رقم ( 3 ) : مقدمة الباب الأول والفصول الأربغة
الباب الأول : صحابة الفتوحات

الباب الأول : صحابة الفتوحات

مقدمة الباب الاول

قريش ناصبت الاسلام العداء طبقا لمصالحها الدنيوية ، ثم أجبرتها الظروف على الدخول فيه طبقا لمصالحها الدنيوية ، واستغلت الاسلام فى أكبر جريمة وقع فيه الصحابة وهى الفتوحات التى حملت اسم الاسلام زورا وبهتانا ، والتى هى ردّة حقيقية عن الاسلام وكُفر هائل بالاسلام ، والتى تسببت فى تزعم قريش للعالم وسيطرتها على معظم المعروف منه، والتى أيضا أسست للمسلمين حروبا أهلية نسميها ترفقا بالفتنة الكبرى ، والتى تزعمها من بقى من صحابة الفتوحات . ولا زلنا نسير فى نفق الحروب الأهلية حتى الآن ، لأن هذه الفتنة الكبرى أسّست للمسلمين اللاحقين أديانا أرضية ، وأرست فيهم تقديس وتأليه الخلفاء الراشدين ـ أو واحد منهم وهو ( على ) عند الشيعة . كسبت قريش بالفتوحات حطاما دنيويا وشهرة تاريخية ولكن أضاعت الاسلام ، وأقامت على أنقاضه أديان السّنة والتشيع وغيرهما . وانتقلت قريش ـ تقريبا ـ الى متحف التاريخ ، ولكن ما فعلته بالاسلام والمسلمين لا نزال ندفع فاتورته وتكاليفه حتى الآن ، ونخسر به الدنيا والآخرة . وحين نقول ( قريش ) فإننا نقصد ( الملأ ) من قريش ، وبالتحديد الأمويين . هم الذين مكروا بالمسلمين ، وهم الذين حاربوا النبى عليه السلام ، ثم هم الذين اسرعوا بعد موته بقيادة الصحابة والمسلمين من وراء ستار ، وهم الذين أدخلوا المسلمين فى الفتوحات ثم فى الفتنة الكبرى ، وبها قفزوا لحكم المسلمين وتأسيس الدولة الأموية . نعرض لهذا كله تاريخيا وقرآنيا فى هذا الكتاب .  ونبدأ بهذا الباب بالتعرف على ( صحابة الفتوحات ) من خلال أربعة فصول .

الفصل الأول : الفتوحات العربية أساس الانتهاك وبدايته

أولا : الفتوحات إنتهاك لتشريع القتال وانتهاك للشهر الحرام

1 ـ فى الفتوحات نوعان فظيعان من الانتهاك وقع فيهما الصحابة بزعامة أبى بكر وعمر ثم عثمان : إنتهك تشريع الاسلام فى الاعتداء على أمم لم تقم بالاعتداء عليهم ، وارتكبوا انتهاكا آخر هو أن يتم هذا فى الشهر الحرام . بدأت الفتوحات بالاعتداء فى الشهر الحرام واستمرت متصلة سنوات بما فيها من أشهر حرم وغير حرم ، واستمرت أجيال من المسلمين تمارس هذا الانتهاك حتى تم نسيان الأشهر الحرم تماما . وعندما تذكرها فقهاء العصر العباسى أخطأوا فى تحديدها . أى بعد ان كانت موصوفة فى القرآن بالأشهر المعلومات التى يمكن تأدية فريضة الحج خلالها فقد تناسى المسلمون فى العصر العباسى هذه الأشهر المعلومات ، وحددوا اشهرا حرما جعلوا فيها رجب المفرد وذا القعدة ضمن الأشهر الحرم بالاضافة الى ذى الحجة ومحرم . وحتى لم يلتزم أحد بحرمة هذه الأشهر ، فظل إنتهاك المسلمين لها حتى الآن ، فالحرب الأهلية بين المسلمين لم تتوقف إحتراما لشهر حرام ، ونراها الآن فى عصرنا حروبا مستعرة تتوقف أو تستمر من افغانستان وباكستان مرورا بالعراق وسوريا الى الجزائر وتونس والشيشان . والاخوان المسلمون فى مصر بدءوا حكمهم بقتل المتظاهرين المسالمين فى شهر محرم الماضى . وسيظل انتهاك الشهر الحرانم ساريا لأنه تحصّن بأديان أرضية تحارب الله جل وعلا ورسوله .

2 ـ ولمجرد الذكرى فقط : نقرأ قوله جل وعلا فى تشريع القتال وأنه للدفاع فقط ، ورد للعدوان بمثله ، وتحريم الاعتداء على الغير : ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) (البقرة ). فالمسالمون المخالفون فى العقيدة يجب التعامل معهم بالبرّ والقسط ، وليس باحتلال أرضهم عنوة وقتلهم ونهب اموالهم وسبى نسائهم ، يقول جل وعلا :( لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) الممتحنة ) . القتال هو لمواجهة المعتدى الظالم، والذى يحرم موالاته والتحالف معه ، يقول جل وعلا : ( إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (9)( الممتحنة).

3 ـ لقد أباح الله جل وعلا القتال الدفاعى فقط خلال الشهر الحرام ، حين كانت قريش تتابع المسلمين فى المدينة بالهجوم حتى خلال الأشهر الحرم ، فأباح الله جل وعلا للمؤمنين أن يقاتلوا دفاعا عن أنفسهم إذا هوجموا فى الشهر الحرام ، يقول جل وعلا :( يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا )(217) البقرة ) . وقال جل وعلا فى إباحة القتال الدفاعى فقط فى الشهر الحرام (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)( البقرة ) 

 ثانيا : تطرف صحابة الفتوحات فى الكفر أكثر من الجاهلية أصحاب النسىء 

1 ـ يقول جل وعلا عن الأشهر الحرم وتحريم الظلم فيها يقول جل وعلا :( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ) (36)، أى يحرم فيها الظلم عموما ، فكيف بالاعتداء الحربى على شعوب وإحتلال أرضها واسترقاق أهلها وسلب أموالها ونهب كنوزها وسبى وإغتصاب نسائها وقتل وإذلال رجالها؟ وهذا ما ارتكبه الصحابة فى الفتوحات وفى الأشهر الحرم .  

2 ـ والعجيب أن العرب فى الجاهلية كانوا يعرفون الأشهر الحرم ويحترمون حرمتها ، ولكن الخطأ الذى وقعوا فيه هو مجرد النسىء ، أى تبديل شهر حرام واستحلاله مقابل شهر أخر يجعلونه حراما ، وقد أعتبره رب العزّة زيادة فى الكفر ، وأن الشيطان قد زيّن لهم سوء أعمالهم ، وأنهم بهذه الزيادة فى الكفر قد أصبحوا محجوبين من الهداية ، يقول جل وعلا : ( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) ( التوبة ).

3 ـ قرأ أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وصحابة الفتوحات هذه الآية ، وتصرفوا عكسها على طول الخط . فإذا كان النسىء زيادة فى الكفر وحجابا من الهداية فما هو وضع أبى بكر وعمر وسائر صحابة الفتوحات ؟ . ليست هناك أدنى مقارنة بين غارات القبائل العربية المحدود والمتفرقة فى الشهر الحرام وبين إعتداء الفتوحات العربية التى هاجمت أمما ودولا فى قارات ثلاث، فقتلت ملايين الأبرياء فى القرن الأول الهجرى ، ونهبت كنوزا واسترقت شعوبا . هذا الظلم الهائل الذى أوقعه صحابة الفتوحات بالناس مع فظاعته فهو لا يساوى ظلم أولئك الصحابة لرب الناس جل وعلا ، إذ إرتكبوا كل هذا باسم الاسلام ، وتحت لواء الجهاد الاسلامى . وسار على سنّتهم أجيال ، سواء فى الفتوحات أو فى الحروب الأهلية . وصحابة الفتوحات بدءا من أبى بكر وعمر وغيرهم يحملون أوزارهم وأوزار من تبعهم من المسلمين فى ضلالهم الى يوم القيامة . من هنا نفهم استحالة الهداية على صحابة الفتوحات ومن يسير على سنتهم ، فقد تحصّن ضلالهم بأديان أرضية تستحل الحرمات بل تجعل القتل والقتال جهادا .

 ثالثا : بالفتوحات تأسست أديان المسلمين الأرضية

1 ـ أسفرت الفتوحات وتوطيدها عن تأسيس امبراطورية عربية كبرى حكمتها قريش خلال الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والفاطميين . كان تأسيس هذه الامبراطورية عصيانا فظيعا للاسلام وتشريعه القائم على السلام والعدل والاحسان والحرية . ولكن هذه الفتوحات صعدت بالعرب الصحراويين الى قمة العالم وجعلتهم متحكمين فى أغنى بقاع العالم ويملكون كنوز معظم العالم المعروف وقتها . وكان مستحيلا أن يتخلّوا عن هذا كله ويرجعوا الى صحرائهم تائبين مما ارتكبوه فى حق الاسلام والشعوب التى ظلموها . ورب العزة قد أوضح أن مجرد الوقوع فى النسىء الذى هو زيادة فى الكفر يترتب عليه انحدار فى الكفر الى أحط درجة: ( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) ( التوبة ).هذا عن النسىء البسيط باستحلال شهر وتأجيله ، فماذا بالفتوحات ؟ لذا كان كفر صحابة الفتوحات فظيعا بما فعلوه من عدوان واستحلال وانتهاك لحرمة الأشهر الحرم ، ثم نسبة هذه الجرائم الى دين الاسلام ، وجعلها فتوحات اسلامية .

2 ـ على ان صحابة الفتوحات ومن تبعهم فى ضلالهم قد تفرغوا للحكم والفتوحات والحروب الأهلية فى الأشهر الحرم وغير الأشهر الحرم ، وبالتالى لم يتوفر لهم وقت لصناعة تشريع يبرر لهم ما فعلوه . أى انهمكوا فى ( الكفر السلوكى ) بالاعتداء والحروب والظلم ، الى أن استقرت الامور فى العصر العباسى فكان تشريع هذا الظلم بتأسيس وتدوين ديانات أرضية ، أهمها السّنة التى تعبر عن العرب وهيمنتهم ، والتشيع الذى يعبر عن الشعوبية الفارسية ، ثم التصوف الذى يعبر عن عوام الشعوب المفتوحة .

3 ـ فى التشريع السّنى تم صنع أحاديث من نوعية ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا .. ) ، وفى الفتوحات بالذات ظهرت مصطلحات فقهية عن الأرض المفتوحة ( عنوة ) أى بالهجوم الحربى عليها واحتلالها واسترقاق شعبها بالقوة والقهر. وأسهب الفقهاء فى هذا التشريع بكل صراحة بلا أى ضمير ، وبلا أى وعى بما يعنيه ( الفتح عنوة ) من مخالفة لتشريع الاسلام فى القرآن الكريم. وانتشرت هذه التشريعات الظالمة فى كتب الفتوحات وكتب الفقه والخراج والنظم والأحكام السلطانية ، وكانت شيئا عاديا يعبر عن دين أرضى قائم على الفتوحات والهيمنة والطغيان والظلم والاستبداد ، والذى تمثله الوهابية الآن ونظمها السياسية فى السعودية والخليج .

4 ـ فى تشرسع الدين السّنى الأرضى المناقض للاسلام يقول البلاذرى فى كتاب ( فتوح البلدان ) عن (أحكام أراضي الخراج ) : ( 1016- قال أبو يوسف: إيما أرض أخذت عنوة، مثل السواد والشام وغيرهما، فإن قسمها الامام بين من غلب عليها فهى أرض عشر، وأهلها رقيق.) أى إن أهل الشام والعراق رقيق لأن الصحابة إستولوا عليها عنوة ، وبالتالى فلا ملكية للسكان الرقيق ، فهم وبلادهم ملك للخليفة و( المسلمين ) العرب الفاتحين . والخليفة أو ( الامام ) هو صاحب الشأن فى كون أولئك السكان المساكين رقيقا أو أحرارا ، يقول البلاذرى نقلا عن أبى يوسف : ( وإن لم يقسمها الإمام وردها للمسلمين عامة- كما فعل عمر بالسواد- فعلى رقاب أهلها الجزية، وعلى الأرض الخراج ، وليسوا برقيق.). هذا ما قاله أبو يوسف شيخ المذهب الحنفى وأول قاض للقضاة فى الدولة العباسية. وهو لم يستشهد بآية قرآنية ولم يقم حتى بصناعة حديث  يؤيد فتواه ، فالفتوى كافية فى دين ظالم فاجر يملكه أصحابه .

رابعا: تطرف صحابة الفتوحات فى الكفر أكثر من حواريى عيسى عليهما السلام

1 ـ وقلنا إن للاسلام معنيين : معنى عقيدى فى التعامل مع الله جل وعلا هو الاستسلام والانقياد و الخضوع لله جل وعلا وحده لا شريك له (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) ( الأنعام 162). وهذا الجانب العقيدى خاص بعلاقة كل فرد من البشر بالله جل وعلا ، ويرجع لحريته فى الايمان و الكفر ، وليس لأحد أن يتدخل فى هذه العلاقة بين الانسان وربه ، وكل انسان مسئول عن اختياره أمام الواحد القهار يوم القيامة . أما المعنى السلوكى فالاسلام هو السلام ، وكل إنسان مسالم فهو مسلم ظاهريا بغض النظر عن عقيدته و دينه الرسمى و مذهبه . وللناس هنا الحق فى الحكم علىأى إنسان طبقا لسلوكه ، هل هو مسالم أم معتد مجرم ، وهناك من القوانين الالهية و الوضعية التى تحافظ على حقوق الانسان من تعد يقع عليه من أخيه الانسان .

ولذلك فللكفر و الشرك أيضا معنيان ، فى التعامل مع الله تعالى هو تغطية الفطرة السليمة بالاعتقاد فى شريك مع الله جل وعلا واتخاذ أولياء و شركاء مع الله ، وتلك العلاقة مع الله تعالى فى العقيدة و العبادة مرجعها الىالله تعالى ليحكم فيها بين الناس لأن كلواحد من الناس يرى نفسه على الحق ويرى مخالفيه على الباطل . الذى يهمنا هو الكفر السلوكى بمعنى الاعتداءو الظلم الذى يقع من إنسان على أخيه الانسان . هذا الكفر السلوكى بالاعتداء والظلم و القتل للبشر حق الحكم عليه ومحاسبة الواقع فيه حفظا لحقوق الانسان وحق المجتمع .

جمعت قريش بين نوعى الكفر ؛ السلوكى والعقيدى . وقال عنهم رب العزة :( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) الانفال ) ومن أشد أنواع الصّد عن سبيل الله الهجوم الحربى والقتال إعتداءا على قوم مسالمين ، وهذا ما ارتكبته قريش ضد المسلمين فى المدينة ، وعرض رب العزة عليهم التوبة بالكف عن القتال العدوانى مقابل الغفران لهم : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) الانفال ) . وبعد موت النبى عليه السلام عادت قريش بزعامة الصحابة الى سيرة قريش الأولى بالاعتداء على أقوام لم يعتدوا عليهم بقتال يهدف للسلب والنهب والسبى والاحتلال والظلم .

2 ـ وهنا نعقد مقارنة بين أصحاب محمد وأصحاب عيسى عليهم السلام . أغلب الفريقين آمن ثم كفر بعد موت الرسول ، ولكن إختلفت نوعية الكفر .

وقع بعض صحابة عيسى فى الكفر العقيدى ، بعضهم خانه وبعضهم تخلى عنه كما يقول تاريخ المسيحية ، ولكن القرآن يذكر وقوعهم فى الكفر العقيدى ، وخروجهم عن الاسلام بمعناه القلبى ( لا اله الا الله ) ، يقول جل وعلا : ( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)( آل عمران ) ويقول جل وعلا يأمر أصحاب النبى محمد أن يكونوا مثل الصالحين من أصحاب عيسى ، أى أن يكونوا أنصار الله جل وعلا: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)( الصف ). ثم تطور الأمر بتأليههم عيسى رسول الله . كان كفرا قلبيا بلا كفر سلوكى بالاعتداء والغزو ، بسبب الطبيعة المسالمة لقوم عيسى عليه السلام .

وهذا خلاف العرب الذين كانوا قبائل تعيش على التقاتل ، ورجال القبيلة هم أنفسهم الجيش المهاجم والمدافع. لذا بادر أصحاب محمد عليه السلام بتحويل الاسلام ـ دين السلام ـ الى دين حرب وغزو ، تبعا للسنّة القرشية ورغبتها فى الهيمنة .  أسرعوا بالكفر السلوكى بالاعتداء الظالم على من لم يقم بالاعتداء عليهم . فكانت الفتوحات الردة الكبرى عن الاسلام ، ثم جاء فيما بعد تسويغها وتشريعها بكفر عقيدى وأديان أرضية . فجمعوا بين نوعى الكفر السلوكى والعقيدى . ودفعوا الثمن بالفتنة الكبرى .!! وعلى أثرهم يقتدى المسلمون حتى اليوم .

أخيرا : ضع أعصابك فى ثلّاجة :

1 ـ هذا الانقلاب السريع المفاجىء لصحابة الفتوحات بعد موت النبى محمد عليه السلام يستدعى وقفة بحثية . من المؤكد أن له جذورا وأرضية داخل قلوب أولئك الصحابة ، ولكن منعها الوحى الذى كان ينزل على النبى من الاعلان عنها ، فلما مات النبى وانقطع الوحى نزولا ظهر المستور . تتّضح هذه الفجوة حين نتذكّر أن رب العزة وصف عموم المهاجرين المكييّن فى بداية عهدهم بالمدينة بعد الهجرة بأنهم أهل البيت الحرام ، الذين أخرجهم مستكبرو قريش من مكة والبيت الحرام وهم ( أهله ) ، وهذا ظلم أكبر فى شرع الله جل وعلا ، يفوق جريمة القتل وجريمة انتهاك الشهر الحرام :( يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ   )(217) البقرة ). كان المهاجرون الذى أخرجتهم قريش ( أهل المسجد الحرام )، وبعدها بعشر سنوات تقريبا كان صحابة الفتوحات من أولئك المهاجرين هم الذين ينتهكون الشهر الحرام وتشريعات الاسلام . هذا الانقلاب السريع المفاجىء يستدعى تفسيرا .

2 ـ لقد كان هناك منافقون من الأوس والخزرج ، فضحوا أنفسهم بأقوالهم ومواقفهم وتآمرهم ، فنزل القرآن ينبىء بما يفعلون ، ويحذّرهم . ومع ذلك ، كان أولئك المنافقون المعروفون المشهورون يخشون أن ينزل القرآن يخبر بكل ما فى قلوبهم ، يقول جل وعلا : (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) التوبة ). كانوا صنفا من المنافقين معلومين للنبى بسبب مواقفهم وأقوالهم ،لذا نبّأ رب العزة مقدما بأن النبى لو سألهم سيقولون إنهم كانوا يخوضون ويلعبون ، ويأتى الرد عليهم مقدما بكفرهم ولعنهم وعدم قبول توبتهم :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66).التوبة ).  كانوا فى معارضتهم العلنية للدولة الاسلامية يستخدمون الحرية المطلقة الى كفلها الاسلام فى المعارضة القولية بالتظاهر والأمر بمنكر والنهى عن المعروف ، فكانوا يطوفون بالمدينة رجالا ونساء يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف :(الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (67)،التوبة )، ولا عقاب عليهم من الدولة الاسلامية إكتفاء يالعذاب الذى ينتظرهم يوم القيامة : (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)( التوبة ).

3 ـ الى جانب هؤلاء المنافقين المعروفين بأطيافهم المختلفة كان هناك منافقون مردوا وأدمنوا وتعودوا على النفاق ، كتموا نفاقهم خوفا من أن يفضحهم الوحى ، فلم يعرفهم النبى ، بينما كانوا يعيشون الى جانبه يقدمون فروض الطاعة والولاء ويكتمون فى أعماق قلوبهم النفاق ، قال جل وعلا عنهم : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) ( التوبة ). بعد موت النبى زال خوفهم من نزول الوحى الذى يفضحهم ، فظهروا على الساحة يستثمرون مكانتهم.  كانوا مقرّبين من النبى فى حياته ولهم منزلة بين المسلمين ، وعندهم مكر وخُبث جعلهم يستمرون فى خداع النبى وغيره طيلة هذه المدة . وبعد موته كانوا هم القادة الذين ذكرهم التاريخ . كانوا قادة الفتوحات .!!

4 ـ أى دخلوا بالمسلمين فى الكفر الأعظم وهو الفتوحات ، فماتوا بنفاقهم وكيدهم للاسلام والمسلمين دون توبة ، وهذا ما توعدهم به مقدما رب العزة فقال :( سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ). أى سيتعذبون مرتين فى الدنيا ، ثم ينتظرهم العذاب العظيم فى الآخرة . ومن التاريخ نعرف أن الفتوحات تلاها ( عذاب ) عام هو ( الفتنة الكبرى) ، أو الحروب ألأهلية التى أكلتهم جميعا . والعذاب الدنيوى الثانى لم يذكره التاريخ ، ربما كان عذابا فرديا لكل منهم ، من مرض ونحوه ، وعلمه عند الله جل وعلا .

5 ـ ولكن هذا الأمر الخطير يستدعى منّا تفصيلا. ويستدعى من القارىء العزيز أن يضع أعصابه فى ثلّاجة .

6 ـ هل لديك ثلّاجة ؟

 الفصل الثانى  : صحابة الفتوحات ليسوا من السابقين وليسوا من أهل اليمين     

أولا : نوعيات الصحابة بين القرآن والتاريخ 

1 ـ قبيل موت النبى عليه السلام أنزل الله جل وعلا فى سورة التوبة عرضا لدرجات الصحابة من حيث الايمان والعمل ؛ منهم السابقون فى العمل والايمان من المهاجرين والانصار ، ومنهم من خلط عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم ، ومنهم من أرجأ الله جل وعلا الحكم عليهم إنتظارا لتوبتهم فإما يعذبهم إن ماتوا على عصيانهم دون توبة مقبولة وإما أن يتوب عليهم إن تابوا توبة نصوحا ، ومنهم المنافقون ، وهم نوعان ؛ منهم من فضحهم نفاقهم ، ومنهم من مرد على النفاق وكتم عواطفه ، وقد توعدهم رب العزة بالعذاب مرتين فى الدنيا ، علاوة على عذاب عظيم ينتظرهم يوم القيامة. وبدأت السورة بالبراءة من كافرى قريش الذين نقضوا العهد وهموا بإخراج الرسول من مكة ، وإعطائهم مهلة أربعة أشهر تبدأ بافتتاح موسم الحج والأشهر الحرام ، ثم حث للمؤمنين على القتال الدفاعى واتهام لبعضهم بالتحالف مع ذويهم من قريش المعتدين.

2 ـ رب العزة تكلم عن صفات للصحابة دون ذكر لشخصياتهم بالاسم. وهذا عكس التاريخ الذى يحدد الأسماء والزمان والمكان . رءوس الصحابة فى التاريخ هم الخلفاء الراشدون وغيرهم ممّن نطلق عليهم ( صحابة الفتوحات ) .

3 ـ ونحتكم للقرآن الكريم فيما قام به صحابة الفتوحات طبقا لتاريخهم المسجل فى أوثق المصادر السّنية . وهذا فى محاولة لفهم هذا الانقلاب السريع المفاجىء الذى وقع فيه صحابة الفتوحات بعد موت النبى محمد عليه السلام ، وكان من مظاهره انتهاك الأشهر الحرم بأبشع مما عرفه العرب فى الجاهلية فى النسىء الذى كان زيادة فى الكفر . هذه الفتوحات اقامت امبراطوريات قرشية، وجعلت قريش أشهر  قبيلة فى التاريخ العالمى، ومع ذلك فهى أكبر ردّة عن الاسلام ، وبها أدخل صحابة الفتوحات  المسلمين فى نفق شيطانى لم يخرجوا منه حتى الآن ، إذ تأسست بالفتوحات أديان أرضية للمسلمين قامت بتشريع شيطانى ، بتقديس البشر والحجر وانتهاك الشهر الحرام والبيت الحرام . ولهذا ظل صحابة الفتوحات محل تقديس فى تلك الأديان الأرضية ، بدليل رعب القارىء عندما يقرأ هذه السطور ، إذ تجذّر فى القلوب رهبة وقداسة لأولئك الصحابة حتى أصبح نقدهم كفرا. ونبدأ فى التعرف على موقع صحابة الفتوحات بين نوعيات الصحابة المذكورين فى القرآن الكريم .

ثانيا : صحابة الفتوحات ليسوا من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار : 

1 ـ يقول جل وعلا :( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)التوبة). السبق هنا لا يعنى السبق زمنيا فى دخول الاسلام ، بدليل ذكر الأنصار وهم قد تأخر اسلامهم بعد المهاجرين ، وبدليل قوله جل وعلا (  وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ).

إنّه سبق فى الايمان والعمل الصالح تفوق به أولئك الصحابة المتّقون على غيرهم ، وحافظوا على هذا التميز بالايمان والعمل الصالح حتى مماتهم فلم يرتكبوا كفرا سلوكيا ولا كفرا عقيديا ، ولم يقعوا فى  كبيرة من الكبائر ، بل ماتوا متقين ، ينطبق عليهم قوله جل وعلا ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) ( الذاريات ).

2 ـ هؤلاء السابقون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من البشر سيكونون يوم القيامة ضمن فئة السابقين المقربين من عموم البشر . إذ سينقسم البشر حسب الايمان والعمل يوم القيامة الى ثلاثة أنواع : السابقون وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، وهذا ما جاء فى سورة الواقعة : (وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ ). العبرة هنا بأن يموت الفرد وقد أمضى حياته سابقا فى الايمان وفى العمل الصالح ، بحيث تبشره ملائكة الموت عند الاحتضار بروح وريحان وجنة نعيم ، يقول جل وعلا فى خاتمة سورة الواقعة ( فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) الواقعة ) .

 3 ـ نفس التقسيم الثلاثى للصحابة ( سابقون مقتصدون ، ظالمون )هو للمؤمنين الذين ورثوا القرآن الكريم  ، يقول جل وعلا : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)( فاطر ). وبالتالى سيكون من الأجيال التالية  سابقون بالخيرات، وقد وصف رب العزة النعيم الذى ينتظرهم فقال فى الآية التالية:( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) فاطر ).  ثم قال جل وعلا عن الظالمين الذين يسيرون على سنّة صحابة الفتوحات:( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) فاطر ) جاءهم القرآن نذيرا ، وعاشوا عُمرا فلم يستغلوه فى التذكر والهداية ..!!

4 ـ يستحيل قرآنيا أن يكون أولئك السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار من ( الملأ ) ، ممّن يريد الدنيا وحطامها بحيث يستهلك حياته طلبا للعلوّ فى الأرض مستخدما السياسة وفسادها لكى يكون قائدا أو حاكما ، هذا الصنف لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ، ولا مكان له فى الجنة ، يقول جل وعلا :( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) القصص ).

5 ـ هناك عظماء بمقياس التاريخ ، فالتاريخ يسعى بين يدى الحكام والقادة والزعماء يسجّل أعمالهم وفتوحاتهم ، ناسيا ضحايا تلك الفتوحات من ملايين الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال . يسجّل التاريخ فتوحات الاسكندر الأكبر ويوليوس قيصر وجنكيزخان وهولاكو وتيمورلنك وعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ونابليون وهتلر وستالين .الخ .. ولكنه يتناسى ضحاياهم من ملايين البشر الذين داستهم سنابك الخيل ، والذين وقعوا فى الأسر والاسترقاق . هذه العظمة التاريخية مكانها القرآنى فى الجحيم ، ولا تتفق مع عدل الاسلام وقيمه فى الرحمة والسلام ، إذ كيف يجوز فى ميزان العظمة الحقيقية القرآنية أن يكون من حق فرد من البشر أن يقيم صرح عظمته فوق أهرامات من جماجم آلاف البشر.؟!! ثم تكون الفاجعة حين يقيم  بعضهم مئات الأهرامات من جماجم البشر الأبرياء باسم الله جل وعلا ورسوله الكريم الذى بعثه الله جل وعلا رحمة للعالمين ولليس لظلم وقتل العالمين .

6 ـ يستحيل أن يسعى التاريخ لتسجيل هذه النوعية ( المغمورة ) من الصحابة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، فالتاريخ متخصص فى التأريخ للمشاهير من أصحاب السوابق الاجرامية ؛أهل الاستبداد  الساعين الى العلو فى الأرض والفساد . وفى عصرنا قد يوجد مسلمون مؤمنون يتبعون طريق السابقين من المهاجرين والأنصار ، لا يريدون علوا فى الأرض ولا فسادا ، ولكن  لا يأبه بهم الاعلام ثم التاريخ ، كلاهما (الاعلام ثم التاريخ ) يسعى خلف المشاهير من الحكّام وشيوخ الضلال ونجمات ونجوم السينما والرياضة واللهو واللعب والحرامية من أصحاب البلايين . ومثلا ، حين كان محمد مرسى العيّاط طالبا بسيطا مجتهدا فى قريته وفى أفضل حالاته ، لم يهتم به أحد ، فلما صار فى أسوأ حالاته رئيس مصر باسم الاخوان وبانتهاك إسم الاسلام أصبح الآن نجما فى الاعلام، وهنيئا له بدخول التاريخ .!!

7 ـ لا يهتم الاعلام أو التاريخ بالفرد العادى إلّا إذا ارتكب جريمة أو وقع ضحية لجريمة ، فتذكره صفحة الحوادث أو الجرائم ، عندها فقط قد يضطر الاعلام ـ ثم التاريخ ـ لأن يلتفت اليه . تخيّل فردا مؤمنا مسالما يتقى الله جل وعلا ويعمل صالحا إبتغاء مرضاته دون رياء أو سعى الى شهرة هل يمكن ان يكون له مكان فى ( سيرك ) الاعلام ؟ هذا هو وضع من يتقى الله جل وعلا الى لحظة الاحتضار . ينشغل بعمله الصالح وخشية ربه الى أن يلقى الموت ، ولا يأبه بمواكب الدنيا ومهرجاناتها ، وهكذا كان السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، كانوا مغمورين وجنودا للحق مجهولين ، لا يأبهون بمراءاة الخلق لأنهم مخلصون لله جل وعلا ( الحق ّ) ، وهذا يكون من يتبعهم بإحسان الى يوم الدين .

8 ـ وقد أسرف صحابة الفتوحات فى جرائم القتل والسلب والسبى والظلم لمئات الآلاف من الأبرياء وباسم الاسلام مخالفة لشرع الله جل وعلا فلا يمكن أن يتمتعوا يوم القيامة برضى الله جل وعلا عنهم وبالخلود فى الجنة كالسابقين من المهاجرين والأنصار الذين قال عنهم رب العزّة :( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)التوبة)، فالله جل وعلا لا يحبّ المعتدين:( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) البقرة ) وصحابة الفتوحات معتدون ظالمون ، والذى لا يحبه الله لا يمكن أن يرضى عنه الله .!!

ثالثا : صحابة الفتوحاتليسوا من أصحاب اليمين :

1 ـ أصحاب اليمين هم المقتصدون أو المؤمنون الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ثم تابوا توبة مقبولة عند الله جلّ وعلا . وقد وصف رب العزة طائفة من الصحابة بهذا، فقال جل وعلا :( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) التوبة). قال الله جل وعلا (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِم )، فلم ينزل التأكيد لهم بالغفران لأنه حين وصفهم جل وعلا بهذا الوصف كانوا أحياء يسعون فى الأرض ، أى كانت لديهم فرصة للتوبة والتطهّر من الذنوب لو أرادوا . لذا جاءت الآية التالية تدعوهم للتطهر بأن يقدموا الصدقات : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) التوبة ) ، وبالتالى فعسى أن يغفر الله جل وعلا ذنوبهم إذا تابوا وحافظوا على التوبة الى الرمق الأخير من الحياة . ولو فعلوا ستلقى عليهم ملائكة الموت السلام عند الاحتضار ، فقد أصبحوا من أهل اليمين:( وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) الواقعة). ويوم القيامة سيكون كل أصحاب اليمين فى الدرجة الثانية من الجنة : (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً (36) عُرُباً أَتْرَاباً (37) لأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ (40) الواقعة ) .

2 ـ وطبقا لما جاء فى تاريخ صحابة الفتوحات من جرائم قتل وسلب وسبى وظلم لمئات الآلاف من الأبرياء وباسم الاسلام مخالفة لشرع الله جل وعلا فلا يمكن أن يكون صحابة الفتوحات ضمن أصحاب اليمين ، لافتقاد شرط التوبة ، فأولئك الصحابة ظلوا فى غيّهم وظلمهم عاشوا به وماتوا به .

رابعا : فضل ألسابقين على أصحاب اليمين

1 ـ (السابقون) أعلا درجة من أصحاب درجة من ( أصحاب اليمين ) . يقول جل وعلا عن أولى الألباب الذين يتفكرون فى خلق السماوات والأرض ويدعون ربهم أن ينجيهم من النار : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) آل عمران ). وتأتى الإجابة من الله جل وعلا بأنه لا يضيع عمل صالحا ، ولكن فى قمة أصحاب الأعمال الصالحة يأتى أولئك الذين وهبوا حياتهم فى سبيل الله جل وعلا تمسكا بالحق ، فتعرضوا للأذى والاضطهاد ، واضطروا للهجرة ، ثم للقتال الدفاعى ، ثم قُتلوا فى سبيل الله جل وعلا : (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) آل عمران ).

2 ـ ولأن التبرع بالمال او الجهاد بالمال وسيلة فى الجهاد الاسلامى فإنه لا يستوى الصحابة المؤمنون جميعا فى هذا ، منهم من له سابقة واستمرارية فى الجهاد بالمال والنفس ومنهم من جاء متأخرا ، ولا يستوى هذا وذاك ، مع استحقاق الفريقين للجنة ، ولكنه الفارق بين السابقين وأصحاب اليمين فى الجنة ، يقول جل وعلا: ( وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) الحديد ) ، ثم بعدها فى الحث على التبرع فى سبيل الله جل وعلا يقول جل وعلا بعدها (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) ( الحديد ).أى يجعل التبرع بالمال فى سبيل الجهاد إقراضا لله جل وعلا ، ويتعهّد رب العزة بمضاعفة الجزاء ، وهى صياغة مؤثرة.!!.

3 ـ ومن الناحية الواقعية أيضا فإن الله جل وعلا أكّد للصحابة فى المدينة بأنه لا يستوى المجاهدون بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله مع القاعدين أصحاب الأعذار من المؤمنين ، مع إن مصير الفريقين الجنة ، ولكنه الفارق بين السابقين وأصحاب اليمين ، يقول جل وعلا:( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95)( النساء )

خامسا :الصحابة السابقون واصحاب اليمين كانوا مغمورين وليسوا من سادة القوم كصحابة الفتوحات

1 ـ ثقافتنا الذكورية تجعلنا نتخيل السابقين الأولين من الصحابة ذكورا فقط . وننسى أن رب العزة قد ذكر   صفاتهم ذكورا وإناثا فقال جل وعلا :(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35) الاحزاب ). ونتساءل : هل يصلح للسياسة وطلب ( العلوّ) فى الأرض من يتّصف بالايمان والقنوت والصدق والتصدق والصوم والعفة والذى لا يفتر لسانه عن ذكر الله جل وعلا ؟  وهل بهذه الصفات يستطيع خداع الجماهير ، وقيادتهم الى حروب دينية تقتل وتنهب وتسترق وتسبى ؟

2 ـ أوّل ملامح السابقين فى الميزان القرآنى هو الجهاد بالمال وبالنفس فى سبيل الله جل وعلا وإبتغاء مرضاة الله جل وعلا ، وليس لهدف دنيوى بالسلب والنهب والطغيان . فى معركة ( أُحُد ) حين إنهزم المسلمون بسبب الغنائم قال جل وعلا فى معرض نقدهم ( مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ  (152) آل عمران ) أى كان المؤمنون فى هذه المعركة نوعين ، أحدهما من السابقين يريد الآخرة ، والآخر من غيرهم يريد الدنيا وقاتل فى سبيلها .

3 ـ وعموما فالقتال هنا إما أن يكون دفاعيا وفى سبيل الله جل وعلا ، وإمّا أن يكون فى سبيل الدنيا إعتدءا وظلما فهذا يكون فى سبيل الشيطان ، ولا توسط هنا ، إما قتال دفاعى فى سبيل الله ضد معتد ظالم ، وإما قتال فى سبيل الشيطان بالاعتداء على من لم يقم بالاعتداء . يقول جل وعلا : ( فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) النساء). هؤلاء المقاتلون فى سبيل الله باعوا الدنيا واشتروا بها الجنة فى الآخرة . والآية التالية تتحدث عن سبب لجوئهم للقتال الدفاعى لمواجهة القرية الظالمة المتعدية :( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) النساء ) لذا فلا توسط هنا فى موضوع القتال ، إما قتال فى سبيل الله طلبا للحق والعدل وحرية الدين ، وإما قتال البغى والعدوان فى سبيل الشيطان،يقول جل وعلا فى الآية التالية:(الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (76) ( النساء ).ومن هنا نحكم على جهاد صحابة الفتوحات ومن سار على سنّتهم حتى عصرنا الراهن من السلفيين بأنه جهاد فى سبيل السلطة والثروة والتحكم والطغيان ، أى جهاد فى سبيل الشيطان ، بدأ به صحابة الفتوحات وصاروا به أئمة الطغيان لمن أتى بعدهم .

4 ـ  وبرغم ما كتبه المؤرخون فى ظل الامبراطوريات القرشية العربية، فقد كانت كل حروب النبى عليه السلام دفاعية ، ومن يقول غير هذا فهو كافر بالقرآن وعدو للنبى محمد عليه السلام ، لأنه عليه السلام لو حارب معتديا لكان عدوا لله رب العالمين ، فالله جل وعلا يقول :(  وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) البقرة ). ولو حارب معتديا لنزل الوحى يتبرأ منه . كانت حروبه عليه السلام دفاعية فقط ، بذل فيها جهده وماله ومعه جنود مؤمنون مغمورون ولكن كانوا سابقون بالايمان والعمل الصالح . لم يسع أحدهم أن يكون قائدا أو زعيما بل رضوا بالجهاد خلف النبى بالمال والنفس وبقدر المستطاع .

5 ـ ونؤكّد على دور المال الذى يحتلّ موقعا فارقا فى موضوع القتال . يكون التطوع بالمال وسيلة هامة فى دعم القتال فى سبيل الله دفاعا عن الوطن وسكانه المسالمين وحريتهم ضد عدو يهاجمهم معتديا ، لذا يأتى النسق القرآن يأمر بالجهاد بالمال مقدما على النفس : ( وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (41) التوبة )( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11)( الصف )،  فالتبرع بالمال وسيلة فى الجهاد فى سبيل الله ، سواء كان هذا الجهاد دعوة سلمية ، أو قتالا دفاعيا . أما فى القتال الهجومى المعتدى فى سبيل الشيطان فالمال هو الغاية ، فأولياء الشيطان يقاتلون شعوبا لم تعتد عليهم للسيطرة على مواردها وأموالها ، كما حدث من صحابة الفتوحات ومن سبقهم ومن جاء بعدهم من المستعمرين والمستبدين.

6 ـ ونعيد التأكيد أيضا على أنّ الفيصل فى الجهاد للسابقين عملا وإيمانا هو أن يكون فى سبيل الله عهدا قلبيا بين المجاهد وربه جل وعلا . وفى موقعة الأحزاب التى حوصر فيها المسلمون فى المدينة برز دور الجنود المؤمنين المخلصين الذين عاهدوا الله جل وعلا بقلوبهم على الفداء فى سبيله جل وعلا بينما ارتعب المنافقون وتقهقروا ، يقول الله جل وعلا يصف هذه الحالة الواقعية :( مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) الأحزاب ) لم يكونوا ( كل المؤمنين ) بل ( من المؤمنين ) أى بعضهم من الذين عاهدوا الله جل وعلا وصدقوا فى عهدهم ، منهم من قضى نحبه ومنهم من كان لا يزال حيا ، ولكنهم جميعا تمسكوا بالتقوى والسبق فى الايمان والاحسان حتى الموت ، وما بدلوا تبديلا . هؤلاء نقول : رضى الله عنهم.!.  كان هذا فى غزوة الأحزاب .

7 ـ وقد ظلّ هذا ساريا بين أولئك المؤمنين المجاهدين حتى وقت نزول سورة التوبة ، وهى من أواخر ما نزل ، يقول جل وعلا عن نفس العهد من أولئك السابقين من المجاهدين الذين بايعوا ربهم جل وعلا على التضحية بأنفسهم واموالهم فى سبيل الدفاع عن الحق : (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )، ثم يأتى وصفهم فى الآية التالية بأروع الصفات:( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (112) ( التوبة ). جاهد أولئك الجنود المغمورون مع خاتم المرسلين يبتغون مرضاة الله جل وعلا بقلوبهم، فقال عنهم رب العزّة فى تعريض بمن تقاعد عن الجهاد :( لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)التوبة ) . 

8 ـ واصحاب الأعذار المؤمنون يمكنهم تعويض عجزهم وقعودهم عن القتال بأن يبذلوا النُصح المخلص : ( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) التوبة ). ليس عليهم حرج . والآية واضحة فى أن الحديث هنا ليس عن المشاهير من الصحابة الذين صاروا فيما بعد (صحابة الفتوحات) بل عن الفقراء الضعفاء والمُعاقين .

9 ـ كما إنه ليس هناك حرج على الفقراء المؤمنين المخلصين الذين لا يجدون ما ينفقون وجاءوا للنبى للجهاد أملا أن يعطيهم خيلا أو ناقة يستعينون بها على القتال ، فاعتذر لهم النبى ، فرجعوا تفيض أعينهم من الدمع حزنا ألّا يجدوا ما يستعينون به على الجهاد فى سبيل الله :( وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ (92) التوبة ). الحديث هنا ليس عن الكبار والمشاهير من الصحابة ، والذين صاروا فيما بعد (صحابة الفتوحات) ولكن عن جنود مغمورين مؤمنين فقراء مخلصين ممّن نطلق عليهم ( العوام ) وآحاد الناس.

10 ـ وهذا يسرى حتى على الأعراب ، فأغلبية الأعراب فى عهد النبوة كانوا الأشد كفرا ونفاقا (التوبة 97 : 98 ) ، ولكنّ منهم أقلية من السابقين وأصحاب اليمين ( وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ( التوبة 99 ). وحين تكون الأغلبية من الأعراب أشد الناس كفرا ونفاقا ووجود أقلية بينهم سابقة فى الايمان والعمل فالمنتظر أن تكون هذه الأقلية من ( عوام الأعراب ) وفقرائهم.

11ـ وفى الوقت الذى كان فيه المنافقون يبخلون عن الانفاق فى سبيل الله كان فقراء المدينة المؤمنين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، وفى أول ما نزل من القرآن فى المدينة مدحهم رب العزّة بمحبة الفقراء المهاجرين وإستضافتهم ، يقول جل وعلا يصف ( عوام ) أو فقراء المهاجرين وقتئذ : (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (8) الحشر ) ، ثم يقول عن فقراء الأنصار وكرمهم الزائد عن الحدّ : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (9) الحشر ) . أيضا الكلام هنا عن عوام المؤمنين وفقرائهم فى ذلك الوقت من المهاجرين والأنصار، وليس عن الكبار والمشاهير من الصحابة ، والذين صاروا فيما بعد (صحابة الفتوحات).

12 ـ الطريف أنه فى أواخر ما نزل من القرآن ، وفى سورة التوبة كان أولئك المؤمنون الفقراء يتبرعون للجهاد مع وجود خصاصة وفقر لديهم ، يتبرعون بما يملكون ، فيسخر منهم الأغنياء المنافقون : ( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) التوبة ). وتوعد رب العزة أولئك المنافقين الساخرين بألّا يغفر لهم مهما إستغفر لهم النبى : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)التوبة ).أولئك المنافقون الساخرون كانوا من ( الملأ ) والمشاهير والقادة وأثرى أهل المدينة ، والحديث هنا عن الفقراء المؤمنين الذين يسخر بهم الذين أجرموا . هؤلاء الفقراء الؤمنون الصالحون لا يأبه بهم التاريخ ، ولكن ذكرهم القرآن الكريم . ويكفيهم فخرا وشرفا أن ينالوا رضا الله جل وعلا فى جنة نعيم : ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)التوبة).

أخيرا

1 ـ تناقض هائل بين المغمورين من الصحابة السابقين وأصحاب اليمين من المهاجرين والأنصار وبين المشهورين من صحابة الفتوحات ، هو نفس التناقض بين القمة والحضيض. هو نفس التناقض بين سمو الخلق للمؤمنين كما جاء فى القرآن والعظمة المزورة التى يمنحها التاريخ للطغاة والمستبدين وسفاكى دماء الشعوب .

2 ـ ولكن طالما لا يوجد مكان لصحابة الفتوحات بين السابقين وأصحاب اليمين ، فلا يتبقى لهم سوى حضيض أصحاب الشمال ، وهذا ما نفهمه من القرآن .. إنتظرونا .

 الفصل الثالث :  صحابة الفتوحاتهم الذين لم يتوبوا    

مقدمة : صحابة الفتوحات  هم عصاة لم يتوبوا . منهم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ثم لم يتوبوا ، ومنهم الذين ارجأ الله جل وعلا الحكم عليهم وماتوا بلا توبة ، ومنهم الذين نزل القرآن يوبّخهم بسبب تحالفهم مع قريش ولم يتوبوا ، وعُصاة آخرون ماتوا بلا توبة ، ثم أولئك  الذين مردوا على النفاق . 

أولا : الصحابة المهاجرون القرشيون المتمسكون بالولاء لقريش

1 ـ  نشير الى الفصل السابع من الباب الثانى ، وعنوانه ( لماذا إنتصر التواتر القرشى فى الحج ؟)، وفيه تفصيل عن وقوع معظم المهاجرين القرشين فى جريمة الولاء لأهاليهم القرشيين فى مكة والذين كانوا يهاجمون المدينة كراهية فى الاسلام والمسلمين . وقد تكرّر تحذير رب العزّة لأولئك الصحابة بلا جدوى ، بداية من سورة الممتحنة وهى من أوائل ما نزل فى المدينة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)، وتوالى التحذير فى سورة المجادلة (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (22)، وفى سورةالمائدة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)،  بل يصف رب العزة أولئك الصحابة بالمنافقين فى سورة النساء (بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145). واستمر التحذير الى آخر ما نزل فى سورة التوبة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) . أى استمر عصيان أولئك الصحابة وموالاتهم الاعداء القرشيين المعتدين من بداية الهجرة الى آخر ما نزل من القرآن.

2 ـ ثم كانت النهاية قبيل موت النبى عليه السلام وفى ظروف غاية فى الدقة والحرج حين قام متطرفو قريش بعد فتح مكة سلميا بحركة حربية نقضت فيها العهد وقت أن كان النبى فى مكة ، وهمّوا بإخراج الرسول من مكة والحرم ، ولم يتمكنوا، ولولا أن الله جل وعلا سجّل هذا فى كتابه المحفوظ ما عرفنا هذه الحقيقة التاريخية المنسية ، يقول جل وعلا فى سياق التحريض على قتالهم:( أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) التوبة ). فهم الذين بدءوا بالحرب على حين غفلة بنقض العهد ورفع السلاح فى بيت الله الحرام ، وكان النبى وقتها فى الحرم ، فعصمه الله جل وعلا منهم.  

3 ـ كان موت النبى فرصة لهؤلاء الصحابة الذين يدينون بالولاء لقومهم قريش على حساب الاسلام والنبى عليه السلام . إذ بعد موته عليه السلام تمّ ( لمّ الشمل ) القرشى كله من المهاجرين القدماء الى من كان يطلق عليهم ( الطلقاء ) الداخلين فى الاسلام عند فتح مكة ، وأهمهم زعماء مكة من بنى أمية بالذات . وكانت الفتوحات فرصتهم الكبرى لقيادة العرب والمسلمين تحت زعامة  قريش ، وكان هذا توطئة لعودة السيادة القرشية القديمة التى كانت تُعادى الاسلام ( بنو أمية ) فأصبحوا بعد نصف قرن يحكمون المسلمين ومعظم العالم باسم الاسم بدءا بمعاوية بن أبى سفيان .

ثانيا : عُصاة الصحابة من المهاجرين القرشيين الذين لم يتوبوا :

أنزل رب العزة فى سورة الأنفال نقدا قاسيا للمهاجرين العُصاة بعد موقعة ( بدر ) يحذّرهم ويعظهم ، يقول جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) ، أى كانوا لا يطيعون الله ورسوله ، وكانوا يعرضون عن الطاعة . لذا يصف رب العزة من يقع فى ذلك بأنهم شر الدواب :( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) . ويأمرهم رب العزة بالاستجابة والطاعة حتى لا يتعرضوا للعقاب الالهى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25). ثم يذكّرهم رب العزة بأنهم كانوا من قبل فى مكة مستضعفين يخافون أن تتخطفهم قريش فآواهم الله جل وعلا فى المدينة وأنعم عليهم بالرزق لعلهم يشكرون : ( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26). ولكنهم لم يشكروا بل وقعوا فى خيانة الله ورسوله ، لذا قال جل وعلا لهم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) الأنفال ). كان هذا مبكرا بعد موقعة بدر . ومن لم يتب فالمفهوم أنه أصبح من صحابة الفتوحات .

ثالثا : صحابة عُصاة متنوعون لم يتوبوا

1 ـ منهم الذين كانوا يؤذون الرسول عليه السلام ، ونزل فيهم قوله جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) الأحزاب ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) ( الأحزاب ).

واستمر هذا الأذى فقال جل وعلا فى سورة التوبة : (وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) ( التوبة ).

2 ـ ومنم أطياف من المؤمنين ضعاف الايمان ، تعاونوا مع المنافقين بإطلاق الإشاعات وقت محنة حصار المدينة فى معركة ( الأحزاب ) ، فتوعّدهم رب العزة بالعقاب فقال : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61)  ) ( الأحزاب ) .

3 ـ ومنهم أجلاف كانوا يزايدون على رسول الله وشرع الله ـ كما فعل الخوارج فيما بعد ، فقال جل وعلا يحذّر ويُنذر فى سورة الحجرات :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) الحجرات ). ومنهم أجلاف كانوا لا يحترمون النبى فيرفعون أصواتهم عليه :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) الحجرات ).

4 ـ ومنهم فاسقون كاذبون : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) الحجرات ).

5 ـ ومنهم من كان يتكاسل عن صلاة الجمعة منشغلا بالهو والتجارة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)( الجمعة ).

6 ـ ومنهم من يقول ولا يفعل ، ويعد ولا يفى ، فنزل قوله جلّ وعلا يستنكر ذلك : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (3)  ) ( الصف ).

7 ـ هؤلاء الصحابة جميعا ـ وأمثالهم ـ جميعا دعاهم رب العزّة للتوبة وحذّرهم من أن يكونوا وقودا لنار جهنم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ )(6) التحريم ) فإن لم يتوبوا فسيحشرون كفّارا ولن يغنى عنهم يومئذ إعتذلرهم أو توبتهم:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (7)التحريم )  لذا جاء نصح المؤمنين ـ وفى مقدمتهم  أولئك الصحابة العُصاة بالتوبة :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً )(8)( التحريم ). ومن لم يتب منهم وعاش بعد موت النبى فالمرجّح أنه كان من صحابة الفتوحات .

رابعا : التوبة هى الفيصل وصحابة الفتوحات لم يتوبوا :

1 ـ ولأن التوبة هى الفيصل هنا فإن هناك من الصحابة من أرجأ الله جل وعلا الحكم فيه إمّا أن يعذّبه وإمّا أن يتوب عليه طبقا لتوبته ؛ موعد التوبة ، ومدى إخلاصه فيها . والحكم لله جل وعلا فى هذا الأمر ، يقول جل وعلا : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) التوبة)، فهو أن تاب سريعا وقام بحق التوبة تاب الله جل وعلا عليه وكان من أصحاب اليمين، وإلّا فمصيره العذاب ، وأصبح من أصحاب الشمال، تبشره ملائكة الموت بالحميم والجحيم : ( وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)(الواقعة )، ويؤتى به يوم القيامة ضمن أصحاب الشمال : ( وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) ) ( الواقعة )

2 ـ إن للتوبة ملمحين : إرجاع الحقوق لأصحابها وإسترضائهم وطلب عفوهم علنا ، ثم تجديد الايمان وتكثيف العمل الصالح . أى هى تعامل ظاهرى مع الناس ، وتعامل قلبى عقيدى مع رب الناس .

فى التعامل الظاهرى مع الناس يقول جل وعلا فيمن خلط عملا صالحا وآخر سيئا ظالما :( وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) التوبة ) أى إعلان التوبة أمام المجتمع ظاهريا ، ثم يكون الحساب على مدى الاخلاص فيها مؤجّل الى يوم لقاء عالم الغيب والشهادة . ونفس الوضع فى توبة المنافقين الذين جاءوا يعتذرون للنبى والمؤمنين كذبا وخداعا ، فقال جلّ وعلا : (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (94) ( التوبة ). (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ ) يعنى لن نثق فيكم ، وستأتى الثقة بعمل صالح معلن يراه الله ورسوله ، وفى النهاية يكون الحكم على مدى الاخلاص أو الخداع لرب العزّة يوم القيامة .

أما التوبة القلبية فهى تعامل خاص بين التائب وربه جل وعلا يستلزم الاستغفار الدائم المخلص وتصحيح الايمان وبدء حياة نقية يتركّز ويتكثّف فيها العمل الصالح فيما تبقى من عُمر تعويضا على العمل السىء ، أملا فى أن يبدّل الله جل وعلا سيئاته حسنات ، يقول جل وعلا عمّن يرتكب القتل بغير الحق ويقع فى الشرك والزنا ثم يتوب توبة مقبولة من ربّ العزّة : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) ( الفرقان )، وعن إرتباط التوبة القلبية بتصحيح الايمان وتكثيف العمل الصالح يقول جل وعلا : (إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً (61)  مريم )( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى (82)( طه ).

إن الله جل وعلا لا يقبل التوبة من الكافر الذى يظل على كفره حتى لحظة الاحتضار ، ولا يقبل التوبة ممّن أدمن العصيان حتى أحاطت به خطيئته ، أى تراكمت ولوثت قلبه وظل أسيرا لها حتى وقت الاحتضار : ( وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (18) النساء )، ( بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) ( البقرة ).

3 ـ صحابة الفتوحات لم يتوبوا توبة ظاهرية علنية بإرجاع الحقوق لأصحابها . لو كان هدفهم تحرير الشعوب من قهر حكامها كان عليهم أن يرجعوا لصحرائهم بعد تحرير هذه الشعوب وهزيمة الحكام الطغاة ، ولكن الذى حدث أن أولئك الصحابة بعد أن قتلوا مئات الآلاف من نفس الشعوب المسالمة واسترقوا ابناءهم وبناتهم وسلبوا أموالهم حكموا تلك الشعوب بنفس النظم السائدة ، وأخذوا منهم الجزية بل وجعلوهم رقيقا ومسخرين فى الارض . ثم أختلفوا على الغنائم والمال السُحت فاقتتلوا فى الفتنة الكبرى . وبالتالى لم يتوبوا أيضا توبة قلبية طبقا لما جاء فى سيرتهم فى التراث السّنى نفسه .

خامسا : قادة الفتوحات أنبأ الله جل وعلا مقدما بعدم توبتهم

1 ـ الكافرون بسلوكهم المعتدى الظاهرى يظل هناك امل فى توبتهم ، ولو تابوا وجنحوا للسلم باخلاص فإنّ وعد الله قائم لهم بالغفران : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ (38)( الانفال ). بل  توجد فرصة التوبة للمنافقين الذين فضحهم سلوكهم ، فإن تابوا وأصلحوا وأخلصوا دينهم لله فسينجون من الدرك الأسفل من النار ، يقول جلّ وعلا :( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) النساء ).

2 ـ الصنف الوحيد من المنافقين الذين لا توبة لديهم لأنهم لا يتوبون هم من قال عنهم جل وعلا لرسوله الكريم : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) التوبة ). هم لم يعترفوا للنبى بذنوبهم كما فعل صحابة آخرون ، قال عنهم جل وعلا فى الآية التالية : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) التوبة )

3 ـ بعض قادة صحابة الفتوحات فى رأينا ينتمون الى هذه الفئة من المنافقين الذين مردوا على النفاق . يقول جل وعلا عنهم ( وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101 ). (مَرَدُوا ) أى تعودوا وأدمنوا وأتقنوا النفاق ، أى ظلوا الى جانب النبى وحوله يصاحبونه مدة سنين ، حتى (مَرَدُوا ) وتخصصوا وأتقنوا وتعودوا النفاق بحيث صاروا يتنفسون  النفاق  بطول الخبرة . وهذا ينطبق على منافقى المهاجرين بالذات ، خصوصا وأن ربّ العزة لم يقل هنا ( المهاجرون والأنصار ) وإنّما قال (  وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ )، أى الذين طال بهم العيش فى المدينة حتى أصبحوا من أهلها، ومع طول صحبتهم للنبى ووجودهم حوله ومعرفته بهم كاشخاص ومعاونين فلم يكن يعرف سريرتهم (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ )، لأنه عليه السلام لم يكن يعلم الغيب ولا يعلم السرائر ، ولأن هؤلاء (مَرَدُوا ) على النفاق بحيث لم يصدر منهم لفظ أو قول أو حركة أو تصرف ينبىء بحقدهم على الاسلام والرسول عليه السلام . لم يكن فيهم ضرر على الاطلاق يستدعى أن ينزل القرآن الكريم يحكى أقوالهم وأفعالهم وتآمرهم ، فلم تكن لهم أقوال وأفعال ضارة كما كان يحدث من بقية المنافقين الصرحاء . ولذلك إكتفى رب العزّة بذكرهم ، مع إشارة الى أنهم سيموتون على كفرهم ، وأنهم سيلقون العذاب مرتين فى الدنيا قبل العذاب العظيم فى الآخرة . لماذا هذا العذاب المضاعف فى الدنيا ؟ لأنهم سيرتكبون جرائم فى حق الاسلام بعد موت النبى عليه السلام . بعد موته سيتصدرون الساحة بحكم موقعهم القريب من النبى ، وستكون فرصتهم لارتكاب ما يريدون دون أن يفضحهم الوحى . أى إنهم لن يتوبوا ، بل سيرتكبون الفظائع باسم الاسلام ، وهم فى موقع القيادة للمسلمين .

 الفصل الرابع : صحابة الفتوحات كانوا من مشاهير الصحابة حول النبى عليه السلام

أولا : أبوبكر صاحب النبى فى الغار:

المشهور أن أبا بكر هو صاحب النبى فى الغار فى قوله جل وعلا : ( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ) (40)( التوبة ). ونتدبر ألاية الكريمة بالاستعانة بالله جل وعلا ، ونقول :

1 ـ ليس حقيقة قرآنية إيمانية كون أبى بكر هو صاحب النبى عليه السلام المقصود فى هذه الآية ، الحقيقة الايمانية المُطلقة القرآنية هى قوله جلّ وعلا (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ )، أى كان هناك صاحب للنبى فى الغار دون تحديد إسمه . من يُنكر قوله جل وعلا ( إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه  ) يكفر بالقرآن الكريم . أما كون هذا الصاحب فلانا أو غيره فهذا يدخل فى الحقائق التاريخية النسبية ، وهى قضية علمية تاريخية موضعها مجال البحث التاريخى . وبناء عليه لو قلت إن صاحب النبى فى الغار كان ( عمر بن الخطّاب أو عمر بن عبد العزيز ) فلن تكون كافرا ، لكن تكون جاهلا بالتاريخ .  

2 ـ لم يقل جلّ وعلا : ( إذ يقول  لصاحبه فى الغار ) لأن المعنى هنا هو قصر الصحبة على وقت الاختفاء فى الغار ، وهذا مخالف لمعنى الصاحب . فطبقا للقرآن الكريم فإنّ الصاحب هو الملازم فى الصحبة مدة طويلة تصل الى سنين فى نفس المكان والزمان ، مثل قول يوسف لصاحبيه فى السجن :( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ (39)(يوسف )، فهنا صُحبة إجبارية فى السجن استمرت سنينا . ويقول جل وعلا عن عذاب الآخرة:( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12)(المعارج ).(الصاحبة ) هنا هى الزوجة التى تدوم عشرتها لزوجها، تصحبه فى الزمان والمكان سنينا طوالا كالابن والأخ وليست    مجرد زوجة تزوجها وانفصل عنها بعد مدة يسيرة ، بل صاحبته فى مسيرة حياته . وبالتالى فإن قوله جل وعلا عن أبى بكر (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ) يفيد دوام صُحبة أبى بكر للنبى عليه السلام سنين طوالا ، خصوصا حين نتذكر الفارق الزمنى بين الاختفاء فى الغار وبين وقت نزول هذه الآية قبيل موت النبى عليه السلام .

3 ـ هذا الصاحب المُلازم للنبى لا يشير رب العزة فى الآية الكريمة الى هدايته وتقواه ، فلم يقل (إذ يقول لصديقه)، لأن (الصديق) من (الصدق ). و(الصديق) مصطلح قرآنى ورد مع الأقارب الذين يجوز الأكل عندهم( النور61 ).ولو كان أبوبكر صديقا صادقا للنبى مستحقا للقب (الصديق الصادق ) لقال جل وعلا ( إذ يقول لصديقه ) . ولو قالها رب العزّة يصف أبا بكر بالصدق فستكون له شهادة الاهية بالصدق فى الايمان بالاسلام . ولكن إكتفى بوصفه بالصاحب وحرمه من وصف ( الصديق ). ثم جاء أئمة الدين السّنى ولم يكتفوا بوصف أبى بكر بأنه ( صديق ) النبى ، بل جعلوا لقبه ( الصّدّيق ).!

4 ـ ولقد قال النبى لصاحبه :( إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)، وكان السياق أن يُقال بعدها :( فانزل الله سكينته عليهما وأيدهما ) ، أى يكون الكلام عنهما معا فقد كانا معا إثنين فى الغار والحديث عنهما معا بالمثنى (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا )،ولكنّ عند الحديث عن السكينة والتأييد الالهى تمّ حرمان أبى بكر منها ، وجاء هذا مقصورا على النبى دون صاحبه : (فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ). وهذا يشير بقوّة الى أن الصفة المشتركة بين النبى وصاحبه أبى بكر هى مجرد الصحبة فقط ، دون الصدق والتأييد الالهى .

5 ـ ثم ، إن مصطلح الصاحب يأتى فى القرآن ـ غالبا ـ بين المختلفين فى العقيدة . جاء مرة واحدة فى القرآن الكريم يفيد المشاركة فى نفس العقيدة فى قوله جلّ وعلا عن ثمود وصاحبهم الذى عقر الناقة: (فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29)( القمر ). وما عداه يأتى مصطلح الصاحب فى سياق الاختلاف العقيدى بين الصاحبين فى الايمان والكفر ، كقوله جل وعلا :(فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37)( الكهف ).فهنا إثنان من الأصحاب أحدهما كافر والآخر مؤمن ، وكلاهما يعبّر عن عقيدته لصاحبه .

6 ـ الأكثر تأكيدا هو وصف النبى محمد عليه السلام بأنّه كان صاحبا للملأ المشركين برغم التناقض العقيدى بينهما. وقد إتّخذ رب العزة من صُحبة النبى للمشركين حُجّة عليهم . فمن خلال صُحبته لهم كانوا يعرفون رجاحة عقله ، لذا قال جلّ وعلا عنهم :( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)الاعراف)،( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)سبأ ). أى يدعوهم رب العزّة فى التفكر فى معرفتهم بصاحبهم محمد الذى صحبوه سنينا طويلا وخالطوه وعرفوا عقله وحكمته ، فكيف يتهمونه بالجنون عندما أصبح نبيا ؟ لقد عرفوه قبل النبوه حكيما رشيدا فكيف يتهمونه بالضلال والغواية بعد أن أنزل الله جلّ وعلا عليه القرآن الكريم :(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) النجم ).

7 ـ نخلّص مما سبق الى أن وصف أبى بكر بالصاحب تعنى طُول صحبته للنبى ، ولكنها ليست دليلا على هدايته ، بل تومىء الآية الى غير ذلك . ونستفيد منها أن الله جلّ وعلا لم يُعط أبا بكر تزكية بالهداية وهو فى أواخر حياته ، لأن الآية فى سورة التوبة التى نزلت قبيل موت النبى عليه السلام ، أى كان أبو بكر   وقت نزولها فى أواخر عمره ، ثم مات بعدها بحوالى ثلاث سنوات. وفى السنتين الأخيرتين من عمره كان مسئولا عن فاجعة الفتوحات. من هنا نفهم تلك   الإشارة التى تومىء الى أنه مجرد صاحب للنبى ، ضمن صحبة النبى لمشركين غيره .

8 ـ يكفى هنا أن وصف النبى بالصاحب ربطته بالمشركين دون المؤمنين أى كان صاحبا للمشركين وليس المؤمنين :( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)الاعراف )،( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)سبأ ).(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) النجم ). كما وُصف أبو بكر بأنه صاحب النبى (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ ..(40)( التوبة ).

9 ـ أى يمكن طبقا لمصطلحات القرآن الكريم أن نقول أن أصحاب النبى  المحيطين به هم المشركون المعاندون ، أمّا المؤمنون المخلصون من عوام الناس وفقرائهم فقد كانوا عنه بعيدين . 

ثانيا : تعلّق النبى محمد بصُحبة المشركين الأغنياء دون المؤمنين الفقراء

1 ـ هنا نتدبر قوله جل وعلا : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) الكهف ). ونفهم من ظاهر الآية الكريمة ثلاث قضايا مترابطة : تحرّج النبى من المؤمنين الفقراء الى درجة طرده لهم ، وتقرّبه للمشركين الأثرياء الى درجة طاعته لهم ، وحبه لمتاع الدنيا .

2 ـ فى حُبّه لمتاع الدنيا وزينتها جاء فى الاية الكريمة الأمر له عليه السلام بأن يصبّر نفسه مع المؤمنين وألّا تنفر عيناه منهم لتنظر الى زينة الحياة الدنيا ومترفيها:( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) . وتكرر هذا النهى للنبى فى مكة بألّا يمدّ عينيه لأولئك المترفين ومتاعهم الدنيوى : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) ( طه ). وبعد هجرته للمدينة لم يفارقه شغفه بالنظر لأصحاب الثروات والاعجاب بنعيمهم وجاههم شأن معظم البشر، وكان منافقو المدينة هم الأكثر أموالا وأولادا فقال جل وعلا للنبى مرتين فى سورة التوبة : ( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)،( وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) التوبة ). وتكرار الأمر والنهى يدل على عدم طاعة النبى للأمر والنهى الأول فاستلزم تكرار الأمر والنهى .

3 ـ فى ضيق النبى من المؤمنين الفقراء الى درجة طرده لهم ، وتقرّبه للمشركين الأثرياء الى درجة طاعته لهم نلاحظ الآتى :

3 / 1 : قوة التعبير القرآنى للنبى:( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ )،أى أن يقوم النبى بإجبار نفسه على الصبر على معايشة المؤمنين الفقراء ولا تتركهم عيناه لتنظر للمترفين . هنا أمر بأن يصبر نفسه مع المؤمنين ، مع نهى عن إنبهاره بالأثرياء . ثم يأتى نهى آخر عن طاعة الكفرة المترفين المتطرفين (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) الكهف ).

3/ 2 :  قبل هذه ألاية الكريمة تعرّض النبى عليه السلام لتأنيب شديد حين أعرض وتجهّم وعبس فى وجه مؤمن ضرير أملا فى رضى شخص كافر مترف من المستكبرين ، يقول جلّ وعلا : ( عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) عبس ).

3/ 3 : إستكبار الملأ الكافر لا يتغير، فالملأ من قوم نوح وصفوا المؤمنين الذين إتّبعوا نوحا بأنهم ( الأرذلون ) وعلّلوا عدم إيمانهم بوجود هؤلاء الأرذلين مع نوح : ( قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ (111)الشعراء ) ( وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ ) (27) هود ). ولكن النبى نوحا عليه السلام رفض طرد إخوانه المؤمنين ،وقال للكفرة المستكبرين :( وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا )(29)( هود) (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)( الشعراء ). أمّا خاتم النبيين محمد عليهم السلام لم ينتظر أن يقول له الملأ القرشى هذا ، بل بادر بطرد المؤمنين تقرّبا منه لهم ، وطاعة مسبّقة منه لتوجيهات الكفرة المترفين الذين يستنكفون من الجلوس مع المؤمنين الفقراء أو النظر اليهم . فنزل نهى آخر للنبى ينهاه عن طرد المؤمنين الفقراء حتى لا يكون ظالما:( وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ (52)الانعام ). وتكرار الأمر والنهى يدل على عدم طاعة النبى للأمر والنهى الأول فاستلزم تكرار الأمر والنهى .

4 : فى طاعة النبى للمشركين نلاحظ الآتى :

4/ 1 : تكرار الأوامر للنبى تنهاه عن طاعة الكفرة من قريش ، بدءا من اوائل ما نزل فى القرآن الكريم ، ففى سورة القلم : ( فَلا تُطِعْ الْمُكَذِّبِينَ (8))،( وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10))، الى سورة الانسان:( وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) الى سورة الفرقان : ( فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ )(52 )). وتكرار الأمر والنهى يدل على عدم طاعة النبى للأمر والنهى الأول فاستلزم تكرار الأمر والنهى .

 4/ 2 : وصلت طاعته لهم الى حدّ أنهم كادوا أن يفتنوه عن الوحى لولا أن ثبّته الله جل وعلا : ( وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) الاسراء ).

4/ 3 :بعد الهجرة للمدينة وترك قريش إستمر النبى فى طاعة الملأ من أهل النفاق والكفر ممّا إستلزم أن يتكرّر له النهى مرتين فى سورة الأحزاب عن طاعة الكافرين والمنافقين :( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ )(1)،(وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ )(48) (الأحزاب).

4/ 4 : ومع إشتداد المعارضة من المنافقين ووضوح كراهيتهم للنبى والاسلام والمسلمين فقد كان النبى حريصا على صُحبتهم ، حتى إنهم عندما أقاموا مسجد الضرار وكرا للتآمر كان النبى نفسه يقيم فى هذا المسجد حرصا على صُحبة اولئك المنافقين الكبار. ومن أجلهم هجر المسجد الأول الذى تم تأسيسه على التقوى ، وكان يقيم فيه المؤمنون الفقراء الذين يحبّون أن يتطهّروا، والله جل وعلا يحب المتطهرين. قال جل وعلا :( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) قال له ربه جلّ وعلا:( لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) التوبة ).

4/ 5 : وكان المنافقون فى حضور النبى يسخرون من المؤمنين الفقراء الذين كانوا يتبرعون بما لديهم من مال للنبى :( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) التوبة ). وكان النبى لا يغضب مراعاة لخاطر المؤمنين المظلومين ، بل يستغفر للمنافقين الساخرين  ، فتوعد رب العزة أولئك المنافقين الساخرين بألّا يغفر لهم مهما إستغفر لهم النبى : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)التوبة ).

ثالثا : السبب فى تعلّق النبى محمد بصُحبة المشركين الأغنياء دون المؤمنين الفقراء:

1 ـ كان عليه السلام متأكّدا من إسلام أولئك الفقراء وإخلاصهم ، ولكن قلّة حيلتهم جعله عليه السلام أكثر خوفا عليهم وأكثر حرصا على هداية الأقوياء من الملأ ، يأمل أن يكون فى إسلامهم نُصرة للإسلام . كان هذا هو السبب فى تعلّق النبى محمد بصُحبة المشركين الأغنياء دون المؤمنين الفقراء. هذا ، مع إن ربه جل وعلا أكّد له بأن أكثر الناس لن يؤمنوا مهما بلغ حرصه على هدايتهم : ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)( يوسف )، ثم إنّ الملأ القرشى لم يكن ضالّا فقط بل إحترف إضلال الآخرين ، والذى يبلغ هذه الدرجة يستحيل أن يهتدى مهما بلغ حرص النبى على هدايته :(إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ (37)( النحل )

2 ـ ظل مستمرا حرصه عليه السلام على هدايتهم ، بل تطوّر الى درجة الالحاح أو الإكراه على دخولهم  الاسلام ما إستطاع ، فقال له ربه جلّ وعلا :( أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) ( يونس ).

3 ـ ولأنهم لم يهتدوا ، فكان يحزن حزنا شديدا يكاد يهلك به نفسه ، فقال له ربّه جل وعلا :(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6)( الكهف )، وينهاه ربه جل وعلا أن تذهب نفسه عليهم حسرات ، لأن الشيطان زيّن لهم سوء عملهم فكانوا يرونه حسنا ، ومن يبلغ هذه الدرجة من الضلال فمستحيل هدايته : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ )(8) ( فاطر ).

4 ـ الخُلاصة : إنّ صُحبته عليه السلام كانت للكبار مبتعدا عن الفقراء وعوام المؤمنين . كانت هذه عادته فى مكة ، واستمرّ بها النبى فى المدينة.

رابعا : الوضع السياسى هو الذى حتّم ذلك على النبى عليه السلام

1 ـ لقد تصرّف النبى عليه السلام بجهده البشرى وبدون ما يعرف بالمعجزات أو الآيات التى كانت للأنبياء السابقين . تعيّن عليه أن يكافح بنفسه ومعه المخلصون من المؤمنين ، هو الذى كان يخطّط ويشارك فى التنفيذ . وعندما يقع فى خطأ كان ينزل عليه الوحى بالتوجيه والنقد . واجه عليه السلام أكبر تحديات تواجه فردا من البشر ، فنجح فيها ، وأقام باسم الاسلام دولة إسلامية تحقّق أكبر قدر من اليوتوبيا التى كان ولا يزال يحلم بها الفلاسفة . حقّق هذا الإعجاز البشرى فى الصحراء العربية حيث أقام دولة ديمقراطية حقوقية تسبق عصرها ، وتسبق عصرنا فى مجال الحريات ، وفى عصر تسيّده الاستبداد والاستعباد .

2 ـ كان الاسلام جُملة إعتراضية إستثنائية فى هذا العصر بعقيدته وشريعته وبقيمه العليا من العدل والقسط والحرية المطلقة وديمقراطيته المباشرة وما فيه من رحمة وإحسان وحُقوق الانسان . كانت الثقافة السائدة فى العصور الوسطى هى الاستبداد والاستعباد والاسترقاق والفساد وحق المستبد فى قتل من يشاء ، كانت عصور الحروب الدينية ومحاكم التفتيش ، وقد كانت هكذا قرونا قبل النبى محمد ، واستمرت قرونا بعده ، وظهر الاسلام نقطة ضوء وسط هذا الرُكام من الظلمات ، فأضاءت وقت حياة النبى بتطبيق النبى ، ثم خفُت الضوء وتوارى بموته ، وإنطفأ بالفتوحات ، وإختفى تقريبا من الحياة العملية للمسلمين ، وبقى نور الاسلام محصورا فى القرآن المحفوظ رغم أنوف المسلمين .!!

3 ـ والفارق هائل بين نصوص القرآن وتطبيقها ، ووقع عبء التطبيق على خاتم النبيين ، وتلك هى سنّته الحقيقية . ومأساة التطبيق هنا أن النبى عليه السلام كان عليه أن يتعامل مع ثقافة مغايرة متحكّمة مسيطرة ، يمثلها تواتر قريش فى تحريف ملة ابراهيم وتجارتها بالدين ، طبق الشائع السائد فى العالم وقتها من الفرس والروم الى الصين والهند . والتطبيق قد يحتاج الى مرونة ومواءمة فى تعامل مع مراكز القوى . ونجح النبى عليه السلام ، وحين كان يخطىء لأنه بشر كان الوحى ينزل يصحّح وينبّه وينذر وينقد ويوبّخ .

وفى كل هذا لا ننسى أنه عليه السلام كان رجلا ينتمى لنفس القوم : (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) ( يونس )، كان رجلا منهم ولكنه خرج عن ثقافة عصره، وقام بتطبيق ثقافة مغايرة وسط مجتمع يرفضها ، فجاهد ونجح فى تأسيس دولة . ويكفى فى تقدير عظمة نجاحه عليه السلام ان نتذكر أن نفس ثقافة الاستبداد والاستعباد والفساد لا تزال سائدة فى معظم العالم اليوم ، خصوصا فى بلاد ( المسلمين ) وعلى رأسها ( محور الشّر فى العالم ) ( السعودية ).!!. لا لوم عليه ـ عليه السلام أن عادت ثقافة الاستبداد والاستعباد بعد موته بالفتوحات التى قام بها صحابة الفتوحات المنتمون للثقافة الجاهلية . فيكفيه فخرا عليه السلام أنه حقّق المستحيل ، وأثبت أنه يمكن تطبيق اليوتوبيا القرآنية حتى فى القرون الوسطى ، وفى منطقة صحراوية أبعد ما تكون عن التحضّر ، ولكنه عليه السلام أقام فيها شرع الاسلام الذى لا مثيل له فى التحضّر .. عليه سلام الله جل وعلا. ومن الظلم له عليه السلام أن نصدّق تلك السيرة التى كتبوها عنه بعد موته تصوّره فاتحا غازيا سفّاكا للدماء قاتلا للأسرى يسبى ويسلب الأموال ويأمر بإغتيال خصومه . تلك الروايات فى السيرة والأحاديث صنعها أئمة الأديان الأرضية ليصنعوا نبيا من ثقافتهم العصر أوسطية ، والذى يحب النبى محمدا عليه السلام ويواليه لا بد أن يبرئه من هذه الصورة البشعة التى كتبها ابن اسحاق والبخارى ومسلم وغيرهم .

4 ـ فى مصر وحضارتها وحين إحتكر فرعون موسى القوة والثروة أمر الله جل وعلا موسى وهارون أن يقولا له قولا ليّنا لعله يتذكّر أو يخشى ( طه 44 )، وهنا إستعمال للمواءمة السياسية مع طاغية متألّه . إختلف الوضع فى مكة التى كان فيها نوع من توازن القوى متأرجح ، فجزء من قريش آمن بالرسول ، وبنو هاشم مع محمد يدافعون عنه بحُكم العصبية الأُسرية. لذا جرى هذا الصراع فى هذه المساحة الرمادية . ومن هنا كان حرص النبى على تحييد عتاة كفار مكة ما استطاع،أملا فى هداية بعضهم وحماية للمستضعفين المؤمنين. وبالهجرة الى المدينة أصبح الوضع أكثر تعقيدا ، فالمطلوب هنا تكوين دولة الاسلام وتطبيق شريعته ، وسط ألغام  يمثّلها المنافقون ، وحيث حوصرت المدينة باليهود فترة وبالأعراب ، وبهجوم قريش ، أى كانت فى حالة طوارىء مستمرة ، ولكنها لم تستوجب مطلقا وجود أحكام عُرفية ،لأن الحرية المطلقة كانت الحل ؛ حرية الدين ، وحرية المعارضة السلمية بالقول والفعل بدون حمل سلاح . المنافقون من ناحيتهم إستغلوا الحرية الدينية وحرية المعارضة حتى سقفها الأعلى ، ولم يمنعهم من حمل السلاح إلّا خوفهم ، كانوا مُصابين من الخوف، وصف رب العزة خوفهم بصورة رائعة (فى سورة التوبة 56 :57)، ففى داخل المدينة يوجد مؤمنون مخلصون صدقوا الله جل وعلا ما عاهدوا الله عليه ، ومستعدون للفداء بالنفس ، وفارق هائل بين الفريقين ( آل عمران  151، 172 : 173 ). وجود هؤلاء المؤمنين المخلصين ( الفدائيين ) أخاف الملأ المنافقين فى المدينة ، فكانوا يُظهرون ما فى قلوبهم من غلّ بالقول والفعل ، ثم يتراجعون خوفا ، ويحلفون كذبا ليحموا أنفسهم ، أى إتخذوا أيمانهم وقاية ( المنافقون 2 ). بسبب خوفهم من الصدام مع المؤمنين المخلصين .

5 ـ بإختصار كانت هناك خطوط حمراء للجانبين إستلزمت نوعا من المواءمة ، والتعامل فى منطقة رمادية فى مجال تشابكت فيه العلاقات وتعقّدت ، وتداخلت فيه مراكز القوى وتوزّعت .

6 ـ والنبى عليه السلام كان بالمؤمنين رءوفا رحيما ، وكان رحمة للذين آمنوا ( التوبة 128 ،61 ) ، وقد خلقه الله جل وعلا لينّا وليس فظّا غليظ القلب ، فكان يعفو عمّن يسىء اليه ويستغفر للمؤمنين ( آل عمران 159 ) بل كان يستغفر أيضا للمشركين حتى عوتب من ربه فى ذلك ( التوبة 113 : 115 ). لذا كان حريصا على تجميع مراكز القوى فى المدينة حوله ليأمن شرّهم من ناحية ، وليحاول التأثير فيهم من ناحية أخرى . وفى نفس الوقت هو مطمئن لاخلاص المؤمنين من عوام الناس الذين لا يطمعون فى الظهور والرياء ومواكب الشهرة لأنّ غايتهم هى رضا الله جل وعلا ، عاشوا بهذا وماتوا على هذا فصاروا من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين رضى الله جل وعلا عنهم ورضوا عنه ( التوبة 100 ). تركوا الساحة ليملأها مريدو الدنيا الذين أرادو الاستفادة من الوضع الجديد أو تحييده لأنهم بالفعل ينتمون الى ثقافة العصور الوسطى . ثقافة السلب والنهب والسبى والقتال فى سبيل الثروة والسلطة . وبعد موت النبى عليه السلام صاروا القادة و( صحابة الفتوحات ) بينما توارى فى الظل واختفى السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار يحافظون على إيمانهم من طوفان الرجس الذى جاءت به الفتوحات ،والتى طبقت ثقافة العصور الوسطى تحت إسم الاسلام ، والاسلام منها ومن أصحابها برىء

أخيرا: المعنى المّراد ممّا سبق :

 إن المحيطين بالنبى كانوا من الأثرياء والقادة والمشاهير فى مجتمع العرب حيث القبيلة والعشيرة وشيوخها ونفوذ المجتمع الذكورى . هؤلاء الكبار هم الذين أحاطوا بالنبى عليه السلام حرصا على استمرار وضعهم ومكانتهم ، ثم تولوا السّلطة بعد موته ـ وصاروا ( صحابة الفتوحات ) الذين سار التاريخ فى ركابهم ورضى عنهم ، بينما تجاهل المؤمنين المخلصين الفقراء من العوام ، لم يرض عنهم التاريخ ، ولكن رضى الله جل وعلا عنهم ، ورضوا عنه .

المسكوت عنه من تاريخ الخلفاء الراشدين
يتناول تاريخ الخلفاء الراشدين والصحابة ودور قريش ( بنو أمية ) فى حرب الاسلام والمكر بالمسلمين الى أن دفعتهم للفتوحات باستغلال إسم الاسلام ، ثم أوقعتهم فى الفتنة الكبرى لتقفز ( قريش ) أو بنو أمية على الحكم . كما يتصمن الكتاب تحليلا للفتوحات ثم للفتنة الكبرى والاحتكام فيها الى رب العزة فى القرآن الكريم .
more