رقم ( 4 )
التمهيد : التصوف عقيدة وتاريخاً

 

(التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )(648 ـ 921 هـ /  1250 ـ 1517 م )      

 التمهيد : التصوف عقيدة وتاريخاً

أولاً:  لمحة عن التصوف عقيدة : ماهية التصوف . تعريفات التصوف . -اشتقاقات التصوف. مصادر التصوف .- هل يمكن أن يكون .الإسلام مصدراً للتصوف عند المسلمين ؟

ثانياً :لمحة عن التصوف تاريخا : بداية التصوف وانتشاره في الدولة الإسلامية ــ بين الزهد والتصوف . - بداية التصوف . انتشار التصوف في العالم (الإسلامي).  سيطرة التصوف علي العصر المملوكي .

                التصوف عقيدة  

أولاً: ماهية التصوف :.

* تعريفات التصوف :

 1-  يقول القشيري ( تكلم الناس في التصوف ، ما معناه، وفى الصوفي من هو، فكلعبر عما وقع له ، واستقصاء جميعه يخرجنا عن المقصود من الإيجاز  وسنذكر بعض مقالاتهم فيه على التلويح .. سئل أبو محمد الحريري عن التصوف فقال : الدخول في كل خلق سني و الخروج من كل خلق دني، وقال أحدهم سمعت الجنيدي وقد سئل عنه فقال : هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به ، وقال الحسين بن منصور عن الصوفي : وحداني الذاتلا يقبله أحد، ولا يقبل أحداً) إلخ (1) .

فالقشيري يرى أن كل صوفي عرف التصوف تعريفاً ذاتياً ، أو بتعبيره ( فكل عبر بماوقع له)  ، ومعنى ذلك أن تتعدد تعريفات التصوف ، وتتكاثر بتكاثر الداخلين في ميدانالتصوف ، حتى أن القشيري أراح نفسه من ذكر تعريفات التصوف التي ذكرها الصوفية حتى العصر الذي عاشه فقال (واستقصاء جميعه يخرجنا عن المقصود من الإيجاز )، وقد مات  القشيري سنة 465 هجرية .

ومن الطبيعي أن تتعاظم تعريفات التصوف كثرة بعد زمن القشيري، وقد دخلالتصوف في دور  الانتشار، فيقول الحلبي  في القرن الحادي عشر ( في كلام بعض المشايخ في بيان ماهية التصوف أقوال تزيد عن ألف قول)(2). أي بلغت تعريفاته عند  بعضالمشايخ أكثر من ألف .. فكيف تبلغ عند كل المشايخ ، وردد  د./ عبد الحليم  محمود قولالحلبي في تعريفات التصوف ، وأنها (أربت عن الألف ، كما يقول مؤرخو التصوفالقدماء )(3).وأورد نيكلسون قائمة بتعريفات التصوف مرتبة ترتيباً زمنياً ، وذكر بعضها بالعربيةوالفارسية (4) . ولا يزال الباب مفتوحاً على مصراعيه لتعريف التصوف عند الصوفية فيقول صوفي معاصر هو أبو الوفا التفتازاني (التصوف فلسفة حياة تهدف إلى الترقي بالنفسأخلاقياً ، وتتحقق بواسطة رياضيات عملية تؤدى إلى الشعور في بعض الأحيان بالفناء فيالحقيقة الأسمى. والعرفان بها ذوقاً لا عقلاً، وثمرتها السعادة الروحية ، ويصعب التعبيرعن حقيقتها بألفاظ اللغة العادية لأنها وجدانية الطابع والذاتية)(5).

2ـ  وحاول دارسو التصوف أن يجدوا تعليلاً وتفسيراً لهذه الكثرة الكاثرة منالتعريفات الصوفية للتصوف ، والقشيري أسبق في الإشارة إلى أن كل صوفي يعبر عنذاته في تعريفه للتصوف .

وقد أوضح أبو العلا عفيفي ما أجمله القشيري ، فيقول عن تعريفات التصوف : ( قد يكون للصوفي الواحد أكثر من تعريف للتصوف من غير أن يربط بينها رابط وذلك لأن الصوفي " ابن وقته "  فهو ينطق في كل وقت بما يغلب عليه الحال في ذلك الوقت . نعم قديقال إن الغالب على تصوف ذي النون المصري الكلام في المعرفة ، وفى تصوف أبى يزيد البسطامي الكلام في الفناء، وفى تصوف رابعة العدوية الكلام في المحبة ، وفى تصوفشقيق البلخي الكلام في التوكل ، وفى تصوف الجنيد الكلام في التوحيد، ولكن ليس معنى هذا إن تصوف كل من هؤلاء كان منحصراً في المعرفة أو الفناء أو المحبة أو التواكل إلخ . زد على ذلك إن بين التعريفات تداخلاً جزئياً أو كلياً وبعضها يكرر معاني البعض الآخربعبارات مختلفة ، وهو ما يجعل خضوعها للتصنيف العلمي أمراً عسيراً)(6) .

وما ذكره أبو العلا عفيفي يلخصه الباحث الإيراني "قاسم غني"  القائل (التصوفأمر قلبي، وهو من مقولة الأحاسيس الشخصية ، وكل واحد يعتبر التصوف هو ذلك الشيءالذي أدركه وأحس به ، ولا يمكن وصف حقيقة التصوف بتعريف عام جامع مانع يتفق عليه الجميع ) (7).

ويخرج أبو الوفا التفتازاني بتعليل جديد لاختلاف الصوفية في تعريف مذهبهم الصوفي يقول ( .. على أن كلمة تصوف ـ وإن كانت من الكلمات الشائعة ـ إلا أنها في نفس الوقت من الكلمات الغامضة ، والتي تتعدد مفهوماتها وتتباين أحياناً ، والسبب فيذلك أن التصوف خط مشترك بين ديانات وفلسفات وحضارات متباينة في عصور مختلفة ، ومن الطبيعي أن يعبر كل صوفي عن تجربته في إطار ما يسود مجتمعه من عقائد  وأفكار، ويخضع أيضاً لما يسود حضارة عصره من اضمحلال وازدهار، وتبدو التجربة الصوفية واحدة من جوهرها، ولكن الاختلاف بين صوفي وآخر راجع أساساً إلى تفسير التجربة ذاتها المتأثرة بالحضارة التي ينتمي إليها كل واحد منهما ) (8).

 واستعراض شتى تعريفات التصوف وتحليلها يخرج بنا عن الالتزام بالاختصار، إذأنها جميعا لا تخرج عن الإطار الذي عرضنا له ، ثم أن القائلين في تعريفات التصوفوشرحها إما صوفية (يعتقدون شيئاً لا يتفقون على مجرد التعريف به )، وإما فلاسفةعلمانيون كأبي العلا عفيفي ، وقاسم غنى ـ لا يفهمون الإسلام كما ينبغي، ويخلطون بينالإسلام والمسلمين على نحو ما سنوضحه في مفهوم التصوف وحقيقة  علاقته بالإسلام .

المفهوم الحقيقي

1ـ وضح من العرض السابق أن تعريفات التصوف لا تنتهي كثرة وتناقضاً واختلافاً . وأن كل صوفي يأتي لا يلتزم بتعريف من سبقه للتصوف فيأتي بتعريف جديدحتى أن (أبو الوفا التفتازاني ) ( وهو حىٌّ يرزق ) [1]،  خرج بمفهوم يرى أنه ( أكثر انطباقاًإلى مختلف أنواع التصوف )(9)، مما جعله يعدل  في تعريفه المبدئي للتصوف(10). ويأتيبالمفهوم الجديد الذي ذكرناه.

 ويقيناً فان أشياخ التصوف الآخرين المعاصرين لن يوافقوا على تعريفه للتصوفحتى وإن كانوا أقل ثقافة ( أو تصوفاً) منه ، ذلك أن لكل صوفي  ( تجربته الخاصة )التي يعبر عنها كما يقول التفتازاني نفسه . أو بتعبير الصوفية لكل صوفي (ذوقه ) أو بتعبيرنا ( لكلمنهم هواه ) .

 فالهوى هو الأساس في اختلاف الصوفية في تعريف أهم الأشياء لديهم . وهو التصوف الذي به يدينون ويوصفون . وقد يسمون الهوى (ذوقاً) عند الأقدمين أو ( تجربة ) كما عند المحدثين ، إلا أن الهوىهو المعيار الذي نفسر به حقيقة التصوف ، ولنا في ذلك دليلنا العقلي و النقلي :

 أولاً : فالتصوف ( عاطفة ووجدان ، وليس من قبيل المعرفة البرهانية ، وهو حالة سريعةالزوال ) ، وتلك سمات التصوف عند التفتازانى"11"، وقد أدخلها في مفهومه للتصوف حيثقال (.. والعرفان بها ذوقاً لا عقلاً .. لأنها وجدانية وذاتية ) . فالعقل خارج دائرة التصوف .وعداء الصوفية للعقل أمر مقرر .. وإذا غلبت العاطفة ( والوجدان والذوق والإحساس )،وحورب العقل تسلط الهوى وتناقض الإنسان مع نفسه حتى ( يكون للصوفي الواحد أكثرمن تعريف للتصوف ، من غير أن يربط بينهما رابط ، وذلك لأن الصوفي ابن وقته ، فهوينطق في كل وقت بما يغلب عليه الحال في ذلك الوقت ) ، على حد قول أبى العلا عفيفيالذي أوردناه . ولأنه "هوى" فكل صوفي يتعصب لهواه الذي يحس به في قلبه ، أو بتعبيرقاسم غنى فالتصوف (أمر قلبي وهو من مقولة الأحاسيس الشخصية، وكل واحد يعتبرالتصوف هو ذلك الشيء الذي أدركه وأحس به ، ولا يمكن وصف حقيقة التصوف بتعريفعام جامع مانع يتفق عليه الجميع ).

ثانياً : وقد جعل القرآن الكريم ( الهوى) نقيضاً للعقل ، ودعا لاستعمال العقل للوصولبه للإيمان الخالص بالله وحده ، وتكرر في القرآن الكريم (أفلا تعقلون ) (لعلكم تعقلون )،ووصف المشركين بأنهم (لا يعقلون ) وبأنهم يتبعون الهوى بلا عقل ({أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً  ؟. أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً }الفرقان 43 ،44 .ولأن كل منهم يعبد هواه وينكر عقله فقد تفرقوا شيعاً وأحزاباً وطرقاً ، ومن الملاحظأن الاختلاف سمة أساسية للتصوف يشمل كل شيء من تعريفه إلى اشتقاقاته ورسومهوشكلياته ، حتى يحتسب عمر الشقاق بين الصوفية  بعمر التصوف نفسه ، بل ومرتبطاًبعقيدة التصوف نفسها، حتى أن رويم الصوفي يقول ما تزال الصوفية بخير ما تنافروا فإذا اصطلحوا فلا خير فيهم )"12".

2 ـ وما معنى سيطرة الهوى( أو الذوق أو الحال ) على فكرة الصوفي وعقيدته ؟إن التصوف كما يقول التفتازاني : ( نوعان أحدهما ديني والأخر فلسفي ، فالتصوفالديني ظاهرة مشتركة بين الأديان جميعا)"13".. ومعناه أن التصوف الديني  إذا سيطرعليه الهوى خالف الإسلام تبعاً لمفهوم القرآن الذي لا تقديس فيه إلا لله وحده ، ولا مكانفيه للاعتقاد  في الخرافات و الآلهة الأخرى وأنصاف الآلة . فالقرآن يجعل الدين إما إخلاصاً في الإيمانبالله وحده على أساس من العقل والعلم ، وإما شركاً قائماً على الهوى والتقليد والجهلوالعمى ، ولا وسطية هنا ، والعاقل بعد أن يصل بعقله وهداية ربه إلى الإيمان الخالص باللهوحده ولياً وشفيعاً ومشرعاً . فلن يكون هناك مجال للاختلاف بينه وبين إخوانه المؤمنين ،طالما يتحاكمون إلى كتاب الله ، ويرتضون حكم الله { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ) الشورى10 )، أما أصحاب الهوى  فهم في اختلاف  وشقاق يتكاثر بتكاثر الآلهة والأولياء والمشرعين الذين يشرعون ذلك الدين  بالهوى والعاطفة فتتشابك  الأهواء ويكون الاختلافوالتنازع هو الخير عند أصحاب ذلك الدين ،  كما يقول رويم ( ما تزال الصوفية بخير ماتنافروا فإذا اصطلحوا فلا خير فيهم ).

 ويقرر التفتازاني  أن التصوف الديني  ظاهرة مشتركة بين الأديان جميعاً سواء فيذلك الأديان السماوية أوالأديان الشرقية القديمة .. أي أن التصوف وجد إلى جانباليهودية والنصرانية وأديان الفرس والهنود والصينيين، وتلك حقيقة تاريخية نجد صدىلها في القرآن الكريم في حديثه عن بعض أهل الكتاب ممن حادوا عن الطريق  وارتدوا منبعد ما جاءتهم البينان ، فاشتد  بينهم الاختلاف( وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ  :البينة:4) ويقول عن اليهود من بعد موسى (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ  هود 110 . فصلت 45 ) ، ولمحو هذا الخلاف  جاء عيسى (قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ: الزخرف63 ) ثم اختلفوا من بعد عيسى (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ: مريم 37 )، ثم جاءت الرسالة الخاتمة  بالقرآن لتدعو إلى الإيمان الخالص بالله وحده وإلى نبذ الخلافات والأهواء حتى بينأصحاب الكتب السابقة ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ :النمل 76 ). ووقع المسلمون فيما وقع فيه أهل الكتاب .

 والتصوف اليهودي والتصوف المسيحي كلاهما مسئول عن الزيغ الذي وقع فيه أهلالكتب ، فجاء القرآن ليوضح الطريق ، إلا إن أحفاد أهل الكتاب في العصر الإسلامي أبو إلا الرجوع إلى سنن الآباء، فعاد التصوف يطل برأسه يعززه الهوى وحب التراثوالمأثورات الوطنية والشعبية.  وقد تنهزم العقائد الشعبية وتنحسر مؤقتاً، إلا أن الضمير الشعبي يحافظ عليها مستورة حتى تعود إلى الظهور تحت رداء جديد لتحمل عنوان الدينالسائد وتجد من يدافع عنها ويربطها بالإسلام ، وهكذا كان مولد التصوف في الشاموالعراق ومصر في القرن الثالث الهجري.

ولعل من المفيد أن نسترجع كلمات التفتازاني ( إن التصوف خط مشترك بين دياناتوفلسفات وحضارات متباينة في عصور مختلفة ، ومن الطبيعي أن يعبر عن تجربته فيإطار ما يسود مجتمعه من أفكار).

 

 

اشتقاقات التصوف

*  الاختلاف قائم هنا أيضاً في اشتقاقات لفظ التصوف .

يقول القشيري ( وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ، والاشتقاق والأظهرفيه أنه كاللقب ، فأما قول من قال إنه من الصوف وتصوف إذا لبس الصوف كما يقالتقمص إذا لبس القميص فذلك وجه ، ولكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف ،ومن قال أنهممنسبون إلى صفة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فالنسبة إلى الصفة لا تجيءعلى نحو الصوفي، ومن قال أنه من الصفاء فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد في مقتضى اللغة ، وقول من قال أنه مشتق من الصف فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم منحيث المحاضرة من الله تعالى فالمعنى صحيح ولكن اللغة لا تقتضى هذه النسبة إلى الصف . ثم أن هذه الطائفة أشهر من أن تحتاج في تعيينهم  إلي قياس لفظواستحقاق اشتقاق )(15) . القشيري أراح نفسه من الترجيح بين الآراء مع إثباته فضل الصوفية المراد بين هذه الاشتقاقات . وفى نفس الوقت نفى صحة هذه الاشتقاقات من حيث اللغة.

وناقش ابن الجوزي الآراء المختلفة في اشتقاقات التصوف ، ورجح أن تكون النسبةإلى رجل جاهلي أسمه صوفة اعتكف في البيت الحرام(16). وممن ارجع التصوف إلىالصوف ( لباس الزاهدين ) : ابن تيمية (7ا) في العصر المملوكي، ثم زكي مبارك (8ا).ونيكلسون (9ا)، و التفتازاني (20) في العصر الحديث .

ويقول باحث ( لا نجد علما يشغل البحث في اشتقاق اسمه ومعناه بمثل ما يشغلهالتصوف . هل يرد اللفظ إلى الصفاء، أو إلى الصف ، أو أهل الصفة ، أو إلى شخصجاهلي اسمه صوفة ، أو إلى نبتة صحراوية تسمى صوفانا ، أو إلى الصوف ، أو إلى اللفظاليوناني صوفيا الذي يعني الحكمة )(21).

وأقول أن اشتقاق كلمة التصوف أتى من الكلمة اليونانية ((sophy، ومن يقرأ كتاب( آباء مدرسة الإسكندرية الأوائل ) يجد الدليل على أن تصوف المسلمين  كان متأثر أشد التأثر بالتصوف اليوناني المسيحي قبل الإسلام ، وفى هذا الكتاب الذي أصدرته الكليةاللاهوتية بالإسكندرية توضيح  ـــــ بدون قصد ـــــ  للجذور التي استقى منها الغزالي وابن عربي والرواد الصوفية عناصر فلسفتهم ، وفي أن كلمة غنوص تعني العارف وغنوصية تعنى المعرفة ، وقد ترجمت الكلمتان وأطلقتا على الولي العارف ، وعلى ( علم التصوف) . أو المعرفة الصوفية ، بينما بقيت الكلمة اليونانية (sophy) صوفي كما هي بنفس اللفظ والمعنى القريب من غنوصي.

ويعنينا من هذا كله أن التصوف منذ ظهوره في تاريخ المسلمين في  القرن الثالثالهجري وحتى الآن ، لم يجد اتفاقاً حول اشتقاقه اللغوي في لغة عربية تمتاز بأنها قياسيةفي قواعدها النحوية والصرفية ، وهذا منطقي في دين  جديد يحاول أن يصل نفسه بالدين الرسمى المعلن ،  ويعانى من خلاف مستحكم بين أتباعه  في الداخل، دين يقوم على الهوى وذوقالأشياخ .

مصادر التصوف

انتقلت عدوى الاختلاف إلى دارسي التصوف من المستشرقين في تحديد مصادر التصوف .

 1ـ فمنهم من ردّ التصوف إلي مصدر فارسي مجوسي مثل ثولك ، ودليله أن كثيراً من المجوس بقى على دينه بعد الفتح الإسلامي، وظهر من أبنائهم كبار الصوفية الأوائلمثل معروف الكرخي و البسطامي، وقد رد التفتازاني على هذا الرأى بأن ( ازدهارالتصوف لم يكن ثمرة لجهود أولئك فحسب ، وإنما أعان على ازدهار التصوف كذلك عددليس بالقليل من الصوفية العرب ، نذكر منهم الداراني وذا النون المصري ومحيي الدين بنعربي وعمر بن الفارض وابن عطاء السكندري)(22). و التفتازاني يغالط في رده ، فالحديث هنا عن مصدر التصوف وبدايته لا عن ازدهارهوتطوره، ثم إن ذا النون المصري لم يكن عربياً وليس له نسب أو ولاء في العرب وإنما هونوبي قبطي، أما ابن عربي وابن الفارض وابن عطاء فقد جاءوا في القرنين السابع والثامن للهجرة ، حيث اختلطت الأنساب وشاع انتساب الأولياء الصوفية لآل البيت ليكونوا أشرافاذوى نسب يصلهم بعلي ومحمد عليه السلام ، ثم أنهم ليسوا مصدرا وروادا للتصوف فقد بدأالتصوف قبلهم بأربعة قرون .

2 - ومنهم من أرجع التصوف إلى مصدر مسيحي، بحجة وجود الصلة بينالنصارى والعرب قبل وبعد ظهور الإسلام ووجود الشبه بين الصوفية والرهبان ، ومنأصحاب هذا الرأي : ( فون كريمر، و جولد زيهر، ونيكلسون وبلاتيوس ، وأوليرى)، ويقولالتفتازاني معلقا ( ونحن وإن كنا لا ننكر تأثر بعض الصوفية المتفلسفين بالمسيحية ، علىنحو ما نجد عند الحلاج الذي استخدم في تصوفه اصطلاحات مسيحية كالكلمة واللاهوتو الناسوت وما إليها ، ولكن هذا لم يظهر إلا في وقت متأخر، أواخر القرن الثالث الهجري) (23).

ومع أن التفتازاني يسلم بالتأثر بالمسيحية إلا أنه يستمر في مغالطته ، حين يستشهدباصطلاحات الحلاج المسيحية ويقول أنها لم تظهر إلا في وقت متأخر أواخر القرن الثالثالهجري، مع أن بداية التصوف هي في القرن الثالث الهجري نفسه فكيف يعتبره وقتاً متأخراً ؟ !!.. بل إنه يقول ( شهد القرن الثالث بداية تكون علم التصوف بمعناه الدقيق )(24)!!وتكمن الطرافة في أن التفتازاني جعل أبن عربي وابن الفارض وابن عطاء مصادر للتصوف وهم عاشوا في القرنين السابع والثامن ثم يجعل الحلاج المقتول 301 هجرية يظهر في وقت متأخر وليس من متقدمي الصوفية !!

3- ومنهم من قال بالمصدر الهندي مثل هورتن وهارتمان وكانت لهم أسانيدهم ،يقول التفتازاني (ومما هو جدير بالذكر إنني لم أعثر على نصوص صريحة تدل علىمعرفة صوفية المسلمين بعقائد الهنود ورياضتهم إلا عند الصوفي المتفلسف عبد الحق ابنسبعين )(25).

 4 - وقال بالمصدر اليوناني كثرة من المستشرقين ، يقول التفتازاني (ونحن لا نذكر الأثر اليوناني على التصوف الإسلامي، فقد وصلت الفلسفة اليونانية عامة والأفلاطونية المحدثة خاصة إلى صوفية الإسلام عن طريق الترجمة والنقل أو الاختلاط مع رهبان النصارى .. وليس من شك في أن فلسفة أفلوطين السكندري التي تعتبر أن المعرفة مدركةبالمشاهدة في حالة الغيبة عن النفس وعن العالم المحسوس كان لها أثرها في التصوف الإسلامي، فيما نجده من كلام متفلسفي الصوفية عن المعرفة.  وكذلك كان لنظرية أفلوطينالسكندري في الفيض وترتيب الموجودات، عن الواحد أو الأول أثرها على الصوفيةالمتفلسفين من أصحاب وحدة الوجود كالسهروردي المقتول ، ومحيى الدين بن عربي وابنالفارض وعبد الحق بن سبعين وعبد الكريم الجيلي ومن نحا نحوهم ، ونلاحظ بعد ذلك أنأولئك المتفلسفة من الصوفية نتيجة اطلاعهم علي الفلسفة اليونانية قد اصطنعوا كثيرا منمصطلحات هذه الفلسفة مثل : الكلمة ، الواحد، العقل الأول ، العقل الكلى، العلة والمعلول الكلى..(26). وحسنا إذ اعترف التفتازاني بالمصدر اليوناني بالتصوف عند المسلمين  إذ أنه بذلكيثبت المصدر المسيحي الذي حاول إنكاره من قبل ، إذ أن مدرسة أفلوطين السكندري تمثلالمسيحية كما تمثل اليونانية .

ونقول : إنّ من الخطأ إرجاع التصوف إلي مصدر بعينه ، فكل صوفي تأثر بنشأتهوثقافته ، وعليه يمكن القول بأن مصادر التصوف لدى المسلمين تتعدد بتعدد ثقافاتهم وبيئاتهم ، وعندي أنه يمكن اعتبار الفرعونية مصدرا للتصوف للمسلمين المصريين خاصة ، فقد كان لذي النون المصري اهتمامات و تطواف بالبراري والمعابد الفرعونية أشار إليها المقريزي (27)  والمسعودي (28)..

 

 هل يمكن أن يكون الإسلام مصدرا للتصوف عند المسلمين ؟

 

 1ـ  شاع بين الناس أن التصوف فرع من الإسلام ، أو هو الإسلام ، أو هو ذروةالإسلام ، ويقول تعالى (..الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً.. المائدة 3)  ومعناه أن دين الله قد اكتمل بنزول القرآن وتمامه ، فلا مجال لأيبشر في أن يضيف لدين أكمله الله وحياً من السماء وإكتمل بإنتهاء القرآن الكريم نزولا وموت النبى عليه السلام ، فالتصوف إن كان يضيف للإسلامشيئا فذلك غير مقبول ، لأن تلك الإضافة إن كانت ضمن ما قرره القرآن فلا تعد إضافةلأنها موجودة من قبل ، وإن كانت تلك الإضافة مختلفة عما قرره القرآن فهي مرفوضةوليست من الإسلام في شيء. إن التصوف إذا اتفق مع الإسلام في شيء فلا حاجة بناللتصوف لأن لدينا الأصل وهو الإسلام دين الله ، والله سيحاسبنا على ذلك الأصل الذيأنزله ( وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ  الأنعام 135).

وإن كان التصوف يختلف مع الإسلام فلا حاجة بنا لذلك التصوف الذي يبعدنا عنديننا الذي ارتضاه لنا ربنا . إنها قضية واضحة لا تحتمل التوسط ، فإما إسلام فقط وإماتصوف ، إما حق وإما باطل ، ولا وسطية . (فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ ؟.. يونس 32 )  إما قرآن فقط وإما أتباع للضلال  (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء ..الأعراف3).

2ـ وبداية الاختلاف  بين الإسلام والتصوف تكمن في أساس التشريع  ففي الإسلامأساس التشريع لله وحده والقرآن الكريم يحكم على النبي والمسلمين ، أما التصوففالشيخ الصوفي هو المشرع لأتباعه حسبما يوجهه هواه أو ذوقه أو حاله . وهم حين يضفونعلى ذلك التشريع البشرى سمة الشرعية يدعون أن الصوفي أوتى الكشف أو العلماللدني من الله أو الوحي الإلهي، مع أنه لا وحى في الدين بعد اكتمال نزول القرآن.

وإضفاء الوحي والكشف والكرامة إلى الصوفي معناه الدعوة إلى تقديسه والتماس بركتهفي الدنيا وشفاعته في الآخرة ، وتلك سمة الاختلاف الرئيسية بين التصوفوالإسلام ، حيث يكون لله وحده علم الغيب والشفاعة والتصريف في الدنيا والآخرة ، إلا أننا لا نجد صوفياً إلا وادعى لنفسه أو لشيخه لوازم التصوف من الولاية والكرامات والعلماللدني ودعا الآخرين للاعتقاد فيه ، مع أن الاعتقاد لا يكون إلا في الله وحده إلها ووليامقدسا. نطلب منه المدد والعون ، نطلب ذلك منه وحده ،لا شريك له جل وعلا.

وذروة الاختلاف بين الإسلام والتصوف تكمن في العقيدة الأساسية في كل منهما ،فعقيدة الإسلام لا إله إلا الله (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.. محمد  19 ) والله الإله الواحد، لا يشبه أحدا من خلقه ، ولا يشبهه احد من خلقه (..لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ..الشورى 11 )  وصفات الله لايوصف بها غيره ، فالله واحد في ذاته ، واحد في صفاته ، إذا هو أحد متفرد عن باقي خلقه ( قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد). أما عقيدة التصوفالحقيقية فهي (لا موجود إلا الله )  أو ما يعرف بوحدة الوجود والتي تعنى أن العالم جزء

من الله، وانه لا فارق بين الخالق والمخلوق ، وأن الخلق امتداد وفيض من الخالق ، وأن علاقة الخالق والمخلوق  كمثل البحر وأمواجه ، والصوفي الحق هو الذي يدرك ذلك ويهتكالحجاب ويعلن اتحاده بالله أو حلول الله فيه . وبالقطع فهذه العقيدة تناقض عقيدة القرآن .

3ـ  ولفظ التصوف لم يرد في القرآن الكريم ، اللهم إلا إشارة للرهبنة ليست فيصالح المتصوفة الذين يحاولون ربط التصوف بالرهبنة والزهد، يقول تعالى : (.. وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ .. الحديد 27 )، ولم يجرؤ وضاع الأحاديث المزيفة على كتابة حديثفيه لفظ التصوف ، لعلمهم أن ذلك لم يكن معروفا في الجزيرة العربية وقت ظهور الإسلام ،واكتفوا بوضع أحاديث فيها لفظ الفقر والفقراء، حيث كان الفقر يدل عُرفا على التصوففي عصرهم ، مع دلالة الفقر على الاحتياج للمال في كل عصر.وورد لفظ التصوف لأول مرة في تراث المسلمين في كتاب الجاحظ ( البيانوالتبيين)(27). وقد كان ابن خلدون أقرب للصواب حين قال عن التصوف أنه ( من العلومالحادثة في الملة )(30)، وخطأ ابن خلدون في أنه اعتبر التصوف علما ، وليس التصوفبعلم ، حيث لا عقل فيه ولا منهج ، وإنما هو ذوق وهوى، ودين جديد  يخالف الإسلام ، وقدظهر بعده بقرنين .

4- والتصوف نوعان : (احدهما ديني والآخر فلسفي ) كما يقول التفتازاني، وإذاكان التصوف الديني يناقض دين الإسلام الذي لا مجال فيه لتقديس غير الله ، فإنالتصوف الفلسفي مرفوض أيضاً، لأن الفلسفة الدينية للتصوف  تعزز بالجدل أفكارالتصوف الديني ، والتصوف الديني أدخل مصطلحات دينية مستحدثة في الحياة الدينيةللمسلمين لم يعرفها المسلمون الأوائل حين كان الإسلام نقيا في الجزيرة العربية .

 ومن المصطلحات الدينية الجديدة التي استحدثها دين التصوف : الكرامة ، المريد، المقام ،الوقت  الحال ، القبض ، الصحو والسكر ، الذوق  الشرب ، المحو والإثبات ، الستر والتجلي،المحاضرة والمكاشفة ، الحقيقة والطريقة ، الوارد، الشاهد، السر، المجاهدة ، الخلوة ، الزهد،الولاية ، .. الخ ، ولكل منها مدلول  في دين التصوف ، وسطرت في ذلك الكتب ،وبالطبع هم مختلفون في معناها وعددها.

وبعض هذه الألفاظ كان مستعملاً في الإسلام بغير ما يقصده الصوفية ، إلا أنهمأولوها واستحدثوا لها مدلولات جديدة تخرج عن الإسلام مثل (الولي والولاية ). وموضوعات التصوف الديني والفلسفي  تتمثل في الشطحات ، وأحوال الفناء والحلولوالاتحاد والتحقق بالحق ، والإشراق ، وهى تخرج عن نطاق الإسلام عقيدة وعلما وفكرا.

5 - وقد وضح من عرض مصادر التصوف أنه تأثر بمصادر مجوسية وهنديةومسيحية ويونانية ، فكيف يكون ذلك الوليد ذو الآباء الكثيرين ابنا للإسلام الذي لا مصدر له إلا القرآن الكريم ؟   وهل كان الإسلام في حاجة  إلى أن يكمله المجوس وعباد البقر والوثنيون ؟

6- ويرى أبو العلا عفيفي أن القرآن الكريم - عن طريق تأويل آياته - والأحاديث،مع علم الكلام ، من مصادر التصوف الإسلامي(31) أي اصطناع مصدر للتصوف يكونإسلاميا، بتأويل القرآن وتأليف الأحاديث ونظريات الفلسفة أو علم الكلام، وكل ذلك جهدبشرى يحاول ربط التصوف بالإسلام . وتأويل القرآن وزر يقع علي من ارتكبه  وهناك منالأحاديث الموضوعة لخدمة التصوف ما يملأ حمل بعير، ولا يصح أن تكون حجة لمن يستشهد بها ، وأماجهد علماء الكلام البشرى فليست حجة على الإسلام في شيء ، وعلم الكلام في حقيقته يدينللفلسفة اليونانية أكثر مما يدين للإسلام .  والغريب أن أبا العلا عفيفي يعود و يعترف أنالإسلام لا يمكن أن يكون دينا صوفيا ( وما كان ليصير دينا صوفيا لو أنه ظل محصورافي الجزيرة العربية ، لأنه دين يخاطب العقل أكثر مما يخاطب الوجدان ، ويدعو للنظر فيخلق السماوات والأرض ليستدل الناظر بما يشاهده على قدرة الله ووحدانيته ، لا ليؤديهتأمله في العلم وفى نفسه إلى إنكار ذاته وفنائه في الله والاتحاد به عن طريق الفناء، كمايقول الصوفية )، ويرى أن الإسلام ( بعقيدته البسيطة في الوحدانية التي يقتنع بها العقلبفطريته لم يكن ليظهر عنه تصوف وما في التصوف من نظريات معقدة .. فلم يلق الإسلامداخل الجزيرة العربية تأويلاً فلسفياً ولا صوفياً. ولكن بدخول أهل الحضارات والدياناتتناولوه  بالتفسير والتأويل )(32). ومبعث التناقض لدى أبى العلا عفيفي هو في الخلط بينالإسلام كدين إلهي وبين المسلمين كأشخاص ، وواضح أن الإسلام شيء والشعوب التياعتنقته شيء آخر، وأرى أنه من الأنسب أن يقال ( تصوف المسلمين ) لا (التصوفالإسلامي ) لأن التصوف والإسلام نقيضان لا يمكن الجمع يبنهما .

 

 

 

  لمحة عن التصوف تاريخاً

( بين الزهد والتصوف ـ بداية التصوف ـ انتشاره ـ سيطرته على العصر المملوكي)

بين الزهد والتصوف:

1 ــ اعتبر الكثيرون  أن الزهد مرحلة انتقالية أدت إلى ظهور التصوف في القرن الثالثالهجري ومنهم ابن الجوزي الذي فرق بين الزهد  والتصوف (.. إلا أن الصوفية انفردواعن الزهاد  بصفات وأحوال - .. والتصوف طريقة كان ابتداؤها الزهد الكلى )(33)و التفتازاني ـ الصوفي والباحث المعاصر - جعل للزهد مراحل ووصل بها إلى مرحلةاعتبرها بين الزهد والتصوف ، عد من روادها إبراهيم بن ادهم والفضيل بن عياضورابعة العدوية ، ولم يعتبرهم  صوفية بالمعنى الدقيق للتصوف  الذي ظهر في القرنالثالث(34).

2 ــ ومع تمسكنا بوجود فروق أساسية بين الزهد والتصوف ، إلا أننا نعتقد في أن لكلمن الزهد والتصوف عوامله الخاصة التي ساعدت على نشأته وتطوره منفردا عن الآخر.

3 ــ ودليلنا في استقلالية نشأة الزهد عن التصوف هو استمرار الزهاد. بمعزل عن الصوفية ،وقد عاب الغزالي علي زهاد عصره مغالاتهم في الصلاة والصوم والأمر بالمعروف والنهيعن المنكر احتسابا وتشديدهم في أعمال الجوارح (36)،وفى نفس الوقت الذي هاجم فيهالصوفية المعاصرين له بصفات تناقض ما اشتهر به الزهاد فرمى الصوفية المنكرينللفرائض بدعوى وصولهم. للحق واتحادهم به (37)، مما يدل على أن الفارق جوهري بين الطائفتين في المعتقدات والسلوك . فالزهاد يتشددون في الصلاة ، والصوفية  ينكرونها لأنهمجزء من الله .

وقد تميز عصر الغزالي بتقرير التصوف ، ولو كان الزهد حركة انتقالية أدت للتصوفلذاب الزهاد في الحركة الصوفية الجديدة المعترف بها ولأنتقلت حركة الزهد إلى متحفالتاريخ عندما توطدت حركة التصوف ، وتاريخيا فقد استمر الزهد منفصلا عن تيار التصوف  الآخذ في الانتشار . ومع تناقض الزهاد بمرور الزمن فقد ظل وجودهم قائما حتى بعد أنتمت للتصوف السيادة المطلقة في العصر العثماني، فالجبرتي مثلا يذكر زاهدا في القرنالثاني عشر الهجري هو الشيخ مصطفى العزيزي ت1154 ، وقال فيه ( كان ازهد أهل زمانه في الورع والتقشف في المأكل والملبس والتواضع وحسن الأخلاق ولا يرى لنفسهمقاما .. ولا يرضي للناس بتقبيل يده، ويكره ذلك ، فإذا تكامل حضور الجماعة وتحلقواحضر من بيته ودخل إلى محل جلوسه بوسط الحلقة فلا يقوم لدخوله أحد..  وإذا تمالدرس قام في الحال ، وذهب إلي داره )(38) . وكان أغلب الزهاد في العصر المملوكي منالعلماء الفقهاء الذين كانت لهم سمات تخالف الصفات الكلاسيكية للشيخ الصوفي.

ثم إن الزهد لم يلق في مولده ما لاقاه التصوف من إنكار مما يدل على اختلاف طبيعتهما إلى درجة لا يقبل معها أن يكون أحدهما حركة انتقالية للآخر، فقد بدأ التصوف بالشطح أو إعلان الكفر الصوفي مما أدى لاضطهاد رواد التصوف ، بينما حظي رواد الزهد بإعجابالعامة وعطف الخاصة حيث تركوا متاع الدنيا الذي تقاتل حوله الجميع .

4 ــ والصوفية الأوائل هم سبب الخلط بين التصوف والزهد، إذ أنهم في اندفاعهم لتقرير مذهبهم وحمايتهم من المجتمع الذي يضطهدهم جعلوا من أوائل الزهاد المسلمين رواداللتصوف ، مع أنه لم تحفظ عن أولئك الزهاد شطحات ، مثل الحسن البصري وسفيانالثوري وسعيد بن جبير، وأولئك كانوا يتمتعون بتقدير؛ طمع الصوفية في أن ينالهم منهشيء.

5 ـــ  ومع انتشار الزهد فقد ظل سلوكا مجردا حتى جاء الصوفية فاهتموا بتقعيدهوتعريفه ليصلوه بالتصوف ، فكان أن حلت لعنة الخلاف والاختلاف على مفاهيم الزهد طبقا لعادة الصوفية في ( الاتفاق على الاختلاف ) حول كل شيء، يقول القشيري أن الصوفيةتكلموا في معنى الزهد ( فكل نطق عن وقته وأشار إلي حده )(39)، وجاء الغزالي فأوردبعض أقاويلهم ثم حاول أن يوفق بينها، ثم قال كالمتعب (.. وفى الزهد أقاويل وراء مانقلناه فلم نر في نقلها فائدة ، فإن من طلب كشف حقائق الأمور من أقاويل الناس رآهامختلفة فلا يستفيد إلا الحيرة )(39) ، وليصل الغزالي بين الزهد والتصوف قام بتقسيم الزهدإلى درجات ، الأولى : زهد الخائفين من العذاب ، والثانية : زهد الراغبين في الجنة ، ثم جعلالدرجة العليا : الزهد فيما عدا الله ، فلا يلتفت إلى جنة أو نار بل يستغرق في الله تعالى ويزهد ما عداه (40). وذلك التقسيم الصوفي ينافي الأساس الذي قام به الزهد الذي يعنىالخوف من النار والأمل في الجنة ، مما يؤكد الفارق الأصيل بين المذهبين .

6 ــ على أن هناك عوامل تربط بين الزهاد والصوفية ، أهمها في أن الرواد في الحركتينمن الموالى الذين تأثروا بالثقافة القومية لأوطانهم ، ومع ذلك يبقى الخلاف قائما بين مولدالحركتين وطبيعتهما.

7 ــ والواقع أن أسباب قيام حركة الزهد في العصر الأموى ترجع للظروف السياسية والاقتصادية والثقافية ، فقد عانت البلاد المفتوحة من مظالم الخلفاء الأمويين  وظلمهم للموالى، فاعتبر الموالى الخلفاء الأمويين لا يفترقون عن ملوك ما قبل الفتح العربى ، وقابلوا الوضع الجديد بما تعوده أسلافهم في الماضي، فقام الزهد الفلسفي المنظم كنوع من المقاومةالسلبية والاحتجاج الصامت ، وزاده ما تميز به الموالى من تفوق في العلم والثقافة بينماانشغل العرب فى العصر الأموى بالحكم والسياسة والحرب ، وليس من قبيل المصادفة بعد هذا أن يزدهر الزهد في الكوفة والبصرة بينما تنعم دمشق بالحكم والثروة ، ثم تمتلئ دمشق زهدا فى العصر العباسى بعدتحول الحكم والثروة عنها إلى بغداد. وظل الزهد قائما بعدها باستمرار الأسباب التي بعثته وهى استمرار الظلم والملك العضوض في الدولة العباسية ، وحتى مع تمتع بعض الموالى بوضع أفضل فى العصر العباسى فإن من شأن الملك العضوض القهر والبطش وسوء توزيعالثروة وحرمان الأكثرية ومعاناتهم .

8 ــ وقد حاولوا إضفاء المشروعية على الزهد، فانتشرت الأحاديث الموضوعة تبشربالمذهب الجديد، وأورد الغزالي بعضها في دعوته للزهد مثل ( من أراد أن يؤتيه الله علمابغير تعلم وهدى بغير هداية فليزهد في الدنيا)(ا4) ثم تطوع الغزالي بتأويل بعض الآياتلتتمشى مع مفهوم الزهد(42) وجعل عيسى ويحيى عليهما السلام من رواد الزهد، ولم يعد محمدا عليه السلام منهم لأنه كان يصوم ويفطر ويصلى وينام ويتزوج النساء، وفى القرآن آيات تفيد ذلك .

9 ــ ودين الإسلام ليس مسئولا عن الظروف التي سببت قيام الزهد. ولا علاقة بينالإسلام والزهد، فلم يرد لفظ الزهد في القرآن الكريم إلا مرة واحدة (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ (20) يوسف  ). ولا تعبر هذه الآية عن اصطلاح الزهد الديني، ولو كان الزهد رافدا من مناهج الإسلام لفصّله القرآن الكريم ، إلا أن الزهديخالف صريح القرآن الذي ينفى أساس الزهد في قوله تعالى () قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) الأعراف ). فهنا إنكار على من حرم الطيبات على نفسه تمسكا بالزهد، وذلك هو ما نهى الله تعالى النبى عنه حين قال له : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ) التحريم1) وقوله تعالى للمؤمنين (ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ  :لمائدة 87) بيد أن المؤمن مطالب بالاعتدال وعدم الإسراف { يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }  الأعراف31).

10 ــ ثم إن التطورات السياسية الأموية لم تخترع حركة الرهبنة ولم تزرعها في العراق والشام ومصر، فتلك مناطق تعودت على الزهد قبل الفتح العربى ، بل إنهم بابتداعهمالزهد خرجوا عن رسالة المسيح عليه السلام ، يقول تعالى ( ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }الحديد27) فالزهد أو الرهبنة ابتداع في السلوك لا في العقيدة .

11 ــ ونعود للتصوف ، فقد بدأت جماعات الزهاد منتشرة بين الموالى تتمتع بعطف المجتمعوإعجابه ، فاتصل رواد التصوف بالزهاد واستفادوا منهم مع استقلالية كل حركة ، وليس هناك صدام بين الزهد والتصوف ، وإنما الصدام هو بين الإسلام والتصوفلأنهما دينان متناقضان .

 

بداية التصوف فى تاريخ المسلمين

 لنضع الأمور في نصابها الصحيح علينا أن نبدأ بالأساس الذي يتناقض فيه التصوف مع الإسلام . كل منهما دين له عقيدة وشعائر دينية . والأديان على تنوعها واختلافاتها  تنقسم إلي قسمين :

ا - دين الله الذي شرعه لخلقه وهو الإسلام الذي جاء به وحي السماء بكل اللغات (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ.).( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ...19، 85 آل عمران)، وهو يعنى الاستسلام الكامل لأوامر الله وحده وبكل اللغات .

2- الدين الأرضي الذي يخترعه البشر ويختلفون فيه حسب الهوى ، فيحرفون فيدين الله ويفترون عليه الكذب ويقدسون مع الله البشر من الرسل والأئمة ، وهذا هو الوثنية بالشرك أو الكفر العقيدى القلبى ، ولا فارق بينهما . ودين الله أسبق في الوجود في التاريخ الإنساني فقد فطر الله البشر على أن يسلموا له وحده (الأعراف 172 ،والروم 30 ) وكانآدم أبو البشر رسولا  لأولاده ( آل عمران 33) وتلاه الأنبياء يقولون نفس العقيدة لا إله إلا الله (الأنبياء 25)، ولكن باللغة التي ينطقونها ( ابراهيم 4 )، ثم قيلت باللغة العربية في الرسالةالخاتمة.( الشعراء 195 )

3 ــ وهناك قصة للصراع بين عقيدتي الإسلام الخالص والوثنية المشركة تكررت في تاريخ الأنبياء؛ فنوح عليه السلام تحمل الأذى حتى انتصر في النهاية ومعه قلة مؤمنة نجاها الله منالطوفان ، وتدور الأيام ، ويعود الشرك الوثنى إلى قلوب الأحفاد من الذرية مرتبطا بالبغى على الرسالة السماوية وبوقوع الاختلاف بين الناس فيرسل الله رسولا آخريلقى نفس الأذى فيصمد، وهو يذكر قومه بما حدث من الأسلاف السابقين (وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ...الأعراف69)، ويهلك الله قوم عاد وينجى النبي هودا ومن آمنمعه ، وتدور الأيام فيكفر الأحفاد، و يأتي منهم نبي جديد هو صالح الذي يقول لقومه (وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ ...الأعراف74)، وهكذا تستمر قصة الصراع بينالعقيدتين ، ينتصر الرسول ، ثم يعود الشرك  الوثنى بالبغى على الرسالة السماوية والشقاق بين الناس ، وتقديس البشر والحجر تحت دعاوى شتى منها حبالرسول نفسه وأصحابه ، حيث يتحول الحب إلى تقديس والتقديس إلى عبادة ، إلى أن يأتيرسول جديد تتكرر معه نفس القصة .

ثم جاء محمد خاتم الأنبياء ــ عليهم جميعا اللسلام ــ  بمعجزة القرآن الذي فصّل كل ملامح الشرك الوثنى ورد عليها، وقد حفظ الله هذا القرآن ليكون حجة على البشر إلىيوم القيامة ، خصوصا الذين كرروا مسيرة الانحراف والقرآن في أيديهم يؤولون آياته ويخترعون مناهج أخرى للدين ما أنزل الله بها من سلطان ، ويربطونها ظلما وزورا بالله جل وعلا ورسوله الكريم .

4 ــ أى إن قصة الصراع العقيدي بين الإسلام والوثنية الشركية لم تنته بانتصار خاتم النبيين عليهم السلام ، وإنما استمرت محاولات العقاند الشركية القديمة للظهور تحت إسم الإسلام ، وتخترع لها أديانا أرضية جديدة كالسّنة والتشيع والتصوف ، تتصارع فيما بينها وتتقسّم فى داخلها ــ شأن أهل الكتاب وأديانهم الأرضية قبل نزول القرآن الكريم وبعده حتى الآن .ـــ وكل منها يحتكر لنفسه الحقيقة المطلقة ويتهم الآخر بالكفر  .

5 ــ صحيح أنه ظهرت فى العصر العباسى الأول فرق فلسفية و كلامية ( أى من علم الكلام ) تبحث وتختلف فى العقائد ، وصيغت فيها مؤلفات فى ( الملل والنحل ) كتبها أبو الحسن الأشعرى و الشهرستانى و ابن حزم وقبلهم المالطى ، ولكن لا نعتبرها أديانا أرضية كالسّنة والتشيع والتصوف ، لأن هذه الفرق ـ وأشهرها المعتزلة والمرجئة ـ لم تزعم الوحى الالهى ، أى لم تنسب أقوالها زورا وكذبا لله جل وعلا أو للرسول فيما يُعرف بالحديث القدسى والحديث النبوى . كانوا يقولون آراءهم وينسبونها لأنفسهم ، ويجادلهم الآخرون على قدم المساواة ، بلا تقديس لإمام وشيخ ، وإعتباره إلااها أو نصف إله ، فظلوا فى إطار الفكر البشرى.

أما الدين الأرضى فيبدأ بزعم الوحى ونسبة تعاليمه وتشريعاته لله جل وعلا وتقديس أئمته وأربابه . وهذا  ينطبق على السّنة والتشيع والتصوف ، فهى أديان أرضية تؤله أئمتها وأولياءها وتنسب أقوالهم لله جل وعلا ورسوله ، وتعتبرها وحيا إلاهيا ، وتتهم من يرفضه بالكفر . غاية ما هنالك أن السنيين والشيعة ينسبون هذا الوحى المزعوم لله جل وعلا ورسوله  عبر إسناد وعنعنة ، أما أئمة الصوفية فيتطرفون فى الكذب، يزعمون أنهم يتلقون الوحى مباشرة من الله جل وعلا بلا واسطة .

6 ــ وبهذا تحقق فى ( المسلمين ) بعد موت النبى محمد عليه السلام بقرنين وأكثر ما أخبر به رب العزة عن أهل الكتاب وبنى إسرائيل الذين إختلفوا من بعد ما جاءهم العلم ( الالهى ) أو الرسالة الالهية ، فبغوا عليه بالتقول أو الوحى الكاذب على الله جل وعلا ورسوله ، وخرجوا بذلك عن ( الاسلام ) الذى هو دين الله جل وعلا :( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)  آل عمران )

7 ــ وقد بدأت أولى المحاولات الشركية للظهور مباشرة بعد موت النبى محمد عليه السلام ، فيما عرف بحركة الردةالتي ارتبطت بإدعاء النبوة والوحي وعلم الغيب ، ومختلطة بعناصر جاهلية عربية كالعصبيةالقبلية  ــ والأنفة من سيطرة قريش وعدم دفع الزكاة ، وبإخماد أبى بكر لحركة الردة كانتفكيره في دفع العرب للفتوحات شغلا لهم عن تكرار قصة الردة ، فأحدثت الفتوحات ردّة أكبر فى تاريخ المسلمين لا تزال قائمة حتى الآن ، فهى التى نشرت ــ ليس الاسلام ــ بل الكفر بالاسلام ، أو الكفر تحت شعار الاسلام ، إذ بسببها تأسست ديانات المسلمين الأرضية وتفريعاتها والتى لا تزال سائدة حتى الآن .

8 ــ كانت الفتوحات العربية عصيانا هائلا لرب العزة جل وعلا الذى ينهى عن الاعتداء الحربى : ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) البقرة) كما كان الاحتلال العربى للبلاد المفتوحة وقهر أهلها وإغتصاب نسائهم وسلب أموالهم وإرغامهم على دفع الجزية ظلما لا يرضاه رب العالمين (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ(108)آل عمران )( وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ (31) غافر)،والله جل وعلا لا يحب الظالمين :( وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)( 140) آل عمران ) فكيف إذا حمل هذا الظلم إسم الاسلام باعتباره ( فتوحات إسلامية )؟ . هنا أفظع الظلم لرب العزة قبل البشر .

9 ــ وتأسّس الدين السّنى لتبرير وتشريع هذا الاعتداء الذى تحول الى إحتلال مستمر ومستقر ، واصبح الدين السّنى ممثلا للسلطة الحاكمة بسلطتها وعنفها وقسوتها وهيمنتها ، فقابله أبناء الأمم المفتوحة بتأسيس ديانات أخرى ــ تحت رداء الاسلام ــ تنبع من ثقافتها الدينية المحلية ، تواجه الدين السّنى للحاكم العربى القرشى المستبد ، فتم تطوير ( التشيع ) السياسى فى العصر الأموى ليصبح فى العصر العباسى عقيدة دينية ودينا أرضيا يعيد العقائد الفارسية فى عبادة إلهى الخير والشر فى شكل ( التبرى ) و ( التولى ) ، اى تقديس وموالاة (على وآل البيت ) وتحقير وتكفير أبى بكر وعمر وعثمان ..الخ والتبرى منهم على أنهم آلهة الظلام والشر.

10 ــ ثم على هامش التشيع نشأ التصوف معبرا عن الثقافة الشعبية المتوارثة فى كل بيئة، يعيد إنتاج العقائد المحلية فى لغة عربية وبأسماء ومصطلحات جديدة وبشخصيات مقدسة عربية وغير عربية ، ويصل نسبها لآل البيت . ولهذا نجد الاختلافات فى تعريف التصوف وإشتقاقاته ومصادره . ولكن بالقطع ليس الاسلام من بين مصادره لأنه نقيض للاسلام .  

11 ــ لقد إحتل العرب باسم الاسلام ايران وما بعدها شرقا والعراق والشام ومصر وما بعدها غربا ، وهى مناطق عريقة في الفلسفات الوثنية والنزعات القومية . وبدأ عرق الردة ينبض عند الفرس أكثر الأجناس المحكومة قومية وتاريخا وكراهية للعربوبني أمية . ووجد الفرس ضالتهم في قيام الدولة العباسية بمساعدتهم فصار لهم فيهاالنفوذ فتطلعوا إلى أتمام استقلالهم بالردة عن الإسلام وإعادة المُلك الغارسى ، فكثر في العصر العباسي الأولوجود الزنادقة لولا أن العباسيين في قوتهم استأصلوا حركة الردة وقضوا عليها سياسيا.

فالتفت الفرس إلى التشيع فقربوا بينه وبين عقاندهم القديمة وخلطوه بأغراض سياسية قومية فواجهوا الشدة من بني العباس ، فردّ عليهم شيعة الفرس بإختراع التصوف . فإعتبر دين السّنة ( المعبر عن الخلافة العباسية ) التصوف خصما ، واصبح رواد التصوف ضحية للإضطهاد السنى .

12 ــ على إن التشيع على أية حال قد أرسى للتصوف الأسس التي يقوم عليها، وورث التصوف عقائد التشيع ورسومه وتخفف من أوزاره السياسية ، فبدأ حركة دينية تزعم الحُبّ الالهى ( العشق الالهى ) لتخفى عقيدتها فى ( الحلول والاتحاد ووحدة الوجود ) ، ويتحول بها تقديس بعض البشر الى تقديس الكون كله وإعتبار هذا الكون جزءا من الله جل وعلا وفق عقيدة وحدة الوجود الصوفية .

وهذا التطرف فى الكُفر العقيدى بدأ به رواد من الأعاجم ، تتلمذوا على يد أساطين الشيعة ، ف(معروف الكرخي) الرائد الصوفي كان نصرانيا فأسلم على يد الإمام على الرضى وهو من مواليه ، وبعد ( غسلامه ) أصبح أول رائد صوفى . (ومعروف ) هو أستاذ ( السري السقطى)، الذي هو أستاذ (الجنيد) الملقببسيد الطائفة الصوفية ، وقد قال معروف لتلميذه السري : ( إذا كانت لك حاجة إلى اللهفاقسم عليه بي ) (45)، فأرسى بذلك قاعدة التوسل بالأشخاص وجاههم عند الله . وبدأالتصوف بذلك مشواره العقيدي.

13 ــ ثم دخلت الخلافة العباسية ( السنية ) في دور الضعف حين تحكمفيهم الأتراك ومتطرفو السنيين ( الحنابلة ) ، فاستفاد المتصوفة من ضعف العباسيين فتشكلت خلايا التصوف من شيخومريدين ، وتمت الاتصالات بينهم فيما بين مصر والعراق والحجاز والشام عبر السفر وقد جعلوه شعيرة دينية باسم  ( السياحة الصوفية ) واجتذبوا لهم العوام فدخلوا فى التصوف أفواجا .  

ومع ضعفالخلفاء العباسيين فلم تمر الحركة الصوفية الجديدة فى بدايتها بدون رد فعل ، فلاحقت الدولة العباسية ( السنية ) روادالتصوف بالمحاكمات والنفي والاضطهاد حتى اضطر الجنيد لأن يتبع التقية الشيعية ، ويعلن أن ( طريقنا منوطبالكتاب والسنة ) (46)، وفى نفس الوقت يدرّس التصوف في عقر داره بين المخلصين منتلاميذه وبعد أن يقفل باب داره (ويضع المفتاح تحت وركه) خوفا من أن يتهموه بالزندقة ، ومع ذلك فلم ينج من الاتهام بسبب  كلمة قالها مما جعله يتستر بالفقه ( السّنى ) ويختفي ، وحوكمسمنون و ذو  النون المصري وسهل بن عهد الله، وبلغ اضطهاد الصوفية ذروته بقتل الحلاج  عام 301(47).

14 ــ ولا يزال الجنيد زعيما للمعتدلين  من الصوفية بسبب ما اشتهر  عنه إعلان تمسكهبالكتاب والسنة حتى أن من أنكر على الصوفية فيما بعد خدعته أقاويل الجنيد التي قالها بالتقية ، فابن الجوزي ت 597 يستدل  بقول الجنيد السابق ويتخذه حجة على الصوفية  الصرحاء الذين أعلنوا عقيدتهم فيما بعد في عصر ابن الجوزي نفسه.

15 ــ ومع ذلك فإنالأقوال القليلة التي حُفظت عن الجنيد تشي بعقيدته الحقيقية التي منع الخوف منظهورها ، فهو يرى أن العارف الصوفي هو ( من نطق عن سرك وأنت ساكت ) (49) أي سنّللصوفية ادعاء الكشف أو علم الغيب ، وسئل عن مصدره الذي يستقى منه أقواله الجديدةفقال لهم:( من جلوسى بين يدي الله ثلاثين سنة أسفل تلك الدرجة ، وأومأ إلى درجة - سلم -في داره ) (50) فأرسى مقولة العلم اللدني والوحي. أي أن مسيلمة الحنفي ليس وحده الكذاب.!!

فالتصوف المعتدل لا يفترق عن ادعاءات المرتدين كمسيلمة الكذاب غاية ما هنالك أنمسيلمة جاء في عصر قوة العرب القرشيين  ، أما "الجنيد" فقد جاء في عصر الوهن حيث ضعفالعباسيين وقوة الشعوبية وتدهور العرب ، حتى أن مصرع الحلاج زعيم الصوفية المتطرفينلم يتم إلا بدوافع سياسية أكثر منها دينية ، وبعد محاكمة زادت على العشر سنوات .وبمرور الزمن تغيرت الظروف أكثر لصالح التصوف فتضاءل الإنكار عليه ، وزاد انتشارهوبدأ يأخذ دوره في اضطهاد خصومه من الفقهاء السنيين فى العصر المملوكى كما حدث لابن تيمية ، فتبدلت الآية ، وبدأت دورة أخرى من دورات الصراع الديني بين السنيين والصوفية .

 

 انتشار التصوف في العالم ( الإسلامي ):

 1 ــ عن اضطهاد الرواد الصوفية الأوائل على يد السنيين المتشددين  يقول ابن الجوزي المؤرخ الفقيه الحنبلى فى كتابه ( تلبيس إبليس ) ألذى أفرد معظمه فى الانكار على الصوفية : ( أول من تكلم في بلدته فيترتيب الأحوال ومقامات أهل الولاية ذو النون المصري، فأنكر عليه ذلك عبد الله بن الحكموكان رئيس مصر وكان يذهب مذهب مالك ، وهجره لذلك علماء مصر لما شاع خبره أنهأحدث علما لم يتكلم فيه السلف حتى رموه بالزندقة ، وقال السلمي : وأخرج أبو سليمانالداراني من دمشق وقالوا أنه يزعم أنه يرى الملائكة وأنهم يكلمونه ، وشهد قوم على أحمدبن الحواري : أنه يفضل الأولياء على الأنبياء فهرب من دمشق إلى مكة ، وأنكر أهل بسطام على أبي يزيد البسطامي ما كان يقوله حيث أنه ذكر للحسين بن عيسى أنه يقول: لي معراج كما كان للنبي (ص) معراج ، فأخرجوه من بسطام ،  وأقام بمكة سنتين ثم رجعإلى جرجان .. وحكي رجل عن سهل بن عبد الله التستري أنه يقول أن الملائكة والجنوالشياطين يحضرونه وأنه يتكلم عليهم ، فأنكر ذلك عليه العوام حتى نسبوه إلى القبائح ،فخرج إلى البصرة فمات بها .. وتكلم الحارث المحاسبي في شيء من الكلام والصفات ،فهجره أحمد بن حنبل ، فاختفى إلى أن مات )(51).

لم يستمر هذا الاضطهاد طويلا ، إذ ما لبث أن إنتشر التصوف وساد واصبح أربابه بعد خمسة قرون يضطهدون ابن تيميه الفقيه السنى الحنبلى وأصحابه . هذا التطور الذى إستلزم قرونا نشير فى لمحة سريعة ، وإن كان يحتاج الى بحث خاص لا محل له هنا.

2 ــ لقد ساد دين السّنة عمليا العصر الأموى ومعظم العصر العباسى ، ثم مع وهن الخلافة العباسية وسيطرة عصبيات عسكرية على بغداد وقيام دول مستقلة تتبع الخلافة العباسية إسما خارج العراق ، بل قيام دولة شيعية بخلافة فاطمية قوية نافست الخلافة العباسية فى بغداد ، فأصبح ( التصوف السنى ) هو البديل حيث يحتاج الحاكم الأعجمى الى شيخ صوفى يتراقص أمامه بديلا عن الفقيه السّنى الحنبلى الذى يريد السيطرة باسم ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) .

وبانتشار التصوف فى الدولة الفاطمية وفى الدول التابعة إسما للخلافة العباسية كان منتظرا أن يتم إستخدامه سياسيا ، فظهر ( تصوف شيعى ) يعمل لصالح الفاطميين والشيعة و ( تصوف سنى ) يلعب لصالح القوة الحاكمة السنية  . وبإنهاء الخلافة الفاطمية على يد صلاح الدين الأيوبى ظل التصوف الشيعى يعمل فى الخفاء ضد التصوف السّنى . فعمل صلاح الدين الأيوبى على أن يحارب التشيع والتصوف الشيعى بالتصوف السنى.  وما لبث التصوف السنى أن إحتكر الساحة فى العصر المملوكى التالى بعد العصر الأيوبى ، بل وإضطهد السنيين المتشددين الحنابلة الذين لم يكونوا ينكرون على التصوف نفسه بل على بعض المتطرفين من الصوفية . وهذا ما سيظهر فى حركة ابن تيمية ومدرسته .

3 ـ  لقد شهد العصر العباسى الثانى تغيرات سياسية متداخلة ومعقدة :

3 / 1 : من الشرق بدأ الخليفة المعتصم والمتوكل فى إستقدام الأتراك قوة عسكرية ، وجعل الخليفة المتوكل من السّنة دينا رسميا وبدأ فى عهده نفوذ الحنابلة ، وسيطر القادة الأتراك على الخلفاء ، ثم ضعفوا فوقعت الخلافة العباسية تحت سيطرة بنى بويه الشعية ، وضعف بنو بويه وتنازعوا فيما بينهم السلطة وتقاسموها   فحلّ محلهم الأتراك السلاجقة ، وضعف السلاجقة وتنازعوا السلطة وتقاسموها ، وظهر فى داخلهم البيت الزنكى ( عماد الدين ، ثم نور الدين زنكى ) وضعفوا فورثهم صلاح الدين الأيوبى وتأسست الدولة الأيوبية ، وضعف الأيوبيون وتنازعوا السلطة وتقاسموها فغلبهم مماليكهم وتأسست الدولة المملوكية وجاء عصرنا المملوكى الذى شهد تدمير بغداد على يد المغول وإنتقال الخلافة العباسية للقاهرة .

3 / 2 : من الغرب تأسست الدولة الفاطمية فى المهدية ( تونس ) ثم زحفت وإستقرت فى مصر ، ومن مصر توسعت فضمت معظم الشام ، بل وصلت سيادتها فترة قليلة الى بغداد ، ثم ضعف الفاطميون وسيطر الوزراء على الخلفاء الفاطميين ، وانتهى الأمر بأن أنهى صلاح الدين الأيوبى الخلافة العباسية وأقام الدولة الفاطمية التابعة إسميا للخلافة العباسية .

3 / 3 : من الشمال الأوربى حيث كان الصراع العباسى البيزنطى سجالا فى العصر العباسى الأول ، تحول فى العصر العباسى الثانى الى إنتصارات متوالية للبيزنطيين فكانوا يتوغلون الى داخل العراق والشام و( حلب ) ، ثم بضعف البيزنطيين ظهرت الحملات الصليبية ( حملة الشعوب : بطرس الناسك و والتر المفلس ، ثم حملة الأمراء التى ضمت واحتلت القدس وأقامت إمارات صليبية فى الشام وآسيا الصغرى) ، وتواصلت الحملات الصليبية الى مصر ، وبسبب الحملة الصليبية التى قادها لويس التاسع وهزمها مماليك الصالح الأيوبى تأسست الدولة المملوكية التى هزمت المغول ، والتى فى النهاية دمرت الوجود الصليبى وطردت الصليبيين من عكا آخر منطقة كانت فى ايديهم .

4 ــ بإختصار : هذا هو المسرح السياسى الذى ظهر فيه ( التصوف السنى ) وساد . نقول ( التصوف السنى ) وليس التصوف العادى الذى برز فى مرحلة الريادة الصوفية ( الجنيد ) ورفاقه . بعد تلك الأرضية التاريخية التى نبت فيها وساد ( التصوف السنى ) واستمر خلال عصرنا المملوكى،  نتوقف مع أهم عوامل ساعدت على تأسيسه وتسيده .وهى : الحنابلة / العوام ، الغزالى ، وصلاح الدين الأيوبى .

5 ــ سيطر الفقهاء الحنابلة على الساحة رسميا فى خلافة المتوكل العباسى ، وحتى يسيطروا على الشارع صنعوا حديث ( من رأى منكم منكرا فليغيره ) وأصبح تغيير المنكر دستورا لهم فى التسلط على الناس ، واصبح من حق من ينتسب اليهم أن يمارس نفوذه ويتعيش من هذا النفوذ ، فاتسعت الساحة للعوام وأرباب الجرائم ، وبمجرد ان يلتحق أحدهم بحلقة ( حديث ) ويكتب ( حديثا ) يكون من حقه الأمر بالمعروف وتغيير المنكر، ودخل العوام فى دين الحنبلية أفواجا بحيث كانت ( مجالس السماع ) للحديث تضم آلاف الناس فى المدن والحواضر العباسية . وتنافست تلك المجالس فى تأليف الأحاديث وكتابتها ونشرها فبلغ عددها ملايين . وبتغيير المنكر تمكن أوباش الحنابلة الجهلاء من قطع دابر المعتزلة ( أصحاب التيار العقلى ) و الحركة الفلسفية العلمية التى أنجبت ابن سينا والرازى الطبيب وجابر بن حيان ..الخ ، بل وقطعوا دابر الأشاعرة السنيين المتكلمين فى الملل والنحل وكانوا خصوما للمعتزلة ، بل إضطهدوا الطبرى إمام السنيين فى شيخوخته  وحاصروه فى داره الى أن مات . وبهذا إنفردوا بالساحة وليس معهم سوى جهلهم وتعصبهم.

6 ــ هذا التسلط والجهل أدى الى نتائج أهمها : خوف الحكام المحليين من نفوذ الحنابلة ، وضعف المستوى العام للفقهاء السنيين بحيث توقف الاجتهاد ، وأصبح إتباع الأئمة هو سبيل النجاة فتأسست المذاهب  السنية الفقهية : مالكية وأحناف وشافعية وحنابلة . وبتكاثر الأحاديث المصنوعة يوميا وصيرورتها جزءا من الدين السّنى فقد أصبحت متاريس تعوق الانطلاق فى الاجتهاد الفقهى مخافة التعرض لنقمة الحنابلة بتعصبهم وتسلطهم وجهلهم ، لذا كان السبيل المتاح والأسلم هو فى إتّباع الأئمة السابقين . هذا الوضع السياسى ( الخوف من نفوذ الحنابلة ) والوضع العلمى ( ضعف مستوى الفقهاء السنيين ) واكبه الصراع  السياسى مع التشيع ودولته الفاطمية وتصوفها الشيعى الذى ينتشر داخل العالم ( السّنى ) . وهذا المناخ ساعد على نجاح أبى حامد الغزالى ت 505 .فى إرساء التصوف السنى وقفل باب الاجتهاد ليحمى التصوف من الانتقاد العقلى ، وليستمتع التصوف بالتسليم .

7 ــ من ملامح الجهل لدى الفقهاء السنيين تركيزهم على التفصيلات فى الفقه النظرى ، إتّباعا للدين الحنبلى فى تدينه السطحى المظهرى ، لذا فإن شروحهم الفقهية أهملت الجانب ( الروحي ) والعوامل القلبية  بينما بالغت فياستقراء الحركات الظاهرية في العبادات فتركوا المجال للصوفية يعبثون بالعقائد، هذا فيالوقت الذي إندثر فيه الاتجاه العلمي الفلسفي وانتهى دوره في التنوير العقلي ومناقشةادعاءات التصوف الخرافية بالجدل والمنطق ، فظهر الغزالي  خصما للفلسفة العقلية والحنابلة والتشيع معا ، وخلق إتجاها جديدا يجمع التصوف بالسنة المعتدلة ، وهو ( التصوف السنى ) وإتخذ منه حُجّة لقفل باب الاجتهاد بمقولته المشهورة ( ليس فى الامكان أبدع مما كان ) . وبانتصار الغزالى أصبح ممثلا للصوفية والفقهاء المعتدلين ، وساعده هذا على منع العقل من مناقشة مزاعم التصوف فى عقائده ، وتغليب الاتجاه الوجدانى ( الافلاطونى ) محل الاتجاه الفلسفيالعقلي، فلم يعد في الساحة إلا الغزالي والتصوف والاتجاه الوجداني طريقا للمعرفة .

8 ــ في كتابه "إحياء علوم الدين " نرى الغزالى وقد بعثر فيه بمهارة فذة عقائد التصوف ، وسط أكوام من الأحاديث الموضوعة بعضها كما يقول العراقي  شارح الإحياء : (لا أصل له ) أي اخترعه الغزالي بنفسه ، ثم تأويل الآيات القرآنية لاخضاعها لدين التصوف ، بالإضافة إلى أسلوبه الوجداني في المواعظ والرقائق ، وكتابته أبواب الفقه في الإحياء بمنهج جديد لم يعرفه فقهاء عصره، إذ يتحدث عن العوامل الباطنية منالخطرات والوساوس والرياء والإخلاص والتوكل والمراقبة ، فيبهر القارئ بهذا الفقهالجديد، ويجعله يبتلع عقائد التصوف التي تتناثر بين السطور تحت عناوين بريئة مثلالتوكل والزهد والحب الخ .

9 ــ جاء صلاح الدين الأيوبى فجعل ( التصوف السنى ) الذى قرره الغزالى هو الدين الرسمى الذى يواجه به التشيع بعد أن أسقط الخلافة الفاطمية ودولتها واسس دولته الأيوبية . وسارت الدولة المملوكية على نفس المنهاج فى إعتناق التصوف السنى .

10 ــ وساعد على هذا إعتناق العوام ـ وهم الأكثرية ـ دين التصوف السنى .

جذب الحنابلة اليهم ــ من قبل ــ غوغاء العامة الى حلقات ( السماع ) للأحاديث فأصبح العوام مسيطرين على الشارع بحجة تغيير ما يعتبرونه منكرا . وأتبع الصوفية طريقا آخر مختلفا فى إجتذاب العوام للتصوف ، فأطلقوا على مجالس الغناء واللهو الصوفى مصطلح ( السماع ) وجعلوه دينا ، وانفتحوا على العوام يرغبونهم في الانخراط فيالتصوف بإقامة حفلات السماع والطرب ، يقول ابن الجوزي (التصوف طريقة كانابتداؤها الزهد الكلى، ثم ترخص المنتسبون إليها بالسماع والرقص ، فمال إليهم طلابالآخرة من العوام لما يظهرونه من الزهد، ومال إليهم طلاب الدنيا لما يرون عندهم من الراحة واللعب )(52 ).

11 ــ  كما أتاح التصوف حرية مطلقة للإنحلال الخلقى وجعله دينا وطريقا للوصول ( للحق ) ، فمن يحب الزنا يمكنه طبقا للدين الصوفى أن يمارس الزنا على أنه عبادة صوفية ، ومن يدم الشذوذ يشجعه التصوف الذى يجعل الشذوذ شعيرة دينية وكذلك الحشيش .. وسيأتى تفصيل ذلك فى حينه . وبهذا تشجع العوام على الدخول فى التصوف السنى أفواجا ، فهو تصوف فى العقيدة وإلتزام مظهرى بالشريعة السنية .

 12 ــ ولم يجعل الصوفية من العلم شرطا في الدخول فى دين التصوف ، بل وقفواموقفا معاديا للعلم فاعتبروه علم الظاهر، بينما ادعوا أنهم اختصوا بالعلم الحقيقي (العلماللدني) الذي يأتي من الله بلا واسطة وبلا تعب أو مذاكرة . وسهل هذا الادعاء دخولالكثرة الكاثرة من العامة في سلك التصوف فزاد بهم قوة وصار معبرا عن العامة أكثريةالمجتمع ، والأكثرية يصفها القرآن بأنها لا تعقل ولا تفهم ولا تؤمن بالله إلا وهى مشركة .

13 ـ كانت الشطحات الصوفية نقطة ضعف فى التصوف ، ولكن تغلب عليها أئمة التصوف . كيف ؟

 

الشطحات الصوفية والطرق الصوفية

  1 ــ واتصف أساطين التصوف بالمرونة الكافية التي مكنتهم من تحويل غضب الرأى العام ضدشطحات التصوف إلى غضب ضد أشخاص متفرقين من الصوفية المعاصرين لهم مع عدم المساس بمبدأالتصوف ذاته.

2 ـ فالقشيري مثلا انتقد صوفية عصره واتهمهم بكل نقيصة ليدافع عن مبدأالتصوف ذاته ، يقول في بداية رسالته (إن المحققين من هذه الطائفة - الصوفية ـ انقرضأكثرهم ولم يبق في زماننا من هذا من الطائفة إلا أثرهم .. مضى الشيوخ الذين كانوا بهماهتداء، وقل الشباب الذين كان لهم بسيرتهم وسنتهم اقتداء، وزال الورع واشتد الطمع ..وأرتحل عن القلوب حرمة الشريعة ، فعدوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة ، ورفضوا التمييزبين الحرام والحلال ، واستخفوا بأداء العبادات ، واستهانوا بالصوم والصلاة ، وركضوا فيميدان الغفلات ، وركنوا إلي إتباع الشهوات ، وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات ، والارتفاقبما يأخذونه من السوقة والنسوان وأصحاب السلطان ، ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوءهذه الفعال ، حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال، وادعوا أنهم تحرروا  عن رقالأغلال ، وتحققوا بحقائق الوصال ، وأنهم قائمون بالحق ، تجرى عليهم أحكامه وهم محو،وليس لله عليهم فيما يؤثرونه أو يزرونه عتب ولا لوم  وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية ،واختطفوا عنهم بالكلية ، وزالت عنهم أحكام البشرية ، وبقوا بعد فنائهم عنهم بأنوارالصمدية ، والقائل عنهم غيرهم إذا نطقوا .. الخ الخ ) .

3 ــ فالقشيري يرمى معاصريه في القرنالخامس بكل نقيصة بشرية ، مع إهمالهم الفرائض الإسلامية وادعائهم للإلوهية طبقالعقيدة الاتحاد الصوفية ، ثم يقول ( ولما طال الابتلاء فيما نحن فيه من الزمان ، بما لوحتببعضه من هذه القصة ، وما كنت  لأبسط إلى هذه الغاية لسان الإنكار غيرة على هذهالطريقة أن يذكر أهلها بسوء، أو يجد مخالف لسلبهم مساغاً، إذ البلوى في هذه الدياربالمخالفين لهذه الطريقة والمنكرين عليها شديدة .. ولما أبى الوقت إلا استصعابا، وأكثر أهل العصر بهذه الديار إلا تماديا فيما اعتادوا ، واغترارا بما ارتادوه ، أشفقت على القلوب أن تحسب أن هذا الأمر على هذه الجملة بني قواعده ، وعلى هذا النحو سار سلفه ،فعلقت هذه الرسالة إليكم .. وذكرت فيها بعض سير الشيوخ لهذه الطريقة في آدابها وأخلاقهم ومعاملاتهم وعقائدهم(53).

4 ــ  أي أن القشيري يعترف أنه لولا الإنكار علىالتصوف لما أطلق لسانه في صوفية زمانه الذين يعتبرهم خارجين علي مبدأ  التصوف ،ومع ذلك فإن الرسالة القشيرية تحوي من أقوال الشيوخ المعتدلين ما يهدم التصوف ويجعلهنقيضا للإسلام .

5 ــ وصارت عادة عند محققي الصوفية أن ينكروا على الصوفية المعاصرين لهم ويشيدوا بمنسبقهم، حفاظا على مبدأ التصوف وليواجهوا الإنكار عليهم من الفقهاء الأعداء التقليديينللصوفية.

وعلى نفس الطريق سار الغزالي ت : 505  فأنكر علي صوفية عصره ( 54)ولأنه أصبحرأسا للصوفية والعلماء والفقهاء فقد واجه اتهامه للباقين أسوة بالصوفية فهاجم الزهادوالعلماء والعباد عامة ، والفقهاء خاصة ، وأصحاب الحديث وعلماء الكلام والنحاة على وجهالخصوص (55).

ومع ذلك فالغزالي يقرر عقيدة الصوفية في الاتحاد والعشق الإلهي، ودليله الحديثالمكذوب وتأويل الآيات القرآنية وكلام من سبقه من الصوفية (56)وصار (إحياء علوم الدين ) قرآن الصوفية وحجتهم في تقرير مذهبهم في ( العالمالإسلامي) ، خاصة أن الغزالي عرض فيه لجانب من جوانب الفقه الممزوج بالعوامل الباطنية والروحية ، وهى الناحية التي تقاصر عنها فقهاء عصره  فدان له الفقهاء بالتبعية ، وانحصر إنكارهم على أشخاص الصوفية المتطرفين  الذين هاجمهم الغزالي في الأحياء.

6 ــ وبدخول العوام فى دين التصوف السنى حدث ما هو متوقع من الاختلاف والتشرذم ، ولكن التصوف مختلف عن الحنبلية التى لا تتسامح مع المختلفين معها وتعتبرهم كفرة تقتلهم بحد الردة وتغيير المنكر . للتصوف عقيدة مخالفة للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهى عقيدة عدم الاعتراض ، كما إن التصوف يقوم على الاختلاف والتفرق ، لذا لا إتفاق بين أربابه على تعريف التصوف وإشتقاقاته ومصادره . وعندما تحول التصوف من الناحية النظرية الفلسفية وأصبح منتشرا بين العوام مؤثرا فى المجتمع فقد تحول الى ( طرق صوفية ) يُتاح فيها لأى شخص أن يكوّن له طريقة صوفية وأن يصبح وليا صوفيا طالما وجد من يؤمن به من الحمقى ، وهم بالملايين فى كل عصر .

7 ــ  وقد  بدأ إنشاء الطرق الصوفية في تاريخمبكر في القرنين الثالث والرابع الهجريين . إلا أن العصر الذهبي للطرق الصوفية بدأ بعد تقرير التصوف السنى كدين فى ( العالم الإسلامي). أي بعد الغزالي في القرن السادسالهجري، مما شجع أرباب ( التصوف الشيعى ) العاملين على إرجاع الدولة الشيعية الى إنشاء طرق صوفية يتخفّون خلفها فى تآمرهم السياسى ، وكان منها الطرق الرفاعية التابعة لأحمد الرفاعي ت: 570  في القرن السابع  و الشاذلية التابعة لأبى الحسنالشاذلي ت 656 ، والأحمدية لأحمد البدوى ، وقد عرضنا لهذه الحركة  بالتفصيل فى كتابنا ( السيد البدوى بين الحقيقة والخلاافة ).

ولجأ متطرفو الصوفية الى تكوين الطرق الصوفية للدعاية إلى مذهبهم كالطريقة الأكبرية نسبة لابن عربي الملقب  بالشيخ  الأكبر ، والطريقة السبعينية نسبة لابن سبعين المرسى .

8 ــ وفى العصر المملوكي تضاءل التصوف النظرى الفلسفى وتحول إلي مجرد ترديد لعقائد السابقين ووضعالشروح عليها وتطبيق تعاليمهم ، وانصرف أغلبية المتصوفة من العوام إلى إنشاء الطرقالصوفية وتفرعها بحسب شهرة الشيخ وكثرة أتباعه ، فتفرعت الطريقة الشاذلية والأحمديةوالسطوحية وغيرها إلى عدة طرق تفرعت بدورها وهكذا ، مع انعدام الفارق الحقيقي بين الطرق، اللهم إلا في طريقة الأذكار ولون المرقعات ونصوص الأوراد وأسماء الشيوخ، وبمضي الزمن كان يزداد انتشار التصوف ويتعاظم تقديس أشياخه. وتقل في نفس الوقتثقافتهم وعلمهم، ويزداد تسلطهم علي المنكرين عليهم من الفقهاء السنيين .

9 ـ ومقارنة صغيرة تظهر الفرق بين القرن الثالث و أواخر العصر المملوكي ..

9 / 1 : فالجنيد اضطرللتستر بالفقه والاختفاء في عقر داره لكي يقول لأتباعه المقربين:  (العارف هو من نطق عنسرك وأنت ساكت ) وأن علم التصوف جاءه من الله أسفل درج داره. أما في العصر المملوكي فقد كان إبراهيم الدسوقي يعلن على الملأ قوله بلا خوف :  ( أنا بيدي أبواب النار أغلقتها ، وبيدي جنةالفردوس فتحتها، ومن زارني أسكنته جنة الفردوس .. يا ولدى إن صح عهدك معي فأنا منك قريب غير بعيد، وأنا في ذهنك ، وأنا في سمعك ، وأنا في طرفك ، وأنا في جميعحواسك الظاهرة و الباطنة ) (57)، وكانوا يسجلون ذلك عنه افتخارا به ..

9 / 2 : وإذا كان الحلاج قد دفع حياته ثمنا لإحدى شطحاته وأوذي الآخرون ونفوا بسببالشطح ، فإن العصر المملوكي ودينه التصوف السنى  ـ قد جعل الشطح ـ أو إساءة الأدب معالله تعالى ـ من مستلزمات  الولاية الصوفية ، يقول الشعراني عن معاصره الشيخ أبيالسعود الجارحي ( وكان رضي الله عنه له شطحات عظيمة )(58).

 

  سيطرة التصوف على العصر المملوكي

  1 ــ تكفى قراءة سريعة لبعض صفحات الحوليات التاريخية المملوكية لنتعرف على سيطرةالتصوف على العصر المملوكي، ولأن التصوف العملي يعني الاعتقاد في الشيخ حيا أوميتا فإن عبارة (المعتقد) بفتح القاف تتردد كثيرا في وصف الآلاف المؤلفة من الأشياخالذين حفل بهم العصر، وبنفس الطريقة يوصف الآخرون بأن  أحدهم (حسن الاعتقاد) أي( مؤمن مخلص ) بالأولياء الصوفية ، وهذا ما تعارف عليه العصر ورددته المصادر التاريخية دليلا على عمق التأثر بالتصوف وسيطرته .

2 ــ ومع جبروت السلطة المملوكية  فقد كان السلطان المملوكى يؤمن بالتصوف ويخضع للشيخ الصوفي يلتمس منه البركات ، وتفصيل ذلك يخرج عن المطلوب ،ولكن نكتفي ببعض الأمثلة :

فالظاهر بيبرس بدهائه وسطوته واستبداده سمح بوجود نفوذ للشيخ خضر بل،وتغاضي عن انحلاله الخلقي لأنه يعتقد في ولايته وفى معرفته للغيب (59)، ومع حنكة برقوقالسياسية فقد كان يخضع للمجاذيب حتى أن أحدهم وهو الزهوري (كان يبصق فيوجهه )( 60 )، وعندما افتتح مدرسته الجامعة أعطاه مجذوب (طوبة ) وأمره أن يضعها فيالمدرسة ، فوضعها برقوق في قنديل وعلقه في المحراب ، وظلت فيه باقية ، يقول عنها ابن إياس في القرن العاشر (فهي باقية في القنديل حتى الآن )(61).

3 ــ ومن دراسة بعض المصادر الصوفية يتضح إلى أي مدى كان الولى الصوفي يتسلط علىمريده الأمير، وكان ذلك عاديا لا يستوجب عجبا ولا إنكارا ، وإلا ما قرأنا هذا الكلامللشعراني في تقعيد علاقة الشيخ بمريده إذا كان أميرا مملوكيا، يقول الشعرانى مفتخرا : ( وما منّ لله على إني لاأحجب أحدا من الأمراء إلا إن غلب على ظنه دخوله تحت طاعتي بطيبة نفسه ، بحيث يرىخروجه عن طاعتي من جملة المعاصي التي تجب التوبة عليه منها فورا ..) ( وكل أمير لاينشرح صدره ويفرح بقلبه بالخروج عن جميع وظائفه وماله ونسائه ورقيقه ودوره وبساتينهإذا أمره شيخه بذلك فلا يصلح للفقير ـ أي الصوفي - أن يصحبه.) (... ومن أدب الأمير معالفقير أن يراه في غيبته أعظم حرمة من  بعض ملوك الدنيا) . وفى مقابل خضوع الأميرالذليل لشيخه الصوفى كان الشيخ لا يلتزم بشيء تجاه الأمير، يقول زكريا الأنصاري للأشياخ( إياكم أن تتحملوا عن أميركم جميع الشدة التي نزلت به فتلحقوه بالنساء في العجز و الكسل والنقص  بل أمروه بالتوجه إلى الله تعالى في دفع تلك الشدة ) وعدّ الشيخالخواص (من جهل الأمير رمى حملته على شيخه ). ( الحملة تعنى المحنة ) ، ( ومن أدب الأمير ألا يطلب من شيخهأن يكون معه علي خصمه ، وألا يطلب مساعدة  شيخه ، وألا يرى الأمير فضلا له على شيخهبما يرسله إلي زاويته من أصناف الأطعمة  . وإذا طرده الفقير عن صحبته ألا يبرح بابه ولايجتمع بغيره من الفقراء ،  وعلى الأمير الخضوع والذلّة لشيخه ، وأن يوالى من يواليهويعادى من يعاديه ،( فمن عادى الشيخ فقد عادى الله )، وألا يطلب من الشيخ حاجة إلاوهو في غاية الذل والانكسار والفاقة ، وأن يأمن شيخه على عياله وحريمه ولو اختلى بهم ، ولا يخطر بباله أنه ينظر إلي إحداهن بشهوة ، وألا فقد أساء الأدب على الشيخ ، وأنيمرض لمرض شيخه ، وأن يحزن لحزنه ، وأن يرى النعم التي يعيش فيها من بركة شيخه ،وأن يرضى بحكم شيخه فيه كما يرضى العبد بحكم سيده.  والأمير مع الفقير كعبد السوءمع سيده الكريم الواسع الخلق .  وعليه أن يعرض على شيخه كل قليل أفخر ما عنده منالنقود والملابس والمطاعم والمشارب إظهارا لشدة محبته له وبيانا لكونه لا يدخر عنه شيئا ،وأن يخلص النية كلما أراد الخروج لزيارة شيخه فلا تكون لعلة دنيوية أو أخروية )(62) .!!

لقدجعل أولئك الصوفية من أنفسهم آلهة على مريديهم من الأمراء والمماليك  وجعلوا لأنفسهمالغنم كله بلا مسئولية دينية أو إنسانية تجاه الأمير المريد، ولولا أن قلب العصر المملوكيكان ينبض بالتصوف لما جرؤ الصوفية على تقعيد مثل هذه العلاقة الغريبة بين الأميروشيخه الصوفي.

4 ــ والعمارة المملوكية التي لا تزال تزين القاهرة حتى الآن هي أصدق دليل علي ما بلغهالتصوف وأشياخه من منزلة وتأثير على المماليك مهما بلغت قسوتهم، وتلك العمارةالمملوكية آية من آيات الفن المعماري وقد خصصت كلها للتصوف وأنشطته الدينيةوالعملية.

5 ــ والحياة الفكرية والعقلية للعصر المملوكي إفراز لتأثير التصوف ، حيث دارت الحركةالعلمية بين شرح وتلخيص ونظم للمتون وإعادة شرح التلخيص والمتن دون ابتكار أوتجديد، وحيث فرض التصوف نفسه علما بين المناهج ، وحيث دارت الحياة العلمية فيالمؤسسات الصوفية ، وحيث تصوف العلماء وتقهقر مستواهم الفكري وطورد المجتهدونمنهم حين جرؤ على الاعتراض على الصوفية ،وليس التصوف ذاته  كما حدث لابن تيمية ومدرسته ، وبنفسالقدر الذي ازداد فيه تقديس الأولياء الصوفية الأميين ، وكان تقديس المجاذيب أكبر ما يعبر عن احتقار العصر المملوكي للعقل .

6 ــ والشارع المملوكي كان أصدق ما يعبر عن سيطرة التصوف على الناس ، فالتوسلبالأولياء كان  أبرز نشاط ديني واجتماعي للناس ، وليس مهما شخصية الولي الحي الذييتوسلون به ويقصدونه من كل الجهات ، فقد اشتهر (عبد اسود) بالولاية فتوافدوا عليه منكل مكان (63)، بل أن (طفلة صغيرة  ) بقليوب اشتهرت بالولاية فتوجه إليها الناس أفواجا(فبلغ كرى - أي إيجار - كل حمار من القاهرة إلى قليوب دينار اشرفيوتوجه إليها جماعة من الخاصكية والأمراء  والأعيان (64).

7 ــ ولا نجد أبلغ من وصف المؤرخ أبى المحاسن في اعتقاد الناس في المجذوب الشيخيحيي الصنافيري  يقول فيه ( اجمع الناس علي اعتقاده وهو لا يفيق من سكرته ، وكانالناس يترددون إليه فوجاً فوجاً من بين عالم وقاض وأمير ورئيس ولا يلتفت إليهم ، ولما زادتردد الناس إليه ، صار يرجمهم بالحجارة ، فلم يردهم ذلك عنه ، رغبة في التماس بركته ،ففر منهم وساح في الجبال (65).

وقيل فى بعض الأولياء الصوفية : (وكان شمس الدين الحنفي إذا حلق رأسه تقاتل الناس علي شعره يتبركونبه ويجعلونه ذخيرة عندهم (66)، واقتتل الناس على الشيخ الدشطوطي يتبركونبه (67)، وكان الشيخ محمد الديروطي لا يكاد يمشى وحده بل يتبعه الناس ( ومن لم يصلإليه رمي بردائه على الشيخ حتى يمس ثياب الشيخ ثم يرده  إليه ويمسح به وجهه )68)ورأى الشعراني ذلك المنظر ، وعلّق عليه  بقوله :( كما يفعل الناس بكسوة الكعبة (69) وذكرالشعراني عن نفسه أنه دخل الجامع الأزهر في صلاة جنازة فاكب الناس علية يقبلون يدهويخضعون له ،  وشيعوه حتى الباب حتى صاروا أكثر من الحاضرين في الجنازة (70).  وإذ مات الشيخ الصوفي تنافس الناس في الحصول على ماء غسله للتبرك به (71) .وشراء أثوابه التي مات فيها لأخذها حرزا ( 73 ) وحين مات الشيخ الشناوي  ( أقتتل الناسعلي النعش وذهلت عقولهم  من عظم المصيبة بهم ، وقد دفن في غفلة عنهم )71).

 8 ــ.ومن نافلة القول أن نذكر أنه لا فاصل بينالتصوف كمبدأ والصوفية كأشخاص، لأن التصوف مذهب بشرى، والبشر هم المشرعونفيه ، وكل صوفي يمثل التصوف الذي يدين به ، والتصوف في النهاية هو مجموع آراءأتباعه وتشريعاتهم ، وما يعيب الصوفية يعيب التصوف ، أما الإسلام ـــ شرع الله جل وعلا ـــ فهومختلف، فشرع الله يحكم على البشر،  فالإسلام لا شأن له بأخطاء المسلمين ، لأن خطأالمسلمين راجع إليهم وهم محاسبون عليه في الآخرة ، وعليهم أن يسيروا بحياتهم وفقكتاب الله ، فإن أصابوا كان خيرا لهم ، وان أخطأوا كان عليهم . ونقول هذا حتى تتضح الفوارقبين الإسلام والمسلمين والتصوف والصوفية.

9 ــ ونقرر كما إتضح من هذا التمهيد ــ أن الاسلام غائب فى حمأة هذا الصراع بين أديان المسلمين الأرضية : السنة والتشيع والتصوف .

10 ــ ولقد تعاظمت سيطرة التصوف حتى تسيد العصر المملوكي وأثر تأثيراً بالغ السوء في الحياةالسياسية و الحضارية والدينية والأخلاقية .

وموعدنا الآن مع الحياة الدينية في مصر المملوكية وكيف تشكلت وتأثرت بالتصوف.

 

 

المصادر

1ـ الرسالة القشيرية ط صبيح : 217

2 ـ الحلبي : النصيحة العلوية مخطوط :88

3ـ عبد الحليم محمود : أبو العباس المرسى 7 رقمه بدار الكتب 1129 تاريخ تيمورية أعلام العرب عدد84 سنة 1969 .

4ـ نكلسون في التصوف الإسلامي وتاريخه ترجمة أبو العلا عفيفي 28: 41، 66 : 69 ط 1947

5ـ التفتازانى: مدخل إلى التصوف 10 دار الثقافة 1974.

6ـ أبو العلا عفيفي: التصوف الثورة الروحية في الإسلام 38 :39 دار المعارف 1963 .

7ـ قاسم غنى تاريخ التصوف في الإسلام ترجمة صادق نشأت جـ1/ 273. مكتبة النهضة المصرية 1970 .

8 ـ التفتازانى:3

9ـ التفتازانى : 7

10ـ التفتازانى :3

11ـ التفتازانى :5

 

12ـ الرسالة القشيرية 218

13ـ التفتازانى : 4

14ـ الرسالة القشيرية :  218

15ـ الرسالة القشيرية :  217

16ـ تلبيس إبليس: 156. لابن الجوزي ـ المطبعة المنيرية .

17ـ الصوفية والفقراء 3 ، الفرقان 29 .

18ـ رسالته للدكتوراة عن التصوف 24: 33 .

19ـ نيكلسون 66: 69 .

20ـ التفتازانى : 26

21ـ أحمد محمود صبحي عالم الفكر 6/2/ 338 .

22ـ التفتازانى : 31 ،34 ، 112 ، 37 ، 39 : 40

23ـ التفتازانى : 31 ،34  ، 112 ، 37 ، 39 : 40

24ـ التفتازانى : 31 ،34  ، 112 ، 37 ، 39 : 40

 

25ـ التفتازانى : 31 ،34  ، 112 ، 37 ، 39 : 40

26ـ التفتازانى : 31 ،34  ، 112 ، 37 ، 39 : 40

27ـ الخطط جـ1 / 63، 386، 387 ط 1324 .

28 ـ مروج الذهب جـ2 / 401 . نشر بارتيه ورمنيار .

29ـ 1/ 233 .

30ـ المقدمة 467 . ط المكتبة التجارية .

31 ـ أبو العلا عفيفي 59: 64 ، 57 : 59 .

32ـ أبو العلا عفيفي 59: 64 ، 57 : 59 .

33ـ تلبيس إبليس : 155 .

34ـ التفتازانى : 113 ، 107 ، 106 ، 112 .

35 ـ أبو العلا عفيفي 59 : 64 .

36ـ الإحياء : 3/ 341 : 343 ، 199، 344 : 347 المطبعة العثمانية .

37ـ الإحياء : 3/ 341 : 343 ،199 ، 344 : 347 المطبعة العثمانية

38ـ عجائب الآثار 2/ 36   ط 1959 .

39ـ الرسالة القشيرية 94 الإحياء 4/ 97 .

40ـ الإحياء  4/ 195 :196 ،187 :188 ،189: 191 ،193 ، 197 ، : 198

41ـ الإحياء  4/ 195 :196 ،187 :188 ،189: 191 ،193 ، 197 ، : 198

42ـ الإحياء  4/ 195 :196 ،187 :188 ،189: 191 ،193 ، 197 ، : 198

43ـ الإحياء  4/ 195 :196 ،187 :188 ،189: 191 ،193 ، 197 ، : 198

44ـ تنتهي السلاسل الصوفية برواد الزهد ثم تصلهم بالنبي .

45ـ الرسالة القشيرية 15، 16 ،32 .

46ـ الرسالة القشيرية 15، 16 ،32 .

47ـ الطبقات الكبرى للشعراني 10 ، 13 ، 14 ط صبيح .

48ـ تلبيس إبليس 162، 158 .

49ـ الرسالة القشيرية 31 : 32 .

50ـ الرسالة القشيرية 31 : 32 .

51ـ تلبيس ابليس161 :162 ، 155 : 156 .

52ـ تلبيس ابليس161 :162 ، 155 : 156 .

53ـ الرسالة القشيرية 4، 5 .

54ـ الإحياء جـ3 / 343 وما بعدها ، 199.

55ـالاحياء جـ 3/ 301 : 302 ، 333 :341 ،257 : 258.

56 ـ الأحياء 3/23: 25 ، 242 :246 ، جـ4/14 ،17 ، 18 ،22 ، 23 ،26 ،28 ،68 ،74 ،75: 77، 83: 85 ،94 ،100 ،102 ،104 ،211: 214 ،221 ،225 ،227 :228 ، 254 :263 ،266: 267 ،269 ،271 ،277، 278 :279 ،281 ،288 ،291 ،292 ،298 :299 .

57 ـ الشعراني : الطبقات الكبرى 1/ 157 . ،153 

58ـ الشعراني : جـ2 /118.

59 ـ النويري : نهاية الأرب مخطوط 28 /41 ،119 ،120 ، تاريخ ابن كثير 13 / 265 ، 178 ،

60 ـ إنباء الغمر : جـ2/ 57 ، النجوم الزاهرة ج13 /10 .

61ـ تاريخ ابن إياس تحقيق محمد مصطفى 1/ 2/ 373

62 ـ الشعراني : إرشاد المغفلين . مخطوط 138 : 139 ، 233 : 237 ، 247 : 272 . رقمه بدار الكتب 921 تصوف طلعت .

63 ـ تاريخ ابن إياس تحقيق محمد مصطفى جـ2 /277 ، 4/ 165 .

64 ـ  تاريخ ابن إياس تحقيق محمد مصطفى جـ2 /277 ، 4/ 165.

65 ـ المنهل الصافي مخطوط جـ5 /481 ، النجوم الزاهرة جـ 11 /118 ، 119 .

66ـ الشعراني : الطبقات الكبرى جـ2 /183.

67ـ شذرات الذهب جـ8  /130 لابن العماد الحنبلي .ط 1351 هجرية .

68 ـ الغزي : الكواكب السائرة جـ1/84 : 85 بيروت 1945.

69 ـ الشعراني تنبيه المغتربين 93 : 94 ط 1278 .

70 ـ الشعراني :لطائف المنن 263 ط 1988 .

71ـ السخاوي : تحفة الأحباب 370 ط 1302

72ـ الدوادار : زبدة الفكرة مخطوط 9/ 475 مكتبة جامعة القاهرة برقم 24028 .السبكي طبقات الشافعية 6/ 127 الطبعة الأولى .

73 ـ الشعراني : الطبقات الكبرى جـ2 /117 .

 

 



[1]
كان حيا وقت تأليف هذا الكتاب ، ثم مات 1994.

كتاب ( التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية
يقع فى ثلاثة أجزاء تتناول بعد التمهيد أثر التصوف فى العقائد الدينية والعبادات الدينية والحياة الأخلاقية فى مصر العصر المملوكى . تعطى مقدمة الكتاب لمحة عن أصل هذا الكتاب ، وأنه كان ضمن الأجزاء المحذوفة من رسالة الدكتوراة التى قدمها المؤلف للمناقشة حين كان مدرسا مساعدا فى قسم التاريخ الاسلامى بجامعة الأزهر عام ذ977 ، ورفضوها وبعد إضطهاد دام ثلاث سنوات تم الاتفاق على حذف ثلثى الرسالة ، ونوقش ثلثها فقط ، وحصل به الباحث على درجة الدكتوراة بمرتبة الشرق الأولى فى اكتوبر 1980 . من الأجزاء المحذوفة من الرسالة ينشر المؤلف هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة ، يوضخ فيه أثر التصوف فى مصر المملوكية ويعرض فيه عقائد التصوف
more