رقم ( 2 )
الجذور الدينية والتاريخية



1ـ نبدأ الإجابة بتحديد معنى المسلم العاصى : فهو الذى ظل حياته عاصيا دون توبة إلى أن مات . ومشكلة هذا "المسلم العاصى " لها جذورها الدينية والتاريخية .



2ـ وتتمثل هذه الجذور فى الأمانى التى يتمناها الإنسان فى أن يحيا على هواه عاصيا ثم يكافأ على عصيانه بدخول الجنة ، أو على الأقل إذا دخل النار فلا يلبث أن يخرج منها .وهذه الأمانى أساسها الشيطان . فالشيطان ـ لعنه الله ـ أعلن أمام رب العزة أنه سيستحوذ على أكثرية أبناء آدم ،" لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ " ( النساء : 118 ، 119 ) وعبقرية الشيطان تتجلى فى أنه يقرن الإضلال بالأمنيات . فالذى يضل من البشر إذا عرف أنه ضال فالأغلب أن يتوب . أما إذا كان ضالا يعيش فى أمنيات بأنه سيدخل الجنة فلا يمكن أن يتوب . وبذلك ينجح الشيطان دائما فى كل عصر ..



3 ـ وللشيطان وسائله فى نشر هذه الأمنيات التى توافق الهوى البشرى ، وهى الأحاديث الشيطانية التى يروجها أتباعه وينسبونها للدين ظلما وبهتانا .. يقول تعالى عن هذه الأحاديث الشيطانية التى يغتر بها الناس "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ " ويقول تعالى عن إتباع الناس لهذا الوحى الشيطانى ووقوعهم فى المعاصى اعتمادا عليه " وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ " ويقول تعالى مبينا أن القرآن هو الفيصل الذى يزهق هذا الوحى الشيطانى : " أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ " ( الأنعام : آيات 112 ، 113 ، 114 ).

4ـ وقد أنزل الله التوراة " ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ " ( الأنعام : 154 ).

ولكن الشيطان ما لبث أن أغوى بعض بنى إسرائيل فحرفوا الكتاب وأضافوا الإفتراءات ومنها أنهم سيخرجون من النار ولن يمكثوا فيها إلا أياما قليلة . ولأن هذه الإفتراءات تشجعهم على العصيان فقد انتشرت حتى أصبحت معلوما لديهم من الدين بالضرورة . وحين نزل القرآن الكريم كان (الأميون ) من اليهود فى الجزيرة العربية لا يعلمون عن التوراة إلا أنها الوثيقة التى تدخلهم الجنة بدون عمل لمجرد أنهم يهود ، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم ( أميون ) مع إنهم كانوا يحترفون الكتابة وتزوير وتحريف الكتاب السماوى ، وهى هنا إشارة الى تضييعهم الكتاب السماوى الذى تميزوا به على العرب ( الأميين ) الذين لم يأتهم كتاب مثل أهل الكتاب .يقول تعالى عنهم " وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ " وأولئك الأميون الذين حسبوا التوراة أمانى وقعوا ضحية لأتباع الشيطان الذين زيفوا وحرفوا ، ولذلك قاموا بكتابة تلك الأكاذيب و نسبتها لله تعالى ، يقول تعالى " فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ ". وكانت أمنية الخروج من النار أهم الإفتراء الذى تكسبوا به وهو ما يعرف بصكوك الغفران، تقول الآية التالية : " وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ " وبعد أن سخر الله منهم بأنهم لا عهد لهم من الله وأنهم يقولون على الله ما لا يعلمون قال تعالى يضع القاعدة " بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " فالعاصى الذى أدمن السيئات دون توبة مصيره النار خالدا فيها ، وفى المقابل " وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " ( البقرة : آيات : 78 : 82 ).

إذن إما خلود فى النار لمن يموت مدمنا على المعصية وإما خلود فى الجنة لمن يقرن إيمانه بالعمل الصالح ، وليس هناك وسط بين المنزلتين .

وحتى تتضح الصورة كاملة أمام المسلمين فلا يقعوا فيما وقع فيه أهل الكتاب فإن القرآن الكريم كرر نفس الرد على إدعاءات أهل الكتاب بالخروج من النار ، فقال عن إعراضهم عن الإحتكام إلى القرآن " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ " ويبين القرآن السبب فى إعراضهم عن الحق القرآنى وهو أنهم مقتنعون بالأكاذيب التى تمنيهم بالخروج من النار إذا دخلوها عصاة يقول تعالى " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ " ثم يرد عليهم محذرا بما ينتظرهم فى اليوم الآخر من عدل مطلق : "فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ"( آل عمران : 23 ، 25 ).

5ـ والله تعالى لم ينزل ذلك فى القرآن عبثا ، تعالى الله ، وإنما لكى يقرر الحق ويزهق الباطل حتى لا يسلك المسلمين مسلك اليهود والنصارى .. فالقرآن جاء كتابا عالميا لكل البشر إلى قيام الساعة ولا بد أن تكون الحقائق فيه واضحة ترد الزيف فى أى زمان و أى مكان ، خصوصا وأن الشيطان ـ العدو الأكبر للبشر ـ لم يقدم استقالته حين انتشر الإسلام بعد الفتوحات ، بل وجد من أبناء اليهود والنصارى الذين أسلموا خير أعوان ، خصوصا بعد أن عرف المسلمون الحرب الأهلية واعتادوا الاقتتال فيما بينهم وانغمسوا فى الترف والعصيان ، وأصبحت الحاجة ماسة إلى أمنيات بدخول الجنة بالشفاعات والخروج من النار حتى يستمروا فى حياتهم اللاهية بدون رادع .

ولم يكن صعبا على المسلمين فى العصر العباسى أن يعيدوا ما قاله آباؤهم من اليهود والنصارى ، فأقوال الأسلاف تراث قومى يحافظ عليه الأبناء فى وجدانهم ، خصوصا وأن أبناء البلاد المفتوحة هم الذين كتبوا الحضارة الإسلامية ، فكتبوها وفق ما اعتادوه قبل الفتح العربى وقاموا بسد الفجوة بين القرآن وبين واقع حياتهم عن طريق وضع الأحاديث الضالة والتفسيرات الاسرائيلية .

6ـ وآيات القرآن واضحة فى التحذير من الوقوع فى تصديق الوعود الشيطانية بالخروج من النار ، يقول تعالى عن الشيطان " وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا" ويقول عن كيده " وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا" ويقول عن وعوده وتغريره بالناس " يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا " وعن مصيرهم إذا إتبعوا أمنيات الشيطان "أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا" وبعد هذا التحذير يأتى التبشير لمن آمن وعمل صالحا بالخلود فى الجنة وهذا وعد الله: "وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً " فالقضية إيمان وعمل صالح وبه يتحقق وعد الله بالخلود فى الجنة ، أما وعد الشيطان للعصاة فهو غرور ، فالأمر ليس أمانى ، لذا تقول الآية التالية تحذر المسلمين من الوقوع فيما وقع فيه أهل الكتاب: "لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا " ويقول تعالى عن من يقرن الايمان بالعمل الصالح :"وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا " "( النساء : 117 : 124 ). فالعاصى يجازيه الله بعصيانه بالنار ولا يجد له وليا ولا نصيرا أى لا يجد له شفيعا، والمؤمن الذى عمل الصالحات يدخل الجنة ، وليست هناك منطقة وسط .

7 ـ ومع وضوح التحذير القرآنى فإن الأمنيات الشيطانية بالخروج من النار وجدت طريقها عبر أحاديث منسوبة للرسول ، وقد انتشرت تلك الأحاديث لأنها تنسجم مع الأهواء وتيسر للناس أن يستمروا فى المعصية . وما أسهل انتشار الدعوات الهدامة خصوصا إذا ما ارتبطت بالدين وانتسبت لله أو الرسول ظلما وعدوانا .



 

المسلم العاصى
هل يخرج من النار ليدخل الجنة؟
يعت قد معظم الناس أن المسلم العاصى الذى مات بلا توبة مقبولة سيخرج من النار ويدخل الجنة .
فما هو رأى القرآن فى ذلك ؟
يتتبع هذا الكتاب جذور هذه القضية قبل نزول القرآن ثم بعد انتشار الإسلام ثم يناقشها من خلال آيات القرآن الكريم لتظهر الحقيقة واضحة .
more