رقم ( 3 )
معجزة اختيار اللفظ في القرآن الكريم : البحث كاملا

 

أولا :

(بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ) ( بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ )

 يقول تعالى "الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) التوبة "

مقالات متعلقة :

ثم يقول تعالى "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) التوبة "

 فما هى معجزة إختيار اللفظ هنا ؟

أعمال المنافقين تناقض أعمال المؤمنين ، ومصير المؤمنين إلى الجنة ومآل المنفقين فى إلى النار، وهذا ما توضحه الآيتان من سورة التوبة . والسياق الواضح هو التناقض بين صفات ومصير المنافقين والمؤمنين . وفى هذا السياق قال تعالى عن المؤمنين " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ " لم يقل أن "المنافقين والمنافقات بعضهم أولياء بعض " وإنما قال " الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ " .

والتدبر فى هذا المعنى يوضح أحد الفوارق الأساسية " النفسية " بين قلوب المؤمنين وقلوب المنافقين . فالمؤمنون الذين يخلصون قلوبهم لله تعالى يكونون رحماء بينهم ويوالى بعضهم بعضا موالاة تنبع من الإخلاص فى العقيدة والتناصر على الحق وفى سبيل الحق وابتغاء مرضاة الله تعالى ، حيث يحاسب كل منهم نفسه قبل أن يحاسبه ربه .

أما المنافقون فهم حالة خاصة مختلفة عن المؤمنين وعن الكافرين الذين يعلنون كفرهم صراحة . ولذالك ليس غريبا أن يقول الله تعالى عن الكافرين الصرحاء " وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ  " الأنفال  73 " مثلما قال عن المؤمنين المخلصين " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ " لأن كلا الفريقين يعلن عقيدته إن كان مؤمنا وإن كان كافرا ،أما المنافق فهو فى حالة انعدام وزن ، يعلن عكس ما يبطن ، ويضمر نقيض ما يعتقد ينطق الإيمان ويكتم الكفر ، ولذلك فهو يخفى أو يحاول أن يخفى عن الآخرين حقيقة انتمائه ، ويظل فيه توجس وتشكك فى كل من حوله ، وينتظر من الجميع أن يتآمروا ضده ويمكروا به لأنه نفسه يمكر بهم ويتآمر عليهم ويتوقع فى كل وقت أن يضبطه أعداءه فى حالة تلبس ، وهو يعتبرهم أعداءه بينما يعاملهم فى الظاهر على أنهم إخوته ورفاقه .. وهو لا يأمن أن يفضحه أقرب الناس إليه لأنه لا يثق فى أقرب الناس إليه ، ويتوقع الوشاية به فى كل حين ، خصوصا وهو لا يسكت عن التآمر وعن الحقد وعن المكر . ولذلك فهو لا يثق حتى برفاقه فى النفاق . ولذلك فإن المنافقين جميعا على طريقة واحدة هي القدرة على الخداع والخسة والنذالة ، ومع أنهم على نفس الصفات إلا أنهم لا يوالى بعضهم بعضا خشية أن ينفث أحدهم سمومه فى الآخر . لذلك قال تعالى عنهم وحدهم " الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ  " ولم يقل" بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ " .

ثانيا :

( فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً .) ( فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ )..

يقول تعالى في سورة البقرة " مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " البقرة / 245 . ) . ويقول تعالى في سورة الحديد " مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ) الحديد) .

فما هى معجزة إختيار اللفظ هنا ؟

من أكثر أساليب القرآن تأثيرا في الدعوة للصدقة أن يجعلها القرآن الكريم قرضا لله تعالى , وأن الله تعالى يرد ذلك القرض مضاعفا , وقد تكرر هذا الأسلوب كثيرا في القرآن ، كقوله تعالى في سورة التغابن " إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ).التغابن 17 " وفي سورة الحديد "  إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ): الحديد / 18 " وغير ذلك في سورتي المائدة والمزمل .  ونقتصر من الأمثلة السابقة بالمقارنة بين آيات سورتي البقرة والحديد .

ففي السورتين اتفقت الآيتان في بدايتهما ,فقالتا " مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَه " ولكن إختلفتا فى كيفية مضاعفة الآجر ؛ ففي سورة البقرة " فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ..  " وفي سورة الحديد " فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ .. " .

والمعروف أن الله تعالى يضاعف الأجر على الصدقة في الدنيا قبل الآخرة , يقول تعالى " وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ : سبأ : 39 " . والله يضاعف الرزق ويخلفه فى الدنيا ، ليس فقط في المال ولكن في الصحة والسعادة والأولاد والطمأنينة النفسية والاجتماعية . وهكذا فإن حساب الثواب الدنيوي لا يقتصر على الرزق الظاهر ولكن الأهم منه هو الرزق الخفي الذي لا ينتبه له الكثيرون. وعن مضاعفة الأجر في الدنيا لمن يتصدق ويقرض الله تعالى قرضا حسنا, يقول تعالى " مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " فهذه الآية في سورة البقرة تتحدث عن مضاعفة الأجر في الدنيا .

أما الآية الأخرى في سورة الحديد فهي تتحدث عن مضاعفة الأجر للمتصدق في يوم الدين , أو اليوم الآخر بالإضافة إلى الدنيا , يقول تعالى " مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَه " أي في الدنيا , " وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ " أي في الآخرة . وفي هذا اليوم يسعى نورهم بين أيديهم وأيمانهم ويتلقون البشرى بالخلود في الجنة ، وهذه هى تكملة الآية .. " يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ .. " ، أى يتضاعف أجرهم يوم يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم .وهذا هو الفارق بين الآيتين المتشابهتين وأجر المتصدق فيهما بين الدنيا والآخرة .

ثالثا :

(وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى ) ، ( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى ) ..

 فى قصة موسى عليه السلام يقول تعالى فى سورة القصص : " وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) ) .

وفى قصة القرية التى أرسل الله جل وعلا رسولين ثم رسولا ثالثا يقول تعالى فى سورة يس : " وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) )

فما هى معجزة إختيار اللفظ هنا ؟

1ـ تحدثت سورة القصص عن قصة موسى عليه السلام من مولده إلى نشأته فى قصر فرعون إلى أن قتل الرجل المصري وأصبح فى المدينة خائفا ، وجاء رجل من أقصى المدينة يحذره من تآمر الملأ عليه ليقتلوه .

أما سورة يس فقد تحدثت عن القرية التى جاءها ثلاثة من المرسلين فكذبوهم ، فجاء رجل من أقصى المدينة يحذر أهلها من عاقبة تكذيب المرسلين .

وفى قصة موسى عليه السلام قال تعالى :  ( وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى ) ، وفى قصة أهل القرية التى كذبت الرسل قال تعالى : ( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى ) ، فلماذا اختلف الأسلوب فى الآيتين ؟

2ـ فى قصة موسى كان فرعون ينشر الرعب والإرهاب وحيث يسود الاستبداد والرعب فإن الرجال قليلون ويصبح الجبن والخنوع هما القاعدة وتكون الرجولة هى الاستثناء ، ويكون من المدح أن يوصف إنسان ما بأنه رجل أى وقف موقف رجولة ، وهناك من آل فرعون من وقف ذلك الموقف الرجولي فقال الله تعالى عنه : ( وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) غافر )  أى كان رجلا لأنه جرؤ على مواجهة الفرعون ، مع أنه بسبب الرهبة من فرعون كان يكتم إيمانه .  . ولذلك لم يقل تعالى عن ذلك الرجل الشجاع الشهم الذي حذر موسى : ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى ) بل قال ( وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى ) أى  قدّم كلمة " الرجل " أو صفة الرجولة وصفا لهذا الرجل الشجاع الجرىء الذى قدم من أقصى المدينى يسعى ليحذّر موسى ، ، يقول له : (يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ  )، ولأن الارهاب الفرعونى كان فاشيا فقد خرج موسى من المدينة خائفا يترقب : (  فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) )  .

3ـ أما فى قصة القرية فلم يكن الإرهاب فيها فاشيا بمثل ما كان فى عصر موسى وفرعون لذا لم يكن التركيز على الموقف الرجولي بل على كون ذلك الرجل من أقصى المدينة وأطراف القرية لذا قال تعالى : (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ  )،    أى جاء يسعى من أقصى المدينة ذلك الرجل يحذر قومه من تكذيب المرسلين .

4ـ وقد اشتركت الآيتان فى وصف ذلك الإنسان بالرجولة وبأنه جاء خصيصا لهدف نبيل من أقصى المدينة ، ولكن جرى التقديم والتأخير لكلمة ( رجل ) . والعادة أن يعيش الفقراء والهامشيون على أطراف المدن بينما يحتل الأغنياء أواسط المدينة وأفخم الأحياء فيها والتى تشرف على الأنهار . وقد ذكر القرآن أن آل فرعون التقطوا تابوت موسى من النيل ، أى كان قصر الفرعون على النيل ، بينما كان ذلك الرجل النبيل يعيش فى أطراف المدينة ، مثله فى ذلك مثل الرجل الآخر الذي حذر أهل المدينة .. فقد اشتركا فى صفتين .. وقدم القرآن صفة الرجولة فى صاحب موسى ، وقدم صفة المجيء من أقصى المدينة فى الرجل الآخر .. على حسب الوضع .

رابعا

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ  ) (  صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ  )

 فى سورة البقرة يقول تعالى عن المشركين (  صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) البقرة )  ،  ويقول عنهم فى موضع آخر فى نفس السورة : ( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)  البقرة )  

فما هى معجزة إختيار اللفظ هنا ؟ .

لماذا قال الله تعالى فى الآية الأولى عنهم :( فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ )، وقال فى الآية الأخرى عنهم :( فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ )  ؟ السياق هو الذي يقتضى ذلك .

ونرجع إلى سياق الأولى يقول تعالى :( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) البقرة ) ، فالذين اشتروا الضلالة بالهدى خسروا فى هذه التجارة ولم يربحوا لأن مصيرهم هو الخلود فى النار حين باعوا نور الهدى  ، أى أضاعوا النور واستحقوا الخلود فى النار ، والله تعالى يضرب لهم مثلا برجل استوقد نارا ليستفيد منها النور والضياء فجاءت الريح فأطفأت النار وجعلتها مجرد جمرات نار بدون نور ، فأصبح فى ظلمات لا يستطيع الرؤية ، وهكذا حال المشركين يعيشون فى ظلمات صما بكما عميا ، لا يستطيعون  الاهتداء ولا الرجوع إلى الطريق المنير .

والسياق فى هذا التشبيه يقتضى أن يقول تعالى : ( فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ  ) لأنه المناسب للصورة التمثيلية التى ذكرها القرآن ، فذلك الرجل حين ضاع منه النور أصبح فى ظلمة لا يستطيع الهداية فى طريقه ولا يستطيع الرجوع الى المكان الذى جاء منه .

والسياق مختلف فى الآية الأخرى: ( البقرة 171 ). فالآية قبلها تقول:( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170)   ، أى تتحدث عن إتباع المشركين للسلف وما اعتاده الآباء ممّا يخالف القرآن الكريم ، ثم يقول جل وعلا عنهم فى الآية التالية : ( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)  البقرة ) ، أى يضرب الله تعالى لهم مثلا بالحيوان الذي ينعق أى يصرخ بما لا يفهم ، وإذا سمع فلا يعقل .!.غاية ما هنالك أن ذلك الحيوان الأعجم إذا سمع رفيقا له ينعق ويخور أجابه بنعيق آخر وخوار آخر بحكم العادة والطبيعة . وهكذا المشركون مع آبائهم وأسلافهم ، فالأسلاف عبدوا الأصنام والأولياء من دون الله فسار على أثرهم الأبناء قائلين:( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22 ) الزخرف ) أو كما قال الله تعالى:(إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) الصافات  )  ،وهذا التقليد الأعمى معناه انعدام العقل، لذا قال تعالى عنهم :( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) . وهكذا كان التشبيه فى الآية الأولى برجل ضل الطريق ولا يستطيع الرجوع بينما كان التشبيه فى الآية الأخرى بالحيوان الذي يردد ما يقوله الآخرون بدون عقل . 

خامسا

( يا قوم ) ( يا بنى اسرائيل )

يقول الله تعالى عن موسى : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ )  ( 5 ) الصف ) ولكن يقول عن عيسى : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ  ) (6) الصف  )   

فما هى معجزة إختيار اللفظ هنا ؟

 موسى كان يخاطب قومه فيقول لهم : يا قوم ، وعيسى يخاطب بنى إسرائيل فلا يقول لهم يا قوم ، وإنما يقول لهم يا بنى إسرائيل . بل إن نبي الله موسى كان أكثر نبي فى القرآن تكرر حديثه لقومه بقوله لهم : يا قومي .. وفى المقابل فإنه لم برد فى القرآن مطلقا أن عيسى قال لبنى إسرائيل : يا قومي .. وكل ما هنالك أن الله تعالى يقول عن السيدة مريم : (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ) 27 : مريم ) ، ومن الطبيعي أن يكون بنو إسرائيل هم قوم السيدة مريم كما أن يكون بنو إسرائيل قوم موسى ، ولكن من المنطقي أن ألا يكون ينو اسرائيل هم قوم عيسى عليه السلام لأن عيسى عليه السلام رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه (النساء 171 )،  

وقد ولدته أمه بدون أب ، والانتساب للقوم يكون حسب الأب ، ولهذا كان موسى يقول لقومه " يا قوم " بينما كان عيسى يقول لهم يا بنى إسرائيل ، مع أن كلا من موسى وعيسى عليهما السلام جاء بنفس الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى وحده ، وكلاهما قال لبنى إسرائيل :( إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ) .

ويلاحظ أن عيسى عليه السلام هو النبي الوحيد الذي يذكر القرآن نسبه ، فيقول : (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ  )، وتكون كلمة ( ابن ) بالألف فى كل الأحوال خلاف قواعد اللغة العربية الموضوعة فى العصر العباسى . وقد ذكر القرآن أن مريم هى بنت عمران (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ ) التحريم 12 )

، و ( آل عمران 35 : 36 ) ،  هذا بينما لم يقل القرآن قال : إسماعيل ابن إبراهيم ، أو قال إسحاق ابن إبراهيم ، أو قال يعقوب ابن إسحاق أو قال يوسف ابن يعقوب ، مع أن القصص القرآني يذكر أن يوسف هو ابن يعقوب ويعقوب هو ابن إسحاق ، وإسحاق وإسماعيل هما ابنا إبراهيم عليهم السلام ، أى أنا عيسى هو النبي الوحيد المذكور على أنه عيسى ابن مريم والسؤال .. لماذا ؟ .والإجابة: للتأكيد على بشريته  عليه السلام وأنه مخلوق من أم بلا أب ، كما أن الله تعالى خلق حواء من آدم  بلا ( أم )، وخلق آدم بل أب وبلا أم ، والله تعالى أشار إلى ذلك حين قال :( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)       آل  عمران  ). فإذا كان بعض الناس يزعم ألوهية المسيح فإن القرآن يرد عليهم بأنه ليست هناك مشكلة فى خلق المسيح بدون أب لأن الله تعالى خلق آدم من قبل بدون أب ولا أم ، ولهذا كان التأكيد على أنه "عيسى بن مريم " لتأكيد البشرية للمسيح . وصدق الله العظيم القائل : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَانظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمْ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) المائدة  )  .

سادسا :

(مِنْ إِمْلاقٍ ) (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ  )

يقول تعالى فى سورة الأنعام  ضمن الوصايا العشر : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) 151 ) ، ويقول الله تعالى فى سورة الإسراء : ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ) (31) ).  

فما هى معجزة إختيار اللفظ هنا ؟

ــ بالنظرة السريعة يبدو التطابق بين معنى الآيتين فالمعنى هو النهى عن قتل الأولاد بسبب الفقر لأن الله تعالى هو الذي يرزق الآباء والأبناء .

ــ والنظرة المتأملة تستدعى العديد من التساؤلات .. والإجابات ..

 لماذا قال الله تعالى فى سورة الأنعام:( نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) وقال فى سورة الإسراء : (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم ) ؟  ولماذا لم يقل صيغة واحدة فى الآيتين كأن يقول فيهما "نحن نرزقكم وإياهم " أو " نحن نرزقهم وإياكم " ؟

والإجابة هى فى التأكيد على المساواة التامة بين الأبناء والآباء فى الحاجة للرزق من الله ، فالأب سبب فى رزق الابن ، والابن سبب فى رزق الأب ، والله تعالى يرزق الآباء والأبناء ، ومع أن الأب هو الذي يسعى فى طلب الرزق وهو الذي يتصور أنه السبب الوحيد فى رزق الابن إلا أن الله تعالى بهذا التأكيد يقرر أنه مهما سعى الأب فى العمل فإنه يحصل على المقدار المحدد له من الله تعالى ، وأن الله تعالى يجعل الابن سببا فى رزق الأب ، كما يجعل الأب سببا فى رزق الابن ، فقال يؤكد هذه المساواة : ( نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) ، (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم ).   وإذا علم الأب أن الرزق من الله تعالى له ولأبنائه وأن الله تعالى تكفل برزق الجميع عندئذ لن يفكر فى قتل أولاده بسبب الفقر والإملاق .

3 ـ  ونأتي للسؤال الثانى الأهمّ : لماذا قال الله تعالى فى سورة الأنعام:( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ  ) وقال فى سورة الإسراء : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ) ، وهل هو نفس المعنى ؟

والإجابة أن المعنى متقارب ولكنه مختلف ؛ فقوله تعالى فى سورة الأنعام:( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ  )  يعنى لا تقتلوا أولادكم ( بسبب الفقر) ، وأما قوله تعالى فى سورة الإسراء : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ )   فيعنى لا تقتلوا أولادكم ( خوفا من الفقر ). والفارق بينهما دقيق وهام ، ويتجلى فى طبيعة الولد المنهي عن قتله . فقد كانت العرب فى الجاهلية " أو بعضهم " يقتلون الأولاد بسبب الفقر فقال تعالى :( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ  )  ، أي لا يدفعكم الفقر الحاضر إلى قتل أولادكم الأطفال . وقد كان بعضهم يقتل الأبناء وهم أجنة فى بطون أمهاتهم خشية الفقر فى المستقبل ، فقال تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ) ، أي خوفا من فقر محتمل أو فقر سيجئ . إذن فالمعنى مختلف بين فقر حاضر يدفع الأب لقتل أولاده عجزا عن إعالتهم ، وفقر محتمل فى المستقبل أو خوف من فقر محتمل يدفع الأب أوالأم  للتخلص من الجنين ، ونزل القرآن العظيم ينهى عن الحالتين معا فى موضعين مختلفين .

سابعا :

( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ) ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا  )

قال تعالى {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ }الأنفال31. ) . هذه هى الآية الوحيدة في القرآن الكريم التي يقول فيها رب العزة:" وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا " وفي المواضع الأخرى، وعددها ست مرات قال تعالى: "وإذا تتلى عليهم أياتنا بينات.." فلماذا لم يقل تعالى في الآية "31" من سورة الانفال : {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا  )  بدون كلمة "بينات"؟ .

فما هى معجزة إختيار اللفظ هنا ؟ إن التدبر في الآيات يعطي الإجابة :

1- يقول تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ}يونس 15 . أي أنهم استمعوا للآيات حتى أصبحت بينات لديهم، فطلبوا من النبي أن يأتي لهم بقرآن آخر بدل هذا القرآن.

2-ويقول تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً }مريم73 . أي أنهم استمعوا مع المؤمنين للآيات حتى أصبحت بينات لديهم، ثم قالوا للمؤمنين أنحن خيراً أم أنتم؟

3- ويقول تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} الحج 72 .أي أنهم استمعوا وأنصتوا للآيات البينات حتى ظهرت الكراهية على وجوههم، وكانوا على وشك البطش بالمؤمنين الذين يتلون عليهم القرآن.

4- ويقول تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} سبأ 43 . أي أنهم أنصتوا للقرآن وخرجوا من إنصاتهم للآيات البينات باتهام للنبي بأنه يريد أن يصدهم عن عبادة الأصنام التي كان يعبدها الأسلاف ، أي فهموا حقيقة الإسلام واعتبروا دعوة النبي اتهاماً له بالخروج على عادة الآباء والأجداد.

5- ويقول تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }الجاثية25. أي أنهم بعد أن سمعوا الآيات البنات طلبوا معجزة حسية وهى بعث الآباء الموتى.

6- ويقول تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ }الأحقاف7 أي اتهموا القرآن بالسحربعد أن استمعوا لآياته البينات.

 وفي المواضع الستة جاء وصف الآيات بأنها بينات ، وجاء تعليق المشركين يدل على أنهم استمعوا الآيات ووصلهم بيان القرآن فما ازدادوا بهذا البيان إلا إعراضاً وصدوداً.

 وفي الموضع الوحيد الذي لم يأت فيه وصف البينات لأنهم أعرضوا مقدماً عن الاستماع وعن الإنصات، ولذلك فقد أعرضوا عن التوقف للإنصات إلى بيان القرآن، يقول تعالى :{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ}، أي أنهم منذ البداية رفضوا الاستماع وقالوا: قد سمعنا وإننا نستطيع الإتيان بمثله، وهذا هو السبب في تفرد هذه الآية بعدم وجود كلمة " بينات " فيها.بل إنهم فى سورة غضبهم وإندفاعهم طلبوا من الله جل وعلا أن يهلكهم إن كان القرآن حقا : " وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (31) وإذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) ألانفال )

ثامنا :

(فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ) (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ  )

يقول تعالى في تحدي العرب بمعجزة القرآن : ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . البقرة 23 " .

ويقول تعالى :( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . يونس 38 " .

فما هى معجزة إختيار اللفظ هنا ؟

الواضح في الآيتين أن الله تعالى يتحدى العرب في أن يأتوا بسورة ، وأن يكون ذلك على رؤوس الأشهاد ، وهذا التحدي يأتي ردا على تشككهم فيما نزل على النبي محمد عليه السلام : ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِه ) ، أو يأتي ردا على اتهامهم  النبي بأنه افترى هذا القرآن : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِه ).

وهناك فارق دقيق بين الآيتين المتشابهتين في الموضوع , ففي الآية الأولى يقول تعالى " فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ " ولكن في الآية الأخرى يقول تعالى " فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِه " بدون كلمة ( من ) . ونتساءل عن السبب !

والواضح أن التشابه بين الآيتين ليس تاما .

فالآية الأولى تتحدث عن شك المشركين في القرآن الذي نزل على النبي ( ص ) الذي وصفه الله تعالى بأنه " عبدنا " ولذلك جاء التحدي للمشركين يقول لهم " فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ " أي هاتوا سورة من شخص مثل النبي , أي اجعلوا شخصا عربيا فصيحا مثل النبي ( ص) يأتي بسورة مثل الذي نزل على النبي .. إذن الضمير في قوله تعالى " من مثله " يعود للنبي عليه السلام . ولذا تقول الآية " وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " أي يأتوا بشهود من العرب يكونون حكاما بين النبي وأمثاله من فصحاء العرب , فإذا عجز هذا الشخص الذى هو مثل النبى محمد  أمام أولئك الفصحاء عن الآتيان بسورة ، فقد ثبت أن فصاحة القرآن فوق طاقة النبي وكل أمثاله من العرب الفصحاء .

أما الآية الأخرى فترد على اتهامهم للنبي بأنه افترى القرآن أي انه الذي ألّف وصنّف القرآن وقاله وكتبه ونسبه لله تعالى زورا وافتراء ، لذا يقول تعالى : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِه ) أى مثل القرآن ، فالضمير هنا يرجع للقرآن ( افتراه ) أي افترى القرآن ، والقرآن يرد عليهم بأن يأتوا بسورة مثل سور القرآن , والتحدي هنا بأن يستدعوا من يشاءون إن كانوا يستطيعون الإتيان بسورة مثل سور كتاب الله ، فإذا عجزوا عن الإتيان بسورة مثل سور القرآن فقد ثبت إن إعجاز القرآن فوق طاقتهم جميعا .. فالتحدي في الآية الأولى في أن يؤتوا بصورة من شخص مثل النبي عليه السلام في الفصاحة ، أما التحدي في الآية الأخرى ففي أن يؤتوا جميعا بسورة مثل سور القرآن في فصاحته وسيعجزون وقد عجزوا .  

يبقى أن نقول إن المستفاد من الآيتين أن الذى نزل على النبى هو ( سور ) القرآن فقط ، فلا توجد سور إلا فى القرآن . أى هو القرآن وكفى . لم يقل رب العزة فأتوا بسورة وحديث من السُّنة .!! أين البخارى هنا ؟  

تاسعا :

(الْأَرْضَ هَامِدَةً ) ( الأرض خاشعة)

يقول الله سبحانه وتعالى فى سورة الحج :  ( وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)  ). ويقول تعالى فى سورة فصلت  : ( وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ) 39 ).  

فما هى معجزة إختيار اللفظ هنا ؟

 لماذا قال "هامدة " فى سورة الحج ، وقال " خاشعة " فى سورة فصلت ؟ مع أن الوصف جاء للأرض بنفس المعنى ، فإن الخشوع هو الهبوط ، وهو نفس معنى همد " وفى نفس المعنى يقول تعالى :( لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ )  (21) الحشر 21) .

والأرض تكون هامدة هابطة إذا ظل الماء بعيدا عنها فإذا نزل عليها الماء دبت فيها الحياة وامتلأت بالكائنات الحية الدقيقة من بكتريا وجراثيم وحشرات ومستعمرات . والقرآن الكريم يعبر عن حال الأرض أو التربة حينئذ فيقول  : ( فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ) أى اهتزت بالحياة فى داخلها وزادت ، والربا والربوة بمعنى الزيادة . ولو أخذنا حفنة من التراب وفحصناها تحت المجهر وجدنا فيها حياة ، فإذا خلطنا التراب بالماء ونظرنا له تحت المجهر وجدنا مستعمرات من الحركة والحياة والنماء .

ونعود إلى نفس السؤال : لماذا قال هنا " هامدة " وقال هناك "خاشعة " مع أن المعنى متقارب ؟

إن السياق القرآني هو السبب .

تقرأ آية سورة الحج بأكملها وهى تقول : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ) والآية تبرهن على البعث بعد الموت من خلال أطوار حياة الإنسان من خلق آدم من تراب وماء إلى التناسل بعده فى أطوار الجنين وخروجه طفلا إلى أن يموت ،  ونفس الحال مع الأرض التى تكون هامدة ثم تحيا بالماء . وطالما أن السياق فى الآية عن الموت والحياة والبعث فالوصف ( هامدة ) هو الأنسب . 

أما فى سورة فصلت فالله تعالى يقول : (  وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)).  فالسياق هنا فى موضوع السجود والعبادة لله تعالى وحده وهذا شأن الملأ الأعلى من الملائكة وشأن المؤمنين . ولأن السياق فى العبادة والخشوع قال تعالى بعدها : ( وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ )  فصلت 39 .أى قال خاشعة لأنها الأنسب فى السياق ، كما كانت هامدة هى الأنسب فى سياقها.

عاشرا :

( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) البقرة )

( قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) آل عمران )

لماذا قال جل وعلا فى سورة البقرة  ( قُولُوا ) وقال فى سورة آل عمران ( قُلْ ) مع إن الموضوع واحد ؟. وما هو وجه إعجاز إختيار اللفظ هنا ؟ .

1 ـ نبدأ بالهداية القرآنية فى الرسالة السماوية الخاتمة ، وهى موجهة لأهل الكتاب ، وللمؤمنين والبشر من غيرهم . يقول جل وعلا عن القرآن بالنسبة لبنى إسرائيل والمؤمنين من كل البشر : (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) النمل ) .

وقد دعا رب العزة أهل الكتاب للإيمان بالقرآن الذى جاء مصدقا لما معهم من الكتب السماوية : ( وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ ) (41) البقرة ) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ )(47) النساء ).

وكان أساس الضلال بين أهل الكتاب هو تحريف ملة ابراهيم ( لا إله إلا الله ) وما ترتب على ذلك من تقديس بعض الرسل ورفعهم فوق مستوى الرسل الآخرين ، وبالتالى تفرقوا الى يهود ونصارى ، وجعلوا هذا التفرق هدى ، فدعاهم رب العزة الى التمسك بملة ابراهيم حنيفا أى مخلصين فى انه لا اله إلا الله جل وعلا ، وهذا يعنى الايمان بكل الرسالات السماوية التى نزلت على كل الأنبياء ، وهذا الايمان بكل الكتب السماوية يعنى عدم التفريق بين الرسل ، لإنه يعنى عدم الايمان بشخص النبى البشرى ، ولكن الايمان بالرسالة التى نزلت عليه ، وبالتالى فالايمان بكل الرسل أى الرسالات ، وعدم التفريق بين رسول وآخر . وهذا الرد جاء على قولهم : ( وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (135)  البقرة ). ثم فى الآية التالية أمرهم رب العزة أن ( يقولوا ) : ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) البقرة ) . بالايمان بكل الرسالات يكون عدم التفريق بين اشخاص الأنبياء والرسل ، وعدم تقديس واحد منهم ، وعدم التفرقة بينهم ، وبالتالى يكون الاسلام الحق ، والتقديس لله جل وعلا وحده . وهم إن فعلوا هذا فلن يقعوا فى الاختلاف والشقاق ، لأنهم سيكونون مسلمين للخالق جل وعلا وحده ، وإلا فسيكونون فى شقاق وإختلاف ، يقول جل وعلا يضع الميزان : ( فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) البقرة ).

إن الاسلام الحق هو الايمان بالله جل وعلا وحده وتقديسه وحده وتأليهه وحده وعبادته وحده والتوسل به وحده وطلب المدد منه وحده . وهذا هو الاسلام المقبول دينا عند الله جل وعلا . وتقديس البشر من الأنبياء وغيرهم يعنى التفرق والاختلاف . لذا قال جل وعلا فى شهادة الاسلام الواحدة ، أو التشهد الذى يكون فى الصلاة : ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) آل عمران ) . ويقول رب العزة عن هذا الاسلام ( لا اله إلا الله ) فى الآية التالية : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ )، وهذا ما جاء فى كل الرسالات السماوية ، ولكن بغى اهل الكتاب بتقديس البشر فإختلفوا بعد ما جاءهم العلم الالهى او الرسالات السماوية ، يقول رب العزة فى نفس الآية : ( وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) آل عمران ). ويقول جل وعلا لخاتم النبيين عن أهل الكتاب المعاندين المجادلين وغيرهم من العرب ( الأمّيّين الذين لم ينزل عليه كتاب :  ( فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) آل عمران ).

وهذا هو الاسلام الذى لا تقديس فيه إلا لله الخالق جلّ وعلا . ولذلك أمر رب العزة أهل الكتاب أن يقولوا (( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) البقرة ).

2 ـ ومات خاتم النبيين عليهم جميعا السلام . ووقع العرب ( الصحابة ) فى الكفر السلوكى بالفتوحات ، والتى ترتب عليها تكوين إمبراطورية تحكم شعوبا تنتمى الى أهل الكتاب ، وأولئك حين دخلوا فى الاسلام دخلوه بنفس عقائدهم ، أى تقديس البشر ، وخصوصا الأنبياء ، وأصحاب الأنبياء . أى بدأ العرب الصحابة بالكفر السلوكى بالفتوحات ، ثم جاء الكفر العقيدى القلبى بأهل الكتاب وأحفادهم الذين دخلوا فى الاسلام ، وبنفس العقائد المعتادة ، غاية ما هنالك أنهم عبدوا وقدسوا محمدا والصحابة بعد أن كانوا يعبدون ويقدسون المسيح وأصحابه، أى بعد أن كانوا ( مسيحيين ) أصبحوا ( محمديين).! . 

وهنا يأتى الإعجاز القرآنى الذى حذّر مقدما من ذلك . فقال جل وعلا : ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79) آل عمران ). أى لا يصح ولا يُعقل أن يدعو أى نبى الناس الى تقديسه وعبادته . وأيضا لا يمكن أن يدعو رب العزة الناس الى تقديس الملائكة والنبيين ، فهذا كفر : ( وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) آل عمران ). فكل النبيين قد أخذ الله جل وعلا عليهم العهد والميثاق ـ وهم فى عالم البرزخ قبل مجيئهم للحياة الدنيا ـ بالتمسك بأنه لا اله إلا الله ، وقد أقرّوا على ذلك وشهدوا ، يقول جل وعلا : ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (82) آل عمران ). أى هى شهادة لا اله إلا الله ، أو التشهد المذكور فى قوله جل وعلا : ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ  )(19) آل عمران ).

ويقول جل وعلا عمّن يبتغى غير الاسلام دينا : ( أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) آل عمران ) . ثم فى الآية التالية يقول رب العزة يأمر خاتم النبيين عليهم السلام بأن يقول  : ( قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)آل عمران ) وبالتالى فإن من يبتغى غير الاسلام دينا فلن يقبله الله جل وعلا منه يوم القيامة : ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ (85) آل عمران ). هذا هو السياق الذى جاء فيه الأمر لخاتم المرسلين بأن يقول : ( قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)آل عمران ).

3 ـ وحتى يشمل الأمر عموم المؤمنين قال جل وعلا : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) البقرة ). فالايمان هو بالله جل وعلا وملائكته ورسله ، والتحذير هو من التفريق بين الله ورسله ، أى عدم رفع واحد منهم فوق الآخرين تمسكا بالايمان بالرسالات السماوية كلها . وأن يبادر المؤمن بالطاعة فيقول ( سمعنا وأطعنا ) ويطلب الغفران من رب العزة ، والذى اليه المصير يوم القيامة .

وهذا بالضبط ما يرفضه المحمديون . لا يستطيع أحدهم أن يقول ( لا اله إلا الله ) فقط . لا بد أن يبادر بالتكملة حسبما إعتاد ليرفع محمدا عليه السلام الى جوار ر ب العزة ، وفوق بقية الرسل ، يفرّق بينهم ويميّزه عليهم . فإذا نصحته إنطلق سبّ ويلعن ويكفّر . أى لا يفعل مثل المؤمنين الذين يقولون ( سمعنا وأطعنا ) بل يقول لسان حاله : سمعنا وعصينا .

4 ـ ويستتبع التفريق بين الله جل وعلا ورسله وتقديس رسول ورفعه فوق مستوى الرسل أن يضاف لدائرة التقديس بشر آخرون من الصحابة والأئمة والأولياء ، وأن يقع الاختلاف والشقاق عقيديا ، بالتفرّق فى الدين ، عصيانا لقوله جل وعلا : (  وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) الأنعام ) (وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)  ) الروم ) .

ولأن هذا التفريق بين الرسل ، أو بين الله ورسله هم أساس الكفر فإن الله جل وعلا يقسم الناس الى قسمين طبقا لهذا الموضوع : كفرة حقيقيون ومؤمنون ، يقول جل وعلا عن الكفرة : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (150) أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً (151) النساء ) وفى الآية التالية يقول عن المؤمنين الحقيقيين :(  وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) ( النساء ). ولهذا ـ أيضا ـ أمر رب العزة خاتم النبيين أن يعلن أنه ليس متميزا على من سبقه ، وأنه ليس بدعا من الرسل ، وأنه لا يعلم الغيب ، وأنه مجرد متّبع للوحى وأنه مجرد نذير مبين  : ( قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) ( الأحقاف ).

5 ـ وبهذا يتبيّن عظمة الإعجاز القرآنى الذى حذر مقدما المسلمين من أن يكونوا ( محمديين )، فأصبحوا ( محمديين ) وعلويين وسنيين وصوفيين ، والقرآن معهم شاهد عليهم . لذا تحول شقاقهم العقيدى الى حروب أهلية مذهبية مستمرة من بداية عصور الخلفاء ( الراشدين ) الى عصر الإخوان والسلفيين الوهابيين .!

وهذه المذابح والحروب الأهلية بين المسلمين اليوم لم تعد تفزعهم ..ولكن الذى يفزعهم أن تعظهم بأن يقولوا شهادة الاسلام التوحيدية الواحدة ( لا إله إلا الله فقط ) وتنهاهم عن جعلها مثناة أى إضافة محمد لها مع الله جل وعلا . يزعجهم أن تعتبر القبر المنسوب للنبى وثنا ورجسا من عمل الشيطان . يزعجهم أن تصلى بالتشهد (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) آل عمران  ) دون التحيات المفتراة . يزعجهم أن تؤكد لهم أن جسد النبى قد تحول الى تراب منذ 14 قرنا ، وأنه مات كما مات أصحابه وكما مات أعداؤه بلا فرق . يزعجهم أن تدعو للحق القرآنى الذى كان محمد عليه السلام يدعو اليه . لكن لا يزعجهم حمامات الدم التى يغرقون فيها من موقعة الجمل وصفين وكربلاء والنهروان ودير الجماجم ..وحتى الآن .!!

الحادى عشر :

( وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (105)  يونس )، ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا )(30) الروم )

ما هو وجه الإعجاز فى إختيار (أَقِمْ وَجْهَكَ  ) ؟. نعطى هنا التفاصيل :

بين إقامة الوجه لله جل وعلا فى الاسلام ذى الاتجاه الواحد المستقيم وتفرق الاتجاهات فى الأديان الأرضية

1 ـ أصحاب الديانات الأرضية من المحمديين والمسيحيين وغيرهم تتعدد لديهم الأديان والمذاهب والطوائف والملل والنّحل والسّبل والآلهة والأسفار المقدسة والأئمة والأولياء وأصحاب القداسة والفضيلة وروح الله وحزب الله ..الخ، كما تتعدد عندهم الأماكن المقدسة من ( المدينة المنورة ) والفاتيكان و( قم ) و ( كربلاء ) و ( القدس ) والنجف وطنطا  ..البوصلة الدينية لديهم ترتعش فى كل إتجاه ، وكل منهم يولى وجهه فى إتجاهات متعارضة ومختلفة ، يسير أحدهم ليس منتصب القامة بل ووجهه فى الأرض حيث يأمره دينه الأرضى بتقديس البشر والحجر، يسعى للحج الى مختلف القبور المقدسة المصنوعة من مواد الأرض ، والى أصحاب القداسة فى الشرق والغرب والشمال والجنوب المخلوقين من تراب وطين الأرض . ينطبق عليه قوله جل وعلا فى المقارنة بينه وبين من يولى وجهه لله جل وعلا حنيفا  :( أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)( الملك )  

2 ـ إقامة الوجه لله جل وعلا يعنى التمسك بالصراط المستقيم ، أى أن يكون وجه الانسان وتوجهه للرحمن وحده . أى إن يسلم المؤمن وجهه لله جل وعلا وحده . وهذا يعنى دين الاسلام فى قوله جل وعلا : ( وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (22) لقمان ) .. والطريق المستقيم أو الصراط المستقيم هو واحد لا يقبل التعدد ، وهو مباشر، وهو بلا واسطة بين المؤمن وربه جل وعلا ، لذا يأتى النّص عليه فى الفاتحة التى جاءت فى الرسالات السماوية : ( إهدنا الصراط المستقيم ) ، وهو صراط المهتدين الذين ليسوا ضالين وليسوا مغضوبا عليهم . وهم الأتباع المخلصون للحق من الأنبياء والرسل والمؤمنين المتقين . ولا مجال هنا للإختلاف والتفرق ، فالاله واحد والرب واحد بلا شريك . وإقامة الوجه لله جل وعلا وحده هو الفطرة النقية وهو الدين القيّم : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) الروم )( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ  ) الروم )

3 ـ والقرآن الكريم هو الوثيقة الالهية التى تعبر عن هذا الصراط المستقيم ، يقول جل وعلا عنه: (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) ( الأنعام )، وكانت الوصية العاشرة من الوصايا العشر هى التمسك بالقرآن وعدم إتّباع غيره : (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)( الأنعام ). والقرآن الكريم هو الذى حفظ ملة ابراهيم التى تعنى : ( وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (105)  يونس )، ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا )(30) الروم ).

ونبدأ القصة من بدايتها :

1 ـ مذ كان فتى فكّر ابراهيم فيما يعبد قومه من كواكب ونجوم ، وانتهى بكفره بها وأن يعبد الله جل وعلا وحده : ( فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (79) الانعام ).أى أعلن لقومه أنه قد ( وجّه وجهه ) حنيفا مخلصا للذى فطر السماوات والأرض ، ولن يكون مشركا . ودخل فى جدل مع قومه : (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80)( الأنعام ). وحتى يقنعهم فقد قام يتدمير أصنامهم إلا واحدا . كان وقتها فتى صغيرا ، وهذا ما نفهمه من القرآن الكريم وهو يحكى هذه الواقعة : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) الأنبياء ) أى أوتى الرشد من قبل ، وبعد أن دمّر أصنام قومه تساءلوا ، وعرفوا أن الفاعل ( فتى يُقال له ابراهيم ) : ( قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) الأنبياء ). وحاولوا إحراقه ، وهاجر وكافح ، وارتبطت به ( ملة ابراهيم ) حيث أصبح له ولدان من الأنبياء ، وذرية من العرب وأهل الكتاب الذين توارثوا ( ملة ابراهيم ) وحرّفوها ، وبعد أن كانت إقامة الوجه لله جل وعلا وحده تعددت الآلهة وتعدد معها الشقاق والاختلاف.هكذا كان حال العرب (الأميين ) و (اهل الكتاب ).

2ـ ونزل القرآن الرسالة الخاتمة يدعو أهل الكتاب لإتباع ملة ابراهيم حنيفا ، ويصحّح لهم عقائدهم ويردّ على مزاعمهم ، قال لهم جل وعلا:( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (67) آل عمران ) وقال يردّ عليهم : ( وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)البقرة ) ،( وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (135) البقرة )  وقال لهم :( قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (95)( آل عمران ) . وقال جلّ وعلا للناس جميعا عن الاسلام ملة ابراهيم :( وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125)( النساء ).

كان الضلال شديدا وقتها فى أهل الكتاب ، ولكنه كان على أشده فى العرب من ذرية اسماعيل بن ابراهيم الذين لم يأتهم نذير من قبل ، لذا كان لقبهم ( الأميين ) مقابل بنى عمهم ( أهل الكتاب ) . وقد تزعمت قريش هذا الضلال ، وتاجرت بالبيت الحرام وكدّست فيه الأصنام ، وتوالت أجيال تعبد هذا الإفك ، وكان منهم الفتى (  محمد بن عبد الله ) الذى صار خاتم المُرسلين .

3 ـ وقد تكرر وصف ابراهيم عليه السلام بأنه ما وقع فى الشرك طيلة حياته،وصفه رب العزة بأنه :( وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ) فى سور البقرة (135)،آل عمران (67) ،(95) والأنعام (161) والنحل (123) . هذا بينما نفهم من القرآن الكريم أن محمدا ظل يعبد الأصنام حتى جاءه النهى عندما أختير رسولا ، وأمره ربه أن يعلن هذا عندما حاول قومه إرجاعه الى عبادة الأصنام : ( قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِي الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) غافر)( قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ (56) الانعام ) . وإمتنّ ربه جل وعلا عليه أن وجده ضالا فهداه :( وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى (7) الضحى  ). ومع هذا تتابع الوحى له يأمره بإخلاص الدين لله جل وعلا :( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) الزمر). وإنزعج قومه من تركه عبادة أوثانهم ، فأمره الله جل وعلا أن يعلن لهم :( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ)(15) الزمر). كانوا يضغطون عليه بإلحاح أن يعود الى عبادة الأصنام ، فأمره ربه جل وعلا أن يقول لهم :( قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) الزمر) وحذّره ربه جل وعلا من الوقوع فى الشرك ، لأنه لو مات مشركا فسيحبط الله جل وعلا عمله وسيكون من الخاسرين:( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ (65) بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ (66) الزمر ). وتتابعت الآيات تأمره وتنهاه :( وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) القصص ). وكان منها الأمر بصيغة جديدة هى إقامة الوجه لله جل وعلا حنيفا : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنْ الظَّالِمِينَ (106) يونس ).

4 ـ وإقامة الوجه لله جل وعلا حنيفا يعنى الأمر بإتباع ملة ابراهيم .!  

وتوالت الأوامر لخاتم النبيين بإتباع ملة ابراهيم .يقول جل وعلا فى مدح ابراهيم عليه السلام :( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ (122) النحل )، ثم يقول جل وعلا  لخاتم النبيين :( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (123)(النحل ).

وأطاع خاتم النبيين عليه وعليهم السلام . وتوجه بالدعوة لآهل الكتاب يدعوهم الى إتباع ملة ابراهيم ، وحدث جدال بينه وبينهم ، وقال رب العزة له:( فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)  آل عمران ). وبهذه الطاعة إستحق محمد عليه السلام أن يكون أولى الناس بابراهيم، وهذه شهادة من الله جل وعلا له، إذ أكد رب العزة أن أولى الناس بابراهيم ليس عُصاة ( أهل الكتاب ) بل خاتم الأنبياء وأهل القرآن:( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)آل عمران ).

5 ـ وعن معنى ( إقامة الوجه لله جل وعلا ) ومعنى الاسلام الحقيقى ، أمر الله جل وعلا خاتم النبيين أن يقول :( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ )(164)( الانعام ). أى أن تكون حياتك وموتك وصلاتك وعبادتك لله جل وعلا وحده . إذا نجحت فى هذا فستكون أول المسلمين . هذا يعنى أن تعطى الصدقة ولا تنتظر من الناس شكرا ، لأنك توجّه وجهك لله جل وعلا وحده تطلب الأجر،  وهذه هى ملة ابراهيم فى إخلاص العبادات :  ( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً (9) الانسان  )،( وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ) (272) البقرة )، ومن صفات المؤمنين الصابرين أنهم يصبرون إبتغاء وجه ربهم : (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) الرعد ) . وبإيجاز يقول جل وعلا : (  قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (29) الاعراف  ) .

أخيرا

لو كان ( محمد بن عبد الله ) هو الذى ( ألّف و كتب القرآن ) فمن المستحيل أن يخترع هذا الاسلوب ( إقامة الوجه لله ) فهذا التعبير كان خارج ثقافة عصره ، وكان مستحيلا أيضا أن يواجه أهل الكتاب بهذا العلم وهو النبى ( الأمّى ) ، وكان مستحيلا  أن يكتب عن نفسه أنه كان يعبد الأصنام ، ثم جاءه النهى عن ذلك ، وكان مستحيلا أن يذكر كل اللوم والتأنيب الذى نزل بشأنه فى القرآن الكريم .

إن القرآن الكريم هو كتاب رب العالمين ، نزل على خاتم المرسلين للناس :( إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)( الزمر ) . نزل القرآن الكريم رحمة للعالمين ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)الأنبياء) فجعله ( المحمديون ) أعداء النبى محمد إرهابا للعالمين .!

الثانى عشر : غفران الشّرك أو عدم غفرانه :

( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) ( إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ):

1 ـ يبدو فى النظرة السطحية نوع من التناقض فى آيات تؤكد عدم غفران جريمة الشرك بالله جل وعلا ، وآية  تفيد الغفران .

الآيات الكريمة التى تؤكد عدم الغفران هى : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً (48) النساء )، (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) النساء )، (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72) المائدة  ) ، ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ (65) الزمر ).

والآية التى تفيد الغفران هى : ( قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) الزمر ) .

فهل يوجد فعلا ذلك التناقض بين الآيات المتشابهات ؟

نصل الى الاجابة بالبحث الموضوعى فى كل الآيات فى سياقها الخاص وفى السياق العام :

2 ـ الفيصل هنا هو التوبة . فالذى يتوب توبة نصوحا فى الدنيا وقبل الموت يغفر الله جل وعلا له .  وموعد الغفران للذنوب هو يوم الدين وليس الآن : ( وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)(الشعراء )( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) ابراهيم ).

وهذا هو المستفاد من قوله جل وعلا : ( قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) الزمر ) فالآيات بعدها فى السياق الخاص تتحدث عن التوبة المخلصة الصادقة فى الدنيا لمن أسرف على نفسه : ( وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55)( الزمر ).

وفى السياق العام فى كل الآيات التى تخص الموضوع ، يقول جل وعلا عن الشرك والقتل والزنا ؛ أكبر الكبائر التى يتنزّه عنها عباد الرحمن : ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) الفرقان ). ثم يقول جل وعلا فى الآية التالية عن عذابهم يوم القيامة : ( يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) الفرقان ) ويستثنى منهم من تاب فى الدنيا توبة مقبولة : ( إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً (71) الفرقان ). بالتوبة المقبولة يكون الغفران يوم الحساب ، فالتائب الحقيقى هو كما يقول جل وعلا: ( مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً ) ، أى قام بتصحيح إيمانه وإلتزم العمل الصالح عوضا عن عصيانه السابق ، وبالايمان والعمل يتم تبديل أعماله السيئة لتكون أعمالا صالحة يصلح بها لدخول الجنة ، أو بالتعبير القرآنى :( إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) .

وهذا معنى الغفران الذى سيحدث يوم القيامة ، ففى يوم البعث يخرج الناس كجراد منتشر يحملون ذنوبهم يرونها رأى العين مهما بلغ صغرها وضآلتها  : (  يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه (8) الزلزلة ) . ثم يأتى الغفران أو التغطية لمن سبق له التوبة فى الدنيا وقبل الله جل وعلا توبته. وكلمة ( غفر ) و ( كفر ) بمعنى ( غطّى ) .  ومنه تكفير الذنوب وغفران الذنوب .

3 ـ وقلنا إن الشرك والكفر نوعان : ( قلبى عقيدى  ) :عملى بتقديس البشر ( كتقديس قبر النبى محمد والصحابة ) ، وشرك علمى بتقديس الكتب ( مثل كتاب البخارى ). ثم هناك الكفر السلوكى بالقتال المعتدى الآثم الذى يستعمل إسم الله جل وعلا ، أو الحرب الدينية كالجهاد السلفى الوهابى ، ومنه ما فعلته قريش فى الحرب العدوانية ضد المؤمنين . وفيه أيضا فرصة للتوبة . فقد أعطاهم رب العزة فرصة للتوبة بأن يكفّوا عن الاعتداء ، ووعدهم بالغفران لما سبق :( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ )(38)الأنفال) ، وكان هذا بعد موقعة بدر . أى إن إنتهوا عن الاعتداء غفر الله جل وعلا لهم .

وبعد فتح مكة سلميا ، وعقد معاهدة سلمية قام بعض أئمة الكفر بنقض العهد بالاعتداء على المؤمنين فى الحرم وانتهاك حُرمته ، فنزلت فيهم سورة ( التوبة ) بالبراءة منهم ، وإعطائهم مهلة الأشهر الحرم كى يتوبوا ويكفوا عن الاعتداء ، فإذا لم يتوبوا فيجب على المؤمنين حربهم بلا هوادة :( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) ، أما إن تابوا فيجب على المؤمنين غفران ما سلف منهم واعتبارهم أخوة :( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) التوبة ).

4 ـ أى أن التوبة الظاهرية تغفر الذنب فى الدنيا وتمنع العقوبة فى الدنيا ، ومنها العقوبات الشرعية فى جرائم الزنا والقذف والسرقة والشذوذ وقطع الطريق ( المائدة ـ 34  ، ـ 39  . النور ـ 5 ،  النساء 16 ) والتوبة القلبية الحقيقية المخلصة يتم بها الغفران فى الاخرة خصوصا لو كانت فى وقت مبكر ، قال جل وعلا : ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) . أما العاصى الفاسق أو المشرك الذى يتذكر التوبة عند الاحتضار فلا تنفعه التوبة ، ولا يمكن أن يغفر الله جل وعلا له ( وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (18) ( النساء ).

5 ـ أى إن المشرك إذا تاب فى الدنيا وأسرف فى الكبائر ثم تاب وأناب غفر الله جل وعلا له ، وهى دعوة من الله جل وعلا لكل العصاة والمشركين الكفار فى هذه الدنيا ليتوبوا ، وهذا معنى قول الله جل وعلا  : ( قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55)( الزمر ).

 أما إذا ماتوا وهم على كفرهم وشركهم وظلمهم فلن يغفر الله جل وعلا لهم يوم القيامة . وهذا معنى قوله جل وعلا : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً (48) النساء )، (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) النساء )، (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72) المائدة  ) ، ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ (65) الزمر ).

6 ـ الموت ايضا هام أيضا هنا ؛ فالذى يظل سادرا فى كفره الى أن يموت على كفره وظلمه تحلّ به اللعنة فى الآخرة ، يقول جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ (162) البقرة ) ، والذى يظل سادرا فى كفره الى أن يموت على كفره وظلمه سيحلّ به فى الآخرة عذاب شديد يتمنى معه أن يفتدى نفسه بكنوز الأرض لو كان يملكها : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوْ افْتَدَى بِهِ ) (91) آل عمران ). وهناك من المنافقين فى المدينة من مات على كفره ، وأخبر بحاله رب العزّة فى القرآن ومنع النبى محمدا عليه السلام من الصلاة عليه : ( وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) التوبة ).

7 ـ والعادة أن الذى يدمن الكفر ويتمسك به فلا فائدة من هدايته ، وكان النبى محمد عليه السلام يحزن بسبب تصميم هذا الصنف على الكفر فقال له ربه جل وعلا : ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) فاطر ) .

هذا الصنف الذى ( طُبع على قلبه ) وأصبح مريضا بالكفر يزداد بالأيام كفرا ، ويموت بهذا الكفر بلا توبة . وعن مقارنة المؤمن الذى يزداد بالقرآن إيمانا بالكافر الذى يزداد رجسا الى أن يموت بكفره يقول جل وعلا : (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) التوبة ). ولهذا يهتم المؤمن بأن يظل مؤمنا حتى موته ، أى يتوفاه الله جل وعلا على الاسلام ، وهذه هى دعوة يوسف عليه السلام :( تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) يوسف ) ،ودعوة المؤمنين : ( رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) الاعراف ) ،( رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ (193) آل عمران ).

8 ـ وعند الموت تختلف المواقف مع ملائكة الموت ، فهى تبشر من يموت كافرا بجهنم : ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوْا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) النحل ) وتبشر من يموت مؤمنا بالجنة ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (32) النحل ) .

9 ـ ولكن ما هى فائدة أن يقول جل وعلا للناس : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً (48) النساء )، (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) النساء )، (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72) المائدة  ) ؟ ؟

إن القرآن هو الرسالة الخاتمة للبشر من عهد النبى محمد والى قيام الساعة . وهو فى كل وقت يخاطب الأحياء الذين منحهم الله جل وعلا الحرية المطلقة فى الايمان أو الكفر ، فى الطاعة أو المعصية . الله جل وعلا يخاطبهم بالقرآن يعظهم ويحذّرهم وهم أحياء لديهم فرصة التوبة والصلاح قبل أن يأتى الموت . يحذرهم من الشرك الذى لو ماتوا به فلن يغفره الله لهم . وفى نفس الوقت يدعوهم الى التوبة والصلاح وهم أحياء ، والله جل وعلا يغفر الذنوب جميعا لمن تاب وأناب . فى عصرنا ـ ونحن الآن أحياء ـ يخاطبنا رب العزة يحذرنا نت تقديس البشر والحجر ، وعبادة ( محمد والصحابة والأولياء والأئمة ) وتقديس كتب البخارى وغيره . وسنموت ، ومنّا من ظلّ مشركا حتى لحظة الاحتضار فيصرخ بلا فائدة يطلب فرصة أخرى ليتوب ويصلح أعماله ، ولكن بلا فائدة : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)( المؤمنون ) . ومنّا من أسلم لله جلّ وعلا وجهه حنيفا بنفس ما كان الأنبياء وخاتم النبيين يفعلون عليهم السلام ، وعند الموت ينطبق عليهم قوله جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) فصلت )

الثالث عشر :

ومن هنا نفهم الاعجاز فى إختيار اللفظ فى قوله جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) الانفال )

كان السياق يقتضى أن يقال ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ( ثم هم ) إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ  ). ولكن من الإعجاز فى إختيار اللفظ أن يقول جل وعلا ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) لماذا ؟

الآية الكريمة تتحدث عن الكفر السلوكى ، أى بالاعتداء الآثم لاكراه المؤمنين فى دينهم ، وهذا ما كانت قريش تفعله ، وهى تطارد المؤمنين بالحروب الاعتدائية حتى يردوهم عن الاسلام ويرجعوهم للكفر ، يقول جل وعلا : (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)   البقرة ). وفى هذه الحرب كانوا ينفقون أموالهم ليصدواعن سبيل ، وكانت نتيجتها حسرة عليهم . وعرض عليهم رب العزة أن يكفّوا عن الاعتداء ليغفر لهم :( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ) (38) الأنفال ) ، ومنهم من مات على كفره ، ومنهم من ظل حيا وأسلم وحسُن إسلامه . وبالتالى فلو قال رب العزة :  ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ( ثم هم ) إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ  ) لأصبح المعنى أن جميع من كان ينفق أمواله فى الصّد عن سبيل الله سيُحشرُ الى جهنم حتى لو تاب وأناب . وهذا يتعارض مع القرآن الكريم ، ودعوته للتوبة . لذا قال جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) الانفال ) ليجعل جهنم مصير من يموت منهم على كفره بلا توبة .

الرابع عشر :

ومن الإعجاز فى إختيار اللفظ  قوله جل وعلا : ( زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )  (212) البقرة )

 كان السياق يقتضى أن يقال :( زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ ( آمنوا ) فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )(212). لم يقل ( الذين آمنوا ) ولكن قال (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) . لماذا ؟ لأن مجرد الايمان لا يكفى لدخول الجنة وأن يكون فى ( عليين ) ، بل لا بد أن يكون إيمانا مخلصا الدين لله جل وعلا ، ولا بد أن يصحبه عمل صالح . أى لا بد أن يكون (تقوى) يعلو بها المتقون فى الجنة على الكافرين . والجنة لا يدخلها إلا المتقون . (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً (63)،( يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً (86)( مريم ) ، (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً )(71) ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً  (73)  الزمر ). لهذا جاء (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا ) فى مقابل الذين كفروا يوم القيامة ، حيث سيكون المتقون فى عليين فوق الذين كفروا.

ونقرأ هذه الآيات الكريمة التى توضّح الموضوع وتفصّله : (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) المطففين ) .

ودائما : صدق الله العظيم .!!

خامس عشر :

( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ ) (  فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ )

لو كان الوارث سفيها لا يُحسن التصرف فى التركة ، يقول جل وعلا فى شأنه يخاطب المجتمع فى الحجر عليه مع رعايته والانفاق عليه :( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) ثم يقول جل وعلا عن تعيين وصى على اليتيم  الوارث : ( وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) ( النساء ).  

ما هو وجه الاعجاز فى (( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ )( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ )؟

1 ـ نبدأ بالتوقف مع قوله جل وعلا (  وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً ) وهو يؤكد أن الثروة هى ملك للمجتمع . وهذا ما غفل عنه أئمة الشرع السّنى ، وكل ما ركزوا عليه هو التعامل مع اليتيم الوارث إذا كان سفيها، وحينئذ يحكم بالحجر عليه.. وهو ما يزال معمولا به حتي الآن في القانون . ولم يفهم فقهاء العصور الوسطي الحكم الشرعي السياسي  في الآية ، وحتى لو فهم بعضهم فلم يكن ليجرؤ علي التصريح  بهذا، حيث كانوا يعيشون في ظل خليفة يعتقد أنه يملك الأرض ومن عليها، وأنه يمتلك ثروة المجتمع يمنح منها ويمنع . وهذا ما تطفح به سيرة الخلفاء الأمويين والعباسيين والفاطميين والعثمانيين ، تلك السيرة غير العطرة التي تداعب أحلام الدعاة لإقامة الدولة الدينية في عصرنا البائس.

إن الآية الكريمة تؤكد في صراحة أن الشعب هو الذي يملك ثروته ، وقد فوض الله الشعب ـ أو الأمةـ القيام على تلك الثروة ورعايتها ، وللفرد حق تملك هذه الثروة بالوراثة إذا أحسن القيام على تنمية الثروة ،  فإذا كان سفيها لا يحسن القيام على ثروته التي ورثها فإن المجتمع هو الذي يحجر عليه ويستثمر هذه الثروة لصالحه في مقابل أن يعطيه كفايته من ريع هذه الثروة.

والمعني السياسي للآية أن الشعب هو الحارس علي ثروته وموارده التي خول الله له القيام عليها وتنميتها ، ومن واجب هذا الشعب ألا يسمح لحاكم بأن يسيء استغلال هذه الثروة حسب هواه ومطامعه، فإذا كان ممنوعا علي الفرد أن يسيء استغلال ما ورثه  أو أن يكون سفيها في إنفاقها وإدارتها، فمن الأولي يكون ممنوعا علي فرد واحد أن ينفرد باستغلال ثروة الأمة أو أن يتصرف فيها في سفاهة.. عندها يكون هذا المجتمع قد خالف أمر الله تعالي حين أعطي السفهاء أموال الأمة التي أوكلها الله لذلك المجتمع.

وتجارب التاريخ تثبت أن الظلم في ممارسة السلطة واحتكار الثروة يؤدي إلي اشتعال الثورة وسفك الدماء، والأمثلة كثيرة من قتل عثمان إلي ثورات الخوارج والزنج والقرامطة إلي ثورات العصر الحديث في الثورات الفرنسية والشيوعية والانتفاضات الشعبية العربية من أجل الخبز.

وتأمل حال المسلمين فى السعودية وليبيا القذافى وعراق صدام وعرب الخليج وغيرهم من الشعوب التى تسلّم ثروتها للسفهاء ، وفى النهاية ضاعت مئات البلايين التى هربها القذافى ومبارك و بن على ، وأضاع صدام البلايين فى حروب عبثية دمّر بها بلده وبلادا أخرى ، وستضيع أيضا بلايين آل سعود وغيرهم . والآن يدفع هؤلاء السفهاء أموال شعوبهم للغرب ليشتروا بها اسلحة يقومون بتخزينها لتصدأ ، وحين يتم إستعمالها تكون للقتال فيما بينهم فقط !.. هل هناك سفاهة أكثر من هذا ؟ وهل يقع اللوم على الحاكم المستبد السفيه وحده أم على الشعب الخانع للسفيه ، والذى يرى الحاكم المتغطرس يركع للغرب يكتنز فى بنوك الغرب الثروة التى ينهبها ، ويضع مصيره فى يد أسياده فى الغرب ، ويستجدى منه البقاء فوق ظهر الشعب ؟ ألا يستحق هذا الشعب الخانع كل ما يجرى له ؟ .

ومن هنا لابد من الرجوع إلي المبدأ الأصلي فى الشريعة الاسلامية القرآنية الحقيقية فى الدولة الاسلامية الحقيقية بشعبها القوى الذى لا يركع ولا يخضع إلا لله جل وعلا وحده. وهذا المبدأ الأصلى المقصود هنا معمول به فى الغرب ، وهو ملكية الأمة لثروتها وقيام البرلمان بالحفاظ على هذه الموارد ومحاسبة الحكومة علي إدارتها علي أساس العدل والنزاهة والشفافية والمحاسبة ، بحيث يحاسب ممثلو الشعب المسئولين ، وينال كل مجتهد نصيبه في سعيه لتنمية ثروته بالجهد وبالعرق الشريف ، وينال كل عاجز حقه من الرعاية ، وأن يتم التوازن بين العدل والحرية بعيدا عن أحلام الطامعين في استرجاع حكم الخلفاء الجائرين .

2 ـ أما وجه الإعجاز فى الايتين فيتضح فى قوله جل وعلا : ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ ) ،( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ). فالثروة التى يرثها السفيه هى ملك للمجتمع ، قال عنها جل وعلا (أَمْوَالَكُمْ  ) طالما لا يُحسن القيام عليها وتنميتها ، ويجب على المجتمع أن يقوم برعايتها وتنميتها:(الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً ). أما إذا تبيّن بإختبار اليتيم حين يبلغ الرشد أنه يُحسن التصرف فى ميراثه ، حينئذ يكون المال ماله : ( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ).

سادس عشر :

(وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا ) ، ( فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ  )

قلنا إنّه لو كان الوارث سفيها لا يُحسن التصرف فى التركة ، يقول جل وعلا فى شأنه يخاطب المجتمع فى الحجر عليه مع رعايته والانفاق عليه :( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) النساء ) . قال جل وعلا : (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا )، ونقارن هذا بقوله جل وعلا فى نفس السورة : (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8). ، حيث قال جل وعلا : (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ  )، وهذا عند حضور الأقارب من غير الورثة واليتامى والمساكين توزيع التركة ، والأمر بإعطائهم رزقا منها.  

فماهو الاعجاز فى إختيار اللفظ هنا ؟

1ـ ونرجع للآيتين :( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) ( النساء )، (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) ( النساء )، لنرى ما بينهما من إتفاق وإختلاف :

يلاحظ هنا إتفاق الآيتين فى أن الموضوع يخص التصرف فى التركة أو الميراث ، وفى إعطاء الوارث السفيه/ والأقارب غير الورثة واليتامى والمساكين قدرا من الميراث ، وأن يقال له / ولهم قولا معروفا .

أمّا الاختلاف فهو مفهوم ضمنيا فى حضور للوارث السفيه ، وأنه حتى لو لم يحضر فإن الحكم يصدر بحقه فى الانفاق عليه ورعايته وكسوته مع أن يقال له قول معروف . أما الآخرون من غير الورثة  فالحكم لهم معلق ومقيد بحضورهم توزيع التركة فقط : (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ  ) فإن لم يحضروا فلا شىء لهم .

الاختلاف الصريح فى قوله جل وعلا عن السفهاء الورثة : (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ) وقوله جل وعلا عن أولى القربى واليتامى والمساكين من غير الورثة : (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ ). فى حالة السفهاء الورثة يكون رزقهم ( فى ) الميراث ، أى فى ريع التركة ، أى يستمر حصولهم على الريع مع الكسوة والرعاية ، بأن يقوم الوصى باستغلال وتنمية التركة لصالح الوريث السفيه ، ويأخذ السفيه رزقا من هذا الريع وكسوة وليس من أصل التركة . وهنا يأتى العطف بالواو : ( وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ) . أما فى حالة الذين يحضرون القسمة فهم يأخذون ( من الميراث ) أى من ( أصل الميراث ) وقت توزيعه شيئا ، ويتم هذا مرة واحدة ، وبسرعة ، لذا جاء إستعمال ( الفاء ) : (  فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) .

 سابع عشر

( وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (94) التوبة )

( وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) التوبة )

فى الايتين الكريمتين إتفاق وأختلاف فى الكلمات ، يمكن ان نلاحظه بسهوله . ولكن السياق يوضح إختلاف المعنى وروعة الإعجاز فى إختيار اللفظ هنا .

ألاية رقم 94 من سورة التوبة جاءت فى سياق حديث طويل عن المنافقين الذين رفضوا الخروج مع النبى والمؤمنين فى موقعة ذات العُسرة وتعللوا بأعذار شتى ، فى نفس الوقت الذى حرص فيه الضعاف والفقراء على التطوع بالخروج ، وفى نفس الوقت الذى سارع فيه القادرون من المؤمنين على الخروج مع النبى والجهاد معه بأنفسهم وأموالهم . وهذا هو ما تخبرنا به الآيات التالية : ( فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ (92) )

بعدها يقول جل وعلا عن الأغنياء المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج مع إستطاعتهم ، ثم بعدها جاءوا يعتذرون : ( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (94) )

أى إن الحديث هنا فى إطار التانيب لهم وعدم قبول إعتذارهم وعدم الايمان لهم ( أى عدم الثقة بهم ) ، وقد أنزل الله جل وعلا الوحى فاخبر بما قالوه وعملوه ، وهذه إشارة الى  قوله جل وعلا : (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ  )، وبالتالى فليعملوا ما شاءوا ، وسيرى الله جل وعلا ورسوله عملهم ، ثم سيكون مآلهم الى الله جل وعلا يوم القيامة فينبئهم بحقيقة أعمالهم .  لم يقل هنا جل وعلا : ( وسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) لأن الآية بعدها أمرت المؤمنين بالإعراض عنهم إحتقارا : ( سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)التوبة ). ولم يقل لهم جل وعلا ( إعملوا ) إحتقارا لشأنهم ، فهم الذين رضوا لأنفسهم أن يكونوا مع الخوالف من النساء والعجائز والأطفال ، وهذا عار على من يتثاقل من  القادرين عن القتال والجهاد الدفاعى .

أما الآية 105 من نفس السورة ، فقد جاء فيها كلمة ( إعملوا ) وكلمة ( المؤمنون ) الذين سيرون العمل : (وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) التوبة ). لماذا ؟ لأنها تتحدث عن مؤمنين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، وجاءوا للنبى عليه السلام يعترفون بذنوبهم تائبين ، فكان المطلوب منهم (عمل الصالحات ) ومنها التبرع بالصدقة تطهيرا وتزكية حتى يصلى عليهم النبى يطلب الرحمة لهم تأكيدا لتوبتهم ، والله جل وعلا هو الذى يقبل الصدقات وهو جل وعلا الذى يقبل التوبة وهو الغفور الرحيم ، لذا جاء الأمر لهم بأن يعملوا العمل الصالح ليراه الله جل وعلا ورسوله وإخوانهم المؤمنون ، ثم يوم القيامة سينبئهم الله جل وعلا بما كانوا يعملون . نقرأ الآيات فى سياقها الخاص : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) التوبة ).

ودائما : صدق الله العظيم .!! 

ثامن عشر :

المطر بالأذى والعقاب ، وإنزال الماء رحمة من السماء

يقول جل وعلا عن رخصة القصر فى الصلاة فى الحرب ووقت المطاردة والخوف : ( وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ  ) (102) النساء ) ،  ماء المطر هنا يكون أذى يعيق التحرك ، ويكون هذا الأذى رخصة للجندى المؤمن لكى يتخفّف من أثقاله وسلاحه .  

ولكن كان نزول الماء من السماء خيرا وقت معركة بدر ، حيث كانت الحالة المعنوية للمؤمنين مُنهارة وهم قلة عددية تواجه جيشا قرشيا يفوقها بثلاثة أضعاف ، علاوة على أنها ( قريش ) بجاهها وسطوتها . إستلزم الأمر أن تنزل الملائكة على قلوب المؤمنين البدريين لتطمئنهم وترفع ( روحهم المعنوية ) ليستعدوا للحرب الفاصلة ، خصوصا وقد كانوا فى غاية الرعب والفزع عندما علموا بقدوم جيش قريش ، حتى كانوا يجادلون النبى يريدون تحاشى المعركة ، كانوا كأنما يُساقون الى الموت وهم ينظرون : (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6) ( الأنفال ).

ليلة الاستعداد للمواجهة الحربية كانت فاصلة فى نفوس أهل بدر . إستيقظوا فاكتشفوا أنهم فى حالة ( جنابة ) تستوجب الاغتسال للصلاة . ولم يكونوا على ماء يتيح لهم الاغتسال . هذا الرجس الشيطانى جاء له الحل السريع ، بنزول ماء من السماء ، إستبشر به المؤمنون ، يقول جل وعلا : ( إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ (11)( الأنفال ). 

هنا ماء نزل من السماء ليؤدى دورا هاما فى لحظة مصيرية . لم يقل رب العزة عنه أنه ( مطر ) . بينما قال عن الماء الذى ينزل من السماء ليكون عائقا للمؤمنين فى الحرب إنه ( مطر ) . لماذا ؟ لأن ( المطر ) فى الاصطلاح القرآنى هو للعذاب والعقاب . أما الماء الذى ينزل من السماء رحمة فلا يقال فيه ( مطر ) .

ونتتبع هذا فى السياق العام فى القرآن الكريم :

المطر فى العذاب والعقوبة :

1 ـ قوم لوط هم أشهر من أمطر الله جل وعلا عليهم حجارة من لهب تشبه الانفجار النووى فى مفهومنا . وتكرر فيهم هذا الوصف :( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) ( هود )، (  وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) ( الأعراف )( فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) ( الحجر )( (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ (173)( الشعراء )(  وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ (58) ( النمل ) (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) ( الفرقان )

2 ـ وكفار مكة القرشيون فى تكذيبهم للقرآن دعوا الله جل وعلا أن يمطر عليهم حجارة من السماء إن كان القرآن حقا : ( وإذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) ( الأنفال ).

 

الماء الذى ينزل من السماء رحمة ونماءا وطهورا . 

لم يوصف بأنه ( مطر ) مع أنه تكرر كثيرا فى القرآن الكريم ، وفى سياقات شتى ، منها :

1 ـ  إخراج النبات والثمرات رزقا لنا : ( وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ  ) (99) ( الأنعام ) (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ ) (32) ابراهيم )(وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)( الحجر ) ( أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)( الحج ) (وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) ( المؤمنون ) (أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا ) (27) ( فاطر )

2 ـ أى هو ماء طهور تحيا به الأرض ومن عليها : ( وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً (49)( الفرقان )، ( خَلَقَ السَّمَوَاتِبِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) ( لقمان ). لذا يوصف بأنه ماء( مبارك ) لأن فيه الخير والنماء والرحمة والرزق : ( وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)( ق ).

2 ـ وعن الأمم السابقة يقول جل وعلا : ( وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ   (6) ( الأنعام ). وقال نوح عليه السلام لقومه : ( يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً )(52) هود ).

3 ـ دعوة للتفكر والتعقل : (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)( النحل ).( وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) الروم ). ( أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ (21)الزمر). وهو دعوة للإيمان بأنه لا اله مع الله جل وعلا :( أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)(النمل )، ودعوة للتوبة:(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) غافر ).

4 ـ ثم هو دليل على البعث من القبور ، وهذا موضوع شرحه يطول ، وهو يدخل فى أحد ( علوم القرآن ) التى لم يتعرض لها أحد بعد ، وسنكتب فيها بعونه جل وعلا . ولكن نكتفى بذكر بعض الآيات : (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11)( الزخرف )، ( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)( الاعراف )(وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) ق )

 تاسع عشر

التذييل فى الآيات :. والمقصود بالتذييل هو ختم الآية بما يناسب السياق . هذا موضوع طويل ، نقتصر منه على بعض أمثلة :

1 ـ عن قيام ابراهيم وابنه اسماعيل برفع قواعد البيت يقول جل وعلا :( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) البقرة ) نلاحظ أنه جل وعلا لم يقل ( وإذ يرفع ابراهيم واسماعيل القواعد من البيت ) وهذا هو الاسلوب المتّبع . ولكن جاء تأخير إسماعيل فقال جل وعلا : ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ )، لماذا ؟ ليتفق مع التذييل فى نهاية الآية : ( رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ). فقد تم إختيار إسمين من أسماء الله الحسنى ( السميع العليم ) لأنهما يوافقان ما قبلهما من حيث المعنى ومن حيث اللفظ . من حيث اللفظ فالسميع العليم فيه نفس حروف ( اسماعيل ) الذى جىء به متأخرا ، ومن حيث المعنى فالله جل وعلا السميع العليم هو الذى يسمع الدعاء ويستجيب له وهو الأعلم بحال ابراهيم واسماعيل ومعاناتهما .

وفى تكملة دعاء ابراهيم واسماعيل تقول الآية التالية : (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) هنا يأتى إسمان من أسماء الله الحسنى ( التواب الرحيم ) ليناسب ما قبله من طلب التوبة (وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) .

ونفس الحال فى الآية التالية :( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) ، فقد جىء بإسمين من الأسماء الحسنى ( العزيز الحكيم ) لمناسبة التزكية و تعليم الكتاب والحكمة : (وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ   ).

2 ـ وقد يأتى التذييل بما لا يتفق مع السياق . فيوم القيامة سيسأل الله جل وعلا عيسى عليه السلام عن أولئك الذين ألّهوه وأمّه ، وسيعلن عيسى عليه السلام تبرأه منهم ، وجاء الحديث بالماضى طبقا للمتبع فى القرآن عن أحوال اليوم الآخر . يقول جل وعلا : ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) المائدة ) . الشاهد هنا فى موضوعنا هو الآية التالية ، وهى قول عيسى عليه السلام : ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) . السياق أن يقال : ( إن تعذبهم فانهم عبادك ، وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم ) . لكن التذييل هنا بالغفور الرحيم يعنى تعاطف عيسى معهم ، وهذا لا يناسب تبرأه منهم ، لذا كان التذييل مخالفا للمتوقع فى السياق ، وهو الاتيان بإسمى الله جل وعلا ( العزيز الحكيم ) ، أى إن غفر لهم فبعزّته جل وعلا وبحكمته .!

3 ـ نفس الحال فى دعاء ابراهيم عليه السلام ، وقد بدأه بقوله عن رب العزة جل وعلا : ( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) الشعراء ) . الشاهد هنا هو أنه قال (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) ، والسياق المتوقع أن يقول ( والذى يُمرضنى ويشفين ) . ولكن هذا ليس أدبا فى الدعاء . لذا جاء التعبير بأن ينسب المرض لنفسه وينسب الشفاء لربه جل وعلا ، مع أن هذا وذاك من عند الله جل وعلا .

4 ـ ويقول جل وعلا يخاطب مشركى العرب : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) الحاقة ). تذييل الآيات هنا غاية فى الاحكام . فقد إتهموا النبى بأنه شاعر ، وهم أعرف الناس بالشعر ، وهم الأعرف بإختلاف القرآن عن الشعر والأعرف بأن محمدا الذى عاش بينهم وصحبوه لم يكن شاعرا . وإذن فهذا الاتهام للقرآن بأنه قول شاعر هو كذب واضح وفاضح  يؤكّد أن دافعه هو عدم الايمان الذى يدفع صاحبه للكذب المفضوح ، ولذا جاء التذييل بأنهم قليلا ما يؤمنون (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ )  . هم أيضا إعتادوا إستشارة الكُهّان ، وإعتادوا حفظ أقوالهم وأسجاعهم وتنبؤاتهم ، وهم يتذكرون هذا ويستشهدون به ، ولكنهم لم يتذكروا هذا حين أتهموا القرآن بأنه قول كاهن ، فكان التذييل : (وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ).

العشرون :

الاعجاز فى الصياغة وتركيبة الجملة . وهذا أيضا منوضوع طويل نكتفى بالاشارة اليه  بهذه الأمثلة :

1 ـ يقول جل وعلا عن القرآن الكريم :  (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) البقرة ). روعة الصياغة هنا أن المعنى يتنوع فى نفس إطار التمجيد للقرآن الكريم . فيمكن أن تقرأ (ذَلِكَ الْكِتَابُ ) وتتوقف ، ويكون المعنى بالتعظيم لذلك الكتاب . ويمكن أن تقرأ (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ ) وتتوقف ، ويكون المعنى تمجيدا فى الكتاب أى هذا هو الكتاب بلا ريب . ويمكن أن تقرأ ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) وتتوقف ، وهنا يكون المعنى أن القرآن لا يب فى محتواه ، ثم تقرأ تكملة الآية ( هدى للمتقين ) على أنها وصف للكتاب الذى ( هو هدى للمتقين ) . ولكن يمكن أن تتوقف عند (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ ) ، ثم تقرأ التكملة جملة منفصلة (فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) أى أن محتوى الكتاب فيه هدى للمتقين . وهكذا فى جملة قرآنية من ست كلمات يتنوع المعنى فى إطار المدح والتمجيد . وهنا روعة فى الصياغة فوق مستوى البشر ..!

2 ـ ومثل ذلك قوله جل وعلا : (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) النحل ) . ممكن أن تقرأ (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا ) وتتوقف فقد إكتمل المعنى . ثم تكمل الجملة التالية لتفيد معنى جديدا : (لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ) أى لنا فيها دفء ومنافع ... وممكن أن تقرأ (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ ) أى هى مخلوقة لنا . ثم تأتى الجملة التالية (  فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُون ) بتقرير أن فيها الدفء والمنافع . 3 ـ ونفس الحال فى قوله جل وعلا : ( فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) المؤمنون ).  ونترك تدبرها للقارىء اللبيب .

4 ـ ويقول جل وعلا فى نفس السورة عن كفر العرب بالقرآن : ( قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ (67) المؤمنون )، أى كانوا ينكصون على أعقابهم حين يُتلى عليهم القرآن ، وفى نفس الوقت يتسامرون بالسخرية من القرآن . وهو نفس حال أتباع الديانات الأرضية من مسلمى اليوم . إذا تلوت عليهم القرآن بالوعظ ، أو إذا طلبت منهم قراءة ما نكتب فى إصلاح المسلمين بالقرآن نكصوا على أعقابهم وولّوا مستكبرين ، هذا مع أنهم يعقدون حفلات السمر فى مناسبات الأفراح والتعازى يستمعون الى ( مُنشد ) أو ( مُطرب ) يتغنى لهم بالقرآن .!! وهو نفس الهجر الذى كان يفعله مشركو العرب فى عهد النبى محمد عليه السلام .

يهمنا فى موضوعنا هنا فى روعة الصياغة فى الآتى : اسلوب السخرية فى وصفهم حين ينكصون على أعقابهم مستكبرين رافضين سماع تلاوة القرآن ، بقوله جل وعلا عنهم: ( فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ  )  وخصوصا حين يوصف المستكبر بهذا الوصف الذى يتناقض مع هيبته المزعومة . و التناقض الآخر  بين حالهم حين ينكصون على أعقابهم مستكبرين رافضين سماع تلاوة القرآن وحالهم حين يتسامرون بالسخرية من القرآن . والأروع هو أن كلمة وحيدة تجمع بين الجملتين المتناقضتين ، وهى ( به ) أى بالقرآن . (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ  ) إى إستكبروا بالقرآن وأيضا ( سمروا ) بالقرآن .  

 5 ـ  وقد تأتى كلمتان من أصل واحد وفى موضوع واحد ولكن بمعنيين مختلفين . وهذا أمر عجيب .! يقول جل وعلا عن التسبيح (  وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) ق  ). (أَدْبَارَ ) هنا بفتح الهمزة هى ( جمع ) للمفرد ( دبر ) ، أى بعد السجود ، أى أن تسبح ربك جل وعلا فى الليل وأيضا بعد السجود . ويختلف المعنى فى قوله جل وعلا فى نفس الموضوع : ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49) الطور ) هنا كلمة : (إِدْبَارَ ) بكسر الهمزة هى مصدر من ( أدبر )(أدبر إدبارا ) ، أى تولى وذهب ، وبالتالى فإن (َإِدْبَارَ النُّجُومِ ) يعنى غياب النجوم ، أى مجىء الفجر ، أى أن تسبّح ربك جل وعلا حين تقوم وعندما تغيب النجوم .

ودائما : صدق الله العظيم .!!

الحادى والعشرون :

( فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) القلم ) ، ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) الاعراف )

1 ـ حال المسلمين مثل الغريق الذى يكتشف قاع البحر ، ولكن لا يستفيد باكتشافه هذا ولا يفيد أحدا ، لذا يظل المسلمون يغرقون فى نفس البحر عبثا . يتقاتلون بسبب الخلاف بين ( على ) وأبى بكر وعمر وعثمان ومعاوية ، يجددون ويكررون مآسى مواقع الجمل وصفين والنهروان وكربلاء بغباء منقطع النظير لامثيل له فى تاريخ العالم . هذا مع أن القرآن معهم فلم يزدادوا به إلا خسارا لأنهم إتخذوه مهجورا وقدسوا غيره. لهذا فهم يتم إستدارجهم لنفس الغرق فى نفس البحر . ومن عجب أن القرآن الذى أتخذوه مهجورا قد نبّأ بذلك مقدما فى كثير من آياته ، ومنها آيات تتحدث عن عذاب دنيوى سيحيق بمن يعصى ، ولكن نتوقف مع تهديد هام يوجّهه رب العزة لمن يكذّب بالقرآن ، وقد صيغ باسلوب رائع من الاعجاز فى إختيار اللفظ ، وجاء مرتين فى القرآن الكريم : هو قوله جل وعلا :( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) .

2 ـ يقول جل وعلا فى نهاية سورة القلم ، وهى من أوائل ما نزل من القرآن الكريم : ( فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) القلم ) . ويقول جل وعلا أيضا فى أواخر سورة الأعراف ، وهى أطول السور المكية : ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) الاعراف ). يجمع بينهما هو التهديد بالاستدراج ( من حيث لا يعلمون ) لمن يكذّب بحديث القرآن، ووصف القرآن فى الموضعين بالحديث .

3 ـ بدأت سورة ( القلم ) ببداية ذات دلالة ، حيث يقسم رب العزة بالقلم وما نسطره بالقلم :( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)) ونحن نسطّر بالقلم الخير والشر ، الحقّ والباطل ، التصديق والافتراء والتكذيب . ثم كان المقسوم عليه خاصا بمحمد عليه السلام ، وهو : إنه عليه السلام ـ خلافا لاتهام المشركين له ـ  ليس مجنونا حين أنزل الله عليه نعمة القرآن :( مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2))، وهنا وصف للقرآن بالنعمة ،وقد تكرر وصف القرآن بالنعمة فى القرآن فى مواضع شتى: ( الطور 29 الضحى 11 المائدة 3 لقمان 20 ـ العنكبوت 67 ـ  البقرة 231 النحل  82 ـ  83 ابراهيم  28 ـ ).وأنّ له عليه السلام أجرا غير ممنون ( وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)) ، وأنه عليه السلام على ( دين عظيم ):( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) و جاء مصطلح ( الخُلُق ) مرتين فقط فى القرآن ، ليس بمعنى ( الأخلاق ) ولكن بمعنى الدين . والدين نوعان : دين سماوى هو الاسلام العظيم الذى كان عليه خاتم المرسلين : ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)) ، ودين أرضى مثل دين قوم عاد الذين قالوا للنبى هود عليه السلام عن دينهم :( إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ (137) الشعراء ). ثم يقسم رب العزة على أن رسوله الكريم سيبصر وسيرى من هو المفتون المخدوع : هو أم أعداؤه المكذّبون للقرآن: ( فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمْ الْمَفْتُونُ (6))، وأنه جل وعلا هو الأعلم بالضالين والمهتدين :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)). ثم ينهاه عن أن يطيع المكذّبين بالقرآن وعن مداهنتهم ومصيرهم :( القلم 8 : 16 )، ويشبّه حالهم بفتية أنعم الله جل وعلا عليهم بحديقة فبخلوا بثمارها ، فحاق بهم عذاب دنيوى لن يعفيهم من عذاب الاخرة :(القلم 17: 33 )، ثم وجّه رب العزة الخطاب للمكذّبين يسألهم ويحذّرهم ويخبر بعذابهم يوم القيامة :(القلم 34 : 43 ).   ثم جاء التهديد عامّا لكل من يكذّب بحديث الله فى القرآن الكريم :( فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) . وبعده عودة للحديث عن موقفهم من القرآن وأمر للنبى بالصبر : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنْ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)) .هذا هو السياق الخاص بهذا التهديد الذى جاء فى سورة القلم .

4 ـ أما فى سورة الأعراف فالسياق مختلف ولكن فى نفس الإطار عن القرآن الكريم وموقف الناس منه ، فهو يبدأ بتقرير أن الله جلّ وعلا قد فصّل آيات القرآن لعل الناس يرجعون للحق : ( وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) ) ولكن المُشكلة فى ( علماء وفقهاء الضلال ) ، الذين يتجاهلون البيان الحق فى القرآن ، ولكنهم يعرضون عنه فيصيرون أتباعا للشيطان ووحيه، فيتركهم رب العزة للشيطان ، ويضرب لهم مثلا بالكلب ، وقد ساء مثلا لكل من يكذب بأيات القرآن الكريم : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)) . ثم يتحدّث رب العزة عن المهتدين والضالين ، ويصف الضالين بالأنعام التى لا تفقه : ( مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)). ثم يأتى التهديد العام للمكذّبين بالقرآن :( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)). وبعده يقول جل وعلا عمّن إختارالضلال :( مَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186). ويؤكّد مقدما جل وعلا أن النبى محمدا لا يعلم الغيب ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وأنه ليس إلّا نذيرا وبشيرا ، وهذا التأكيد المبكّر يرد مقدما على فقهاء الشيطان الذين إخترعوا أحاديث تنسب للنبى محمد علم الغيب وعلم الساعة وعلاماتها ، وتنسب له الشفاعة والتصرّف فى ملك الله جل وعلا ، وهذا كله تكذيب للقرآن وقوله جل وعلا  :( يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)الاعراف )

5 ـ ويلاحظ فى سياق التهديد الذى جاء فى السورتين أنه موجه للمكذبين بحديث الله جل وعلا فى القرآن : ( فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) القلم ) ، ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) الاعراف ) .وأنه خطاب مباشر من رب العزة للبشر بدون إستعمال كلمة ( قل ) ، أى يوجّه رب العزة التهديد منه مباشرة للناس وبلا واسطة . ولكن السياق فى سورة ( القلم ) بدأ بالمحلية فى الحديث عن تكذيب القرشيين فى مكة فى بداية الدعوة ، وبدأ بقوله جل وعلا للنبى وهو يواجه إتهامات مشركى مكة : ( فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) القلم ) ، أما السياق فى سورة الأعراف التى نزلت فيما بعد فقد جاء بالعمومية والعالمية للبشر جميعا ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) ، مع بيان لأنواع البشر  بين الضلال والهداية ، وتركيز على علماء السّوء الذين يتزعّمون الإضلال ، ووصفهم بالتحقير ، ثم التأكيد مقدما على ان خاتم المرسلين لا يعلم الغيب ولا يشفع ولا ينفع ولا يضر ولا يملك شيئا فى مُلك الله جل وعلا ، وهو ردُّ مقدما على فقهاء الشيطان وعلماء الأديان الأرضية الذين أنجبتهم العصور التالية يكررون التكذيب القرشى ولكن بصورة منهجية وأكثر إحترافا .

6 ـ الأهم فى سياق سورة الأعراف هو تحديد التكذيب بالقرآن بأنه ( الإيمان بحديث آخر ) مع القرآن أو غير القرآن . ورب العزة هنا يعظهم فى صورة رائعة فى إختيار اللفظ ، يقول جل وعلا : ( أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)) فهى دعوة للنظر والتفكر ، فليس هناك سوى خالق واحد هو الله جل وعلا ، وبالتالى فلا مجال للإيمان بحديث سوى حديثه جل وعلا فى القرآن الكريم ، وعليهم أن يسارعوا بالايمان قبل أن يأتيهم الأجل وهم على إيمانهم بحيث آخر غير القرآن . ومع ذلك عاشت وماتت أجيال من المسلمين وهم يؤمنون بأحاديث البخارى وغير البخارى ، ولا يزالون . هذا مع أنه جل وعلا كرّر هذا فى سورتين مكيّتين : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) المرسلات 50 ) ( تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) الجاثية ).

7 ـ ولكن ما معنى الاستدراج هنا ؟ معناه يفسره رب العزة بإيجاز وإعجاز بأنه من حيث لا يعلمون . وأنه طبقا لتدبير الاهى هو أن الله جل وعلا ( يُملى لهم ) أى يمهلهم حتى يقعوا فى العذاب الذى هو لهم بالمرصاد : ( فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) القلم ) ، ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) الاعراف ). كيف يتم الاستدراج من حيث لا يعلم الانسان ؟ إنه باستخدام الانسان العاصى ضد نفسه . فرعون موسى بطغيانه وفجوره وعصيانه هو الذى قام بتربية موسى ليكون موسى هو السبب فى تدمير فرعون وقومه وجنده (  فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) القصص ) . أن من قوانين رب العزة أن المكر السىء لا يحيق إلا بأهله ، وهذه الحقيقة حذّر بها رب العزة قريشا من قبل ، وهم باستكبارهم يمكرون بالنبى فى مكة : (  اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) فاطر ) أى هى من السّنن الالهية أن المكر السىء لا يحيق ألا بأهله . وقريش بمكرها وإضطهادها للنبى والمؤمنين ساعدت النبى والمؤمنين فى تأسيس دولة ما لبث أن هزمت قريش نفسها . وإضطر زعماء قريش للإيمان بالاسلام ليحافظوا على جاههم ، وبعد موت النبى وطبقا لمكرهم الذى وصفه رب العزة بأنه مكر تزول منه الجبال ( وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) ابراهيم ) فقد أدخلوا العرب والأعراب فى فتوحات دولية أسّسوا بها إمبراطورية عربية إنتهكت إسم الاسلام وشرع الله جل وعلا فى القرآن ، وهذا المكر حاق بهم فإقتتلوا فى حروب أهلية طاحنة أو ما يعرف بالفتنة الكبرى التى لا زلنا نعيشها حتى الآن .  وهذا التكذيب القرشى للقرآن الكريم قبل وبعد الهجرة نبّا الله جل وعلا به مسبقا ، ونبأ أيضا محذّرا من عاقبته حيث الحروب الأهلية والانقسامات ، مع التأكيد مقدما بأنهم سيشهدون هذا ( بعد حين ) ، يقول جل وعلا فى سورة الأنعام المكية : ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)) .

الاستدراج هو أن الله جل وعلا ( يمهل ) الظالم حتى يوقعه فى شرّ أعماله : (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) الطارق ) . وفى كل قرية أو مجتمع يوجد أكابر مجرميها الذين يمكرون فيها ليحتكروا السلطة والثروة  ، وفى الحقيقة يتم إستدراجهم للهلاك من خلال حبهم للثروة والسلطة لتكون النتيجة أنهم ما يمكرون إلا بأنفسهم وهم لا يعلمون : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) الأنعام )، وهم يستكبرون عن إتّباع الحق ، لذا ينتهى بهم الأمر الى صغار وعذاب شديد جزاء مكرهم :( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) ( الانعام )، فالاستدراج يأتى عادة من خلال ما يحبه الانسان ويهواه ويغوى بسببه . الانسان يحب المال حبا جمّا : ( وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً (20) الفجر ) . وفى سبيل المال يتنافسون ويتصارعون ويتقاتلون ، ويفقدون حياتهم فى سبيل مال لا بد أن يتركهم أو أن يتركوه ، إمّا أن يتركهم بالخسارة أو أن يتركوه بالموت ، وهذا إستدراج يقع فيه أغلب البشر ، ومن أجل هذا المال يقعون فى النكذيب بالقرآن عمليا وسلوكيا ، فيخسرون الدنيا والآخرة .

إن عذاب الدنيا يأتى نتيجة هذا الاستدراج حتى فى حياتنا العادية . تجد الضحية يعرف الحقّ القرآنى ولكن يرفضه حرصا على مكانته أو ثروته أو خوفا من الأذى وتجنبا للمشاكل ، وتكون النتيجة أنه يتعرض للمشاكل من مصادر أخرى ،أهمها حبّه لماله وأولاده الذين من أجلهم كفر بالحق القرآنى . ومنافقو المدينة أعرضوا عن القرآن حرصا على مكانتهم وأموالهم ، وكانت النتيجة أن الله جل وعلا عذّبهم بأموالهم وأبنائهم فى هذه الدنيا ، ثم ينتظرهم العذاب الأكبر فى الآخرة، يقول جل وعلا ينهى النبى عن الاعجاب بأموالهم وأولادهم : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) ، ( وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) التوبة ) . وعذاب الدنيا يأتى تنبيها وعظة فى الدنيا قبل العذاب الأكبر يوم القيامة : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) السجدة ) ولأن الأمر مرتبط  بالاعراض عن كتاب الله جل وعلا فإن الله جل وعلا يقول فى الآية التالية عن إنتقامه من المجرمين ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ (22) السجدة ) .

إن الله جل وعلا قالها فى سورتين مكيتين محذرا ومهددا لكل من يؤمن بحديث آخر غير حديث الله جل وعلا فى القرآن ، قال إنه سيستدرجهم من حيث لا يعلمون . وتحقق هذا ويتحقّق هذا فى تاريخ المسلمين وحاضرهم ولا هم يتوبون ولا هم يتذكرون ولا هم يعقلون ولا هم يعلمون . وقد قال جل وعلا عن منافقى المدينة ( ومنافقى كل مدينة ) : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) التوبة  )

ودائما : صدق الله العظيم .

الثانى والعشرون : فى دعاء ابراهيم عليه السلام

فى القصص القرآنى شخصية تمثل قمة الخير ( ابراهيم عليه السلام ) ، وقد أمر رب العزة بأن نتبع ملته  ( النساء 125 ) وجعل خاتم النبيين والصادقين من المؤمنين هم أولى الناس بابراهيم ( آل عمران 68). وفى المقابل شخصية فرعون الذى يمثل حضيض الشّر ، والذى سار ويسير على دأبه كل العُصاة والطُغاة والبُغاة : ( آل عمران 11 ،الانفال 52 ، 54 ) ، وهو لهم الإمام ( القصص 41  ) والسلف لهم جميعا ( الزخرف 56 ) . وتاريخ المسلمين العملى يؤكد أنهم حتى الآن يتمسكون بسنة فرعون ويسيرون على دأب فرعون .  ومن المنتظر أن يتجاهلوا ما قاله رب العزة عن ابراهيم فى القرآن. ولو قلت لأحدهم اليوم الحقيقة القرآنية  بإن خاتم النبيين كان مأمورا بإتباع ملة ابراهيم لاعتبرك كافرا . ولذلك لم يستفيدوا بالاعجاز الهائل الذى يتجلى فى دعاء ابراهيم الذى أخبرنا به رب العزّة لنتعلم منه ونتعظ .  

من دعاء ابراهيم

دعا ابراهيم عليه السلام ربه جل وعلا فقال:( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) الشعراء ).

دعا ابراهيم عليه السلام ربه جل وعلا بهذا الدعاء حين كان شابا وبعد أن هجر أباه. والآيات فى سياقها الخاص تقول : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78 )) وضمن الدعاء قال : (وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ  ) . أى دعا لأبيه بالغفران بعد أن هجر أباه وقومه . وكان قد وعد أباه الضال المُشرك أن يستغفر له:( قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً (47) مريم )(إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) الممتحنة ). وظل ابراهيم يدعو لأبيه بالغفران حتى أنجب على الكبر ولديه اسماعيل واسحاق فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) ابراهيم ). أى دعا هنا بالغفران له ولوالديه . ثم جاءه الأمر بأن يكفّ عن الدعاء لوالده فقد تبيّن له أنه عدو لله جل وعلا ويجب أن يتبرأ منه فأطاع وكفّ : ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) التوبة ).

روعة إختيار اللفظ فى دعاء ابراهيم

1 ـ من روعة إختيار اللفظ هنا أن ابراهيم عليه السلام بدأ دعاءه بالثناء على ربه جل وعلا بعبارة غاية فى الايجاز والاعجاز هى (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ )، وتفسيرها القرآنى جاء فى السياق الخاص بعدها ، إذ جمع ابراهيم عليه السلام هنا بين نوعى الهداية : الهداية الطبيعية فى الخلق ، والهداية الايمانية. الهداية الطبيعية هى التى جبل الله جل وعلا الخلق عليها ، ونشهدها فى العجائب فى سلوك الأحياء وهى تسعى الرزق وتتكاثر وتتشاجر من الأميبا والحشرات والأسماك والحيوانات والطيور، من الحيوان المنوى الذى يكافح ويتنافس مع غيره ليسبق فى الوصول الى البويضة ليلقّحها ، الى الطفل الوليد وهو يبحث بفمه عن ثدى أمه ويلتقمه ليرضع بطريقة عجيبة الى أسراب الطيور والأسماك التى تقطع مسافات طوالا بين الولادة والتكاثر الى الموت ( تهتدى ) بغريزة أودعها الخالق فيها، الى مستعمرات النمل والنحل . هذه الهداية الطبيعية التى أودعها الخالق جل وعلا فى الأحياء يقول عنها كتابه الكريم:( قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) طه) (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) الأعلى ). وابراهيم عليه السلام يعترف شاكرا لله جل وعلا بهذه الهداية الطبيعية ، فالله جل وعلا هو الذى خلقه ويهديه الهداية الطبيعية ،فيطعمه ويسقيه :( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79). ثم هو جل وعلا الذى يُخضع ابراهيم للحتميات المقدرة سلفا  ، ومنها المرض والموت ثم البعث : (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81).

 إنّ قول ابراهيم عن ربه جل وعلا ( وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ) له دلالة هائلة يغفل عنها أكثر الناس ، الذين يأكلون ويشربون وهم لاهون عن أن الذى يطعمهم ويسقيهم هو رب العزة ، فهو جل وعلا الذى ينزل الرزق ويخلق الطعام . رغيف الطعام الذى بين يديك له تاريخ معروف مذ كان بذرة قمح الى أن وصل الى يديك بفضل الله جل وعلا الرزاق . وحين تأكله فان الله جل وعلا هو الذى هيّا فينا مضغ الطعام وشرب الماء ودخوله من مضيق البلعوم الى المرىء ثم المعدة ، بحيث لو ضل طريقه ووصل بعضه للرئتين لقيت حتفك . وهو جل وعلا الذى هيّا هضمه فى المعدة والأمعاء ، ثم هيأ إمتصاصه ، ثم خروج فضلاته بولا وبرازا ليعيد دورته فى الأرض بخارا وسمادا ينبت الزرع وياكل منه الضّرع . قد يتذكر الفرد منا نعمة الهداية الطبيعية هذه حين يعانى مرضا يعيق الأكل والهضم والإخراج . وعندها يتذكر ـ  لو كان مؤمنا ـ  أن الله جل وعلا هو الذى بهدايته الطبيعية يطعمنا ويسقينا .

الهداية الطبيعية هى لكل المخلوقات ، وهى مضمونة من رب العزّة لكل الأحياء ، وهى مخلوقة فينا ، وهى ضمن الحتميات ، ولسنا مُحاسبين عليها يوم القيامة ، وليست لنا حرية فى قبولها أو رفضها . أما الهداية الايمانية فهى معروضة لنا وليست مفروضة علينا ، فلنا حرية طلب الهداية وحرية الضلال والاضلال ، وسيتم حسابنا على إختيارنا الدينى هذا ( يوم الدين ) .

ومبكرا جدا إختار ( الفتى ) ابراهيم الهداية الايمانية ، فبعد أن بدأ ابراهيم عليه السلام بالاعتراف بالهداية الطبيعية دعا ربه أن يمُنّ عليه بالهداية الايمانية فقال : ( وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89). دعا الشاب ابراهيم ربه جل وعلا أن يهديه . وحين إهتدى تمسك بالهداية وعانى من أجلها حتى لقد تعرض الى إلقائه فى نار مشتعلة ليقتلوه حرقا ، وهاجر وأدخله ربه جل وعلا فى إختبارات وأوامر نجح فيها ،فقال عنه رب العزة:( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) النجم) فجعله الله جل وعلا للناس إماما:( وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)البقرة ).

2 ـ  قال ابراهيم عليه السلام فى صدر حياته هذا الدعاء . وفيه نستشعر روعة التعبير ، بل ونستشعر معه بضألة إيماننا حتى فى الشيخوخة أمام إيمان ابراهيم فى شبابه. إن ابراهيم عليه السلام يقول : ( وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)) فلم يقل ( إغفر لى ) بل هو ( يطمع ) فى الغفران، علاوة على أن التعبير بالجملة الاسمية اكثر دلالة من صيغة الطلب. ثم يقول عن نفسه ( خطيئتى ) وهو الذى أوتى الرشد والهداية مبكرا ، أى يبالغ فى لوم نفسه وإتهامها الى درجة أن يجعل ذنوبه خطيئة يطمع من ربه جل وعلا أن يغفرها لها وقت الغفران وهو يوم الدين . أما نحن فنزعم الايمان ونرتكب كبائر الخطايا ونبررها ، بل إن بعضنا يحولها الى فريضة تعبدية كالوهابيين فى جهادهم الارهابى . ومعظم المسلمين يرتكبون أفظع الكبائر يستندون على أساطير شفاعة النبى، مع إن الله جل وعلا قد قال له ينفى شفاعته:( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) الزمر).

3 ـ على أن أروع ما قاله ( الشاب ) ابراهيم عليه السلام هو:( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83). والمسلمون منذ أكثر من ألف عام إعتادوا عادة سيئة ، هى تزكية أنفسهم وأئمتهم وأوليائهم بالصلاح، يتمسكون بسُنّة سيئة لبعض أهل الكتاب الذين إعتادوا تزكية أنفسهم فنزل التأنيب لهم واتهامهم بالكذب على الله جل وعلا الذى جعلهم عبرة ، وقال جل وعلا فى شأنهم للنبى وللناس جميعا : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) النساء ) . وهذا الافتراء والإثم المبين يقع فيه الآن الوهابيون الذين يعتقدون أنهم المُختارون من الله جل وعلا للتحكم فى الناس ، وبمجرد ان يُطلق أحدهم على الناس لحيته فقد أصبح ممثلا لرب العزة ومُخولا من لدنه فى التحكم فى الناس وقتلهم باسم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وتطبيق الشرع السنى . إن الله جل وعلا ينهى عن تزكية النفس بالتقوى لأنه جل وعلا هو الأعلم بمن إتّقى : ( فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى (32) النجم ).ولكن المسلمين الذين إتخذوا القرآن مهجورا يصدرون قرارا بأنهم وحدهم الصالحون من البشر المتميزون على البشر مهما إرتكبوا من خطايا وكبائر ، ويجعلون أئمتهم (صالحين ) بالاعتداء على حق رب العزة وهو وحده الأعلم بمن إتقى .

وهنا نجد روعة دعاء ابراهيم الذى يرجو ربه جل وعلا أن يلحقه بالصالحين :( وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83). لاحظ روعة التعبير ، أى يرجو أن يكون مُلحقا بالصالحين ، وليس إماما للصالحين .!.وهو نفس دعاء حفيده يوسف عليهما السلام ، فيوسف وهو فى قمة مجده الدنيوى ( عزيزا لمصر ) دعا ربه جل وعلا فقال : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) يوسف ) ، وهو نفس موقف النبى سليمان عليه السلام فى أوج مجده الدنيوى ، إذ دعا ربه جل وعلا أن يُدخله فى عباده الصالحين : (  وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) النمل ). وعلى نفس السُّنّة الاسلامية يتمنى المؤمن أن يُلحقه ربه جل وعلا بالصالحين ، وهذا ما قاله بعض أهل الكتاب من القسيسين والرهبان عندما إستمعوا للقرآن : ( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنْ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) ( المائدة ). فالمؤمن الحق يتهم نفسه ولا يزكيها بالتقوى والصلاح ، بل يتمنى بمشيئة الله أن يكون من الصالحين فى تعامله مع الناس، وهذا ما قاله الرجل ( الصالح ) لموسى : ( قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ (27) القصص ) .

إن الله جل وعلا هو وحده صاحب الحق فى وصف بعض عباده بالصلاح ، وقد وصف فى القرآن الكريم الأنبياء الذين ماتوا بالصلاح والتقوى والاحسان ، فقال عن لوط عليه السلام:( وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ (75) الانبياء )، وقال عن غيره : (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ (85) ( الانعام ) وعن يونس :( فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنْ الصَّالِحِينَ (50) القلم ). وهو جل وعلا وحده صاحب الحق فى تزكية هذا وذمّ ذاك طبقا للعمل صالحا أم سيئا ، فقال عن بعض أهل الكتاب : (  ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) وقال فى الآية التالية إنهم ليسوا كلهم سواء لأن منهم أتقياء صالحين :( لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) آل عمران ). فالصلاح والتقوى صفات مطروحة للتعامل البشرى ، ومن يتمسك بالصلاح طاعة لله ورسوله سيكون يوم القيامة مع من أنعم الله جل وعلا عليهم من الصالحين  فى الآخرة: ( وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً (69)(النساء) . والله جل وعلا هو الذى يتولى ويدافع عمّن يتمسك بالصلاح حين يواجهون المشركين بالحكمة والموعظة، وهذا ما كان يفعله خاتم المرسلين فى مواجهته لعُبّاد القبور المقدسة بالحُجّة والبرهان: ( أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلْ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) الاعراف).

إستجابة الله جل وعلا لدعاء ابراهيم

1 ـ ولنتعلم حُسن الدعاء المُستجاب ذكر الله جل وعلا دعوات ابراهيم وأنه جل وعلا إستجاب لمعظمها .   فقد دعا ربه أن يعطيه حكما وأن يلحقه بالصالحين :( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)، فنسب الله جل وعلا الملة الصحيحة ( ملة ابراهيم ) وجعله من الصالحين ، قال جل وعلا :( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ (130) البقرة )، وتكرر وصفه بأنه من الصالحين:( وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ (122)النحل ).

ودعا ربه أن يهبه ذرية صالحة فجاءت الاستجابة سريعة (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) الصافات ). ودعا ربه جل وعلا  أن تقيم ذريته الصلاة وأن يستجيب الله جل وعلا دعاءه :( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) ابراهيم ) فاستجاب ربه جل وعلا وجعل فى ذريته النبوة والكتاب:(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ (27) العنكبوت) . ودعا ابراهيم ربه أن تكون له ذكرى طيبة بعده: ( وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ (84) الشعراء ) ، فمدحه رب العزة وإتّخذه خليلا: ( وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125) النساء ) ، ومدحه بما لم يمدح به أحدا من قبله ومن بعده : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) التوبة)( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) هود ) ، ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (123) النحل ) .

ودعا ربه جل وعلا أن تكون مكة بلدأ آمنا ، وأن يرزق أهله من الثمرات : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ ) (126) البقرة )، وأن يثوب اليه الناس ويأتوه ليعمر بهم المكان : ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) ابراهيم )، فاستجاب الله جل وعلا دعاءه ، وأنزل فى التشريع أن يكون البيت مثابة للناس وأمنا وارتبط هذا بابراهيم ومقام ابراهيم : ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)  البقرة ) (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ (97) آل عمران ). واستمتعت قريش بالأمن والثراء والثمرات :( أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) القصص)( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) العنكبوت ). (لإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4))

ودعا ربه ومعه ابنه اسماعيل أن تأتى منهما أمة مسلمة ، وان يبعث فيهم رسولا يتلو عليهم آيات الله ويعلمهم الكتاب والحكمة : ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) البقرة ). واستجاب رب العزة فكان من ذريته امة مسلمة ، ثم كان من ذريته خاتم المرسلين ، عليهم جميعا السلام .

ولكن طلب الغفران لأبيه:( وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ (86)الشعراء) وجاءه النهى:( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) التوبة) فأطاع ، عليه السلام .! .

ذكر الله جل وعلا هذا الدعاء وأسلوبه الرائع الأخّاذ حتى نتعلم . فهل تعلمنا شيئا من قصص ابراهيم عليه السلام ؟ هل تمسكنا بملته فى إخلاص الدين لله جل وعلا وحده ؟ أم أننا فى صفّ العداء لابراهيم وملة ابراهيم ؟

أخيرا

1 ـ أذكر أنه فى كتاب ( الأنبياء فى القرآن الكريم ) الذى كتبته ضمن خمسة كتب قررتها على الطلبة فى جامعة الأزهر عام 1985 ، أننى إنتقدت البخارى لأنه أتهم ابراهيم عليه السلام بالكذب ، وإستدللت من القرآن على صدق ابراهيم وتفرده عليه السلام بين أنبياء الله جل وعلا . وكوفئت على تأليف هذا الكتاب وغيره بالمحاكمة بتهمة ( إنكار حقائق الاسلام ). أى إن ( إسلامهم ) هو فى أتهام ابراهيم بالكذب دفاعا عن البخارى وتكذيبا للقرآن الكريم ، ولا بأس عندهم أن يكون خليل الله ابراهيم كذابا ، ولا بأس عندهم أن يأمرنا رب العزة بأن نتبع ملة ابراهيم الذى يتهمونه بالكذب ثلاث مرات . المهم عندهم ألا يكون الاههم البخارى كذابا . ولم يكتفوا بمحاكمتى التى استمرت عامين بل قاموا بتشويه سمعتى ، وتجرأ بعض أتباعهم فكتب فى مجلة خليجية تحمل إسم الاسلام مقالا يتهجّم علىّ ، تحت عنوان ( حقيقة الكذبات التى كذبها ابراهيم ) أى جعل كذبات ابراهيم من المعلوم من دينهم بالضرورة ، وقام بتكفيرى لأننى أنكرت أتهام ابراهيم بالكذب . هذا هو حال الوهابيين ..عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين

2 ـ وبتاريخ 14 مايو 2010 ، وتحت عنوان (أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ؟؟ ) قلت فى نهاية المقال : (ولكن هل استفاد المسلمون بوعظ القرآن الكريم ؟ وهل استفادوا بوعظ قصة ابراهيم عليه السلام ؟ الاجابة معروفة ، ليس فقط فى سياق المقارنة بين أحوالنا اليوم وحال قوم ابراهيم ، ولكن أبضا فى حديث أبى هريرة فى البخارى الذى يتهم ابراهيم بأنه كذب ثلاث كذبات. الله جل وعلا يشهد لابراهيم انه كان صديقا نبيا ، اى لم يكن مجرد صادق بل صديق ، وأنه كان صديقا قبل ان يكون نبيا ، والله جل وعلا  يجعل ابراهيم إماما للناس فى صدقه وتقواه ، وذلك بعد أن نجح ابراهيم فى كل الاختبارات :(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ( البقرة  124 ). نجح فيها بتفوق أى (وفّى ) : (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) ( النجم 37 ). ولكنه عند البخارى وأبى هريرة كذاب .فى الحقيقة فإن ابراهيم عليه السلام نقطة محورية ؛ من مواقف الناس منه نعرف هل هم على الباطل أم على الحق، فمن يعرض عن ملة ابراهيم هم من السفهاء: (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ )(البقرة  130 )، ومن يوالى ابراهيم وينصره فقد والى الله جل وعلا ورسله:( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)(آل عمران  68). وبالتالى فإن من يتهم ابراهيم بالكذب يكون سفيها عدوا لله تعالى ورسله. وهذا ينطبق على  ابى هريرة والبخارى ومن يقدسونهما ، وقد اتهموا ابراهيم بأنه كذاب ، وبأنه كان يكذب حتى يتيح للملك أن يزنى بزوجته سارة . !! هل يرضى أحدكم أن يوصف بالكذب و التعريص على زوجته ؟ ولكن أعداء ابراهيم عليه السلام اتهموه بتلك التهم الحقيرة ، وهم الأحق بها .. عليهم لعنة الله جل وعلا و الملائكة و الناس أجمعين  .)

3 ـ وموعدنا معهم يوم الدين : (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) الانعام ) .

ودائما : صدق الله العظيم . 

الثالث والعشرون :   

  نلاحظ فى قوله جل وعلا :( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37))فى سورة عبس ) أنه جاء الأخ أولا ، ثم الأم والأب ثم الزوجة والبنين . ولكن نرى الأمر مختلفا فى قوله جل وعلا فى سورة المعارج : (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12)) فقد بدأ بالبنين ثم الزوجة ثم الأخ . السياق يوضح معجزة إختيار اللفظ هنا .

السياق فى سورة ( عبس ) يتحدث  قبلها عن ملمح من متاع الدنيا وهو الطعام  : ( فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدَائِقَ غُلْباً (30) وَفَاكِهَةً وَأَبّاً (31) مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ (32) ) ثم بعدها يأتى الحديث عن البعث بالانفجار الثانى الكبير الذى يوقظ الموتى ، أو بالتعبير القرآن شديد الدلالة : (  فَإِذَا جَاءَتْ الصَّاخَّةُ (33). فى هول المفاجأة هذا يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، ففى المفاجأة الصاعقة يكون لكل إمرىء شأن يغنيه ، هو نفسه : ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)).

 سياق الآيات قبلها عن متاع الطعام فى الدنيا هو سبب الترتيب بجعل الأخ فى المقدمة ثم الوالدين ثم الزوجة والأبناء . لأن الذى يجمع بين متاع الدنيا وهذا الترتيب هو المدة الزمنية . فمتاع الدنيا لكل منا مرهون بمدة بقائه حيا فى هذه الدنيا . هو كما قال رب العزة : (وَلكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) البقرة ). فى مدة بقاء الفرد منا حيا فى هذه الدنيا يعيش ـ فى الأغلب ـ  أطول فترة من حياته مع أخيه ، ثم والديه ، والأم فى الأغلب تعيش بعد الأب ، ثم الفترة الأقل مع الزوجة والأولاد . وجاء وصف الزوجة بالصاحبة أى التى يصحبها الرجل فى حياته ، أى التى تطول صحبته لها سواء كانت زوجة أو عشيقة أو سكرتيرة أو أختا . فى مفاجأة البعث يتخيل الفرد أنه مات أو ( نام ) من وقت قصير ، يوما أو بعض يوم ، ثم إستيقظ :( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) الروم ) (يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) النازعات ) . أى إنه فى هذه المفاجأة الرهيبة لم يستوعب بعد ما يحدث وهو فى حالة فرار ، والفترة الزمنية الى قضاها فى الدنيا ( التى هى بالنسبة له مجرد الأمس ) تظل فى خياله وهو  يفر من أكثر من عاش معهم فى هذه الدنيا . لذا جاء الترتيب حسب الزمن هنا .

أما فى سورة المعارج فإن الموقف مختلف ، فهو عن عذاب يراه المجرمون بعد الحساب ، وقد أبصر أعماله السيئة ، فيتمنى لو يفتدى نفسه من هذا العذاب بأحب الناس اليه، يقول جل وعلا :( يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ (13) وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) ) ( المعارج ). مقام الهلع الذى يعصف بالمجرمين وهم على وشك الإلقاء فى جهنم يجعل المجرم على إستعداد لأن يفتدى نفسه بأحب الناس اليه ، ويأتى فى المقدمة الأبناء ثم الصاحبة الحبيبة ثم الأهل والعشيرة . ولكن بلا فائدة .

الرابع والعشرون    

( اهْبِطُوا مِصْرًا )( البقرة 61 ) ،(ادْخُلُوا مِصْرَ )  يوسف 99 ).

ماهو الفارق بين كلمتى ( مصر ) فى ألايتين الكريمتين ؟. فى كتابنا ( مصر فى القرآن الكريم ) قلنا: (جاءت كلمة (مصر) في القرآن الكريم في خمسة مواضع هي :
" وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتا : يونس87 "و " وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ.. يوسف21 "و" وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ : يوسف99 "و" وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ.. 51 الزخرف "وفي قوله تعالي في قصة موسي قال : " اهْبِطُوا مِصْرًا.. البقرة 61 ".

وواضح أن كلمة " مصر" قد وردت في سياق قصتي يوسف وموسي إلا أن الأمر الذي يستدعي إيضاحا هو قوله تعالي علي لسان موسي لقومه . " اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ .. 61 البقرة "، فكلمة " مصر" هنا لا تدل علي مصر الوطن وإنما تعني المدينة المتحضرة أي مدينة متحضرة في أي مكان . ودليلنا أن كلمة " مصر" في الآية جاءت مفعولا به منصوبا وهي منونة " مصرا " أي ليست ممنوعة من الصرف ، وفي موضع آخر يقول تعالي علي لسان يوسف " وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ :99 يوسف " فجاءت الكلمة هنا " مصر " تدل علي الوطن وهي مفعول به أيضا ومنصوب ولكن بدون تنوين لأنها ممنوعة من الصرف حيث تدل علي( مصر) الوطن الأعجمي. وهذه التفرقة اللغوية الدقيقة بين كلمة " مصر" في الآيتين توضح لنا أن كلمة "مصر" لها معنيان : (معني الوطن الذي يعيش فيه المصريون)،

وهذا هو المعني الذي ورد في القرآن ممنوعا من الصرف أي بدون تنوين، وذلك في أربعة مواضع. و (معني المدينة المتحضرة)  .

وفي القاموس في معاني كلمة مصر : " مصروا المكان تمصيرا جعلوه مصرا فتمصر " ومصر أي المدينة التي تتميز عما حولها من بوادي. ونفهم ذلك من قولهم عن عمر بن الخطاب أنه الذي " مصر الأمصار " أي " أنشأ الأمصار" أو أنه بعث العمال أو الولاة علي "الأمصار" أي الولايات . وقد أطلقوا علي الكوفة والبصرة لقب "المصران" مثني " مصر" . وقد بدأ التمدن في العالم ببناء المدن في مصر لذا نحتت اللغة العربية كلمة : "مصر" لتدل بها علي قيام الدولة أو المدينة المتحضرة التي تحيط بها البوادي . وفي قصة يوسف قوله لإخوته وهو في سلطانه في مصر. " وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ... يوسف 100 " أي كان شرق مصر في ذلك الوقت رعويا بدويا . وهكذا فإن موسي حين قال لقومه "اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ :61 البقرة" تفيد أي مدينة ولا تدل علي الوطن المصري علي وجه الخصوص.
وكلمة " مصر" بمعني البلد المتمدن أو الدولة تعتبر اعترافا من اللغة العربية بقدم العمران المصري والحضارة المصرية. فالعرب حين عرفوا النطق باللغة العربية استعاروا كلمة " مصر " لتدل علي المدينة والحضارة ، ثم جاء القرآن فيما بعد يسجل هذا المعني ويميزه بفارق لغوي دقيق حين يجعل كلمة " مصر" الوطن ممنوعة من الصرف باعتبارها علما ـ وذلك في أربعة مواضع ، ثم تكون كلمة " مصر" الدالة علي المدينة منونة في موضع وحيد في القرآن الكريم . ) إنتهى النقل من الكتاب المذكور .

الخامس والعشرون :

يقول جل وعلا : ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) البقرة  257) . ونتدبرها فى ضوء الفصاحة والاعجاز إختيار اللفظ . نتوقف مع ( الطباق ) و ( المقابلة ) وهى من سمات الفصاحة العربية التى ترد كثيرا فى القرآن الكريم ، ونقتصر على أمثلة من سورة التوبة .

الطباق ، وهو المجىء بلفظين متناقضين فى المعنى . وهو نوعان :( إيجابى ) كقوله جل وعلا: ( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً) (37)) لفظ ( يحلّونه ) هنا يناقض لفظ ( يحرمونه) ، ومثله:( انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً )(41))فلفظ خفافا يناقض ثقالا. والطباق (السلبى ) بالنفى مقابل الإثبات ، كقوله جل وعلا: ( يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) (74)) هنا تناقض بين (ما قالوا) و(ولقد قالوا).وقد يجتمع فى الآية الواحدة أكثر من ( طباق ) كقوله جل وعلا :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38)) فلفظ (أنفروا ) يناقض ( إثّاقلتم)،ولفظ ( الدنيا ) يناقض (الآخرة). والروعة هنا أنها جمل منفصلة فى آية واحدة قصيرة .

أمّا إذا كان الطباق بين كلمتين فأكثر أو جملتين  أصبح ( مقابلة ). و( المقابلة ) أيضا نوعان : بالايجاب كقوله جل وعلا:( فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً )(82)) فجملة ( فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً ) تناقض جملة (وَلْيَبْكُوا كَثِيراً)، ومثلها :( يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ )(8))، ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ )(32)). والمقابلة السلبية مثل : (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)) . وقد يجتمع الطباق والمقابلة فى آية واحدة كقوله جل وعلا :( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ)(71)). هنا طباق بين كلمتى ( المؤمنون والمؤمنات ) وهنا ايضا مقابلة بين جملتى (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ ).وأيضا : ( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)) فى الآية الكريمة طباق سلبى فى كلمتى (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ )، ومقابلة فى جملتى ( وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ). نكتفى بهذا القدر لندخل فى موضوعنا :

نجد المقابلة أكثر تعقيدا فى قوله جل وعلا:( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ )، ففى الجانب الأول تجد ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) فى مقابل :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ). التناقض هنا بين ( أغلب ) الكلمات: ( الله / الطاغوت ) ( الذين آمنوا / الذين كفروا ) (مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ / مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ). هنا تنتهى الفصاحة فى اسلوب ( المقابلة ) ويقع إعجاز الإختيار للفظ  فى هذه الكلمات متشابهة: ( ولى / أولياؤهم ) ( يخرجهم / يخرجونهم )، والفروق الدقيقة بينها .  ونوجزه فى الآتى :

1 ـ الاسلام طريق مستقيم أو صراط مستقيم، وهو محدد ولا يتعدد . لذا جاء التعبير عنه بالمفرد ( وَلِيُّ )( يُخْرِجُهُمْ )( النُّورِ ).هنا الإله الواحد الولى الواحد والنور الواحد بالكتاب الواحد الذى( يخرجهم) . وفى المقابل نجد الشقاق والاختلاف والتعدد ( أَوْلِيَاؤُهُمْ )( يُخْرِجُونَهُمْ ) (الظُّلُمَاتِ ).

2 ـ وتبدأ القصة بأن الله جل وعلا خلقنا على الفطرة النقية الدين القيم ، ونولد بهذه الفطرة :( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ )(30) الروم ) هذه الفطرة هى النور. ثم يأتى ( الطاغوت ) ليخرجنا منها فيتعلم الطفل تقديس البشر والحجر وينضم الى قطيع الذين كفروا: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ). ولكن ينجو منهم من يتبع النور الالهى فى الكتاب المنير، ويصبح بفضل الله جل وعلا من الذين آمنوا:( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).

3 ـ وتأتى الظلمات ( جمع ) فى مقابل ( النور ) المفرد تأكيدا على الوصية العاشرة من الوصايا العشر والتى يقول فيها رب العزة جل وعلا :( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)( الأنعام ). هنا تجد هذه الكلمات مفردة تعبر عن القرآن فقط : ( هَذَا)( صِرَاطِي )( مُسْتَقِيماً )( سَبِيلِهِ) (فَاتَّبِعُوهُ ) ( سَبِيلِهِ). بينما تجد طرق الشرك متعددة متفرقة :( السُّبُلَ ) (فَتَفَرَّقَ ).

4 ـ نذكّر هنا بأن القرآن موصوف بأنه نور ، وبأنه السبيل لخروج الناس من الظلمات الى النور ، . جاء هذا فى آيات كثيرة، منها قوله جل وعلا : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)المائدة:15 ، 16) (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) الأعراف:157 ).( الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)إبراهيم:  1 )  (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ) الحديد: 9 ).

ودائما : صدق الله العظيم .

السادس والعشرون

 1 ـ هناك ( علوم ) فى القرآن لم يلتفت اليها الأئمة ( المفسراتية ) فى العصور الوسطى الذين إتخذوا القرآن مهجورا ، وحصروا إعجازه فى الفصاحة وللعرب فقط ، ونظروا اليه وعلى عيونهم غشاوة الأكاذيب المفتراة من الأحاديث التى أخضعوا لها القرآن ، ثم تعاملوا معه بالتأويل والتحريف للمعنى ، ومزاعم النسخ ، وكل منهم يدخل على القرآن بالرجس الذى فى قلبه لينتقى من الآيات ما يتفق ظاهرها مع الأحاديث المفتراة التى يؤمن بها وخرافات دينه الأرضى ، ويؤول أو يتجاهل غيرها ، أو يقول بأنها منسوخة أو ملغى وباطل العمل بها.!!. لم تكن قلوبهم طاهرة ليمسّها نور القرآن بسبب الرجس الذى إحتل قلوبهم . وفي آيات كريمة من آيات الإعجاز العلمى تتحدث عن مواقع النجوم يقول جل وعلا عن القرآن الكريم : ( فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)الواقعة ) . من النجوم ما نراها . لأنها إنفجرت وانتهت وتحولت الى ثقب أسود أو أبيض . ولكن لأنها تبعد عنا بلايين السنين الضوئية فلا يزال نورها يصل الينا بعد فنائها ، ليس منها الآن ولكن من الموقع الذى كانت فيه قبل فنائها وموتها . وهذا هو القسم العظيم : (  فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) . والمقسوم عليه هو القرآن الكريم : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) .

والذى يهمنا هنا أن الأئمة ( المفسراتية)  فى العصور الوسطى إنشغلوا بخرافاتهم وإفتراءاتهم وأكاذيبهم ونزاعاتهم الفقهية والمذهبية عن تدبر القرآن وإكتشاف علومه ، ومنها إشاراته العلمية . وتلاميذهم الآن يهللون لاكتشافات علماء الغرب فى الفلك وغيرها ، ويتخصص بعضهم فى بحث الاتفاق بين هذه الاكتشافات العلمية والاشارات القرآنية لها ، ولكن لا يتساءل : لماذا غشيت عيون أئمتهم المفسراتية وعميت عن قراءة هذه الآيات التى تشير الى حقائق علمية بسهولة وبساطة ؟ .!

الجواب فى القرآن الكريم نفسه، فالله جل وعلا  فى هذه الآيات من سورة الواقعة يشير الى الذى يصلح لأن يمسّه نور القرآن فيقول : ( لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)الواقعة ) ، فلا يمكن لمن طُبع على قلبه أن يتسلل الى قبه نور القرآن . لهذا ظلوا بعيدين عن القرآن وظل القرآن بعيدا عنهم بسبب الرجس الذى فى قلوبهم ، وقد قال جل وعلا فى هذه النوعية من البشر : (  كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125)،) ثم قال عن القرآن الكريم : ( وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) الانعام ) . فالقرآن وتفصيلاته التى هى ( عن علم ) تكون هدى ورحمة لمن يؤمن بالقرآن فعلا وحده حديثا : (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) ( الأعراف ). أما الذين ( لايؤمنون ) و ( لا يعقلون ) من أئمة المفسراتية وغيرهم فقد إستحقوا الرجس : ( وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) يونس ).

معجزة إختيار اللفظ فى منهج القرآن الكريم فى ايراد الحقيقة العلمية

وللقرآن الكريم جانب من الاعجاز العلمى ليس فقط فى الاشارة للحقائق العلمية مثل كروية الأرض ودورانها حول نفسها ، ولكن من أهم نواحى الاعجاز ـ فى نظرى ـ هو طريقة القرآن الكريم الفريدة فى صياغة تلك الحقيقة العلمية فى لغة سهلة لا تصدم عقول أول من استمع الى القرآن الكريم وهم العرب الأميون فى القرن السابع الميلادى . أى  ليس فقط فى صياغة الحقيقة العلمية بطريقة لا تصدم عقول العالم فى القرون المظلمة و لكن ايضا بطريقة لا تنال من صدقية الحقيقة العلمية ذاتها ، بحيث تظل تلك الحقيقة العلمية المذكورة فى القرآن صالحة للفهم الميسور فى عصرنا ووفق مدلول تلك الحقيقة العلمية الحديث ، بل وأكثر من ذلك ، فان العادة أن تصاغ الحقائق العلمية بصورة تقريرية جافة خالية من الجمال اللغوى ، ولكن القرآن العظيم يأتى بها فى صورة بلاغية متحركة ناطقة مضيئة بارعة مع عدم الاخلال بمدلولها العلمى ، بل إن مدلولها العلمى يكون أكثر وضوحا وبيانا بتلك البلاغة القرآنية المعجزة الفريدة. ولن نسهب فى التأطير والتنظير والتحليل فدعنا ندخل فى الشرح و التمثيل.

  نماذج لاختيار اللفظ فى ايراد الحقيقة العلمية فى القرآن الكريم

1 ـ لو قال رب العزة فى القرآن ( الأرض كروية ) أو ( إنّ الشمس تنطلق فى مدار داخل مجرة التبّانة ) أو ( إن الآرض تدور حول نفسها وتدور أيضا حول الشمس بما يؤدى الى حدوث الليل والنهار ) لتعرّض الرسول والاسلام الى سخرية هائلة ، علاوة على أن هذه العبارات جافة وتخلو من الرونق البلاغى . ولكن كانت لهذه الحقيقة أساليبها الرائعة فى الصياغة وفى إختيار اللفظ .

يقول جل وعلا : ( خَلَقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ) (5) الزمر ) .تكوير الليل على النهار وتكوير النهار على الليل هو تصوير رائع لكروية الأرض ودورانها حول نفسها ومحورها ودورانها حول الشمس .

2 ـ ومنه أيضا إيلاج الليل فى النهار وإيلاج النهار فى الليل وتداخلهما : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)  الحديد ) (أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ) (29)  لقمان ).  وهذا التداخل وسعى كل منهما وراء الآخر هو تعبير رائع لدوران الأرض حول نفسها وما ينتج عنه حركة الضوء الشمسى وسيرانه من تعرض نصف الكرة الأرضية للشمس ، ودورانها فى نفس الوقت حول الشمس . وبالتالى نفهم إختلاف المواقيت بين البلاد ، وكيف يكون نهار فى أمريكا وليل فى مصر فى نفس الوقت ، ونفهم سريان الليل خلف النهار وسيران النهار خلف الليل كأنما يطارد كل منهما الآخر ، وفق توقيت نتعامل به ، ونحسبه . وما أروع إختيار اللفظ فى قوله جل وعلا  عن حركة الليل والنهار : ( وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لإٍحْدَى الْكُبَرِ (35) المدثر ) (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) التكوير ) (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) ) الشمس )، ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) الليل )

3 ـ يقول رب العزة : ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) يس )( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) الزمر  )( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)  لقمان ). والإعجاز هنا فى إختيار اللفظ ( تجرى لمستقر لها )، فقد فهمه العرب الأميون على أن الشمس تجرى من الصباح الى مستقر لها عند الغروب ، وتخيلوا أن الشمس تجرى وتدور حول الأرض . وكان سهلا على ( المفسراتية ) فى العصر العباسى أن يصلوا من القرآن نفسه للفهم الصحيح ن إلا إنهم ركنوا للخرافات و تأليف خرافات ونسبتها للنبى كما فعل البخارى فى حديثه عن أنّ الشمس  تصعد الى عرش الرحمن لتشكو له من أن قوما يعبدون غيره فيردها الى دورانها !.

رب العزة جل وعلا يؤكّد بقاء الشمس تجرى فى الفضاء الكونى تؤدى دورها لنا الى ( أجل مسمى ) ، وهو موعد قيام الساعة .  كان ينبغى لهم أن يفهموا من القرآن أن الشمس تجرى لمستقر لها أى الى موعد قيام الساعة شأنها شأن السماوات نفسها التى ستتدمر هى الأخرى مع الأرض عند حلول ( الأجل المسمى ). وكان ينبغى أن يفهموا أن الشمس والقمر والنجوم والمجرات هى التى تقع بين السماوات والأرض ، طبقا للتعبير القرآن ( وما بينهما ) :( مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى )(الاحقاف 3 ).، أى إن السماوات هى ما بعد النظام الكونى من النجوم والمجرات . والأجل الذى ستنتهى به الشمس والقمر هو نفس الأجل للسماوات ، فالانفجار سيدمر السماوات والأرض وما بينهما من نجوم ومجرات . ولقد خلقها الله جل وعلا بالحق ، والى ( أجل مسمى ) هو تدميرها كلها لينتهى هذا اليوم الدنيوى ويأتى اليوم الآخر بالحساب . هذا هو ( الحق ) الذى به تم ( خلق السماوات والأرض ) وما بينهما ، وهو نفس الحق الذى سيتم به تدميرها كلها عند حلول ( الأجل المسمى ) المحدد سلفا، يقول جل وعلا:( مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ) ( الاحقاف 3 ). ويدعونا رب العزّة جل وعلا للتفكير فى مصيرنا يوم الحساب : ( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ )(الروم 8 ) . المفسراتية لم يفهموا لأنهم لم يتدبروا القرآن لأنه كانت على قلوبهم أقفال : (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ( محمد )

4 ـ عميت أبصارهم حتى عن ملاحظة وجود ( تاء التأنيث ) فى الحديث عن بعض الحشرات ، وخلوها من أخرى ، هذا مع تركيز معظم المفسراتية على ( اللغة والنحو ) فى القرآن . يتحدث رب العزة عن أنثى العنكبوت بالذات التى تهيىء عش الزوجية للذكر ، فإذا قام بتلقيحها قضمت رأسه وقتلته . وضرب المثل هنا للمشرك الذى يأتى للقبر المقدس يرجو الخير ويطلب المدد وهو لايدرى أنه قد أضاع مستقبله عند الله جل وعلا القائل :( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) العنكبوت ). إعجاز إختيار اللفظ هنا فى تاء التأنيث (الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ ) . لو قيل ( العنكبوت أتخذ ) لكان قول  بشر جاهل .

ونفس الحال مع البعوضة ، يتحدث رب العزة عن الأنثى  فقط فيقول : (إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ) (26) ( البقرة ). إن عجائب البعوض مذهلة خصوصا وهى تمصّ بخرطومها الهش دم الانسان وتخترق به جلده ، وتقوم بمنع الدم من التجمد والتجلط . لا يفعل ذلك ذكر البعوض ، ولكنها الأنثى فقط .!.

ويقول جل وعلا عن ( الشغّالة ) من النحل : ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) النحل ). التعبير هنا عن الأنثى الشغالة التى ترشف رحيق الثمرات وتنتج النحل لتغذّى به اليرقات ، ويخرج منها النحل مختلفا الوانه حسب نوعية الثمرات .

ونفس الحال مع إنثى النمل الشغالة ، وجاء الحديث عنها بالأنثى فى قوله جل وعلا : (  حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا ) (19) ( النمل ). هنا حديث عن مستعمرة ضخمة للنمل ، والشغالة من النمل بالآلاف هى التى تخرج من مساكنها تحت الأرض . وتعبير المساكن يوضحه العلم الحديث عن عبقرية النمل فى إعداد مساكن حقيقية بغرف تهوية وأقسام مختلفة وبحجرات متنوعة ومنظمة لشتى الأغراض ، و قد تتفوق بهذه العبقرية على ملايين البشر . كل هذا جاء الحديث عنه بالأنثى .

أما عندما تكلم رب العزة عن الذباب فقد إستعمل أسلوب الجنس ( ذباب ) ليدل على الذكر والنثى حين يأكل طعامه . والأكل هنا لا فارق فيه بين ذكر وانثى . ولكن يتميز الذباب بأنه يقوم بهضم طعامه وتحليله الى عناصره الأولية قبل أن يبتلعه ، أى لو إلتقط قطعة ضئيلة من السكر فهو يسارع بإمتصاصها بلعابه لتتحول بسرعة فائقة الى عناصر السكر ، وقبل أن تصل الى فمه لا تصير ( السكر ) بل العناصر التى كانت تكوّن السكر . يقول جل وعلا يتحدى المشركين الذين يقدسون البشر يضرب لهم هذا المثل : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ) (73) الحج ). وروعة إختيار اللفظ هنا لبس فقط فى الحديث عن ( جنس الذباب ذكرا وأنثى ) ولكن أيضا فى إختيار قوله جل وعلا (لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ) الذى يعبّر عن السرعة فى إمتصاص الذباب لطعامه . ويبقى الهدف من ضرب هذا المثل ، وهو موجّه لعصرنا أيضا . ففى حياة محمد عليه السلام لو سلب الذباب منه شيئا فلن يستطيع أن يسترده ، فعلى فرض أنه إستطاع أن يقبض على هذه الذبابة بالذات فلن يستنقذ منها ما سلبته منه لأنه اصبح شيئا آخر ..( أصبح فى خبر كان ) . وينطبق هذا المثل على عيسى والحسين وعلى والبخارى ..وكل البشر الذين يقدسهم المشركون .

 لم يفهم المفسراتية إعجاز القرآن العلمى لأنهم إختاروا بمحض إرادتهم أن تعمى قلوبهم عن نور القرآن ، أى رضوا لأنفسهم بمرض العشى ، أى أن ينطبق عليهم قوله جل وعلا : ( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) الزخرف )

ودائما : صدق الله العظيم .!

 

 

 معجزة اختيار اللفظ في القرآن:مدخل لعلم قرآنى جديد (الجزء الأخير )                                      

السابع والعشرون : ( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ )

مقدمة

1 ـ معروف مرض العشى الليلى،حيث يواجه المريض به صعوبة في رؤية النور ليلاً أو في ظل الإضاءة الخافتة. رب العزة يشير الى نوع فريد من العشى الليلى فى قوله جل وعلا:( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) . هو مرض فريد لأنّ : الشخص هو الذى يختار بنفسه أن يكون مريضا بهذا المرض . المريض العادى تحدث له الإصابة ولا يريدها بل يجتهد فى الشفاء منها ، أما مريضنا هذا فهو سعيد بمرضه ، وهو الذى إختار مرضه . ثم إن مريضنا هذا ليس مريضا بالعشى ليلا فقط  ، بل هو مريض به ليل نهار . والعجيب أنه يرى بعينيه جيدا ولكن المرض ليس فى عينيه بل فى (نفسه ) أو ( قلبه ) أو ( فؤاده ) . ليس مرضا حسيا بل معنويا ، لا يتصل بصحة الجسد بل بالضلال . هنا تجد المريض ينظر بعينيه ولكن لا يبصر بعقله ، يسمع بأذنيه ولكن لا يهتدى بقلبه .هو المأخوذ الذى تم إستلاب عقله .  وما أروع قوله جل وعلا فى هذا المريض بالضلال : ( وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) (198)الاعراف ).

2 ـ ترى هذه النوعية فى كل المتدينين المتمسكين بأديانهم الأرضية المؤمنين يخرافاتها .  ترى أحدهم عاقلا ذكيا يقظا ، ولكن يفقد عقله فيما يخصّ خرافات دينه الأرضى . فإذا ناقشته فيها فمهما قلت له فلا يسمع ، وتراه ينظر اليك ولا يراك . وجرّب بنفسك مع أتباع البخارى مثلا . هات كتاب البخارى وإقرأ له أحاديثه التى يطعن فيها فى الاسلام والرسول عليه السلام فلن يسمعك . بل إستمع الى شيوخهم وهم يتكلمون بمنتهى الجدية فى خرافات يضحك منها الحزين ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنعا .

3 ـ لماذا ؟ ومن إستلب عقله بهذا الشكل ؟ إنه شيطان إقترن به يتحكّم فيه ويزين له سوء عمله فيحسبه حسنا .يقلب له الحق باطلا والباطل حقا ، ومهما يقال له من هدى لا يسمع ، ومهما توضح له الأدلة فلا يرى . هذه الحالة المستحيلة الشفاء يعبر عنها رب العزة فى إعجاز منقطع النظير فى قوله جل وعلا :( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) .

ونتوقف مع الآية الكريمة بالتدبر فى سياقها الخاص :

يقول جل وعلا : ( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) الزخرف ). العناصر الأساس فى هذا السياق الخاص هى :

1 ـ  شخص إختار مرض العشى القلبى ويرفض رؤية نور الهداية الذى أنزله الرحمن : ( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ ) فتكون النتيجة أن يتسلط عليه شيطان يقترن به ، أى يكون له قرينا : (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ). يتحكم فيه هذا الشيطان المقترن به يصدّه عن الحق ، ويقنعه أن الباطل هو سبيل الهدى : ( وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) ، وفى كل هذا وصاحبنا المريض سعيد بمرضه فخور به ، يعتقد أن رأيه من رأسه، إذ لا يرى الشيطان المقترن به .

2 ـ فهذا العالم المادى الذى نعيش فيه ونراه ونحسّ به يتداخل فيه عوالم ( البرزخ ). وكل إنسان له مستويان : جسدى مادى،وهو الجزء المرئى منا ، ثم ( النفس ) الكائن البرزخى غير المرئى الذى يحتل هذا الجسد المادى ويتحكم فيه ويسيّره . تفارق هذه النفس جسدها مؤقتا بالنوم وتعود اليه باليقظة ، ثم تفارقه نهائيا بالموت . فى عوالم البرزخ تعيش الجن والملائكة والشياطين . ومن الملائكة يتخصص إثنان لكل فرد يسجلان عليه أعماله ، وهما ( رقيب وعتيد ) ، وفى نفس البرزخ يوجد شيطان يقترن بمن يعشو عن ذكر الرحمن .  هذا الشيطان يتداخل مع الجسد ليسيطر على ( نفس ) صاحب الجسد . الجسد له سمع وبصر ، وللنفس أيضا صورة الجسد ولها سمع وبصر. والقرين الشيطانى حين يتحكم فى النفس يجعلها لا تسمع ولا ترى . أى فالجسد يرى ويسمع ماديا بعينيه وبأذنيه ، ولكن ما يراه وما يسمعه لا يصل الى النفس التى تم ( الطبع ) عليها ، وتغليفها وحجبها عن سماع الحق القرآنى. الله جل وعلا يقدّم لنا أروع بيان ، يقول رب العزة :( وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً (46)الاسراء) (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57)الكهف )( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)فصلت ) .

3 ـ والانسان طالما بقى فى جسده المادى الدنيوى لا يستطيع أن يرى بعينيه الماديتين الملائكة و( رقيب وعتيد )، وإذا كان مريضا بالضلال فلا يستطيع أن يرى قرينه الشيطانى الذى يركبه ويوجهه ويتحكم فيه. عند الموت يرى ملائكة الموت ، وعند البعث ، إذا كان ضالا يرى قرينه الشيطانى ، وعندها يعلن براءته منه ، بلا فائدة ، وهذا معنى قوله جل وعلا : (حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ  ). ومصيرهما أنهما معا مقترنان فى العذاب إذ يقال لهما :( وَلَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ). وبالتالى فلا فائدة من محاولة هداية أولئك الضالين المُضلين ، فهم عمى وصُمُّ ، وهذا ما قاله رب العزة لخاتم المرسلين فى نهاية هذا السياق : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ). 

ونتوقف مع الآية الكريمة ببعض التدبر فى سياقها العام :

1 ـ ( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ ) . هذا يعنى وجود نور إختار صاحبنا أن تعشو عيناه عن رؤيته . أى إن (ذِكْرِ الرَّحْمَنِ ) هو نور القرآن الكريم . هو نور لأهل الكتاب : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)المائدة:15 ، 16 ) ونور للذين آمنوا : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)الأعراف:157 ) (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)التغابن:8 ) ونور للناس جميعا : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً)النساء:147 ) . ولكن لا يرى هذا النور إلا من يطلب الهداية فيهديه الله جل وعلا:( وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا )الشورى: 52 ). أما الذى يرفض فقد إختار الضلال ، فيتولاه شيطان يقترن به :( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ  )

2 ـ هذا القرين الشيطانى يسيطر على كل ضال مُضل من الضالين المُضلين . يقول جل وعلا عنهم : ( وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) فصلت ). بدءوا بالضلال فاستحوذ على كل منهم قرين شيطانى  يزين له الباطل حقا ، ويصل به الى طريق الخسار . ويظهر هذا فى موقفهم من القرآن الكريم ، تقول الآية التالية عن رفضهم الاستماع للقرآن الكريم وأمرهم بعضهم باللغو فيه حتى يتغلبوا على نور القرآن ويمنعوه من التسلل للقلوب :( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فصلت ) . وهذا بالضبط ما يحدث فى عصرنا وعصور سبقت ، حيث ظل المسلمون يتخذون القرآن مهجورا بطرق مختلفة ، منها التغنى به وجعله انشودة يسمعون فيها صوت المنشد المغنى ، بل جعلوا التغنى بالقرآن عبادة وسمّوه ( تجويدا ) وقد تعرضنا لهذا فى مقال سبق . وهم عادة ( يهللون ) لصوت المنشد، وهو ما ينطبق عليه قوله جل وعلا: ( وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) ففى هذا الضجيج يتعذّر على من يريد الهداية أن يتدبر فيما يسمع من القرآن الكريم . لذا يقول رب العزة فى الآية التالية يتوعّدهم باسلوب التأكيد : ( فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)فصلت )، وفى عذاب الخلد هذا سيتمنون الانتقام ممّن أضلهم من الجن والإنس : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنْ الأَسْفَلِينَ (29) فصلت )

3 ـ ولهذا القرين مساجلات مع صاحبه يوم القيامة . فى سورة ( ق ) يقول جل وعلا عن قيام ملكى كتابة العمل بتسجيل عمل كل فرد فى الدنيا:( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)). ثم يأتيه الموت الذى يتحاشاه:( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)) ، ثم فيما بعد يكون البعث للجميع بمجىء يوم الوعيد:( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)) . وتأتى كل نفس وقد فارقت جسدها الأرضى ، وتحمل عملها الدنيوى ، وهى فى حالة إعتقال ، فقد تحول ( رقيب وعتيد ) الى ( سائق وشهيد ):( وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21))، أحدهما يسوق النفس والاخر يشهد له بعملها الصالح ( إن كانت صالحة )، وهذا هو معنى الشفاعة ، أو يشهد عليها بعملها الظالم ، شهادة خصومة. فى هذا الموقف يرى الفرد منّا ما لم يكن يراه فى الدنيا ، فقد إنتهى البرزخ وزال العالم المادى والجسد المادى ، أو زال الغطاء الذى كان يحجب رؤية الملائكة والجن والشياطين ، يقول جل وعلا فى الاية التالية :( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)). يرى الضال عندئذ قرينه الشيطانى الذى أضلّه ، ويبادر القرين بالتبرؤ من صاحبه الضال :( وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) ق ) . هو فعلا قرين سىّء ، أو بتعبير رب العزة جل وعلا :( وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً (38) النساء ).

4 ـ  هذا القرين السىّء هو الذى يجعل صاحبه البشرى يتّخذ أولياء من البشر يؤلههم ويطلب منهم المدد والعون ، يقول جل وعلا فيمن يعبد القبور ويقدس البشر الأحياء والأموات :  ( أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً (102) الكهف ) . من الذى جعلهم يحسبون هذا الحساب الخاطىء ؟ إنه الشيطان الذى أقنعهم بعبادة الرجس من القبور والأنصاب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) المائدة ). لذا يقول لنا جل وعلا عن الأخسرين أعمالا :( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (105)الكهف). هذا ينطبق على الذين يقدسون القبر الرجسى المنسوب للنبى محمد ، وهو برىء منهم ، ويقدسون قبور الصحابة ومن يسمونهم ( آل البيت ) وقبور الأئمة الشيعة والسنيين والأولياء الصوفية . ملايين القبور المقدسة يتم عبادتها والحج اليها والطواف حولها وتقديم القرابين والنذور لها ، والصلاة أمامها والتوسل بها بخشوع وخضوع لا مثيل له فى الصلاة لرب العزة جل وعلا. من هو البطل الذى أقنع بلايين المسلمين من أكثر من عشر قرون بأن يفعلوا ذلك ؟ إنه القرين . يقول جل وعلا عن ( القرناء ) الشياطين الذين أضلوا معظم البشر : (فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلالَةُ إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) الأعراف ) القرناء الشياطين أقنعوا ضحاياهم أنهم مهتدون .! بل سيحلفون يوم القيامة أمام الله جل وعلا أنهم مهتدون ، فقد إستحوذ على كل منهم قرينه الشيطانى . يقول جل وعلا:( يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ (19) المجادلة ) .!

 لذلك لا فائدة من هداية ذلك الذى زيّن له قرينه الشيطانى سوء عمله فرآه حسنا . لقد إختار الضلال وتمسك به، يقول جل وعلا لخاتم المرسلين ولكل داعية للحق : ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) فاطر) .

ودائما : صدق الله العظيم .!!

معجزة اختيار اللفظ في القرآن :
هل هناك تناقض بين ألآيات المتشابهة والموضوعات المتشابهة ؟ أم فيها إعجاز ؟ يؤكده قوله جل وعلا : (أَفَلا يَتَدَبَّر ُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) النساء ) . فى تدبر للقرآن كان هذا البحث مدخلا لعلم جديد هو ( معجزة إختيار اللفظ فى القرآن الكريم ) .
كان مما إكتشفه الامام البقاعى فى القرن التاسع الهجرى ما أسماه بعلم المناسبة فى القرآن الكريم ، وكتب فيه كتابا ضخما ، لا يزال ـ حسب علمى ـ مخطوطا فى مكتبة الأزهر . ولم أعثر على مخطوطة الكتاب فى السبعينيات ، ولكن السيوطى ( الخصم اللدود للبقاعى ) سرق أفكار البقاعى ، ولخّص كتابه فى رسالة قصيرة ، مطبوعة
more