل العقلية في العصر العثماني، فكتب اللاحقون علي منوالهما ، وترتب على ذلك أن حيكت مناقب متعددة في ولى بمفردة إذا كان مشهورا ، مثل احمد البدوي الذي ترجم له الشعراني في (الطبقات الكبرى ) وترجم له السيوطي في (حسن المحاصرة ) ثم كتب فيه العصر العثماني مؤلفات عديدة منها (الجواهر السنية ) لعبد الصمد الأحمدي، وهو مطبوع ، ( النفحات الأحمدية) للخفاجى و(النصيحة العلوية ) للعلوي وهما مخطوطان . وفى إبراهيم الدسوقي كتب البلقينى ترجمته في (طبقات الشرنوبى) وكتب له الكركى ( لسان التعريف) وكتب له حسن شمه (مسرة العينين) وهما مخطوطان..وما سبق مجرد أمثلة ..

 4 ـ وذلك الازدهار في كتب المناقب ألقى بظلاله على الأنواع الأخرى من الكتابات التاريخية فتحولت إلى ما يشبه كتب المناقب من المبالغة في المدح والنفاق ، فكتب بعضهم مؤلفات تاريخية في سيرة السلاطين كانت إلى كتب المناقب أشبه ، فالمؤرخ بدر الدين العيني ت855  قاضى القضاة كتب في سيرة أو مناقب السلطان المملوكي الظاهر ططر ( الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر – ططر) وقد ملأه نفاقا للسلطان بنفس طريقة كتب المناقب.  وكتب العيني أيضا في سيرة السلطان المؤيد شيخ ( السيف المهند في سيرة الملك المؤيد) وخلطه بعناصر صوفية تجعل من السلطان المملوكي كأنه شيخ صوفي . والعينى من شيوخ الحديث المشهورين فى العصر المملوكى ، وهو صاحب كتاب ( عمدة القارى فى شرح صحيح البخارى )، وكتب السيوطي ت 911 للسلطان قايتباى ( تاريخ  قايتباى ) وهو مخطوط ، وقبلهم كتب ابن عبد الظاهر (الألطاف الخفية في السيرة الشريفة السلطانية ) في تاريخ ومدح السلطان الأشراف خليل بن قلاوون،  وكان ابن عبد الظاهر يعمل لديه كاتبا للسر، أي سكرتيرا خاصا.

5 ــ وازدهرت في أواخر العصر المملوكي الكتابة في مناقب آل البيت والخلفاء الراشدين والعباسيين وأئمة المذاهب السنية ، فكتب السيوطي في مناقبهم جميعا ، و للسيوطي (الأساس في مناقب بني العباس )، (فضائل آل البيت) ،( تحفة العجلان في فضل عثمان) ، الدرر في فضل عمر)، ( الروض الأنيق في فضل الصديق)،( القول الجلي في فضل على ) وكلها مخطوطة..وله في مناقب الشاذلية كتاب مطبوع هو ( تأييد الحقيقة العلية وتشييد الطريقة الشاذلية )..ثم يحلو للسيوطي أن يكتب في مناقب البراغيث لأنها تعين على السهر وقيام الليل ، فله (الطرثوث في فوائد البرغوث ) وفى الوسادة كتب ( ما رواه  السادة الاتكاء على الوسادة) وفى المسبحة ( المنحة في السبحة) .. وكلها مخطوطات .وذلك قليل من كثير تفيض به المصادر المخطوطة والمطبوعة عن كتابات المناقب وتطورها الكمي وتأثيرها فيما عداها .

ثالثا : التطور الموضوعي في كتب المناقب في العصر المملوكي:

1 ــ  قبل العصر المملوكي كانت كتب المناقب تحاول الدفاع عن الأولياء الصوفية وتحاول تأويل كلماتهم في الحلول والاتحاد والشطحات التي تنطق بالكفر. وفى محاولاتها للدفاع كانت تستند إلى تأويلات للقرآن والى استدرار عطف القارئ والتقرب إليه حتى يؤازر الصوفية ويقتنع بهم . وبتسيد  التصوف في العصر المملوكي بدأت كتب المناقب تنحو نحوا جديدا ، لم تعد محتاجة للتبرير والتأويل ، بل إتجهت الى الفخر بما يقوله الأولياء من شطحات، حيث كان معروفا انه كلما ازداد الولي الصوفي في شطحاته كُفرا ازداد اعتقاد الناس فيه . ولم يكن ذلك معروفا لدى الصوفية فقط بل عند المؤرخين أيضا وهم المعبرون عن عقلية العصر . وسبق التعرض لهذا . وفى ذلك العصر الذي يسلم للأولياء الصوفية في كل ما يقولون حتى لو كان استهزاءا بالقرآن راجت كتب المناقب و أتيح لبعضهم أن يكتب في مناقب ذاته حتى انه يصف نفسه بصفات إلاهية دون تحرج ، ويجد الناس تصدق كلامه . وكتاب الجوهرة للدسوقي أوضح مثل على ذلك ، وقد نقل  الشعراني  في ترجمته لإبراهيم الدسوقي في الطبقات الكبرى  مقتطفات  من كلامه  من كتابه الجوهرة  . وهذا الكتاب مطبوع  بعض أوراقه ومتداول .

2 ــ والشعراني نفسه افتخر بمناقبه الشخصية  في كتابين له " لطائف المنن الكبرى " وهو مطبوع، وله غير ذلك " لطائف المنن الصغرى"  وهو مخطوط  . وفيهما أقام لنفسه حفل تكريم  في كل صفحة. وعلى سبيل المثال  يقول الشعراني  يفتخر بنفسه في ( لطائف المنن الكبرى ) " ومما انعم الله  تبارك وتعالى  به على مساعدتي لأصحاب  النوبة فى سائر أقطار الأرض فى حفظ إدراكهم  من برار وقفار ومدائن  وبحار  وقرى وجبال  فأطوف بقلبي  على جميع أقطار الأرض في نحو ثلاث درج .. وصورة طوافي كل ليله على مصر وجميع أقاليم  الأرض  أنني أشير بإصبعي إلى  أزقة جميع المدائن والقرى  والبراري  والبحار  وأنا أقول  الله الله الله ، فأبدأ  بمصر العتيقة ثم بالقاهرة ثم بقراها حتى أصل إلى مدينة غزة  ثم إلى القدس  ثم إلى الشام  ثم إلى حلب ثم إلى بلاد العجم ثم إلى البلاد التركية  ثم إلى بلاد الروم ثم أعدّى من البحر المحيط  إلى بلاد المغرب  فأطوف عليها بلدا بلدا حتى أجئ إلى الإسكندرية ثم أعطف  منها إلى دمياط ثم منها إلى أقصى الصعيد ثم إلى أقصى بلاد العبيد ثم إلى بلاد الروجر  وهى أقطاع جدي الخامس  ثم اعطف  إلى بلاد التكرور وبلاد السكوت  ومنها إلى بلاد النجاشي ثم إلى أقصى بلاد الحبشة  وهى سفر عشر سنين  ثم منها إلى بلاد الهند ثم إلى بلاد السند ثم إلى بلاد الصين ثم ارجع إلى بلاد اليمن  ثم إلى مكة .. ثم إلى مدينة النبي (ص) .. وما ارجع إلى دارى في مصر إلا وأنا الهث من شدة التعب كأني كنت حاملا  جبلا عظيما ولا أعلم احد سبقني إلى مثل هذا الطواف  ، وكان ابتداء حصول هذا المقام لي سنه ثلاث وثلاثين وتسعمائة فرأيت نفسي في محفة طائرة فطافت بي سائر أقطار الأرض في لحظة  وكانت تطوف بي على قبور المشايخ فوق أضرحتهم إلا ضريح سيدي أحمد البدوي وضريح سيدي إبراهيم الدسوقي ... فان المحفة نزلت بي من تحته عتبة كل من أحدهما ومرت من تحت قبره ..." )!! . فى الوقت الذى كان فيه الشعرانى يكتب هذا الهجص فى كتابه الضخم ( لطائف المنن الكبرى ) يستعرض فيه مناقبه الشخصية وكراماته الوهمية،  كانت أوربا قد أسّست تقدمها العلمى  على ترجمة مؤلفات ابن سينا والرازى والفارابى وابن رشد والزهراوى وابن حيان وابن الهيثم والادريسى وغيرهم ، وانطلقت تكتشف العالم الجديد .

وحتى لا ننسى : فإنّ كتب المناقب الصوفية هى أحطّ المكتوب فى التزكية لدى طوائف المحمديين .

 

 تزكية النفس بين الاسلام والكُفر   

 أولا : نهى  الاسلام عن الزعم بتزكية النفس أو الغير

1 ـ نقطة البداية الفاصلة تتمثل في أن المسلم الحق لا يزكي نفسه ولا يزكي على الله أحداً . وخاتم النبيين عليهم السلام كان مأمورا بألا يزكى نفسه بأن يفضل نفسه على الأنبياء ؛ أمره ربه جل وعلا فقال له:( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ ) الأحقاف 9 ) . ذلك أن الذي يملك الحكم على أفضلية الأنبياء وتفاضلهم فيما بينهم هو ربهم خالقهم (  تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) البقرة 253 ) ، (  وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ ) الإسراء 55 ) فذلك هو الشأن في الرسل خلاصة البشر والذين يوحى إليهم . وبالتالى فالمؤمنون حقا لا يفضل أحدهم نفسه على أحد ،  ولا يزكى نفسه أو غيره بالتقوى ،. ولو فعل هذا كان عاصيا لربه جل وعلا القائل :( فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى (32) النجم ) . إنّ الأعلم بتقوى القلوب ومدى إيمانها هو الله جل وعلا وحده ، يقول جل وعلا : (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ  ) النساء 25 ).

2 ــ تزكية النفس فى الاسلام هو إستمرار تطهيرها من فجورها بالايمان الخالص والعمل الصالح لتدخل الجنة ، إن النفس البشرية مجبولة على الفجور والتقوى ، والمتقى هو الذى يفلح فى ـزكية نفسه بالايمان الصحيح والعمل الصالح (  وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) الشمس ) . هذه التزكية ليست إدعاءا أو زعما أو رياءا ، بل هى عمل دءوب فى تطهير النفس وتزكيتها  يصدر عن إخلاص الدين لله جل وعلا ، ويستمر هذا طالما بقى الانسان حيا ، فيموت وقد بشرته الملائكة بأنه من أولياء الله جل وعلا ، وأنه ممّن نجح فى تزكية نفسه ، ثم تتجلى ثمرة التزكية فى الآخرة، بدخول الجنة جزاءا لمن تزكى فى حياته الدنيا : ( وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) طه )

  ثانيا : تزكية النفس إسلاميا تعنى الهداية 

1 ــ وبهذا فالتزكية للنفس اى مسئولية شخصية ، فمن تزكى فلنفسه :( وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) فاطر ) أى هى بمعنى الهداية ، فمن إهتدى فلنفسه ومن ضلّ فعلى نفسه . وقد تكرر هذا فى القرآن الكريم : ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) يونس )،( مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا )(15) الاسراء ) ( وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنْ الْمُنذِرِينَ (92) النمل ) (إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) الزمر ).

2 ــ ولأنها مسئولية شخصية فإن البداية تبدأ بالانسان ، أى إنّ من يشاء من البشر الهداية يهده الله جل وعلا ، لذا يتكرر فى القرآن إن الله يُضلّ من يشاء ، أى يُضل من يشاء الضلال ، ويهدى من يشاء الهداية :( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) فاطر) ومن يشاء منهم تزكية نفسه يزكّه الله جل وعلا (بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) النساء ).

 3 : ولأنها مسئولية شخصية قائمة على حرية الاختيار فبعض الناس يختار الهداية وتزكية نفسه وتطهيرها ، وبعضهم يختار الغواية وإضلال نفسه وإفسادها. ويوم القيامة لن يدخل الجنة إلا من تزكى . وفى مقارنة بين أصحاب الجنة وأصحاب السعير ، يقول جل وعلا:( سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) الأعلى ) ( فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) الليل )

ثالثا :  تزكية للنفس لدى المشركين هى تدين سطحى بالرياء والاحتراف الدينى

1 ــ بعض الناس يكتفى بتكريم نفسه بزعم التقوى فيُرائى بصلاته فيكون ممّن قال جل وعلا  فيهم : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)) الماعون ).

2 ــ وبعضهم يحترف التظاهر بالتقوى ويتخذ من تظاهره بالعبادة وسيلة للإرتزاق أو الجاه الدنيوى ، فإذا وُعٍظ بالتقوى أخذته العزة بالإثم وظهر على حقيقته يسعى فى الأرض بالفساد شأن من يستغل الدين فى الحصول على طموح دنيوى ، ويخلط السياسة بالدين ، يركب الدين ليصل الى طموحه السياسى أو لكى يحتفظ  بموقعه السياسى ، يقول جل وعلا :( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)  البقرة )

3 ــ  : وبعضهم أصدر قرارا بأنه شعب الله المختار ، أى زكوا أنفسهم بهذا بدون إستحقاق من إيمان وعمل صالح ، والله جل وعلا ردّ عليهم يصفهم بالافتراء والتدخل فى حُكم الله جل وعلا الذى يُزكّى من البشر من يشاء منهم أن يزكى نفسه بالايمان والعمل الصالح وليس مجرد الزعم بلا إستحقاق:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) النساء ). وتحداهم رب العزة بأنهم لو كانوا فعلا أولياء الله فليتمنوا الموت إن كانوا صادقين :( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) الجمعة ) وأكّد رب العزة أنهم أحرص الناس على الحياة : ( قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) البقرة ). وهذا ينطبق على مئات الملايين من المحمديين الذين يحترفون التدين طمعا فى حُطام دنيوى .

4 ـ ويهبط بعضهم الى أسفل سافلين حين يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه . وقد وقع فى هذا بعض أهل الكتاب من أصحاب الديانات الأرضية ، وقد ذكر رب العزة مقالتهم ، ورد عليها : (وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) المائدة ) . ونفس الزعم وقع فيه الصوفية القائلون بالحقيقة المحمدية ، الذين يزعمون أن ما يسمونه بالنور هو قبس من نور ، وخلق الله جل وعلا من أجله العالم ، وأنه تنقل فى الأنبياء الى أن ظهر فى محمد ، ثم من بعده فى الأولياء الصوفية . وبالتالى فهو نفس الزعم السابق لليهود والنصارى بأنهم أبناء الله وأحباؤه ــ تعالى عن ذلك علوا كبيرا .

رابعا : تزكية النفس إسلاميا تعنى رجاء لقاء الله جل وعلا

1 ـ : الذى يزكّى نفسه مُتقيا ربه جل وعلا ويخشى الله جل وعلا بالغيب لا يوصف بأنه (أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ) ، بل هو من أولئك الذين يرجون لقاء الله لينال الجزاء الحسن من رب العزة الذى لا يُضيع أجر من أحسن عملا .

2 ــ فالبشر هنا نوعان : نوع يقوم بتزكية نفسه ويرجو لقاء الله ،وهو يعمل عملا صالحا ولا يُشرك بعبادة ربه أحدا : ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)(الكهف  110 ). أما الذى لا يرجو لقاء ربه فقد إستغرقته الدنيا فأنسته لقاء ربه ، وفى الآخرة مأواه جهنم : ( إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7 ) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) ( يونس ) .  

خامسا : تزكية النفس لا تعنى تعطيل السعى للرزق

1 ـ الرزق من الحتميات المقررة سلفا لكل الكائنات الحية ، بدءا من الدواب الى البشر ، فما من دابة فى الأرض إلا على الله جل وعلا رزقها (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) هود ) حتى لو كانت فى جوف المحيط أو فى أعماق الأرض لا تستطيع أن تحمل رزقها ، يرزقها الله جل وعلا كما يرزقنا : (وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) العنكبوت ) . الأب سبب فى رزق إبنه والابن سبب فى رزق أبيه ، هما سواء فى إستحقاق الرزق من لدن الرزاق العليم صاحب الفضل وحده  : ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) (151) الانعام ) (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ )ِ (31) الاسراء ) ، وبالتالى فالناس أسباب لبعضهم البعض فى استحقاق الرزق ، وكل إنسان فى هذه الدنيا له رزقه المحدد سلفا بغض النظر عن إيمانه أو كفره ، ومهما سعى فلن يحصل على أكثر من الرزق المحدد له ، والله جل وعلا هو الذى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدره على من يشاء إختبارا لهذا وذاك ، وهو وحده جل وعلا الأعلم بالبشر، وطبقا لهذا العلم جرى توزيع الرزق ، يقول جل وعلا يربط بين توزيع الرزق وعلمه بالناس : ( إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) الاسراء ) (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) العنكبوت ) (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) ، ( وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)  الشورى ) . هذه حقائق يجهلها من لا يؤمن بالآخرة ولا يرجو لقاء ربه ، ومن لا يقوم بتزكية نفسه بالتقوى ، والذى يفرح بالدنيا ولا يرجو غيرها ، يقول جل وعلا :( اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ (26) الرعد ) . ولو كان الرزق بيد الناس ما صار فى الدنيا فقير ، وما إغتنى فقير وما أفلس ثرى .   

2 ـ البشر الناس فى سعيهم للرزق نوعان : نوع يريد الدنيا فقط ، ونوع يريد الآخرة . الذى يرجو لقاء ربه جل وعلا لا يهُمل الدنيا ولا يهمل السعى للرزق ، بل يسعى للرزق فى الدنيا بالحلال وطاعة ربه مؤمنا باليوم الآخر وآملا فى الفوز فيه بالجنة لذلك يسعى فى الدنيا ولكن يجعل الفوز بالجنة محور حياته ، لذا يزكى نفسه بالايمان والعمل الصالح ، وهو فى هذه الدنيا ينال حظه المقسوم  سلفا من الرزق ، ثم ينتظره رزق الجنة الخالد . الصنف الآخر يجعل الدنيا العاجلة كل همٍّه ومحور حياته ، ولا يأبه باليوم الآخر ولا يرجوه ، بل يعيش حياته فى صراع محموم من أجل الرزق ، وفى النهاية لا ينال سوى الرزق المحدد المقرر له سلفا مثل غيره من البشر ، ثم ينتظره  فى الآخرة خلود فى الجحيم . يقول جل وعلا فى مقارنة بين من يريد الدنيا ويخسر نفسه ومن يريد الآخرة ويتزكى لها : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) الاسراء )

3 ـ وكل إنسان له حرية الاختيار ، وهو مؤاخذ يوم القيامة بهذه الحرية .

 جريمة التزكية بالصلاح لدى المحمديين وغيرهم

مقدمة

1 ــ  بتأثير التصوف تجذّر فى الضمير الشعبى إحتكار الصوفية للصلاح باعتبارهم ( أولياء الله ) ، وإمتد هذا خارج الصوفية فأصبح يحلو للعوام وصف فلان بالصلاح ، نفاقا وتحببا وتزلفا ، ويشيع على الألسنة القول على من مات بأنه ( المرحوم فلان ) ، أى أصدروا قرارا بأن الله جل وعلا قد رحمه وصار مرحوما . وهذا تدخل ممقوت ومرفوض فى إختصاصات رب العزة ، وإعتداء على علمه بالغيب ، وجُرأةُّ على التقول فى أمر الاهى مؤجل الى يوم الحساب حيث يتحدد فى هذا اليوم العظيم من هو الصالح المرحوم ومن هو الخاسر الملعون . بل فى مناسبات العزاء فى الريف المصرى يستسهل بعضهم أن يُقول عن المتوفى ( دخل الجنة حدف ).!! كما لو كان القائل مالكا للجنة ومتحكما فى يوم الدين ومالكا ليوم الدين دون رب العالمين ، جل وعلا .

2 ــ هذا العداء الفاضح لرب العزة جل وعلا ، لا يقع فيه فقط عوام الناس ، بل أيضا  الفقهاء العوام ، ومنهم مفتى سابق لمصر مدح فى مجلس عام أحد المتبرعين من دول الخليج فقال ــ حسبما ظهر فى الصحف ــ ( من أراد أن ينظر الى رجل من أهل الجنة فلينظر الى فلان ) . هكذا بكل بساطة وتزلفا الى صاحب المال لا يرى هذا المفتى السابق غضاضة فى التعدى على العزيز الجبار جل وعلا . ويتصل بهذه الجُرأة على رب العزة ما إعتاده الاخوان المسلمون من إستخدام إسم رب العزة فى صراعاتهم السياسية ومزايداتهم الحزبية  بلا أدنى خجل ، وليس هذا مُستغربا فقد إحتكروا لأنفسهم وصف ( المسلمين ) و دين الاسلام ، وبالتالى فهم وحدهم ( الصالحون ) . ويتصل بهذا ما تفعله داعش بإصدارها شهادات الاسلام لمن يدخل فى طاعتها ، وما يفعله الزعيم الشيعى العراقى مقتدى الصدر بإصدار شهادات بدخول الجنة مدفوعة الأجر . هذا الحضيض الدينى الذى يقع فيه المحمديون على إختلاف طوائفهم يدفعنا الى الاحتكام الى رب العزة فى موضوع  (الصلاح ) :ــ

أولا : إطلاق وصف الصلاح على بعض البشر حق لله جل وعلا وحده لا يجوز للبشر التدخل فيه

1ـ  . وصف رب العزة بعض الأنبياء فى القرآن الكريم بأنهم من الصالحين فى الآخرة. يقول جل وعلا عن ابراهيم عليه السلام : (وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ (122) النحل ) و: (27) العنكبوت ). ويقول جل وعلا عن بعض ذرية ابراهيم من الأنبياء :( كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ (85) الانعام ). وعن لوط عليه السلام : ( وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ (75) الانبياء )، وعن إسماعيل وإدريس وذى الكفل عليهم السلام: ( وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنْ الصَّالِحِينَ (86) الانبياء  ). وعن يونس عليه السلام :( فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنْ الصَّالِحِينَ (50) القلم )

2 ـ الملائكة تحمل الوحى وكلمة الله جل وعلا تبشر بصفة الصلاح ، هكذا قالت الملائكة لابراهيم عن ابنه إسحاق عليهما السلام : ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ (112) الصافات )، وقالت لزكريا عن إبنه يحيى عليهما السلام : ( فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ (39) آل عمران  )، وقالت لمريم عن ابنها المسيح عليهما السلام : ( إِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنْ الصَّالِحِينَ (46) آل عمران )

3 ــ  وخارج الأنبياء فقد وصف رب العزة بعض البشر بالصلاح  ، ليس بالأسماء والأشخاص ولكن كصفات . قال جل وعلا عن المهتدين من أهل الكتاب : ( لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)) آل عمران ). هنا صفات الصلاح والولاية مطروحة أمام الجميع للتحلّى بها. وقد عاش بها ومات طائفة من أهل الكتاب ، ويعيش ويموت بها طائفة منهم .

4 ـ على أن الملاحظ أن  رب العزة  لم يصف خاتم النبيين محمدا بالصلاح ، لأنه كان حيّا يُرزق عند نزول القرآن لم يمت بعد . والعادة أن الوصف بالصلاح يأتى من رب العزة لمن مات بعد حياة حافلة بالصلاح وتزكية النفس بالتقوى . و بهذا جاء فى القرآن الكريم وصف الأنبياء السابقين بالصلاح بعد موتهم  بقرون، أى بعد أن تحددت درجاتهم .

ثالثا : المؤمن فى حياته يدعو ربه أن يُلحقه بالصالحين

1 ـ وكان الأنبياء فى حياتهم يدعون ربهم أن يُلحقهم بالصالحين فى الآخرة يوم الحساب . ونعطى أمثلة : ابراهيم عليه السلام دعا ربه جل وعلا فقال :( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) الشعراء). ونتدبر فى قوله عليه السلام ( وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ )، أى أن يلحق يوم القيامة بمن سبقه من الصالحين . وابراهيم عليه السلام دعا ربه جل وعلا أن يهبه إبنا من الصالحين ، فقال ( رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ (100) الصافات ). ويوسف عليه السلام فى أوج نفوذه دعا ربه جل وعلا أن يُميته مسلما ثم يُلحقه بالصالحين مثل جده ابراهيم ، فقال ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) يوسف  ). ومثله سليمان عليه السلام الذى أوتى الآيات ( حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) النمل ). أى دعا ربه أن يهديه الى شكر النعمة وأن يهديه الى عمل الصالحات ، وان يدخله يوم القيامة فى العباد الصالحين .

2 ــ ونفس الدعاء قال به بعض الصالحين من أهل الكتاب ، قالوا :  ( وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) المائدة ). وعليه فالمؤمن الذى يحرص على تزكية نفسه وتطهيرها بالتقوى يدعو ربه ان يموت على الاسلام وأن يُلحقه ربه يوم القيامة بالصالحين . وهكذا كان يدعو الأنبياء عليهم السلام . وعن أصحاب الجنة يقول رب العزة جل وعلا : ( وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً (69) النساء )

3 ــ وعند الاحتضار يتذكر الانسان فضيلة الصلاح عند الموت ، يتمنى فرصة أخرى ليتزكى وليكون من الصالحين. ولهذا يعظ رب العزة جل وعلا المؤمنين فيقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) المنافقون )

رابعا : إستثناءات للبشر فى الوصف بالصلاح الظاهرى فى موضوعات الزواج :

1 ــ فى موضوعات الزواج يطلب الرجل زوجة صالحة ، ويريد أن يكون صهره رجلا صالحا . هكذا قال الرجل والد الفتاتين فى قصة موسى ، والذى عرض على موسى عليه السلام أن يزوجه إحدى بنتيه ، ووعده أن يكون ــ إن شاء الله ــ من الصالحين : ( قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ (27) القصص ). والله جل وعلا يدعو الى الزواج من الصالحين والصالحات ( حسب الظاهر ) أى أن يكون ( الصلاح الظاهرى )  فى الزواج فى الرجل والمرأة أهم من الصفات الأخرى كالجمال والثروة والمكانة الاجتماعية ، أو أن تكون العروس عذراء ولم يسبق لها الزواج . يقول جل وعلا  ــ ( وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) النور ).

2 ــ يدخل فى التعامل الظاهرى قول مبعوث الملك المصرى ليوسف عليه السلام : ( يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) يوسف ). ليس هذا تشريعا ، فالتشريع لا يأتى من القصص القرآنى ، ولكنه يأتى بصيغة الأمر والنهى . ولكن المستفاد مما سبق أنهم رأوا بأعينهم صدق يوسف عليه السلام فى تأويل وتفسير الأحلام فخاطبوه طبقا لهذا قائلين : ( يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا ).

 خامسا : تطرف الكهنوت الدينى لأصحاب الديانات الأرضية فى تزكية أئمتهم

1 ـ فى القصص القرآنى يأتى وصف الوالى الحاكم فى مصر بالعزيز ، جاء هذا وصفا للوالى الذى ربّى يوسف ، وعن إمرأته الموصوفة بأنها إمرأة العزيز : ( وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) (قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ (51) يوسف ) . وتولى يوسف نفس المنصب فخوطب بنفس اللقب ( العزيز ) حتى من إخوته الذين لم يتعرفوا عليه ، فخاطبوه بمكانته باعتباره عزيز مصر :( قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ (78)(  فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)( يوسف ).

كانوا يتعاملون معه على أنه حاكم وليس على أنه نبى.  وفى الدولة المدنية توجد ألقاب للحكام ومن حولهم ( عزتلو ، جلالة الملك ، سمو الأمير ، معالى الوزير ، فخامة الرئيس ، سعادة فلان ، جناب فلان ، حضرتك ..الخ ) . هذا  يدخل فى التعالى الممقوت على الآخرين ، وليس من صفات المتقين الذين لا يريدون (علوا فى الأرض ولا فسادا ) ( القصص 83 )، ولكنه محصور فى الأغلب فى إطار البشرية لهؤلاء الناس المُتعالين سياسيا ، ويدخل فى مكانتهم السياسية طالما بقوا فى موقع السلطة ، فإذا فقدوها بالعزل أو بالموت لاحقتهم اللعنات . وهذا مخالف للكهنوت الدينى الذى يجعل ألقاب التأليه تصاحب أئمة الكهنوت فى حياتهم وبعد موتهم ، وبل تزداد قداستهم بموتهم ، وتمتد سُلطتهم الخرافية لتشمل الدنيا والاخرة ، ولا سبيل للتحرر من هذه السُّلطة الا بإعتناق الاسلام ؛ الدين الالهى الذى لا تقديس فيه ولا خضوع إلّا لله جل وعلا الواحد القهّار .

2 ــ فى الدين الالهى نعرف من القصص القرآنى أن الأنبياء كانوا يُخاطبون بأسمائهم المجردة ( يا فلان )، يقولها لهم أتباع الأنبياء  . بنو اسرائيل  شهدوا الآيات على يدي موسى ومنها التى أنقذتهم من فرعون، ومع ذلك  كانوا يقولون له ( ياموسى ) بلا أى لقب وبلا أى تكريم ،: ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ (55))، ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ ) (61) البقرة )( قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ ) (23) ( قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) المائدة  ). ( قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ  )138) الاعراف ). ونفس الحال مع عيسى عليه السلام ، كان الحواريون يخاطبونه بإسمه المجرد مع أنهم مثل قوم موسى شهدوا الآيات على يديه :( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ )(112) المائدة ).أتباع الأنبياء لم يكونوا يخاطبون أنبياءهم بألقاب كهنوتية أو رسمية ، لم يكونوا يقولون لهم : ( فضيلتك ، قداستك ، جنابك ، عظمتك ، حضرتك ، سماحتك ، سعادتك ). بل كانوا يقولون لهم ( يا فلان ) .

وخاتم النبيين عليهم جميعا السلام ، لم يكن بدعا من الرسل متميزا عنهم ( الأحقاف 9 ) بل كان رسولا خلت من قبله الرسل : ( 144) آل عمران ). ولقد وصفه رب العزة بأنه ( رجل منهم ) ( يونس 2 ) فى مكة تعجبوا من أن يكون خاتم النبيين رجلا عاديا ليس عظيما بمقياس العظمة عندهم (31) الزخرف). وكانوا يتندرون به ويستهزئون به ( الأنبياء 36 )( الفرقان41 ، 7 : 9 ). أما أهل المدينة من منافقين ومؤمنين فقد إتفقوا على إيذاء النبى بما إستوجب نزول القرآن ينهى المؤمنين ويتوعدهم ويرد أذى المنافقين القولى، كما جاء فى سورة الأحزاب (  53 ، 57 ،  69  ) والتوبة ( 61  )، والمنافقون ( 8 ). فى هذا المناخ لا نستبعد أنهم كانوا يخاطبون خاتم النبيىن بإسمه المجرد، يقولون له  ( يا محمد ). ولا نستبعد أيضا مخاطبتهم له بوصفه رسول الله و ( النبى ) . وليست هذه أوصافا كهنوتية ، لأنه فعلا رسول الله ونبى الله وخاتم النبيين ، وهو مأمور أن يعلن أنه بشر مثلنا يُوحى اليه ( الكهف 110 ) وهذا الوحى لا يرتفع به فوق مستوى العبودية لله جل وعلا ، بل إنه فى موضع التكريم يوصف فى القرآن الكريم  بأنه عبد الله ، يقول عنه ربه ( عبده ) كما جاء فى سور : ( الاسراء 1 ، الكهف 1 الفرقان 1 ، الزمر 36 ، النجم 10  ، الحديد 9  ) ، أو يقول عنه : (عبدنا ) كما جاء فى سورتى : ( البقرة 23 ، الأنفال 41 ) . المستفاد أن النيى يخاطبه المؤمنون باسمه أو بأنه النبى او رسول الله الذى لا يملك لنفسه أو غيره نفعا ولا ضرا .

3 ــ هذا محظور فى الكهنوت . لا يمكن أن تخاطب البابا فتقول له ( يا فلان ) بل تقول له ( قداستك ) ولا يمكن أن تخاطب إماما شيعيا فتقول له ( يا فلان ) بل ( سماحتك ) أو نحوها  لا يمكن أن تخاطب شيخا سنيا أو صوفيا فتقول له ( يا فلان ) بل تقول له ( فضيلتك ) . هذا مع أن البابا والامام والشيخ ليسوا جزءا من الدين الالهى ، وليسوا رُسلا وليسوا ملائكة وليسوا آلهة ، ولم يرد ذكرهم فى أى رسالة سماوية . هم مذكورون فقط فى كهنوت الأديان الأرضية ، كلهم يتميزون على بقية الناس بصفات التزكية ، وحتى يتميزون عليهم فى الزى المعين الخاص بهم ، وفى أنهم يعيشون عالة على المجتمع يتفرغون لإفساده وتحجيم حريته وإعاقة تقدمه وإضلاله فى الدنيا ، ثم خسارته فى الآخرة .

4 ـ يعزُّ على أصحاب الكهنوت المحمديين أن يقتصر لفظ ( اكبر ) على رب العزة ، لذا يجعلون من صفات بعض أئمتهم ( الأكبر ) . فالصوفية يصفون محيى الدين بن عربى بأنه ( الشيخ الأكبر ) بل إن الدستور المصرى يصف رسميا ( شيخ الأزهر ) بأنه ( الإمام الأكبر ) ، مع إنه موظف مدنى فى دولة مدنية يعينه رئيس الجمهورية ، وليس معينا من رب العزة ، ويأخذ راتبا من الحكومة وله درجة وظيفية فى مجلس الوزراء . وإذا كان ( فلان بن فلانة ) الإمام الأكبر للمسلمين فهل يكون خاتم النبيين عليه وعليهم السلام هو ( الأمام الأصغر ) ؟ .

ونفس الحال مع وصفهم أبى حنيفة بأنه ( الإمام الأعظم ) وهو لقب لم يعرفه أبو حنيفة فى حياته . فهل أبو حنيفة أعظم من خاتم النبيين عليه وعليهم السلام . ويجعلون ذكر إسم أبى حنيفة ومذهبه فى عقد الزواج، يقولون: ( على سنة الله ورسوله وعلى مذهب الامام الأعظم أبى حنيفة النعمان ) فهل كل الزيجات السابقة لأبى حنيفة قبل وجود أبى حنيفة باطلة شرعا لأنها ليست على مذهب أبى حنيفة ؟ 

وقولهم فى قائد الكهنوت الشيعى أنه ( آية الله ) و (روح الله ) فهل رب العزة جل وعلا بدون فلان هذا بلا آية ؟ وبلا روح ؟ أليس كل هذا سبّا وذمّا فى رب العزة جل وعلا ؟ أليس كل هذا تفضيلا لأئمة الكهنوت على خاتم المرسلين .

فهل نزل منشور من رب العزة يقول إن فلانا هو ( البابا ) أو( رضى الله عنه ) أو ( كرّم الله وجهه ) أو ( الصدّيق ) او ( الفاروق ) أو ( تستحى منه الملائكة ) أو ( حوارى رسول الله ) أو ( العترة ) أو ( سيد الشهداء ) أو( الامام الأعظم ) او ( حجة الاسلام ) أو ( الشيخ الأكبر ) ( منارة الاسلام ) أو ( آية الله ) أو ( روح الله ) أو ( الامام الأكبر )؟ وهل نزل تفويض من رب العزة جل وعلا للأفاقين الذين يقيمون دولا دينية أو يسعون لإقامتها ليسطر كهنوتهم الدينى على الشعب ؟ . سبحانك ربى .. هذا بهتان عظيم .!

5 ـ بل إنهم يفضلون أئمتهم الكهنوتيين على رب العزة جل وعلا . المؤمن يخاطب ربه جل وعلا فيقول له ( أنت ) فى الدعاء والتضرع . وأقرأ فى القرآن الكريم : ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) ( الاعراف )( إِذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) آل عمران )) رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) آل عمران ) ( وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) البقرة ). وهذه مجرد أمثلة .

هل تجرؤ أن تخاطب شيخ الأزهر أو شيخ الشيعة أو حتى شيخ الجامع أو أى قسيس فتقول له ( أنت ) ؟ وماذا سيحدث لك لو خاطبته باسمه قائلا : ( إنت يا فلان ) ؟

إنتبهوا أيها الناس ..!!

 بعض أقاويل الصوفية فى تزكية أنفسهم وأوليائهم بالصفات الالهية

أولا :

1 ــ صار عادة سيئة عند محققي الصوفية ـ حتى من يزعم الاعتدال منهم ــ  أن يفتتح الحديث بتزكية الأولياء الصوفية . يقول القشيري في مقدمة رسالته الشهيرة ( أما بعد رضي الله عنكم ، فقد جعل الله هذه الطائفة صفوة أولياءه ، وفضلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبياءه صلوات الله وسلامه عليهم ، وجعل قلوبهم معادن أسراره ، واختصهم من بين الأمة بطوالع أنواره فهم الغياث للخلق والدائرون في عموم أحوالهم مع الحق بالحق ، صفّاهم من كدورات البشرية ، ورقاهم إلى مجال المشاهدات بما تجلى لهم من حقائق الأحدية ، ووفقهم بالقيام بآداب العبودية ، وأشهدهم مجاري أحكام الربوبية فقاموا بأداء ما عليهم من واجبات التكليف وتحققوا بما منّه سبحانه لهم من التقليب والتصريف ..) ، فالقشيري المعتدل تطرف في مدح الصوفية إلى أن أسبغ عليهم الألوهية فقال عنهم ( فهم الغياث للخلق ) أي من يغيثون الخلق عند النوازل ، ونفى عنهم صفات البشر في قوله (  صفاهم من كدورات البشرية ، ورقاهم إلى مجال المشاهدات بما تجلى لهم من حقائق الأحدية ) ، ووصفهم بالتصريف في ملك الله باعتبارهم آلهة مع الله ، يقول: ( وأشهدهم مجاري أحكام الربوبية فقاموا بأداء ما عليهم من واجبات التكليف وتحققوا بما منّه سبحانه لهم من التقليب والتصريف ..).

2 ــ  ويقول الطوسي في مقدمة كتابه ( اللمع) ( الحمد لله الذي خلق الخلق بقدرته ودلهم على معرفته .. واختار منهم صفوة من عباده وخيرة خلقه خصَّ منهم من شاء بما شاء كيف شاء ..) ، وهو وصف عام جعله خاصاً بالصوفية حين قال ( إن هذه العصابة – أعني الصوفية – هم أمناء الله جل وعز في أرضه ، وخزنة أسراره وعلمه ، وصفوته من خلقه ، فهم عباده المخلصون ، وأولياءه المتقون ، وأحباؤه الصادقون المخلصون )، وقال (الصوفية هم محل جميع الأحوال المحمودة، والأخلاق الشريفة، سالفاً ومستأنفاً..)[1].

3 ــ  وفي (إحياء علوم الدين) بدأ الغزالي كتاب المحبة والشوق بقوله (الحمد لله الذي نزه قلوب أوليائه من الالتفات إلى زخارف الدنيا ، وصفّى أسرارهم من ملاحظة غير حضرته، ثم استخلصها للعكوف على بساط عزته، ثم تجلى لهم بأسمائه وصفاته حتى أشرقت بأنوار معرفته ، ثم كشف لهم عن سبحات وجهه..)[2]. فالغزالي يحمد الله لأنه اتخذ من الصوفية أولياء ليتحدوا به ويتجلى عليهم بأسمائه وصفاته. وبدأ كتاب الآداب والألفة بقوله ( الحمد لله الذي غمر صفوة عباده بلطائف التخصيص طولاً وامتنانا)[3]. وقد يقال أن هذا القول عام ، وينطبق على الصوفية وغيرهم ، ولكن الغزالي يقول في المنقذ من الضلال ونقله عنه العيدروس (إني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق..) بل أن الغزالي يقول عن الصوفية الراقصين في حفلات السماع والمستمعين للغناء (أولئك الذين اصطفاهم الله لولايته، وأستخلصهم من بين أصفيائه وخاصته)[4].

4 ــ   ويقول السهروردي في (عوارف المعارف) في المقدمة (..فسبحان من عزت معرفته لولا تعريفه.. ثم ألبس قلوب الصفوة من عباده ملابس العرفان، وخصهم من بين عباده بخصائص الإحسان، فصارت ضمائرهم من مواهب الأنس مملوءة، ومرائي قلوبهم بنور القدس مجلوة، فتهيأت لقبول الإمداد القدسية، واستعدت لورود الأنوار العلوية.. واستفرشت بعلو همتها بساط الملكوت وامتدت إلى المعالي أعناقها، وطمحت إلى اللامع العلوي أحداقها، واتخذت من الملأ الأعلى مسافراً ومحاوراً، ومن النور الأغر الأقصى  مزاوراً ومجاوراً ،أجساداً رصينة بقلوب سماوية، وأشياخ فرشية بأرواح عرشية .. لأرواحهم حول العرش تطواف، ولقلوبهم من خزائن البر إسعاف..).. وهو تلميح بالإتحاد الصوفي بالله، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

5 ــ  ويقول اليافعي في العصر المملوكي في مقدمة كتابه (روض الرياحين ) ( الحمد لله الذي خص بفضله العظيم من اصطفاه للحضرة القدسية، وصفاه من كدورات الصفات النفسية..ونور قلوب أوليائه بنور معرفته وسقاهم بكأس محبته، تجلى لهم فشاهدوا جمال المحبوب ..وأجلسهم على بساط الأنس مقربين في حضرة القدس وصرفهم في ملكه، فهم الملوك في الحقيقة في جميع البلاد..أما بعد فإني لما كنت محباً للأولياء الصالحين وعاشقاً للصوفية العارفين ..)  إلخ  .

6 ــ  ويقول ابن عطاء السكندري في مقدمة كتابه ( لطائف المنن ): ( الحمد لله الذي فتح لأوليائه باب محبته، وأنشط نفوسهم من عقال القطيعة .. وأمد عقولهم بنوره.. متّع أسرارهم بقربه بخطفات جذبه فتتحققوا بشهود أحديته، أخذهم منهم وأفناهم عنهم،غرقوا في بحار هويته ..)..

ويقول أيضاً في مقدمة كتابه (التنوير فى إسقاط التدبير ): ( الحمد لله الذي خلع على أولياءه خلع أنعامه .. واختصهم بمحبته وأقامهم في خدمته .. وفتح لهم أبواب حضرته ورفع عنهم قلوبهم حجاب بُعده .. ولاطفهم بوده ، وآمنهم من إعراضه وصدّه , ونور بصائرهم بفضله وطهر سرائرهم وأطلعهم على السر المصون ..) .

7 ـ  ونقل الشعراني مقالة ابن عطاء السابقة في صدر كتابه ( الطبقات الكبرى ).

ثانيا :

1 ــ  ويلاحظ أن عبارات الإتحاد أوضح وأصرح في وصف الصوفية في العصر المملوكي ،  حتى أن عبد الصمد الأحمدي – فيما بعد – استغرق همه وتطرّف فى مدح البدوي ، فقال في مقدمته عن مناقب البدوي : ( الحمد لله الذي أطلع الأنوار الأحمدية في سماء الشهود ، وجلا جمالها في مرآة الوجود، فأشرقت أنوارها حتى اقتبس منها كل موجود، واكتسب من كمال جمالها من هو من أهل الكلام والكمال والقبول والإقبال معدود،أحمده أن أوانا إلى ركن شديد قوي ، وأنهلنا من المنهل العذب الأحمدي الروي..، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة عبد آمنَ بكرامات الأولياء، وتغالى في التقاط فرائد الأصفياء..). فصاحبنا يحمد الله لأنه أطلع أنوار البدوي الإلهية ليقتبس منها كل موجود النور والكمال، ثم يعيد الحمد لله أن جعله يركن للبدوي من دون الله، ثم يصرح بشهادة أن لا إله إلا الله مع المفهوم من كلامه أنه تأليه للبدوي مع الله، أي أنه جمع بين المتناقضات!

 2  ــ وقلنا إن الصوفية قاموا بتأليف كتب خاصة تحوي تمجيد أشياخهم وسرد مناقبهم وقص كراماتهم والتنويه بألوهيتهم ، فعرف العصر المملوكي كتب المناقب الصوفية مثل (لطائف المنن في مناقب أبي العباس وشيخه أبي الحسن) لابن عطاء،  ومناقب الرفاعي ومناقب البدوي ألفوا فيها ثلاث كتب أو أكثر ، وهكذا. بل إن بعض الصوفية كالشعراني أراد أن ييسر الأمر على من يأتي بعده ، فألف في مناقبه وهو حي كتاب (لطائف المنن) وليعلم أهل عصره بدرجته في العلم والعمل كما صرح في مقدمة (لطائف المنن) وله (المنن الصغرى) وهو مخطوط على نسق (المنن الكبرى).

ثالثا : 

1 ــ  واعتبار الصوفية أنفسهم أولياء الله وأصفياءه يدخل في نطاق التمني علي الله.. ودعاوى التمني على الله عرفها بعض أهل الكتاب قبل الإسلام (وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ .. البقرة111) وحذر الله المؤمنين وأهل الكتاب من هذا التمني (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ..النساء123) فقد وقع المنافقون في التمني على الله ففوجئوا بالنار وحرموا من الجنة (يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ ؟ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ...الحديد14) .

2 ــ  وواضح من النصوص القرآنية السابقة أن الأماني السابقة تمثلت في الفوز بالجنة والنجاة من النار، أي أماني بشرية، أما أمنيات الصوفية فهي أكبر من الجنة والنار. إن أمنتياتهم هي الاتحاد بالله والترفع عن جنته والاستهانة بناره. يقول أبو سليمان الداراني (إن لله عباداً ليس يشغلهم عن الله  خوف النار ولا رجاء الجنة..)[5]. وقالت رابعة العدوية (ما عبدته خوفاً من ناره ،ولا حباً لجنته، فأكون كالأجيرة السوء)[6]. وقال أبو يزيد البسطامي (لو أن أهل الجنة في الجنة يتنعمون وأهل النار في النار يعذبون ثم وقع بك تمييز بينهما خرجت من جملة التوكل )(أي التصوف) . ويعلق الغزالي على مقالته بقوله ( وأبو يزيد قلما يتكلم إلا عن أعلى المقامات وأقصى الدرجات)[7]. وقال الجنيد (حرم الله تعالى المحبة – أي الاتحاد الصوفي – على صاحب العلاقة، كل محبة تكون بعوض فإذا زال العوض زالت المحبة) [8]. والعوض مقصود به الجزاء.. أي الجنة.  وقال ذو النون المصرى :( أرواح العارفين جلالية قدسية فلذلك  اشتاقوا إلى الله تعالى ، وأرواح المؤمنين روحانية فلذلك حنوا إلى الجنة)[9].

3 ــ فالصوفية يفضلون أنفسهم على المؤمنين الذين يدعون ربهم خوفا من النار وطمعا فى الجنة : ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً )السجدة 16). ويفضل الصوفية أنفسهم على الملائكة التي تخشى عذاب ربها، يقول رب العزة عنهم:( يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) النحل50) (وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) الأنبياء28). ويفضل الصوفية أنفسهم على الأنبياء عليهم السلام ، فقد قال تعالى عن رسله المذكورين في سورة الأنبياء ( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً ) الأنبياء90)  أي رغباً في الجنة ورهباً من النار. وخاتم النبيين عليهم السلام أمره ربه جل وعلا أن يعلن خوفه من عذاب يوم عظيم:( أنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ )الأنعام 15 ، يونس 15 ) ، ومعنى ذلك أن الصوفية يجعلون من أنفسهم أنداداً لله ، ويرفعون أنفسهم فوق مستوى الأنبياء والملائكة المقربين .

رابعا : ماذا يعنى زعم الصوفية أنهم وحدهم أولياء الله جل وعلا ؟       

 واتخاذ أولياء لله من دون الله - أي بلا اختيار منه ولا تعيين – فيه افتراء على الله تعالى العلي القدير، وظلم عظيم له جل وعلا : .

1 ـ  فهو اجتراء على علم الله تعالى .. فالصوفية يدعون أنهم قد اطلعوا على علم الله وعلى ما يختاره من بين عباده ,وزعموا أنه أختارهم دون غيرهم , مع أن الله لم يطلعهم على علمه .. وليس معهم برهان على هذا الزعم.                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      

2 ـ وهو تدخل في اختيار الله تعالى، وادعاء بالتسلط على إرادته، وفرض لأهوائهم على مشيئته حيث يختارون بأنفسهم الأولياء ويجعلون أنفسهم الأصفياء لله ثم يدعون أن ذلك هو اختيار الله تعالى وأنها  إرادته، فيسلبون اختيار الله  تعالى في شيء يتعلق بذاته وجلاله، ولله تعالى مطلق الإرادة: ( إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ). المائدة 1 )( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ) هود 107 ),( إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ..الحج 14). والله تعالى بإرادته المطلقة يمُنُّ على من يشاء من عباده , ويستحيل عليه عقلاً أو نقلاً أن تملي عليه طائفة من خلقه إرادتها ، ولكن فضل الله وهداية الله جل وعلا هى لمن يشاء من الناس ، يقرر أن يهتدى ويسعى للهداية متقيا عاملا على تزكية نفسه وتطهيرها ، فيستحق يوم القيامة فضل الله ورحمة الله جل وعلا وجنته :( قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ{73} يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ{74} آل عمران )، ( وَلَـكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ ِعبَادِهِ )إبراهيم11 ) ( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء.) يوسف 76 ) فالمشيئة راجعة إليه وحده في الاختيار والتخصيص فهو الخالق والمسيطر على خلقه( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) القصص68) . وقد شاء جل وعلا أن يكون البشر أحرارا فى مشيئة الهدى أو الضلال ، الطاعة أو المعصية الايمان أو الكفر . ومن شاء منهم الهداية زاده الله جل وعلا هدى ، ومن كان فى قلبه مرض زاده مرضا، ومن يختار الهداية ويطيع الله جل وعلا يزكى نفسه بالتقوى حتى الموت يتمتع بفضل الله جل وعلا فى الآخرة ويكون فى معية الأنبياء ، يقول جل وعلا : ( وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) النساء )

3 ــ  ثم إن الصوفية لم يكتفوا بتزكية نفوسهم بالتقوى والولاية وإنما اشتطوا فادعوا الألوهية ودعوا الناس لتقديسهم والاعتقاد فيهم، والتوسل بهم في الدنيا والآخرة، والتماس بركاتهم، مع أن مجرد تقديس الوالي الصوفي أو غيره فيه ظلم عظيم لله تعالى وافتراء عليه ووصف له بالعجز والظلم.. تعالى عما يصفون.

 فكأنهم وصفوا الله تعالى – بالعجز – حيث أوكل للصوفية مهمة اختيار أولياء له يتحكمون في ملكه من دونه، فلم يجعلوا له شأناً في الاختيار ولا في التصريف، تعالى عن ذلك علواً كبيراً . وكأنهم وصفوا الله تعالى بالجهل ، حيث لم يستطع أن يميز بين مخلوقاته من يستحق الولاية منهم ومن لا يستحق، فلجأ إليهم وإلى علمهم ليختاروا له . ثم رضي باختيارهم  لأنفسهم – تعالى عن ذلك . وكأنهم وصفوه – تعالى – بالظلم ، حيث فضل نفراً من خلقه بدون استحقاق وجعل لهم اختصاصات ومميزات  وحرم منها الآخرين ، بل وجعلهم مسخرين لأولئك الأولياء، وإن فاقوهم في الإيمان والتقوى. 

ويعبر عن ذلك اليافعي الصوفي في العصر المملوكي بقوله : ( قيل مثل الصالحين وما زينهم الله به دون غيرهم مثل جند قال لهم الملك تزينوا للعرض علىَّ غداً فمن كانت زينته أحسن كانت منزلته عندي أرفع، ثم يرسل الملك في السر بزينة من عنده ليس عند الجند مثلها إلى خواص مملكته وأهل محبته فإذا تزينوا بزينة الملك فخروا على سائر الجند  عند العرض على الملك..)[10]. فالأتقياء من غير الصوفية هم الجند في نظر اليافعي , والصوفية هم خواص الملك وأهل محبته , والملك يخدع الجند المخلصين ويؤثر الصوفية عليهم .. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .

أخيرا

1 ــ شاء الصوفية بإرادتهم الحُرّة أن يزعموا لأنفسهم الألوهية وأن يزاحموا رب العزة فى مُلكه ، وأن يزعموا مشاركته فى حكمه ، وأن يعلوا بأنفسهم على صفوة خلقه من الملائكة والأنبياء ، وأن يظلموا رب العزة فى كل ما إفتروه من الأكاذيب . وهم بهذا تطرفوا فى الكفر وفى الغلو فى الضلال .

2 ــ  إن رب العزة جل وعلا وصف بالغلو فى الكفر من زعم أن المسيح ابن لله جل وعلا، فقال يعظهم  فى خطاب مباشر لهم : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِوَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171)) النساء ) ، وقال أيضا (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) المائدة ) الى أن يقول جل وعلا:( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)  ) المائدة ).

هم موصوفون بالغلو بسبب زعمهم أن المسيح ابن لله جل وعلا . فكيف بالصوفية ؟

3 ــ ومع هذا يعتقد بعض السفهاء من المحمديين بوجوب نشر الاسلام بين المسيحيين . أليس من الأولى نشر الاسلام بين المحمديين ؟ .!!

 



[1]
- اللمع 19 ، 40 .

[2] - إحياء جـ4/ 252 ، جـ 2 / 138 .

[3] - تعريف الإحياء 47 على هامش الإحياء.

[4] - إحياء  جـ2 / 226 :227 .

[5] - إحياء جـ4 / 266 .

[6] - إحياء جـ4/ 266 .

[7] - إحياء جـ4 / 227 ، 228 .

[8] - إحياء جـ 4 / 308 .

[9] - إحياء جـ4 /301 .

[10] - رياض الرياحين 36 .

كتاب ( التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية
يقع فى ثلاثة أجزاء تتناول بعد التمهيد أثر التصوف فى العقائد الدينية والعبادات الدينية والحياة الأخلاقية فى مصر العصر المملوكى . تعطى مقدمة الكتاب لمحة عن أصل هذا الكتاب ، وأنه كان ضمن الأجزاء المحذوفة من رسالة الدكتوراة التى قدمها المؤلف للمناقشة حين كان مدرسا مساعدا فى قسم التاريخ الاسلامى بجامعة الأزهر عام ذ977 ، ورفضوها وبعد إضطهاد دام ثلاث سنوات تم الاتفاق على حذف ثلثى الرسالة ، ونوقش ثلثها فقط ، وحصل به الباحث على درجة الدكتوراة بمرتبة الشرق الأولى فى اكتوبر 1980 . من الأجزاء المحذوفة من الرسالة ينشر المؤلف هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة ، يوضخ فيه أثر التصوف فى مصر المملوكية ويعرض فيه عقائد التصوف
more