رقم ( 6 )
الباب الخامس : وسائل تطبيق الشريعة الحنبلية

 

الباب الخامس : وسائل تطبيق الشريعة الحنبلية                                                                                                                                     

الفصل الأول : إفتراء حديث ( من رأى منكم منكرا فليغيره )  

مقالات متعلقة :

أولا : الجذور التاريخية لحديث ( من رأى منكم منكرا فليغيره )

1 ـ تحدثنا سابقا عن موقعة دير الجماجم عام 83 ، حين إستدار جيش الحجاج ليحارب الحجاج ، وذلك بتأثير الفقهاء الثوار على قائد جيش الحجاج وهو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث . يهمنا فى هذه المعركة أن احد زعماء الفقهاء وهو عبد الرحمن ابن ابي ليلى المعروف بتشيعة خطب فى الجيش يحرّض على قتال الحجاج قائلا :  ( يا معشر القراء ، ان الفرار ليس بأحد من الناس اقبح منه بكم ،اني سمعت عليا ابن ابي طالب يقول يوم لقينا اهل الشام في صفين :انه من رأي عدوانا يُعمل به ومنكرا يُدعي اليه فانكره بقلبه فقد سلم وبرىء، ومن انكره بلسانه فقد نال اجره وهو افضل من صاحبه ،ومن انكره بالسيف فذلك الذي اصاب سبيل الهدي ) .وهذا القول الذي نسبه الفقيه الثائر ابن ابي ليلة لعلي هو الأصل الذي نبع منه فيما بعد حديث ( من رأي منكم منكرا فليغيره بيده ،فان لم يستطع ،فبلسانه ،فان لم يستطع فبقلبه ،وهذا اضعف الايمان ) ، وقد نسبه الحنابلة في العصر العباسي الثانى للنبي ، بعد ان صاغه الفقيه الثائر ابن ابي ليلة في موقعة دير الجماجم سنة 83 هـ ونسبه في صيغته الاولي لعلي ابن ابي طالب . ولو كان للنبي حديث يقول (من رأي منكم منكرا) لاستشهد به علي ابن ابي طالب . هذا علي فرض ان عليا  قال فعلا يوم صفين ذلك الحديث الذي رواه عنه الفقيه الثائر ابن ابي ليلة. بل ان البحث في الاقوال المنسوبة الي (علي ) يؤكد انه لم يقل هذ الكلام ، فلم يرد في اقواله التي جمعها الشيعة أوالتي نسبها اليه السنة او ما قيل اثناء موقعة صفين ،بل ان صياغة ذلك القول المنسوب ضمن اقوال اخري نسبها الفقيه الثائر لعلي ابن ابي طالب تنطبق علي مظالم الحجاج ، وتدل علي ان الفقيه الثائر هو الذي اخترع هذا الكلام ونسبه الي علي ليحمّس الثوار .

2 ـ ثم تمّ فى عصر المتوكل العباسى إختراع حديث ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك اضعف الايمان ) ، وقد إستلهم واضع الحديث ذلك القول الذى نسبه الفقيه الثائر ابن أبى ليلى فى التحريض ضد الحجاج فى موقعة دير الجماجم .

ثانيا : ظروف إختراع حديث ( من رأى منكم منكرا فليغيره )

1 ـ تعرضنا فيما سبق للخليفة المتوكل العباسى كأول خليفة حنبلى . وأنه هو الذى نشر الحنبلية بين العوام ضمن حملاته ضد المعتزلة والشيعة وأهل الكتاب ، بما ترتب عليه دخول الكثيرين من أهل الكتاب الى الاسلام خوفا ، وهم طبعا لم يعرفوا عن الاسلام إلا تلك الصورة الحنبلية . لقد أرسل هذا الخليفة أعيان أهل الحديث لنشر ما أسماه بالسُّنة فى الآفاق . وقلنا أن (أهل الحديث ) هم (الحنابلة ) سواء من كان منهم إستاذا وشيخا لابن حنبل أو جاء بعده . فنحن هنا نتحدث عن ( حركة دينية ايدلوجية سياسية ) لها قادة يصنعون لها الأحاديث ، ولها مئات الألوف من الناشطين وأضعاف عددهم من المناصرين من العوام الذين سيطروا على الشارع العباسى متشجعين بأساطير الشفاعة وبحديث ( من رأى منكم منكرا فليغيره ) .

2 ـ يقول ابن الجوزى فى المنتظم فى احداث عام 234 : ( وفي هذه السنة‏ أظهر المتوكل السنة ونشر الحديث ..وفيها‏:‏ أشخص المتوكل الفقهاء والمحدثين. وكان فيهم مصعب الزبيري وإسحاق بن أبي إسرائيل وإبراهيم بن عبد الله الهروي وعبد الله وعثمان ابنا محمد بن أبي شيبة وكانا من حفاظ الناس ، فقسمت بينهم الجوائز وأجريت عليهم الأرزاق، وأمرهم المتوكل أن يجلسوا للناس،وأن يحدثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة والجهمية وأن يحدثوا بالأحاديث في الرؤية ، ( أى رؤية الله فى يوم القيامة خلافا لرأى المعتزلة ) . وجلس أبو بكر بن أبي شيبة فى مجلس الرصافة فاجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفا .)  ‏.‏ وجلس أبو بكر بن أبي شيبة فى مجلس الرصافة فاجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفا .) ويقول ابن الجوزى أيضا : وجلس أبو بكر بن أبي شيبة فى مجلس الرصافة فاجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفا .) . نرى هنا قادة أهل الحديث المتخصصين فى صناعة وترويج الأحاديث وقد بعثهم المتوكل فى مهمة رسمية  الى الآفاق يعقدون مؤتمرات جماهيرية يحضرها العوام ينقلون ويكتبون ما يملونه عليهم هؤلاء من أحاديث صنعوها . ومن الطبيعى أن يصنعوا أحاديث تصب فى مصلحتهم السياسية وتُتيح لهم السيطرة على الشارع والتحكم فيه باعتبارهم ( الميليشيات ) التى تعمل لصالح الخليفة المتوكل ومن جاء بعده ، خصوصا وأن تعصب الخليفة المتوكل ضد العرب والفرس جعله محتاجا الى ظهير شعبى ، فجرى تحويل العوام الى أهل الحديث ليكونوا هذا الظهير الشعبى لصالح الخلافة العباسية . وبهذا تحوّل الكهنوت السّنى السابق من مجرد مطية يركبها الخليفة العباسى الى مشارك فى الحكم جزئيا بسيطرة الحنابلة على الشارع ، وكان لا بد من صبغ هذا بصبغة دينية فتم إختراع وترويج حديث ( من رأى منكم منكرا فليغيره ) ليتيح لكل حنبلى صاحب نفوذ أن ( يغيّر ) كل ما يعتبره ( منكرا ) من وجهة نظره ، وأن يتم هذا التغيير بكل وسيلة مُتاحة بالسيف واليد ، وباللسان وبالقلب والوجدان ، حتى يضم الجميع للمشاركة فى التغيير والتعاون على الإثم والعدوان .

3 ـ ويقول ابن الجوزى فى الخبر السابق ( .. وجلس أبو بكر بن أبي شيبة فى مجلس الرصافة فاجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفا .) وجلس أيضا أخوه عثمان (وجلس أبو بكر بن أبي شيبة فى مجلس الرصافة فاجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفا .) .ويقول أيضا : (وجلس أبو بكر بن أبي شيبة فى مجلس الرصافة فاجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفا .). أى كان أبو بكر بن أبى شيبة من أعيان المبعوثين رسميا لنشر الأحاديث ، وحين يفترى أبن أبى شيبة حديثا لا يسأله أحد برهانا عن إسناد الحديث أو عن مضمون الحديث ، فالعادة هى التلقين والسّماع والتهليل والتكبير والتسجيل والتدوين والحفظ كالببغاوات ، لأن من يسمعونه هو ( دين ) على حدّ قول ( مسلم ) فى مقدمة ( صحيح مسلم ) . وبالتالى فأولئك الناس هم أصحاب هذا الدين وهم صانعوه وهم واضعوه . وهم يصنعونه بما يحقق مصلحتهم ومصلحة من يتعاون معهم ويتحالف معهم .

4 ـ لذا ليس مفاجأة أن يكون أبو بكر بن أبى شيبة هم الراوى الأصلى لحديث ( من رأى منكم منكرا فليغيره ..) حسبما جاء فى صحيح مسلم . وحتى لا يصل التغيير الى المساس بالخلافة ويظل محصورا فى الشارع فإن ( مسلم ) وغيره يروون أحاديث تحثُّ علي طاعة ولي الامر مهما كانوا يفعلون طالما يقيمون الصلاة .

ثالثا رؤية نقدية فى رواية حديث ( من رأى منكم منكرا فليغيره )  

1 ـ روي ( مسلم) هذا الحديث عن شيخه أبى بكر ابن ابي شيبة بهذا النص :(حدثنا ابو بكر ابن ابي شيبة حدثنا وكيع عن سفيان ،حدثنا محمد بن المثني حدثنا محمد بن جعفر حدثنا عن شعبة ،كلاهما عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال :اول من بدأ الخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان فقام اليه رجل فقال الصلاة قبل الخطبة فقال :قد ترك ماهنالك، فقال ابوسعيد :اما هذا فقد قضي ما عليه ،سمعت رسول الله -ص- يقول من رأي منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الايمان .) ومتن الحديث يحكي قصة اعتراض علي مروان ابن الحكم حين بدأ الخطبة قبل صلاة العيد ، وقد احتج عليه رجل لأنّه غيّر في طريقة الصلاة للعيد ورد عليه ابو سعيد الخدري بحديث (من رأي منكم منكرا) .

2 ـ ( الامام مسلم ) هو ابو الحسين مسلم بن الحجاج  بن ورد بن كوشاذ القشيري النيسابوري (جده الأكبر فارسى وهو ( ورد بن كوشاذ ) ولكن له ولاء لقبيلة (قشير ) على عادة الموالى فى العصر العباسى ، وهو من نيسابور.  ( مولود عام 206 وتوفى عام261 ). أى كالعادة فمعظم أهل الحديث من الفُرس ، ولكن لهم (ولاء ) بإحدى القبائل العربية يسرى هذا على (إبن بردزويه ) البخارى المولود فى بخارى عام 194 وهو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن برزويه الجعفي . أسلم جده ( بردزويه ) على يد اليمان الجعفى فاكتسب ولاءه منه على العادة وقتئذ . فأصبح ( جعفى الولاء ) .

3 ـ يروى مسلم ( المولود عام 206 )هذا الحديث عن الراوى الأصلى وهو (أبو بكر بن شيبة ) . وقد توفي أبو بكر بن أبي شيبة يوم الخميس 8 محرم عام 235 . أى حين مات أبو بكر بن أبى شيبة كان ( مسلم ) فى التسعة والعشرين من عمره يسمع ويروى عن شيخه أبى بكر بن أبى شيبة .  وهذا معقول ومقبول. ولكن إستسهال الكذب يجعل ( مسلم ) يضيف إثنين من الرواة يزعم أنهما حدثاه بنفس الحديث ، وهما ( وكيع ) و( محمد بن جعفر ). وليس هذا معقولا ولا مقبولا ، لأن ( وكيع ) مات عام 197 ، أى مات قبل ولادة (مسلم ) بتسع سنوات، بينما مات (محمد بن جعفر)عام 193، قبل ولادة (مسلم ) بثلاثة عشر عاما.!

4 ـ لا ننتظر من عوام الحنابلة نقد السّند والعنعنة لحديث ( من رأى منكم ) فيكفى أنه يخاطب كل فرد من العوام خطابا مباشرا ويكلفه رسميا وشرعيا بالاستطالة على الناس والتخكم فى حياتهم ، أى يعطيه نفوذا شرعيا ، بينما تعطيه أساطير الشفاعة حصانة من النار وتمتعا بالجنة مهما إقترف من فواحش ومظالم . أى إن هذا الحديث قد تمت صياغته بمهارة لتجييش وتجنيد وتحفيز العوام والرعاع لإزالة ما يعتبرونه منكرا. وهذا ما فعلوه مع فى ضريح الحسين في كربلاء في العراق في خلافة المتوكل علي الله ،وظلوا بعد عهد المتوكل وحتي القرن السادس يسيطرون علي الشارع بهذا الحديث، يتدخلون في كل شئ يقدرون عليه كأنما  اختارهم الرحمن اوصياء علي الاخرين.

5 ـ ومن هنا ارتبط ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) فى أذهان المحمديين باستطالة بعض القائمين بهذه الوظيفة على الناس ، وتدخلهم فى حرية الناس الدينية والشخصية فى تناقض مع دين الله جل وعلا . وليس هذا هو التناقض الوحيد ،بل هناك تناقض آخر مضحك ، فأحيانا يطلقون على هذه الوظيفة ( حسبة ) يقوم بها ( محتسب )، وحينا يقال عنهم ( مطوعة ) من التطوّع ، مع إنها ليست من التطوع والاحتساب فى شىء ، لأنها وظيفة سلطوية بأجر فى النظم التى تطبقها . بل تنفرد هذه الوظيفة بأنها تشمل سلطة الشرطة فى التحرى والاعتقال ، وسلطة القاضى فى إصدار العقوبة ، وسلطة الجلّاد فى تنفيذ الحكم . وكان تلك سلطة (المحتسب) فى العصر المملوكى ، وأعادها الوهابيون السعوديون فى عصرنا.

رابعا : رؤية نقدية قرآنية لحديث ( من رأى منكم منكرا فليغيره )

ونعطى لمحة سريعة عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى الاسلام.

1 ـ وعجيب أن يتم هذا باسم الاسلام وهو دين الحرية المطلقة فى الدين عقيدة وعبادة ودعوة . ولكن من بدّلوا دين الله إستغلوا لفظ ( الأمر ) وأخذوه على أنه سلطة أمر ونهى واستعلاء واستطالة على الناس . ونسوا أن ( الأمر ) الالهى نوعان : أمر الاهى حتمى لا مردّ له ، وهو الأمر بالخلق ، لإنه إذا أراد الله جل وعلا شيئا قال له كن فيكون ، وهذا لا شأن لنا به ،بل هو يسرى علينا فى الحتميات من ميلاد وموت ورزق ومصائب . ثم هناك أمر الاهى بالتشريع ، وليس فيه إلزام الاهى للبشر ، بل هو إختبار لهم ، إن أطاعوه والتزموا به دخلوا الجنة وإن عصوه وأنكروه دخلوا النار . ويدخل ضمن الأوامر التشريعية كل العقائد والعبادات والحلال والحرام فى الاسلام ، كما يدخل فيها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الذى يتناوله ويتداوله الناس فيما بينهم.

2 ـ إن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أصيل فى دين الله جل وعلا قبل نزول القرآن : فالمؤمنون من أهل الكتاب جاء فى وصفهم :(يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ )(آل عمران 114  ). والعصاة من أهل الكتاب هم من فرّط فى تحقيق هذه الفضيلة بسبب فساد قياداتهم الدينية : (وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ )(المائدة 62:63).وقبل نزول القرآن تحدث رب العزة لموسى عن الرسالة الخاتمة ورسولها وأتباعه فقال:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ ..)  ( الاعراف 157).وقصّ رب العزة مصير الذين اعتدوا فى السبت ، وكيف نجا الذين نهوا عن المنكر فقط بينما عوقب العصاة والساكتون عن وعظهم : (  وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًاشَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ) ( الاعراف 163 : 165 ).

3 ـ ثم حذّر رب العزة الصحابة فى بداية إقامتهم فى المدينة من هذا المصير من السلبية وترك فضيلة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فقال لهم : (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )(الأنفال 25).وأكّد رب العزة صفات المفلحين المؤمنين المبشرين بالجنة:( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ )(التوبة 112 )،أى من صفاتهم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ضمن فضائل أخرى . ولهذا فليست  الأفضلية للمؤمنين مطلقة ، بل هى مرتبطة بفضيلة الايمان والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر:( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) ( آل عمران 110).

4ـ ولكن تحديد المعروف يأتى مرتبطا بالعدل والاحسان وإقامة الصلاة ، كما يأتى المنكر مرتبطا بالبغى والظلم والفحشاء ووحى الشيطان . يقول جل وعلا فى إيجاز (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(النحل 90 ) . فالأمر بالمعروف يعنى المتعارف عليه من العدل والاحسان ، والمنكر المنهى عنه هو المتعارف على إنكاره مثل البغى والظلم والفواحش.والعدل هو المعاملة بالمثل : (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) ، أما الاحسان فهو فوق العدل، أى الصفح والغفران والعطاء : ( فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ) َ، والله جل وعلا يأمر بالعدل والاحسان :(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ )( الشورى 40).  والمعروف مرتبط بإقامة الصلاة:(يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ)( لقمان 17 ). وإقامة الصلاة لا يعنى مجرد تأدية الصلوات الخمس ، بل الخشوع أثناء الصلاة والمحافظة عليها بين أوقات تأديتها بالابتعاد عن المعاصى والتمسك بحسن الخلق، ولهذا فليس كل المؤمنين مفلحين ، فالمفلحون من المؤمنين هم من جاء وصفهم بالمحافظة على الصلاة والخشوع فيها فى قوله جل وعلا : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (المؤمنون 1 ـ 11 ) . وكما إن إقامة الصلاة تجعل المؤمن ملتزما بالمعروف ، فهى أيضا تنهاه عن المنكر:( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ) ( العنكبوت 45 ). وكذلك إيتاء الزكاة ، فليست مجرد إعطاء الصدقة ولكن تزكية النفس ورقيها بالقيم العليا والأخلاق الحميدة .

والمنكر يأتى مرتبطا بالشيطان ، ووحيه وأحاديثه ، ومن يتبعها  فهو متبع للفحشاء والمنكر ، مدمنا للظلم والفساد والاستبداد والاستعباد و البغى والعدوان ، يقول جل وعلا يعظ المؤمنين حتى يتزكّوا بالقيم الاسلامية العليا من العدل والاحسان والعطاء : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ  ) ( النور 21 ). لذا كان قوم لوط من ضحايا الشيطان حين أدمنوا الشذوذ الجنسى ، فقال لهم لوط عليه السلام : ( أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ )(العنكبوت 29) .

5 ـ ـ تطبيق فضيلة الأمر بالمعروف له ضوابطه ، وهى  : التمكين والسيطرة حتى لا يقع المؤمنون دعاة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ضحية الاضطهاد : (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ )( الحج 41). وعدم الاكراه فى الدين ، فلا يعنى التمكين الارغام والفرض والاكراه فى الدين ، بمعنى إن الذى يصمم على المنكر نتركه ولا نرغمه لأن لله جل وعلا عاقبة الأمور ، واليه جلّ وعلا مرجعنا يوم القيامة ـ فعلينا التمسك بالهداية والانتظار الى أن يحكم علينا جميعا ربنا يوم القيامة فيخبرنا بمن هو على الصواب ومن هو على الضلال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )( المائدة 105).هذا ينفى إزالة للمنكر باليد بل هو مجرد نصح بالقول فقط ، فاذا اصر الشخص علي رأيه فهذا شأنه طالما ان الضرر لا يمتد الي الغير ، فان امتد ضرره الي الغير اصبح جانيا مستحقا للعقوبة المناسبة لذلك الجرم ، وخرج الامر من دائرة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الي دائرة العقوبات المستحقة علي جريمة ارتكبها مجرم ،والعقوبات المنصوص عليها في الاسلام تخص السرقة ،وقطع الطريق ،والقتل ،والزنا ،وسب النساء العفيفات.

6 ـ والسّنة القرآنية التى طبّقها خاتم النبيين تؤكّد هذا.قال له ربه جل وعلا عن اصحابه المؤمنين ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) ، أي كن لينا مع اصحابك وهينا ، فماذا يحدث اذا عصاه اتباعه المؤمنون ؟.هل يضربهم ؟هل يحكم بكفرهم ؟ نقول الاية التالية (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ) ( الشعراء 215:216 ). أي فان عصوه فليس عليه إلا ان يتبرأمن عملهم المنكر.  لم يقل فان عصوك وفعلوا منكرا فعاقبهم وقم بتغيير المنكر بيدك أو بعصاك الكهربائية . بل حتي لم يقل له فان عصوك فتبرأ منهم ، ولكن تبرأ فقط من عملهم المنكر ،وليس منهم ،أى فالتطبيق للامر بالمعروف والنهي عن المنكر هو بالنصيحة القولية فان لم تنفع فالاعراض عن العاصي المؤمن والتبرؤمن عمله فقط ، وليس منه شخصيا.

7 ـ : إن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس وظيفة رسمية او شعبية لطائفة معينة تحتكر لنفسها دون الاخرين رسميا او شعبيا الامر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولكن المجتمع كله يتواصى بالحق ويتواصى بالحق وبالصبر طبقا لما جاء في سورة العصر التي تصف في ايجاز ملامح المجتمع المسلم (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) . ولذلك فان الله تعالي يهيب بالامة المسلمة كلها ان تأخذ نفسها بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول تعالي (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ  ) (آل عمران 104 ).والخطاب السابق لهذه الاية والخطاب التالي بعدها جاء عاما للأمة كلها وليس قصرا علي طائفة من الامة دون الاخرين. ولنقرأ السياق  الذى جاءت فيه تلك الآية الكريمة لنتأكّد من عمومية الأمر لكل أفراد المجتمع : يقول جل وعلا يخاطب عموم المؤمنين : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).والآية الأخيرة هنا تشير الى بنى إسرائيل في بعض عصورهم حين كانوا أمة لا تنهي عن المنكر وتستحق اللعنة علي لسان داود وعيسي ابن مريم : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوايَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )(المائدة 78 :79 ) لذا جاء وعظ المؤمنين فى القرآن بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يشير الى تجربة أهل الكتاب الذين تنكب بعضهم فى تطبيق هذه الفضيلة، يقول جل وعلا :(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) .وكل البشر يقعون فى الخطأ ، فليس منتظرا ان يحترف بعضهم النصيحة للباقين ويستنكف ان ينصحه احد ،والا كان ممن ينطبق عليه قوله تعالي لبنى اسرائيل :( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)( البقرة 44). وقالها جل وعلا أيضا للمؤمنين يحذرهم من الاكتفاء بالقول دون عمل للصالحات : (  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) ( الصّف  2 : 3).

النهاية

1 ـ ولنتذكر أنّ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى الاسلام أمر قولي ونهى قولى باللسان فقط ،فاذا اصر الشخص علي رأيه فهذا شأنه طالما ان الضرر لا يمتد الي الغير ،فان امتد ضرره الي الغير اصبح جانيا مستحقا للعقوبة المناسبة لذلك الجرم وخرج الامر من دائرة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الي دائرة العقوبات المستحقة علي جريمة ارتكبها مجرم ، والعقوبات المنصوص عليها في الاسلام تخص السرقة ،وقطع الطريق ،والقتل ،والزنا ، وسب النساء العفيفات . ويتم تطبيقها على من لم يتُب .

2 ـ وأنّه قد حدث تحوير واضافة الي هذه العقوبات عندما تدخلت السياسة وقام علي اساسها انواع مختلفة من الأديان أرضية بالتزوير والتلفيق والكذب على رب العزّة جل وعلا. ونفس الحال حدث مع قضية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد كان أمرا ونهيا باللسان ثم اعراض عمن لم يلتزم تطبيقا لقوله تعالي (يا ايها الذين آمنوا عليكم انفسكم لا يضركم من ضل اذا اهتديتم ،الي الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون :المائدة 105)ثم تحول الى سلطة تتسلط على الناس وتتدخل فى حرياتهم ، بل وتقيم ثورات باسم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وتحول الي دين بشري توضع له الاحاديث والفتاوي.

3 ـ وأن الحنابلة هم الذين أشاعوا وطبّقوا هذا الافك جنبا الى جنب مع إفك أساطير الشفاعة ليستعلوا على الناس بالإثم والعدوان والبهتان. ولا يزال حديث ( من رأى منكم منكرا ) دستور الارهاب والتطرف حتى الآن ، كما لا تزال أحاديث الشفاعة اساس الدين الأرضى السائد ، بل إن حديث ( من رأى منكم منكرا ) لا يزال يرصّع مادة التربية الدينية فى التعليم المصرى ، ولا يزال مع أساطير الشفاعة جوهر الاعتقاد لدى شيوخ الأزهر الشريف جدا جدا جدا ..

 الفصل الثانى :المنامات                                                                                                            

 استخدم الحنابلة بعد موت ابن حنبل وسيلتهم المحببة وهى المنامات وكانت مجالس القصص والسّماع هى مؤسسات نشر المنامات والمعاهد التى يتخرج فيها العوام والرعاع ليكونوا أكثر جهلا وتعصبا . ونعطى أمثلة عن أغراض صناعة  المنامات من خلال تاريخ المنتظم لابن الجوزى :

أولا : المنامات لتزكية الحنابلة وتبشيرهم بالجنة وتحقير خصومهم 

1 ـ تزكية النفس والغير بدخول الجنة ( قال أبو بكر بن الخاضبة‏:‏ رأيت فـي المنـام كـأن القيامـة قـد قامـت ومنـاد ينـادي‏:‏ ايـن ابـن الخاضبة؟ فقيل لي‏:‏ ادخل الجنـة . فدخلـت فاستلقيـت ، فرفعـت رأسـي، فرأيـت بغلـة مسروجـة ملجومة في يد غلام فقلت‏:‏ لمن هذه؟ فقيل‏:‏ للشريف أبي الحسيـن بـن الغريـق‏.).

2 ـ الحصول على المشيخة بالمنام : جاء فى ترجمة أبى إسحـاق الشيـرازي ت 476‏:‏ أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له‏:‏ ياشيخ . فكان يفتخر بهذا ويقول‏:‏ سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم شيخًا‏.)

3 ـ الرياء ومزاعم الصلاح يعقبها منام يزعم دخول الجنة :( عبيد الله بن محمد بن نافع بن مكرم أبو العباس البستي الزاهد ت 384 .( وكان كثير التعبد بقي سبعين سنة لا يستند إلى حائط ولا إلى غيره ولا يتكئ على وسادة وحج من نيسابور حافيًا راجلًا دخل الشام والرملة وأقام ببيت المقدس أشهرًا ثم خرج إلى مصر وبلاد المغرب ثم حج من المغرب وانصرف إلى بست فتصدق ببقية أملاكه. ) هذه كلها مزاعم زعمها هذا الحنبلى المغربى فى بعداد عن نفسه .وطوفىء على هذا الراء بمنام : ( فلما مات رأى رجل في المنام رجلًا من الموتى فقال له‏:‏ من بالباب فقال‏:‏ ليس على الباب أجل من عبيد الله الزاهد . ورأت امرأة من الزاهدات أمها في المنام قد تزينت ولبست أحسن الثياب فقالت لها: ما السبب في هذا ؟ فقالت‏:‏ لنا عيد . إن عبيد الله الزاهد قدم علينا‏.)

4 ـ إعلان بالغفران وسببه : ( محمد بن علي بن محمد بن عبيد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله أبو الحسين ابن الغريق ت 465    رؤي في المنام فقال‏:‏ غُفر لي بطول تهجدي‏.)

5 ـ هو وأبوه فى الجنة : ابن السوسنجردي ت 402 .  ( وكان ثقة دينًا حسن الاعتقاد شديدًا في السنة واجتاز يومًا في الكرخ فسمع سب بعض الصحابة فجعل على نفسه أن لا يمشي في الكرخ.! ) كوفىء على كراهيته للشيعة بهذا المنام : ( أخبرنا عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أحمد بن علي قال‏:‏ حدثني علي بن الحسين العكبري قال‏:‏ سمعت عبد القادر بن محمد بن يوسف يقول‏:‏ رأيت أبا الحسن الحمامي المقرئ في المنام فقلت‏:‏ ما فعل الله بك قال‏:‏ أنا في الجنة قلت‏:‏ وأبي قال‏:‏ وأبوك معنا فقلت‏:‏ وجدّنا ؟ يعني أبا الحسين السوسنجردي فقال‏:‏ في الحظيرة قلت‏:‏ حظيرة القدس قال‏:‏ نعم. أو كما قال‏.) نلاحظ هنا أن ابن الجوزى تعامل مع المنام بالتقديس مثل تعاملهم مع ( الحديث النبوى) بزعمهم ، فيقول: ( أو كما قال . )

6 ـ فى الفردوس الأعلى ( أخبرنا عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أحمد بن علي قال‏:‏ حدثني علي بن الحسين ابن جداء العكبري قال‏:‏ سمعت عرس الخباز يقول‏:‏ لما دفن عثمان الباقلاوي رأيت في المنام بعض من هو مدفون في جوار قبره فقلت‏:‏ كيف فرحكم بجوارعثمان فقال‏:‏ وإن عثمان لما جيء به سمعنا قائلًا يقول‏:‏ الفردوس الأعلى. أو كما قال‏.)

‏7 ـ حوار صحفى مع منكر ونكير فى القبر فى تقديس أبى بكر وعمر ورفعهما فوق منزلة اله الحنابلة الذى صنعوه من خيالاتهم الشيطانية  : ( نبأنا محمد بن أبي طاهر البزاز عن أبي طالب العشاري أخبرنا هبة الله المقرئ أخبرنا هبة الله بن سلامة المفسر قال‏:‏ كان لنا شيخ نقرأ عليه في باب محول فمات بعض أصحابه. فرآه الشيخ في النوم فقال‏:‏ ما فعل الله بك قال‏:‏ غفر لي قال‏:‏ فما حالك مع منكر ونكير قال‏:‏ يا أستاذ لما أجلساني وقالا من ربك من نبيك؟ ألهمني الله عز وجل أن قلت لهما بحق أبي بكر وعمر دعاني . فقال‏‏ أحدهما للآخر : قد أقسم علينا بعظيم دعه فتركاني وانصرفا‏.). هنا منام حقير يجعل إله الحنابلة ـ ولا نقول رب العزة تعالى عن ذلك علوا كبيرا ـ  يتدخل ليلقّن ( أو يغشّش ) رجلا مجهولا فى اسطورة منكر ونكير فيقسم عليهما بحق أبى بكر وعمر ، فيتركاه !.

8 ـ التأكيد على أن الجنة لأهل السُّنة : (حدثني علي بن الحسين بن جداء العكبري قال‏:‏ رأيت أبا القاسم الطبري في المنام فقلت له‏:‏ ما فعل الله بك قال‏:‏ غفر لي قلت‏:‏ بماذا فكأنه قال كلمة خفية بالسنة‏.)

( ‏الحسيـن بـن أبـي زيـد أبو علي الدباغ،ت 454 وأصله من الصّغد‏.قال : ‏ رأيـت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت‏:‏ يا رسول الله ادع الله أن يحييني على الإسلام فقال‏:‏ إيه والسنة وجمع إبهامه وسبابته وحلق حلقه وقال ثلاث مرات‏:‏ والسنة والسنة والسنة‏"‏‏.)

9 ـ رسالة منامية للشيخ ابن شاذان الهدف منها الحث غلى قراءة الحديث : ( أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال‏:‏ حدثني محمد بن يحيى الكرماني قال‏:‏ كنـا يومـًا بحضـرة أبـي علـي بـن شـاذان فدخـل علينـا شـاب لا يعرفه منا أحد فسلم وقال‏:‏ أيكم أبو علي بن شاذان فأشرنا إليه فقال له‏:‏ أيها الشيخ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي‏:‏ سل عن أبي علي بن شاذان فإذا لقيته فأقرئه السلام. ثم انصـرف الشـاب فبكـى أبـو علـي وقـال‏:‏ مـا أعـرف لي عملًا أستحق به هذا اللهم إلا أن يكون صبري على قراءة الحديث علي وتكرير الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما جاء ذكره . قال‏:‏ ولم يلبث أبو علي بعد ذلك إلا شهرين أو ثلاثة حتى مات‏.)

ثانيا :  تطبيق المنامات : تأسيسا على الايمان بأكاذيب المنامات تم تطبيقها فى نواح شتى . منها :

1 ـ  إعلان الاسلام بالمنامات : أعلن الكاتب المؤرخ هلال بن إبراهيم بن هلال أبو الحسين الكاتب الصابي إسلامه عن طريق منام ( درامى أشبه بأفلام الفنتازيا )، وقد زعمه كى يقيم لنفسه حفل تكريم وفق دين عصره الذى يؤمن بأكاذيب المنامات.يقول عنه بن الجوزى:(كان أبوه المحسن صابئًا (أى من الصابئة ) فأما هو فأسلم متأخرًا ، وكان قد سمع من العلماء في حال كفره لأنه كان يطلب الأدب.)وينقل عنه سبب اسلامه، وهى دراما مثيرة.! : ( قال هلال بن المحسن‏:‏ رأيت في المنام سنة تسع وتسعين وثلثمائة رسول الله صلى الله وعليه وسلـم قد وافى إلى موضع منامي، والزمان شتاء والبرد شديد والماء جامد ، فأقامني ، فارتعدت حين رأيته فقال‏:‏‏‏" لا ترع فأني رسول الله .! " وحملني إلى بالوعة في الدار عليها دورق خزف ، وقال‏:‏ تؤضأ وضوء الصلاة‏. فأدخلت يدي في الدورق فإذا الماء جامد فكسرته، وتناولت من المـاء مـا أمررتـه علـى وجهـي وذراعـي وقدمي.  ووقف في صفّه ، وصلى وجذبني إلى جانبه . وقرأ الحمد وإذا جاء نصر الله والفتح ، وركع وسجد وأنا أفعل مثل فعلـه . وقـام ثانيـًا وقـرأ الحمـد وسورة لم أعرفها ، ثم سلّم ، وأقبل علي وقال‏:‏ "انت رجل عاقل محصل ، والله يريد بك خيرًا. فلم تـدع الإسلام الـذي قامـت عليـه الدلائل والبراهين وتقيم على ما أنت عليه؟ هات يدك وصافحني " فأعطيته يدي فقال‏:‏ "قل: أسلمت وجهي لله وأشهد أن الله الواحد الصمد الذي لم يكن له صاحبة ولا ولد وأنك يا محمد رسوله إلى عبادة بالبينات والهدى‏." فقلت ذاك ، ونهض ونهضـت . فرأيـت نفسـي قائمـًا فـي الصفـة . فصحت صياح الانزعاج والارتياع ، فانتبه أهلي وجاءوا . وسمـع أبـي فقـال‏:‏‏"‏ مالكـم ؟" فصحـت بـه ، فجـاءوا ، وأوقدنـا المصبـاح ، وقصصـت عليهـم قصتـي ، فوجمـوا إلا أبـي فإنـه تبسـم ، وقـال‏:‏" ارجـع إلى فراشك فالحديث يكون عند الصباح . "وتأملنا الدورق فإذا الجمد الذي فيه متشعث بالكسر. وتقدم والدي إلى الجماعة بكتمان ما جرى،وقال‏:‏ "يا بني هذا منام صحيح وبشرى محمودة، إلا أن إظهار هذا الأمر فجأة والانتقال من شريعة إلى شريعة يحتاج إلى مقدمة وأهبة . ولكن اعتقد ما وُصّيت به ، فأنني معتقد مثله ، وتصرف في صلاتك ودعائك على أحكامه." ثم شاع الحديث . ومضت مدة ، فرأيت رسول الله صلـى اللـه وعليـه وسلـم ثانيًا على دجلة في مشرعة باب البستان ،وقد تقدمت إليه ، وقبّلت يده، فقال‏:‏ " ما فعلت شيئًا مما وافقتني عليه وقررته معي .! "فقال‏:‏" لا وأظن أنه قد بقيت في نفسك شبهـة. تعـال‏.". وحملنـي إلـى بـاب المسجـد الذي في المشرعة ، وعليه رجل خراساني نائم على قفاه ، وجوفه كالغرارة المحشوة من الاستسقاء ، ويداه وقدماه منتفختان ، فأمرّ يده على بطنه، وقرأ عليه، فقام الرجل صحيحًا معافى . صلى الله عليك يا رسول الله فما أحسن تصديق أمرك وأعجز فعلك . وانتبهت . فلمـا كـان فـي سنـة ثلاث وأربعمائـة،رأيـت فـي بعـض الليالي كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم راكبًا على باب خيمة كنت فيها ، فانحنى على سرجه حتى أراني وجهه ، فقمت إليه ، وقبّلت ركابه، ونزل، فطرحت له مخدة ، وجلس، وقال‏:‏ "يا هذا؛ كم آمرك بما أريد فيه الخير لك، وأنت تتوقف عنه‏."!. قلت‏:‏ " يا مولاي أما أنا متصرف عليه" قال‏:‏ "بلى ،ولكن لا يغني الباطن الجميل مع الظاهر القبيح ،وأن تراعي أمرًا فمراعاتك الله أولى. قم الآن وافعل ما يجب ولا تخالـف." قلت‏:‏ " لك السمع والطاعة‏.". فانتبهت ودخلت إلى الحمام ،ومضيت إلى المشهد ، وصليت فيه وزال عنـي الشـك ، فبعـث إلـيّ فخـر الملـك فقـال‏:‏ "مـا الذي بلغني؟ " فقلت‏:‏ " هذا أمر كنت أعتقده وأكتمه حتى رأيت البارحة في النوم كذا وكذا‏." .فقال‏:‏" قد كان أصحابنا يحدثون أنك كنت تصلي بصلاتنا وتدعو بدعائنا ." وحمل إلي دست ثياب ومائتي دينار ، فرددتها ، وقلت‏:‏ " ما أحب أن أخلط بفعلي شيئًا من الدنيا ." فاستحسن ما كان مني . وعزمت أن أكتب مصحفًا فرأى بعض الشهـود رسـول اللـه صلـى اللـه عليـه سلـم فـي المنـام وهـو يقـول له‏:‏" تقول لهذا المسلم القادم: نويت أن تكتب مصحفًا فاكتبه، فبه يتم إسلامك‏." .. وحدثتنـي امـرأة تزوجتهـا بعـد إسلامـي قالـت‏:‏‏" لمـا اتصلـت بـك قيـل لـي انـك علـى دينـك الأول، فعزمت على فراقك، فرأيت في المنام رجلًا قيل انه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ومعه جماعة قيل هم الصحابة، ورجل معه سيفان ،قيل انه علي بن أبي طالب ،وكأنك قد دخلت، فنزع "علي" أحد السيفين فقلدك إياه وقال‏:‏ ها هنا ها هنا ،وصافحك رسول الله صلى الله وعليـه وسلـم، فرفـع أميـر المؤمنيـن رأسه إلي وأنا أنظر من الغرفة فقال‏:‏ "ما ترين إلى هذا؟ هو أكرم عند الله وعند رسوله منك ومن كثير من الناس ،وما جئناك إلا لنعرفك موضعه ونعلمك أننا زوجناك به تزويجًا، فقرّي عينًا وطيبي نفسًا، فما ترين إلا خيرًا. ". فانتبهت وقد زال عني كل شك وشبهة‏.‏. ). هذا الكاتب المؤرخ أقام لنفسه بالمنامات حفل تكريم إستخدم فيه الرسول فى الدعاية لنفسه . ولو كان يعيش فى دولة الاخوان لأصبح وزيرا للإعلام .!

2 ـ تطبيق المنامات فى مزاعم التداوى والشفاء بالمنامات : فى عام 453 ( وفي سابع رمضان‏:‏ رأى إنسان زمن طويل المرض ..رسول الله صلى الله وعليه وسلـم فـي المنـام قائمـًا مـع أسطوانـة وقـد جـاءه ثلاثـة أنفـس فقالـوا له‏:‏" قم فإن رسول الله صلى الله وعليه وسلم قائم.". فقال لهم:" أنا زمن ولا يمكنني الحركة." فقالوا‏:‏ "هات يدك‏".وأقاموه ، فأصبح معافى يمشي في حوائجه ويتصرف في أموره‏.) شاعت هذه الأكذوبة المنامية عن رجل مجهول ، وصدقها الناس ، وسجلها المؤرخ ابن الجوزى على أنها حادثة تاريخية حقيقية . وبسبب الاعتقاد فى المنامات والايمان بها كان ميسورا لبعضهم أن يجعل نفسه بطلا يتبرك الناس به ومحور الأحاديث برؤية منامية ، بل ويتم تسجيل إسمه فى التاريخ مثل هذا الرجل الذى ذكره ابن الجوزى فى حوادث عام 458 وفي شعبان‏:‏( ذكر رجل من أهل سوق يحيى يقال له‏:‏ أخو جمادى ـ وكانت يده اليسرى قد خبثت وأشرف على قطعها ـ  أنه رأى النبي صلى الله ليه وسلم في منامه كأنه يصلـي فـي مسجد بدرب داود،فدنا منه وأراه يده، فمسح عليها فأصبح معافى.وانثال الناس لمشاهدتـه . وكـان يغمـس يـده فـي المـاء فيقتسمونـه.) ويقول ابن الجوزى عنه : ( وستأتـي قصتـه مستوفـاة في السنة التي مات فيها إن شاء الله تعالى‏.) . أى بمجرد أن أعلن الأخ ( أخو جمادى ) من سوق يحيى ببغداد هذه الرؤيا المنامية تقاطر اليه الناس يتبركون بيده التى زعم أن النبى لمسها وشفاها ، وأصبح شخصية تاريخية .

3 ـ تطبيق المنامات ببناء مسجد عام 379  . يقول ابن الجوزى : ( ..وفيها بنى جامع القطيعة‏.) والسبب ( قال‏:‏ حدثني هلال بن المحسن الكاتب‏:‏ أن الناس تحدثوا في سنة تسع وسبعين وثلثمائة بأن امرأة من أهل الجانب الشرقي رأت في منامها النبي صلى الله عليه وسلم كأنه يخبرها بأنها تموت من غد عصرًا وأنه يصلي في مسجد بقطيعة أم جعفر من الجانب الغربي في القافلائين ووضع كفه في حائط القبلة، وأنها ذكرت هذه الرؤية عند انتباهها من نومها. فقصد الموضع ، ووجد أثر الكف وماتت المرأة في ذلك الوقت‏. وعمّر المسجد . ووسّعه أبو أحمد الموسوي بعد ذلك. وبناه وعمّره، واستأذن ( الخليفة ) الطائع لله، في أن يجعل مسجدًا تصلى فيه الجمعات ،...فأذن له في ذلك وصار جامعًا يصلي فيه الجمعات‏.). نلاحظ هنا أن الراوى الذى ينقل عنه ابن الجوزى هو هلال الصابى ابن المحسن الذى كتب دراما هائلة منامية فى قصة إسلامه ، وأن بطلة القصة إمرأة مجهولة جعلوها تموت حتى لا يتم التأكد من الموضوع ، هذا مع إنه لم يحاول أحد التشكيك فى أى منام مهما بلغ التطرف والمزايدة فى كذبه . ‏

4 ـ تطبيق المنامات رسميا بمنع الظلم . ولا تخلو مزاعم المنامات من آثار جانبية حميدة ، على فرض صحة هذه الآثار الجانبية الحميدة. فقد إستعان بها أهل بغداد للحدّ من عسف العسكر التابعين للسلطان طغرلبك السلجوقى حين سيطر على بغداد . يثول ابن الجوزى : ( ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وأربعمائة : وفـي هذه السنة‏:‏ عمّ ضرر العسكر بنزولهم في دور الناس وارتكابهم المحظورات فأمر الخليفة رئيس الرؤساء باستدعاء الكندري ( وزيـر طغرلبـك ) وأن يخاطبه في ذلك ويحذره العقوبة فإن اعتمد السلطان ما أوجبه الله تعالى وإلا فليساعدنا في النزوع عن هذه المنكرات. فكتب رئيس الرؤساء إلى الكنـدري، فحضر، فشرح له ما جرى، فمضى إلى السلطان فشرح له الحال.فقال :"إنني غير قادر علـى تهذيـب العساكـر لكثرتهم . " ثم استدعاه ( أى إن الخليفة إستدعى رئيس الرؤساء ) في بعض الليل فقال‏:‏" إني نمت في بعض الليل وقد تداخلتني الخشية لله تعالـى ممـا ذكرت لـي ، فنمـت فرأيـت شخصـًا وقـع في نفسي أنه رسول اللـه صلـى الله وعليه وسلم، وكأنه واقف عند باب الكعبة ، فسلمت عليه ، فلم يلتفت نحوي ، وقال‏:‏ " يحكمك اللـه فـي بلاده وعبـاده فلا تراقبه فيهم ولا تستحي من جلاله." ، فامض إلى الديوان وانظر ما يرسمه أمير المؤمنين لأطيع‏.‏". فأنهى رئيس الرؤساء الحال ، فخرج التوقيع متضمنًا للبشارة برؤية سيدنا رسـول الله صلى الله وعليه وسلم . فلما وصل إلى السلطان بكى . وأمر بإزالة الترك وإطلاق من وكل به‏.‏).الخليفة العباسى العاجز يلجأ الى صناعة هذا المنام ليجعل السلطان طغرلبك المتحكم فى بغداد يستجيب وينهى جنوده عن العسف بالناس . والسلطان يبكى ويستجب .!. وهذا يؤكّد شيوع الايمان بالمنامات.

ويبقى أن أهم إستخدام الحنابلة للنبى عليه السلام كان فى تزكية أنفسهم وتحقير خصومهم كما يظهر من المقارنة بين ترجمة  أبى الوليد القرشى والكاتب الشاعر صدقة الذى كان متهما بأنه قرأ كتاب ( الشفاء ) فى الفلسفة لابن سينا . قال ابن الجوزى فى تزكية أبى الوليد القرشى ت 349 ( الفقيه إمام أهل الحديث بخراسان في عصره وأزهدهم وأكثرهم اجتهادًا في العبادة . درس الفقه على مذهب أبي العباس ابن سريج وسمع من الحسن بن سفيان وغيره وصنف التصايف الحسنة‏.أخبرنا زاهر بن طاهر أنبأنا أبو عثمان الصابوني وأبو بكر البيهقي قالا‏:‏ أنبأنا الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ قال‏:‏ سمعت أبا ابوليد حسان بن محمد بن أحمد القرشي يقول في مرضه الذي مات فيه‏:‏ قالت لي والدتي كنت حاملًا بك وكان للعباس بن حمزة مجلس فاستأذنت أباك أن أحضر مجلسه في أيام العشر فأذن لي فلما كان في آخر المجلس قال العباس بن حمزة‏:‏ قوموا فقاموا وقمت فأخذ العباس يدعو فقلت‏:‏ اللهم هب لي ابنًا عالمًا ثم رجعت إلى المنزل فبت يلك الليلة فرأيت فيما يرى النائم كأن رجلًا أتاني فقال‏:‏ أبشري فإن الله قد استجاب دعوتك ووهب لك ولدًا ذكرًا وجعله عالمًا ويعيش كما عاش أبوك. ). بينما يقول فى ترجمة صدقة : ( وكتـب إلـي أبـو بكـر الدلال  وكـان مـن أهـل السنـة الجيـاد قـال : رأيـت فـي مـا يـرى النائم كأني في سوق وكـأن صدقـة بـن الحسيـن الحـداد عريـان وحولـه جماعة، فتبعته ، فصعد درجة فصعدت خلفه، فقلت : يا شيخ صدقة ما فعل الله بك ؟ فقال لي : "ما غفرلي.!"  فقلت له : كذا ؟ قال: نعم . وأعاد القول مرة آخرى ، وغيّر عبارته ، قال : قلت له :"إغفر لي "قال :" ما أغفر لك "ونزل من الدرجة فقلت : "أين تسكن؟ " فقـال : "فـي بيـت فـي خـان ". فانتبهـت. فلقيـت رجـلًا ، كـان صديـق صدقـة . فحدثتـه بمـا رأيـت فقـال لـي : "إني رأيت في المنام امرأة أعرف إنها ميتة فقلت لها :رأيت صدقة ؟ قالت:"نعم .رأيته وسألته ما فعل الله بك ،قال :" قد وكّل بي كل ملك في السماء ،وقد ضايقوني حتى قد خنقوني . ) . تخيلوا حال العوام حين يقال لهم هذا الكلام الذى يعتبرونه من أسس الايمان ؟.

( عن المنامات فى المنتظم لابن الجوزى : ( ج 14/ 125 ، 138 ، 339 ، 371  ) ( ج 15 / 85 ، 87 ، 138 ، 188 ، 250 ) (ج 16 ص 3 : 4  ، 13 ، 70 ، 78 ، 99 ، 153 ، 230 )

 

الفصل الثالث : القصص  

 أولا : عقول العوام الحنبلية مستمعى القصص فى العصر العباسى الثانى

1 ـ نفترض عزيزى القارىء إنك حضرت خطبة جمعة فى مسجد ، وملأ الخطيب خطبته بالمنامات والأحاديث ورأيت الناس يضجون بالبكاء تأثرا بكلامه ، قد ترى هذا شيئا طبيعيا . لو حضرت فى الجمعة التالية وسمعت نفس الخطبة من نفس الخطيب ورأيت نفس الناس يضجون بالبكاء لا بد أنك ستندهش. لو حضرت الجمعة الثالثة وسمعت نفس الخطبة من نفس الخطيب ورأيت نفس الناس يضجون بالبكاء لا بد أنك ستتعجّب الى درجة الخوف  . لو حضرت الجمعة التالية وسمعت نفس الخطيب ونفس الخطبة ورأيت نفس الناس يضجون بالبكاء لا بد أنك ستولى منهم فرارا وتزداد رعبا  . لو غلبك الفضول وذهبت الى هناك فسمعت نفس الخطيب يقول نفس الخطبة ونفس الناس تضج بالبكاء فستقسم بالطلاق أنه ليس مسجدا ،  بل مستشفى للمجانين !.

 لو عرفت ـ عزيزى القارىء ـ أن هناك خطيبا مشهورا فى العصر العباسى الثانى ظل أكثر من ثلاثين عاما يقول نفس الخطبة لا يغيرها كل صلاة جمعة فى أكبر مسجد فى بغداد ، وفى كل مرة يضج الناس بالبكاء ، لا بد أنك ستتفق معى فى أن العصر العباسى الثانى قد حوّله الحنابلة الى مستشفى ضخم للأمراض العقلية . يقول ابن الجوزى فى ترجمة أحد أمراء البيت العباسى ( أحمد بن محمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله ) المتوفى عام 418 :( خطب في جامع المنصور في سنة ست وثمانين وثلثمائة ، وكان يخطب خطبة واحدة كل جمعة لا يغيرها ، وإذا سمعها منه الناس ضجوا بالبكاء وخشعوا لصوته ‏.). هنا جماهير من العوام تتجاوب مع الخطيب بالبكاء دون فهم لما ينطق به صوت الخطيب . وتتكرر نفس الخطبة لمن لا يسمع ولا يعقل ، وتتكرر الاستجابة بالعويل والصراخ . هذا يذكرنا بحفلات التغنى بالقرآن الكريم بصوت ( مُقرىء أو مُنشد ) والعوام يهللون إعجابا . لم يسمعوا القرآن ولم يتدبروا قول الله جل وعلا ، ولكن سمعوا صوت المُغنّى . هو نفس الغياب عن الوعى فى عصرنا.

2 ـ ولكن كانت الحالة مرضا مستشريا فى العصر العباسى الثانى حيث تسيدت بالحنبلية عقلية العوام ، على فرض أن لهم عقلا . الواقع أنه لم يكن لديهم سوى عاطفة جامحة عاتية ، يتجلى خطرها حين تتسلح بأساطير الشفاعة وبحديث تغيير المنكر وتواجه بهما من تعتبرهم ( كفارا ) يجب التخلص منهم كالمعتزلة والشيعة . ثم يكون هذا الخطر ساحقا ماحقا حين يتم شحنهم يوميا خلال خطب الجمعة ومجالس القصص التى حلّت فى العصر العباسى الثانى محلّ مجالس العلم ، فأصبحت هى المدارس الشعبية التى يتعلم فيها العوام بالمنامات والأحاديث دين الحنبلية بكل ما يعنيه من إرهاب وإنحلال . وهنا نسجد إيمانا لعظمة القرآن الكريم حين ينطبق على العصر العباسى الثانى ( وعصرنا) وصف رب العزة جل وعلا للمشركين مخترعى ومتبعى الأحاديث الشيطانية: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى  إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)( الأنعام )

3 ـ لسنا هنا أمام عوام خاملين بل نشطاء ، وأحيانا مُسلحين. يقول ابن الجوزى فى حوادث عام 456 ( فمن الحوادث فيها أنه لما أفسدت الأعاريب في سواد بغداد وأطرافها حملت العوام السلاح لقتالهم وكان ذلك سببًا إلى كثرة العيارين وانتشارهم في محرم هذه السنة‏.‏). نرى هنا ابن الجوزى يصف العوام المسلحين بالعيّارين ، أو قُطّاع الطُّرق لأنهم كانوا مسلحين . هذا بينما يصفهم بالحنابلة حين كانوا يهاجمون الشيعة فى محل إقامتهم بالكرخ.

ويقول فى أحداث شهر شوال عام  329 ‏:‏( اجتمعت العامة في جامع دار السلطان وتظلمت من الديلم ونزولهم في دورهم بغير أجرة وتعديهم عليهم في معاملاتهم ، فلم يقع إنكار لذلك ، فمنعت العامة الإمام من الصلاة.) . الديلم كانوا فى بداية سيطرتهم على الخلافة العباسية وبغداد وقتها ، وكانوا شيعة لا يحبون العوام الحنابلة ولا يحبهم العوام الحنابلة . لذا تعدّى الديلم على العوام ، فاستغاث العوام بالخلافة العاجزة فلم تستطع الخلافة إنكار ما يحدث فقام العوام بمنع الامام من الصلاة فى المسجد . 

4 ـ عقلية العوام لم تقتصر على دعاتهم وفقهائهم القائمين بالقصص بل كانت تشمل أيضا  الخلفاء خصوصا من كان منهم متدينا ، لأنه كان يتدين بالحنبلية الدين الأرضى السائد ، ومنهم الخليفة ( المتّقى ) الذى تولى الخلافة عام 329 ، وحدث وقتها بلاء فاستغاث بالعوام يحضّهم على الخروج للإستسقاء بزعم رؤيا منامية رأتها إمرأة صالحة،يقول ابن الجوزى: ( ووقع الموت في المواشي والعلل في الناس وكثرت الحمى ووجع المفاصل ، ودام الغلاء حتى تكشف المتجملون ( أى إفتقر المستورون ) وهلك الفقراء ، واحتاج الناس إلى الاستسقاء، فرئي منام عجيب‏... نادى منادي المتقي بالله في الأسواق : أن أمير المؤمنين يقول لكم معشر رعيته أن امرأة صالحة رأت النبي صلى الله عليه وسلم في منامها فشكت احتباس القطر فقال لها‏:‏ قولي للناس يخرجون في يوم الثلاثاء الأدنى ويستسقون ويدعون الله فإنه يسقيهم في يومهم وأن أمير المؤمنين يأمركم معاشر المسلمين بالخروج في يوم الثلاثاء كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن تدعوا وتستسقوا بإصلاح من نياتكم وإقلاع من ذنوبكم‏. ). وبمجرد النداء تجمهرت جموع العوام يقودهم ( العلماء والفقهاء ) بتعبير العصر وقتها ، فقد كانوا القادة الشعبيين للعوام ، والذين يتحكمون فى مشاعر ( وليس عقول العوام ) من خلال مجالس القصص ، ويملأونها بالخرافات والمنامات والأحاديث الكاذبة . وكلما أوغل القصّاص فى أكاذيب الخرافات صار أكثر جاذبية وشهرة بين العوام .

‏5 ـ وبنفس القدر كان نفورهم من المناظرات العقلية والأسئلة التى تكون مُحرجة لهم حتى فى ( الحديث ) مجال تخصصهم . فى العصر العباسى الأول تعرض أبوهريرة للنقد والاتهام بالكذب دون تحرّج ، ولكن سيطرة الحنبلية وثقافة العوام حرّمت التعرض لأبى هريرة بالنقد . وصاغوا ذلك فى اساطير . روى منها ابن الجوزى هذه عبر سلسلة من العنعنات والاسناد: ( ‏أنبأنا أبو المعمر الأنصاري قال‏:‏ سمعـت أبـا القاسـم يوسـف بـن علـي الزنجانـي يقـول سمعـت شيخنـا أبـا إسحـاق بن علي ابن الفيروز اباذي يقول‏:‏ سمعت القاضي أبا الطيب يقول‏:‏ كنا في حلقة النظر بجامع المنصور فجاء شاب خراساني فسأل مسألة المصراة وطالب بالدليل فاحتج المستـدل بحديث أبي هريرة الوارد فيها فقال الشاب وكان خبيثًا‏:‏ أبو هريرة غير مقبول الحديث. قـال القاضـي‏:‏ فمـا استتـم كلامـه حتى سقطت عليه حيّة عظيمة من سقف الجامع فوثب الناس من أجلها ،وهرب الشاب من يدها ، فلم ير لها أثر‏.‏) ( المنتظم 17 / 106 عام 500 ). واضح هنا أن هذه الحيّة العظيمة تقف بالمرصاد لكل من يجرؤ على إنتقاد أبى هريرة مثل هذا الشاب الذى ( كان خبيثا ) ولا نعرف له إسما ولا وصفا غير ذلك ، ثم تنتهى الاسطورة بغيابه بلا أثر، ثم أيضا غابت أيضا بلا أثر تلك (الحيّة العظيمة ) . ولأن حنتبلة عصرنا أعادوا تقديس أبى هريرة فقد عادت نفس ( الحية العظيمة ) تقبع فى أعماق القلوب الوهابية تحمى قداسة أبى هريرة من أن يمسها نقد . العقل الواعى يسخر من هذه الاسطورة ، أما عقلية العوام فهى تهلل وتكبّر ..ولا تزال ..حتى الآن تكبّر وتهلل شأن المشركين الذين قال فيهم رب العزة جل وعلا : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)( البقرة ).

‏ ثانيا : أكاذيب القصاص

1 ـ كان ابن الجوزى ينقم على منافسيه من القصّاصين الوعاظ الذين كانوا أقل منه علما ولكن كانوا أكثر منه فى مضمار الكذب ، فانتقم منهم وفضحهم فى تاريخه ( المنتظم ) وشهّر بهم . يقول فى ترجمة (ابن الخفاف ت 418)( وكان غير ثقة لا شك أنه كان يركب الأحاديث ويضعها على من يرويها عنه ، ويختلق أسماء وأنسابًا عجيبة ، وعندي عنه من تلك الأباطيل أشياء . وكنت عرضت بعضها على هبة الله بن الحسن الطبري فخرق كتابي بها ، وجعل يعجب مني كيف أسمع منه . )‏. هنا أحد محترفى القصص الذى يفترى الأحاديث فى مجلسه ، وينقل عنه الناس ، وكان ابن الجوزى نفسه ممّن ينقل عنه ما وصفه بالأباطيل، وهذا أثار عجب هبة الله الطبرى حسبما يروى ابن الجوزى .

ويقول فى ترجمة ‏( أبو الفتح الخزيمي ت 514 ) إنه ( دخل بغداد سنة تسع وخمسمائة فحدث عن أبي القاسم القشيري وجماعة من نظرائه ووعظ ، وكان مليح الإيراد حلو المنطق. ) أى إنه جاء وافدا الى بغداد حيث كان يعيش ويتعيّش ابن الجوزى فكان لابن الجوزى منافسا بسبب أنه كان ( مليح الايراد حلو المنطق )، لهذا هاجمه ابن الجوزى ، يقول عنه : ( ورأيت من مجالسه أشياء قد علقت عنه فيها كلمات ولكـن أكثرها ليس بشيء، فيها أحاديث موضوعة وهذيانات فارغة يطول ذكرها‏. فكان مما قال‏:‏ إنه روى فـي الحديـث المعـروف أن رسـول اللّـه صلـى اللـه عليـه وسلـم تزوج امرأة فرأى بكشحها بياضًا فقـال‏:‏ الحقـي بأهلـك فـزاد فيـه‏:‏فهبط جبريل وقال‏:‏ العلي الأعلى يقرئك السلام ويقول لك بنقطة واحدة من العيب ترد عقد النكاح ونحن بعيوب كثير لا نفسخ عقد الإيمان مع أمتك ، لك نسوة تمسكهن لإجلك ، أمسك هذه لأجلي‏. ) ويعلّق ابن الجوزى : ( ‏قـال المصنـف‏:‏ وهـذا كـذب فاحـش علـى اللـهّ تعالى وعلى جبريل فإنه لم يوح إليه شيء من هذا ولا عوتب في فراقها ، فالعجب من نفاق مثل هذا الكاذب في بغداد ولكن على السفساف والجهال‏.)،هنا يصب ابن الجوزى نقمته على العوام المستمعين أيضا فيصفهم بالسفاسف الجهلاء .ويقول عن أقرانه من القصّاصين : (‏ وكذلك مجالس أبـي الفتـوح الغزالـي ومجالـس ابـن العبـادي ، فيهـا العجائـب والمنقولات المتخرصة والمعاني التي لا توافق الشريعة . ) ثم يوسّع ابن الجوزى دائرة الهجوم لتشمل غيره من أكثرية القصاص ، فيقول : ( وهذه المحنة تعم أكثر القصاص بل كلهم لبعدهم عن معرفة الصحيح ، ثم لاختيارهم ما ينفق على العوام كيف ما اتفق‏.) وفى العبارة الأخيرة نفهم أن أولئك القصّاص كانوا يبالغون فى الكذب والخرافات لارضاء نهم العوام وغرامهم بالخرافات واكاذيب الغيبيات .

وبعض المتهمين بالكذب برّأهم ابن الجوزى، مثل ( أبو الكرم النحوي سمع الحديث من أبي الطيب الطبري والجوهري وغيرهما‏.) قال عنه ( ..غير أن مشايخنا جرّحوه . كان شيخنا أبو الفضل ابن ناصر سيء الرأي فيـه يرميـه بالكـذب والتزوير، وكان يدعي سماع ما لم يسمعه‏.)، ويبدو هنا أن ابن الجوزى لا يوافق على هذا . ولكن ابن الجوزى يدافع بصراحة عن أحد المتهمين بالكذب ، وهو (ابن الحمامي ) الذى ( ولد فـي ربيـع الأول سنـة احـدى عشـرة وأربعمائـة، ) وقد وصفه بأنه ( كان مكثرًا صالحًا أمينًا صدوقًا متيقظًا صحيح الأصول صينًا ورعًا حسن السمت كثيـر الصلاة سمـع الكثيـر ونسخ بخطه ومتعة اللّه بما سمع حتى انتشرت عنه الرواية‏. حدثنا عنه أشياخنا وكلهم أثنوا عليه ثناءً حسنًا وشهدوا له بالصدق والأمانة مثل عبد الوهاب وابن ناصر وغيرهمـا وذكرعن المؤتمن أنه كان يرميه بالكذب وهذا شيء ما وافقه فيه أحد‏.‏) .

2 ـ وراج حال القصاصين أكثر فى مكة والمدينة ، وإسترزق بهذه المهنة كثيرون ، إحترفوا المبالغة فى الخرافات ليجتمع حولهم المزيد من المستمعين من الحجّاج وزائرى المدينة وينالوا أعطياتهم . نفهم هذا مما رواه ابن الجوزى فى ( المنتظم وفيات 348 ) وهو يصف أبا بكر الآدمي (القارئ الشاهد صاحب الألحان‏) الذى:( ‏كان من أحسن الناس صوتًا بالقرآن)، ويروى إنّه إستخدم حُسن صوته ليصرف الناس عن حضور أحد القصّاصين الذى بالغ فى خرافاته فى حلقة عقدها فى مسجد المدينة. يقول أحدهم: (حججت في بعض السنين وحج في تلك السنة أبو القاسم البغوي وأبو بكر الآدمي القارئ، فلما صرنا بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم جاءني أبو القاسم البغوي فقال لي‏:‏ "يا أبا بكر ها هنا رجل ضرير قد جمع حلقة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعد يقص ويروي الكذب من الأحاديث الموضوعة والأخبار المفتعلة فإني رأيت أن تمضي بنا إليه لننكر عليه ونمنعه. " فقلت له‏:‏ " يا أبا القاسم إن كلامنا ها هنا لا يؤثر مع هذا الجمع الكثير والخلق العظيم ، ولسنا ببغداد فيُعرف لنا موضعنا . ولكن ها هنا أمر آخر هو الصواب" فاقبلت على أبي بكر الآدمي فقلت له‏:‏ "استعذ بالله واقرأ." فما هو إلا أن ابتدأ بالقراءة حتى انجفلت الحلقة ، وانفض الناس جميعًا ، فأحاطوا بنا يسمعون قراءة أبي بكر الآدمي ، وتركوا الضرير وحده فسمعته يقول لقائده‏:‏ "خذ بيدي هكذا تزول النعم‏."). هنا رجل إعتاد الاسترزاق من القصص بمسجد المدينة ، وكان يتكسب الكثير بسبب إنجذاب الناس لمبالغاته فى الكذب فى الأحاديث والقصص . وهكذا ( زالت النعم ) عن هذا الكذاب الضرير.!

3 ـ ولم تتدخل السُّلطة لردع أولئك القصاصين مهما بلغ كذبهم . كانت تتدخل فقط إذا إستخدموا القصص فى إثارة الفتن بما يهدد الأمن ، يقول ابن الجوزى فى حوادث عام 473 :(فمن الحوادث فيها‏:‏ أنـه جميـع الوعـاظ فـي جمـادى الآخـرة في الديوان أذن لهم في معاودة الجلوس ، وقد كانوا منعوا من ذلك منذ فتنة القشيرى . وتقدم إليهم أن لا يخلطوا وعظهم بذكر شيء من الأصول والمذاهب‏.).

4 ـ وللرد على أكاذيب القصاصين فى الحديث قام ابن الجوزى بتأليف كتاب عن الوضع فى الحديث . وبعد العصر العباسى إلتصق الكذب أكثر بالقصّاصين فكتب ابن تيمية ( أحاديث القصاص ) فى الأحاديث الموضوعة . وعلى سنته سار ابن القيم فى كتابه ( المنار المنيف فى الصحيح والضعيف ). ولكن كل هذا لم يُغن شيئا لأن العوام يحبون الكذب ، أو على حد قول منتجى الأفلام الهابطة فى مصر ( الجمهور عايز كده ). ودين الحنبلية السنية مؤسس على الكذب على الله جل وعلا ورسوله بالمنامات والأحاديث . والقصّاص هو المُنتج وهو أيضا الموزّع ، هو الذى ينتج الأكاذيب ، وهو الذى يزوعها وينشرها فى حفلات أو مجالس القصص ، وهو أيضا يوزع وينشر أكاذيب غيره . ونحن هنا امام مئات الألوف من القصّاصين المنتجين الموزعين الذين يقومون بسد حاجة الجمهور للأكاذيب أو التسلية التى أصبحت صناعة رائجة ينسى بها الناس واقعهم المرير .

ثالثا : البكاء عند السماع

1 ـ ليس للعوام عقول لتقتنع بالمنطق والحجة والدليل ، ولكن لها عواطف هيّاجة يسهل إثارتها بالبكاء والعويل ، لذا كان من الطرق الأخرى لاجتذاب العوام ( بالاضافة للمبالغات فى الكذب ) أن يبكى الخطيب الواعظ القصّاص فيكتسب صُدقية وإعتقادا ويزداد فى العوام تاثيرا، قيبكون معه تحت شعار:( هيا بنا نبكى .!) . ولقد كان البكاء أو التظاهر بالبكاء أهم سمات ذلك التدين السطحى المظهرى ، يرائى به العوام وقادتهم ، وأصبح من مؤهلات الواعظ القصاص فى إجتذاب المستمعين . ونعطى من ( المنتظم ) نماذج لشخصيات عاصرها ابن الجوزى من دعاة ومستمعين :

كان أبو نصر بن القاص المتوفى عام  538 ( مليح الهيئة حسن الشيبة كثير البكاء ، يحضر مجلس شيخنا أبي إلحسن الزاغواني فيبكي كثيرًا‏.‏) . وقال ابن الجوزى عن ( الأنماطي أبو البركات الحافظ ) : ( ‏وكان ذا دين ورع وكان قد نصب نفسه للحديث طول النهار وسمع الكثير من خلق كثير وكتب بيده الكثير وكان صحيح السماع ثقة ثبتًا وكنت أقرأعليه الحديث وهو يبكي فاستفدت ببكائه أكثر من استفادتي بروايتـه .! ).وقال عن تلميذه ( أبو البركات الأنباري)(ت 552 ) إنه ( وعظ الناس ، وكان يبكي من حين صعوده على المنبـر إلـى حيـن نزولـه .) (.. وكان من أهل السنة الجياد رزقـه اللـه أولادًا صالحيـن فسماهم أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا ، وكان أمارًا بالمعروف ناهيًا عن المنكـر، مستجـاب الدعوة ، له كرامات ومنامات صالحة ، رأى في بعضها رسول الله صلى الله عليه وسلـم وفـي بعضها أحمد بن حنبل.). وقال عن  أبى عبد الله السجزي الأصل الهروي ت 553 (..وسافر إلى العراق وخوزستان والبصرة ، وقدم علينا بغداد ، فروى لنا هذه المذكورات ، وكان صبورًا على القـراءة ، وكان شيخنا صالحًا على سمت السلف، كثير الذكر والتعبد والتهجد والبكاء . ).ويقول عن التاجر أبى البقاء الحرانى ت 574 : ( كان من أماثل التجار كثير الصدقة ملازمًا لمجلس الذكر كثير الخشوع والبكاء متعصبًا لأهل السنة مبالغًا في حب أصحاب أحمد بن حنبل. ) ( عمار بن سلامة أبو البقاء الحراني : كان من أماثل التجار كثير الصدقة ملازمًا لمجلس الذكر كثير الخشوع والبكاء متعصبًا لأهل السنة مبالغًا في حب أصحاب أحمد بن حنبل.)،( أبوغالب الباقلاوي ت 500: ( حدثنا عنه أشياخنا ، وهـو مـن بيـت الحديـث ، وكـان شيخـًا صالحًا كثير البكاء من خشية الله تعالى صبورًا على اسماع الحديث ) .‏ عن القصص فى المنتظم (ج 14 / 123 )، (ج 16 / 211 )،( ج 17/  3 : 4 ،  20 ، 191).

رابعا : قصّاصون من العوام المغفلين

 1 ـ إتّسع مجال القصص ليس فقط للعوام الجهلاء العاديين بل للمغفلين منهم.  وفى كتابه ( أخبار الحمقى ) عقد ابن الجوزى: ( الباب العشرون في ذكر المغفلين منالقصاص) يتندر فيه على القصاصين المشهورين فى عصره .

2 ـ يقول عن القصاص الفقيه سيفويه : ( القصاص سيفويه‏:‏ فمنهم سيفويه القاص كان يضرب به المثل فيالتغفيل‏:‏ عن محمد بن العباس بن حيويه قال‏:‏ قيل لسيفويه قد أدركت الناس فلم لمتحدث ؟ قال‏:‏ اكتبوا حدثنا شريك عن مغيرة عن إبراهيم بن عبد الله مثله سواء قالواله‏:‏ مثل إيش قال‏:‏ كذا سمعنا وكذا نحدث‏.‏

 عن ابن خلف قال‏:‏ جاء يوماً رجل من عرس فسأله سيفويه‏:‏ ما أكل ؟فأقبل يصف له فقال‏:‏ تمنيات قصاص‏.

‏من غفلات سيفويه‏:‏ وروى أبو العباس بن مشروح قال‏:‏ كان سيفويهاشترى لمنزله دقيقاً بالغداة وراح عشاء يطلب الطعام فقالوا‏:‏ لم نخبز . لم يكن عندناحطبً . قال‏:‏ كنتم تخبزونه فطيراً‏.‏

 وحكى أبو منصور الثعالبي‏:‏ أن رجلاً سأل سيفويه عن الغسلين في كتابالله تعالى فقال‏:‏ على الخبير سقطت ، سألت عنه شيخاً فقيهاً من أهل الحجاز فما كانعنده قليل ولا كثير‏.‏

وقف سيفويه راكباً على حمار في المقابر فنفر حماره عند قبر منهافقال‏:‏ ينبغي أن يكون صاحب هذا القبر بيطاراً‏.‏

وقرأ سيفويه ( ثم في سلسلة ذرعها تسعون ذراعاً ) فقيل له قد زدت عشرينفقال‏:‏ هذه خلقت لبغاء ووصيف فأما أنتم فيكفيكم شريط بدانق ونصف‏.‏

وقرأ قارىء بين يديه ‏"‏ كأنما أغشيت وقرأ القارىء‏:‏‏"‏ كأنهن الياقوت والمرجان‏"‏فقال‏:‏ هؤلاء خلاف نسائكم الفجار‏.‏

 قيل لسيفويه إن اشتهى أهل الجنة عصيدة كيف يعملون ؟ قال‏:‏ يبعث اللهلهم أنها دبس ودقيق وأرز‏.‏ويقال‏:‏ اعملوا وكلوا واعذرونا‏ .‏)

‏2 ـ ويقول عن آخرين :( وقال ابن خلف‏:‏ قال عبد العزيز القاص‏:‏ ليتأن الله لم يكن خلقني وأني الساعة أعور . فحكيت ذلك لابن غياث فقال‏:‏ بئس ما قال.!ووددت والله الذي لا إله إلا هو أن الله لم يكن خلقني ، وإني الساعة أعمى مقطوعاليدين والرجلين. ).

( القصاص أبو أحمد التمار‏:‏ وعن محمد بن خلف قال أبو أحمد التمار فيقصصه‏:‏ لقد عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم حق الجار حتى قال فيه قولاً أستحيوالله أن أذكره‏.‏)

(  قال ابن خلف‏:‏ قص قاص بالمدينة فقال‏:‏رأى أبو هريرة على ابنته خاتم ذهب فقال‏:‏ يا بنية لا تتخمي بالذهب فإنه لهب . فبيناهو يحدثهم إذ بدت كفه فإذا فيها خاتم ذهب. فقالوا له‏:‏ تنهانا عن لبس الذهب وتلبسهفقال‏:‏ لم أكن ابنة أبي هريرة‏.‏)

(  عن محمد بن الجهم أنه قال‏:‏ سمعت الفراءيقول‏:‏ كان عندنا رجل يفسر القرآن برأيه فقيل له‏:‏‏"‏ أرأيت الذي يكذب بالدين‏"‏فقال‏:‏ رجل سوء والله .! فقيل‏:‏‏"‏ فذلك الذي يدع اليتيم‏"‏فسكت. )

( وعن عبد الرحمن بن محمدالحنفي قال‏:‏ قال أبو كعب القاص في قصصه‏:‏ كان اسم الذئب الذي أكل يوسف كذا وكذا.  فقالوا له‏:‏ فإن يوسف لم يأكله الذئب .! قال‏:‏ فهو اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف‏.‏)

(  عن العلاء بن صالح قال‏:‏ كان عبدالأعلى بن عمر قاصاً فقص يوماً ، فلما كاد مجلسه ينقضي قال‏:‏ إن ناساً يزعمون أني لاأقرأ من القرآن شيئاً ، وأني لا أقرأ منه الكثير بحمد الله. ثم قال‏:‏ بسم الله الرحمنالرحيم ‏"‏ قل هو الله أحد ‏"‏ فارتج عليه فقال‏:‏ من أحب أن يشهد خاتمة السورةفليحضرنا إلى مجلس فلان‏.‏)

(  حكى أبو محمد التميمي أن أبا الحسن السماك الواعظدخل عليهم يوماً وهم يتكلمون في أبابيل فقال‏:‏ في أي شيء أنتم؟  فقالوا‏:‏ نحن فيألف أبابيل . فقال : هل هو ترون أنه بلبل عليهم عيشهم‏!‏ )

(  جاء رجل إلى قاص وهويقرأ‏:‏‏"‏يتجرعه ولا يكاد يسيغه ‏"‏فقال‏:‏ اللهم اجعلنا ممن يتجرعه ويسيغه‏.‏)(  قال الجاحظ‏:‏ سمعت قاصاً أحمق وهو يقص حديث موسىوفرعون وهو يقول‏:‏ لما صار فرعون في وسط البحر في الطريق اليابس فقال اللهللبحر‏:‏ انطبق . فما زال حتى علاه الماء . فجعل فرعون يضرط مثل الجاموس نعوذ بالله منذلك الضراط‏.‏) ( قال‏:‏ وسمعت قاصاً بالكوفة يقول‏:‏ والله لو أن يهودياً مات وهويحب علياً ثم دخل النار ما ضره حرها‏.‏)

( قال بعض القصاص‏:‏ يا معشر الناس إنالشيطان إذا سمي على الطعام والشراب لم يقربه ، فكلوا خبز الأرز المالح ولا تُسمّوا، فيأكل معكم ، ثم اشربوا الماء وسمُّوا ، حتى تقتلوه عطشاً‏.‏).

(القصاص أبو سالم‏:‏ كان أبو سالم القاص يقص يوماً قال‏:‏ يابن آدم..يابن الزانية.. أما تستحي من الملك الجليل حتى تقدم على العمل القبيح . ) ( وسُرق باب بيت أبيسالم القاص، فجاء إلى باب المسجد قالوا‏:‏ ما تصنع ؟ قال‏:‏ اقلع هذا الباب فإنصاحبه يعلم من قلع بابي‏.‏).

(‏ سئل بعض الوعاظ‏:‏ لم لم تنصرف أشياء . فلميفهم ما قيل له.  ثم سكت ساعة فقال‏:‏ تسأل سؤال الملحدين لأن الله يقول‏:‏‏"‏ لا تسألوا عن أشياء‏"‏‏.)

(  قال بعض الأشياخ‏:‏ إنه كتب في رقعة إلى بعضالقصاص يسأله الدعاء لامرأة حامل . فقرأ الرقعة ثم قلبها ، وفي ظهرها صفة دواء قد كتبهطبيب وفيه :قنبيل وخشيرك وافتيمون ونحو هذا ، فظنها كلمات ُيسأل بها ، فدعا ، وجعل يقول‏:‏يا رب قنبيل ،يا رب خشيرك، ويا رب افتيمون ..) ‏.‏

أخيرا

فى عصرنا البائس يخرج علينا الرعاع الجهلة من دعاة الحنبلية الوهابية يقولون منكرا من القول وزورا ، وبعتبرون ما يقولون دينا ، وهو هزل مُضحك . ينشرونه على الانترنت فيثيرون السخرية ..والرثاء .

 

الفصل الرابع : ابن الجوزى الحنبلى شيخ القصاصين

  أولا : ابن الجوزى فى لمحة سريعة

1 ـ هو من أكثر المؤلفين إنتاجا فى تاريخ المسلمين ، وأكثرهم تنوعا فى مؤلفاته ، فهو مؤرخ وفقيه ومن أهل الحديث و ( التفسير ) و ( علوم القرآن ) وواعظ قصّاص . ولكنه إستخدم كل مواهبه وكتاباته فى خدمة دينه الحنبلى ، وفى حياته فى القرن السادس الهجرى أسفرت جهوده كواعظ وداعية وشيخ للقصّاصين على صمود دين الحنبلية فى وقت عصيب وهو يواجه التصوف وبقية المذاهب السنية ( الأحناف ، الشافعية ، المالكية ) و الأشاعرة . وبعد موته ظلت مؤلفاته تحافظ على وجود الحنبلية ، الى أن تم بعث الحركة الحنبلية قوية فى العصر المملوكى  فى مدرسة ابن تيمية فى القرن الثامن الهجرى ، وفى حركة البقاعى فى القرن التاسع الهجرى. وبعد إخمادهما تم إحياء الحنبلية فى العصر الحديث تحت إسم الوهابية ، والتى يشقى بها العالم اليوم ، ويتم بها تشويه الاسلام فى ربوع العالم كل دقيقة .

2 ـ مع كثرة مؤلفاته وتنوعها ومع تعدد وظائفه مؤرخا فقيها وواعظا ومؤلفا فإن ابن الجوزى كما قلنا قام بتوظيف هذا كله لخدمة دينه الحنبلى ، فكان فى كتاباته فى ( الفقه النظرى ) عدوا للمرأة يعبّر عن الحنبلية المتزمتة ، وفى كتابه ( أحكام النساء ) أعطى كل الحقوق للرجل والزوج ، وجعل المرأة حبيسة البيت ، ولم يعرف الأمانة العلمية فى التأريخ ، إذ ملأ تايخه ( المنتظم ) بأكاذيب وجعل لها إسنادا ، وحشى تاريخ المنتظم بالمنامات والأحاديث والكرامات لمن يتحيز لهم من الفقهاء والعُبّاد ، بينما حشى تاريخه بالتحقير لخصوم الحنابلة . وخلط تاريخه بالقصص ، إذ ينشىء أكاذيب ويوردها كأحداث تاريخية ، ويصطنع شخصيات وهمية ويؤرخ لها تحت عناوين مثل ( عابد مجهول ).

ثانيا : إبن الجوزى ينتقد القصاصين الوعاظ :

1 ـ كتب ابن الجوزى فى ( الفقه الوعظى ) كتابه ( تلبيس ابليس ) ينتقد فيه الجميع ( سوى نفسه ) . يقول فيه عن رواج صناعة القصص على حساب الفقه : ( ولما كان جمهور العوام يميلون إلى القصص كثر القصاص وقل الفقهاء ). وهى إشارة الى شيوع مجالس القصص التى تناسب حال العوام بديلا عن مجالس الفقه والمناظرات التى كانت فى العصر العباسى الأول . أى إن الحنبلية هبطت الى حضيض العوام دون أن ترتقى بالعوام ، وهى عادة سيئة لأى دين أرضى حين يتحكم فى مجتمع ما . ويقول ابن الجوزى يعلل سبب ذمّه للقصّاص : ( وإنما ذم القصاص لأن الغالب منهم الاتساع بذكر القصص دون ذكر العلم المفيد. )أى ذكر الخرافات دون الأحاديث التى يعتبرها ابن الجوزى علما مفيدا .

2 ـ وعقد فصلا كاملا فى كتابه ( تلبيس إبليس ) ينتقد فيه القصّاصين والوعاظ وكيف قام ( إبليس بالتلبيس عليهم ) تحت عنوان ( ذكر تلبيسه على الوعاظ والقصاص  ) ( قال المصنف : كان الوعاظ في قديم الزمان علماء فقهاء ..ثم خست هذه الصناعة، فتعرض لها الجهال ...وتعلق بهم العوام والنساء فلم يتشاغلوا بالعلم وأقبلوا على القصص وما يعجب الجهلة وتنوعت البدع في هذا الفن. ). هنا يؤكد ما قلناه عن دور العوام الحنابلة فى شيوع القصص وفى  تخلّف مستوى القصّاصين. ثم يقول عن صناعتهم للحديث ( النبوى ) ( .... فمن ذلك أن قوما منهم كانوا يضعون أحاديث الترغيب والترهيب ، ولبّس عليهم إبليس بأننا نقصد حث الناس على الخير وكفهم عن الشر ، وهذا افتيات منهم على الشريعة لأنها عندهم على هذا الفعل ناقصة تحتاج إلى تتمة. ثم نسوا قوله (ص ) : " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار." )، ويقول عن نشرهم الانحلال الخلقى : ( ومن ذلك أنهم تلمحوا ما يزعج النفوس ويطرب القلوب فنوعوا فيه الكلام فتراهم ينشدون الأشعار الرائقة الغزلية في العشق . ولبّس عليهم إبليس بأننا نقصد الإثارة إلى محبة الله عز وجل. ومعلوم أن عامة من يحضرهم العوام الذين بواطنهم مشحونة بحب الهوى ، فيضل القاصّ ويضل. ) ، ويقول عن صناعة الرياء والتدين السطحى المظهرى بالتظاهر بالبكاء : ( ومن ذلك من يظهر من التواجد والتخاشع زيادة على ما في قلبه وكثرة الجمع توجب زيادة تعمل فتسمح النفس بفضل بكاء وخشوع فمن كان منهم كاذبا فقد خسر الآخرة ومن كان صادقا لم يسلم صدقه من رياء يخالطه . )، ويقول عن تحولها الى مجالس لهو وغناء ورقص لارضاء نزوات العوام :  (ومنهم من يتحرك الحركات التي يوقع بها على قراءة الألحان والألحان التي قد أخرجوها اليوم مشابهة للغناء فهي إلى التحريم أقرب منها إلى الكراهة، والقارىء يطرب والقاص ينشد الغزل مع تصفيق بيديه وإيقاع برجليه فتشبه السكر،  ويوجب ذلك تحريك الطباع وتهييج النفوس وصياح الرجال والنساء، وتمزيق الثياب ، لما في النفوس من دفائن الهوى . )،ويستطرد فيقول : ( ومنهم من يتكلم بالطامات والشطح الخارج عن الشرع ويستشهد بأشعار العشق وغرضه أن يكثر في مجلسه الصياح ولو على كلام فاسد.)(  وكم منهم من يزوق عبارة لا معنى تحتها وأكثر كلامهم اليوم في موسى والجبل وزليخا ويوسف ولا يكادون يذكرون الفرائض ولا ينهون عن ذنب،  فمتى يرجع صاحب الزنا ومستعمل الربا وتعرف المرأة حق زوجها وتحفظ صلاتها ؟ هيهات هؤلاء تركوا الشرع وراء ظهورهم . ولهذا نفقت سلعهم لأن الحق ثقيل والباطل خفيف. ) ( ومنهم من يحث على الزهد وقيام الليل ولا يبين للعامة المقصود فربما تاب الرجل منهم وانقطع إلى زاوية أو خرج إلى جبل فبقيت عائلته لا شيء لهم. ) ( ومنهم من يتكلم في الرجاء والطمع من غير أن يمزج ذلك بما يوجب الخوف والحذر فيزيد الناس جرأة على المعاصي، ثم يقوي ما ذكر بميله إلى الدنيا من المراكب الفاهرة والملابس الفاخرة فيفسد القلوب بقوله وفعله . ) ( وقد يكون الواعظ صادقا قاصدا للنصيحة إلا أن منهم من شرب الرئاسة في قلبه مع الزمان ، فيجب أن يُعظّم . وعلامته أنه إذا ظهر واعظ ينوب عنه أو يعينه على الخلق كره ذلك ..) . ( ومن القصاص من يخلط في مجلسه الرجال والنساء ، وترى النساء يكثرن الصياح وجدا على زعمهن ، فلا يُنكر ذلك عليهن ، جمعا للقلوب عليه . ) الى أن يقول عن عصره : (ولقد ظهر في زماننا هذا من القصاص ما لا يدخل في التلبيس لأنه أمر صريح ، من كونهم جعلوا القصص معاشا يستمنحون  به الأمراء والظلمة والآخذ من أصحاب المكوس، والتكسب به في البلدان.). 

3 ـ بعد هذا النقد المرير للقُصّاص : هل كان شيخ القصّاصين ابن الجوزى منزّها عن هذه المثالب ؟ أم كان ممّن يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم ؟ . فيما كتبه ابن الجوزى عن نفسه نعرف الاجابة :

ثالثا : إبن الجوزى شيخ القصّاصين يقع فى نفس الأخطاء

فى السنوات الأخيرة التى سجلها ابن الجوزى فى المنتظم حرص على الـتأريخ لنفسه، ونعرض لفقرات مما قاله عن نقسه واعظا :

1 ـ فى خلافة المقتفى.  فى عام  552 ( وفـي شعبـان‏:‏ استـأذن الخليفـة ابـن جعفـر صاحـب مخـزن الإمام المقتفي أن أجلس في داره ، فأذن له ، فكنت أعظ فيها كل جمعة. )، أى كان يغظ رسميا منذ هذا العام فى ديوان الخلافة العباسية ( المخزن ).

2 ـ  فى خلافة  المستضىء ، وفى عام 570 : ( وتقدم إلي بالجلوس تحت المنظرة بباب بدر فتكلمت يوم الخميس بعد العصر خامس رجب ، وحضـر أميـر المؤمنيـن . واخذ الناس أماكنهم من بعد صلاة الفجر . ) يقول عن كثرة العوام الحاضرين : (  وكـان النـاس يقفـون يـوم مجلسي من باب بدر الى باب العيد ، كأنه العيد .‏) . هنا يحضر الخليفة بنفسه ويحتشد العوام فى الشوارع . ثم تنهال عليه الأعطيات والوظائف من السلطة الحاكمة التى وصفها من قبل فى ( تلبيس ابليس ) بالظالمين :

3 ـ وفـي 20 شعبان من نفس العام 570 تسلم ابن الجوزى الاشراف على مدرسة كانت دارًا لنظام الدين أبي نصـر بـن جهيـر . بعد وقفها على الحنابلة ، وألقى فيها ابن الجوزى درسا حضره الأعيان ،يقول عنه ( فحضر قاضي القضاة وحاجب الباب وفقهاء بغداد ، وخُلعت عليّ خلعـة ، وخرج الدعـاة بيـن يـديّ والخـدم ، ووقـف اهـل بغـداد مـن بـاب النوبـي الـى بـاب المدرسـة كمـا يكـون فـي العيد ، واكثر وكان على باب المدرسة الوف ، والزحام على الباب . فلما جلست لإلقاء الدرس عـرض كتـاب الوقـف علـى قاضـي القضـاة وهـو حاضر مع الجماعة فقرىء عليهم وحكم به وانفذه ، وذكرت بعد ذلك الدرس،  فألقيت يومئذ دروس كثيرة من الاصول والفروع . وكان يومًا مشهودًا. ) .

وجاء التطبيق ليكون نصرا للحنابلة فى وقت بدأ فيه نفوذهم ينحسر لصالح التصوف السنى . خصوصا مع بناء مكتب لهم أو ( دكـة ) يقول : ( فانزعج لهذا جماعة من الاكابر ، وقالوا ما جرت عادة للحنابلة بدك .! فبنيت ، وجلست فيها يوم الجمعة ثالث رمضان. ) ( ..وازدحم العوام حتى امتلأ صحن الجامع ، ولم يمكـن للأكثريـن وصـول الينـا ، وحفظ الناس بالرجالة خوفًا من فتنة .وما زال الزحام على حلقتنا كل جمعـة وكانـت ختمتنـا فـي المدرسـة ليلـة سبـع وعشريـن فعلـق فيهـا مـن الاضـواء ما لا يحصى واجتمع من الناس ألوف كثيرة فكانت ليلة مشهودة.)..(  ثم عقدت المجلس يوم الاربعاء سابع شوال تحت المدرسة فاجتمع الناس من الليل ، وباتوا وحزر الجمع يومئذ بخمسين ألفًا ، وكان يومًا مشهودًا‏.) 

‏4 ـ فى عام 571 فى 3 محرم : ( انه تقدم إلي بالجلوس تحت المنظرة الشريفة بباب بدر ، فتكلمت بكـرة الخميـس ثالـث المحـرم ، والخليفـة حاضر .وكان يومًا مشهودًا . ثم تقدم الي بالجلوس هنالك يوم عاشوراء، فأقبل الناس الى المجلـس مـن نصـف الليـل ، وكـان الزحـام شديدًا زائدًا على الحد ، ووقف من الناس على الطرقات ما لا يحصى . وحضر أمير المؤمنين وفقه الله‏. ) ( ‏وتقدم إلي بالجلوس ليلة رجب تحت المنظرة ، فاجتمع الناس ، فجاء مطر فمنع الحضور . فتقدم بالجلوس في اليوم الثاني ، فتكلمت ، وأمير المؤمنين حاضر . وامرنا بالبكور الى دعوة أمير المؤمنين ، فحضرنا بكرة السبت ، وحضر الوزير ابن رئيس الرؤساء وأرباب الدولـة والعلمـاء والمتصوفـة،  فأكلـوا . وانشـد ابـن شبيـب قصيـدة يمـدح فيهـا أميـر المؤمنيـن . وخـرج قاضـي القضـاة وأربـاب الدولـة بعد الأكل وخرجت معهم . وبات‏ ‏الباقون مع المتصوفة على سماع الانشاد .وفُرّق على الجماعة مال وخلع . وكان هذا رسمهم في كل رجب . ). يلاحظ وجود الصوفية الرسمى فى احتفالات الخلافة دليلا على أن الحنابلة فقدوا الانفراد بالساحة فى أواخر القرن السادس بعد قرون ثلاثة . ولكن صار للحنابلة حضور أقوى بزعامة ابن الجوزى ، فقد أصبحت له ندوة يقصّ فيها اسبوعيا بالتناوب مع القزوينى ، وقال أمير عباسى لابن الجوزى : (  والله ما احضر أنا ولا أمير المؤمنين غير مجلسك وانما تلمحنا مجلس غيرك يومًا وبعض يوم آخر‏.‏) .وأهدى له الخليفة هدية طريفة .

ويقول : ( وفي يوم الأربعاء سادس ذي الحجة صنع الوزير ابن رئيس الرؤساء دعوة وجمع فيها أرباب المناصب ، وحضر الخليفة،  فاستدعيت ، فخلعت علي خلعة . ونصب لي منبر في الدار، فتكلمت بعـد أن أكلـوا الطعـام ، والخليفـة حاضـر والوزيـر وجميـع أربـاب المناصـب وجميـع علمـاء بغـداد والفقهـاء والوعـاظ إلا النـادر . وخلـع علي خلعة . ثم تكلمت يوم عرفة ، وكان مجلسًا عظيمًا ، تاب فيه خلق كثير وقطعت شعورًا كثيرة وكان الخليفة حاضرًا‏. ) فهل تاب التائبون فعلا أم هو رياء وتظاهر ؟

5 ـ فى عام  572 : ( تقدم الي بالكلام تحت منظرة الخليفة بباب بدر فتكلمت يوم الاحد ثاني المحرم ، وحضر أمير المؤمنيـن . ثـم تكلمـت هنـاك يـوم عاشـرراء ، فامتـلأ المكـان من وقت السحر ، فطلع الفجر وليس لأحد طريـق ، فرجـع النـاس ، وامتلأت الطـرق بالنـاس أقيامـًا يتأسفون على فوت الحضور . وقام من يتظلم في المجلس فبعث أمير المؤمنين في الحال من كشف ظلامته‏.).

وفى نفس العام  ‏572 ( وفـي يـوم السبت غرة جمادى الاخرة‏:‏ عبرت الى جامع المنصور فوعظت فيه بعد العصر وعبر الناس من نهر معلى واجتمع اهل المحال فحزر الجمع مائة الف ورجعنا الى نهر معلى والناس ممتدون من باب البصرة كالشراك الى الجسر وكان يومًا مشهودًا‏.‏) (  ثـم تقـدم الـي بالجلـوس ببـاب بمـر تحـت المنظـرة يـوم الاثنين سلخ جمادى الاخرة ، فتكلمت فيه بعد العصر ، وأمير المؤمنين حاضر . وجرى مجلس مستحسن ، تاب فيه جماعة ، وقصت فيه شعور.) أى أيضا تظاهر الناس بالتوبة وقصّوت شعورهم .!!.

وألقى ابن الجوزى قصيدة ركيكة ملأها نفاقا للخليفة وتأليها له . يقول :(  وذكرت خروجه الى الكشك في قصيدة انشأتها وهي‏:‏

يـا سيـد الخلـق وعيـن الاكوان ** خليفـة الله العظيم السلطان

ظهـرت للخلـق ظهـور البرهـان ** عاشت به ارواح اهل الايقـان

زيـن بـك البـر وزينـت اوطـان ** صدت القلوب حين صاعوا الغزلان

بحلمك الوافر بل بالاحسان ** والكشك قـد حقـر قمرالايـوان

هذا على التوحيد وضع البنيان ** وذاك مبنـي لأجـل النيران

حب بني العباس اصل الايمـان ** بنى الاله ولمحم في الجثمـان

الحجـر والبيـت لهـم والأركان ** أصبحت كالروح ونحـن ابـدان

الشـرع كالعين وانت اجفان ** الجود غصـن واحـد يـا بستـان

هذا مديحي وهو قدر الامكان ** وفي ضميري ضعف هذا الاعلان

عبيدكـه لا يشترى بأثمان ** وقد ملكتم رقه بالاحسان

سميت نفسي مذ خدمت سلمان ** لكن لساني في المديـح حسـان

( وتكلمت يوم الخميس عاشر رجب بعد العصر تحـت المنظـرة ، واميـر المؤمنيـن حاضـر ، والزحـام شديد ثم تناولنا انا والقزويني كل ليلة جمعة ، فكان يوم مجلسي تغلق ابواب المكان بعد الظهر لشدة الزحام . ) ( وفـي يـوم الاثنيـن حادى عشـر رمضان‏:‏ تقدم الي بالجلوس في دار ظهير الدين صاحب المخزن ، وحضـر اميـر المؤمنيـن ، واذن للعـوام فـي الدخـول . فتكلمـت ، وأعجبهـم ، حتـى قـال لـي ظهيـر الديـن : قد قال امير المؤمنين : ما كأن هذا الرجل آدمي لما يقدر عليه من الكلام.). أى يتعجب الخليفة من وعظه.  (وفـي يـوم الاثنيـن خامـس عشريـن رمضـان‏:‏ تقـدم بجلوسـي فـي دارصاحـب المخـزن فجلست وحضر اميـر المؤمنيـن واذن للعـوام فـي الدخـول فتكلمـت بعـد العصـر الـى المغـرب وبتنـا فـي الدارتلـك الليلـة مع جماعة من الفقهاء . ) .‏

6 ـ عام 573 : (   تقدم الي بالجلوس تحت منظرة باب بدر واجتمع الخلق وتاب جماعة وحضـر اميـر المؤمنين‏.‏ثم تقدم الي بالجلوس هناك يوم عاشوراء وكان الناس يجيئون من نصف الليـل بالأضـواء فما طلع الفجرولا حد موضع قدم وغلقت الابواب ولقينا شدة من الزحام وأمير المؤمنين حاضر. ) ( وفي يوم الائنين النصف من ربيع الآخر‏:‏ تكلمت في جامع المنصور وحضر الخلق فحزروا بمائة الف وتاب ثلاثة وخمسون نفسا وقصت  شعورهم ) 

7 ـ عام  574  : ( كان مفتتحها الثلاثاء،  فتقدم إلي بالكلام تحت منظرة باب بدر ، فتكلمت بكرة ، وحضر أمير المؤمنيـن . وتكلمت هناك يوم عاشوراء ، حضر أمير المؤمنين وقلت : " ولو أني مثلت بين يدي السدة الشريفـة لقلـت : يـا أميـر المؤمنيـن كـن للـه سبحانه مع حاجتك إليه كما كان لك مع غناه عنك ، إنه لم يجعل أحدًا فوقك فلا ترض أن يكون أحد أشكر منك . " فتصدق يومئذ أمير المؤمنين عقيب المجلـس بصدقـات وأطلـق محبوسيـن. )

8 ـ التطبيق هنا هائل ، فقد كوفىء ابن الجوزى والحنابلة بتجديد القبر المقدس لالههم ابن حنبل بأمر رسمى من الخليفة ، ممّا عُدّ نصرا للحنابلة وقتها . يقول ابن الجوزى : ( وفي أوائل جمادي الأخرة تقدم أمير المؤمنين بعمل لوح ينصب على قبر الإمام أحمد بن حنبل ، فعمل ،ونقضـت الستـرة جميعهـا ، وبنيـت بآجـر مقطـوع جديـدة ، وبنـي لهـا جانبـان ، ووقـع اللـوح الجديـد ،وفـي رأسـه مكتـوب : هـذا أمـر بعملـه سيدنـا ومولانـا المستضـيء بأمـر اللـه أميـر المؤمنين . وفي وسطه‏:‏ " هذا قبر تاج السنة وحيد الأمة العالي الهمة العالم العابد الفقيه الزاهد الإمام أبي عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رحمه اللّه ." وقد كتب تاريخ وفاته ، وآية الكرسي حول ذلك . )

وتوالت إنتصارات الحنابلة بجهود ابن الجوزى و مهارته فى الوعظ والقصص وإستحواذه على ألباب العوام . فقد صرحوا له بالقصص فى جامع المنصور أكبر جوامع بغداد : (ووعـدت بالجلـوس فـي جامـع المنصـور فتكلمت يوم الإثنين سادس عشر جمادى الأولى ، فبات في الجامع خلق كثير ، وختمت ختمات ، واجتمع للمجلس بكرة ما حزر بمائة ألف ، وتاب خلق كثير ، وقطعـت شعـور . ) .

وبذكاء شديد حوّلها ابن الجوزى الى مظاهرة حنبلية إذ توجه بالجماهير لزيارة وتقديس النُّصّب المقدس لابن حنبل . يقول : ( ثـم نزلـت فمضيـت إلـى زيـارة قبر أحمد ، فتبعني من حزر بخمسة آلاف . ) وتبع ذلك إقامة ( دكة ) أو مكتب للحنابلة فإغتم أرباب المذاهب السنية الأخرى ، يقول ابن الجوزى : ( وفي ليلة السبـت حـادي عشريـن جمـادى الأولـى‏:‏ أطلـق تتامـش إلـى داره ، وتقـدم أمير المؤمنين بعمل دكة بجامع القصـر للشيـخ ابـن المنـى الفقيـه الحنبلـي ، جلـس فيهـا يـوم الجمعـة ثانـي عشر جمادي الآخرة فماتوا أهل المذاهـب مـن عمـل مواضـع للحنابلـة ومـا كانـت العـادة قد جرت بذلك ، ).

وبدا واضحا أن هذا بسبب ابن الجوزى ومهارته فى القصص ، يقول : (وجعل الناس يقولون لي : هذا بسببك فإنه ما ارتفع هذا المذهب عند السلطان حتى مال إلى الحنابلة إلا بسماع كلامك " . فشكرت الله تعالى على ذلك . ولقد قال لي صاحب المخزن‏:‏ ما يخرج إلى شيء من عند السلطان فيه ذكرك إلا يثني عليه ؟ وقـال لـه يومـًا نجاح الخادم‏:‏ أنت تتعصب لابن الجوزي ؟ فقال : والله ما يتعصب له سيدك بقدر ما يتعصـب لـه إلا خمسيـن مـرة وما يعجبه كلام غيره . وكان يقول الوزير ابن رئيس الرؤساء ما دخلت قـط علـى الخليفـة إلاَ جـرى ذكر ابـن الجـوزي؟ ) .

ولهذا يفتخر ابن الجوزى بنفسه وبالمكافآت التى منحها له ( الظالمون ) وأفضاله على أهل ملته الحنبلية ، فيقول : ( وصـار لي خمس مدارس . وهذا شيء ما رآه الحنابلة إلا في زمنـي.! ولـي مائـة وثلاثـون مصنفـًا إلـى اليـوم وهـي فـي كـل فـن.  وقـد تـاب علـى يـدي أكثـر مـن مائـة ألف ، وقطعت أكثر من عشرين ألف طائلة . ولم ير لواعظ قط مثل مجلسي ؛ جمع الخليفة والوزير وصاحب المخزن وكبار العلماء‏.‏ ). ويستمر فيقول : (وفي يوم الثلاثاء سلخ جمادى الآخرة‏:‏ تكلمت بباب بدر وأمير المؤمنين حاضر والزحام شديد‏.‏)، ( وتكلمت يوم الخميس بعد العصر تاسع رجب تحت المنظرة وأمير المؤمنيـن حاضـر والزحـام شديـد ، والبـاب مغلـق لشـدة الزحـام )، ( وتكلمـت يـوم السبـت مفتتـح رمضان في مدرستي بدرب دينار فكان الزحام خارجًا عن الحد ، حتى غلق الأبواب ،وقُصّت ثلاثون طائلة ، وتاب خلق من المفسدين‏.‏). أى صارت عادة أن يتظاهر الناس بالتوبة كل مرة .!

ومن ذكاء ابن الجوزى أنه كان يستخدم قى وعظه معرفته بالتاريخ ومهارته فى سبك الروايات وتصديق العصر لما يقوله، فعلا نجمه، واسترجح بالقصص والوعظ بعض نفوذ الحنابلة فى مواجهة التصوف السُّنى وبقية المذاهب السنية .

( عن ابن الجوزى قصاصا مشهورا ج 18 / 33 ، 123 ــ ، 254 ، 202 : 203 ــ  ، 213 ــ ، 218 ــ  ـ )