رقم ( 4 )
الباب الثانى : مكر قريش أدى للفتوحات

الباب الثانى : مكر قريش أدى للفتوحات   

الفصل الأول  : صحابة الفتوحات صناعة قرشية فرعونية لا إسلامية

مقدمة : قريش الفرعونية

مقالات متعلقة :

1 ـ حمل صحابة الفتوحات نفس التواتر الجاهلى القرشى والثقافة الجاهلية وثقافة العصور الوسطى فى الغزو والسلب والنهب والاسترقاق . كان العرب يمارسونها فى حروب مستمرة بين القبائل ، ثم أتيح لهم بزعامة قريش ممارستها عالميا تحت شعار الاسلام ، مع أن الاسلام هو دين السلام والعدل والحرية . أى إن صحابة الفتوحات آثروا إخفاء هذه الثقافة طيلة وجودهم الى جانب النبى ، ثم ما لبثوا أن أظهروها وطبقوها بعد موته بوصولهم إلى موقع السلطة . هاجروا من مكة وتركوا قريش ، ولكنهم حملوا ثقافة قريش فى داخلهم ، وانتظروا الوقت المناسب لتطبيق هذه الثقافة الجاهلية باسم الاسلام .

2 ـ  أمر كهذا لا يمكن أن يحدث عفويا . لا بد من وجود خطّة محكمة من خلفه ، خصوصا أنّ الطرف المستفيد هو قريش التى كانت العدو الأكبر للاسلام والتى تخصّصت فى التآمر على الاسلام وحرب النبى عليه السلام ، فإذا بها بعد موت النبى وانتهاء القرآن الكريم نزولا تصبح هى زعيمة الاسلام ، وتستخدم إسمه فى فتوحاتها التى تتناقض مع شريعة الاسلام .

3 ـ قريش فى خطتها هذه لا بد أن تقوم بزرع عملاء لها حول النبى ، وهذا منتظر فى حالات الحرب والصراع . وعن طريق هؤلاء العملاء نجحت قريش فى قيادة المسلمين الى حرب عالمية أقامت بها امبراطورية عاتية . وهذا يستلزم تحقيقا بحثيا ، كيف مكرت قريش ؟ وماهى خططها ؟ وما هى طبيعة تآمرها ؟  موضوع هذا التحقيق سيكون فى الفصل التالى ( رقم 6 ) . ولكن فى البداية نشرح فى هذا الفصل كيف أنّ صحابة الفتوحات هم إمتداد لقريش زرعتهم حول النبى ، هم صناعة قرشية وليسوا صناعة اسلامية . وحتى نتعرف على هذا المنتج الصناعى ( صحابة الفتوحات ) لا بد أن نتجول فى المصنع نفسه : ( قريش ) لنتعرف فى هذا الفصل على ملامح قريش من خلال القرآن الكريم ، وكيف أنها كانت تسير على سُنّة فرعون .

4 ـ لقد جاء فى القرآن الكريم وصف قريش ثلاث مرات بأنها فى حربها للنبى تسير على ( دأب آل فرعون ) والسابقين له ؛ فى التعقيب على معركة بدر قال جل وعلا عن قريش :( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) ( آل عمران )، أى إنهم ساروا على طريق آل فرعون وسيتعرضون مثلهم للعقاب بذنوبهم . ونفس التعقيب على معركة بدر جاء مرتين فى سورة الأنفال :( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54 ).  ولهذا فإن أوصاف فرعون وملئه تنطبق على الملأ القرشى . ونتعرض لملامح قريش من هذه الزاية على سبيل الاختصار.

أولا : آل فرعون أئمة للطغاة بعدهم  وكذلك قريش

1 ـ أتّبع آل فرعون سُنّة الطغاة من قبلهم ، ثم صاروا أئمة للطغاة والطغيان من بعدهم . يقول جل وعلا عن نهايتهم : (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ )(41)(القصص). وحتى الان فأى نظام مستبد يُقال عنه إنّه فرعونى ، وكل مستبد هو فى الحقيقة يسير على دأب فرعون وسُنّته ، وقد يصل به إستبداده وعلوه فى الأرض الى إدّعائه الألوهية صراحة ، أو يزعم أن الله جل وعلا إختاره ليحكم الناس ، ويؤسس دولة دينية ، وهذا ما فعله صحابة الفتوحات والخلفاء الراشدون وغير الراشدين. ولهذا تكرّر القصص القرآنى عن فرعون ونظامه وعدائه لرب العزّة ، تحذيرا مسبّقا للمسلمين ، ولتوضيح أن الاسلام يرفض هذا النهج فى الحكم الدينى ، وليكون هذا حُجّة على المسلمين من صحابة الفتوحات ومن جاء بعدهم متّبعا سُنّة فرعون فى الظلم والاستبداد والفساد والحكم الدينى .  ومع هذا فلا يزال العرب المسلمون فى اغلبهم خاضعا للحكم الدينى ( الدولة الدينية ) من الخليج الى المغرب . وحتى المستبد العلمانى يتّكىء على شيوخ دين أرضى ؛ يركبهم ويركب بهم الشعب . وأصبح حديث رب العزة عن فرعون آيات لا نفقهها، فقد أتّخذنا القرآن مهجورا ،إذ صار القرآن كقصائد للتغنّى بها فى سرادقات العزاء..!!

2 ـ ولقد وصف رب العزّة طغاة قريش الذين نقضوا العهد وإحتلّوا الحرم المكّى بأنهم أئمة الكفر : ( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (12) التوبة )، أى أنّ أولئك المعتدين هم أئمة لكل طاغية يسير على سنّة فرعون وسّنة الملأ القرشى. وهذا هو واقع المسلمين الذين يقتدون بصحابة الفتوحات والفتنة الكبرى حتى اليوم. أولئك الصحابة هم طبقا للقرآن الكريم أئمة الكفر ، ومع ذلك يزعم الدين السّنى أنهم كالنجوم من إقتدى بهم إهتدى . وفعلا ، اقتدى بهم المسلمون ، ولذلك لا يزالون يقتتلون فيما بينهم ، من مقتل عثمان وحتى الآن .  وليس هناك بين البشر أمّة تجعل الاقتتال بينها دينا وواقعا مستمرا 14 قرنا من الزمان سوى السّنة والشيعة .!!

ثانيا : الطغيان الفرعونى والقرشى :

1 ـ نكتفى فى طغيان فرعون بقوله جل وعلا لموسى :( اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17)(النازعات). والطغيان هو مجاوزة الحد فى الظلم والاعتداء والبغى . وهكذا كان فرعون ، وهكذا أيضا كانت قريش ، فتكرر وصفهم بأنهم فى طغيانهم يعمهون أى يسيرون فى طريق الطغيان عُميا يعمهون ، ويذرهم ربهم فى طريقهم يعمهون الى أن يلقوا جزءاهم فى الدنيا والآخرة كأى طاغية . ونقرأ قوله جل وعلا عن قريش :( وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) الأنعام )،( وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) الأعراف)( فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) يونس )

2 ـ ويقول جل وعلا يخاطب النبى عليه السلام عن التواتر القرشى الباطل الذى حرّف ملة ابراهيم :( فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ (109)( يونس). أى هم يعبدون وفق التراث الباطل الذى وجدوا عليه آباءهم ، وسينالون جزاءهم.

3 ـ المُلفت للنظر قوله جل وعلا فيما بعد يخاطب النبى آمرا وناهيا ومحذّرا بلهجة شديدة :( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) يونس ) ، فهنا أمر بالاستقامة ونهى عن الوقوع فى الطغيان الذى وقعت فيه قريش ، ثم تأتى الآية التالية تنهى وتحذّر من الوثوق بقريش الظالمة حتى لا يقع علي النبى والمؤمنين نفس العقاب :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ (113) يونس ). أى لا يكفى فقط الابتعاد عن الطغيان بل لا بد أيضا من عدم الوثوق بالطغاة . وهى نصيحة غالية لكل إنسان يريد الاستقامة الفعلية . والمستفاد هنا من هذه الآيات المكّية أنها بادرت مقدما بالتحذير ؛ تحذير النبى ومن تاب معه من الوثوق فى طُغاة قريش . وهو تحذير قاله مسبقا رب العزّة جل وعلا الذى يعلم الحاضر والمستقبل . والمستفاد ايضا أن صدور هذا التحذير بهذه القوة جاء نتيجة تآمر فعلى من الطُغاة وقتها، فلا بد من الحذر منهم وعدم الركون اليهم .

ثالثا : مهابة فرعون ومهابة قريش

1 ـ الطاغية يُرعب ويُرهب قومه ويخيفهم . وهكذا كان فرعون . حتى لقد إرتعب موسى عندما قال له ربه جل وعلا : (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) طه ) فطلب موسى أن يكون معه أخوه هارون ( قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) ) . وأصبح هارون رسولا مع أخيه الى فرعون ، وقال رب العزّة لهما :( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُطَغَى (43) طه )، وأمرهما ربهما أن يترفقا فى الكلام مع هذا الطاغية : ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) ، ولكن خوف موسى وهارون إزداد من طغيان فرعون وغضبه ( قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) فطمأنهما رب العزة بحمايته لهما : ( قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) طه ). هنا طغيان متطرف إستلزم أن يتدخّل رب العزة القاهر الجبّار لكى يهدّىء روع رسولين من الرسل المكرّمين . وإذا كان هذا هو حال إثنين من الأنبياء فكيف ببقية أفراد الشعب تحت حُكم فرعون وقهره ، وهو القائل عن بنى اسرائيل (  قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) الاعراف  ).

2 ـ ونفس الحال فى طغيان قريش ومهابتها . ونتعرف على هذا من هلع المسلمين قبيل إشتباكهم مع جيش قريش فى موقعة بدر . عندما أفلتت منهم القافلة وتعين عليهم مواجهة جيش قريش كرهوا ذلك ، وأخذوا يجادلون النبى يريدون تفادى هذه المواجهة رُعبا وهلعا من قريش ، وعندما تحتّمت المواجهة كانوا كأنما يُساقون الى الموت وهم ينظرون .هذا مع إن الوعد الالهى جاء للنبى بأنّ لهم إمّا القافلة وإمّا النصر ، وطالما أفلتت القافلة فإن النصر من نصيبهم . كان المقصد الالهى من المواجهة أن يتخلّص المسلمون من عُقدة الرعب من قريش ومهابتها ، وهذا لا يمكن حدوثه إلّا بالانتصار الحربى على جيش قريش الذى يفوقهم ثلاث مرات فى العدد .  إستغاث المؤمنون بربهم جل وعلا فأنزل على قلوبهم ملائكة تقوّى عزائمهم وتزيل عنهم الرعب والمهابة من قريش . هذا التدخل الالهى بملائكة تثبّت المؤمنين فى المعركة يؤكّد لنا أن مهابة قريش كانت هائلة ، ولهذا كانت موقعة بدر فاصلة ، إذ حطّمت اسطورة قريش وطغيانها ، فأصبح يوم بدر إسمه ( يوم الفرقان ) دلالة على التحوّل الخطير بتحطيم اسطورة قريش ومهابتها : ( الأنفال 5 : 12 ، 41 ).

3 ـ وفى الوقت الذى كان فيه المؤمنون مرتعبين قبل المواجهة كان جيش قريش يتحرّك فى أبّهة وعظمة وخُيلاء يضمن النصر ، أو بالتعبير القرآنى :  (.. خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) الانفال ).

رابعا :  المكر الفرعونى والمكر القرشى

1 ـ ارتباط الاستكبار والعلوّ بالمكر : الطُغاة هم أكابر المجرمين فى أى مجتمع وأى دولة ، يتحكمون فيها ، مستكبرين مستعلين على الناس ، لذا فإن الدار الآخرة ليست لأصحاب الطموح السياسى الذين يريدون عُلوا فى الأرض و فسادا . فهم ينافسون رب العزّة فى العلوّ على  الناس ( سبحانه وتعالى ) فهو جلّ و علا  وحده صاحب ( العلو ) : (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً (43)( الاسراء ). أولئك يسيرون على سنّة فرعون الذى علا فى الأرض (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ ) القصص 4 ) وكان من العالين : (  مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنْ الْمُسْرِفِينَ (31) الدخان ) :(وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ (83)( يونس ) . وفرعون نفسه يسير على سّنّة ابليس الذى استكبر فقال له رب العزة : (  مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ (75) ) ص ). على النقيض من هؤلاء  يقول جل وعلا عن الفائزين بالأخرة : (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) القصص ) .

2 ـ أصحاب العلوّ  يحتاجون للمكر والخداع والتآمر والكيد كى يصلوا للحكم ، أو كى يحتفظوا بالحكم ، وليصبحوا ( أصحاب المعالى ) و ( أصحاب السّمو ) ويقال لهم ألفاظ التقديس التى لا تكون إلا لله جل وعلا مثل: ( صاحب الجلالة ) ( صاحب القداسة ) ( معاليك ) ( سُمُوّك ) . لكى يحتفظوا بمكانتهم ( العالية فوق  رءوس الناس ) أو لكى يصلوا اليها لا بد لهم من المكر ، وفى النهاية سيدفعون الثمن . يقول جل وعلا فى قاعدة قرآنية إجتماعية سياسية تسرى فى كل زمان ومكان قبل وبعد نزول القرآن :( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) ( الانعام ).

2 ـ معنى مكر الله  : والتعبير القرآنى هو أن يردّ الله جل وعلا مكرهم بمكر . ونسبة ( المكر ) لله جل وعلا هو فى الفصاحة العربية ضمن اسلوب ( المشاكلة ) . واللسان البشرى لا يمكنه التعبير عن ذات الله جل وعلا وصفاه وأفعاله لأنّ ذلك فوق التصوّرات والادراكات البشرية ، لذا يأتى التعبير باسلوب المشاكلة كى يفهم البشر ، فإذا كانوا يمكرون فإن الله جل وعلا ( أسرع مكرا ) (  وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلْ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) ( يونس ). لاسبيل آخر لوصف ردّ الفعل الالهى سوى ذلك ، فهذا هو ما يستطيع البشر فهمه . والواقع أن المكر السىء ينقلب على صاحبه ، فهذا قانون الاهى يسرى فى كل زمان ومكان ، أو كما قال جل وعلا : (  وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) ( الانعام ).

3 ـ لايحيق المكر السيء إلا بأهله سابقا ولاحقا : يصف ربّ العزة إستكبار قريش ومكرها بالنبى ويحذّرهم من عاقبة مكرهم ، ومؤكّدا أنّ المكر السىء لا يحيق إلّا بأهله : (اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) ( فاطر ). هنا يرتبط المكر القرشى بالاستكبار القرشى ، ويأتيهم التحذير الالهى ممّا حدث لأهل المكر والاستكبار من قبلهم .

4 ـ وتتوالى التحذيرات فى السّور المكية دليلا على إنهماك قريش فى مكة بالتخطيط  والتآمر على النبى والمسلمين والاسلام ، يقول جل وعلا عنهم:( وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)( الرعد )، ( قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26)( النحل )، ويذكّرهم رب العزّة بما حدث لقوم نوح ومكرهم وبسببه تعرضوا للغرق بالطوفان: ( وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22)،( مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً (25) ( نوح ). ويذكّرهم بما حدث لقوم ثمود حين مكروا بنبيهم صالح فانتهى الأمر بتدميرهم ، قال جل : ( وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50)النمل  ) وكى يعتبر القارىء يقول جل وعلا : ( فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)   النمل  )

5 ـ بين مكر فرعون ومكر قريش : وفرعون هو نموذج الاستكبار، يقول عنه جل وعلا وقومه وجنده :(وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ )(39)(القصص ). وضجّ موسى عليه السلام من تكبّر فرعون فاستعاذ بالله جل وعلا منه كما يستعيذ المؤمن من الشيطان الرجيم : ( وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)( غافر). فرعون لم يكن محتاجا للمكر لأنّه كان متحكما فى الثرة والسلطة والقوة ، ويتخيّل أنّ خصومه مقهورون تحت سلطانه  . ولكن إضطرّ فرعون للمكر ليواجه ذلك الأمير الفرعونى المسالم الذى كان يكتم إيمانه ويعظ قومه. يقول جل وعلا :( فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)( غافر ). لم يستخدم فرعون ضده القوّة الصريحة العاتية كما كان يفعل مع بنى اسرائيل ، لأنّه يتعامل مع أمير ناصح خائف على قومه ، فحاول أن يمكر به خفية ، فوقى الله جل وعلا ذلك الأمير المؤمن من مكر فرعون .

إختلف الوضع فى قريش ، فأئمة الكفر فيها لا يتحكمون فى كل شىء ، وهناك خطوط حمراء لا يمكن أن يتخطّوها حرصا على مصالحهم وعلاقات العشائر ، والنبى عليه السلام ينتمى الى عشيرة ذات نفوذ ، وهناك له أتباع داخل مكة وخارجها ، وبالتالى فإن إستعمال القوة محكوم بمحاذير . ولهذا لا بد من المكر والكيد واساليب الخداع و ( السياسة ) وأهمها التجسّس وزرع العملاء حول النبى . المكر هو الذى يسدّ الفراغ بديلا عن القوة الصريحة .

ولهذا تفوقت قريش على فرعون فى المكر . يقول جلّ وعلا عن مكر قريش أنهم زّيّن لهم مكرهم : ( بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ  ) (33) الرعد ). ويصف مكرهم بأنه تزول منه الجبال : (  وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)( ابراهيم )، وهذا المكر القرشى الذى تزول منه الجبال  قام بزرع عملاء وجواسيس حول النبى صاروا من كبار الصحابة وزعماء المهاجرين . وهم الذين أصبحوا قادة الفتوحات . وفى الآية التالية يطمئن رب العزة رسوله الكريم باسلوب التأكيد بأن الانتقام منهم آت لا ريب فيه : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (47) ابراهيم ). وينهاه عن أن يضيق صدره من مكرهم : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) ( النمل ) بل عليه أن يصبر : (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)( النحل ). ويؤكّد رب العزة مرتين فى القرآن الكريم أنه سيستدرج أولئك الماكرين من حيث لا يعلمون : ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) الأعراف )،( فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) القلم ).وهذا الكيد الالهى هو الرد على المكر القرشى .

خامسا : الكيد والتآمر لعموم  السابقين

1 ـ الفرق بين الكيد والمكر : ( المكر ) هو التآمر الخفى ، ولهذا فعندما سجد سّحرة فرعون إعتقد أنها مؤامرة خفية ضده : (قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)( الأعراف ). أمّا (الكيد) فقد يكون ظاهرا علنيا: ( فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) طه )، وقد يكون خفيا (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ )(76) يوسف ) .

2 ـ وهذا الكيد الالهى يقف بالمرصاد للطغاة فى كل زمان ومكان ، يقول جل وعلا : ( أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) ( الفجر ).ولذلك إنتهى كيد فرعون الى وبال عليه :( وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ (37)( غافر )( فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25)( غافر ). رب العزة هو الذى جعل فرعون يتبنى موسى ليكون موسى له عدوا وحزنا ، وكل كيد لفرعون كان يرتد عليه فشلا ، وفى النهاية انتهى بالغرق هو وجنده ، وما أغنى عنه كيده شيئا ، وهو الذى كان يتخيل نفسه الرب الأعلى .

 3 ـ ونفس المصير ينتظر قريش وكيدها ، إذ سيحيط بهم كيدهم : ( أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ الْمَكِيدُونَ (42)(الطور  )، وسيستدرجهم رب العزة من حيث لا يعلمون ( الاعراف 183 ) ( القلم 45 ).   هو إمهال لهم ، فالله جل وعلا يُمهل ولا يُهمل : (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) الطارق ).

أخيرا : كيف مكرت قريش ؟ وماهى خططها ؟ وما هى طبيعة تآمرها ؟ وكيف إختلفت عن مكر فرعون ولماذا ؟ وكيف إستغلت وضع المسلمين وتطوره لمصلحتها ..إنتظرونا .

الباب الثانى  مكر قريش أدّى للفتوحات

الفصل الثانى : صحابة الفتوحات عملاء لقريش زرعتهم حول النبى عليه السلام

 مقدمة  : بين المكر الفرعونى  والمكر القرشى

1 ـ  انطلق فرعون يقهر بنى اسرائيل يعذّبهم ويقتل أبناءهم . وحيث إحتكر فرعون كل القوة والثروة فقد كان الملجأ الوحيد لحماية الرضيع موسى هو قصر فرعون نفسه . إختلف الحال فى الطغيان القرشى والذى تقاسمه بنو عبد مناف . أنجب عبد مناف توأمين : هاشم وعبد شمس . وعبد شمس أنجب أمية . وتقاسم بنوهاشم وبنو عبد شمس وأمية النفوذ ، إختصّ بنوهاشم برعاية البيت الحرام والحجّاج ، بينما إختص بنو أمية برحلة الشتاء والصيف والعلاقات بالقبائل داخل الجزيرة العربية وداخل الشام . ظهور محمد عليه السلام برسالة القرآن ودعوة أنه ( لا اله إلّا الله ) كان تحديا لقريش ، ليس فقط فى زعامتها للعرب خارج مكة ، ولكن أيضا فى ترابطها ووحدتها حيث تنتمى قريش لأصل واحد هو( كنانة ) تتفرع منه عشائرها ، وهى بوحدتها تدعّم زعامتها للعرب ، وتحمى تجارتها وتنظم شئونها داخليا . ظهور الاسلام أصبح مهددا لهذه الوحدة القرشية . ليس فقط لأن النبى ينتمى لأحد العشائر القوية فى قريش ، وليس فقط لأن بنى أمية هم ابناء عمومة لبنى هاشم ، ولكن أيضا لأن هناك أتباعا للاسلام من شتى العشائر، وبالتالى فإن إستعمال قريش للمكر وصل الى عبقرية غير مسبوقة ، أو بالتعبير القرآنى ( تزول منه الجبال ) : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)( ابراهيم ).

2 ـ العُنف الفرعوني غير وارد لأنّ  فرعون كان يستأصل شعبا يعتبره غريبا ، ويتلذّذ بتعذيبه . وقد إعتبر هروب هذا الشعب من قبضته تحديا لهيبته فأخذ يطاردهم الى ان غرق .

أولا : ومن الملفت للنظر أنّ :

1 ـ غرق فرعون وجنده كان أخر إهلاك عام فى قصص الأنبياء والقرون الأولى من الأمم السابقة:( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)( القصص )، وانتهت هذه الصفحة من تاريخ البشرية ، وبالتالى فإن الاهلاك العام لقريش ليس واردا. ثم إنّ عليهم مهمة يجب أن يؤدوها حتى فى عصيانهم للاسلام، هى توصيل القرآن الى آفاق العالم ، فلا بد للقرآن بحفظ الرحمن أن يظهر على الدين كله ولو كره الكافرون المشركون : (التوبة 33 )(الفتح 28 ) (الصف 9 ). وظهوره يعنى تبليغه للناس حتى لو كان من يبلغه عاصيا له وعدوا له . ومن عصر الفتوحات وحتى الآن إعتاد المسلمون بأديانهم الأرضية نشر القرآن والحفاظ عليه مع أتّخاذه مهجورا عن حياتهم العملية وكونهم طبقا للقرآن نفسه مشركين كافرين. أى إنّ تلك الفتوحات العربية القرشية مع أنها ردّة عن الاسلام إلّا أنها حملت القرآن الى ربوع العالم ، سواء رضيت قريش أم أبت ، لأن حفظ الله جل وعلا للذكر القرآنى فوق إمكانات البشر ، وباستعمال إمكانات البشر أيضا . 

2 ـ إن الفتوحات العربية لم تنشر حقائق الاسلام ، بل أعادت مضمون الأديان الأرضية السابقة فى نسخ جديدة وبأسماء اسلامية ولغة عربية ، فالتشيع الفارسى هو تعبير دينى عن الشعوبية الايرانية والقومية الفارسية والعقائد الايرانية . ونفس الحال فى مصر التى تعرضت لاحتلال دول مختلفة قبل الاحتلال العربى ، من الهكسوس ، والفرس والأشوريين واليونانيين والروم . ثم العرب . وحافظت مصر على شخصيتها الدينية ، وقامت بتمصير المؤثرات الوافدة مع كل إحتلال . بل ونشرت عقائدها لدى المحتل الأجنبى نفسه . كل ما كانت تفعله هو نفس المضامين المصرية ولكن تحت أسماء جديدة . لذا قامت مصر بتمصير ما يعرف بالمسيحية وقبلها اليهودية ، ثم قامت بتمصير الاسلام ، ومارست نفس عقائدها القديمة الفرعونية تحت مسميات اسلامية وباللغة العربية . على طول التاريخ المصرى كان الثالوث المقدس فى الديانة الفرعونية يتم استرجاع عبادته تحت اسماء جديدة ، وعبادة الثالوث ايزيس واوزيريس وحورس هى نفس الثالوث القبطى ثم هى نفس السيدة زينب والحسين مع رب العزة ؛فالقبطية تكرار للديانة الفرعونية ، والتصوف المصرى بعد الفتح العربى تكرار لنفس التراث الفرعونى الدينى، والتفاصيل فى كتابنا ( شخصية مصر ) المنشور هنا . أى إن الفتح العربى لم يؤثر دينيا فى مصر ، فظلت ثوابت المصريين الدينية كما هى مع تغيير فى الأسماء واللغات ، من هيروغليفية الى ديموطيقية الى قبطية الى عربية . الشىء اوحيد الذى أتى به الفتح العربى القرشى لمصر هو القرآن الكريم ، ليكون حُجة على المصريين جميعا ، سواء من بقى منهم على قبطيته أو من دخل فى الاسلام ثم قام بتحويره الى دين أرضى .

3 ـ  وحاق المكر السىء بأهله . بذل فرعون كل كيده فى قهر بنى اسرائيل فجعله رب العزة هو الذى يربى موسى فى كنفه ليصبح موسى فيما بعد عدوا له وحزنا . أخذ فرعون يطارد موسى وقومه ليهلكهم وما كان يعرف أنه يسعى جريا الى موقع هلاكه . نفس الحال مع قريش، كرهت القرآن وإصطنعت أحاديث اللهو لتصرف عنه الناس ، ومن كراهيتها للقرآن حاربت النبى والمسلمين واستخدمت كل دهائها ومكرها ، وبلغت أوج إنتصارها بجريمة الفتوحات ، وأسفرت الفتوحات فى النهاية على نشر القرآن الكريم فى ربوع العالم .

4 ـ أن فرعون بكل جبروته لم يستطع قتل موسى مع أنه تمنى ذلك: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26) غافر)، وذلك لأن الله جل وعلا تولى حفظ موسى وأخيه هارون ، ووعدهما بذلك ليطمئنهما : (قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) القصص ). ونفس الحال مع مكر قريش الذى تزول منه الجبال ، فلم يستطع عملاء قريش من كبار الصحابة المحيطين بالنبى أن يقتلوه فى مكة أو المدينة ، ولم تستطع قريش قتله فى المواجهات الحربية ، وعجز عن ذلك المنافقون من الأوس والخزرج ، والمنافقون الوافدون من الخارج والمنافقون الذين مردوا على النفاق . السبب أن الله جل وعلا عصمه من الناس حتى يقوم بتبليغ الرسالة ، فلما أتم التبيلغ عليه السلام واكتمل الاسلام دينا أماته رب العزة على فراشه .يقول جل وعلا :( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ   (67)( المائدة ). وسبقت إشارات فى مكة بأنه سيموت موتا عاديا : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) ( الزمر ) . وحين أشيع قتله فى معركة أُحُد قال رب العزة مؤكّدا أن المهم ليس شخص محمد فهو رسول قد خلت من قبله الرسل: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144). المهم هو الرسالة ، لذا تأتى الآية التالية تومىء الى أن موته مؤجل ولم يحن أجله بعد ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً )(145)(آ ل عمران ). وفى الوقت الذى كان فيه النبى عليه السلام هو المطلوب رقم واحد للقتل وحماه ربّه جل وعلا فإن الخلفاء الراشدين تعرضوا جميعا للاغتيال من بعده .

ثانيا : تنوع المكر القرشى الذى ( تزول منه الجبال )

 كان تركيز مكر وكيد فرعون على العنف ، بينما تركز مكر قريش وكيدها على وسائل أخرى بجانب العنف ، أهمها زرع العملاء حول النبى بزعم دخولهم فى الاسلام ، ثم إجبار النبى والمسلمين على الهجرة ، أى تصدير المشكلة للخارج والتعامل معها بعيدا عن مخاطر تهدد الوضع القرشى فى مكة ، وفى نفس الوقت وضع النبى والمؤمنين تحت المراقبة والسيطرة لو أمكن . وبعد الهجرة كانت إغارات سريعة لقريش على المدينة لتأكيد الهيمنة والغطرسة القرشية . ثم نزل الاذن للمؤمنين بالقتال فكانت الحروب ، وبهزيمة بدر زالت هيبة قريش فتغيرت إستراتيجية قريش فانتهجت سياسة العنف المتطرف وثأرت لنفسها فى موقعة ( أحد ) ثم حاولت إستئصال المسلمين فى موقعة الأحزاب لتؤكّد سيطرتها وتعيد تأمين طريق قوافلها، ففشلت . فعادت للتركيز على ساسيتها القديمة وهى محاولة الاحتواء والاستفادة منه عبر عملائها الذين يأتون للنبى يزعمون اسلامهم ، يحيطون به ويتفانون فى الطاعة وهم جواسيس وعملاء لقريش . هذا ، مع استغلال قريش للأعراب فى خلق مشاكل للمسلمين فى دولتهم بدلا من تجميعهم فى حرب مكشوفة مثل غزوة الأحزاب  .

 ثالثا  : مكر قريش بتهجير المسلمين من مكة

1 ـ قمة المكر والدهاء أن ترسم لخصمك طريقا ليسير فيه وتجعله يتصور إنه يفعل ذلك بأختياره . هذه الطريقة تنتهجها الدول الكبرى فى تخطيطها . وسبقتهم قريش . فى لقاء الملأ القرشى للمكر بالنبى والاسلام والمسلمين إستعرضوا ثلاثة حلول : إعتقال النبى ، أو قتله ، أو إرغامه على الهجرة . يقول جل وعلا يفضح تآمرهم :( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)( الانفال ). واستقر أمرهم على أن يرغموه على الهجرة لأنها من وجهة نظرهم أنجح الحلول ، لأسباب شتى : فقتل النبى يثير حربا أهلية فى مكة فلن يرضى بنوهاشم إلا بالثأر له دفعا للعار عنهم لو سكتوا . و(تثبيت ) النبى أو إعتقاله سيدفع بمواجهة اخرى قد يتحالف فيها أتباع النبى مع عشيرته فى تخليصه من السجن ، وتقوم ثورة وفتنة تدفع قريش ثمنها . أما ( تهجير ) النبى وأتباعه فهو سلب لممتلكات المؤمنين المكّييّن وبيوتهم وأموالهم وعقاراتهم وأسهمهم فى التجارة القرشية، وهو  تصدير للمشكلة خارج حدود مكة ، ثم تعامل معها كعلاقات خارجية ، يتم فيها إرغام من يتبقى من بنى هاشم فى مكة على ان يكون شريكا للملأ القرشى فى تعامله مع هذا العدو  الخارجى . ويكون عليهم الاختيار بين البقاء فى مكة والتبرؤ من محمد ، أو الهجرة مع محمد والتبرؤ من مكة وقريش . 

2 ـ والسياق القرآنى فى هذا الموضوع عن الهجرة لا يستعمل كلمة الهجرة بل مصطلح ( الإخراج ) ليؤكّد على أنه تهجير قسرى وإخراج قهرى وإرغام على الهجرة ليس فيه إختيار. يقول رب العزة: ( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ (13)( محمد )، ( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا )(40) ( التوبة ). أويقول رب العزة عن إخراج النبى والمؤمنين من ديارهم وأموالهم : ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ  ) (8) ( الحشر )، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ ) (1) ، (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ) (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ   (9) الممتحنة ). ويقول رب العزة عن المهاجرين : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ )ٌ (40)( الحج ).

3 ـ ولكى ينجح هذا التهجير القسرى فلا بد من اللجوء الى سياسة الحافة ، أى آخر المدى فى إضطهاد المؤمنين ، لتكون الهجرة هى الملاذ الوحيد للنجاة من هذه القرية الظالم أهلها . وأنتهى المؤمنون والنبى الى هذا الحل متصورين أنّ قريش لن ترضى به . فكانوا يهاجرون سرّا . وقريش تتظاهر بالمطاردة لتؤكّد إقتناعهم بهذا . وانتهى المشهد بتصدير المشكلة بعيدا عن مكة وقريش .

4 ـ على أن الدهاء القرشى ( الذى تزول منه الجبال ) جمع بين المكر القرشى فى التهجير والكيد الفرعونى فى استعمال العنف ، أى كان لا بد من متابعة الهجوم على المؤمنين فى المدينة لإبراز الهيمنة القرشية من ناحية ، وللحفاظ على هيبة قريش بين القبائل ، وليظل النبى والمؤمنون فى المدينة تحت الحصار والهلع والفزع من قريش وسطوتها ومهابتها ، وهنا تستطيع قريش أن تمارس العنف معهم بعيدا عن مكة . وكان يعزّز من هذا أن المؤمنين وقتها كانوا مأمورين بكف اليد عن الدفاع عن انفسهم ، ولم يأت لهم الأمر بعد بالقتال الدفاعى . لذا تمتعت قريش بفترة كان تهاجم فيها المدينة تقتل وتعود فيما يشبه النزهة الحربية . واستمر هذا الى أنزل الإذن للمؤمنين بالقتال ، يقول جل وعلا  يصف الملأ القرشى :( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) الحج )، وتأتى الآية التالية تأذن للمؤمنين الذين يتعرضون للهجوم بأن يقاتلوا دفاعا عن انفسهم : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) (40) الحج ).

5 ـ بهزيمة قريش المهينة فى ( بدر ) زالت هيبتها بين القبائل ، وتهددت تجارتها وقلّت أهمية البيت الحرام بالنسبة لها ، ولم تنجح نتيجة معركة ( أُحُد ) فى ترميم الهيبة القرشية ، وحين حاولوا ترميمها بالتحالف مع الأحزاب لاستئصال المؤمنين فى معركة الخندق ( الأحزاب ) كانت النتيجة وبالا على قريش . هذا فى الوقت الذى نجح فيه القرآن الكريم بفصاحته فى تنوير العرب ، وأبان لهم سخافة عبادة الأحجار التى ينحتونها ، وبالتالى لم يعد لأصنامهم عند الكعبة قيمة ، بل عرفوا أن قريش كانت تخدعهم وتستغلهم فى حماية تجارتها مقابل خرافات وأوهام . هذا التحول الذى حدث بعد يوم بدر كان فارقا هائلا ، أو يوم الفرقان بالتعبير القرآنى . لذا جرى تركيز قريش بعد فشل غزوتهم فى الأحزاب على زرع المزيد من عملائهم حول النبى ، ومحاولة الاستفادة من الوضع الجديد باحتوائه والسيطرة عليه من بعيد ، وانتهاج سياسة جديدة مع الاعراب ليقوموا بحرب النبى والمؤمنين بالوكالة عن قريش قبل وبعد موت النبى عليه السلام .  الفصل التالى سيتوقف مع علاقة قريش بالأعراب . ولكن نختم هذا الفصل بمكر قريش فى زرع عملاء حول النبى فى مكة ثم فى المدينة .

رابعا : زرع عملاء حول النبى 

1 ـ من مكر قريش ( الذى تزول منه الجبال ) إستغلال الوضع الخاص بالاسلام والمسلمين فى مكة ثم فى المدينة . فالدخول فى الاسلام غاية فى البساطة ، هو مجرد مقابلة النبى والإعلان له عن الدخول فى الاسلام . وليس للنبى أن يفتّش على سريرة أحد ، فكل من يأتى ليعلن اسلامه عليه أن يقبله ، ولله جل وعلا الحُكم على ما فى القلوب . المطلوب هو الاسلام الظاهرى بمعنى السلام ، والايمان الظاهرى بمعنى الأمن والأمان . ليس فى الأمر ( جهاز كشف الكذب ) ولم ينزل فى البداية فى مكة أمر بالإستجواب والتحريات . الوضع الخاص بالنبى عليه السلام والمسلمين فى مكة أنهم كانوا يفرحون بكل من يأتى مسلما ، ويرحبون بكل ( أخ أو أخت ) فى الاسلام ، خصوصا إذا كان من أصحاب الحيثية والنفوذ . وبالتالى يكون سهلا جدا على الملأ القرشى زرع عملاء وجواسيس حول النبى من البداية ، وأن يتكاثر عددهم مع إنتشار الاسلام.   

2 ـ وبعد الهجرة الى المدينة صار للنبى دولة بالمفهوم الحديث ، لها حدود ، ولها ولاية على المقيين فيها ، ولها علاقات بجيرانها من اليهود ومعاهدات معهم ، لذا تتابعت الهجرة للمدينة من مكة ومن غيرها ، وشملت النساء بطريقة مُلفتة ، بما إتّضح معه أن أئمة الكفر من قريش هم الذينإرسلوا بعض النساء جواسيس للمدينة ، لذا جاء أمر بإجراء إختبار ( أمنى ) عليهنّ للتأكّد من الغرض من هجرتهن ، هل هو رغبة فى الاسلام أم للخداع والتجسس . والايمان فى اللسان العربى و القرآنى له معنيان : إيمان ظاهرى بمعنى الأمن والأمان ( آمن ل أى وثق  ) ، وإيمان قلبى بمعنى ( آمن ب ) أى إعتقد .  الاختبار هنا بحسب ( الايمان الظاهرى ) بمعنى ( الأمن والأمان ) وليس ( الايمان القلبى ) الذى لا يعلم حقيقته إلا الله جل وعلا ، بمعنى هل هى مؤمنة بمعنى أنها ( مأمونة الجانب ، يمكن الوثوق بها والأمن لها وأن نأتمنها ) أم ليست كذلك ؟ . فإذا ظهر من الاختبار أنها مأمونة الجانب فلا يجوز إرجاعها للكفار المعتدين . أما إذا تأكّد الشّك فيها فلا بد من إرجاعها من حيث أتت وعدم السماح لها بدخول المدينة . يقول جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ) (10) الممتحنة ).

3 ـ كانت الهجرة للمدينة عامل قوة يزداد به المؤمنون عددا ، كما كانت نقطة ضعف يتسلل بها عملاء قريش من كل حدب وصوب . ومن المنتظر أن يتم التركيز على الهجرة من جانب دهاة الملأ القرشى فى زرع العملاء القادمين من مكة وقريش أو من الأعراب المقيمين حول المدينة . وهذا أنتج ظهور الكثير من المنافقين من الأعراب وداخل المدينة .  وهنا نلاحظ تنوّع أنّ حديث رب العزة تزايد عن المنافقين بمرور الوقت ،  وبعد أن كان آية واحدة فى سورة الأنفال التى نزلت بعد موقعة بدر ، تكاثرت الآيات فى سور ( البقرة ) ثم ( آل عمران ) و ( النساء ) و( المنافقون ) و ( المائدة ) الى سورة ( التوبة ) . وفى كلها تفصيلات عن أنواع مختلفة من المنافقين وتآمر ومكائد وعلاقات مريبة وتحالفات تحتية بين المنافقين فى الداخل والكافرين فى الخارج . كل هذا يؤكّد أن النفاق لم يكن وقتها مقصورا على الأوس والخزرج سكان المدينة ( يثرب ) بل أصبح يشمل آخرين وافدين . ويمكن القول هنا بأن بعض الآيات عنهم كانت تشير الى كونهم من المنافقين المحليين كما جاء فى سورة المنافقين (هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8))،  وآيات أخرى تتحدث عن ثراء بعض المنافقين وتنهى النبى عن الاعجاب بأموالهم وأولادهم ( التوبة 55 ، 85 ). ولكن تنوع الحديث عن تآمرهم ووجودهم بقوة وكثافة فى أواخر السور وخصوصا سورة التوبة يفيد بأنه اصبح لهم جمهور ، ولا نتصور أن هذا الجمهور قد نبت فجأة فى المدينة بين الأنصار ، ولكن المتوقع أنه جمهور وافد ممّن أتى للمدينة مهاجرا ومنافقا فى نفس الوقت ، وعمل فى خدمة المنافقين الكبار الأثرياء من الأوس والخزرج .

ولمزيد من التوضيح نقارن ما جاء فى أوائل السور المدنية بهذا الخصوص . ففى البداية هى آية وحيدة بعد معركة بدر: ( إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) ) ( الأنفال )، أى أقلية منافقة مقابل أكثرية من المهاجرين والأنصار الذين كانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة : (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) (9) الحشر ). ثم يعلو صوت النفاق متشجعا بهزيمة معركة ( أُحّد ) ( آل عمران :   118 ـ  120، 154 : 180 ) ويبدو معه أنه نفاق محلّى من داخل المدينة، ثم يظهر مكشوفا صريحا فى معركة الأحزاب ( الأحزاب 12 : 20 ، 60 : 62  ). بفشل الأحزاب يتزايد صوت النفاق بعد سكوت الحرب بين المسلمين وقريش ، بما يعنى تغييرا فى استراتيجية قريش بارسال العملاء المنافقين بكثرة الى المدينة ، فتمتلىء المدينة بضجيجهم وتآمرهم فى سورة التوبة ( 42 : 110 ) ، ونكتفى منها بقوله جل وعلا عن المظاهرات العلنية لجماعات المنافقين من الرجال والنساء فى شوارع المدينة تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف : (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (67) .  مكر قريش الذى تزول منه الجبال هو المسئول عن تزايد النفاق فى المدينة بهذا الشكل عوضا عن خمود الحرب المّعلنة بينهم وبين النبى .

أخيرا

1 ـ كانت المدينة قبيل موت النبى حُبلى بتطورات ظهرت فجأة بعد موته ، وفيها عادت قريش بمكرها  تتصدر دولة الاسلام على خلاف المتوقع . المتوقع لو سارت الأمور سيرها الطبيعى أن العدو المنهزم بعد العفو عنه يقبع فى المؤخرة راضيا بحقن دمه بعدما أنفق حياته من قبل فى إضطهاد وحرب المؤمنين . ولكن أن يعود نفس العدو للسيطرة وبقوة وبسرعة فهذا مستحيل إلا إذا كان خلفه مكر تزول منه الجبال كما قال جل وعلا عن مكر قريش . والعجيب أن الملأ القرشى فى مكة قام بتعذيب المؤمنين المستضعفين ، فتعرّض عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود للعذاب فى مكة فى بداية الدعوة . ثم تعرضا لعذاب آخر فى شيخوختهما فى خلافة عثمان فى ظل سيطرة نفس الملأ القرشى .!!

3 ـ بمكر قريش الذى تزول منه الجبال كان الاسلام لمعة ضوء سرعان ما طغت عليها ثقافة العصر فعادت بعدها الأمور الى ما كانت عليه من ظلم وظلام ، ولا تزال .

4 ـ ولكن لا يحيق المكر السىء إلا بأهله حتى لو كان فى مثل المكر القرشى . فقد نجح النبى عليه السلام فى تبليغ القرآن ، وساعدت قريش بفتوحاتها على تبليغ القرآن للبشرية ، فهذا هو حفظ  الله جل وعلا حفظه للقرآن الكريم ولو كره الكافرون ، ليكون حُجة عليهم بكل أديانهم الأرضية ، وحتى قيام الساعة .

الباب الثانى : مكر قريش أدّى للفتوحات 

الفصل الثالث : مكر قريش باستغلال الأعراب ضد النبى والمسلمين

أولا : إستعراض موجز لسورة الأنفال

بعد هزيمة قريش فى بدر دخل المسلمون عصرا جديدا فارقا عما قبله ، واستلزم وضع قواعد يعتمد فيها المسلمون على أنفسهم بدون حاجة الى تثبيت الملائكة لقلوبهم . لذا نزلت فى سورة الأنفال قواعد للنبى عليه السلام والمسلمين فى العلاقات مع المعتدين الكافرين ، وفى القتال الدفاعى  ،وكانت هذه القواعد تستشرف المستقبل لأنّ من أنزلها هو عالم الغيب والشهادة . ونبدأ باستعراض لسورة الأنفال وهى تشير الى أحداث ستقع ، وتضع لها القواعد مقدما ، ومنها :

1 ـ  إن الأنفال أو الغنائم ليست هدفا للقتال فى الاسلام كما هو الشأن فى الإقتتال بين القبائل أو فى الفتوحات العربية وغيرها . وقد تنازع المسلمون حول تقسيم الأنفال أى الغنائم ، وسألوا النبى عن كيفية تقسيمها، فنزل فى أول سورة الأنفال قوله جل وعلا يؤكّد عدم أهمية المال  لأن للتقوى الأهمية القصوى : (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (1). ثم نزل تقسيم الغنائم: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41). ثم جاء التصريح بحلّها :(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) .

حين يكون القتال فى سبيل الغنائم فقد يحدث نزاع ، قد ينتهى الى ( الفتنة الكبرى ) كما حدث بين صحابة الفتوحات . ولكن عندما يكون القتال دفاعيا وفى سبيل الله جل وعلا فلا مجال للتنازع . ولهذا جاء فى نفس السورة التحذير من النزاع والأمر بطاعة الله جل وعلا ورسوله :( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46).

كانت هذه قاعدة كاشفة ، لم يستوعبها الصحابة، بدليل أنهم فى موقعة (أُحُد ) عصوا أمر النبى فتسارعوا الى الغنائم بعد أن هزموا جيش قريش فى بداية المعركة ، وأثناء صراعهم حول الغنائم إلتف خالد ابن الوليد بجيش قريش وأوقع الهزيمة بالمسلمين . والمعنى إن الله جل وعلا صدقهم وعده فانتصروا فى البداية ، ثم حين التفتوا للغنائم لم يصبح القتال فى سبيل الله ، فأصبحت النتيجة مرهونة بمدى القوة العددية والحنكة الحربية ، فانهزموا . يقول جل وعلا فى ذلك :( وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) ( آل عمران )

2 ـ موضوع الأسرى : بدأ التشريع الثابت فى تحرير الأسرى مجانا فى هذه السورة بعد وجود أسرى لدى المؤمنين فى موقعة بدر . أطلق النبى سراحهم مقابل مال ، فنزل عتاب شديد له : (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67). أى إن وجود أسرى مرتبط بقيام حرب ، ولا يجوز أن يكون الغرض منها المال وعرض الدنيا لأن الله جل وعلا يريد لهم الفلاح فى الآخرة ، ثم يأتى التهديد والتوبيخ : ( لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68). ويأمر الله جل وعلا رسوله أن يقول للأسرى الذين أخذ منهم مالا لإطلاق سراحهم أنه جل وعلا سيغفر لهم إن كان فى قلوبهم خير، وسيعوّضهم خيرا ممّا دفعوه من مال .( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70). وخوف خيانتهم بعد إطلاق سراحهم فإن الله جل وعلا يضمن حماية النبى من خيانتهم :( وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ  ( 71).

تأكّد إطلاق سراح الأسرى مجانا ( منّا ) او بتبادل الأسرى فيما بعد :( حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا )(4)( محمد ). وإذا إستجار المحارب الكافر أثناء المعركة وتوقف عن القتال فيجب حمايته وتوصيله الى مأمنه بعد أن يسمع القرآن ليكون سماعه القرآن حجة عليه أمام الله جل وعلا :(وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) ) ( التوبة ).

هذه القاعدة الكاشفة تاتى حُجّة على المسلمين فى الفتنة الكبرى،وهم يقتلون الأسرى من نفس المسلمين ، وقد أصبح هذا عادة سيئة فى الدولة الأموية .ثم العباسية . وقام محمد بن اسحاق بتسويغ هذا الإثم وتشريعه حين إفترى أن النبى قتل أسرى بنى قريظة .بل إفترى أن النبى عليه السلام كان يسبى النساء والذرية ، وهذا إفك شنيع ، ولكن نقله عنه المؤرخون اللاحقون كابن سعد والطبرى .

3 ـ القتال فى الاسلام هو لرد العدوان ولمنع الاضطهاد فى الدين ، فإذا أقلع الكافر المعتدى عن عدوانه فإن الله جل وعلا يغفر له ما سلف ، وإن عاد لاعتدائه فيجب قتاله لمنع الفتنة أو الاضطهاد الدين وليكون الدين كله لله ، يحكم فيه يوم القيامة بين الناس فيما هم فيه يختلفون : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39).هذه القاعدة أكّدتها لاحقا سورة البقرة ( 190: 194) .

4 ـ فى القتال الدفاعى جاء تحريم الفرار إلا ضمن تخطيط لهزيمة العدو : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) ، ولا بد من الثبات واطاعة وذكر الله جل وعلا :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45 ).

نسى المسلمون هذا فى موقعة ( حُنين ) حين نسوا الله جل وعلا وأعجبتهم كثرتهم فلم تغن عنهم شيئا : ( لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)( التوبة ). جاءهم التحذير من قبل فى سورة الأنفال ألّا يتصرفوا كجيش قريش حين زحف مستكبرا معجبا بنفسه فحاقت به الهزيمة : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47). نسوا هذا التحذير.!

5 ـ لا بد من الاستعداد الحربى بكل المُستطاع ، ليس للهجوم ولكن لردع العدو المعتدى مقدما حتى لا يعتدى . الدولة الاسلامية هى الدولة المُسالمة القوية . فإذا كانت مُسالمة وضعيفة فإن ضعفها يشجع عدوها على الاعتداء . فقوتها تردع من يفكر فى الاعتداء عليها . وبذلك تحقن دم المعتدى ودمها أيضا . وهذا معنى الارهاب هنا ، هو ردع العدو الفاجر لمنعه من الاعتداء ، فالارهاب هنا هو طريق للسلام :( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60).

فإن جنحوا للسلام فلا بد من قبول عرض السلام ، حتى لو كان العرض مخادعا ، لأن الاسلام هو دين السلام ، ولأن الله جل وعلا من أسمائه الحسنى ( السلام ) ولأنّ الله جل وعلا هو الذى سينتقم من ذلك الذى يريد أن يخدع بالسلام ، والله جل وعلا سيجعل مكرهم السىء يحيق بهم :( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62).   

6 ـ  العدو المعتدى الذى يدمن نقض العهد لا بد من قتاله دفاعيا بكل قوة حتى يرتدع ، وحتى لا يتشجع من خلفه على نكث العهد : ( الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57). هذا مرتبط بسياسة الردع . والردع هنا مقصود به آخرين حتى لا يخونوا العهد بالسلام . وحسب طبيعة المكان والزمان وقتها كان فى إمكان من يخون العهد أن يفاجىء المدينة بالهجوم عليها ، دون إعلان منه بنقض العهد ، أى يصحو أهل المدينة فيجدونها وقد تم إحتلالها من جانب من كان عاقدا معاهدة معهم ثم خان العهد ، وسار جيشه ليلا ومختبئا بالنهار الى ان يهاجم المدينة على حين غفلة من أهلها . من هنا وجبت الحيطة، فإذا إستشعر النبى خيانة فعليه أن يعلن مخاوفه لهم ويطلب منهم توضيحا ، ويكون مستعدا ، وهذا معنى قوله جل وعلا : (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)  الانفال ).

القتال وقتها كان له طبيعة خاصة . فالمدينة مستقرة وقائمة بمكانها الثابت وسكانها المستقرين بها ، وهى دولة تحت الحصار والتهديد الحربى ، ولها حدود . والذين يعتدون عليها يقطعون الطريق فى الصحراء يهاجمون بغتة ثم يفرّون . وبالتالى فإن القتال الدفاعى يستلزم مواجهتهم قبل إغارتهم على المدينة . وإذا نجحوا فى الاغارة على المدينة فلا بد من مطاردتهم داخل الصحراء لتأديبهم . هذا هو طبيعة الدفاع  ضد معتدين من الأعراب وغيرهم . ومن هنا نفهم طبيعة ما يقال بأنه ( غزوات النبى ) أو معاركه الحربية . فلم تكن للهجوم على قوم مسالمين . فهذا مرفوض اسلاميا ، ولا يجوز حربيا ، فكيف يرسل النبى جيشا من مدينته ليهاجم قوما مسالمين ومدينته تحت خطر الاغارة فى أى وقت ، وحولها أعراب منافقون من أشد الناس كفرا ونفاقا ، وحوله أيضا اعراب كفرة ينتظرون أى ثغرة واى بادرة للهجوم على المدينة ؟

بعد نزول هذه الآيات قاسى النبى والمسلمون فى المدينة من نقض العهود ، سواء من اليهود ، أو من الأعراب ، أو من قريش . ومن هنا تأتى هذه الآيات تكشف مقدما عما سيحدث ، وتضع له القواعد.

 7 ـ إنّالهجرة هى أساس الانتماء للدولة الاسلامية فى عهد النبى . بالهجرة والاقامة فى المدينة يكون الفرد عضوا فى الدولة له كل الحقوق وعليه الدفاع عنها بالنفس والمال . أما إذا لم يهاجر وظل محتفظا باسلامه وإيمانه وسط قومه المشركين فليس داخلا فى دولة الاسلام فى المدينة ،وليس للمسلمين إلتزام بالدفاع عنه إذا كان بين المسلمين وبين أولئك القوم المشركين معاهدة سلمية : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) الانفال ). الدفاع عنه يكون فقط إذا لم يكن هناك معاهدة سلمية بين دولة الاسلام وأولئك المشركين .

8 ـ ويأتى الأمر بأن يوالى المؤمنون بعضهم بعضا كقوة للخير مقابل قوى العدوان التى توالى بعضها بعضا . فإن لم يتّحالف معا أهل الخير ضد أهل الشر المعتدين فستكون فتنة فى الأرض وفساد كبير : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) الأنفال ).. وعصى معظم المسلمين هذا الأمر، فنزلت آيات تنهى عن موالاة المشركين الكافرين المعتدين ، هذا بينما بذلت قريش كل وسعها فى عقد محالفات الاحزاب ثم مع الأعراب ضد المسلمين. وهنا ندخل على مكر قريش .

 ثانيا : مكر قريش وإستخدامها الأعراب فى حرب النبى

1 ـ وهذا أيضا سبقت سورة الأنفال الى التحذير منه بإشارة لم يلتفت لها المسلمون . فى الاستعداد الحربى قال جل وعلا : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ) (60).  وقتها كانوا يعرفون عدوا مُعيّنا يستعدون له ، ولكن الله جل وعلا يشير الى عدو آخر مستقبلى لا يعرفونه وقت نزول الآية ، ولا بد من إستمرار الاستعداد العسكرى لمواجهة هذا العدو القادم . هذا العدو خلقه مكر قريش الذى تزول منه الجبال .

2  ـ كان المكر القرشى يتحالف مع اليهود ، وكان اليهود من جانبهم حريصين على ذلك الى درجة أن أحبارهم أفتوا لمشركى قريش أنهم على الحقّ  وأنّ النبى على الباطل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52)( النساء ). وبعد هزيمة الأحزاب وإجلاء بنى قريظة وانتهاء الوجود اليهودى المتآمر حول المدينة إحتاج المكر القرشى الى بديل ساذج أكثر قوة وأسرع إندفاعا وأقل دهاءا من اليهود ، وتستطيع أن تحارب به النبى بطريق غير مباشر، فإن تمت هزيمته نجت قريش من فضيحة الهزيمة ، وإن انتصر تحقق لقريش أملها . وكان الأعراب هم الوسيلة المناسبة . وبهم يستغل المكر القرشى الظروف المتاحة ، وأهمها أن المدينة  ( مدينة مفتوحة ) تستقبل من يأتيها مؤمنا مسالما مهاجرا. ومن هنا بدأ الحديث مؤخرا فى القرآن الكريم عن وجود ( أعراب منافقين ) و( أعراب محاربين ).

لم يكن هناك ما يستدعى ان يغامر الأعراب بحرب دولة المدينة بعد فشل الأحزاب وطرد اليهود ووصول المدينة الى أقصى قوتها . لايمكن أن يفعل الأعراب ذلك إلا بدفع خارجى من عدو ماكر ، وطبقا لإتفاق مسبق . ونحن لا نتكلم عن كل الأعراب ، ولكن عن مجموعة منهم تحالفت مع قريش ، واحترفت النفاق ، وبعضها الآخر إحترف الاعتداء والكفر الصريح ، وجرى تنسيق بينهم نتعرف عليه من القرآن الكريم .

3 ـ كانت الهجرة للمدينة نقطة قوة يزداد بها المؤمنون عددا ، كما كانت نقطة ضعف إذ يتسلل بها العملاء من كل حدب وصوب بتأثير من العدو الأكبر فى مكة . وتوافد العملاء عبر الهجرة للمدينة من مكة وقريش أو من الأعراب المقيمين حول المدينة . وهذا أنتج ظهور الكثير من المنافقين من الأعراب وداخل المدينة . وبعد فشل معركة الأحزاب بدأت ظاهرة جديدة ، هى جرأة الأعراب البدو على الهجوم على المدينة واتباعهم تكتيكا جديدا ، هو دخول المدينة بزعم الاسلام ثم الهجوم عليها ، وعقد معاهدات مع المدينة ثم نقضها . وفى دخولهم للاسلام يقيمون علاقات مع أهل المدينة ويكتسبون أنصارا  .

4 ـ والملأ القرشى متخصّص فى التجارة ، وقد أستعملها لخلق زبائن له عبر وسائط تجاريين داخل المدينة ترتبط مصالحهم باستمرار العلاقة مع قريش ، ثم تطوير هذه العلاقة لتكون ولاء وتحالفا . ويلفت النظر هنا أن سورة التوبة فى نهيها عن موالاة المشركين جاءت بإشارة جديدة لم تأت فى الآيات السابقة التى كانت تنهى عن موالاتهم ، هى إشارة الى علاقات تجارية مع الكافرين تستغل مناخ الحرية التجارية والحرية السياسية والحرية الدينية لتؤسس طابورا خامسا يعمل ضد النبى عليه السلام ، يقول جل وعلا فى سورة التوبة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24 ). لأول مرة يقال : ( وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا ) فى أشارة للتأثير الاقتصادى والتجارى فى خلق عملاء داخل الدولة الاسلامية .

5 ـ ويقول رب العزة يصف كيد أولئك الاعراب ( وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمْ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ) (98) التوبة ). وهذا التربّص والكيد تعلموه من المكر القرشى .ومن تربص أولئك الأعراب بالمؤمنين أنهم يدخلون المدينة بزعم الدخول فى الاسلام ، بينما يكون هدفهم التربص بالمؤمنين ، أى التجسّس عليهم ، ومعرفة دفاعات المدينة ، وأسهل الطرق لاقتحامها والثغرات الدفاعية فيها ، والتواصل مع العملاء الآخرين وبقية المنافقين داخل سكان المدينة . ثم إعطاء هذه المعلومات لأعراب آخرين مجاورين للمدينة ليقوموا بالاغارة عليها .

6 ـ وتعلّم أولئك الأعراب الأجلاف من قريش اسلوب النفاق فى إصطناع الأصدقاء داخل المدينة . فقد ثارت مشكلة أولئك الأعراب المنافقين الذين يتربصون بالمدينة الدوائر ، ومع ذلك كان بعض المؤمنين حريصا على هدايتهم مخدوعا بهم ، ويحاول إيجاد مبرر لهم. وعندما أثير موضوع كيفية التعامل مع هؤلاء المنافقين الأعراب المتلونين ناكثى العهود إنقسم المسلمون فريقين مختلفين فنزل الحّل فى قوله جل وعلا. حيث يبدأ رب العزة بالتوبيخ على انقسامهم  : ( فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) النساء ). ويحرّم رب العزة موالاتهم حتى يهاجروا ويقيموا فى المدينة : ( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً (91)  النساء ). المراد هنا : أنه يتعيّن على اولئك الأعراب إن كانوا مؤمنين مسالمين فعلا أن يهاجروا الى المدينة وأن يسكنوا فيها ، وفيها يتمتعون بالحرية المطلقة فى الدين وفى المعارضة السياسية كالمنافقين من سكان المدينة . أما لو أرادوا البقاء خارج المدينة فليلتزموا بالسلم ويكفّوا ايديهم عن الاعتداء. وإذا أصروا على الاعتداء ولم يعتزلوا العدوان على المؤمنين فلا بد من حربهم . وبذلك خلق المكر القرشى مشكلة مزمنة للمسلمين فى المدينة.

7 ـ ولم يكتف المكر القرشى بذلك ، فقد ظهرت مجموعات مقاتلة من الأعراب تحيط بالمدينة ، وتحدثت عنهم سورة التوبة ، وفيها نزل الأمر الحازم للنبى والمؤمنين بالقتال الدفاعى لأولئك الكفار الذين (يلون ) المدينة ، أى يتجمعون حولها ، ينتظرون الهجوم عليها على حين غرة متسلحين بالمعلومات التى يحصلون عليها من الأعراب المنافقين الذين يدخلون المدينة بزعم الاسلام . يقول جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)(التوبة).  قوله جل وعلا (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) يأتى تذييلا فى آيات التشريع فى القتال ليؤكّد على أن يكون القتال دفاعيا فقط لأن الله جل وعلا لا يحب المعتدين . وفى حركة الردة كان أولئك الأعراب المحيطون بالمدينة أول من هاجم المدينة .

 8 ـ ونعيد قراءة قوله جل وعلا فى أواخر ما نزل فى سورة التوبة عن الأعراب :( وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ) (101) ( الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمْ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)( التوبة )  أى يوجد منافقون يعيشون حول حدود المدينة موصوفون بأنهم الأشدّ كفرا والأشدّ نفاقا ، يتربّصون بالمؤمنين الدوائر. وأعراب كفرة يترقبون فرصة الهجوم على المدينة ويجب قتالهم بشدة . هذا كله صنعته قريش وقت نزول الوحى ، بمكرها الذى تزول منه الجبال .

9 ـ ومن المنتظر بعد موت النبى وإنقطاع الوحى نزولا أن يتعاظم المكر القرشى . وهذا ما حدث ، إذ ثار معظم الأعراب فى وقت واحد ، ليس فقط للخروج على الدولة الاسلامية والاستقلال عنها ولكن للهجوم عليها ، وليس فقط فى نفس الحروب المعتادة (  العلمانية )  ، ولكن بتحويلها الى حرب دينية يتزعمها من يدعى النبوة . ومضحك جدا أن يزعم الأعراب البدو وقتها إدعاء النبوة ، فالتقاتل بين الاعراب كان بعيدا عن التمسّح بالدين ، ولكن أن يتم التمسح بالدين وأن يتم استغلاله تجاريا وكهنوتيا فهذه صناعة قرشية أصيلة ، ثم أن ينتشر هذا الوباء بادعاء النبوة مرة واحدة من إمرأة كسجاح ورجال مغمورين كمسيلمة وطليحة الأسدى والعنسى فهذا أمر تم الاعداد له بالمكر القرشى ..

10 ـ ولكن لماذا يلجأ المكر القرشى بعد دخوله فى الاسلام لإثارة حرب الردة ضد المسلمين ثم لا يشترك فيها بل يكون عملاؤه وأعمدته هم قواد المسلمين ضد أولئك المرتدين ؟ السؤال فيه الاجابة . لكى تعود قريش للقيادة وتتصدر المشهد كما كانت من قبل .

انتظرونا لمزيد من التفصيل .

الباب الثانى : مكر قريش أدّى للفتوحات

الفصل الرابع  : مكر قريش وراء حرب الردّة

اولا :  الهدوء الذى يسبق العاصفة

1 ـ خلافا لما يقوله ابن اسحاق ومن نقل عنه ، فإنه قبيل موت النبى شهدت الجزيرة العربية هدوءا سلميا مسالما كان اشبه بالهدوء الذى يسبق العاصفة ، ثم بموت النبى إستيقظت المدينة على ضجيج حركة الردة ، التى هبت عاصفتها مرة واحدة وفى أماكن متفرقة ، بما ينبىء عن مؤامرة محبوكة ، جرى الاعداد لها على مهل ، وكانت ساعة الصفر هى موت النبى ، لتهب عاصفة الردة برعاع يزعمون النبوة .  2 ـ قبيل موته عليه السلام إنتشر الاسلام فى الجزيرة العربية . نحن هنا نتحدث عن الاسلام الظاهرى بمعنى السلام ، وهو غير الاسلام الحقيقى القلبى الذى يحكم عليه رب العزة الذى يعلم خائنة الأعين وما تُخفى الصدور .

3 ـ على السطح الظاهرى كانت تبدو المدينة فى عهد النبوة تشعّ بالاسلام الظاهرى بمعنى المسالمة ، ولكن الاسلام القلبى الخالص شىء مختلف فضحه الوحى القرآنى فى حديثه عن المنافقين والمؤمنين خصوصا من المهاجرين الموالين لقريش . وللتوضيح نستشهد بقوله جل وعلا : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) الفتح ). فمن حيث المظهر الخارجى ( تراهم ) ركعا وسجدا ، وترى سيماء السجود على جباههم . ولكن من حيث سريرتهم الحقيقية التى يعلمها رب العزة فليسوا كلهم من أصحاب الجنة ، فقد وعد رب العزة بعضهم فقط بالجنة ، فقال (  وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ). لم يقل ( وعدهم جميعا ) ، بل قال ( منهم ) . أى البعض وليس الكل.

4 ـ نفس الاسلام الظاهرى الذى ( تراه ) فى المدينة والذى لا يدل دائما على صدق الايمان ( تراه ) أيضا على مستوى الجزيرة العربية ، حين دخلت كلها فى الاسلام الظاهرى قبيل موت النبى، حيث ( رأى ) النبى بعينيه الناس يدخلون فى دين الله أفواجا ، ونزل قوله جل وعلا : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) النصر )، أى على مستوى الجزيرة العربية دخل العرب أفواجا فى هذا الاسلام الظاهرى بمعنى المسالمة . هذا هو الذى رآه النبى ( وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2)). لم يكن عليه السلام يعلم غيب القلوب ولم يكن يرى غير الظاهر على السطح ، وهى هذه الوفود وتلك الأفواج التى جاءت اليه بناء على رسائله السلمية لهم تدعوهم للاسلام والمسالمة . أى خلافا لما قاله ابن اسحاق فقد عمّ السلام الجزيرة العربية قبيل موت النبى عليه السلام . وكان الهدوء الذى يسبق العاصفة . عاشت فى هذه الفترة القصيرة من السلام مكة والمدينة والطائف والأعراب فى الصحراء . ثم هبّ إعصار الردّة مرة واحدة ، وكان مكر قريش الذى تزول منه الجبال وراء هذا الاعصار . 

ثانيا ـ قريش تستغل الاسلام لإعادة هيمنتها بعد أن فقد الكعبة أهميتها التجارية 

1 ـ فى البداية لا بد أن نتذكر أن الملأ القرشى كان يعرف أن القرآن هدى ، ولكنه كذّب بالقرآن حرصا على مصالحه فى استخدام البيت الحرام إقتصاديا فى التجارة القرشية . قال جل وعلا يورد مقالة الملأ القرشى عن القرآن الكريم : ( وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا )(57)القصص ). ولهذا يؤكّد رب العزّة أنهم يكذّبون بالقرآن بدافع إقتصادى: ( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)(الواقعة ) . وعندما كان النبى يحزن بسبب عنادهم وإفتراءاتهم فإن رب العزّة كان يذكّره بأنهم فى واقع الأمر لا يكذبونه ولكن يجحدون الحق ، أى يعرفونه ثم يجحدونه: ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)( الأنعام ).

2 ـ رأت قريش أن هزيمة الاسلام والمسلمين أضحت مستحيلة ، وأن عليهم التعايش مع هذا الواقع ، وإلا سيفقدون كل شىء . ورأت قريش أنّ هيمنتها الدينية قد زالت بعد انصراف العرب عن الأصنام والانصاب بتاثير الحرب الفكرية العقلية القرآنية والتنوير القرآنى ، وإدراك العرب كيف استغلتهم قريش فى تأمين قوافلها مقابل تقديس حجارة وعقائد خرافية . وبالتالى لم تعد للكعبة بالنسبة لقريش نفس الأهمية الاقتصادية التى كانت لها من قبل . لذا فالمنتظر من قادة قريش أن يفكروا فى مستقبلهم فى ظل الوضع الجديد ، كيف يعايشونه أولا ، ثم كيف يستغلونه ثانيا . وكانوا قد بادروا من قبل بارسال بعض دهاتهم يدخلون فى الاسلام  فى الفترة المكية  وقبل فتح مكة ، ثم كان إسلام  قادة قريش بعد فتح مكة ، أملا  فى الاستفادة من الاسلام وركوب موجته لاستعادة مكانتهم العتيدة ، خصوصا وأن النبى منهم ، وأن أكابر أصحابه منهم ، وأن المهاجرين لهم إنتماء قرشى ، بل وكان بعضهم يوالى قريش على حساب الاسلام ورسول الاسلام . كما إستخدمت علاقات الامويين بالقبائل ، واستخدمت مكرها لاحتواء المسلمين ، واستغلت سذاجة البدو وسهولة استغلالهم بالمكر القرشى الذى تزول منه الجبال . أى إنهم بعد ان فقد البيت الحرام أهميته الاقتصادية تحولت قريش لاستغلال الاسلام نفسه  لمصلحتها . ولتتزعم المسلمين رسمت خطة محكمة ، هى إثارة حرب الردة لتضع المسلمين فى مأزق تفوز فيه قريش بعودتها زعيمة لانقاذ الموقف . وبهذا تحولت غارات الاعراب البدو المعتادة الى حركة ردّة تزعم النبوة ، وهذا غريب عن أفهام البدو الأعراب مما يؤكد أن قريش المتخصصة فى التجارة بالدين هى التى وجهتهم لهذا الطريق ، وجعلتهم يجعلون غطاء دينيا لثورتهم يضاهئون به النبوة لخاتم المرسلين .

3 ـ واستغل المكر القرشى أدواته بمهارة .  تحت السطح كانت قريش تمتلك تحالفا سريا مع الاعراب ومع المنافقين داخل وخارج المدينة ، ويدين لها بالولاء طوائف من المهاجرين ، وهناك عملاء لها يحيطون بالنبى أصبحوا من كبار صحابته ، ومن المنتظر أن يتولوا الأمر بعده . ولكن هذا كله لا يكفى لأن تعود قريش للصدارة ، لا يكفى لأن يتصدر الأمويون وابناء أبى سفيان الذين أسلموا قبيل موت النبى قيادة المسلمين . لا بد من زلزال قوى ( حركة الردة ) ليضع المسلمين فى موقف صعب وبائس لكى تتقدم قريش كالمُنقذ ، وعندها لن يكون هناك إعتراض . وبمجرد أن يتولى عملاء قريش وابناؤها قيادة جيوش المسلمين ضد المرتدين  فسيأتى الوقت سريعا الذى تتحول فيه القيادة العسكرية الى حكم وتملك . ومن هنا لا بد من استمرار الحرب كى تترسّخ القيادة القرشية التى أسلمت حديثا . أى تتطور الحرب ضد المرتدين بعد هزيمتهم والصلح معهم الى حرب فتوحات خارجية ، وبها يتم تغيير التشريع الاسلامى فى القتال الدفاعى ليكون هجوما على الآخرين وتخييرهم ( وبمعنى أصح إرغامهم ) على قبول واحد من ثلاث : الاسلام أو الجزية أو الحرب  ، وتكون النتيجة فى أغلب الأحيان الحرب . وبعدها يتم الاحتلال ، وتكوين امبراطورية قريش ، والتى آلت فى النهاية للأمويين ، وهم قريش التى نقصدها .

ثالثا : شواهد من التاريخ المكتوب :

1 ـ التأريخ أهمل وتجاهل كثيرا من الوقائع التى اشاراليها القرآن الكريم لأن الرواة فى المرحلة الشفهية كانوا من أبناء وأحفاد الصحابة ، فتجاهلوا الوقائع التى تُدين آباءهم والتى ذكرها القرآن الكريم . ومنها مثلا التفاصيل التى ذكرها القرآن الكريم عن المنافقين ، و هجوم قريش المتكرر على المسلمين فى المدينة قبل ان ينزل الإذن بالقتال ، والهجوم الأخير الذى قام به متطرفو قريش بعد فتح مكة ، وكادوا أن يخرجوا النبى منها ، ونزلت فيهم سورة ( التوبة ) بالبراءة منهم وإعطائهم مهلة ألشهر الحُرم ليتوبوا . وبين هذا وذاك تآمر الصحابة على النبى وإساءتهم له ، وغير ذلك مما سبقت الاشارة اليه . فى كل هذا نقرأ آيات للقرآن تتحدث عن أفعال وحركات وتآمرات ، ونذهب للسيرة فلا نجد ما يشفى الغليل . ثم كان تدوين ابن اسحاق للسيرة فى أوائل العصر العباسى مما شاع من روايات متناقلة وصلت اليه وسجلها ، وبالطبع أضفى عليها ما يريد زاعما أنه سمع من ابن شهاب الزهرى ، مع أنه لم يلق ولم ير ابن شهاب الزهرى . وبهذا تظل ( سيرة ابن اسحاق ) مجرد اخبار ( وهذه هى تسميتها الأصلية ) ، والخبر يحتمل الصدق والكذب ، والأحداث التاريخية لو صدقت طبقا للمنهج التاريخى البحثى تظل حقيقة نسبية وليست مطلقة . ولكن يمكن تجلية بعض الحقائق التاريخية عن عصر النبى عليه السلام فى ضوء القرآن الكريم . وهذا هو منهجنا ، أن نبدأ بالقرآن الكريم نتدبر آياته ، وبعده نقرأ فى ضوء القرآن ما كتبه مؤرخو السيرة  ، ومن السهولة حينئذ أن نميّز بين الباطل منها والصادق . و حين نتحدث عن مؤامرة قرشية مُحكمة فإن من الصعب تتبع آثارها فى تاريخ مكتوب ، تمت كتابته بعدها بعشرات السنين . ويظل ما نقوله ضمن الاجتهاد الذى يقبل النقد .  ونبدأ بما قيل عن حركة الردة . ونقول إنها حدثت بعد وفاة النبى ، وليس قبيل وفاته . وننقل بعض ما كتبه عنها المؤرخون :

2 ـ عن تحرّج وضع المسلمين بين منافقى الداخل وهجوم الاعراب المرتدين من الخارج وظهور قريش كمنقذ يقول المؤرخون : (  .. ارتدت العرب وتضرمت الأرض ناراً وارتدت كل قبيلة عامة أو خاصة إلا قريشاً وثقيفاً، واستغلظ أمر مسيلمة وطليحة، واجتمع على طليحة عوام طيء وأسد، وارتدت غطفان تبعاً لعيينة بن حصن، فإنه قال: نبي من الحليفين، يعني أسداً وغطفان، أحب إلينا من نبي من قريش، وقد مات محمد وطليحة حي، فاتّبعه ، وتبعته غطفان ) . أى كانت مفاجأة أن يرتد جميع العرب سوى قريش فى مكة وثقيف فى الطائف ، وأن عوام الأعراب صاروا عماد حركة الردة .

3 ـ وعن المستوى الثقافى لأولئك الأنبياء المزعومين ، ننقل هذا الخبر عن إشتداد الحرب بين المسلمين وجيش المرتدين بزعامة المتنبىء طليحة : ( و كان عيينة بن حصن مع طليحة في سبعمائة من بني فزارة، فقاتلوا قتالاً شديداً ، وطليحة متلفف في كسائه يتنبأ لهم، فلما اشتدت الحر كرّ عيينة على طليحة وقال له: هل جاءك جبرائيل بعد؟ قال: لا، فرجع فقاتل، ثم كرّ على طليحة فقال له: لا أبا لك! أجاءك جبرائيل؟ قال: لا. فقال عيينة: حتى متى؟ والله بلغ منا! ثم رجع فقاتل قتالاً شديداً ثم كرّ على طليحة فقال: هل جاءك جبرائيل؟ قال: نعم. فماذا قال لك؟ قال: قال لي: إن لك رحاً كرحاه، وحديثاً لا تنساه. فقال عيينة: قد علم الله أنه سيكون حديث لا تنساه، انصرفوا يا بني فزارة فإنه كذاب، فانصرفوا وانهزم الناس.).!! وانتهى أمر طليحة بالهرب ، ثم أسلم ، ثم صار من أبطال الفتوحات فى فارس .!!. يقول المؤرخون عن نفس المعركة بعد هروب القائد العسكرى عيينة بن حصن : ( وكان طليحة قد أعد فرسه وراحلته لامرأته النوار، فلما غشوه ركب فرسه وحمل امرأته ثم نجا بها ، وقال: يا معشر فزارة من استطاع أن يفعل هكذا وينجو بامرأته فليفعل. ثم انهزم فلحق بالشام، ثم نزل على كلب فأسلم حين بلغه أن أسداً وغطفان قد أسلموا، ولم يزل مقيماً في كلب حتى مات أبو بكر. وكان خرج معتمراً في إمارة أبي بكر ومر بجنبات المدينة، فقيل لأبي بكر: هذا طليحة! فقال: ما أصنع به؟ قد أسلم! ثم أتى عمر فبايعه حين استخلف. فقال له: أنت قاتل عكاشة وثابت؟ والله لا أحبك أبداً! فقال: يا أمير المؤمنين ما يهمك من رجلين أكرمهما الله بيدي ولم يهني بأيديهما! فبايعه عمر وقال له: ما بقي من كهانتك؟ فقال: نفخة أو نفختان بالكير. ثم رجع إلى قومه فأقام عندهم حتى خرج إلى العراق. ولما انهزم الناس عن طليحة أسر عيينة بن حصن، فقدم به على أبي بكر، فكان صبيان المدينة يقولون له وهو مكتوف: يا عدو الله أكفرت بعد إيمانك؟ فيقول: والله ما آمنت بالله طرفة عين. فتجاوز عنه أبو بكر وحقن دمه.) . وعن تخريفات طليحة الأسدى ووحيه الشيطانى أنه كان يقول :( والحمام واليمام، والصرد الصوام، قد صمن قبلكم بأعوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام. ).

4 ـ وعن المتنبئة سجاح ، قالوا إنها كانت تريد ( غزو أبي بكر، فأرسلت إلى مالك بن نويرة تطلب الموادعة، فأجابها وردها عن غزوها وحملها على أحياء من بني تميم، فأجابته وقالت: أنا امرأة من بني يربوع، فإن كان ملك فهو لكم. )  (  واجتمع مالك ووكيع وسجاح ، فسجعت لهم سجاح وقالت: أعدوا الركاب، واستعدوا للنهاب، ثم أغيروا على الرباب، فليس دونهم حجاب. ).  ( ثم خرجت سجاح في الجنود وقصدت اليمامة ، وقالت: عليكم باليمامه، ودفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامه، لا يلحقكم بعدها ملامه. ) .هذا هو وحى سجاح !!

5 ـ وتحالفت سجاح مع مسيلمة الكذاب ، أشهر المرتدين . بدأت هى بالاستعداد لحربه ، فاستمالها ، (  فأهدى لها ، ثم أرسل إليها يستأمنها على نفسه حتى يأتيها، فآمنته، فجاءها في أربعين من بني حنيفة، فقال مسيلمة: لنا نصف الأرض وكان لقريش نصفها لو عدلت، وقد رد الله عليك النصف الذي ردّت قريش. ) .. ونعتذر مقدما عن ايراد شعر بذىء لمسيلمة قاله لسجاح ، جاء فى هذا النّص التاريخى ، ونضطر لايراده للتأكيد على أنهم كانوا من حُثالة الأعراب .فقد اجتمع بها فى خلوة: ( فقال لها: أبعدي أصحابك. ففعلت، وقد ضرب لها قُّبّة وخمّرها لتذكّر بطيب الريح الجماع، واجتمع بها، فقالت له: ما أوحى إليك ربك؟  فقال : ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى، أخرج منها نسمةً تسعى، بين سفاق وحشىً . قالت: وماذا أيضاً؟ قال : إن الله خلق للنساء أفراجاً، وجعل الرجال لهن أزواجاً، فتولج فيهن قعساً إيلاجاً، ثم تخرجها إذا تشاء إخراجاً، فينتجن لنا سخالاً إنتاجاً. قالت : أشهد أنك نبي. قال: هل لك أن أتزوجك وآكل بقومي وقومك العرب ؟ قالت: نعم. قال:

ألا قومي إلى النيك ** فقد هييء لك المضجع  

فإن شئت ففي البيت ** وإن شئت ففي المخدع

وإن شئت سلقناك ** وإن شئت على أربع

وإن شئت بثلثيه ** وإن شئت به أجمع

قالت: بل به أجمع فإنه أجمع للشمل. قال: بذلك أوحي إلي. فأقامت عنده ثلاثاً ثم انصرفت إلى قومها، فقالوا لها: ما عندك؟ قالت: كان على الحق فتبعته وتزوجته. قالوا: هل أصدقك شيئاً؟ قالت: لا. قالوا: فارجعي فاطلبي الصداق؛ فرجعت. فلما رآها أغلق باب الحصن وقال: ما لك؟ قالت: أصدقني. قال: من مؤذنك؟ قالت: شبث بن ربعي الرياحي، فدعاه وقال له: ناد في أصحابك أن مسيلمة رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما جاءكم به محمد: صلاة الفجر وصلاة العشاء الآخرة. فانصرفت ومعها أصحابها، منهم: عطارد بن حاجب وعمرو بن الأهتم وغيلان بن خرشة وشبث بن ربعي، فقال عطارد بن حاجب:

أمست نبينا أنثى نطوف بها ** وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا ).

 وفى النهاية قالوا إنها أسلمت وحسّن إسلامها ، وانتقلت إلى البصرة وماتت بها وصلى عليها سمرة ابن جندب وهو والى  البصرة فى خلافة معاوية .   
وذكروا من تخاريف مسيلمة :( وكان مما جاء به وذكر أنه وحي: يا ضفدع بنت ضفدع ،  نقي ما تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين. وقال أيضاً: والمبديات زرعاً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللاقمات لقماً ، إهالة وسمناً؛ لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المذر؛ ريقكم فامنعوه، والمعيي فأووه، والباغي فناوئوه . وقيل: جاءه طلحة النمري فسأله عن حاله، فأخبره أنه يأتيه رجل في ظلمة، فقال: أشهد أنك الكاذب، وأن محمداً صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر. ).!!

أخيرا

1 ـ إستغلت قريش سذاجة البدو وسّرعتهم الى التقاتل ، فأغرتهم من طرف خفى بحرب ردّة ، فظهر أولئك المتنبئون ، وساندهم فرسان مشهورون مثل عيينة بن حصن المشهور بلقب ( الأحمق المّطاع ) ، وعمرو بن معدى يكرب . وانتهى أمرهم بعد أن قاموا بدورهم الذى رسمته لهم قريش ، فرجعوا الى الاسلام ، وصاروا جند قريش فى الفتوحات . وبعد توطيد الفتوحات صحا أولئك الاعراب على حقيقة مؤلمة هى إستئثار بنى أمية فى خلافة عثمان بأفضل الأموال ، فثاروا وقتلوا عثمان ، ثم أصبحوا شيعة على ، ثم قتلوا عليا وأصبحوا خوارج يقاتلون الأمويين . كل هذا خلال جيل واحد . كان فيه الأعراب مسلمين ثم مرتدين ثم فاتحين ثم منشقين على عثمان ثم شيعة ثم خوارج . وفى كل الاحوال هم ناقمون على قريش ، وتستخدمهم وتتلاعب بهم قريش بمكرها الذى تزول منه الجبال .!!

2 ـ إستخدمتهم قريش فى تاسيس مُلكها ، ثم إستغنت عنهم عند أول محطة . ونفس الحال مع عبد العزيز آل سعود ، قام بتعليم الوهابية لشباب الأعراب وجعلهم ( الاخوان ) ، واستخدمهم فى تأسيس دولته ، ثم حاربهم وتخلص منهم . وهو ما يفعله الإخوان ( المجرمون ) فى مصر ، يستخدمون الرعاع ، ويضحّون بهم فى أقرب فرصة طبقا لمصلحة مكتب الارشاد . يصعدون على جثث أتباعهم سلالم الطموح السياسى ، درجة درجة . هو الصعود للهاوية ، لو كنتم تعلمون .!!

3 ـ وهذا هو ما نتعلمه من القرآن الكريم وتاريخ قريش . سيقول جل وعلا لهم يوم القيامة  إنهم ساروا   على دأب فرعون ومن سبقه:( وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ (45)) وهنا إشارة مسبقة الى انهم لن يتعظوا بالقصص القرآنى عن فرعون وغيره ، بل  سيقيمون مُلكا مُستبدا ودولة دينية ، وبه يعيشون نفس طريقة الفراعنة ، ولكن تحت شعار الاسلام.!! . وهذا مكر لا مثيل له فى تاريخ البشر، لذا يقول رب العزة بعدها  للنبى عليه السلام يصف مكرهم الجهنمى : ( وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)، ويطمئنه جلّ وعلا  فيقول له :( فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (47)، ويخبر جل وعلا بموعد الانتقام منهم ، وأنه يوم القيامة ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)، يومها كيف سيكون حال أولئك المستبدين المجرمين؟ :(  وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51). ولتكون موعظة لنا فإن الله جل وعلا يقول لنا يختم السورة :( هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (52) ( ابراهيم ) .

4 ـ فماذا فعل المسلمون بهذا البلاغ ؟ أنظر الى حال المسلمين اليوم .!!

الباب الثانى : مكر قريش أدّى للفتوحات

الفصل الخامس  :  أبو سفيان هو رأس المكر القرشى

أولا  : المُخرج أبوسفيان

1 ـ  المشاهد الساذج لعمل درامى لا يرى سوى أبطال الفيلم . لا يرى ( المُخرج ) وهو الصانع الحقيقى الذى يحرّك الممثلين ويضع الحوار على ألسنتهم ، ويحدد الديكور ويحرّك آلة التصوير ، وكل شىء يمسك خيوطه بأصابعه .

  2 ـ   فى موضوعنا عن ( المكر القرشى ) نبدأ بتحديد رأس المكر وقائد قريش ، وهو أبوسفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف . لماذا ؟ لأنه كان القائد الأكبر لقريش فى حربها المعلنة ضد النبى ؛ هو قائد القافلة قبيل معركة  ، وهو قائد جيش قريش فى أحد ، وهو الذى قام بتجميع القبائل لاستئصال المسلمين فى غزوة ( الأحزاب ) ، ثم هو الذى أسلم عند فتح مكة ، واستفاد بتعيين إبنائه قادة فى الحروب فى مواجهة المرتدين ثم فى الفتوحات ، ثم تأسيس مّلك لابنه معاوية ولبنى أمية . أبوسفيان هو (المخرج ) لهذه الأحداث ، والذى كان يحبك المؤامرات ، ويقوم بتجنيد العملاء من البداية فى مكة الى قبيل فتح مكة .

ثانيا : التعتيم على دور أبى سفيان فى التآمر على النبى فى مكة

1 ـ ويلاحظ تجاهل المؤرخين لدور أبى سفيان فى إضطهاد النبى وأصحابه فى مكة ، كان التركيز على أبى جهل والوليد بن المغيرة وأبى لهب وأمية بن خلف وأمية بن أبى الصلت وصفوان بن أمية وغيرهم الذين ماتوا على الكّفر . واضطروا لذكر أبى سفيان لدوره الأساس فى موقعة بدر وأحد و الأحزاب . ثم عاد التجاهل لدوره الى أن ذكروه وهو يقابل النبى  وهو فى طريقه لفتح مكة ويعلن اسلامه للنبى  ، ثم ما يقولونه أن النبى أعلن أنّ من دخل دار أبى سفيان فهو آمن . السبب فى هذا التجاهل أن المصدر الأكبر للرواية الشفهية كان أبّان بن عثمان بن عفان ( الأموى ) وهو الذى تولى إمارة المدينة للخليفة عبد الملك بن مروان ( الأموى ) عام 76 . وانتشرت روايات أبّان بن عثمان التاريخية الشفهية ، وظلّ ما سكت عنه مجهولا، وهو دور أبى سفيان فى قيادة المكر القرشى ضد النبى فى مكة ثم فى المدينة .

2 ـ وقد راجعتُ تاريخ الطبرى فى الفترة المكية فلم أجد أى إشارة لأبى سفيان فى إضطهاد النبى والمسلمين . ولم يرد ذكره ضمن قادة قريش الذين قادوا حركة العداء للنبى والمؤمنين . على سبيل المثال يروى الطبرى وفود قادة قريش لأبى طالب بعد أن أعلن الرسول عليه السلام دعوته ، يقول الطبرى فى روايته عن موقفهم : ( فلما رأت قريش أن رسول الله لا يعتبهم من شيء يكرهونه مما أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم ورأوا أن أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام والأسود بن المطلب والوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل ونبيه ومنبه ابنا الحجاج أو من مشى إليه منهم فقالوا يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب ألهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا ...فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه .. ). لم يرد هنا ذكر أبى سفيان فى هذه الرواية أو غيرها .

3 ـ ولكن هناك رواية وحيدة نراها كاذبة وساقطة مذكور فيها أبو سفيان ضمن كبار القرشيين ، وهى الرواية المشهورة التى يزعمون فيها أنهم اجتمعوا فى دار الندوة وتشاوروا وحضرهم ابليس متنكرا فى هيئة شيخ نجدى ، وبعد المداولة أخذوا برأى أبى جهل بقتل النبى ويتفرق دمه فى القبائل . تقول هذه الرواية الكاذبة فى تاريخ الطبرى : ( .. فحدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق قال حدثني عبدالله بن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر أبي الحجاج عن ابن عباس قال ، وحدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس والحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة عن مقسم عن ابن عباس قال : لما اجتمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا دار الندوة ، ويتشاوروا فيها في أمر رسول الله غدوا في اليوم الذي اتعدوا له ، وكان ذلك اليوم يسمى الزحمة ، فاعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل .. فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفا على بابها قالوا من الشيخ ؟ قال : شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى ألا يعدمكم منه رأي ونصح . قالوا : أجل ، فادخل . فدخل معهم . وقد اجتمع فيها أشراف قريش كلهم من كل قبيلة ؛ من بني عبد شمس شيبة وعتبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب ، ومن بني نوفل بن عبد مناف طعيمة بن عدي وجبير بن مطعم والحارث بن عامر بن نوفل ، ومن بني عبد الدار بن قصي النضر بن الحارث بن كلدة ، ومن بني أسد بن عبد العزى أبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود بن المطلب وحكيم بن حزام ، ومن بني مخزوم أبو جهل بن هشام ، ومن بني سهم نبيه ومنبه ابنا الحجاج ، ومن بني جمح أمية بن خلف ، ومن كان معهم وغيرهم ممن لا يعد من قريش . فقال بعضهم لبعض : إن هذا الرجل قد كان أمره ما قد كان وما قد رأيتم وإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأيا . قال،  فتشاوروا ، ثم قال قائل منهم ، احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين قبله زهيرا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه منه ما أصابهم . قال فقال الشيخ النجدي : لا والله ما هذا لكم برأي ، والله لو حبستموه كما تقولون لخرج أمره من وراء الباب الذي أغلقتموه دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم حتى يغلبوكم على أمركم ، هذا ما هذا لكم برأي فانظروا إلى غيره . ثم تشاوروا ، فقال قائل منهم : نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلدنا فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت . قال الشيخ النجدي : والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حُسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به ؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحلّ على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه ، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بها فيأخذ أمركم من أيديكم ، ثم يفعل بكم ما أراد ، أديروا فيه رأيا غير هذا . قال فقال أبو جهل بن هشام : والله إن لي فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد . قالوا : وما هو يا أبا الحكم ؟ قال : أرى أن تأخذوا من كل قبيلة فتى شابا جلدا نسيبا وسيطا فينا ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما ثم يعمدون إليه ثم يضربونه بها ضربة رجل واحد فيقتلونه ، فنستريح ، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل كلها ، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا ورضوا منا بالعقل فعقلناه لهم . قال فقال الشيخ النجدي : القول ما قال الرجل هذا الرأي لا رأي لكم غيره . فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له فأتى جبريل رسول الله فقال لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه قال فلما كان العتمة من الليل اجتمعوا على بابه فترصدوه متى ينام فيثبون عليه فلما رأى رسول الله مكانهم قال لعلي بن أبي طالب نم على فراشي واتشح ببردي الحضرمي الأخضر فنم فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه منهم وكان رسول الله ينام في برده ذلك إذا نام قال أبو جعفر زاد بعضهم في هذه القصة في هذا الموضع وقال له إن أتاك ابن أبي قحافة فأخبره أني توجهت إلى ثور فمره فليلحق بي وأرسل إلى بطعام واستأجر لي دليلا يدلني على طريق المدينة واشتر لي راحلة ثم مضى رسول الله وأعمى الله أبصار الذين كانوا يرصدونه عنه وخرج عليهم رسول الله ..).لأول مرة تذكر رواية دور أبى سفيان فى التآمر ضمن قادة قريش .

وهى رواية ساقطة كاذبة من حيث السّند . فهم يسندونها الى ( ابن عباس ) ولم يكن قد وُلد بعدُ . أو كان رضيعا . فكيف له أن يروى حدثا سريا لم يشهده . وروايات ابن عباس يجب أخذها بحذر شديد لأن الفقهاء والمحدثين والقُصّاص فى العصر العباسى كانوا ينافقون الدولة العباسية باسناد الروايات الى ابن عباس ، جد الخلفاء العباسيين . 

وهى رواية ساقطة من حيث المتن ، فكيف يعرفون ان الشيخ النجدى هو ابليس ؟ وهل يحتاج ابليس الى التنكر والتجسّد ،وهو يرانا من حيث لا نراه كما قال رب العزة ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ   (27)الاعراف) . ألا يكفيه أنه بوسوسته ووحيه الشيطانى يتحكّم فى أشرار أبناء آدم بدون أن يحضر بنفسه مجالس تآمرهم !!؟ . ثم كيف يقال ( فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا )، وبنو مناف يشملون بنى عبد شمس وبنى أمية ، وحسب الرواية فقد كان أبرز زعماء الجلسة من بنى عبد مناف ؟ ومن الذى أعلم الراوى بأن جبريل نزل على النبى وأخبره بما حدث ؟ . ثم أن رب العزة يذكر أنهم هم الذين أخرجوا النبى والمؤمنين كما شرحنا فى مقال سابق. 

4 ـ المستفاد أنّ هناك تعتيما مقصودا فيما يخصّ دور أبى سفيان فى مكة ضد الاسلام ، وأن الرواية الوحيدة التى تذكر دوره هى رواية كاذبة من حيث السند ومن حيث الموضوع والمتن . هذا مع أن أبا سفيان كان أهم قائد فى قريش ، وانفرد بالزعامة بعد موقعة بدر وقتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبى جهل بن هشام وزمعة بن الأسود وأبو البختري بن هشام وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج . وعُتبة بن ربيعة هو والد هند زوجة أبى سفيان ، وينتهى نسبه الى عبد شمس بن عبد مناف .

ثالثا  : مكانة ابى سفيان فى قريش وفى العالم وقتها

1 ـ قالوا فى ترجمته : ( أَبو سغيانَ صَخرُ بنُ حَرب بن أُمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأُموي، وهو والد يزيد ومعاوية وغيرهما‏.‏ ولد قبل الفيل بعشر سنين، وكان من أَشراف قريش، وكان تاجراً يجهز التجار بماله وأَموال قريش إِلى الشام وغيرها من أَرض العجم، وكان يخرج أَحياناً بنفسه . كانت إليه راية الرؤساءِ التي تسمى العُقَاب، وِإذا حميت الحرب اجتمعت قريش فوضعتها بيد الرئيس‏.‏ وقيل‏:‏ كان أَفضل قريش رأياً في الجاهلية ثلاثة‏:‏عتبة، وأَبو جهل، وأَبو سفيان‏.‏ فلما أَتى الله بالإِسلام أُدبروا في الرأي. ).

2 ـ وممأ يدل على إنفراده بالزعامة فى قريش ،  إنّه : ( وقعت دماء بين حيّين من قريش ، فأقبل أبو سفيان ، فما بقي أحد واضع رأسه إلا رفعه، فقال‏:‏ يا معشر قريش هل لكم في الحق أو فيما هو أفضل من الحق ؟ قالوا‏:‏ وهل شيء أفضل من الحق ؟ قال‏:‏ نعم العفو . فتهادن القوم واصطلحوا‏.‏) .

3 ـ وأراد ملك اليمن أن يعرف أكبر قائد فى مكة ، فأهدى عشرة من كرام الابل  إلى مكة وأمر أن ينحرها أعز قريشي‏.‏ فقدمت الابل الى مكة وأبو سفيان يقضى ( شهر العسل ) بعروسه هند بنت عتبة.  فقالت له هند ‏:‏ أيها الرجل لا يشغلنك النساء عن هذه المكرمة التي لعلها أن تفوتك.  فقال لها‏:‏ يا هذه دعي زوجك وما يختاره لنفسه ، والله ما نحرها غيري إلا نحرته‏.‏ وظلت الابل مكانها لا يقترب منها أحد حتى خرج أبو سفيان في اليوم السابع فنحرها‏.‏  

4 ـ وأبو قحافة والد أبى بكر ظل يعيش فى مكة ، وقد تشرب طاعة أبى سفيان والخضوع له ، وظل أبو قحافة حيا الى ان أدرك خلافة ابنه أبى بكر ثم مات بعده . وقد زار ابو بكر مكة ، وفيها حضر أبوقحافة مشهدا لم يتصوره . فقد " ( بلغ أبا بكر عن أبى سفيان امر فأحضره اليه ، وأقبل يصيح عليه ، وأبو سفيان يتملقه ويتذلل اليه . وأقبل أبو قحافة فسمع صياح أبى بكر فقال لقائده ( وكان قد عمى ) على من يصيح أبنى ؟ فقال له : على أبى سفيان . فدنا من أبى بكر وقال له : أعلى ابى سفيان ترفع صوتك يا عتيق ؟ .. لقد تعديت طورك وجُزت مقدارك .!! فتبسم ابو بكر ومن حضره من المهاجرين والأنصار ، وقال له : يا أبت ، إن الله قد رفع بالاسلام قوما وأذلّ به آخرين .!! ). هذا هو أبوسفيان فى قريش . فماذا عنه كشخصية عالمية تقود رحلة الشتاء والصيف ؟

5 ـ يروى الأصمعي قدوم أبى سفيان على كسرى فى الجاهلية ، وأن كسرى أعطاه ( مخدة ) . وأراد الأصمعى أن يستوثق من هذه الرواية فتأكّد من صحتها . الرواية حكاها ابو سفيان نفسه : (‏ قال أبو سفيان‏:‏ أهديت لكسرى خيلاً وأدماً ، فقبل الخيل ورد الأدم .وأدخلت عليه فكان وجهه وجهين من عظمه ، فألقى إلي مخدة كانت عنده.  فقلت‏:‏ وا جوعاه‏!‏ أهذه حظي من كسرى بن هرمز؟  قال‏:‏ فخرجت من عنده فما أمرّ على أحد من حشمة إلا أعظمها حتى دُفعت إلى خازن له ، فأخذها ، وأعطاني ثمانمائة إناء من فضة وذهب‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ فحدثت بهذا الحديث النوشجان الفارسي فقال‏:‏ كانت وظيفة المخدة ألفاً ، وأن الخازن اقتطع منها مائتين‏. ) .هذه الرواية تتفق مع قيادة أبى سفيان لرحلتى الشتاء والصيف ودوره فى التجارة العالمية وقتها . ويعزّز هذا رواية أخرى له قابل فيها هرقل ، وسأله هرقل عن النبى عليه السلام ، وهى رواية طويلة لا حاجة لذكر تفاصيلها .

رابعا : أبو سفيان يستعيد مكانته بعد أن دخل الاسلام متأخرا

1 ـ أسلم أبو سفيان عندما قابل النبى فى طريقه الى فتح مكة . دخل ابو سفيان الاسلام وهو يريد أن يحتفظ  بزعامته . وجاءته الفرصة بعد موت النبى وتولى أبى بكر الخلافة ، فليس أبو بكر بشىء بمقياس الشرف القرشى ، وهذا ما عبّر عنه أبو قحافة حين علم بتولى ابنه أبى بكر الخلافة ، يروى سعيد بنالمسيب أنه لما مات النبى  ارتجت مكة فقالأبو قحافة : ما هذا ؟ قالوا : قبض رسول الله. قال : فمن ولي الناس بعده ؟ قالوا : ابنك .قال  : أرضيتبذلك بنو عبد شمس وبنو المغيرة قالوا نعم قال فإنه لا مانع لما أعطى الله ولا معطيلما منع الله ).!. لم يتصور أبو قحافة أن يكون ابنه خليفة فى وجود بنى عبد شمس ( ومنهم بنو أمية بن عبد شمس ).

كانت هذه هى الثقافة السائدة التى عبّر عنها بعفوية أبو قحافة . ومثل ذلك موقف خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، وهو أموى ولكن أسلم وهاجر الى الحبشة ، ثم عاد منها الى المدينة وقت إختيار أبى بكر خليفة ، فاستنكر أن يكون خليفة بعد النبى وهو من ( تيم ) وليس من بنى هاشم وبنى عبد مناف ، وتوقف عن مبايعته فاسترضاه أبو بكر بأن جعله من قواد الفتوحات . تقول الرواية عن ابن خالد : ( قدم أبي من اليمن الى المدينة بعد أن بويع لأبي بكر ، فقاللعلي وعثمان : أرضيتم بني عبد مناف ان يلي هذا الأمر عليكم غيركم ؟ ، فنقلها عمر الى أبيبكر فلم يحملها أبو بكر على خالد وحملها عمر عليه . وأقام خالد ثلاثة أشهر لم يبايعأبا بكر . )   

2 ـ خطّط أبو سفيان فأشعل حرب الردة ( بالريموت كنترول )، وأوقع أبا بكر والمسلمين فى أمرعصيب ، وفى وقت عاصفة حرب الردة ضغط على ابى بكر ، فقام بما يشبه المّظاهرة الاحتجاجية يزعم غضبه لحق بنى هاشم الضائع ، وهم بنو عمومته. وهو نفس ما فعله ابنه معاوية حينما تحجّج بدم عثمان وهو ابن عمه ، ومعاوية هو الذى ترك عثمان محاصرا الى أن قتله الثوار دون أن ينجده ، لأن كل ما أراده هم أن يأخذ قميص عثمان ليصل به الى الخلافة .!!. أقبل أبو سفيان يحرّض عليا بن أبى طالب والعباس ضد أبى بكر ، ويهدّد أبا بكر بالحرب .تقول الروايات: (لما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر، أقبل أبو سفيان وهو يقول : والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم. يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم؟ أين المستضعفان أين الأذلان علي والعباس ؟ وقال : أبا حسن ابسط يدك حتى أبايعك. فأبى عليّ عليه.  فجعل يتمثل بشعر المتلمس :

ولن يقيم على خسف يراد به إلا الأذلان عير الحي والوتد

هذا على الخسف معكوس برمته وذا يشج فلا يبكي له أحد

فزجره علي وقال : إنك والله ما أردت بهذا إلا الفتنة ، وإنك والله طالما بغيت الإسلام شرا . لا حاجة لنا في نصيحتك ) ( قال هشام بن محمد وأخبرني أبو محمد القرشي قال لما بويع أبو بكر قال أبو سفيان لعلي والعباس أنتما الأذلان ) ( قال أبو سفيان لعليّ :  ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ؟ والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلا ورجالا.  فقال علي : يا أبا سفيان طالما عاديت الإسلام وأهله فلم تضره بذاك شيئا إنا وجدنا أبا بكر لها أهلا.) .وسكت أبو سفيان عندما نجح فى إبتزاز أبى بكر ، فاسترضاه أبو بكر بتعيين أبنه يزيد بن أبى سفيان قائدا . تقول الرواية : ( لما استخلف أبو بكر قال أبو سفيان :  مالنا ولأبي فصيل إنما هي بنو عبد مناف . فقيل له: إنه قد ولى ابنك. قال  : وصلته رحم ).

3 ـ وفى تعيين أبى بكر ليزيد بن أبى سفيان ضمن القادة جاءت روايات متعددة ومختلفة ، منها : ( ولما وجه أبو بكر رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان إلى الشام شيعه راجلاً‏.‏ فقال له يزيد‏:‏ إما أن تركب وإما أن أنزل‏.‏ ) (لما قفل أبو بكر من الحج سنة اثنتي عشرة جهز الجيوش إلى الشأم ، فبعث عمرو بن العاص قبل فلسطين فأخذ طريق المعرقة على أيلة . وبعث يزيد بن أبي سفيان وأبا عبيدة ابن الجراح وشرحبيل بن حسنة وهو أحد الغوث وأمرهم أن يسلكوا التبوكية على البلقاء من علياء الشأم ) (   وجه أبو بكر الجنود إلى الشأم أول سنة ثلاث عشرة فأول لواء عقده لواء خالد بن سعيد بن العاص ، ثم عزله قبل أن يسير وولى يزيد بن أبي سفيان ، فكان أول الأمراء الذين خرجوا إلى الشأم وخرجوا في سبعة آلاف . ودعا يزيد بن أبي سفيان فأمره على جند عظيم هم جمهور من انتدب له وفي جنده سهيل بن عمرو وأشباهه من أهل مكة. وشيّعه ماشيا . ) وقالوا فى ترجمة يزيد بن أبي سفيان : (  أسلم يوم فتح مكة،  .‏ واستعمله أبو بكر الصديق رضي الله عنه على جيش، وسيره إلى الشام، وخرج معه يشيعه راجلاً‏.‏ ) . والقيادة الحربية يستتبعها ان يكون القائد هو الحاكم لما قام بفتحه ، أى أصبح يزيد بن أبى سفيان حاكم دمشق . تقول الرواية : ( وكان أبو بكر قد سمى لكل أمير من أمراء الشأم كورة فسمى لأبي عبيدة بن عبدالله بن الجراح حمص وليزيد بن أبي سفيان دمشق ولشرحبيل بن حسنة الأردن ولعمرو بن العاص ولعلقمة بن مجزز فلسطين ).

خامسا : أبوسفيان يضع عينه على الشام

1 ـ  فى رحلة الشتاء والصيف توثّقت علاقة ابى سفيان بقبائل ( كلب ) التى كانت تسيطر على طريق القوافل من الجزيرة العربية الى مدن الشام . وبعد أن فشل مشروع رحلة الشتاء والصيف أراد أبو سفيان استغلال الاسلام ليسيطر ليس على طريق القوافل التجارى بين الرافدين واليمن بل على الشام والعراق واليمن . فكان لا بد من حرب الردة ، ثم تطويرها الى الفتوحات ، نجح تخطيطه بأن انتهى الأمر ومعاوية يحكم الشام كله فى خلافة عمر وعثمان ، وتزوج معاوية ابنة زعيم قبائل كلب ( ميسون بنت بحدل الكلبى ) فضمن الشام فى يده . وأصبحت دمشق مركز امبراطورية الأمويين التى توسعت فى قارات العالم الثلاث بعد موت أبى سفيان ، وبأكثر مما كان يحلم به أبو سفيان .  . وإذا كانت البداية بتخطيط حرب الردة ، فقد كانت الخطوة الأساس هى هزيمة الروم فى ( اليرموك ) .

2 ـ وقد إعتبر أبو سفيان اليرموك معركته الشخصية . تقول الروايات : ( شهد اليرموك ألف من أصحاب رسول الله ، فيهم نحو من مائة من أهل بدر . وكان أبو سفيان يسير فيقف على الكراديس فيقول : الله الله إنكم ذادة العرب وأنصار الإسلام وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك . اللهم إن هذا يوم من أيامك اللهم أنزل نصرك على عبادك ) وتقول رواية اخرى إنه ( شهد اليرموك تحت راية ابنه يزيد يقاتل، ويقول‏:‏ ‏"‏يا نصر الله، اقترب‏"‏‏.‏ وكان يقف على الكراديس يَقص ويقول‏:‏ اللّه الله، إِنكم ذَادة العرب، وأَنصار الإِسلام، وإنهم ذَادة الروم وأَنصار المشركين‏.‏ اللهم، هذا يوم من أَيامك، اللهم أَنزل نصرك على عبادك ). وشارك فى المعركة معاوية بن أبى سفيان وأخته جويرية التى قاتلت ، والرواية تقول أن النساء قاتلن يوم اليرموك في جولة ، فخرجت جويرية ابنة أبي سفيان في جولة وكانت مع زوجها وأصيبت بعد قتال شديد ، وأصيبت يومئذ عين أبي سفيان ، فأخرج السهم من عينه أبو حثمة . وكان ممن أصيب في الثلاثة الآلاف الذين أصيبوا يوم اليرموك عكرمة وعمرو بن عكرمة وسلمة بن هشام وعمرو بن سعيد وأبان بن سعيد . وهؤلاء من أتباع أبى سفيان وممّن أسلم بعد فتح مكة .

3 ـ ولهذا لا نصدق هذه الرواية الى حكاها عبد الله بن الزبير الذى يزعم أَنه رأَى أَبا سفيان يوم اليرموك وكان يقول‏:‏ إِذا ظهرت الروم‏:‏ إيه بني الأَصفر‏!‏ وإذا كشفهم المسلمون يقول‏:‏  وبنو الأصفر الملوك ملوك ** الروم لم يبق منهم مذكور. ) لا نأخذ بهذه الرواية لأن ابن الزبير خصم لبنى أمية ، ولأنه ليس معقولا أن يتمنى أبو سفيان هزيمة جيش كان ابنه أحد قادته ، وقاتل فيه ابنه معاوية وبنته جويرية .

4 ـ لقد كانت اليرموك خطوة أساس فى تحقيق حُلم أبى سفيان . ومات أبو سفيان فى خلافة عثمان . قيل عام 32 ، أو 33 ، أو 34 . مات بعد أن رأى ابنه معاوية يحكم الشام كله ، وبعد أن (اوصل أبوسفيان ) ابن عمه عثمان للخلافة . و سنتعرض لهذا فى حينه ، ولكن نشير  لهذه الرواية التى ذكرها المسعودى فى مروج الذهب ج 1 ص 551 ، ونراها صادقة: يروى المسعودى : ( حين بويع عثمان دخل أبو سفيان داره ومعه بنو أمية ، فقال ابو سفيان ـ وكان قد عمى ـ أفيكم أحد غيركم ؟ قالوا : لا . قال : يا بنى أمية تلقفوها تلقف الكرة ، فو الذى يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم . ولتصيرنّ الى صبيانكم وراثة. ). 

4 ـ مات أبو بكر دون أن يعرف أن أبا سفيان هو الذى أشعل حرب الردة ليستغلها لمصلحته ، وأنه هو الذى أوعز الى أبى بكر عبر عملائه بالفتوحات . مات أبو بكر وهو لا يعلم انه كان تحت سيطرة عملاء أبى سفيان ، وأنه كان مجرد دمية يحركها أبو سفيان عن بُعد . مات أبو بكر دون أن يعرف أن أهم إثنين من قواده كانا من عملاء أبى سفيان . وهما خالد بن الوليد وعمرو بن العاص .

5 ـ انتظرونا ..

 

الباب الثانى : مكر قريش أدّى للفتوحات

الفصل السادس :   خالد وعمرو عملاء لأبى سفيان  

أولا:  مكر أبى سفيان الذى تزول منه الجبال

1 ـ : كان ابوسفيان قائد قريش الحربى والسياسى ، وقائد تجارتها فى رحلة الشتاء والصيف . ولهذا تزعم العداء للاسلام حرصا على تجارة قريش ، فلما ظهر له أن مصلحته ومصلحة قريش تستوجب الدخول فى الاسلام لاستغلاله بدلا من استغلال المسجد الحرام لم يتردد فى الدخول فى الاسلام قبيل دخول النبى مكة فاتحا . وحرص على أن يستبقى مكانته بعد دخوله الاسلام . ومن مكره أنه حين كان النبى فى مكة قام بزرع عملاء له زعموا الدخول فى الاسلام ، وصاروا من مشاهير المهاجرين . واستمر فى زرع هؤلاء العملاء حيث كانوا يهاجرون للمدينة بزعم الاسلام . ثم تنوع عملاء ابى سفيان فكان منهم أعراب إفتعلوا المشاكل للنبى والمسلمين ، ونزل الوحى بتشريعات التعامل معهم . وبتولى ابى بكر الخلافة اشعل أبو سفيان فى وجهه حرب الردة ، واستغلها فى إكراه أبى بكر على تعيين ابنه يزيد قائدا يتصدر المسلمين بعد مدة وجيزة من دخوله الاسلام . ثم بمكر أبى سفيان ارتكب أبو بكر جريمة الفتوحات التى كانت أكبر عمل إجرامى طبقا لتشريعات الاسلام ، وبها لم يعد أبوسفيان بحاجة لرحلة الشتاء والصيف لأن الشام صارت تحت حكم ابنه معاوية . ولكن المفاجأة الكبرى أن أهم قواد أبى بكر فى الفتوحات كانا من عملاء أبى سفيان ، وهما خالد بن الوليد وعمرو بن العاص .

ثانيا : بين ( عمرو ) و ( خالد )

1 ـ  يلفت النظر أن خالدا وعمرا بادرا معا وفجأة وفى قمة عدائهما للاسلام بالدخول معا فى الاسلام . ويلفت النّظر أيضا أن قريش لم تحتجّ على هجرتهما ، برغم ما يمثله اسلامهما من خسارة كبرى ظاهرية لقريش. هذا لو كانت على نفس القدر من العداء للاسلام والنبى عليه السلام ونفس التصميم على حرب الاسلام والمسلمين . ولكن توقيت إسلام خالد وعمر معا توافق مع علو شأن الاسلام والمسلمين وأنحدار نفوذ قريش وحاجتها للاسلام لتستعيد به ما ضاع من مكانتها ، وبالتالى بدء مرحلة جديدة رأى فيها أبوسفيان ضرورة السيطرة من الداخل على المسلمين ودولة الاسلام بارسال أعظم قائد قرشى ( خالد ) وأمهر دهاة الشباب القرشى (عمرو )، يهاجران معا للنبى يعلنان اسلامهما . ثم فيما بعد يصيران ـ وفق تخطيط أبى سفيان من أسس الفتوحات التى حقت آمال أبى سفيان .

2 ـ عمرو بن العاص كانت أمه ( النابغة ) من بغايا قريش المشهورات ، وهناك تنازع فى نسبه ، وقد اختارت أمه أن تنسبه الى العاص لأنه كان الأرفق بأولادها . فحمل عمرو إسم ( العاص بن وائل السهمي)، فهو ليس من الأمويين بل من بنى سهم ،  وإن كان ابو سفيان يعتقد أنّ عمرا إبنه .  ولعل هذا يفسر العلاقة الحميمة بين معاوية وعمرو . ومع نسبه المشكوك فيه ، فقد وصل عمرو بدهائه وبمساعدة أبى سفيان الى موقع الصدارة . فهو الذي أرسلته قريش إلى النجاشي ليسلّم إليهم من عنده من المسلمين‏:‏ جعفر بن أبي طالب ومن معه، فلم يفعل،  فرجع عمرو الى قريش ، فأرسله أبو سفيان مباشرة مهاجراً إلى النبي عليه السلام فى المدينة . وكان إسلامه في صفر سنة ثمان قبل فتح مكة بستة أشهر‏.‏ و ( عمرو بن العاص ) أحد دهاة العرب ، وقد إنكشف دوره فيما بعد فى الفتوحات والفتنة الكبرى خادما للأمويين ومعاوية بالذات..

4 ـ ويختلف عنه رفيقه خالد . فأبوه( الوليد بن المغيرة ) أحد طغاة قريش وأشرافها ، فهو ينتمى الى بنى مخزوم الذين يلون بنى أمية فى ترتيب الشرف القرشى ،وأضاف خالد الى نسبه لبنى مخزوم أنه كان أعظم قائد عسكرى فى قريش، تقول الروايات عنه : ( أحد الأشراف قريش في الجاهلية، وكان إليه القبة وأعنّة  الخيل في الجاهلية، أما القبة فكانوا يضربونها يجمعون فيها ما يجهزون به الجيش، وأما الأعنّة فإنه كان يكون المقدم على خيول قريش في الحرب . ) ومع هذا تركته قريش يهاجر علنا الى خصمها ( محمد )!!. وقبيل اسلامه كان خالد قائد جيش المشركين القرشيين يوم الحديبية لمنع النبى والمسلمين من الحج .وبعدها أرسله أبوسفيان عميلا له داخل المدينة بمهمة أخرى .

5 ـ  خالد وعمرو ، كل منهما ( أسلم فجأة ) وقبيل اسلامه المفاجىء كان يقود عملا عدائيا ضد المسلمين . كان عملا عسكريا لدى خالد ، وكان عملا سياسيا لدى عمرو . وفى كل الاحوال كانا يخدمان قريش ، وقائد قريش أبا سفيان .   

6 ـ ولكنّ الاختلاف بين شخصيتى خالد وعمرو كان له التأثير الأكبر فى مصيرهما . فعمرو بدهائه ظل يحافظ على ولائه لأبى سفيان ثم معاوية فعاش وحكم مصر مرتين ، ومات على فراشه واليا لمصر ، وقد ترك لأولاده قناطير من الذهب . أما خالد فبرغم عبقريته العسكرية فقد كان ينقصه الدهاء ممّا جعله مصدر خطر يمكن أن يفضح أبا سفيان . هذا مع إعتداده بنسبه المخزومى وعبقريته العسكرية . فأصبحت عبقريته العسكرية وبالا عليه، إذ خشى أبو سفيان ورفاقه من طموحه ومن سُمعته وشهرته وحّب الجند له وإفتتانهم به ، لذا كان عزله وإهانته وموته المفاجىء فى خلافة عمر .!! .

ثالثا :  عمرو بن العاص :

تقول الروايات إن النبى عليه السلام بعثه قائدا على سرية  إلى ذات السلاسل يدعوهم إلى الإسلام، ويستنفرهم إلى الجهاد، فسار في ذلك الجيش وهم ثلاثمائة، فلما دخل بلادهم طلب من النبى مددا فبعث له النبى بمدد من الجند يقوده أبو عبيدة بن الجراح ، ومعه رهط من المهاجرين منهم ابو بكر وعمر ، وصمم عمرو على أن يظل هو قائد الجميع فأذعنوا له . ويقولون أن النبى جعله واليا على عمان ( ربما ليبعده عن المدينة ) فظل فيها الى ان تولى أبو بكر . ثم أصبح من قواد الفتوحات فى الشام ، وهو الذى فتح مصر لعمر بن الخطاب فتولاها . ولم يزل والياً عليها إلى أن مات عمر، فأمّره عليها عثمان أربع سنين، أو نحوها، ثم عزله عنها ،‏ فاعتزل عمرو بفلسطين، وكان يأتي المدينة أحياناً، وصار خصما لعثمان ويطعن عليه ، فلما قتل عثمان تحالف مع معاوية  وشهد معه صفين، وهو الذى أنقذ معاوية من الهزيمة فيها بخدعة رفع المصاحف ، ثم هو الذى مكّن لمعاوية فى خدعة التحكيم . ثم سيره معاوية إلى مصر فاستنقذها من يد محمد بن أبي بكر الذى كان واليا لمصر فى خلافة ( على بن أبى طالب ) ، ومقابل هذا التحالف أعطى معاوية مصر ( طُّعمة ) لعمرو ، أى يأخذ دخلها لنفسه ، من الجزية والخراج وكل ما يغتصبه من كتوز وأموال . وظل عمرو واليا على مصر إلى أن مات فى خلافة معاوية عام 43 على الأصحّ  . وترك عمرو بن العاص عند موته سبعين بهارا من الذهب ، أي 210 قنطارا او 140 اردبا من الذهب ، واثناء موته عرض هذه الاموال علي اولاده فرفضوا وقالوا : حتي تعطي كل ذي حق حقه ،أي اعتبروها سُحتا ، فلما مات عمرو صادر معاوية هذا المال وقال ( نحن نأخذه بما فيه ) أي بما فيه من سحت وظلم. ( خطط المقريزي 1/ 140 ، 564 ).

رابعا :  خالد بن الوليد بن المغيرة

1 ـ الروايات التاريخية التى يرد فيها ذكر النبى عليه السلام حتى مع إفتراض صحتها تظل تاريخا ، وليست جزءا من الاسلام ؛ فالاسلام هو قرآن فقط . ميزان الصحة فى هذه النوعية من الروايات هو عدم تناقضها مع القرآن ، فإن إتّفقت معه ولم تتعارض معه فهى حقيقة تاريخية وليست دينية ، أى حقيقة نسبية رواها بشر وليست كلام الله جل وعلا ، وبالتالى فإن تصديقها أو تكذيبها لا يدخل فى دائرة الايمان ولكن فى مجال البحث العلمى التاريخى . ونعطى منها نموذجين فيما يخصّ خالد بن الوليد :

2 ـ . يروى الطبرى أن النبى انتهى إلى تبوك، و(.. أتاه يوحنه بن رؤبة صاحب أيلة فصالح رسول الله وأعطاه الجزية،  وأهل جرباء وأذرع أعطوه الجزية.  وكتب رسول الله لكل كتابا فهو عندهم . ثم إن رسول الله دعا خالد بن الوليد فبعثه إلى أكيدر دومة وهو أكيدر بن عبدالملك ، رجل من كندة،  كان ملكا عليها ،وكان نصرانيا. فقال رسول الله لخالد :" إنك ستجده يصيد البقر".  فخرج خالد بن الوليد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين . وفي ليلة مقمرة صائفة وهو على سطح له ومعه امراته فباتت البقر تحك بقرونها باب القصر . فقالت امرأته : هل رأيت مثل هذا قط ؟  قال :  لا والله .! . قالت :  فمن يترك هذا؟  قال :  لا أحد.  فنزل ، فأمر بفرسه فأسرج له ،  وركب معه نفر من أهل بيته،  فيهم أخ له يقال له حسان ، فركب وخرجوا معه ليطاردهم . فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول الله، فأخذته ، وقتلوا أخاه حسان. وقد كان عليه قباء له من ديباج مخوص بالذهب فاستلبه خالد ، فبعث به إلى رسول الله قبل قدومه عليه . حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن أنس بن مالك قال : رأيت قباء أكيدر حين قدم به إلى رسول الله فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم ويتعجبون منه. فقال رسول الله : أتعجبون من هذا ؟ فوالذي نفس محمد بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا . حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق قال : ثم إن خالدا قدم بأكيدر على رسول الله،  فحقن له دمه وصالحه على الجزية ، ثم خلى سبيله فرجع إلى قريته . ).

الذى يصدق هذه الرواية هو عدو لله ورسوله ، ورواتها أعداء لله ورسوله . فهى رواية ساقطة كاذبة قرآنيا ، لسببين، لأن تشريع الجزية يكون تبعا للقتال الدفاعى ، أى حين يهجم العدو معتديا ويهزمه المسلمون فجزاؤه ليس إحتلال أرضه وليس بإكراهه فى الدين، ولكن فقط دفع الجزية ( جزاءا ) لعدوانه. وهذه الرواية تزعم أن النبى هو الذى اعتدى على بلاد لم تقم بالهجوم على المدينة . ولا يمكن للنبى أن يخالف شرع الله دون أن ينزل عليه الوحى يصحّح ويلوم ويوبّخ  . وقد كان عليه السلام حين يقع فى أى مخالفة ضئيلة ينزل عليه الوحى بالتأنيب ، فكيف بجريمة كبرى مثل هذه ؟ . ثم لأن النبى لا يعلم الغيب ، ولا يعرف أن البقر سيأتى ساعة كذا على باب ( أكيدر )، ولا يعرف أن سعد ابن معاذ فى الجنة او فى النار، بل إن الجنة والنار ليستا بعد فى حُكم الوجود لأنهما سيوجدان بعد قيام الساعة . وهذا الكلام ( الكوميدى ) عن مناديل سعد وعن تآمر البقر مع الجيش الغازى للإيقاع بأكيدر المسكين هو من أحاديث القُصّاص وخرافاتهم التى يهيم بها العوام ، ولا يزالون .!

وهناك رواية أخرى بطلها خالد تقول : ( حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين قال : بعث رسول الله حين افتتح مكة خالد بن الوليد داعيا ولم يبعثه مقاتلا ، ومعه قبائل من العرب سليم ومدلج وقبائل من غيرهم . فلما نزلوا على الغميصاء وهي ماء من مياه بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة على جماعتهم.  وكانت بنو جذيمة قد اصابوا في الجاهلية عوف أبا عبدالرحمن بن عوف والفاكه بن المغيرة ، وكانا أقبلا تاجرين من اليمن حتى إذا نزلا بهم قتلوهما وأخذوا أموالهما . فلما كان الإسلام وبعث رسول الله خالد بن الوليد سار حتى نزل ذلك الماء،  فلما رآه القوم أخذوا السلاح فقال لهم خالد : ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا .) هنا رواية قابلة للتصديق ، لأن الرسول بعث خالدا لا للقتال ولكن للدعوة السلمية . ولكنّ هؤلاء القوم كانوا من قبل قد قتلوا عمّ خالد وأبا عبد الرحمن بن عوف . لذا خشوا من ان يوقع بهم خالد فحملوا السلاح ، فطمأنهم  خالد وخدعهم وقال لهم (ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا .). المشكلة فى أن خالد بن الوليد برغم إسلامه المزعوم كان على جاهليته وغدره بالعهود . تمضى الرواية الأخرى وتحكى عن رجل من أولئك القوم  بنى جذيمة : ( حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق قال حدثني بعض أهل العلم عن رجل من بني جذيمة قال : لما أمرنا خالد بوضع السلاح قال رجل منا يقال له جحدم : ويلكم يا بني جذيمة إنه خالد .! والله ما بعد وضع السلاح إلا الإسار ثم ما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق ، والله لا أضع سلاحي أبدا . قال فأخذه رجال من قومه فقالوا : يا جحدم أتريد أن تسفك دماءنا ؟ إن الناس قد أسلموا ووضعت الحرب وأمن الناس .! فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه.  ووضع القوم السلاح لقول خالد . فلما وضعوه أمر بهم خالد عند ذلك فكُتّفُوا ، ثم عرضهم على السيف ، فقتل من قتل منهم.  فلما انتهى الخبر إلى رسول الله رفع يديه إلى السماء ثم قال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد . ثم دعا علي ابن أبي طالب ...، فقال : يا علي اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك.  فخرج حتى جاءهم . ومعه مال قد بعثه رسول الله به . فودى لهم الدماء وما أصيب من الأموال حتى إنه ليدي ميلغة الكلب . حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وأداه ، بقيت معه بقية من المال، فقال لهم عليّ ..حين فرغ منهم : هل بقي لكم دم أو مال لم يود إليكم ؟ قالوا : لا . قال: فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطا لرسول الله مما لا يعلم ولا تعلمون.  ففعل . ثم رجع إلى رسول الله فأخبره الخبر ،فقال :  أصبت وأحسنت . ثم قام رسول الله فاستقبل القبلة قائما شاهرا يديه حتى إنه ليرى بياض ما تحت منكبيه ، وهو يقول : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ثلاث مرات . )

هذه الرواية تتفق مع القرآن ودعوة الاسلام السلمية ، وتتفق مع وقتها حين دخل الناس فى الاسلام سلميا ، وحين عمّ السلام العرب جميعا قبيل موت النبى عليه السلام . وكان تصرف خالد ( الجاهلى ) ردّة للتشريع القرشى الجاهلى فى هذا الوقت المضىء . وتقول رواية أخرى أن خصومة نشأت بين خالد وعبد الرحمن بن عوف بسبب ما فعله خالد . إذ إحتج عبد الرحمن على خالد ، فبرّر خالد فعلته بأنه أراد الثأر منهم لأنهم قتلوا أب عبد الرحمن بن عوف فقال له عبد الرحمن إنه أراد الثأر لعمّه الفاكه بن المغيرة . تقول الرواية : ( كان بين خالد بن الوليد وبين عبدالرحمن بن عوف فيما بلغني كلام في ذلك ، فقال له : عملت بأمر الجاهلية في الإسلام.!  فقال : إنما ثأرت بأبيك . فقال عبدالرحمن بن عوف : كذبت قد قتلت قاتل أبي ولكنك إنما ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة ...). !

3 ـ بهذا نتعرف على شخصية خالد الذى كان على خيل المشركين يوم الحديبية‏.‏ وعندما دخل فى الاسلام ظاهريا بأوامر من أبى سفيان فقد ظلّ وفيا لثقافته الجاهلية . ونتصوّر أنه بعد جريمته وغدره بأولئك الناس وتبرؤ النبى عليه السلام منه أنه ظل مُبعدا فى حياة النبى . ولكن أشعل أبو سفيان حرب الردّة فاحتاج أبو بكر لمهارة خالد العسكرية ، وطبقا لتخطيط أبى سفيان عاد خالد الى الصفّ الأول بقوة فى خلافة أبى بكر ، فكان أكبر قائد فى قتال المرتدين وفى الفتوحات التى كرّست انتهاك الأشهر الحُرُم .

4 ـ وفى حرب الردة ارتكب خالد جرائم ، منها قتل مالك بن نويرة زعيم بنى تميم  بعد أسره واستسلامه وإعلانه الاسلام ، وزواج خالد بامراة مالك فى نفس الليلة ، ومنها حرق الأسرى تقول الرواية : ( وكانت في بني سليم ردة فبعث ابو بكر رضيالله تعالى عنه خالد بن الوليد فجمع منهم رجالا في حضائر ثم احرقهم بالنار . فجاء عمرالى ابي بكر رضي الله تعالى عنه فقال : انزع رجلا عذّب بعذاب الله ) . ورفض ابو بكر، بل جعله أبو بكر قائدا لأكبر جيش ووجهه الى قتال مسيلمة الكذّاب . تقول الرواية تبرّر جريمة خالد وتمدحه : ( ثم إن أبا بكر أمّره بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال المرتدين، منهم‏:‏ مسيلمة الحنفي في اليمامة، وله في قتالهم الأثر العظيم، ومنهم مالك بن نويرة، في بني يربوع من تميم وغيرهم، إلا أن الناس اختلفوا في قتل مالك بن نويرة، فقيل‏:‏ إنه قتل مسلما لظن ظنه خالد به، وكلام سمعه منه، وأنكر عليه أبو قتادة وأقسم أنه لا يقاتل تحت رايته، وأنكر عليه ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏ ).  وسنعرض بالتفصيل للعلاقة المعقدة بين خالد وعمر وابى بكر وأبى سفيان ، وكيف انتهت حياة خالد ميتا فجأة بحمص من الشام،  سنة إحدى وعشرين، في خلافة عمر بن الخطاب .

أخيرا :

1 ـ من الملاحظ أن صحابة الفتوحات قد تمتعوا بألقاب التكريم ، بينما حرموا منها ( على بن أبى طالب ) لأنه لم يشارك فى الفتوحات . فأبو بكر لقبه ( الصديق ) وعمر لقبه ( الفاروق ) وعثمان ( ذو النورين ) والزبير بن العوام هو ( حوارىّ رسول الله ) وخالد هو ( سيف الله المسلول ).

2 ـ ولا يمكن أن يلقب النبى عليه السلام خالدا بسيف الله المسلول ، لأنّه عليه السلام يستحيل أن يفتئت على الله جل وعلا وينسب له مثل هذا الوصف ، أو أن يجعل من شخص ما صلة برب العزّة تزكّيه طيلة حياته وتجعله معصوما بسيفه مهما قتل من الناس ظلما وعدوانا . لا يمكن أن يجعل النبى من خالد سيفا لله جل وعلا ومسلولا على الناس ، فلقد سلّ خالد سيفه هذا على النبى والمسلمين فى معركة ( أحد ) و ( الأحزاب ) وحتى قبيل دخوله المزعوم فى الاسلام وهو يواجه النبى فى رحلته السلمية للحج ليمنعه من دخول مكة . ثم سلّ خالد سيفه يقتل الأسرى فى حرب الردة ، ثم قتل بسيفه مباشرة وبطريق غير مباشر  عشرات الألوف من جنود ومواطنى البلاد المفتوحة . خالد ليس سيف الله المسلول . خالد هو سيف أبى سفيان المسلول . لذا ، لم ننته من خالد بعدُ ، فسنصاحبه فى غزواته ونزواته ، وكيف كان خالد محور خلاف بين عمر وأبى بكر . والسبب أن ( عمر بن الخطاب ) كان أكبر عميل سرّى لأبى سفيان ..

4 ـ انتظرونا .!

المسكوت عنه من تاريخ الخلفاء الراشدين
يتناول تاريخ الخلفاء الراشدين والصحابة ودور قريش ( بنو أمية ) فى حرب الاسلام والمكر بالمسلمين الى أن دفعتهم للفتوحات باستغلال إسم الاسلام ، ثم أوقعتهم فى الفتنة الكبرى لتقفز ( قريش ) أو بنو أمية على الحكم . كما يتصمن الكتاب تحليلا للفتوحات ثم للفتنة الكبرى والاحتكام فيها الى رب العزة فى القرآن الكريم .
more