رقم ( 4 ) : الصلاة ونزول القر
الباب الأول- الفصل الثاني


معنى بيان القرآن:

1- لو كان العرب حين نزل القرآن يجهلون صلاة المغرب وعدد ركعاتها وصلاة الجمعة وكيفيتها لجاءت تفصيلات القرآن تعلم الناس ما يجهلون من عدد ركعات الصلاة وكيفيتها ومواقيتها وكل شيء عنها. ولكن العرب توارثوا حركات الصلاة جيلا بعد جيل مثلنا الآن، وكانوا يؤدون الصلاة دون أن يقيموها أو يحافظوا عليها- مثلنا الآن أيضا- فجاء القرآن يخاطبهم- ويخاطبنا أيضا- بعلاج هذا الخلل الخطير في القلب وفى السلوك.

مقالات متعلقة :

وللناس عادة سيئة مع آيات الله فلا يحاولون التدبر فيها بل يقرأون القرآن باللسان فقط، وبالتعود تفقد الألفاظ مدلولها وتصبح الآيات مجرد كلمات منظومة يتغنى بها المنشدون في حفلات السمر ومناسبات العزاء..

2- يقول تعالى:( مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ) الأنعام 38 " فلكل شيء اصل في القرآن، وإذا لم يكن له تداخل في إحدى قواعد القرآن فله صله في إحدى تفصيلات القرآن، إذ لا تفريط في كتاب الله. ومعنى أن القرآن ما فرّط في شيء أنه لم يترك شيئا ـ يحتاج الناس لتوضيحه ويكون تركه تفريطا ـ إلا أوضحه وأبانه. أما من يتهم كتاب الله تعالى بالتفريط والنقصان والاحتياج للبشر فانه يخلق مسائل ومشاكل ويتوجه بها لكتاب الله تعالى معاجزا يبحث عن إجابة لما اخترعه من مشاكل ومسائل ليثبت لنفسه والآخرين نقصان كتاب الله تعالى وتفريطه، وليثبت أن كتاب الله تعالى قد فرّط في شيء وأشياء، وليتهم رب العزة بالكذب حين قال " مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ".
العجيب أنه مع اختلاف المسلمين طوال تاريخهم في كل شيء فقد اتفقوا على عدد الصلوات وكيفيتها ولم تكن لهم بشأنها مشكلة على الإطلاق، إلا حين ظهرت الدعوة للاكتفاء بالقرآن وحده فتكاثرت الاتهامات للقرآن الكريم والتكذيب له ومحاولة معاجزته بأسئلة عن عدد ركعات الصلاة وكيفياتها ومواقيتها، وطالما لم تكن موجودة في القرآن فالله تعالى يكون عندهم كاذبا في قوله: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ). تناسوا أن المجال متاح لمن يكذّب بالقرآن ولمن يتهم رب العزة بالكذب بدلا من أن يقول "صدق الله العظيم "، بل تناسوا أن الله تعالى قد أنبأ سلفا في القرآن بأنهم سيفعلون ذلك. وهاهم يحققون فيهم أعجاز القرآن الكريم.

3- إن تفصيلات القرآن لا تغطى كل ما لا داعي له، والا تكاثرت آيات القرآن بحيث لا تكفيها البحار مدادا ولا الأشجار أقلاما، وهذا وجه من أوجه الإعجاز في تفصيلات القرآن، فليست تفصيلات القرآن ثرثرة - حاش لله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - ولكن تفصيلات القرآن جاءت بإحكام دقيق " كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) هود 2" أي جاءت من لدن الحكيم الخبير جل وعلا، فتعالى الله تعالى أن تكون تطويلا لا فائدة منه، بل جاءت على أساس منهجية علمية دقيقة " وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ).. الأعراف 52" أي أن الذي يفهم الأسس العلمية للتفصيلات القرآنية ليس كل الناس وإنما هم فقط أولئك الذين يؤمنون به، ولذا تكون لهم هدى ورحمة...
4- ويسيء الناس فهم البيان القرآني حين يسعون في آيات الله معاجزين يطالبون بتوضيح كل تفصيلات الحياة ومفرداتها. فالبيان لا يكون إلا للغامض الذي يتطلب التبيين والتوضيح. يقول تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ). النحل 89"
فبيان القرآن الكريم – مثل تفصيلات القرآن – هي أيضا هدى ورحمة لمن يستحقها وهم المسلمون الحقيقيون وليس أولئك الذين يسعون في آيات الله تعالى معاجزين.
أولئك المكذبون للقرآن يشترطون للإيمان بالقرآن وأنه نزل تبيانا لكل شيء أن ترد فيه تفصيلات الصلاة وعدد ركعاتها ومواقيتها وهيئاتها. هم لا يفهمون أن البيان إنما يكون فقط للغامض المستحق التوضيح، أما الواضح الظاهر البائن بنفسه فلا يتطلب توضيحا والا كان إهانة للقارىء واتهاما له بالغباء والجنون، علاوة على أنها ثرثرة لا تليق بكتاب بشرى عادى فكيف بكتاب الله تعالى الذي نزلت تفصيلاته على علم وحكمة . وإذا كان العرب يؤدون صلاة المغرب ثلاث ركعات فان من العبث ومن السخرية بهم أن يأمرهم القرآن بان يصلوا المغرب ثلاث ركعات.
المؤمن بالقرآن الكريم لا يسارع باتهام الله تعالى بالكذب حين قال: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ) وحين يؤكد: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ) ولا يقول معاجزا لرب العزة فأين كذا وكذا في القرآن متحديا ربه جل وعلا، بل يقول: صدق الله العظيم، ويسجد مؤمنا بقوله تعالى، ثم يبحث متدبرا في القرآن متفهما لمصطلحاته طالبا من ربه جل وعلا الهداية بإخلاص. عندها سيكرمه ربه جل وعلا بالهداية ويفتح له من كنوز القرآن ما لم يكن يتخيل، وعندها يعرف أن تفاصيل القرآن قد جاءت فعلا عن علم، وأنها هدى ورحمة لمن يستحقها.
حينئذ يعرف أن للقرآن منهجا في تفصيلاتة التشريعية.
على أن الشيطان لم يقدم استقالته وسيظل له أتباع من أكثرية البشر وبين من ينتسب للإسلام. وأولئك لن يكفوا عن التكذيب بالقرآن واتهامه بالتفريط وحاجته للبشر كي يكملوه ويوضحوه، وفى سبيل ذلك سيظلون يسعون في آيات الله تعالى معاجزين، وستظل تلكك مهمتهم ومهنتهم إلى قيام الساعة.
هذا ما أشار إليه رب العزة في القرآن الكريم نفسه:
اقرأ قوله تعالى يخبر عن ذلك سلفا:
(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)الحج 51
(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ. وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ) سبأ 5
(وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) سبأ 5؛6؛38)
ولسنا هنا في معرض الرد عليهم وإنما لإنصاف القرآن الكريم من اتهاماتهم، وذلك بالتعرف علي منهج القرآن الكريم في تفصيلاته التشريعية حتى لا ينخدع بعض السطحيين باتهاماتهم ويبادر باتهام الله تعالى بأنه فرط في كتابه حين لم يذكر عدد ركعات الصلاة وبأنه ما فصل في القرآن كيفية الصلاة أو أنه ما أبان في القرآن فرائض الصلاة من الفجر للعشاء.
وحتى بدون الحاجة إلى التعرف على هذا المنهج يمكن لأحدهم إذا كان سليم النية أن يسأل نفسه بصدق: هل قرأ في صغره كتب الحديث والفقه وتعلم منها كيفية الصلاة وركعاتها ؟ أم قد تعلم ذلك من الصغر بالتوراث والمشاهدة ؟ .
لم يقرأ أي واحد منهم كتب البخارى ومسلم وابن حنبل وغيرهم وتعلم منها الصلاة. ولو كانت تلك الكتب مرجعية للصلاة فكيف كان الناس قبل أولئك الأئمة بقرنين من الزمان يؤدون الصلاة ؟



منهج القرآن الكريم في تفصيلات التشريع.

يلفت النظر أن معظم تشريعات القرآن لم تأت في سياق موضوعي واحد، أو في سياق زماني واحد، وإنما تناثرت بين السور في إيجاز أحيانا وفى تفصيل أحيانا أخرى.
لو كان القرآن قد نزل بشريعة جديدة ليست معروفة من قبل لكان منتظرا أن تأتى التشريعات منتظمة متتابعة متتالية في سياق موضوعي وزمني واحد. إلا أن القرآن نزل على قوم يؤدون الصلاة والصدقة والحج والصيام، ولكن طال عليهم الأمد فقست قلوبهم فبدلوا وحرفوا فاختلطت حياتهم الدينية بأصول حقيقية من ملة إبراهيم مع تحريفات قديمة وأخرى حديثة، اختلط التطبيق الصحيح بالتطبيق الفاسد، فنزل القرآن الكريم يعالج ما تم تحريفه قديما وما استجد تحريفه وما تم نسيانه وما يساء تطبيقه.
وهناك ما هو أهم.
أن الوحي القرآني لم ينزل في فراغ بل في بيئة متحركة حية تطبق ملة إبراهيم وتحريفاتها في نفس الوقت، ولهذه التحريفات أنصار، وقد نشأت عليها مصالح تتمثل في قريش وحمايتها للأنصاب والأصنام والظلم والاستغلال. ودفع المسلمون الثمن اضطهادا وتعذيبا، ثم هجرة وحروبا فرضها المشركون المعتدون عليهم. وكان لا بد أن ينعكس هذا الصراع على الوحي فكان يأتي مستجيبا أحيانا للأحداث بالتعليق والتصحيح وبالحوار، لذا كان يتكرر التشريع الواحد يفصل ما سبق إيجازه ويشرح ما سبق الإشارة إليه، ويؤكد ما سبق قوله، وانعكس هذا على ما يخص العبادات أي ملة إبراهيم والتدين السائد بما فيه من صحيح وتحريف. فنزل الوحي يصحح ويعلق ويجيب الأسئلة.
نزل القرآن على قوم يزعمون التمسك بملة إبراهيم ومنهم من كان يقرأ صحف إبراهيم وتوراة موسى حتى لقد اتخذ القرآن من صحف إبراهيم وموسى الموجودة عندهم حجة عليهم يقول عن بعضهم " أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) النجم 36 -37 ) وكان منهم علماء تخصصوا في السفسطة والجدال في آيات الله تعالى فنهى الله تعالى عن جدالهم ( الأنعام 121 ) ( غافر 4 ـ 35 ـ 56 ) ( الشورى 16 ـ 35 ) وقال عنهم في إحدى مجادلاتهم (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) الزخرف 58 )
وقد كان في حياتهم الدينية الصحيح والفاسد، كان منها ما بقى من ملة إبراهيم دون تغير وما ادخلوه من تخريف وتحريف، ونزل القرآن بتفصيلاته التشريعية لا يتعرض لتوضيح التشريع الواضح الذي لا تغيير فيه ـ مثل هيئة الصلاة ومواقيتها ـ بل تركزت تفصيلاته على علاج التحريف الحادث، ثم إذا جاء تشريع جديد نزل مفصلا واضحا.
وهذا هو منهج التفصيل في تشريعات القرآن:
الواضح الذي لم يلحقه تغيير لا يحتاج بيانا.
أما التحريف في القديم والتشريع الجديد فلابد لهما من التفصيل الذي يعالج التحريف ويفصل في التشريع الجيد.
ونعطى أمثلة.
في تشريع جديد جاء لأول مرة:
( الميراث)

من العادات السيئة للبشر ـ حتى في داخل الأسرة الواحدة ـ أن يستأثر الأكبر بكل ما يستطيع من ثروة العائلة آكلا حقوق أهله وأقرب الناس إليه. والمرأة هي الأكثر تضررا إذا كانت أختا أو بنتا أو عمة أو أمّا. تستوي في ذلك المجتمعات الصحراوية والمجتمعات الزراعية. إلا أن الظلم الذي يقع على المرأة في المجتمعات الزراعية أخف وطأة، بسبب الدور الذي تلعبه الدولة والمرأة في البيئة الزراعية المستقرة بما يخفف من مسئولية الرجل وسطوته أيضا. ومع ذلك يظل ظلم المرأة قائما، وتظل مساواتها بالعدل مع الرجل قضية تستحق النضال، هكذا كانت ولا تزال في الغرب والشرق على السواء.
يتجلى هذا في قضية الميراث بالذات.
أنصف الإسلام المرأة ولكن تدين المسلمين ما لبث أن ظلم المرأة ومنعها حقوقها . حتى الآن فمن النادر أن تأخذ المرأة المصرية ميراثها كاملا من الأرض الزراعية أو من العقارات. وهى في الأغلب ترضى بهذا الظلم خصوصا في الريف والصعيد. أما في البيئة الصحراوية فالمشكلة أعقد، نلمحه من تردى وضع المرأة السعودية في عصرنا الحالي، وهى تعانى من نير الثقافة الصحراوية ونار الفقه السلفي المتزمت الذي أعاد ظلم وظلام الرؤية الصحراوية للمرأة وجعلها تشريعا سنيّا وهابيا.
في البيئة الزراعية تقوم الدولة بمعظم الأعباء المفروضة على الرجل، يقوم جيشها بحماية الوطن من العدو الخارجي وتقوم شرطتها بحماية الأسرة من الخطر الداخلي، كما تقوم على أمور الري والصرف والسماد وتيسير ومساعدة الفلاح في عمله. فى البيئة الصحراوية التقليدية القديمة انعدم دور الدولة ووقع على كاهل رجال القبيلة أن يكونوا الجيش والشرطة فأصبح رجل الأسرة هو المكلف بكل الأعباء من حماية الأسرة وحراستها ورعايتها والسعي وراء الكلأ بالإبل والإغارة على الآخرين ليقوم بواجب كفالة الأسرة. المرأة هنا أصبحت ضمن المتاع المملوك للرجل سواء كانت ابنته أو زوجته. وتنتقل ملكيتها للأقوى الذي يغير على القبيلة ويهزم رجالها وينهب متاعها ( الصامت والناطق ) من نساء وأطفال وابل ومال. والمرأة تستسلم للأقوى المغير و ليست ملومة على ذلك، إنما يقع اللوم على الذي فرّط في حريمه ومتاعه. طبقا لهذه الثقافة كان إعطاء المهر في الزواج إنما يكون للأب أو ولى أمر المرأة وليس للمرأة. وكان يحدث توارث المرأة في الزواج فالابن الأكبر يرث زوجة أبيه وتؤل إليه، وهذا ما حرّمه القرآن الكريم ( النساء 22) ويرث الأخ أرملة أخيه ويتم إكراهها على الزواج منه، وقد حرّم الله تعالى هذا الإكراه في الزواج، وان كان زواج الأخ بأرملة أخيه صحيحا في حد ذاته إلا أن الإكراه حرام، يقول تعالى وقد جعلها قضية عامة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ.. ) النساء 19 ) والعضل هو منع النساء من الزواج اذ كان أخو الزوج المتوفى يمارس حق وراثة أرملة أخيه فيمنعها من الزواج إلا بعد أن تدفع له مالا قد يكون هو المهر الذي ستحصل عليه من العريس القادم. بعد نزول القرآن اخترعت البيئة الصحراوية والفقه السني نوعا آخر من الزواج أعاد ثقافة استعباد المرأة تحت اسم " زواج الشغار"، وبه يتفق رجل مع رجل آخر أن يتزوج كل منهما ابنة الآخر بدون صداق، أو بأن يتبادلا الصداق ليأخذه كل منهما بدلا من العروس، ويستمتع كل منهما بابنة الآخر وشبابها بدون دفع صداق حقيقي.
تلك لمحة عن الظروف التي نزل فيها لأول مرة تشريع الميراث في بيئة صحراوية قوية التأثير إلى درجة أنها أعادت إنتاج نفس الثقافة المضادة للإسلام بعد الإسلام ونسبتها للإسلام تحت اسم السنة. نزل القرآن الكريم في تلك البيئة الظالمة، وفى أشد العصور الوسطى ظلاما وإظلاما، أي ظلمة الزمان وظلمة المكان، ومع ذلك جاء بأروع التشريعات وأكثرها تقدمية وعدلا، لولا ما فعله به أتباعه المسلمون السنيون وغيرهم.
ونتوقف الآن مع منهج القرآن في تشريع الميراث باعتباره تشريعا نزل لأول مرة.
هنا نلاحظ الآتي:
• إن التشريع جاءت تفصيلاته متتابعة في سياق واحد، لأنه تشريع جديد ينزل لأول مرة، بدأ بالآية السابعة من سورة النساء واستمر إلى الآية الرابعة عشر من نفس السورة.
• بدأ هذا السياق المتتابع بتمهيد يلخص تشريع الميراث بحسم وحزم يقرر أنّه (لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا) النساء "7". الآية تؤكد من البداية العدل بين الرجال والنساء فيما يرثونه من تركة الوالدين والأقربين . تأكيد العدل جاء واضحا بقول نفس العبارة للرجال (لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ) ثم تكرارها بنفس الألفاظ للنساء وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ) ثم التأكيد على أن ذلك يسرى على كل التركة بغض النظر عن قيمتها قليلة فقيرة ، أو ثمينة غزيرة(مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ). إذن هو عدل على مستوى الورثة وعدل على مستوى التركة، أو قل على المستوى الأشخاص والموضوع معا.
• حرصا على الالتزام بتطبيق تشريع الميراث جاء في سياق التشريع جاءت نصيحتان، الأولى لكل إنسان يتوقع الموت بأنه إذا كان قلقا على ذريته من الصغار والضعاف من بعده فعليه بتقوى الله تعالى والتزام الحق: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا
• ). يعنى إذا خاف على مستقبل ذريته من بعده فليتق الله تعالى وليقل الحق وحينئذ سيتكفل بهم الرحمن الرحيم جل وعلا. وقد ذكر القرآن في موضع آخر قصة الغلامين اليتيمين في المدينة، وقد كان أبوهما صالحا، وقد ترك لهما كنزا، وقد عاشا في رعاية الله تعالى وكنفه بسبب صلاح أبيهما المتوفى ( الكهف 82 ). الآية التالية جاءت تحذيرا شديدا لمن يأكل أموال اليتامى أو ميراثهم، إذ سيتحول هذا المال الحرام إلى نار في بطونهم وهم يذوقون عذاب السعير. (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا )
• بعد التمهيد الذي يؤكد على العدل، وبعد النصح والتحذير حتى يكون التطبيق على أكمل مستوى جاءت تفاصيل تشريع الميراث في آيتين (النساء 11، 12)
• بعد إيراد تفصيلات تشريع الميراث في الآيتين المشار اليهما جاء تحذير آخر صارم لمن يبغى على حدود الله تعالى. مصطلح الحدود في القرآن الكريم لا يعنى العقوبة وإنما يعنى الحق والشرع الالهى. وتشريع الميراث أحد حدود الله تعالى ومن ينتهك هذه الحدود ويتعداها عاصيا لله تعالى فجزاؤه الخلود في النار يتجرع فيها العذاب المهين. ومن يطع الله تعالى ورسوله ـ الرسول هنا فى مصطلح القرآن يعنى الرسالة أي القرآن ـ فجزاؤه الخلود في الجنة. وذلك هو الفوز العظيم. (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم. وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ُ) أي تخيل انك حرمت أخاك أو أختك من بعض ارثه، وكان هذا الميراث قليلا تافها لا يتعدى بعض المواشي أو بعض النقود، فان مصيرك إلى النار مهما عملت من طاعات، هذا هو منطق الآية، و لا نجاة لك إلا إذا أديت الحق لأصحابه قبل موتك وتبت توبة نصوحا عن انتهاكك لحدود الله تعالى.
بعد تشريع الميراث وردت للنبي محمد أسئلة تتعلق بمواضع لم يرد ذكرها بالتحديد. ولأن النبي محمدا عليه السلام ليس مفوضا بالإجابة ولا يملك إعطاء الفتوى حتى لو كان قادرا على الفتيا وعالما بالإجابة، فانه عليه السلام انتظر أن تأتى الإجابة من الله تعالى وحيا قرآنيا. وهكذا استفتوا النبي محمدا فانتظر الفتوى من الوحي: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ٌ ) النساء 176 )
بهذا اكتمل تشريع الميراث في القرآن الكريم، ومن السهل بعدها استخلاص خطوات توزيع الميراث كالآتي:
أولا:
قبل البدء بقسمة الميراث يجب الآتي:
1 ـ إذا حضر القسمة الأقارب ـ غير الورثة ـ واليتامى والمساكين فيجب إعطاؤهم بعضا منه مع الإحسان لهم في القول. (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا)
2 ـ ولا بد من تنفيذ الوصية وسداد الديون:
عن الوصية نقول:
تفصيلات تشريع الميراث في سورة النساء ( 11، 12 ) تردد فيها تنفيذ الوصية وسداد الديون قبل القسمة: (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ) (ْ مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ) (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ )
معنى ذلك إن تفصيلات الميراث في هذه السورة تحيل إلى تشريع الوصية الوارد في سورة البقرة، والذي يجعل الوصية واجبة على كل مسلم يترك ميراثا ولا بد أن يترك وصية قبل موته. والوصية تكون تحت رعاية ومسئولية المجتمع في إقرارها وفى تطبيقها حتى ترتبط بالعدل ولا يلحق ظلم في إقرارها أو في تنفيذها.
تشريع الوصية في سورة البقرة يقول:ً ُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) البقرة 180 ـ 182 )
الملاحظ أن الفقه السني قام بإلغاء هذا التشريع القرآني الكريم بحديث كاذب هو في الأصل قاعدة فقهية تقول: "لا وصية لوارث". وقد جعلوا تلك الفتوى تصادر التشريع القرآني الذي يأمر بالوصية لبعض الورثة ويجعل ذلك فرضاً على الإنسان حين يشرف على الموت. إن الله تعالى يقول ﴿ُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة 180). فالآية تفرض الوصية عند الموت للوالدين إذا كانا معا أو أحدهما على قيد الحياة، وتفرض الوصية للأقارب سواء كانوا ورثة أو لم يكونوا.. ومعروف أن للوالدين نصيباً مفروضاً في الميراث إلى جانب الوصية، يقول تعالى عن حق الوالدين في الميراث ﴿ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ ﴾ (النساء 11). إذن للوالدين نصيب مفروض في الميراث ولهما أيضاً نصًيب مفروض في الوصية، ولكن ذلك كله لم يغن شيئاً أمام حديث منسوب زوراً للنبي يقول "لا وصية لوارث"، فأسرعوا بإلغاء الحكم في قوله تعالى ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾.
لقد فرضوا تشريعا مناقضا لتشريع الإسلام تحت اسم السنة، وتناسوا ما في الآية من عبارات الإلزام والتأكيد مثل " كُتِبَ عَلَيْكُمْ " " حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ". وتناسوا التفصيل القرآني الحكيم الذي جاء بشأن الوصية أن من يبدل وصية الموت عقابه شديد عند الله ﴿ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾. وتأتى الآية التالية لتبيح التدخل في إصلاح الوصية إن كان فيها ظلم ليستقيم العدل، يقول تعالى ﴿ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾. وتناسوا أن آيات الميراث في القرآن جعلت تنفيذ الوصية وسداد الديون قبل توزيع الميراث. وتناسوا أن كلام القرآن عن الوصية جاء بصيغة مطلقة تدل على حق الإنسان في أن يوصى بوارث أو غير وارث فتقول آية الميراث ﴿ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾.. وتناسوا حكمة التشريع القرآني في الميراث والوصية، فقواعد الميراث تقوم على أنصبة محددة لا مجال فيها للتعديل أو التبديل، وفيها يتم توزيع التركة بالنصف وبالربع وبالثمن والسدس والثلث هكذا بالتحديد، ومصير من يتعدى تلك الحدود أن يكون خالداً في النار ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ (النساء 13،14). ولكن الوصية يمكن أن يراعى بها الإنسان الظروف الاستثنائية والحقوق الطارئة، يمكن بها إعطاء ابنته المحتاجة بالوصية ما يجعلها تعادل أو تفوق أخاها لأنه وجد العدل يحبذ ذلك، ومن الممكن طبعا أن يستخدم الوصية ليظلم ويوصى لمن لا يستحق، وهنا يتدخل المجتمع لاقرارالحق.
ولتوضيح ذلك أحكى قصة واقعية جاءني صاحبها يستفتيني، فهو رجل فلاح مكافح استطاع بمساعدة ابنه الأكبر أن يشترى عشرة أفدنة، واستطاع مع ذلك أن يقوم على تعليم ابنه الثاني حتى تخرج، ثم ذهب إلى الخارج وعاد ميسوراً قد اكتنز الأموال وأقام العمارات واشترى الأراضي، هذا في الوقت الذي استنفذ فيه الكفاح والبلهارسيا صحة الأخ الأكبر وأثقلته رعاية والده وأبنائه الكثيرين.. وجاء الأب العجوز يشكوا جحود ابنه الثاني الذي أخذ ولم يعط، ويريد أن ينصف ابنه الأكبر الذي كافح بأن يكتب له جزءاً من الأرض التي استطاع الأب بمجهود ذلك الابن أن يشتريها، وروى لي الأب أنه ذهب للعلماء في أمر تلك الوصية فأفتوا له بأنه لا وصية لوارث. وذلك الفلاح يرى بفطرته السليمة أن العدل أن يتميز الأخ الأكبر في التركة في مقابل كفاحه ومعاناته، ويرى أن من الظلم أن يتساوى الابن الأصغر مع أخيه الأكبر، وأن الوصية هي التي ستصلح الوضع. وقلت له أن الفطرة السليمة عنده هي التي جاء بها التشريع القرآني حين جعل الوصية فرضاً مكتوباً ليتم بها إصلاح مثل تلك الحالات حتى يستقيم العدل.

ثانيا : توزيع التركة:
وهذا يتم طبقا لما جاء في آيات سورة النساء (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا. وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ)( النساء 11،12.)
:( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) النساء 176 )
وهنا نلاحظ الآتي أن قاعدة "للذكر مثل حظ الأنثيين" تسرى فقط على الأبناء وبعض الأخوة والزوج دون الوالدين وإخوة الزوج المتوفى في ميراث الكلالة، فلكل من الوالدين نصيب مساو للآخر هو ثلث التركة إذا لم يكن للمتوفى ذرية أو أخوة، ولكل واحد منهما السدس إذا كان للمتوفى ولد أو أخ. كما أن للأقارب غير المذكورين نصيب غير محدد ليس فقط في إطار الوصية ولكن أيضا إذا حضروا القسمة.
لسنا في موضع التفصيل لتشريع الميراث وما أحدثه الفقه من اختلافات عن تفصيلات القرآن هنا، ولكن جئنا بتشريع القرآن في الميراث في وقفة سريعة تتناوله من حيث المنهج القرآني في بيان تشريع يأتي لأول مرة.

في تشريع متوارث لحقه التحريف:

* في الزواج والطلاق والأحوال الشخصية:

لم يتعرض القرآن لكيفية عقد الزواج لأنهم قبل الإسلام كانوا يتزوجون بنكاح صحيح فوالدا رسول الله (عبد الله وآمنة ) تزوجا بنكاح صحيح، والشاب محمد بن عبد الله قبل أن يكون نبيا تزوج خديجة بنكاح صحيح بنفس التراث الذي كان سائدا في عقد الزواج. ولأنه تراث صحيح فلا حاجة لتوضيحه فهو معروف في كل زمان ومكان.
ولم يذكر القرآن الكريم وجوب وجود شاهدين في عقد الزواج لأن ذلك كان ولا يزال عرفا يميز الزواج عن العلاقات السرية غير المشروعة، لكن التحريف في تشريع الطلاق وجعله كلمة ينطق بها الزوج ويطرد بها الزوجة من بيته ومن حياته جعلت تفصيلات القرآن تترى في موضوع الطلاق ومنها اشهاد شاهدي عدل. ومن أسف أن تحريفات الجاهلية في تشريع الطلاق أعادها الفقه السني، ولا زلنا نطبقها حتى الآن مع وضوح التشريعات القرآنية.
عرف الزواج الجاهلي بعض التحريف مثل نكاح زوجة الأب أو الجمع بين الأختين ونزل القرآن بتفصيلات واضحة في المحرمات في الزواج فيها التوصيف الكامل وفيها الاستثناءات الواضحة مثل قوله تعالى " وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ) (وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ) (وَرَبَائِبُكُمُ الَّلاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ الَّلاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ) (وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ) " النساء 22-)
وتجاهلت الجاهلية عدة المرأة المطلقة والمتوفى عنها زوجها فأنزل الله تعالى تفصيلات لكل حالة:{ البقرة 228 234 }{الطلاق 4}{الأحزاب 49} وجعل عدة المرأة مرحلة هامة هامة في الطلاق والزواج منعا لاختلاط الأنساب. ومنع عضل النساء أي منع المرأة من الزواج أو أن يتزوج الرجل أمرأة أخيه دون رضاها "النساء 19 ". وكان الطلاق مجالا خصبا لرجال الجاهلية في ظلم المرأة فدخل فيه كثير من الزيف فجاء القرآن بتفصيلاته توضح كل شيء: البقرة 226:241) (الطلاق 1-7). النساء 34 ؛ 35؛ 138 ؛139 ؛140).
وهكذا يعالج تشريع القرآن الخلل في الزواج والطلاق ويسكت عن التراث الصحيح المتعارف عليه.

* في الحج

1 ـ الحج أبرز معالم ملة إبراهيم.ولم ينزل القرآن يشرح مناسك الحج من البداية للنهاية لأن العرب كانت تحج وتؤدى المناسك منذ الجيل الأول من ذرية إبراهيم وإسماعيل، ولكن حديث القرآن الكريم عن الحج والبيت الحرام جاء مزيجا من التاريخ القديم لإبراهيم وإسماعيل، وتعليقا على الصراع الحربي بين قريش والمسلمين وانعكاس ذلك على منع المسلمين من الحج والقتال في البيت الحرام أو في الأشهر الحرم، وما استجد من أمور احتاجت إلى تصحيح أو تشريع جديد في فريضة الحج.
ونعطى بعض التفاصيل:.

إبراهيم والبيت الحرام والحج
فالبيت الحرام هو البيت العتيق أو أول بيت وضعه الله تعالى للناس، وأوجب الله تعالى الحج إليه فرضا على كل مستطيع من الناس، وفى مقدمتهم أهل الكتاب الذين توارثوا ملة إبراهيم.
اقرأ في ذلك قوله تعالى لأهل الكتاب على وجه الخصوص:
{ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ }{ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) { آل عمران 95ـ 97}
إبراهيم عليه السلام هو الذي أرشده الله تعالى إلى مكان البيت الحرام، وأمره بإعداده لاستقبال الحجيج، وأمره بدعوة كل البشر للحج ليأتوا إليه من كل فج عميق مهما اختلفت عقائدهم ومللهم وأديانهم طالما كانوا مسالمين غير معتدين:
"{ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ }{ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } الحج 26 ـ29
وقام إبراهيم مع ابنه إسماعيل ببناء البيت ( الكعبة )
إقرأ قوله تعالى :
(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ) البقرة 125 ـ 130 )

واضح هنا أن ـ البيت الحرام بيت الله تعالى ـ عام لكل الناس باعتبارهم عباد الله تعالى،وليس مقصورا على المسلمين وحدهم . وإن إبراهيم وإسماعيل عندما كانا يرفعان قواعده كانا يدعوان الله تعالى بأن يمنّ بالخير والبركة على سكان مكة باعتبارهم أهل البلد القائم على رعاية البيت ورعاية ضيوف الرحمن جل وعلا. وقد دعوا الله تعالى بان يهديهما وذريتهما للتمسك بالإسلام فالإسلام هو دين الله تعالى لكل البشر مهما اختلفت اللغات والرسالات والأقوام والزمان والمكان، وهو باختصار إسلام الوجه والقلب لله تعالى وحده ومسالمة الناس.
أما كيفية العبادة فقد دعى إبراهيم وإسماعيل أن يمن الله تعالى عليهما بأن يريهما مناسكها، وتلك المناسك شملت الحج وغيره وأطلق عليها "ملة إبراهيم ". ودعا إبراهيم وإسماعيل الله تعالى أن يبعث من ذرية إسماعيل نبيا يقوم على تعليمهم وتزكيتهم وإرجاعهم إلى حقيقة ملة إبراهيم التي قال تعالى عنها في نفس السياق: " . وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ".
وجاء محمد خاتما للنبيين ليجد قومه قد توارثوا ملة إبراهيم وحرفوا فيها وخلطوا الصحيح بالفاسد فنزل القرآن الكريم يعالج الوضع ويأتي ببعض الجديد من التشريعات ويرد على بعض التساؤلات.
قريش توارثت الحج من ملة إبراهيم وأفسدته

الكفر أساس البلاء لدى قريش وغيرها:

الكفر هو نفسه الشرك، ويجمعهما معنى الظلم. فالكفرالعقيدى بالله تعالى والشرك به ظلم له تعالى، والكفر أو الشرك في السلوك هو الاعتداء على الناس والبغي عليهم في حق الحياة والمال والعرض. وقد مارست قريش الكفر العقيدي باتخاذ أولياء وإقامة أوثان وأنصاب وأصنام لها حتى داخل الحرم، ومارست الكفر السلوكي بالظلم للبشر والاعتداء عليهم بالقتل والاسترقاق حتى في الأشهر الحرم. وكانوا يفخرون بالكفر السلوكي والكفر العقدي معا ، كما كانوا يفخرون برعايتهم لبيت الله الحرام والقيام على رعاية الحجيج وعمارته وتعميره. ورد الله تعالى عليهم بأن ما يقدمونه من عمل صالح سيضيع وسيحبطه الله تعالى لأنه صدر من عقيدة ظالمة كافرة واقترن بكفر سلوكي معتد أثيم.
يقول تعالى في قاعدة عامة: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّه شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ. إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } ثم يقول لهم موبخا: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } التوبة17ـ 19 }

الصد عن البيت الحرام عند قريش وغيرها :

بهذا الكفر العقيدي والسلوكي واجهت قريش النبي محمدا وأصحابه المسالمين المستضعفين.وبسبب الاضطهاد والتعذيب هاجر بعض المسلمين مرتين للحبشة ثم هاجروا إلى المدينة ومعهم خاتم النبيين عليه وعليهم السلام. تابعت قريش المسلمين في المدينة بالقتال والاعتداء بعد هجرتهم ومنعت المسلمين من الحج إلى البيت الحرام وهم أحق الناس ببيت الله الحرام، مما استوجب تهديد الله تعالى للقرشيين بالعذاب، فقال: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } الأنفال 34}
ويؤكد رب العزة على حقيقة هامة أغفلتها قريش وتغفلها الآن المملكة السعودية وهى أن بيت الله تعالى والحج إليه حق لكل الناس يستوي في ذلك أهل مكة والقادمون إليها من كل بنى البشر ، لا فرق بين هؤلاء وهؤلاء في استحقاق الحج:{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } الحج 25 )
أى بغض النظر عن الدين والمذهب والمعتقد والجنس واللون والغنى والفقر طالما كان القادم للحج مسالما لا يحمل سلاحا. هو مسلم حسب سلوكه ولا شأن لنا بعقيدته ، وليس لنا أن نقيم محاكم تفتيش واختبارات فى عقيدة كل قادم للحج، وليس لنا أن نشق على قلب كل حاج لنعرف اخلاصه أو تقواه أو سريرته. المطلوب فقط أن يكون مسالما حسب الظاهر ليكون مسلما.
المشركون باعتدائهم وتسلطهم على الآمنين هم ما نعرفهم اليوم باسم الارهابيين ، وهم الذين لا يتورعون عن تفجير بيوت العبادة ، وفى مقدمتها المساجد، ولا يتورعون عن قتل المارة و الأبرياء والنساء والأطفال ، وفى مقدمة ضحاياهم المسلمون فى مصر والجزائر والعراق وباكستان وتركيا وافغانستان وغيرها من بلاد تعيش فيها أكثرية مسلمة. هم الذين احتلوا المسجد الحرام فى حركة جهيمان العتيبى فى مطلع عام 1400 سنة 1997.هؤلاء الوهابيون المعتدون هم فقط الممنوعون من الحج للبيت الحرام الذى جعله الله تعالى مثابة للناس وأمنا ، وجعل من تشريعه أن كل من دخله كان آمنا. ومن أسف أنهم هم الذين يسيبطرون على المسجد الحرام ، وما كانوا أولياءه ، إن أولياءه إلا المتقون.!!
إنها نفس قصة قريش الطاغية تتكرر. قصة الصد عن بيت الله الحرام لاعتبارات سياسية ودنيوية، وقصة استغلال الاسلام مطية للحكم ، إما للوصول اليه أو للاحتفاظ به.
وبعد فتح مكة لم يخضع أئمة الكفر من قريش فاستأنفوا اعتداءهم ، فأعطاهم الله تعالى مهلة للتوبة ، ومنعهم من دخول البيت الحرام أو الاقتراب منه ( التوبة 28 ). وظلوا كذلك الى أن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وفق ما حدده رب العزة فى سورة التوبة التى حفلت باشارات تاريخية غفل عن التعقيب عليها رواة السيرة.
وقبل فتح مكة رأى النبي محمد عليه السلام مناما أنه يحج البيت، فبادر بالذهاب مع عدة آلاف من أصحابه للحج مسالمين بدون نية حرب ولكن قريشا منعتهم من الدخول. وبعد ومفاوضات تم عقد صلح الحديبية ، ونزلت في هذا الموضوع سورة الفتح وفيها يقول تعالى عن المشركين القرشيين (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ) ويقول عن النبي محمد عليه السلام : " لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ } الفتح 25 ـ 27 }.
تشريع الاحصار فى الحج

هذه ملامح قرآنية تدخل في تاريخ العلاقات بين المسلمين الأوائل وقريش، إلا أن ذلك الصد عن بيت الله تعالى ومنع المسلمين من الحج أوجد وضعا جديدا في تشريع الحج الذي توارثته قريش والعرب ضمن معالم ملة إبراهيم. هذا الوضع الجديد كان يستلزم تشريعا جديدا يعطى الفتوى الإلهية فيمن يريد الحج واستعد له ولكن حاصرته ظروف تمنعه من الحج، فماذا يفعل.
هنا جاء التشريع القرآني الجديد ليعالج بالتفصيل هذه الحالة وهى "الاحصار: فقال تعالى في تشريع جديد هنا: { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } البقرة 196 )
تشريع القتال في البيت الحرام وفى الأشهر الحرم
واستلزم الاعتداء القرشي على المسلمين في المدينة نزول الإذن للمسلمين بالقتال، ثم تطورت المعارك لتتشابك مع نوعين من الحرمات: الحرمة الزمانية وهى الأشهر الحرم، والحرمة المكانية وهى البيت الحرام، وثارت أسئلة عن القتال الدفاعي للمسلمين: هل يجوز في الأشهر الحرم ؟ وهل يجوز في البيت الحرام ؟ ونزلت الإجابة في الوحي القرآني بالتفصيل.
نزلت القاعدة الأساسية وهى أن يكون القتال دفاعيا فقط وليس هجوميا معتديا:{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } وعليه فالمعتدون لا يحبهم الله تعالى لهم.
وهذا ينطبق على ما يسمى بالفتوحات الاسلامية التى كانت اعتداء على شعوب وأمم لم تعتد على العرب المسلمين. كانت احتلالا واستعبادا لبلاد لم يسبق لها ان رأت الجزيرة العربية. وتلك الجريمة الكبرى فى حق الاسلام والتى ارتكبها الخلفاء الراشدون ثم الخلفاء الأمويون كانت استمرارا لقصة الطغيان القرشى قبل وبعد نزول القرآن الكريم. وهذا الطغيان هو الذى أضاع الصلاة قبل وبعد نزول القرآن الكريم.
وعن القتال عند المسجد الحرام قال تعالى :ِ(وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ } أي هو قتال دفاعي فقط إذا هاجمهم العدو داخل المسجد الحرام.
وهو نفس الفتوى الإلهية في القتال في الشهر الحرام، أي رد الاعتداء إذا حدث في الأشهر الحرم: { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }

ولم يكتف بعضهم بهذا التوضيح فسأل النبي محمدا عليه السلام نفس السؤال، ولأنه عليه السلام لا يملك أن يفتى في الدين طالما ينزل الوحي فقد انتظر الإجابة من الله تعالى، وهذه إحدى معالم التشريع القرآني الإسلامي:أن النبي لا يملك الإفتاء وإنما ينتظر مجيء الفتوى من الله تعالى، حتى لو كان السؤال قد سبقت الإجابة عليه، وحينئذ ينزل قوله تعالى ( يسألونك عن ) كذا ( قل ) كذا. وهذا ما حدث هنا.
بعد نزول الآية السابقة قاعدة عامة تؤكد أن الشهر الحرام بالشهر الحرام وأن الحرمات قصاص لم يقتنع بعض الصحابة وسأل نفس السؤال عن القتال في الأشهر الحرم، وانتظر النبي الإجابة، وكان يمكنه أن يحيله إلى الآية السابقة، لكنه لا يملك حتى الإحالة إلى ما نزل من القرآن، ونزل قوله تعالى بالتوضيح والتحليل والتعليل: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )
وفى كل الأحوال فإذا كفوا عن الاعتداء فلا مجال للحرب:{ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ }
( البقرة 190 ـ 194 & 217 )

التحريف ونزول القرآن للتوضيح

1 ـ كان النسيء من معالم التحريف في ملة إبراهيم، ويعنى استحلال القتال في بعض الأشهر الحرم وتأجيل التحريم إلى شهر آخر أو عام آخر. وقد اعتبره رب العزة جل وعلا زيادة في الكفر، فقال:
(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } التوبة ـ37 }
قبل هذه الآية الكريمة أوضح الله تعالى عدة أشهر العام وأن منها أربعة حرم يحرم فيها الظلم { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ } التوبة 36}
2 ـ وكان من الاعتداء وانتهاك حرمة البيت الحرام قتل الصيد أثناء الإحرام واستحلال الشعائر والمشاعر الحرام وقطع الطريق على قوافل الحجاج ونهبهم وقتلهم ونهب الهدى من الإبل والأنعام التي تساق لتنحر هديا لإطعام ضيوف البيت الحرام. والاستمرار على ذلك أنسى العرب أن ذلك انتهاك لحرمة الكعبة ومناسك الإحرام. بعد فتح مكة كان لا بد من منع هذه الانتهاكات وتأكيد التشريع الذي يخصها والذي نسيه العرب في حمأة عصيانهم وضلالهم، فنزلت سورة المائدة ـ وهى أواخر ما نزل من القرآن ـ بافتتاحية تقول للمؤمنين مباشرة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ } المائدة 1ـ 2 }
إلا انه كان اختبارا عسيرا ـ فيما يبدو ـ أن يكف الناس عن الصيد في الحرم وهم في الإحرام، فأنزل الله تعالى لهم هذه الآية تحذيرا وإنذارا يؤكد لهم انه سيجعل حيوان الصيد ( من غزال ووعول وظباء) يدخل الحرم ليكون في متناول أيدي الناس ورماحهم، فهل سيقتلونه وهو في ضيافة الرحمن أم لا ؟ وهنا اختبار شخصي للتقوى، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
ثم جعل الله تعالى عقوبة فدية على من يقتل الصيد وهو في حالة إحرام. وجعل تنفيذ الفدية مرتبطا بضمير الحاج نفسه، يقول تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ) .. و كلمة (مُّتَعَمِّدًا) في الآية الكريمة تجعل الأمر موكولا إلى نية الحاج وضميره، فهو وحده الذي يحكم هل قتل الصيد متعمدا قاصدا أم ناسيا ساهيا.
ثم تؤكد الآية التالية بإيجاز وإعجاز أن كل لحم البحر حلال، بينما يحرم صيد البر في حالة الإحرام فقط، يقول تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) وفى النهاية يقول رب العزة عن الكعبة بيت الله تعالى الحرام : (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } المائدة 94 ـ 97 }
الرد على الأسئلة والاستفسار

3 ـ كانت قريش تجعل لنفسها أفضلية في تأدية مناسك الحج فيما يعرف ب ( الحمس ) فكانوا عند الإحرام لا يدخلون بيوتهم من أبوابها ولكن من ظهورها، ويجعلون ذلك من التقوى في أداء المناسك، فقال تعالى لهم: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
وأباح لهم التجارة وتبادل المنافع مع التركيز على عدم تميزهم في طواف الإفاضة على بقية الناس، فلا بد أن يفيضوا من حيث أفاض الناس {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ }{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
4 ـ واعتاد العرب الفخر بالشعر في أسواق عكاظ وغيرها وامتد ذلك إلى اجتماعهم في الحج الذي هو في الأصل لتعظيم الله تعالى وحده وليس للفخر بالأسلاف وتمجيد الآباء، لذا أرشدهم الله تعالى إلى ما هو أفضل؛ الدعاء لله تعالى بأفضل صيغة للدعاء في الحرم وخارجه: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ . وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } البقرة 189 ـ202 }
5 ـ وسأل بعضهم عن وجوب الطواف بين الصفا والمروة فنزلت الإجابة الإلهية بأنه مباح و لا حرج فيه: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } البقرة 158}
هذه لمحات قرآنية توضح منهج القرآن الكريم التصحيح في تشريع العبادات المتوارثة من ملة إبراهيم، ومنها الحج. ..فماذا عن الصيام ؟
في الصيام

1 ـ ونزل تشريع الصيام على العرب الذين كانوا يصومون شهر رمضان.
نزل في المدينة. وكان شهر رمضان معروفا للمسلمين بأنه شهر القرآن فهو الذي نزل فيه القرآن مرة واحدة على قلب النبي محمد حين كان في مكة.
أول آية في تشريع الصوم قالت :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) لم تشرح ألآية الأولى في تشريع الصوم معنى الصوم وأنه الامتناع عن الطعام والشراب واللقاء الجنسي بالزوجة – كما تفعل كتب الفقه . والسبب بسيط هو أن العرب كانوا يصومون رمضان، بل وكانوا يتخذون منه عادة اجتماعية للهو واللعب بدون مراعاة للتقوى كما نفعل نحن الآن. لذا تخبر الآية الأولى في التشريع القاعدة الأولى وهى تأدية الصوم كما اعتادوه بنفس ما كان في ملة إبراهيم (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) من الامتناع عن الأكل والشرب واللقاء الجنسي، وهوالذى كانوا يفعلونه أنفسهم في مكة قبل أن ينزل التشريع القرآني بهذا التصحيح والتنقيح.
ثم تختم آية التشريع الأولى بتقرير أقامة الصوم في سلوك المؤمن عقيدة وسلوكا أي أن يكون هدف الصوم هو التقوى. (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

2 ـ بعد تقرير أن الصوم عبادة متوارثة ولا بد من مراعاة التقوى فيها تأتى الآيتان التاليتان بتشريع جديد لم يكن موجودا من قبل وهو عن الأعذار المبيحة للفطر في رمضان، ولأنه تشريع جديد فقد جاءت تفصيلاته واضحة، بل وتكررت في آيتين متتاليتين توضحان بالتفصيل السماح للمريض والمسافر وعدم القادر على الصوم بالإفطار ومجال دفع الفدية أو قضاء الصوم (البقرة 183- 185).

3 ـ وكان الصوم المعروف المتوارث وقتها قبل نزول التشريع القرآني الجديد يبدأ بعد العشاء ويستمر طيلة الليل والنهار حتى مغرب اليوم التالي ليكون الإفطار مرحلة قصيرة هي ما بين المغرب والعشاء فقط. وكانت هذه الفترة القصيرة لا تكفى إلا للطعام فحسب، ويأتي الليل فيضطر أحدهم لمباشرة زوجته في وقت يجب أن يكون فيه صائما. ونزل التخفيف تشريعا جديدا مفصلا في قوله تعالى " أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ) أي جاء التشريح الجديد بأن مباشرة الزوجة مباح في ليلة الصيام (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ) وهنا يخبر الله تعالى عن وقوع بعضهم في مباشرة الزوجة في ليلة الصيام حين كان واجبا الصوم فيه، ويبشر الله تعالى بأنه عفا عنهم وتاب عليهم، وأنزل هذا التخفيف عليهم، لذا جاء التشريع الجديد يقول للمؤمنين (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) يأتي هنا تفصيل التشريع الجديد لوقت الإفطار في رمضان حيث يباح الأكل والشرب واللقاء الجنسي بالزوجة من مغرب الشمس إلى طلوع الفجر، وظهور أول تباشير الضوء حين تتمكن العين المجردة من تمييز الخيط الأبيض من الخيط الأسود . توضيح مفصل في تشريع جديد يعقبه تشريع جديد آخر يتضمن تصحيحا لتشريع قديم هو الاعتكاف في ليالي رمضان في المساجد (وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )... البقرة 187-) كانوا يعتكفون في المساجد رجالا ونساء، وكان الزوج يعتكف مع زوجته في المسجد في ليالي رمضان، وكان يحدث لقاء جنسي بينهما وقت الاعتكاف، لذا نزل التشريع الجديد يحرم ذلك اللقاء الجنسي بالزوجة أثناء الاعتكاف الرمضاني في المسجد.

4 ـ ذلكم هو بيان القرآن لما يحتاج فعلا إلى بيان من تشريع جديد يعرفه الناس لأول مرة أو يوضح وجه الحق في تحريف أدخله الناس في تشريع سائد. لذا اختتمت الآية بتقرير أن ذلك هو بيان القرآن للناس لعلهم يتقون: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ]
وبالفعل فان بيان القرآن الكريم في تلك الآيات احتوى على كل ما يلزم المؤمن في تشريعات الصوم. وما أحدثه الفقهاء بعدها من ثرثرة وفتاوى وأحكام فقهية كلها هراء لا طائل من ورائه، لذا اختلفوا فيه وانشغلوا بهذا الاختلاف قرونا وكتبوا فيه آلاف الصفحات عبثا.

وبنفس المنهج القرآني جاءت تفصيلات القرآن عن فريضة الصلاة التي أثبتنا أن العرب كانوا يعرفونها شكلا ويؤدونها ركعات وفرائض ولكن دون خشوع وإيمان وإخلاص في القلب ودون تقوى وطاعة في الجوارح.

منهج القرآن في تفصيلات فريضة الصلاة:.

1-كما كان عقد الزواج تراثا معروفا لا اختلاف حوله فلم يتعرض له القرآن وهكذا كان معنى الصوم معروفا ومتوارثا، و كانت مناسك الحج وترتيبها تراثا معروفا فلم يتعرض القرآن لتوضيح الواضح الشائع. وكذلك كانت ـ ولا تزال ـ ركعات الصلاة ومواقيتها تراثا معروفا واضحا فليس لها نصيب في تبيين القرآن ، فالشيء المبين لا يحتاج إلى بيان إلا كان إعجاز القرآن عبثا وتعالى الله عن العبث والهزل. يقول تعالى عن القرآن الكريم : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) الطارق 13؛14)
2- كان الخلل في صلاة المشركين متمثلا ليس في الشكل ولكن في المضمون، أي عدم إقامة الصلاة، لذا تركز حديث القرآن حول إقامة الصلاة والمحافظة عليها بالتقوى والتحذير من الشك والعصيان وذلك في التشريع المكي خصوصا، وفيها يأمرهم الله تعالى بالمحافظة على الصلاة وإقامتها، ذاكرا "الصلاة " بالألف واللام ( أل) التي تفيد العهد، أي الصلاة المعهودة لديكم، بما يؤكد أن الصلاة معروفة لديهم.يقول تعالى يوجب إقامة الصلاة طالما ظل الإنسان مستيقظا غير نائم: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) هود 114 ) طرفا النهار وبعض الليل يشمل كل وقت اليقظة للإنسان، وعليه في هذا الوقت أن يؤدى الصلاة في مواقيتها وأن يحافظ على صلاته بالتقوى فيما بين أوقات الصلاة طالما ظل يقظا، فإذا نام فلا مسئولية عليه، وبهذا يكون قد أقام الصلاة كل يومه. ويقول تعالى في سورة مكية أخرى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا. وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ) الإسراء 78 ـ79 ) هنا أمر آخر للنبي وللمؤمنين بإقامة الصلاة طيلة وقت اليقظة، مع إضافة قيام الليل وقرآن الفجر لمن أراد أن يكون من السابقين المقربين يوم القيامة. المقام المحمود هنا هو الجنة وليس الشفاعة كما يعتقد المكذبون للقرآن الكريم. اقرأ قوله تعالى عن السابقين ممن ورثوا القرآن وعملوا بمقتضاه (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ. جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ. الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) فاطر 32 ـ ) فمن أوصاف الجنة هنا أنها المقام المحمود.
3- وقد نزلت آيات تعالج نواحي الخلل ويظهر من أسلوب القرآن فيها أنه يكلم أناسا يعرفون الصلاة ويمارسونها قبل نزول الآيات ولكن حدث خلل من ناحية ما فجاءت الآيات تنبه على الخلل ولا تشرع شيئا جديدا بالنسبة للصلاة.
* فالآذان للصلاة كان معروفا وحدث أن المشركين كانوا يستهزئون ويتلاعبون وقت الآذان فنزل قوله تعالى " وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ) المائدة 58) فليس هنا تشريع للآذان عند الصلاة وإنما احتجاج على خلل أحدثه المشركين عند الآذان.
* ومنذ عهد إسماعيل وأبيه إبراهيم عرف العرب يوم الجمعة الذي يجتمعون فيه لأداء صلاة جماعية أسبوعية، ومنها اشتق اسم يوم الجمعة. وكان اهتمام المشركين قبيل صلاة الجمعة ينصب على البيع والتجارة. وبعد الهجرة لم يتخلص بعض المسلمين من هذه العادة السيئة، وحدث إن أقبلت قافلة تجارية للمدينة في يوم الجمعة أثناء وقوف النبي للخطبة، وكان وقتا عصيبا فسارع بعضهم للخروج من المسجد وترك النبي قائما يخطب الجمعة، فنزل قوله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ). الجمعة 9-)
لم تنزل هذه الآيات الكريمة لتشريع صلاة جديدة هي صلاة الجمعة، وإنما لتنبه على خلل وقع فيها ولا يزال يقع، إذ ينبغي أن يبادر المسلم للذهاب إلى المسجد حين يؤدى صلاة الجمعة وأن يترك البيع ثم إذا انتهت الصلاة يعود إلى بيعه وتجارته كالمعتاد في بقية أيام الأسبوع فليس يوم الجمعة أجازة من العمل، المهم ألا يفتر المسلم عن ذكر الله. ثم يأتي اللوم لأولئك الذين انفصلوا عن الرسول وتركوه في المسجد قائما يخطب.

4- وبمناسبة ذكر القرآن ليوم الجمعة نقول لأولئك الذين لا يفهمون معنى تبيين القرآن أن أيام الأسبوع من الجمعة للسبت معروفة ولم يحدث أن اختلف الناس في يوم ما هل هو يوم الأربعاء أم الخميس، ولأن أيام الأسبوع شيء بين واضح فلم يأت عدد أيام الأسبوع في القرآن لان تبيين القرآن يكون لما يستلزم التبيين من الأشياء الغامضة، وتخيل جدلا- ونستغفر الله- لو جاءت أيام الأسبوع في القرآن لكان الأمر مدعاة للاستهزاء بآيات الله تعالى وكتابه، ونستغفر الله العظيم.
وهكذا كان العرب يعرفون أيام الأسبوع ويعرفون عدد ركعات الصلاة ومواقيتها فلم يأت ذكر لبعض الفرائض إلا في سياق الحديث عن خلل ما أو في سياق تشريع أخر...
لم يأت ذكر لأيام الأسبوع إلا يوم الجمعة في مناسبة خلل حدث في صلاة الجمعة، وذكر القرآن الكريم يوم السبت بمناسبة الخلل الذي أحدثه اليهود في يوم السبت يقول تعالى: (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ) النحل 124) (وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ) (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ)النساء 154؛47)
لم يذكر القرآن من أيام الأسبوع إلا يوم الجمعة والسبت فهل معنى ذلك أن نلغى باقي الأيام ؟ أو نجعل الأسبوع يومين فقط. أو أن نتهم الله تعالى بالكذب والتفريط لأنه لم يعرفنا أيام الأسبوع ؟

5ـ ونفس الحال بالنسبة للأشهر وعدتها في السنة. لم يذكر القرآن الحكيم ذلك إلا بمناسبة النسيء الذي كان يرتكبه العرب الجاهليون ({إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ..}( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } التوبة 36 ـ37 }
وذكر القرآن الكريم شهر رمضان لارتباطه بتشريع الصيام، فهل معناه أن بقية الأشهر غير معروفة أو غير معترف بها ؟ أو يدور خلاف هائل حولها أو حول ترتيبها ؟
لقد سئل خاتم النبيين محمد عليه وعليهم السلام عن سؤال يعرف إجابته يقينا، وكالعادة لم يرد بما يعرف وانتظر الإجابة من الوحي ونزل الوحي يقول " (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) البقرة 189 ). أي كانوا يعرفون الأهلة ( جمع هلال ) ويتخذون منها تقويما قمريا للحج ولبقية الأغراض التي يحتاجها الناس. والإجابة القرآنية لم تأت بجديد لا يعرفه العرب، ولكن الجديد فيها لنا هو أن نعرف ونؤمن بأن النبي محمدا لم يكن له أن يفتى في الدين حتى فيما كان يعرفه، وأن نؤمن أن تفصيلات القرآن لم تترك شيئا يحتاج إلى تبيين بدون توضيح، وأن كل سؤال وجّهه الناس للنبي جاءت إجابته في القرآن الكريم، حتى الأسئلة المكررة جاءت الإجابات القرآنية عليها مكررة ولكن تحمل نفس المعنى وبتفصيلات أخرى في نفس الموضوع. وللمزيد لمن يريد: ارجع إلى المصحف المفهرس وراجع كلمة " يَسْأَلُونَكَ " وَ " يَسْتَفْتُونَكَ ".

6- ولأن فرائض الصلاة وركعاتها معروفة للعرب مثل معرفتهم لأيام الأسبوع فإن القرآن يذكر بعض الفرائض مثل الفجر والظهر والعشاء ليس لتشريع جديد يفرض صلاة الفجر والعشاء ولكن في سياق حديثه عن تشريع أخر هو تشريع الاستئذان، يقول تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاء ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). النور 58)
لم يخترع المسلمون ساعة زمنية يعرفون بها الوقت، ولأنهم يقيمون الصلاة في أوقاتها ويحافظون عليها في غير أوقاتها فإن مواعيد الصلاة كانت مقياس الوقت لديهم، لا يقولون الساعة الثالثة مثلا وإنما يقومون قبل صلاة الظهر أو بعد صلاة العصر، وهذه لغة خاصة بمن يقيم الصلاة في قلبه وجوارحه وحياته. وهذه اللغة لا تزال حتى الآن بين المحافظين على الصلاة في مواعيدها.
لذا يتحدث القرآن إليهم بلغتهم هذه حين يشرع آداب الاستئذان، وعليه فالأطفال والموالى عليهم الاستئذان عند الدخول على البالغين في أوقات الراحة بعد صلاة العشاء وقبل صلاة الفجر، إذ أن عادة المسلمين هي الراحة بعد صلاة العشاء ثم الاستيقاظ لصلاة الفجر، والقيلولة بعد صلاة الظهر، وهذا التشريع ليوجب استئذان الأطفال والخدم عند الدخول على الآباء والأمهات والكبار في أوقات الراحة والنوم. أما الكبار البالغون فعليهم الاستئذان في كل وقت وفقا لما جاء في الآية التالية: (وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) النور 59 )
هذا بيان الله تعالى لاستئذان الصغار والكبار، وقد جاء بالتفصيل، وهو مسألة اجتماعية ليست في منزلة الصلاة، فهل يا ترى يهمل الله تعالى كيفية الصلاة ومواقيتها بينما يشرح "آداب الاستئذان" داخل البيوت ؟ القضية أن العرب كانوا لا يعرفون هذه الآداب الراقية الحضارية فنزل تعليمهم لها بالتفصيل في سورة النور وغيرها. أما الصلاة فقد كانوا يعرفونها ويؤدونها بنفس الكيفية والعدد ، لذا كان عبثا توضيح ما هو واضح لهم.
إن الآية لم تنزل لتشريع صلاة الفجر أو صلاة العشاء وإنما لتشريع الاستئذان قبل صلاة الفجر وبعد صلاة العشاء وبعد صلاة الظهر، ومعناه الواضح أن المسلمين قبل نزول الآية كانوا يعرفون صلاة الفجر وصلاة العشاء، بل كانوا يضبطون إيقاع الحياة على أوقات الصلاة. ولأن معرفة أوقات الصلاة وركعاتها من البديهيات لم يتعرض لها بيان القرآن، ويكفى أن الآية ختمت بقوله تعالى " كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). النور 58) . فهذا تبيين الله العليم الحكيم لما ينبغي تبيينه وتوضيحه، أما الواضح المبين البيّن فلا يوضحه أو يبينه القرآن الكريم. وهذا ما ينبغي أن نفهمه قبل أن نبادر باتهام المولى عز وجل بأنه فرط في كتابه.

7- ولم يأت التشريع القرآني بجديد خاص بالصلاة في مكة وإنما جاء في المدينة وحين نزل ذلك التشريع الجديد نزل مفصلا يوضح كل شيء في هذا التشريع الجديد .
* وأول تشريع جديد في الصلاة هو الخاص بالقبلة، وكان في حقيقته اختبارا في الطاعة، فالعرب كانوا يتوجهون في الصلاة إلى الكعبة، وبتوالي القرون بعد أبيهم إسماعيل ترسب فيهم الشعور بتقديس بناء الكعبة، وزاد ذلك وقوعهم في الشرك وعبادة الأضرحة والأنصاب والأصنام وزرعها حول الكعبة، فإذا كانوا يقدسون حجارة القبور والأنصاب والأوثان والأضرحة والأصنام فحجارة الكعبة أولى بالتقديس. وبمجيء النبي محمد خاتما للنبيين ورجوع كثيرين إلى الحنيفية الإبراهيمية الحقيقية تم تنظيف قلوبهم من الاعتقاد في الأوثان والأنصاب والأصنام والقبور المقدسة. لكن لا يزال هناك تقديس في داخلهم لبناء الكعبة خصوصا وهم يتجهون إليها في صلاتهم اليومية. وازداد الأمر بعد هجرتهم من مكة إلى المدينة إذ اختلط لديهم الحنين للوطن ( مكة ) وبيت الله تعالى الحرام بمشاعر التقديس للكعبة. وكان لا بد لهم من مواجهة مع النفس بامتحان يتضح لهم فيه أن التوجه للكعبة لا يعنى تقديسا لها على الإطلاق وإنما هو طاعة للآمر رب العزة جل وعلا. تماما مثلما أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم ، فلم يكن تقديسا لأدم ، بل كان اختبارا للطاعة. نفس الحال هنا؛ امتحنهم الله تعالى بأن أمرهم بالتوجه إلى مكان آخر. وأطاع النبي والمؤمنون معه وصبروا على أقاويل السفهاء بتغيير القبلة، وبعد أن نجح النبي والمؤمنون في الاختبار نزل الوحي يجيب رجاء الرسول لله بالعودة إلى التوجه للبيت الحرام، فقد تعلموا الدرس.
وتفصيلات الموضوع جاءت في سورة البقرة(142؛150)
* ثم نزل تشريع الوضوء والطهارة والغسل والتيمم، ولم يكن معروفا من قبل، وجاء بيانه في آيتين في المدينة " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ }. النساء 43) ومع هذا البيان المحكم المفصل فقد تكرر في سورة المائدة وبتفصيلات جديدة عن الوضوء يقول تعالى . " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ. المائدة 6) وتأمل كلمة الصلاة في " لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ " " إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ " أي الصلاة المعروفة لديكم وعليكم قبل أن تقومون لها أن تتطهروا لها، أو بالمصطلح الفقهي "الوضوء " فالصلاة معروفه أما الغسل والطهارة قبل الصلاة فهو شيء جديد نزل تشريعه لأول مرة.
* وفرض الله تعالى القتال على المؤمنين في المدينة بعد الهجرة.
والهجرة نفسها نوع من الجهاد، إذ أنه سفر فيه مطاردة وضرب في الأرض شديد، والمؤمن في حال الهجرة والقتال مطالب بالصلاة لأن الصلاة كانت على المؤمنين ـ قديما وحديثا ت كتابا موقوتا أي فرضا يؤدى بتوقيته كل يوم. وعليه كان لابد أن ينزل تشريع خاص للصلاة في وقت الخوف أثناء الهجرة والقتال.
وحين نزل تشريع صلاة الخوف نزل مفصلا يتحدث لأناس يعرفون الصلاة معرفة اليقين، وجاء الحديث عن صلاة الخوف في سورة النساء (100؛103) ويبدأ بالهجرة وما فيها من مشاق وإمكانية الموت أثناءها { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا }.
ثم يتحدث المولى تعالى عن نوعية السفر التي تستلزم قصر الصلاة { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا) ثم توضح الآيات التالية طريقة الصلاة في الركعة الواحدة والتعديل الذي يلازم ظروف المواجهة مع العدو حين الصلاة " وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا " النساء 100، 101، 103، 102.
واضح في الآيات أن قصر الصلاة يكون فقط في حالة السفر المرتبط بالخوف " إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ " وان القصر من الصلاة الكاملة المعتادة المعروفة، وأن مقدار الركعات التي تقصر من الصلاة متروك حسب ظروف المواجهة . والتفصيلات كافية هنا في توضيح ذلك التشريع الجديد بحيث لا يحتاج إلى إضافة أو استفهام، فمثلا لا بد من كتبية حراسة تحمل السلاح وتحمى الفريق الذي يصلى خصوصا عند السجود، وبعد أن تنهى صلاة القصر يتبادلون المواقع فيصلى الحراس ويقوم الآخرون بالحراسة، ولابد من التمسك بالسلاح إلا في حالة الضرورة في المطر أو المرض. وبعد انتهاء صلاة القصر هذه ينبغي أن يعوض القصر فيها بالاستمرار في ذكر الله قياما وقعودا ونياما، ثم إذا زالت حالة الخوف تقام الصلاة الكاملة في أوقاتها المعروفة.
ثم تأتى آية أخرى في سورة البقرة تضيف تفصيلا آخر لصلاة الخوف " حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } البقرة 238)
ففي حالة الخوف من العدو أو الخوف من ضياع وقت الصلاة أو عندما تتعذر الصلاة بالطريقة المعتادة وأنت راكب على بعير أو طائرة أو سيارة ـ يأتي تشريع جديد آخر بالتفصيل، فتصلى كيفما اتفق مترجلا أو راكبا، فإذا ذهب الخوف فلابد من ذكر الله قياما وقعوا ونياما وإقامة الصلاة لذكره تعالى فالله تعالى هو الذي علمهم ذلك التشريع الجديد الذي لم يكونوا يعلمونه.

8 ـ لقد شملت تفصيلات القرآن كل شيء يحتاجه المؤمن في حياته حتى من الآداب الراقية الحضارية أو ما يعرف الآن بالاتيكيت.من آداب الكلام و التحية والسلام إلى آداب المشي أو السير والطعام.
في آداب الطعام
قال تعالى : (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ) النور 61 )
وفى آداب دخول البيوت قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ . فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ) النور 27 ـ 29 )

وفى آداب الكلام والاستماع والحديث مع الغير
تجد تفصيلات سامية الخلق:
(وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا) البقرة 83 ) (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) الاسراء 36 & 53 ) (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) القصص 55 ) (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) الفرقان 72 ) (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) المؤمنون 3 )

وحتى في رفع الصوت أو خفوته تأتى التفصيلات في العبادة والدعاء:

فلا بد أن يكون الدعاء خفيا بدون صوت مسموع مثلما فعل زكريا عليه السلام: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا) مريم 3 ) أما نحن فلا يقنصر الأمر على الصياح بالدعاء بل يتعداه الى السخرية بالله تعالى فبدلا من أن يكون الدعاء بكاءا وتضرعا نجعله غناء ورقصا، أي نتعدى على جلال الله تعالى بتحويل عبادة الدعاء إلى لهو ولعب متناسين قوله تعالى في تشريع الدعاء: (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) وفى تشريع ذكر الله تعالى (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ ) الأعراف 55 & 205 ) أما الصلاة فلا مجال فيها للجهر كما نفعل باستخدام الميكروفونات ، يقول تعالى : (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ) الإسراء 110 )
وحتى في الحديث العادي لا يصح أن ترفع صوتك: (وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) لقمان 19 )

وفى المشي والسير هناك آداب قرآنية:

فلا يصح التعاظم والسير بخيلاء، ومصطلح المرح يعنى تلك النوعية من الاستكبار في السير والغرور في الحركة كان يقول تعالى: (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) الإسراء 37 ) وقال تعالى عن بعض المستكبرين من مدعى العلم: (ثَانِيَ عِطْفِهِ) الحج 9 ) وهو وصف حركي يصور الذي يتحدث مع الناس متعاليا عليهم. ونحوها قوله تعالى: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) لقمان 18 )
أما شان المؤمن فهو السير على الأرض هونا معرضا عن الجاهلين محسنا لهم ما استطاع : (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) الفرقان 63 ) او أن يمشى بقصد أي باعتدال عارفا أين يذهب محتسبا خطاه في سبيل مولاه جل وعلا : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) لقمان 19 )

آداب التحية
لا تقتصر على المحسن من الناس بل تشمل أيضا الرد على صاحب اللغو بإلقاء كلمة السلام وهى تحية الإسلام. على أنه إذا حياك احد بأي لغة أو أي مصطلح فالواجب عليك رد التحية بأحسن منها سواء كان الذي حياك مسلما أم غير مسلم، تعرفه أو لا تعرفه. : (وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ) النساء 86 )
والتحية ليست فقط من القادم الواقف على الجالس القاعد بل هي أيضا يقولها الجالس للقادم عليه ن وهذا أمر وجهه الله تعالى للنبي محمد عليه السلام في تعامله مع المؤمنين: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) الأنعام 54 )

9 ـ ما سبق هو مجرد أمثلة لتفصيلات القرآن الكريم في الآداب العامة في الحياة الاجتماعية، لم يكن للعرب معرفة بها فجاءت تفصيلاتها واضحة، والصلاة أعظم فريضة إسلامية، يكفى في بيان قدرها أن يقال عن الخاسر يوم القيامة: (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) القيامة 31 ) فالتصديق هو الإيمان، أما العمل الصالح فقد جاء التعبير عنه بالصلاة.
إذا كانت الصلاة بهذه الأهمية فهل تتناساها تفصيلات القرآن وتذكر الآداب الاجتماعية في السير والحديث والتحية والاستئذان ؟


وهكذا تأتى تفصيلات القرآن تشرح التشريع الجديد وتنبه على ما يحدث من خلل في أداء الصلاة. أما ما هو واضح من ركعات الصلاة وأوقاتها فمن الهزل تشريعه لمن يعرفونه ويؤدونه. أما أولئك الذين يحاولون تكذيب المولى عز وجل في قوله تعالى مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ " فلن تنفع معهم حجة ولا برهان لأنهم يسعون في آيات الله معاجزين وموعدنا معهم أمام الله تعالى يوم القيامة:" وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ... سبأ 38)



 

الصلاة بين القرآن الكريم والمسلمين ج1
دراسة أصولية وتاريخية توضح الشكل و الغرض و المفهوم الحقيقي للصلاة من خلال القرآن الكريم و ما ادخل عليها من تحريف على مر العصور.
2006

more