رقم ( 3 )
الفصل التمهيدى : مصر قبل عصر قايتباى بين التاريخ والمؤرخين ـــ إبن الصيرفى مؤرخا

 

  الفصل التمهيدى :  مصر قبل عصر قايتباى بين التاريخ والمؤرخين ـــ  إبن الصيرفى مؤرخا

المصريين وظلم الحكام:

  دخول المصريين الإسلام أفواجاً منذ العصر الفاطمي:واستمرار ظلم الحكام بعد انتشار الإسلام:

مقالات متعلقة :

مقاومة الشعب المصري لظلم المماليك:

  مؤرخو مصر قبل ابن الصيرفي:

 ثانيا :إبن الصيرفى مؤرخا

  ابن الصيرفي بين مؤرخى عصره المملوكي:

  منهج ابن الصيرفي في كتاب الهصر:

  تنوع المادة التاريخية في كتاب الهصر:

  مصادر ابن الصيرفي في كتاب الهصر

  أسلوبه: في كتاب الهصر

 طريقته في العرض:

 

 أولاً: مصر قبل عصر قايتباى بين التاريخ والمؤرخين: عرض سريع

1 ـ  الأحوال السياسية ـ ( المصريين وظلم الحكام . دخول المصريين الإسلام أفواجاً منذ العصر الفاطمي .

استمرار ظلم الحكام بعد انتشار الإسلام . مقاومة الشعب المصري لظلم المماليك  )

 الأحوال السياسية:

1 ـ فتح عمرو بن العاص مصر فصارت ولاية إسلامية عربية خضعت للخلافة الراشدة ثم الخلافة الأموية ثم الخلافة العباسية في عصرها الأول. وأتيح لمصر أن تكون ولاية تتمتع بالاستقلال الذاتي في إطار الخلافة العباسية وذلك في عصر الدولتين الطولونية (254-292هـ) والأخشيدية (323-358هـ).ثم أصبحت مصر مقراً للخلافة الفاطمية الشيعية تناوىء بغداد مركز الخلافة السنية بل وتحاول نشر الفكر الشيعى والنفوذ الفاطمي في الشرق ، وذلك في العصر الفاطمى (358-567هـ). ثم استولى صلاح الدين الأيوبي على مصر وأرجعها للنفوذ الأدبي للخلافة العباسية السنية وأسس الدول الأيوبية التى اضطلعت في عصره بالجهاد ضد الصليبيين، إلا، خلفاءه تقاعسوا في الجهاد وتصارعوا فيما بينهم مما أضعف شأنهم وجعل لمماليكهم سطوة على حسابهم، وبازدياد ضعف السلاطين الأيوبيين في مصر والشام تمكن مماليكهم في مصر من إقصائهم عن الحكم وتأسيس الدولة المملوكية التي ورثت عرش الأيوبيين والعباسيين وغيرهم فيما بين (648-921هـ).

2 ـ وكان السلطان قايتباي (872-901هـ)من أبرز سلاطين المماليك خصوصاً في عصرهم الأخير.

المصريون وظلم الحكام:

1 ـ والثابت تاريخياً أن المصريين قد رحبوا بالفتح الإسلامي على أمل أن يخلصهم من ظلم الروم البيزنطيين خصوصاً وقد كان هناك نزاع دينى بين الأقباط والمذهب الرسمي للمسيحية البيزنطية.  وفى الخلافة الراشدة نعم الأقباط ببعض العدل ربما لم يعرفوه فى الحكم البيزنطى ،وظلوا بعيدين عن المنازعات السياسية العربية التى أسفرت في النهاية عن قيام الدول الأموية.

2 ـ وقد اشتهر الأمويين بالقسوة والظلم والتعصب ضد غير العرب فأصابوا الأقباط بالنكال.وقد عددّ المقريزي الشدائد التى أنزلها الأمويون بالأقباط، ففي ولاية عبد العزيز بن مروان صادر البطريرك مرتين وفرض الجزية على الرهبان، ثم تولى بعده عبد الله بن عبد الملك بن مروان ولاية مصر فاشتد على النصاري ، واقتدي به فيما بعد الوالى قرة بن شريك الذى أنزل بالنصاري شدائد لم يبتلوا بها من قبل وزاد عليهم الخراج فقام الأقباط بثورة في الحوف الشرقي (شرق الدلتا) فهزمهم الأمويون وقتلوا منهم الكثيرين. ثم اشتد عليهم الوالي أسامة بن زيد التنوخي وأوقع بهم وأخذ أموالهم، ووشم أيد الرهبان- أى رسم عليها علامة- ومن وجده منهم بغير وشم أمر بقطع يده وضرب أعناق بعض الرهبان وعذب آخرين حتى ماتوا. وتبعه في طريقة الوشم الوالى حنظلة بن صفوان الذى عمم الوشم على كل الأقباط ومن وجده بغير وشم قطع يده. وثار الأقباط فيما بين 121- 132 في الصعيد وسمنود ورشيد وأخمد الأمويون ثوراتهم بقسوة، وحين قدم مروان بن محمد آخر خلفاء بنى أمية هارباً إلى مصر من العباسيين بعد هزيمته في موقعة الزاب- لم يحاول استمالة الأقباط بل اشتد في الإيقاع بهم إلى أن قتله العباسيون في أبو صير. ونتابع المقريزى وهو يروي استمرار ثورات الأقباط في الدولة العباسية وإخمادها بالعنف، وكانت أخر ثوراتهم في عهد الخليفة المأمون وقد أوقع بهم قائده الأفشين، وانتهت بذلك ثوراتهم المسلحة. يقول المقريزى "فرجعوا من المحاربة إلى المكايدة واستعمال المكر والحيلة).( خطط المقريزى 3 / 536 : 538 )

3 ـ كان الظلم أحد الرموز الأساسية في سياسة الحكام في العصور الوسطي يسرى ذلك على النظام العباسي أو الروماني أو الأموي، عدا فترات قليلة تعتبر استثناءاً مثل عصر الخلافة الرشيدة وعمر ابن عبد العزيز، والشعب المظلوم إذا عجز عن الثورة الإيجابية ركن إلى المقاومة السلبية وإلى استعمال المكر والحيلة على حد قول المقريزي. وكان اعتناق الإسلام من أساليب المصريين الأقباط للنجاة من الظلم ودفع الجزية الباهظة، وقد فطن الأمويون لذلك فألزموهم بدفع الجزية حتى لو أسلموا، وقد أنكر الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز ذلك على والى مصر وكتب إليه "أن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً" وتم رفع الجزية عمن أسلم من الأقباط، إلا أن الحال عاد إلى أسو ما كان عليه بعد موت عمر بن عبد العزيز. لقد كانت المجتمعات في العصور الوسطي تخضع لمنطق الدين الذي يفسره الحاكم على هواه ومن خلاله يمارس الظلم ويجد من يبرر له أفعاله، وعدا فترات قليلة تمتع فيها المصريون بالعدل فإن السمة لعامة هى استمرار الظلم مع التمسك الشكلي بالدين.

4 ـ كان اعتناق المصريين للإسلام ظاهرة فردية يقوم بها الفقراء للتخلص من دفع الجزية و يقوم بها الكتبة الأقباط في الدواوين كي تنفتح لأحدهم أبواب الترقي في المناصب، وحينئذ ينتقم لنفسه ممن ظلمه من المسلمين ويستخدم نفوذه الوظيفى فى تصفية حساباته القديمة، أو على حد قول المقريزي "فصار الذليل منهم بإظهار الإسلام عزيزًا يبدى من إذلال المسلمين والتسلط عليهم بالظلم ما كان يمنعه نصرانيته من إظهاره").(خطط المقريزى 3/546.)

دخول المصريين ( الإسلام ) أفواجا في العصر الفاطمي:

1 ـ كان الفاطميون الشيعة أصحاب دين أرضى يحظي بانكار العرب المسلمين في مصر في ذلك الوقت، وأولئك العرب الحكام وأتباعهم كانوا يعتنقون دينا أرضيا مناوئا هو السّنة . ولكن لم يكن العرب المسلمون في مصر إلا أقلية، وكانت الأغلبية من المصريين الأقباط، وقد فطن الفاطميون إلى ذلك العداء المستحكم بين العرب المسلمين وبين الأقباط المصريين، وكان من المنتظر أن يستميل الفاطميون إلى جانبهم تلك الأغلبية الصامتة فهم الأكثرية وهم أهل البلاد وهم أكثر الناس تشوقاً إلى رفع الاضطهاد عنه. وعمل الفاطميون على نشر التشيع بين المصريين على أنه الاسلام،  ولم يجد المصريون وقتها فارقاً أساسياً بين العقيدة الشيعية وبين ما توارثوه من عقائدهم القديمة حيث يضاف التقديس إلى البشر من الأئمة أو الأولياء أو رجال الدين.

2 ـ وفتحت الدولة الفاطمية أبواب المناصب أمام المصريين خصوصاً إذا اعتنقوا الدعوة الشيعية فأصبح اليهودى المصري يعقوب بن كلس الرجل الثاني في الدولة الفاطمية في بداية عهدها وكان هو حكيم الدعوة الشيعية والذى قام بعبء نشرها داخل مصر وخارجها. وجذب الفاطميون المصريين لهم عن طريق الاحتفال بالأعياد الدينية الشيعية والإسلامية بل واحتفلوا بالأعياد القبطية والفرعونية . وتحت عنوان ( ذكر الأيام التى كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعيادأً ومواسم تتسع بها أحوال الرعية وتكثر نعمهم) تحدث المقريزى بالتفصيل عن احتفال الفاطميين ومعهم عوام الشعب المصري وخاصته بمواسم وأعياد رأس السنة وأول العام ويوم عاشوراء وعيد النصر وليالى الوقود وشهر رمضان وعيد الفطر وعيد النحر وعيد الغدير وفتح الخليج والنوروز وميلاد المسيح والغطاس وخميس العهد وطقوس صلاة الجمعة).(خطط المقريزى 2/ 274 : 283 )

3 ـ ولا زلنا نحتفظ ببعض الطقوس الدينية الفاطمية في تلك الأعياد مثل شم النسيم والسحور والأطعمة ذات المناسبات الدينية مثل الكنافة والقطايف وعروسة المولد. إلا أن أهم ما توارثناه من العصر الفاطمي هو تقديس الأضرحة خصوصاُ ما انتسب منها لأل البيت مثل ضريح السيدة نفيسه الذى أقامه الخليفة المستنصر الفاطمي سنة 482هـ. وكانت السيدة نفيسه قد توفيت سنة 208هـ، وتم دفنها في قبر عادي فلما جاءت الدولة الفاطمية أقامت على قبرها قبة وضريحاً أحاطته بالدعاية والأساطير حتى صار أحد الموضع المعروفة عند المصريين بإجابة الدعاء على حد قول المقريزي.(نفس المرجع 3/448: 449.). وقد دخلت الدولة الفاطمية في دور الضعف ووقع على وزيرها (الأفضل) عبء تقويتها أمام الخطر الصليبي والخطر السلجوقي السنى، وكان من وسائله أن يستمل إليه المصريين بعد أن أنفضوا عن الدعوة الشيعية ، وأثناء عودته من عسقلان أعلن الأفضل عثوره على رأس الحسين وبذلك أنشئ ضريح الحسين) ( نفس المرجع 2/ 161: 162.) بعد بناء القاهرة بنحو مائتين وخمسين سنة، وكان الأفضل يخطط لتقوية الدعوة الشيعية من خلال إقامته لضريح الحسين، ولكن انتهت الدولة الفاطمية بعد إنشاء ضريح الحسين أى استمر تقديس ضريح الحسين بينما دخلت الدولة الفاطمية متحف التاريخ.

4 ـ وأنهى صلاح الدين الأيوبي الخلافة الفاطمية وحارب الدعوة الشيعية بتنمية التصوف السنى وإقامة الخوانق وبيوت الصوفية، وورثت الدولة المملوكية الاهتمام بالتصوف وأوليائه، وحل دين التصوف محل دين التشيع تحت شعار الاسلام .

5 ـ حقيقة الأمر فإنّ ما عرفه المصريون من الاسلام هو تلك الأديان الأرضية . لم يعرفوا من الاسلام حقائقه ، ولكن عرفوا الدين الأرضى الذى يقدمه لهم الحاكم العربى على أنه الاسلام ، سواء كان سنيا متعصبا طبّقه الأمويون والعباسيون فى إضطهادهم للمصريين عنصريا فى الدولة الأموية أو دينيا فى العصر العباسى ، أو كان التشيع ، حين تحبّب اليهم الفاطميون بالتشيع فاعتنق المصريون التشيع على أنه الاسلام ، ولا زلنا فى حياتنا الدينية نمارس الشعائر الفاطمية فى أعيادنا الدينية ، ثم حلّ التصوف السّنى محل التشيع ، واستجاب التشيع والتصوف للموروثات الدينية المصرية القديمة والتى تميزت بها المسيحية المصرية القبطية عن بقية المذاهب المسيحية . وحدث التماثل بين الأديان الأرضية للمصريين لدى المصريين من أقباط و( مسلمين )، لأنها كلها صدرت عن أصل واحد هو الدين الأرضى المصرى القديم ( الفرعونى ) ، وقد أوضحنا هذا فى كتاب ( شخصية مصر بعد الفتح الاسلامى ) . وهذا يفسّر لماذا دخل أجدادنا المصريون التشيع أفواجا على أنه الإسلام فى العصر الفاطمي ، ثم انقلبوا بسهولة يعتنقون التصوف فى العصرين الأيوبي والمملوكى.

6 ـ ومع زحف تلك الأديان الأرضية باسم الإسلام زحفت اللغة العربية وتوارت أمامها اللغة المصرية القديمة إلى أقصى جنوب الوادي.

استمرار ظلم الحكام بعد انتشار الإسلام:

1 ـ أصبح المسلمون المصريون أغلبية تدين بدين الحاكم ولكن لم ينقطع ظلم الحكام، لأن ظلم الحكام في العصور الوسطى كان عادة سيئة لا تتوقف على نوعية الدين الذى يدعي الحاكم التمسك به . وكان الظلم أبرز مظهر للحياة المصرية في العصر المملوكي.والمماليك كانواً خدماً عبيداً للأيوبيين ، ثم تمكنوا من الوصول إلى الحكم . وكى يعززوا مركزهم الجديد فقد استطالوا على الشعب المسكين قتلاً واضطهاداً.

2 ـ يقول المقريزى في حوادث سنة 648هـ التى شهدت قيام الدولة المملوكية البحرية (وفيها كثر ضرر المماليك البحرية بمصر، ومالوا على الناس ، وقتلوا ونهبوا الأموال وسبوا الحريم ، وبالغوا في الفساد حتى لو حكم الفرنج ما فعلوا فعلهم)((المقريزى: السلوك تحقيق د. زيادة 1/2/380، 404.)، أى لو حكم الصليبيون مصر فإنهم- فى رأي المقريزى- لن يظلموا المصريين بالقدر الذى فعله بهم المماليك المسلمون.ويقول المقريزى في ترجمة للسلطان أيبك أول سلطان مملوكى (وكان ملكاً حازماً شجاعاً سفاكاً للدماء، قتل خلقاً كثيراً، وشنق عالماً من الناس بغير ذنب ليوقع في القلوب مهابته، وأحدث مظالم ومصادرات عمل بها من بعده)(    المقريزى: السلوك تحقيق د. زيادة 1/2/380، 404.).أى أن السلطان أيبك استن سنة سيئة عمل بها خلفاؤه المماليك حتى من أشتهر منهم بالعبادة والتدين مثل السلطان قايتباى صاحبنا في هذا الكتاب.

مقاومة الشعب المصري لظلم المماليك:

1 ـ على أن الشعب المصري لم يعرف الخنوع المطلق أو الاستسلام المستمر للعسف المملوكى، كان المماليك هم القوة الحربية الوحيدة التى يؤيدها جمهور من رجال الدين وعلماء الدين وعلماء السلطة يطبقون الشريعة وفقا ما يرتضيه السلطان صاحب النعمة. ولذلك كانت ثورات الشعب المصري في العصر المملوكى مظاهرات صاخبة تحتج على المماليك وعلى المشايخ والقضاه والعلماء معاً باعتبار أن القضاه ورجال الدين كانوا جزءاً من السلطة المملوكية الجائرة.

2 ـ والأمثلة كثيرة نكتفي منها بتلك اللوحة التاريخية الناطقة التى حكاها المؤرخ المملوكى الأصل المصرى النشأة أبو المحاسن (ابن تغرى بردى)، يقول ( إضطراب الناس وأبطل السلطان موكب ربيع الأول من القصر، وجلس بالحوش ، ودعا القضاة الأربعة والأمراء والأعيان. ووقف العامة أجمعون في الشارع الأعظم من باب زويلة إلى داخل القلعة، واجتاز بهم قاضى القضاة علم الدين البلقينى وهو طالع إلى القلعة فسلم على بعضهم بباب زويلة فلم يرد عليه أحد السلام ، بل انطلقت الألسن بالسب له وتوبيخه من كل جانب لكونه لا يتكلم في مصالح المسلمين ، واستمر على هذه الصورة إلى أن طلع إلى القلعة، وقد انفض المجلس بدون طائل ونودى في الحال بعدم معاملة الزغل (أى بعدم التعامل بالعملة المغشوشة التى أصدرها السلطان) فلم يسكن ما بالناس من الرهج ولهجوا بقولهم (السلطام من عكسه- أى من سوء حظه- أبطل نصفه) (أى أبطل العملة الذهبية التى أصدرها) وإذا كان نصفك إينالى لا تقف على دكانى) (أى إذا كانت العملة التى تتعامل بها قد أصدرها السلطان اينال المملوكى لا تقف على دكانى . وبعدها في العصر العثمانى كان أحفادهم يقولون (ايش من تفليسي يا برديسي....). ويستمر المؤرخ أبو المحاسن معلقاً على هذه المظاهرة الشعبية وتلك الأمثال الشعبية التى اخترعها جموع الشعب فيقول (وأشياء كثيرة من هذا ، من غير مراعاة وزن ولا قافية ، وانطلقت الألسنة بالوقيعة في السلطان وأرباب الدولة، وخاف السلطان من قيام المماليك الجلبان بالفتنة وأن تساعدهم العامة وجميع الناس فرجع عما كان قصده، وقد أفحش العامة إلى ناظر الخاص ورجموه وكادوا يقتلونه....)(( أبو المحاسن: حوادث الدهور 2/294: 296. ).

3 ـ حدثت هذه المظاهرة في سلطنة الأشرف اينال الذى توفي سنة 865هـ. وقد تولى صاحبنا السلطان قايتباى سنة 872هـ. وهؤلاء هم أجدادنا الذين لم يسكتوا على ظلم السلطان اينال فكيف كان حالهم مع السلطان قايتباى المشهور بالتدين وعمل الخير.؟..

 

  مؤرخو مصر قبل ابن الصيرفي:

مؤرخنا المجهول ابن الصيرفى سجّل فترة غامضة فى التاريخ المصرى المملوكى ، وجاء بعد مدرسة مصرية تاريخية متميزة فى التأريخ تزعمها المقريزى . ونحتاج لمجلد كامل لاستعراض تاريخ علم التاريخ قبل عصر المؤرخ ابن الصيرفى ، ولكن نكتفى بلمحات من كتب لنا سبقت فى علم ( التاريخ والمؤرخون ) وهى مادة تاريخية متخصصة كنا ندرسها فى قسم التاريخ بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر فى أوائل الثمانينيات.

 بداية التأريخ باللغة العربية وفيما يخص العرب

1 ـ قبل الفتح الإسلامى كانت هناك بين المصريين معارف ومؤلفات تاريخية وتراث شعبى باللغة القبطية . وبالفتح العربى دخلت اللغة العربية ، وتم تعريب الدواوين المصرية فى عهد الخليفة الأموى عبد الملك بن مروان ، واضطر الكتبة الأقباط المسيطرون على دواوين الدولة المصرية وإدارتها الى تعلم اللغة العربية ليحتفظوا بوظائفهم ونفوذهم داخل الحكم العربى الجديد . وبالتفاعل بين المصريين والعرب القادمين انتشرت اللغة العربية بين المصريين الذين تسموا ب( الأقباط ) نسبة للديانة القبطية المسيحية التى تمسكوا بها ورفضوا الدخول فى الاسلام . ولكن مع انتشار اللغة العربية أخذت تتوارى وتتراجع أمامها اللغة القبطية شيئا فشيئا الى الجنوب والصعيد الى أن أضحت فى العصر المملوكى متشابكة مع لغة النوبة . وتحولت تأدية العبادات القبطية الى اللغة العربية بعد أن نسى المصريون الأقباط والمسلمون لغتهم الأم وتكلموا بالعربية. ولسنا هنا بصدد التأريخ لعلم التاريخ المصرى القبطى وكيف تحوّل الى الكتابة بالعربية ، واشهر مؤرخيه ، ولكننا فى هذه العجالة السريعة نلمح لتأريخ مصر بعد الفتح العربى (الاسلامى ) والذى بدأه عرب مسلمون ، ثم تابعه بعدهم مصريون مسلمون يؤرخون لما يجرى فى مصر بعد الفتح . 

2 ـ انعكس الفتح العربى ( الاسلامى ) مبكرا مؤثرا فى تكوين مدرسة تاريخية مصرية ، ليس فقط من حيث اللغة ، فأصبح بالعربية ، ولكن من حيث الموضوع ، فتميزت المدرسة التاريخية الأولى بالتأريخ للفتوحات العربية ( الاسلامية ) في مصر وأفريقيا والأندلس حيث كانت مصر معبراً للفتوحات الإسلامية في هذه المناطق ، وكان الرواة للفتوحات الإسلامية من الذين أسهموا فيها. وعرفت (بكتب الرايات) نسبة للرايات التى كانت تحملها فرق المسلمين في الفتوحات. وقد جمع ابن الحكم (187- 257هـ) روايات الفتوحات في كتابه المشهور (فتوح مصر وأخبارها).

التأريخ للدول المصرية بعد الفتح العربى  ـ

دخلت المدرسة التاريخية المصرية فى تطور جديد حين تكونت في مصر دول مستقلة في العصر العباسى الثانى مما أوجد نوعاً جديداً من المؤلفات التاريخية المتخصصة فى مصر ودولها المستقلة ؛ فالمؤرخ ابن الداية ت 334 كتب في الدولة الطولونية:سيرة أحمد بن طولون، سيرة ابنه خماروية، سيرة هارون بن خماروية، أخبار غلمان ابن طولون بالإضافة إلى أخبار أطباء، أخبار المنجمين. والمؤرخ محمد بن يوسف الكندي (283-350هـ) له كتب الخطط والجند العربي والموالى وضاعت كلها ولم يبق إلا كتابه المشهور (الولاة والقضاة).والمؤرخ ابن زولاق (306-387هـ) كتب تاريخ مصر، وخطط مصر، فضائل مصر، سيرة الأخشيد، سيرة المعز لدين الله الفاطمي، سيرة جوهر الصقلى. والمؤرخ المسبحي (366-420هـ) الذى عاصر الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي كتب ما يزيد على ثلاثين كتاباً أهمها التاريخ الكبير ، وهو  موسوعة في التاريخ المصري. وقد اقتبس منه المقريزى وأبو المحاسن والسيوطى والسخاوى. ثم كان التأريخ للدولة الأيوبية فى مصر والشام ، الى أن تأسست الدولة المملوكية على أنقاض الأيوبيين .

تسيّد المدرسة التاريخية المملوكية فى مصر والشام

وأصبحت القاهرة أهم الحواضر (الإسلامية) منذ العصر الفاطمي ، ثم صارت عاصمة العالم (الإسلامى)  بعد أن سيطرت الدولة المملوكية على أهم مناطق الشرق وانتقلت إليها الخلافة العباسية بعد هزيمة المغول، مما أدخل المدرسة التاريخية المصرية فى عصر الإزدهار ، خصوصا فى النصف الأول من القرن التاسع الهجرى ، وتزعم المدرسة التاريخية المصرية وقتها مؤرخ مصر الكبير تقي الدين المقريزى (766-845هـ). وذلك تأثرا بالوحدة السياسية التى حققها المماليك وبالمكانة السياسية التى تحتلها مصر المملوكية .  وهنا نتوقف ببعض التفاصيل مع المدرسة التاريخية المصرية والشامية فى العصر المملوكى .

المدرسة التاريخية فى المشرق ( سوريا والعراق ) قبل وأثناء العصر المملوكى

1 ـ سيطرت الدولة المملوكية على مصر والشام وبعض أجزاء من العراق وشمال سوريا والحجاز . وتكونت مدرسة تاريخية فى الشام فى دمشق وحلب ( المملوكية ) كانت تركّز على الشام بسبب إقامة المؤرخ فى موطنه بالشام ورصده أحداثها ، ثم ينقل عرضا ما يحدث فى مصر . وفى الوقت الذى تخصصت فيه المدرسة التاريخية المصرية فى كتب الرايات والفتوحات فى الغرب ثم فى التأريخ للدول المصرية الطولونية والاخشيدية والفاطمية والأيوبية فإن المدرسة التاريخية فى المشرق ( سوريا والعراق ) ركزت على بغداد ودمشق من خلال التاريخ الحولى ، الذى يؤرخ بالسنة والحول متخذا من بغداد نقطة انطلاق كما فعل الطبرى فى تاريخه وجرى على نسقه ابن الجوزى فى (المنتظم ) وابن الأثير فى الكامل . وأيضا من خلال التأريخ للعواصم مثل تاريخ بغداد وتاريخ دمشق وتاريخ حلب ..بدأ هذا مبكرا فى القرن الثالث الهجرى ، واستمر الى العصر المملوكى .

 2 : بسقوط بغداد ووقوع العراق تحت حكم المغول وذرية هولاكو إنفصلت مدرسة العراق التاريخية عن المدرسة التاريخية المملوكية فى مصر والشام . تميزت مدرسة الشام المملوكية بالتركيز على جعل سوريا وليس القاهرة نقطة الانطلاق فى التأريخ ..

3 ـ وخرج عن هذا المنهج من قام بالتأريخ فى الطبقات متبعا منهج ابن سعد فى الطبقات الكبرى الذى ترجم فيه للنبى عليه السلام والصحابة والتابعين وتابعيهم حتى أواخر العصر الأموى. فقد تنوعت كتب الطبقات اللاحقة لتؤرخ للفقهاء حسب مذاهبهم ، كطبقات الشافعية وطبقات الحنابلة ، وأيضا طبقات النحاة وطبقات الأطباء والحكماء والمعتزلة .. وهذه النوعية من التأريخ للأعلام لم تتقيد بالمكان ، ولكن تقيدت بمن تؤرخ له 4. وهناك من قام بالتأريخ العام للمشاهير مثل وفيات الأعيان لابن خلكان ، ومن تابعه مثل فوات الوفيات للكتبى ، والوافى بالوفيات للصفدى .

5 ـ كما تميزت هذه المدرسة باستكمال التأريخ الحولى للسابقين ، فالعادة أن ينقل المؤرخ فى التاريخ الحولى عمن سبقه كالطبرى الذى نقل الروايات الشفهية عن السيرة والعصر الأموى والسنوات السابقة على عصره فى الدولة العباسية ، ثم حين وصل الى التأريخ لعصره أصبح هو الأصل الذى ينقل شاهدا على عصره. وبعد موت الطبرى تتابعت الكتابة تكمل التأريخ بعده . واستمر هذا التأريخ الذى يستكمل ويتابع التأريخ الحولى مؤرخا بعد مؤرخ ، وكان أحيانا يكتب بعضهم تلك التكملات تحت عنوان ( الذيل على ..)، أى يقوم بالتذييل على تاريخ حولى سابق . ومن أمثلة هذا فى العصر المملوكى ( ذيل ابن العراقى ) وهو ولى الدين أبوزرعة بن عبدالرحيم بن الحسين العراقى)، وبدأ كتابه ( الذيل ) بالتأريخ من سنة مولده 762،  وهو تكملة لكتاب التاريخ لوالده ، وقد قام والد العراقى بتكملة تاريخ ذيل العبر للحافظ الذهبى.

6 ـ ومنهم من قام باستكمال التأريخ دون استعمال لمصطلح الذيل مثل ( ابن قاضى شهبه) : أبوبكر أحمد بن محمد بن عمر ت851. وكتابه ( الإعلام بتاريخ أهل الإسلام   فى 7 مجلدات ،  وهو تراجم للأشخاص والحوادث على النسق الحولى . و(الكتبى: ابن شاكر : صلاح الدين محمد بن أحمد ت764.)فى كتابه (عيون التواريخ )، ويهتم فيه كالعادة بأخبار الشام مع إيراد الأشعار لمن يترجم لهم . ولكنّ أبرزهم تاريخ ابن كثير ( 700 ـ 774 ) الذى نقل عن السابقين من ابن سعد والطبرى فى العصر العباسى وغيرهم الى أن وصل لوقته فى العصر المملوكى فى القرن الثامن الهجرى فقام بالتأريخ لعصره .

7 ـ ويتميز النويرى (شهاب الدين أحمد بن عبدالوهاب ت 733.) بموسوعته ( نهاية الأرب) والتى جمع فيها  علوم عصره ، ثم خصص الأجزاء الأخيرة فى التأريخ . واعتمد منهجا رائعا فى التأريخ الموضوعى الحوالى ، أى يتوقف مع كل دولة من حيث الموضوع من بدايتها الى نهايتها ، وبعد أن ينتهى منها يتعرض لدولة أخرى . حتى وصل الى التأريخ لعصره المملوكى ، فكان يتهرب من التاريخ المباشر لعصره خوفا وتملقا للناصر محمد بن قلاوون كما يظهر فى الجزء الأخير..

8 ـ وهناك مؤرخ أخر يحمل نفس اللقب :( النويرى) ،وهو ( محمد بن قاسم بن محمد النويرى) وكان معاصرا للنويرى المشهورى إذ مات عام 775 هجرية ، .ولكن هذا النويرى كان صوفيا ماجنا رشيق الثقافة . وتأتى أهمية كتابه:( الإلمام بالأعلام فيما جرت به الأحكام والأمور المقضية فى واقعة الإسكندرية ) بتسجيله غزو حاكم قبرص لمدينة الاسكندرية وقتله أهلها وتدميره لها، وكان هذا النويرى شاهدا على الأحداث فدونها ضمن ثرثرة جمع فيها بين التاريخ والفقه والتصوف والمعارف العامة.

9 ـ ونعطى أمثل لبعض مشاهير المدرسة الشامية المملوكية :

( الذهبى : شمس الدين بن محمد بن قايماز التركمانى ت 748) . وله ( تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام )   ولا أدل على أهميته من نقل المؤرخين اللاحقين منه وتذييلهم له ، وله فى الطبقات ( تذكرة الحفاظ ) و( دول الإسلام فى جزئين ، و ( العبر فى خبر من غبر) فى 5 أجزاء.

( الصفدى،خليل بن أيبك ت 764 ). وله:( شرح لامية العجم ) و (نكت الهيمان في نكت العميان ) وموسوعته الكبرى ( الوافى بالوفيات) و (أعيان العصر) وقد عرض فيه المؤلف لأعيان عصره مع الاهتمام بالنواحى الأدبية والأشعار.و( ابن الفرات: ناصر الدين محمد بن عبد الرحمن بن الفرات)(735 -807)، وله ( تاريخ ابن الفرات )، و ( أبو الفدا :المؤيد اسماعيل أبو الفدا من ذرية الأيوبيين فى العصر المملوكى وقد مات عام 714،وله ( تاريخ أبو الفدا ) و (ابن الوردى: زين الدين الدين عمر ت 705هـ ) وله ( تاريخ ابن الوردى: تتمة المختصر في أخبار البشر.).

التداخل بين مدرستى مصر والشام فى العصر المملوكى

كان المؤرخ الشامى يركّز على سوريا بينما كان يركّز المؤرخ المصرى على مصر. وظهرت إيجابية فى هذا المنهج عند التأريخ لحادث معين جرى فى سوريا ثم استمر سريانه ليصل الى مصر . هنا يجد الباحث تأريخا يتابع الحدث ويسير معه بالتسجيل خطوة خطوة من سوريا الى القاهرة . وعلى سبيل المثال نرى المؤرخ الشامى  (ابن طولون:شمس الدين محمد بن أحمد (880-953) ، يسجل فى الشام وقائع الفتح العثمانى وصراع سليم الثانى العثمانى مع المماليك وسلطانهم الغورى ، وهزيمة الغورى وتوسع العثمانيين فى الغزو والفتح ، وذلك فى كتابه ( مفاكهة الخلان في حوادث الزمان ) المعروف بتاريخ ابن طولون . ثم إذا وصل سليم الثانى العثمانى الى مصر كان ابن إياس أبرز مؤرخ مصرى فى إنتظاره يسجل بالتفصيل وقائع سقوط الدولة المملوكية وشنق آخر سلاطينها طومان باى على باب زويلة بالقاهرة .

 المدرسة المصرية المملوكية قبل عصر المقريزى: مؤرخو مصر فى القرن الثامن الهجرى

1 ـ وأهم ملامحها وجود مؤرخين مصريين من أصل مملوكى، مثل ابن أيبك الداودارى: أبوبكر بن عبد الله ، ( وابن عبد الله يعنى عدم معرفة إسم أبيه لأن أباه جىء به مملوكا) . وكان هذا المؤرخ معاصرا للناصر محمد بن قلاوون. وله تاريخ ضخم بعنوان ( كنز الدرر وجامع الغرر)، وفيه الجزء التاسع بعنوان:(الدر القاهر فى سيرة الملك الظاهر). وايضا بيبرس الداودار ، وله كتاب ( زيدة الفكرة في تاريخ الهجرة )، وجرى فيه على عادة النقل عن السابقين الى أن يصل الى التأريخ لعصره فى الجزء التاسع فيؤرخ معاصرا للأحداث ، فيما بين 656 : 709 . وهذا المؤرخ مملوك ينافق سلطانه الناصر محمد بن قلاوون إلى درجة أنه أهمل تاريخ من اغتصبوا الحكم منه أسوة بإهماله تاريخ المغول المعاصرين له . وأيضا ( ابن دقماق ، وهو:صارم الدين ابراهيم بن محمد ت 809 .) وله ( الجوهر الثمين في سير الملوك والسلاطين)، ورغم أنه مختصر إلا أنه معاصر يعبر عن عقلية العصر. وله أيضا : ( الإنتصار لواسطة عقد الأمصار.) فى  5 أجزاء.

2 ـ الملمح الثانى هو التأريخ للصعيد فيما كتبه ( الأدفوى: جعفر بن ثعلب بن جعفر ت 748 ) فى كتابه : (ـ الطالع السعيد فى أخبار نجباء الصعيد.).   

المدرسة التاريخية المصرية فى النصف الأول من القرن التاسع الهجرى بزعامة المقريزى

1 ـ من أعلام هذه المدرسة المؤرخ الفقيه (ابن حجرالعسقلانى) : (شهاب الدين أحمد بن على بن محمد بن على (773-852  ).وله فى مجال التاريخ : ( رفع الأصر عن قضاة مصر )، و( إنباء الغمر بأبناء العمر) الذى يؤرخ فيه لعصره من سنة ميلاده الى قبيل وفاته، وله :ـ( الدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة.) فى أربعة أجزاء ، وقام بنفسه بالتذييل عليه بعنوان ( تاريخ المائة التاسعة أو ذيل الدرر الكامنة) وهناك نسخة خطية  فى دار الكتب المصرية بقلم ابن حجر نفسه ولكنها صعبة القراءة جدا تبلغ أهميتها أن المؤرخين المعاصرين نقلوا عنها . ومشهور ابن حجر بشرحه للبخارى فى كتاب ( فتح البارى ) . وعلى سنّته سار فى العصر العثمانى مؤرخ محدث آخر هو ( ابن حجر الهيثمى) : شهاب الدين بن محمد بن بدر الدين ت 974 . وله ( إتحاف إخوان الصفا بنبذ من أخبار الخلفا)  . وهو تاريخ للخلفاء العباسيين بالقاهرة ينقل عن تاريخ الخلفاء للسيوطى.

 2 ـ ومثل ابن حجر كان ( العينى: بدر الدين (762-855). الذى قام بشرح البخارى فى كتابه ( عمدة القارى )، وقد خدم العينى الدولة المملوكية ، ونافق السلطان الظاهر (ططر) فى ( الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر ططر) ونافق السلطان المؤيد شيخ فى تاريخه :( السيف المهند في سيرة الملك المؤيد شيخ المحمودى ). وكتب فى التاريخ الحولى : ( عقد الجمان فى تاريخ أهل الزمان )، وهو متوسط الجودة ،  ويعاب عليه أنه فى تأريخه للسنوات الأخيرة كان مختصرا على غير العادة فى الحوليات.

 3 ـ وكان المقريزى( تقى الدين أحمد بن على (766- 845 ) زعيم هذه المدرسة . كانت مؤلفات المقريزى صدى للوضع السياسي المتميز للدولة المملوكية وقتها . لذا نراه يكتب في التاريخ العام والتاريخ العالمي بالإضافة إلى المؤلفات المتخصصة في شتى نواحى الحياة والحضارة المصرية والمعارف المصرية. في التاريخ العام كتب المقريزى مؤلفاته الضخمة مثل (الخبر عن البشر)، (الدرر المضيئة في تاريخ الدولة الإسلامية)، (أمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأحوال والحفدة والمتاع). في التاريخ المصري وضع ثلاثة كتب ضخمة هى: (تاريخ مدينة الفسطاط) الذى أرخ فيه لمصر منذ الفتح العربي إلى الفتح الفاطمي ، وفى تاريخ العصر الفاطمى كتب نقلا عن المسبّحى وغيره ( اتعاظ الحنفا بذكر الأئمة الفاطميين الخلفا). ثم  كتابه الأشهر (السلوك لمعرفة دول المملوك) وأرخ فيه لمصر في العصرين الأيوبي والمملوكى إلى قبيل وفاته سنة 845هـ.وكان ينقل عن المؤرخين السابقين باختصار وحرفية نادرة ، حتى إذا وصل الى عصره أصبح يؤرخ شاهدا على عصره متوسعا وشاملا فى الأجزاء الأخيرة من ( السلوك ). وفي تاريخ العمران المصرى وضع موسوعته الكبيرة (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والأثار) وهى المعروفة بخطط المقريزى وفيه أرخ للمدن المصرية ومعالمها والحياة الاجتماعية فيها. وكان رائدا فى الكتابة التاريخية الاجتماعية متأثرا باستاذه ابن خلدون ت 808هـ.، إلا إنه خلافا لابن خلدون الذى تجاهل مصر فى مقدمته وتاريخه نرى المقريزى منكبا على تاريخ مصر فى ماضيها وحاضرها سياسيا واجتماعيا وحضاريا وعمرانيا . في تاريخها البشرى وضع المقريزى كتابين للترجمة لرجال مصر هما (المقفي الكبير) ويقع فى أربع مجلدات مخطوطة،وقد جمع فيه تراجم لكل من وفد على مصر منذ الفتح أو عاش فيها. وله أيضا ( درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة)، وكان يكثر من الاشارة اليه فى كتبه الأخرى . هذا بالإضافة إلى كتبه الصغيرة التى تناولت نواحى متخصصة في النقود وتاريخ الأعراب والاقتصاد والغناء والأحوال الدينية وآل البيت والنزاع بين الأمويين والهاشميين وبنيان الكعبة ومن حج من الملوك وحلّ لغز الماء .

5 ـ  وأصبح المقريزي أستاذاَ لمدرسة تاريخية جاءت بعده فى الجيل التالى فى النصف الثانى من هذا القرن . وكان من تلامذته المجهولين فيه مؤرخنا ابن الصيرفي الذى نصاحبه في كتابه (إنباء الهصر) لنتعرف على المجتمع المصري في عصر قايتباى.

6 ـ ونرجو بهذا العرض السريع أن نكون قد قدمنا لمحة عن مصر الإسلامية بين التاريخ والمؤرخين قبل عصر قايتباى وقبل المؤرخ الصيرفي. و ويبقى أن نتعرف على هذا المؤرخ المجهول المنسى ( الصيرفى ) أو ( ابن الصيرفى ) بين مشاهير المؤرخين الذين عاصرهم فى النصف الثانى من القرن التاسع الهجرى.

 

ثانيا :إبن الصيرفى مؤرخا

  ابن الصيرفي بين مؤرخى عصره المملوكي

 

ابن خلدون والمؤرخون المصريون فى عهده

1 ـ فى أواخر القرن الثامن ظهرت عبقرية المؤرخ ابن خلدون فى ( مقدمة ابن خلدون ) التى أتمها وأكملها قبل قدومه لمصر ، والتى لم يكتف فيها بنقد التاريخ وإنما حاول استخلاص القوانين الإنسانية التى تحكم حركة العمران الإنسانى، وكان أول من أنشأ علم الاجتماع بالمفهوم العلمي ، ثم جاء لمصر ليعيش فيها 24 عاما قبل أن يموت فيها عام 808 ه، وفيها تكونت له مدرسة تاريخية تأثرت بمنهجه النقدى للتاريخ ، وشهد النصف الأول من القرن التاسع قلة من أعلام المؤرخين ليسوا بالطبع في مكانة ابن خلدون وإن كانوا بالقطع أفضل ممن جاء بعدهم من تلامذتهم.

2 ـ وقد كان المقريزى أبرز مؤرخي القرن التاسع، وكان تأثره واضحاً بابن خلدون، وقد برز المقريزي في مجال التاريخ أكثر من الحديث والفقه.أما ابن حجر العسقلاني (ت852) فقد توزع اهتمامه بين التاريخ والحديث والفقه وكانت نبرته في نقد وقائع التاريخ الذى يرويه أهدأ من المقريزى. وظهر في النصف الثانى من القرن التاسع مجموعة أخرى من المؤرخين تعتبر إمتداداً للمقريزى وابن حجر، كان منهم أبو المحاسن (874) والسخاوى (ت902) وابن الصيرفي (ت900).وآخرون . ونعطى فكرة سريعة عنهم .

البقاعى

هو ابراهيم بن عمر ت 885.هو فقيه سنّى ناقم على الصوفية على طريقة ابن تيمية فى القرن الثامن الهجرى . والبقاعى كان بطل ما يعرف بكائنة البقاعى التى سنعرض لها فى هذا الكتاب . اشتهر البقاعى بتكفير ابن عربى وابن الفارض فى (تنبيه الغبي فى تكفير ابن عربى، تحذير العباد من أهل العناد)، كما اشتهر بلمحاته الرائدة فيما يعرف بتفسير المناسبة ، أى المناسبة بين سور القرآن وأياته . وتتجلى اسهاماته التاريخية فى : (تاريخ البقاعى ) ولا يزال مخطوطا فى مجلد بدار الكتب المصرية، (تحت رقم 5631 .تاريخ ). ويهتم فيه البقاعى بأخبار الفقهاء والقضاة ، ويمتاز بالدقة والتفصيل للإحداث التى ينقلها من واقع المشاهدة والمشاركة. وهو يعطى بالطبع وجهة نظره وموقفه ويدافع عن نفسه في الأحداث التى كان فيها البطل : ( كائنة البقاعى وابن الفارض ). ومع دفاعه عن نفسه وهجومه على خصومه إلّا إنّ الصدق يبدو واضحا وتبدو الأحداث طبيعية ومفهومة فى ضوء سيطرة التصوف وأربابه على العصر . ولكن يعيب مخطوطة الكتاب عدم ترتيب سنوات الأحداث فيه وتعرضها للعبث من خصوم البقاعى بعد موته مما يؤكّد مصداقيته فيما كان يحكى ويفضح من رموز عصره وظلمهم. وتحقيق تاريخ البقاعى صعب لأن النسخة المخطوطة أقرب إلى أن تكون مسودة بخط المؤلف، فهى كثيرة الحواشى والتنقيح والزيادة ، وخطها ردئ ويبدو أنها كانت تكتب على فترات، مع تعرضها لطمس بعض كلماتها عن عمد . ولكن مما يساعد في قراءة الخط فيه ما ورد من مواضع متشابهة في كتابي البقاعى : تنبيه الغبي ، تحذير العباد وهما محققان. وقد اعتمد السخاوى في الضوء اللامع على تاريخ البقاعى في مواضع كثيرة جدا .

إبن إياس:( محمد بن أحمد).

وهو من مخضرمى الدولتين المملوكية والعثمانية.ولدعام855. ومشهور(تاريخ ابن اياس)أو(بدائع الزهور).بدأ ابن اياس كتابة ( بدائع الزهور) فى السنة التى مات فيها السلطان قايتباي (901 ).يقع تاريخ ابن اياس في ستة مجلدات ، الا انه يمكن تقسيمه الي قسمين كبيرين : القسم الاول الذي كان ينقل فيه ابن اياس عن المؤرخين السابقين ، وهو التاريخ الذي يعتبر ماضيا بالنسبة لابن اياس ولم يشهده ، ثم القسم الثاني ، وهو الذي كان فيه ابن اياس شاهدا علي عصره ، يكتب ما يراه وما يسمعه.وعلي اساس هذا التقسيم فان القسم الاول الذي ينقل فيه ابن اياس عن مؤلفين سابقين يقع في الاجزاء  الثلاثة الاولي من تاريخ ( بدائع الزهور ) الجزء الاول في مجلدين كبيرين + الجزء الثاني الذي ينتهي منه حتي سلطنة الظاهر تمربغا الذي تولي الحكم في مصر 58 يوما فقط وتولي مكانه السلطان قايتباي سنة 872 هـ .وبدءا من سلطنة قايتباي يوم الاثنين 6/ رجب /سنة872 يبدأ الجزء الثالث من تاريخ ابن اياس ، ويبدأ معه ابن اياس فى التأريخ لعصر قايتباى ومن بعده الى عام 906، ويشترك مع ابن اياس في التأريخ لهذه الفترة مؤرخنا ابن الصيرفى والسخاوى وابو المحاسن بن تغري بردي، كل حسب السنة التى توقف فيها عن التأريخ ، وبعد موتهما يكون ابن اياس هو العمدة فى التأريخ لمصر ، حيث ظل ابن إياس يؤرّخ  لمصر منفردا بعد ذلك في الجزء الرابع من سلطنة قانصوه الغوري الذي تولي يوم الاثنين اول شوال سنة 906 ، وانتهي في شوال سنة921 ، ثم فى الجزء الخامس والاخير ليؤرخ لسقوط الدولة المملوكية وتحول مصر الي ولاية عثمانية،أي إنفرد ابن اياس بالتأريخ لمصر من واقع المشاهدة والمعاينة في فترة هامة فيما بين 902 : 928 هـ أي قبل وفاته بعامين..

ولابن إياس مؤلفات تاريخية أخرى منها كان ينقل فيها عن السابقين:( مرج الزهور في وقائع الدهورر ) في قصص الانبياء ، وفيه نقل عن الثعالبى و الطبرى و ابن كثير فى قصص الأنبياء، و( نشق الازهار في عجائب الاقطار ) في جغرافية مصر والعالم وتاريخ مصر الفرعونية ، وتأثر فيه بالجزء الأول من تاريخ المسعودى ، و( نزهة الامم في العجائب والحكم ) في تاريخ العالم.و( المنتظم في بدء الدنيا وتواريخ الامم ) وينتهي فيه تاريخ المسلمين حتي سنة 355 ، وتأثر فيه بتاريخ الامام ابن الجوزي ( المنتظم في تاريخ الامم والملوك )، و( وجواهر السلوك في الخلفاء والملوك ) ويبدو فيه تأثره بالمقريزي في تاريخه ( السلوك ).و (عقد الجمان في وقائع الازمان ) في اختصار تاريخ مصر ، ويبدو فيه تأثره بكتاب المقريزي ( درر العقود ) وبتاريخ العيني( عقد الجمان ). 

أبو المحاسن ابن تغرى بردى  (813 :874 ) ه.

من أصل مملوكى ارستقراطى، كان ابوه الامير تغري بردي اتابكيا أي قائدا للجيش المملوكي ثم نائبا للسلطان علي الشام ، أي واليا للشام.إشتهر بكتابة "النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة" وقد حاكى فيه أستاذه المقريزى، إلّا إن أبا المحاسن فى ( النجوم الزاهرة ) بلغ به  16 جزءا ، وبدأه من الفتح العربى وسار بعده متخصصا فى التاريخ المصرى ، ينقل فيه عن السابقين ، الى أن وصل الى عصره فكان يؤرخ من واقع المشاهدة الى قبيل موته بعام واحد ، أى أتم التأريخ لمصر في النجوم الزاهرة حتي 873 هـ ومات عام عام 874، أى يحاكى استاذه المقريزى. فقد توقف المقريزى في تاريخه فى  "السلوك" عند سنة 844هـ أى قبيل وفاته بعام واحد. وقام تلميذه أبو المحاسن بإكمال التأريخ لعصره فكتب "حوادث الدهور في الأيام والشهور" وجعله ذيلاً لتاريخ المقريزى في السلوك. وصدر فى باريس ( منتخبات من حوادث الدهور)، حررها وليم بيبر عام  1930 . ولأبى المحاسن أيضا كتاب ( المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى ).فى خمسة أجزاء ، وهو قصر على التراجم المختصرة لشخصيات عصره . وكان أبو المحاسن كثيراً ما يعترف بفضل المقريزي ويحاكيه في نقده العنيف لمظالم عصره وإن كان أقل مستوى من أستاذه. واشترك أبو المحاسن ومؤرخنا ابن الصيرفى فى التأريخ لنفس لعامى  972 و 973 .

السخاوى المؤرخ شمس الدين ت 902 ه

لا نقصد السخاوى الصوفى ، وهو شيخ صوفى معاصر لصاحبنا السخاوى المؤرخ المحدث ، هذا السخاوى الصوفى هو( نور الدين على بن أحمد بن عمر، المتوفى عام 900.)، وقد تخصص هذا السخاوى فى إرشاد الزائرين للقرافة المتبركين بالمقابر المقدسة ، ممن كانوا يعرفون بلقب ( مشايخ الزيارة ) . ومن واقع تخصصه كتب هذا السخاوى:( تحفة الأحباب وبغية الطلاب فى الخطط والمزارات والتراجم والبقاعات المباركات). وهو ضمن ما كان يعرف فى العصر المملوكى بكتب المزارات .

 أما (السخاوى ) المؤرخ صاحبنا المقصود فهو (الحافظ شمس الدين محمد بن عبدالرحمن بن محمد أبى بكر (831 ـ 902).اشتهر فى مجالى التأريخ والحديث . وله فى التأريخ : ( الذيل على رفع الأصر ) وهو إكمال لكتاب ابن حجر العسقلانى( رفع الأصر عن قضاة مصر ) .كان مؤرخنا السخاوى مشهورا بالحدة في النقد ، ولا يقال إنه تأثر فى هذا بأستاذه المقريزى الذى نثر انتقاداته فى السلوك ، لأنّ المقريزى كان موضوعيا فى نقده ، ووجّه معظم نقده للأمراء المماليك الظالمين ، أما السخاوى فقد وجّه حدة نقده لأقرانه من الشيوخ ، خصوصا السيوطى ، وقد وصلت الخلافات بينهما الى حد تأليف كتب يطعن كل منهما فى صاحبه . والسخاوى كتلميذ للمقريزى يتابعه فى التأريخ ، وقد كتب السخاوى تاريخه "( التبر المسبوك ) ليكمل تاريخ "السلوك" للمقريزى بمثل ما فعل أبو المحاسن فى (حوادث الدهور ). على أن السخاوى وضع سفراً ضخماً وهو ( الضوء اللامع فى أعيان القرن التاسع ) ترجم فيه لأعيان القرن التاسع الهجرى من علماء ومماليك وطلبه وتجار وغيرهم. وقد رتّبه على حروف الهجاء مثلما فعل المقريزى في كتابه "المقفى الكبير" واقتبس كثيراً مما أورده المقريزى في كتابه "درر العقود" . إلا أنه يعيب السخاوى حدة طبعه في النقد وأنه جعل من كتابه الضخم "الضوء اللامع" متنفساً لتسوية الحسابات بينه وبين منافسيه من العلماء فترجم لهم من موقع الخصومة وذلك شطط لم يعرفه أستاذه المقريزى.على أن السخاوى تعلم من المقريزى اسلوبه العلمى الفصيح فى الصياغة التاريخية للأحداث . وتلك ميزة يتميز بها السخاوى عن مؤرخ معاصر له من تلامذة  إبن حجر العسقلانى ونعنى به مؤرخنا "ابن الصيرفي" ، الذى نصل اليه فى النهاية .

ابن الصيرفي على بن داود بن إبراهيم الخطيب الجوهرى الصيرفى (819-900).

1 ـإكتسب لقبه (الصيرفي) من عمله مع أبيه في سوق الصيارفه وسوق الجواهر فأطلق عليه (الجوهرى) و(الصيرفي)،ولقب (ابن الصيرفي)هو الأكثر شيوعاً. وقد درس ابن الصيرفي على ثلاثة من مشاهير العلماء في وقته وهم ابن حجر وأبو زكريا الأقصرائى وابن سليمان الكافيجي. وكان ابن حجر يعطف على تلميذه ابن الصيرفي ويهتم به، وكوفئ ابن الصيرفي على اهتمام ابن حجر بن بهجوم السخاوى عليه، وقد كان السخاوى زميلاً لابن الصيرفي في التتلمذ على ابن حجر وقد ترجم السخاوى لرفيقه ابن الصيرفي في الضوء اللامع في سطور امتلأت بالكراهية والنقد على عادة السخاوى  في تجريح معاصريه ومنافسيه.

2 ـ ولعل نشأة ابن الصيرفي الفقيرة واضطراره للعمل مع أبيه في سوق الصيارفة كان من أسباب تواضع مستواه في الكتابة وغلبة العامية عليه في التفكير وفي الأسلوب معاً، بل ربما كانت نشأته الفقيرة سبباً في تملقه الشديد لأعيان الدولة المملوكية الذين أخذوا بيده ليكون ضمن قضاة المذهب الحنفي في مصر وليحظى بالدخول على السلطان قايتباى ضمن وفد العلماء والقضاة في عادة التهنئة بأول كل شهر عربي.

3 ـ وأصبح ابن الصيرفي معروفا بعناية الدكتور حسن حبشى الذى قام بتحقيق كتابى الصيرفى: (نزهة النفوس) و( إنباء الهصر)" الذى أكمل فيه الصيرفى حوادث كتابه "نزهة النفوس". وتاريخ (نزهة النفوس الأبدان في تاريخ الزمان) سار فيه الصيرفى على الطريقة المتبعة في تغطية حوادث التاريخ منذ البداية إلى وقت عصر المؤلف.وقد نقل عن العينى والمقريزى دون أن يضيف.والجزء الذى حققه د. حسن حبشى يؤرخ لدولة المماليك الجراكسة.

4 ـ وتاريخ "إنباء الهصر بأبناء العصر" الذى حققه أيضاً الدكتور حسن حبشى ونشرته دار الفكر العربي، هو ما نعتمد عليه في التعرف على المجتمع المصري في عصر السلطان قايتباى . والعنوان غريب: "إنباء الهصر بأبناء العصر" وتزول الغرابة نوعاً إذا عرفنا أن ابن الصيرفي نهج نهج أستاذه ابن حجر حتى في طريقة العنوان." فابن حجر" ترجم لعصره ومعاصريه في كتاب ( إنباء الغمر بأبناء العمر)  وأبن الصيرفي حاكاه في العنوان فقال:  (إنباء الهصر بأبناء العصر).وليس مألوفاً اختيار كلمة (الهصر) التى لا معني لها اللهم إلا من خلال محاكاة ابن الصيرفي لشيخه والاتيان بما يفي بحق السجعة على عادة مؤلفى العصر المملوكى من الاحتفال بالسجع وتزيين عناوين الكتب به. وكما حاكى ابن الصيرفي أستاذه ابن حجر في العنوان فقد سار على منواله في طريقة التأليف، لذا نجد الشبه واضحاً بين (إنباء الغمر بأبناء العمر) و(إنباء الهصر بأبناء العصر) في النغمة الهادئة ومحاولة (ارضاء جميع الأطراف) وإن كان أسلوب ابن الصيرفي أو ثقافته لا يمكن أن ترقى إلى مستوى أستاذه بأى حال.

5 ـوالصيرفى يؤرخ فيه للاحداث المصرية التي عايشها من 873 حتي 886 ، ومات المؤرخ الصيرفي سنة 900 .وقد غطي الجزء المحقق من كتاب (الهصر) سبع سنوات فقط من عصر السلطان قايتباى.  

ويبقى أن نتفحّص نقديا كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) ونبحث منهج ابن الصيرفي وتنوع المادة التاريخية فيه ومصادر ابن الصيرفي وأسلوبه وطريقته في العرض.

 

منهج ابن الصيرفي في كتاب الهصر

 

 

1 ـ يقول ابن الصيرفي في كتابه (الهصر) ما يلى: (وفي هذا اليوم أضاف السلطان الملك الأشرف قايتباى- عز نصره- المنصور عثمان ابن الملك الظاهر جقمق عنده بالقلعة ضيافة ملوكية).(أنباء الهصر 64.)

هنا يورد المؤرخ ابن الصيرفي خبراً عن السلطان قايتباى وأنه استضاف ابن الظاهر جقمق وهو سلطان مملوكي سابق- وجعل له وليمة رسمية في القلعة.وهذا مثال للأخبار التاريخية نتوقف معه لنتعرف على المنتهج التاريخي.

وبالتدقيق في هذا المثل نعرف أن الحدث التاريخي له زمان وله مكان وله أبطال.. فأبطال الحدث التاريخي في المثال السابق هم السلطان قايتباى والمنصور عثمان وحاشية السلطان. ومكان الحدث التاريخي هو القلعة، والزمان الذى وقع فيه الحدث يقول عنه المؤرخ ابن الصيرفي وفي هذا اليوم وحين نرجع إلى الصفحة نتعرف على أن ذلك الحدث وقع يوم السبت العاشر من شوال سنة 873هـ. ومنهج ابن الصيرفي أنه يورد الأحداث باليوم والشهر وبالعام ، أى يتبع المنهج الحولى. لذا نقرأ أحداث شهر المحرم مرتبة حسب الأيام وبعدها يأتى شهر صفر هكذا إلى أن ينتهى العام ثم يأتي العام الثاني بمحرم ثم صفر وهكذا.

2 ـ فالمنهج الحولى في الكتابة التاريخية معناه أن يكون التأريخ للأحداث حسب الزمان وليس المكان أو الأبطال. وفي المنهج الحولى يتم ربط الأحداث كلها في إطار زمنى واحد هو الحول أو العام ،ويكون فيه المؤرخ كمن يصدر نشرة إخبارية بما حدث في هذا اليوم وما يليه، وذلك العام وما يليه وهكذا. وميزة هذه الطريقة أنها تعطينا سجلاً تفصيلياً بالأحداث اليومية والسنوية وتجعلنا نحس بإيقاع العصر ونبض الحياة فيها، كما أنّ فيها متسعاً لأحداث الشارع ومن فيه من جموع الشعب وما يحدث من عجائب وغرائب وترقي إلى اهتمام المؤرخ فيسجلها في وقتها ومكانها مع تفصيلاتها. ولكنّ عيب المنهج الحولى أنه يمزق سياق الحادثة التاريخية الواحدة التى تقع في سنوات متصلة ، فالعادة أن الحادثة التاريخية الكبيرة تقع متتالية الوقائع متتابعة الأحداث متوالية الفصول ،ولكن المؤرخ الذى يتعامل معها وفق المنهج الحولى يقطع ذلك التتابع المتسلسل ويتعامل معها كإحدى مفردات الأحداث ويفقدها حرارة التواصل ويقطع عنها ترابط الأحداث ويحرمها من إمكانية التفرد والتميز إذا كانت متفردة متميزة. والباحث الذى يسعى وراء حادث تاريخى معين عليه أن يقرأ كل حوادث العام والأعوام التالية ليستخلص موضوعه وسط أكوام الأحداث الأخرى ، ولنفترض أن باحثاً يسعى للتأريخ لحركة الزنج، تلك الثورة التى قام بها فقراء العصر العباسي والتى استمرت أحداثها الهائلة متصلة متوالية طيلة خمسة عشر سنة (255-270هـ) فعليه أن يرجع للمصدر الأساس وهو (تاريخ الطبرى) وقد كان معاصراً لهذا الحدث حيث توفي الطبري سنة 310 . ولكن الطبري في تاريخه يتبع المنهج الحولى، لذلك نراه يروى حركة الزنج في تاريخه في الجزء التاسع موزعة على ستة وثلاثين موضعاً وقد وزعها بين مئات الحوادث الأخرى الأقل أهمية ووسط أكثر من مائتين وخمسين صفحة. وبطبيعة الحال فإن أحداث الثورة لم تكن متقطعة مشتتة وإنما كانت هادرة متوالية مترابطة متتابعة.هنا يتنمى الباحث لو أن الطبري أراحه من العناء ووضع عنواناً اسمه "حركة الزنج" ثم روى تحته القصة من البداية للنهاية ، أو بمعني أخر تمني الباحث لو أن الطبري اتّبع المنهج الموضوعى.

3 ـ فالمنهج الموضوعى في إيراد الحقائق التاريخية هو ربط الحدث التاريخى بالمكان والأبطال أساساً فالحوادث التاريخية تدور من خلال تاريخ دولة في منطقة معينة أو من خلال تاريخ شخص معين ويكون الزمان هنا دائراً في إطار المكان أو الأشخاص. ومثال ذلك ما فعله الدينورى في تاريخ الدولة العباسية في كتابه "الأخبار الطوال" أو ما فعله السيوطى في "تاريخ الخلفاء".فالمؤرخ يتبع قيام الدولة وأحداثها مولياً وجهه نحوها من البداية للنهاية، ويكون السرد الزمني في إطار المكان والأبطال، وينصرف جهد المؤرخ إلى تجليه الموضوع من بدايته إلى نهايته.والمؤرخ الذى يتناول تاريخ شخص ما يبدأ ميلاده وربما بسيرة آبائه ثم يسير مع نشأته إلى أن يصل إلى قبره.إذا لدينا الأن منهجان في التاريخ (المنهج الحولى) الأفقي، (المنهج الموضوعى) الرأسي.

4 ـ وقد أثرت الأحوال السياسية على اختيار المؤرخ للمنهج الحولى أو المنهج الموضوعى. كانت الدولة العباسية تبسط سلطانها على أكثرية العالم الإسلامى وقد ورثت حكماً استمر متصلاً قبلها في الدولة الأموية وفي الخلافة الراشدة، لذا كان التاريخ لهذه الفترة المركزية يميل للمنهج الحولى. كان مركز الأحداث الهامة في المدينة ثم في الكوفة، ثم في دمشق ثم في بغداد.والمؤرخ الذى يعيش بجانب مركز السلطة بإمكانه أن يتعرف على أهم أخبار العالم في عاصمة المسلمين ثم تأتيه الأخبار من باقى الأمصار أو الولايات. وما كان أسهل عليه حينئذ أن يكتب تلك الأخبار حسب ورودها وترتيبها الزمني، أى يكتبها بالمنهج الحولى، وتاريخ الطبري هو النموذج الكلاسيكى للمنهج الحولى، تراه في تاريخه قد استغرق في أحداث بغداد والخلافة العباسية ومن خلالهما ينظر لباقى العالم.

5 ـ ثم ضعفت الدولة العباسية وقامت دول مستقلة على حسابها في مصر والغرب والشرق. وتأثر المؤرخون بالوضع الجديد فكتبوا مؤلفات في الدول الجديدة تقتصر في الحديث عنها من البداية إلى النهاية وتكتب في تاريخ مؤسسها وأبطالها ، كما فعل البلوي وابن الداية في الدولة الطولونية وسيرة الطولنيين وما كتبه ابن زولاق في سيرة الأخشيد وما كتبه ابن واصل وأبو شامة في الدولة الأيوبية. وكل ذلك يمثل المنهج الموضوعى أصدق تمثيل. ثم قامت الدولة المملوكية لترث العباسيين والأيوبيين وتقود المنطقة ، وكان لابد أن ينعكس الوضع الجديد على المنهج التاريخي، وأثمر مزجاً رائعاً بين المنهج الحولى والمنهج الموضوعى. 6 ـ وكان المقريزى أبرع من طبق ذلك المنهج الجديد. فالمقريزي في كتابه "السلوك" ارتبط أساساً بالمكان وهو مصر المملوكية والسلطة الحاكمة فيها ، أى ارتبط بالموضوع، فبدأ بمقدمات قيام الدولة ثم راح يفصل في أحداثها وأخبارها، ولكنه مع ارتباطه بالموضوع- وهو المكان والأبطال- إلا أنه أرخ للأحداث وفق ترتيبها السنوى أى اتبع المنهج الحولى داخل الموضوع. ويلاحظ أن المقريزى قد حاول تجنب عيوب المنهج الحولى حتى لا تتشتت الوقائع التاريخية لذا نراه يكثر من العناوين التاريخية المتعاقبة ويجعل الفصول قصيرة وبرز ذلك في الأجزاء الأولى من تاريخه (السلوك) حين كان ينقل عن السابقين، فلما وصل إلى التأريخ لعصره فاضت الأخبار لديه فأصبح يؤرخ باليوم وكل ما يحدث في الشارع المصري وفي القلعة مركز الحكم المملوكى، لذا نراه في استغراقه بتسجيل الأحداث ينسي وضع العناوين ويكتفي من ذلك بعنوان واحد يذكر فيه بداية تولى السلطان الحكم، ويسير مع الأحداث اليومية في إطارها الموضوعى (مصر المملوكية).

والمهم أن المقريزى ارتبط بالموضوع وهو مصر المملوكية ولكنه من خلال الموضوع أرخ بالسنين أى بالتاريخ الحولى في إطار التاريخ الموضوعى.وعلى نسق المقريزى سار ابن حجر في "إنباء الغمر بأبناء العمر" الذى أرخ فيه السنوات التى عاشها منذ مولده، وسار على نفس المنهج أبو المحاسن والسخاوى ثم ابن إياس في الأجزاء الأخيرة من تاريخه (بدائع الزهور).

وعلى نفس النسق سار مؤرخنا ابن الصيرفي في (الهصر).

7 ـ والمقريزى بدأ كتابه (السلوك) بعرض سريع للدولة الأيوبية يمهد به لمصر المملوكية وكلما اقترب من العصر الذي يعيشه وهو القرن التاسع تمهلت حركته وتكاثرت مادته التاريخية وكثرت أراؤه وتعليقاته، حتى إذا أصبح يؤرخ للأيام التى يعيشها أصبح شاهد عيان على الأحداث، وتحولت كتابته التاريخية إلى ما يشبه اليوميات التى تحكي حوادث الشارع المصري وترسم خلجاته وتنقل نبضاته.

وكذلك فعل ابن الصيرفي في (الهصر).

8 ـ وعادة فالأجزاء الأخيرة من تلك المؤلفات هى أثمن ما يكتب لأنها تنقل صورة حية للأحداث، ومن هنا تكمن أهمية ما كتبه ابن الصيرفي فى (أنباء الهصر)، في وقت مات فيه المقريزى وابن حجر والعيني، ولم يعد من أثر لعبقرية المقريزى إلا ما نراه في (الهصر) من التزام ابن الصيرفي بمنهج المقريزى العبقري الذى جمع بين المنهج الحولى والمنهج الموضوعى في تسجيل الواقع الحى للمجتمع المصري في عصر قايتباى.

 

تنوع المادة التاريخية في كتاب الهصر:

 

1 ـ ابن الصيرفي تلميذ لمن سبقه من المؤرخين المصريين، اتبع منهجهم ، وتنوعت في كتابه (الهصر) المادة التاريخية بنفس النسق الذى سار عليه المقريزى وابن حجر.

2 ـ وقد كان ابن خلدون أول من أشار في مقدمته إلى تنوع المادة التاريخية من تاريخ عالمى الى تاريخ محلى في كتب التاريخ، ويقول "ثم أن أكثر التواريخ لهؤلاء، يقصد الطبري وأمثاله- عامة المسالك والمناهج.. ومن هؤلاء من استوعب ما قبله الملة من الدول والأمم كالمسعودى ومن نحا نحوه، وجاء بعدهم من عدل عن الإطلاق إلى التقييد.. واستوعب أخبار قطره واقتصر على تاريخ دولته كما فعل أبو حيان مؤرخ الأندلس والدولة الأموية بها.( مقدمة ابن خلدون: ص5.).

3 ـ وتاريخ الطبري أبرز مثل للتاريخ العالمى، إذ بدأه ببداية الخلق وتاريخ الأنبياء والأمم السابقة، وذلك حسب المنهج الموضوعى،أى يتناول تاريخ كل قوم من البداية إلى النهاية ثم يبدأ في تاريخ قوم آخرين وهكذا، ثم إذا وصل إلى السيرة النبوية التزم بالمنهج الحولى وترتيب الحوادث حسب السنين. والسبب أن الطبري لم يجد تقويماً يؤرخ به الأمم السالفة حسب المنهج الحولى، وعندما وصل إلى تاريخ الإسلام كان التقويم الهجري في انتظاره. وقد ضم تاريخ الطبري مجمل ما يعرفه من تاريخ العالم القديم ، وهى فى منظورنا الآن أشبه بالخرافات ، ولكنها تعبير صادق عن معارف الناس وقتها ، ثم قام بالتأريخ للمسلمين نقلا عن روايات شفهية وتدوينات متفرقة وأخبار جمعها ودونها الإخباريون ، مع النقل عن ابن اسحاق والواقدى وابن سعد ، فى تاريخ السيرة وعصر الخلفاء من الردة والفتوحات الى الفتنة الكبرى ، والعصر الأموى والعصر العباسى الأول الى أن وصل الى عصره فأصبح يؤرخ من واقع المشاهدة والمعايشة ، ولكن جريا على ( التاريخ العالمى ) أو التاريخ العام . ولكن ذلك التاريخ العالمى العام كان عند الطبرى مرتكزاً في حقيقة الأمر على بغداد عاصمة الخلافة العباسية التى يراها الطبري بؤرة الأحداث، ولذا انشغل ببغداد والعراق أكثر من اهتمامه بالمناطق الأخرى. وكان التاريخ العام العالمي مناسباً لعصر الطبري وأمانيه في أن يذوب العالم الإسلامي في الخلافة العباسية وأن تظل بغداد عاصمة العالم المتحضر، إلا أن قيام الدولة المستقلة وازدهار الحواضر الإسلامية التى نافست بغداد أوجد نوعاَ آخر من المادة التاريخية وهو التاريخ المحلى.

4 ـ فإذا كان التاريخ العام العالمى يتجاوز حدود المكان الذى يعيش فيه المؤرخ وعصره وزمانه فإن التاريخ المحلى هو الذى يقصر اهتمامه على التاريخ للأقطار والدول والمدن والاشخاص، لذا ظهرت المؤلفات التاريخية في تاريخ مكة وتاريخ البصرة وتاريخ بغداد وتاريخ دمشق وتاريخ حلب وتاريخ الفسطاط والقاهرة.

5 ـ واستأثرت مصر باهتمام مؤرخيها الذين كتبوا في قضائها وخططها، أى عمائرها- كما فعل الكندي وابن زولاق والقضاعى والقفطي والأدفوى. ثم جاء القرن التاسع فبرز المقريزى بالسلوك والخطط وتاريخ الخلفاء الفاطميين عدا رسائله الصغيرة في الطواعين والقبائل العربية والنقود.

6 ـ وتواصل التاريخ المصرى- وهو تاريخ محلى- ما بين كتاب ابن عبد الحكم في الفتح العربي لمصر إلى تاريخ ابن إياس الذى رصد وسجل واستقبل الفتح العثمانى لمصر في القرن العاشر الهجري.. ثم إلى تاريخ الجبرتى وفتح نابليون لمصر أى تواصل التاريخ المصري طيلة العصور الوسطي.على أن هذا التواصل في التاريخ لمصر اتبع نفس المنهج الذى بدأه الطبري عمدة المؤرخين والمفسرين فاتخذ المؤرخون المصريون من مصر مركزاً وبؤرة للحدث كما فعل الطبري ببغداد والعراق.

7 ـ وقد تطرف المؤرخون المصريون في التركيز على المحلية المصرية إلى درجة تناقض معها اهتمامهم بما يحدث خارج مصر، فلا يذكرونه في الأغلب إلا إذا كان إنعكاساً للوضع المصري في القاهرة، أو إذا تفاعل معه بالحرب أو السلم . ولا عيب في ذلك طالما التزم المؤرخ بمفهوم التاريخ المحلى الذى يعنى قصر الاهتمام على وطنه وما يختص به، إلا أن ذلك لا ينسحب على الطبري الذى ولى وجهه شطر بغداد والخلافة العباسية مع أن تاريخه أسماه "تاريخ الرسل والملوك أو تاريخ الأمم والملوك".

8 ـ وابن الصيرفي في (الهصر) اتبع مفهوم التاريخ المحلى إذ جعل من مصر مركز الأحداث، ولديه أكثر من مبرر، فالدولة المملوكية في عصره كانت مركز الأحداث وبؤرتها وكانت جيوشها تحارب شاه سوار الذى كان تابعا لها فى شمال العراق ثم ثار عليها يطلب الاستقلال ، فانهزم وتم أسره وجىء به الى قايتباى ليلقى مصيره مسمّرا على جمل يطاف به فى شوارع القاهرة . وكان حكام الإمارات الصغيرة في آسيا الصغرى والعراق، بل والعثمانيون يرسلون سفراءهم للقاهرة طلباً لمودة السلطان قايتباى.

9 ـ وابن الصيرفي في تأريخه لوصول أولئك السفراء يجعله ضمن الأحداث الداخلية المحلية في القاهرة المملوكية، لذا لا نستنكر عليه أن جعل عنوان تاريخه "إنباء الهصر بأبناء العصر) فهو قاهرى يرى عصره وحياته ودنياه في القاهرة "أم الدنيا" ، فقد لازم أسواقها تاجراً ، وتعلم على يدى علمائها طالباً ودخل على سلطانها قاضياً. بل أن محلية ابن الصيرفي تظهر واضحة في أسلوبه العامّى وتعبيراته المصرية الدارجة، وإحساسه كمصرى بالظلم وتعبيره عنه برغم مدحه للسلطان وأعوانه. وبهذه المصرية المحلية في ابن الصيرفي يتميز عن أستاذيه المقريزى وابن حجر، بل ويتميز بها عن رفيقه ابى المحاسن المؤرخ المملوكي الأصل الذى كان لا يخفي تعاليه على عوام الشعب. كما يتميز ابن الصيرفي بهذه المحلية المصرية عن رفيقه المؤرخ المصرى السخاوى الذى أوسع في كتابه الضخم "الضوء اللامع" لكثير من التراجم لأهل الشام والعراق والحجاز ولم يقصره على مصر وإنما دار مع رجال القرن التاسع داخل مصر وخارجها، وصاغه بأسلوب فصيح. ولا نجد شبهاً لابن الصيرفي في مصريته ومحليته إلا في ابن اياس في الأسلوب والعقلية والمنهج والمادة التاريخية.

10 ـ لقد حفل "إنباء الهصر" بإشارات متفرقة لأحداث العالم الخارجي التى جاءت أنباؤها إلى مصر وسلطانها قايتباى، وسارع ابن الصيرفي بتسجيلها ضمن الأحداث التى يدونها كل يوم فيما يخص تاريخ مصر واهتمامات أبنائها بالعالم الخارجي، أى جعلها أخباراً محلية..

ومنها نتعرف على أخبار العثمانيين وعلاقاتهم بمصر المملوكية فى عهد قايتباى . من ذلك أنه يقول عن العثمانيين "وصل إلى السلطان قايتباى".. "كتاب الأمير حاجب حلب يتضمن أشياء منها أن المقر الناصرى محمد بن عثمان متملك بلاد الروم غضب على وزيره محمود باشا وقبض عليه قبضاً شنيعاً. (الهصر 27 ) فأخبار الدولة العثمانية تصل للسلطان قايتباى في القلعة عن طريق واليه في حلب، وابن الصيرفي يخلع على السلطان العثماني لقباً مصرياً مملوكياً ( المقرّ الناصرى ) مع اعترافه بأنه "متملك بلاد الروم" ، لأن العثمانيين ورثوا ملك الدولة الرومانية البيزنطية ، بعد أن فتح السلطان محمد الفاتح القسطنطينية ، ودمّر الدولة البيزنطية فكان يطلق عليهم أحيانا ( الدولة الرومية ) . وبالطبع فإن أحداً في ذلك الوقت لم يكن ليتصور أن العثمانيين سيجهزون على الدولة المملوكية فيما بعد.

وفي موضع آخر يقول "وردت الأخبار عن ابن عثمان أنه أرسل إلى رودس ثلاثمائة قطعة ويحاصرها

حصاراً عظيماً وقد ضيقّ عليهم. (الهصر 482.) ،وقد تأتى أخبار العثمانيين للسلطان قايتباى عن طريق السفراء المبعوثين من الدولة العثمانية ، فيسرع ابن الصيرفي بتسجيلها فيقول "وصل جماعة من بلاد ابن عثمان في البحر وصحبتهم عدة من الفرنج وأسرى المسلمين ظفر بهم العثمانيين عند دمياط فاقتتلوا معهم وانتصروا عليهم. (الهصر 341.)، أى ان السلطان العثمانى يرسل الى قايتباى دلائل نصره على الفرنج الذين أغاروا على ميناء دمياط وأسروا بعض رجالها فأنقذهم العثمانيون وأسروا بعض الفرنجة المهاجمين .وكانت تلك السفارة باردة طيبة للعلاقات بين الجانبين خففت من بعض التوتر الذى ينشب بين حدودهما المشتركة، لذا فإن ابن الصيرفي يذكر أن "قاصداً" أى سفيراً من "ابن عثمان" وصل إلى السلطان المملوكي وحظي بتكريمه.(الهصر 407.).

11 ـ ومن شذرات أخرى من تاريخ ابن الصيرفي نتعرف على بعض الخلفيات من التاريخ العالمي خارج الحدود المصرية المملوكية.

فقد كان سفراء حسن بك صاحب ديار بكر يتوالون على القاهرة خصوصاً أثناء حرب الدولة المملوكية مع شاه سوار العدو المشترك للفريقين، لذا كان حسن بك الطويل يحارب شاه سوار ويبشر السلطان المملوكى بانتصاراته ويعتبر نفسه ضمن أتباعه.. يقول ابن الصيرفي "ورد الخبر على السلطان.... بأن حسن بك صاحب ديار بكر هو الذى كسر حسن على بن جهان صاحب العراقين واستولى على ممالكه.." ويتزايد نفوذ حسن بك وتتزايد علاقاته الطيبة بالمماليك، يقول ابن الصيرفي "وصل رسول حسن بك.. وأخبر السلطان..... بما ملكه من البلاد والقلاع ما لم يجتمع بيد أحد من الملوك قبله مع إظهار محبته لمولانا السلطان وأنه مملوك السلطان وأنه قتل من أولاد تمرلنك عدة وأن مقصوده رضى السلطان...." وتمكن حسن بك الطويل من قتل السلطان المغولى (أبو سعيد) وبعث برأسه إلى قايتباى فأمر بدفنها. (الهصر 29، 198، 74، 75. )..

وهناك أخبار أخرى عن المنازعات بين أمراء الحجاز ومنها "وصل الخبر بنزاع بين السلطان الينبوع مع السلطان المعزول خنافر.  (الهصر 29، 198، 74، 75.) .وهناك أخبار عن قبرص منها "حضر قاصد- أى سفير- نائب قبرص ومعه الجزية وقد طلب القاصد من ابن عثمان أن يكونوا تحت نظره أيضاً". ( الهصر 322.الهصر 441.) وقد سمح السلطان قايتباى بأن يكون للعثمانيين نفوذ في قبرص وذلك منتظر بعد الاتفاق الودي بين العثمانيين والدولة المملوكية واتفاقهما على مواجهة التحركات البحرية الصليبية، وقد كانت تقوم بغارات على المواني المصرية في رشيد والإسكندرية وادكو.(الهصر 442، 444، 445، 481. )

ثم هناك خبر طريف عن سفير ملك الهند الذى جاء يطلب من الخليفة العباسى بالقاهرة ومن السلطان قايتباى تقليداً له بالحكم (الهصر 362.) وكانت هذه عادة هندية.. الأمر الذى يجعلنا نعذر ابن الصيرفي  في جلوسه تحت قصر السلطان قايتباى مكتفياً به في تاريخه للعصر ومتخذاً منه رمزاً للتاريخ المحلى والتاريخ العالمي في نفس الوقت. يكفيه عذراً أن سلطان الهند يرسل للقاهرة سفيرا يرجو بأن تمنحه تفويضاً له بحكم بلاده...

 

مصادر ابن الصيرفي في كتاب الهصر

 

مقدمة : المؤرخ الذى يكتب تاريخ السابقين ينقل عمن سبقه من المؤرخين، هكذا فعل المقريزى حين أرخ لمصر قبل العصر المملوكي فنقل عن المسبحى وعن ابن الفرات وابن واصل وابى شامه.أما المؤرخ الذى يسجل أحداث العصر الذى يعيشه كابن الصيرفي في الهصر فهو ينقل ما يشاهده وما يسمعه من أحداث وأقوال وما يحس به من مشاعر. والأحداث التى يسجلها المؤرخ المعاصر للحدث كثيرة، ولا يمكن أن يحيط بها كلها علماً، كيف له بجهده البشرى المحدود أن يقف بنفسه على كل كبيرة وصغيرة تحدث كل يوم في عصره على طول الامتداد الجغرافي الذى يؤرخ له ، لذا كان لابد للمؤرخ الذى ينقل أحداث عصره من وجود مصادر يستقي منها معلوماته خصوصاً ما ارتبط منها بالحكام وأعوانهم، هذا بالإضافة إلى ما يراه بنفسه وما يسمعه بأذنه.

وتتنوع مصادر ابن الصيرفي في كتابه إلى الآتي:

أولاً: مصادره العيانية ، أحداث كان ينقلها من واقع الرؤية والمشاهدة العينية:

1 ـ فابن الصيرفي كان أحياناً يحضر مع القضاة والعلماء لتهنئة السلطان بمطلع كل شهر عربي، وسجل حضوره في ثنايا تاريخه، كما أنه حضر بعض المجالس التى عقدها السلطان وسجل ما دار فيها. (الهصر 352، 357، 372، 377. ) . وهو بذلك شاهد عيان يعتبر تسجيله توثيقاً تاريخياً للمجلس ، إلا أن أسلوبه الغامض وما يشوبه أحياناً من شبهة التحامل لا يجعل الباحث يأخذ روايته مأخذ التسليم، ولابد بالطبع من إخضاعها لميزان النقد والتمحيص، ومقارنتها بروايات أخرى لو وجدت لمؤرخين معاصرين للحدث .  خصوصاً وأن تلك المجالس التى حضرها ابن الصيرفي كان السلطان قايتباى قد عقدها للنظر في نزاعات القضاة والعلماء وكان منهم ابن الصيرفي وبهذه الصفة كان مطلوباً حضوره في تلك المجالس.

2 ـ وهناك أحداث نقلها ابن الصيرفي من واقع رؤيته العينية لا يملك القارئ إلا تصديقه، وبعضها لسوء الحظ- لا تمثل شيئاً هيناً كأن يقول "غرقت المعدية بجميع من فيها، ولم يطلع منهم إلا الغرقي الذين لهم أهل، وبقية الغرقي استمروا طعماً للسمك، ودخل بعض الغرقي من باب القنطرة فشاهدناهم وقد انفتحوا وانتنوا..". (الهصر 326) ، والمفجع في هذه الرواية أو المأساة التى شهدها ابن الصيرفي رأى العين أن بعض الغرقي الذين لا أهل لهم تركهم الناس- ومنهم ابن الصيرفي مشهداً وطعماً للسمك وقد "انتفخوا وانتنوا" دون أن يوارى أحدهم موتهم ويكرمهم بالدفن. وبعض ما رآه ابن الصيرفي وسجله لا يستحق عناء الكتابة إلا من وجهة نظره هو، كان يقول "وفي هذا اليوم رأيت عجيبة من مخلوقات الله، عجلاً صغيراً بيد واحدة ورجلين.(  الهصر 403).

ثانياً: مصادره السمعية

وعموما فلم تكن الحوادث التى رآها بنفسه كثيرة في الكتاب، فأكثر مصادره سمعية سمعها بنفسه وسجلها، ولكثرتها يمكن تقسيمها إلى نوعين أساسيين حسب المصدر الذى سمع منه ابن الصيرفي:

1 ـ النوع الأول من مصادره السمعية : هو ما يدور في الدوائر السياسية والمكاتبات التى كانت ترد للسلطان من الخارج وتصل إلى متناول ابن الصيرفي، ويقرأها ، ويسارع بتسجيلها ، كأن يقول:( وصل للسلطان كتاب كان كتبه شاه سوار .. وصورة الكتاب- على ما بلغنى- أنه في أول لفظه هو...) أو يقول ": ( وصل هجاني من الأتابك أزبك مقدم العسكر المنصورى مضمونه على ما بلغنى بالمعني: بعد تقبيل الأرض.. إلخ".)، أو يقول: ( وفي هذه الأيام وقفت على كتاب وصل من أزبك للداودار للكبير ملخصه....: أنا نحن وصلنا إلى مدينة مرعش....).( الهصر 29، 69، 120.) . ومعناه أن بعض المكاتبات السلطانية كانت تصل لابن الصيرفي فيطلع عليها أو على مضمونها أو ملخصها . ومعناه أيضاً أن لابن الصيرفي مصدراً للأخبار عالى المكانة يمكنه من الإطلاع على تلك المكاتبات الرسمية . ويحق لابن الصيرفي حينئذ أن يقول بمنتهى الثقة. ( ورد الخبر على السلطان.... بأن درنده ملكها شاه سوار عنوة..... ولم يصل إلينا تفصيل أخذها على التحرير....)(الهصر 44.) ، أى كأنه يعد القارئ بأن الكيفية ستأتيه حينما تأتى لمسامع السلطان.

وليس صعباً أن نعثر على المصدر الذى كان يستقى منه ابن الصيرفي أخباره السياسية والرسمية، إذ أن العادة أن تلك المكاتبات السياسية الرسمية تدخل في نطاق مسئولية (كاتب السر) أو السكرتير الخاص بالسلطان بمفهوم عصرنا.ومن ثنايا تاريخ الهصر نتعرف على التقدير الزائد الذى يخص به ابن الصيرفي (ابن مزهر الأنصارى) كاتب السر السلطانى، ويمكن أن نتعرف أيضاً على مدى الحب الزائد الذى يحمله له.

فحين مرض كاتب السر يجعل ابن صيرفي ذلك ضمن أهم الأحداث الجليلة وقال : ( واتفق أن رئيس الدنيا إبن مزهر الأنصاري كاتب السر حفظه الله على المسلمين حصل له توعك.. وانقطع.. وتألم الناس لضعفه فإنه روح الوجود.!! وهرع الأكابر والأصاغر للسلام عليه، وعندى من عظم دعائى ومحبتي له ما يوازي حبى للناس الموجودين في عصره من جنسه ). وبعد أن شفي ابن مزهر من مرضه قال ابن الصيرفي: ( وزين له البلد وفرحوا بعافيته... وسيما كاتبه ومؤلفه- يقصد بنفسه- فإنه غريق فضله ونعمته، وأنشد لسان حالى في ذلك:

 

كل في حماك يهواك ولكن
 

 

أنا وحدي بكل من في حماك
 

 

(الهصر 208، 213.) وواضح أن ابن الصيرفي كان يحرص على أن يسبق اسم كاتب السر بنوعية خاصة من الألقاب والمناقب والصفات وأن يدون مآثره وفضائله خصوصاً وهو يتشفع للقضاة والوزراء ويتحمل في شفاعاته غضب السلطان. ومع ذلك كان ابن الصيرفي حريصاً على ألا يشير إلى كاتب السر بصريح العبارة على أنه المصدر الذى يستقي منه الأخبار، وذلك منتظر فابن مزهر هو "كاتب السر" فكيف يعرف الجميع أنه يفشى (سر) السلطان. على أنه أحياناً يلمح من طرف خفي إلى أخذه عن كاتب السر ، كأن يقول : ( وحكى لى رئيس الدنيا المقر الدينى ابن مزهر الأنصاري حفظه الله من جملة القصص التى قرأها في ذلك اليوم قصة مضمونها أن شخصاً تزوج بإمرأة وطلقها فادعت عليه أنها حامل... إلخ.)(الهصر 382، 383.). ولأن القصة هنا اجتماعية وليست سياسية فإن ابن الصيرفي لم يتحرج من إيرادها وقد أسند مصدرها السماعى إلى كاتب السر وذكره صراحة، ولكن نفهم من بين السطور تلك العلاقة الحميمة بينهما وأنهما كان يتحادثان ويتسامران وأن كاتب السر كان يحكى لابن الصيرفي قصصاً أخرى (من جملة القصص التى قرأها) وليست بالضرورة عن (شخص تزوج بامرأة وطلقها فادعت عليه أنها حامل...). وفي موضع أخر يقول ابن الصيرفي : ( أخبرنى المقر الأشرف الكريم العالى الزينى رئيس الدنيا ابن مزهر الأنصاري حفظه الله على المسلمين وصرف عنه كل سوء وأعانه على ما هو بصدده- أن باسمه مرتبات على جهات المكس ما يرضى يتعاطاها..)(الهصر 393.)، وبغض النظر عن هذا الطابور الطويل من الألقاب والدعوات فإن أواصر الصداقة والود متبادلة بين الاثنين، وأن ذكاء ابن مزهر يتجلى في أنه استخدم مؤرخاً كابن الصيرفي ليشيد بذكره ويسجل مآثره في عصر عرف أهمية التاريخ والمؤرخين.

والواقع أن هناك فضيلة أخرى لابن مزهر الأنصاري لم يفطن إليها ابن الصيرفي ولم يرصع بها سلسلة مناقبه ألا وهى ذكاؤه الشديد الذى جعله يستخدم ابن الصيرفي في تخليد ذكره مقابل القليل من حطام الدنيا والضئيل من الأخبار السلطانية ومضمون بعض المكاتبات والله وحده هو الأعلم بحقيقة الصدق فيها. ومن الطبيعي أن شخصاً كابن مزهر الأنصاري يحتل وظيفة خطيرة في العصر المملوكي وهى كاتب السر لسلطان داهية مثل قايتباى لابد أن يكون على قدر هائل من الدهاء، خصوصاً وقد استمر محافظاً على منصبه وحائزاً على ثقة سلطانه العتيد، وفي وقت تساقطت رؤوس كثيرة لأرباب الوظائف الكبري. وشخص داهية كابن مزهر الأنصاري لم يكن منتظراً منه أن يطلع مؤرخاً من نوعية ابن الصيرفي إلا على تافه الأخبار التى لا خطر من إذاعتها والتي للسلطان ولكاتب السر مصلحة في نشرها، أما الأخبار الخطيرة والهامة فهي أبعد ما تكون عن علم ابن الصيرفي وغيره، وابن الصيرفي حين يسجلها فإنما يسجلها من موقع ما أشيع عنها من ثرثرة المحيطين بالقصر لذا نراه وهو يسجل هذه النوعية من الأخبار الخطيرة يعترف بجهله بحقيقة أمرها مع ابن "صديقه" كاتب السر لديه أسرارها وحقائقها. ومنها محاولات الصلح بين سفير شاه سوار عدو الدولة الثائر عليها وبين السلطان قايتباى ، يقول عنها ابن الصيرفي : ( وما علم أحد الصلح يكون على أى وجه.. ) وتكررت محاولات الصلح واشترط شاه سوار شروطاً، يقول ابن الصيرفي: ( ولما عاد القاصد- أى السفير- بغير حقه ـ أى بدون تكريم ـ علم كل أحد أن الشر باقٍ على ما هو عليه.) ،( الهصر 151، 163: 164.) فابن الصيرفي يقف في الشارع المصري كأى إنسان غيره يحكم بالملابسات والقرائن والمظاهر بينما (صديقه) كاتب السر لديه كل الأسرار والملابسات. وفي موضع أخر يقول : ( صعد قصاد- أى مبعوثو- حسن الطويل للقلعة وقدموا كتابهم فلم يعلم ما حضروا فيه لأن الكتاب قرئ سراً، ومن قائل أنه سأل في كسوة الكعبة ومن قائل أنه سأل في شاه سوار والعفو عنه... والله أعلم بحقيقة ذلك.). أى أن مؤرخنا يردد "تكهنات المراقبين السياسيين" بينما صديقه كاتب السر وهو "العليم بواطن الأمور...." لا يزوده بالحقائق ولا يسعفه بالإجابة وإنما يكتفي بإبلاغه بالتافه من الأخبار ذات الصلة ، كأن يقول : ( وقدموا هديتهم على ما بلغنى قفص ضمنه خوذة ولبس كامل وعدة أبدان سمور وسنجاب وسجادات أقصرائى فقُبلت. )،( الهصر 428.) أى فكل ما أطلعه عليه كاتب السر هو الهدايا التى قدمها الوفد للسلطان. وواضح أن أخبار المفاوضات الرسمية أبعد ما تكون عن ابن الصيرفي وحظه فيها التخمين دون التحقيق، والتوافه من الأخبار دون الهام منها.

2 ـ وقد كان لابن الصيرفي مصادر سماعية أخرى ضمن العاملين مع كاتب السر وضمن جلسائه كأن يقول : ( وقضيته على ما بلغنى بل سمعته يذكره في مجلس رئيس الدنيا وعظيمها المقر الأشرفي الكريم العالى الزينى ابن مزهر كاتب الانشاء الشريف حفظه الله على المسلمين أنه استأجر... إلخ.). (الهصر 417.)، وكان ابن الصيرفي حين ينقل أخباراً عن صديقه كاتب السر يصفه بالثقة كقوله: ( وسمعت ممن أثق بنقله أن السلطان نصره الله أرسل المحتسب لقاضى القضاة الشافعى يقول له... إلخ" ) أو يقول عن الهجوم الصليبي على رشيد : ( وبلغني ممن أثق بنقله أن السلطان لما بلغه ذلك انزعج انزعاجاً شديداً وحلف أنه لولا المهم- المشاغل- الذى هو من متعلق المملكة لكان بنفسه.)( الهصر 441: 442، 235.)

ويبدو من نوعية هذه الأخبار أن كاتب السر الداهية قد اختص بها مؤرخاً ساذجا هو ابن الصيرفى لتكون دعاية للسلطان بطريق مباشر، ويبدو أن ابن الصيرفي كان يصدق ما يوسوس به إليه صديقه كاتب السر الذى يقول عنه "وبلغنى ممن أثق بصدقه". بل وانسحبت هذه الثقة من ابن الصيرفي على آخرين ممن كانوا يعملون لدى كاتب السر كأن يقول "وأخبرنى من أثق بنقله عن رئيس الدنيا ابن مزهر الأنصاري غير مرة أنه....." أو يقول "ها ما بلغنى من عدة ثقات".( الهصر 4.9، 446.) .

3 ـ وكانت لديه مصادر سماعية أخرى غير كاتب السر ومجموعته ولكنها لم تحظ عنده بالثقة الكاملة، كقوله عن الخلاف بين الأمراء المماليك في الشام "هذا ما وصل إلى خبره والعهدة على الناقل ).(الهصر 404.)  إلا أن تلك المصادر السماعية الأخرى نقل عنها الكثير من الحوادث خصوصاً وقد بعدت عن مكاتبات السلطان وتحررت من محاذير كاتب السر، كأن يقول "وصلت الأخبار من الثغر السكندري أن معظم أهلها ذهبوا بموت الطاعون". ولا يجد مؤرخنا حرجاً في إسناد الخبر لصاحبه تصريحاً فيقول "قدم الأتابك أزبك... وأخبر أن الطاعون مستمر بإسكندرية وأنه انتشر ببلاد البحيرة.. وأخبر بموت جماعة من عرب غزالة ). (الهصر 31، 32.) ، والأتابك هو القائد العام للجيش.

4 ـ وقد عاصر ابن الصيرفي مؤرخاً آخر أطول منه باعاً وأشد منه ارتباطاً بمجتمع السلطة المملوكية وأحدّ لساناً في النقد وأعمق ثقافة، ونعنى به أبا المحاسن جمال الدين ابن تغرى بردى ت 874. ولم يجد ابن الصيرفي  غضاضة في النقل عنه اعترافاً منه بفضله وأستاذيته ، وإن هاجمه في تاريخ الهصر في تعليقاته حين ينقل عنه وحين ترجم لحياته في السنة التى توفي فيها. وقد كثرت النقولات التى أخذها ابن الصيرفي من كتابى "النجوم الزاهرة" و "حوادث الدهور" لأبى المحاسن المذكور، إلا أن ابن الصيرفي لم يحدد أحياناً اسم الكتاب الذى ينقل عنه مكتفياً بذكر اسم المؤلف، كأن يقول عن أسطورة العثور على حصاة مكتوب عليها "اعتبروا واتقوا الله" قال الجمال يوسف ابن تغري بردى في تاريخه عندما ذكر هذه الحصاة" وأنا استغفر الله وأقول أنها مصطنعه". (الهصر 48.) ولم يذكر ابن الصيرفي أو اسم الكتاب الذى ينقل عنه، وهو "حوادث الدهور".( حوادث الدهور 3/697.)

5 ـ وكان ابن الصيرفي ينقل أحياناً عن بعض المؤرخين دون تحديد لاسم المؤرخ أو لاسم الكتاب وكان يفعل ذلك خصوصاً مع السخاوى- غريمه ومنافسه وزميله في التتلمذ على الشيخ ابن حجر- ومع ذلك أنه نقل ترجمة الأمير المملوكي شاهين غزالى مما ذكره عنه السخاوى في (الضوء اللامع).( الهصر 85: 87 الضوء اللامع 4/294.  )

النوع الثاني من مصادره السماعية

1 ـ هو ما كان يتناقله الشارع المصري من إشاعات، منها ما هو خاص بالفتن السياسية التى كانت تثور بين أمراء المماليك، يقول مثلاً: "ولما نزل قرقماس المذكور إلى داره واجتمع عليه خجداشيته- أى زملاؤه ورفاقه في السلاح- فأشاع السخيفو العقول أن لابد من ركوب- أى ثورة- على السلطان" ويقول معلقاً "ويأبي الله ذلك والمسلمون ). (الهصر 50.) ، فالشائعات كانت تعليق الشارع المصري على مجريات السياسة المملوكية التى عرفت الاستقرار النسبي في عصر قايتباى. وكان ابن الصيرفي لا يستريح لهذا النوع من ( حرب الإشاعات ) التى تؤذن باختلال الأحوال وتشجيع على الفتن والاضطراب والثورة وما يعنيه ذلك من كثرة عزل السلاطين وتوليتهم ، كما حدث قبيل تولى قايتباى السلطة سنة 872، إذ حين مات السلطان خشقدم سنة 872 تقلب على عرض السلطنة في عام الاضطراب هذا إثنان من السلاطين (الظاهر يلباى والظاهر تمريغا) ثم وصل قايتباى للسلطة في نفس العام فأحكم سيطرته وظل يحكم حتى سنة 901هـ.

عاش ابن الصيرفي هذا الاستقرار في الفترة التى كان يؤرخ لها فكان يخشي من تلك الإشاعات وما قد يسفر عنها من ثورة تهدد الاستقرار خصوصاً وقد كان شاه سوار يهدد الدولة المملوكية من الخارج، لذا يقول في نفس الموضوع : ( ومن هذا الأمر الذى السلطان- نصره الله- فيه ومن الاهتمام بأمر الإسلام والمسلمين وقيامه بنصرتهم لدفع هذا العدو المخذول- أى شاه سوار- فالناسي يلهجون بوقوع فتنة من غير تصريح بركوب- أى ثورة أحد بعينه، كما هى عادة فشار العوام .). (الهصر 51.)

إلا أن الشائعات طاردت السلطان قايتباى برغم أنف ابن الصيرفي- فإذا ركب قايتباى إلى نزهة كما هى عادته وتخلف عن أعيان العسكر إلى أن يعود نجد الشائعات تتابعه، يقول ابن الصيرفي "واختلفت الأقاويل في توجهه فمن قائل أنه توجه إلى القدس ومن قائل أنه توجه إلى مكان قطع الفرنجة فيه الطريق على المسلمين، وقيل غير ذلك ، والله العليم والمالك ). (الهصر 236.) . بل أن الشائعات كانت تسبق تحركات السلطان وتحاول التنبؤ بما سيفعله، يقول ابن الصيرفي "تواتر الخبر على ألسنة العوام أن السلطان غدا تاريخه يخلع على الأمير ألماس بنيابة الشام ).(  الهصر 497.) وهنا نرى ابن الصيرفي يتخذ من إشاعات العوام خبراً يستحق التسجيل مقترناً بقوله "تواتر" وهى صيغة المحدثين والفقهاء عند التصديق والتوثيق.

2 ـ والمهم أن ابن الصيرفي كان ينقل أحاسيس الشارع المصري وما يتناقله من آراء وأخبار وتكهنات حملتها الشائعات، وقد كان لها دور في هذا العصر الذى شهد استبداد الحكام وفق ما كان سائداً في العصور الوسطي، ولم يعرف الناس وقتها طريقاً أخر غير تلك الشائعات للمشاركة في التعليق على مجريات الأمور.

ولا أدل على اهتمام ابن الصيرفي- ومثله ابن إياس- بالتعبير عن الشارع المصري وتسجيل انطباعاته ومشاعره من تكرار كلمة "وشاع بين الناس" أو "أشيع كذا". بل أن ابن الصيرفي يستخدم نفس المصطلح فيما لا يصلح له كأن يقول "وفيه أشيع موت برهان الدين الحلبي )الهصر 193، 295.) وموت برهان الدين هذا لم يكن إشاعة وإنما كان حقيقة ولكن التعبير غلب على ابن الصيرفي من كثرة استعماله له.

3 ـ وإنصافاً لمؤرخنا ابن الصيرفي فإنه كان أحياناً يقف من الشائعات موقف المحقق المدقق لا مجرد الناقل المصدق كأن يقول" وأشيع في هذا اليوم أن مات ببيت الصاحب ابن البقري عدة من مماليكه بالقاهرة وسألت عن ذلك من أخيه القاضى شرف الدين فأجاب: نعم مات عند أخى من المماليك ثلاثة نفر في الجمعة الماضية بالطاعون". (الهصر 32.  ) ،ولم يكن الطاعون وحده هو الذى يجعله يتحقق من صحة الإشاعات بل كان يحاول التحقيق منها إذا كان ذلك بوسعه يقول في ترجمة برهان الدين الحلبي- سالف الذكر- وما أشيع عن تشيعه "كأن يرمى بأنه شيعى وأنه والعياذ بالله ما يحب السيدة عائشة وأنه في اليوم العاشر يأخذ معزة وينتف شعرها بيده ولكنه ما ظهرنا منه على ذلك".( الهصر 194.) ،وأحياناً يكون التحقيق من الإشاعة فوق طاقته فيعترف بذلك كأنه يعتذر، يقول"ووقع في هذه الأيام أمور شاعت وذاعت غير أنى لم أتحققها وإنما أنبئتها بطريق النقل" وكان منها القبض على جواسيسي سوار).(الهصر 263.  )، وذلك يذكرنا بعلاقته بصديقه كاتب السر فلو كان يسمح له بالإطلاع على أسرار الدولة لعرف منه (الحكاية والرواية).

4 ـ وإحساس ابن الصيرفي بالشارع المصري الذى ينتمي إليه والذى لا يستطيع الانسلاخ عنا كان يظهر بين السطور مهما دافع عن سادته المماليك، ويظهر ذلك حين يتحدث عن معاناة الناس من الظلم والغلاء وهما مرتبطان مقترنان.. يقول في نهاية عام 876هـ ".... وانقضت هذه السنة والناس في أمر جهيد وبلاء عظيم وشتات العسكر المصري بالبلاد الحلبية... وعظم الغلاء بالديار المصرية حتى وصل الأردب القمح إلى ألف درهم.. وأما الظلم الموجود من بعض الناس فلا فائدة في ذكره، وعدم الأمن في السبل والطرقات، والحق أقول أنى لم أر فيما رأيت منذ عمرى أبشع ولا أفظع حالاً من هذه السنين الثلاث..).( الهصر 114.).وبعدها بعامين يقول "وأصبحت مصر وأهلها في ألم شديد من عدة وجوه...).( الهصر 261.).

لقد كانت لابن الصيرفي علاقاته بالسلطة المملوكية، خدمها ونافقها ولكن كانت له جذوره الممتدة في التربة المصرية فأحس بإحساس المطحونين وعبر عن آلامهم... وجاءت مصادره في تاريخ الهصر من هذين الرافدين على اتساع الفجوة بينهما، لذا نراه ينقل عن كاتب السر وأعوانه ورجال الدولة المملوكية كما ينقل إشاعات الشارع المصري وأحاسيسه ونبضاته..

النوع الثالث من مصادره السمعية ً:

1 ـ على أن هناك مصدراً آخر لابن الصيرفي لا يمكن تجاهله هو احتكاكه برجالات عصره وتعامله معهم، وقد نفعه ذلك عندما ترجم لهم فكتب عنهم كتابه العارف بمن يكتب عنهم وإن كنا بالطبع لا نغفل عامل الهوى والتحيز الذى لا ينجو منه إلا من عصم الله. وقد تنوعت علاقاتها وتعاملاته بشتى الطوائف وإن كان لم يترجم إلا للمشاهير من العلماء والمماليك وأقلية من التجار منهم ابن كرسون الذى يقول عنه "ووصل إلى عن هذا التاجر أنه كان يخرج حق الله تعالى أعنى الزكاة ).(  الهصر 313.) .

2 ـ ويلاحظ أن المماليك كانوا أقل الناس تعاملاً مع ابن الصيرفي، ويبدو أنه كان يقترب منهم في حذر ويكتب عنهم بحذر أشد، ومع أنه ترجم لمشاهيرهم إلا أنه كان يختفي خلف آراء أبى المحاسن وهجومه عليهم، فإذا أراد أن يصف أحدهم بما فيه من ظلم وتجبر وفساد ذكر ما قاله عنه المؤرخ أبو المحاسن، ومن ذلك أنه – أى ابن الصيرفي ـ ترجم للأمير جكم الظاهرى فقال "وقال الجمال يوسف بن تعزى بردى المؤرخ عنه في تاريخه في الحوادث" كان من مساوئ الدهر: وفي الجملة لا تقل مات الأمير بل قل نفق الحمار" انتهى كلامه سامحه الله ). (الهصر 84.) . ويقول ابن الصيرفي في ترجمة الأمير قانم الأشرفي "وقال الجمال يوسف بن تعزي بردى المؤرخ في تاريخه: كان- أى الأمير قانم- عاديا ذا خلق سيء مع بخل وشح وتكبر وخفة وطيش عفي الله عنى وعنهما".(  الهصر 89.) ، ويقول عن الأمير قانباى "وقال الجمال بن يوسف تعزي بردى المؤرخ عنه في تاريخه: وأما أفعاله فسيئة وباشر الولاية أقبح مباشرة وحسابه على الله، وانتهى كلامه "عفى الله عنهما )( الهصر 90.) ، ويقول في ترجمة الأمير ال بردي "قال الجمال يوسف بن تعزي بردى عنه في تاريخه: كان من رؤوس الفتن والظلم والعسف..." ويورد رأيا أخر لنفس المؤرخ عن نفس الأمير حين بنى مسجداً وسخّر الناس في عمارته "وقال الجمال بن يوسف بن تغرى بردي عنه : ومع هذا ظلم الظلم الزائد وعسف الناس وأبادهم بالضرب واستعمالهم بغير أجره وما عف عن ذلك ولا كف إلى أن عاجله الله وأخذه عزيز مقتدر... )( الهصر 90، 91.).

كان جمال الدين أبو المحاسن المذكر من أصل مملوكي ارستقراطي وذا نفوذ زائد فأتاح له ذلك أن يعبر بصراحة عن أمراء المماليك بل والسلطان نفسه، بينما قنع مؤرخنا المصرى الشعبي بالنقل عنه على استيحاء.

وقد اختلط ابن الصيرفي ببعض أمراء المماليك غير المشهورين بالظلم فاحتفل بهم عندما ترجم لهم وحرص على ذكر صلته بهم كما فعل في ترجمته للطواشى سرور، يقول فيه "ويدعي عفة وصيانة ورأينا منه ذلك وكان بينى وبينه صحبة" ولذلك انتقد رأى المؤرخ أبى المحاسن فيه وقال "وتعصب عليه الجمال يوسف بن تغري بردي......"). (  الهصر 85.).

3 ـ وانطلق ابن الصيرفي في ترجمته للعلماء والقضاة من واقع صلته وحريته في الحديث عنهم بلا خوف ولا وجل، ويقول في ترجمته للشيخ الشرواني "وكنت حاضراً عند الشيخ...." "وكان يودنى ويعظمنى..." "وما رأيت أنقى من ثيابه ولا أنظف منها...". (الهصر 94: 95.) . ويقول في القاضى معين الدين "وكان بينى وبينه صحبة ومودة ومداعبة وملاطفة".(  الهصر 97.) . ويقول في قاضى القضاة "ابن حريز" ذاكرنى كثيراً في التاريخ ووقف على تاريخي الكبير المسمي نزهة النفوس وكتب لى عليه كتابة بليغة".. "وكان يودنى كثيراً وبينى وبينه صحبة أكيدة".( الهصر 98.) .

ويقول عن الشيخ العقيلي "رأيته وهو بصير.)(الهصر 101.) ويقول في الشيخ أبى السعادات "كان بينى وبينه وبين آله صحبة زائدة وتردد- أى زيادة ـ ويودنى كثيراً هو ووالده ).( الهصر 104.) وقال عن نور الدين الحنفي "وكنا نحضر معه دروس الفقه عند شيخنا سعد الدين الديري ) (الهصر 208.  ) وأتى الشيخ الغمري- الشيخ الصوفي المشهور وقتها- من المحلة إلى القاهرة فاجتمع به أبن الصيرفي وقال في تاريخه "فاجتمعت به ورأيته رجلاً عظيماً ) (  الهصر 218.)

وبخلاف زمالته وصحبته لعلماء عصره التى برزت في ترجمته لهم من واقع الاحتكاك المباشر فإن ابن الصيرفي كان يحضر بعض المجالس الرسمية التى كان يعقدها السلطان قايتباى للنظر في أمور القضاة ومشاكلهم، وبالطبع كان يحضرها باعتباره قاضياً ثم يسجلها باعتباره مؤرخاً.

أخيرا

لقد سعى ابن الصيرفي إلى الحادثة ونقلها من واقع المشاهدة البصرية، وأتيح له الإطلاع على بعض المكاتبات السلطانية، وتعامل مع بعض المتصلين بإدارة الحكم، كما نقل ما يتردد في الشارع المصرى من إشاعات وأحاسيس ونبضات. كما تعامل مع مشاهير عصره الذين ترجم لحياتهم. ومن ذلك كله جاءت مصادره العينية والسمعية في تاريخ الهصر نبضاً حقيقياً للعصر وللمؤلف معاً مما يجعل من "إنباء الهصر" وثيقة حية للسنوات التى أرخها ابن الصيرفي.

 

أسلوب ابن الصيرفى  فى صياغة المادة التاريخيةفي كتاب الهصر

 

1 ـ خصوصية ابن الصيرفي المصرية الشعبية انعكست على أسلوبه الذى طغت عليه الأخطاء اللغوية والتعبيرات السوقية الشعبية وركاكة الأسلوب وغموضه. ومحقق كتاب الهصر ( د . حسن حبشى ) تتبع الأخطاء النحوية واللغوية فيه فصححها في المتن وأثبت أصل الكلمة في الهامش بمثل ما كتبها ابن الصيرفي، وقد تعددت هذه الأخطاء بحيث لا تكاد تخلو منها صفحة في الكتاب، وعلى سبيل المثال ففي صفحة 36 نرى الأخطاء التالية : ( "أبقي لكل نفر من المماليك السلطانية ألفين درهم".) والصحيح : ألفى درهم، (بل وكانوا غالب المماليك السلطانية يأخذون عوضاً".) والصحيح ( وكان غالب )، ( وصاروا المماليك يسعفوهم )، والصحيح :( وصار المماليك )،(  وإن وقف له تركمانيا أو كردياً أو بدوياً أو صغيراً أو يتيماً أو بنتاً... يكتب باسمه جاميكية".) والصحيح ( تركمانى أو كردى أو بدوى أو صغير أو يتيم أو بنت.).

والأغلب في أخطائه النحوية أنه لا يفرد الفعل في بداية الجملة الفعلية فبدل أو يقول مثلاً "كان غالب المماليك يأخذون عوضاً" يقول "كانوا غالب المماليك يأخذون..." وهذا الخطأ النحوي مرده إلى اللهجة المصرية وتعودها على معاملة الفعل في الجملة بما تعامل به الاسم من أفراد وتثنيته وجمع.

2 ـ وأحياناً يخلط ابن الصيرفي أخطاءه النحوية بأخطائه اللغوية بتعبيراته العامية لتكون مزيجاً من العامية والفصحى الرديئة كقوله عن أبى المحاسن المؤرخ "( ولقد حاضرته مرات... فكنت أمشّى معه في الحوادث فلم يمشي.... ومن حين عرف أنى اشتغلت بفن التاريخ لم أعارني كتاباً من كتبه.). (الهصر 181.)  وتتكرر التعبير الشعبية في كتاب الهصر إلى درجة تحسب له ميزة يستفيد منها من يحاول دراسة اللهجة  الشعبية في مصر المملوكية، يقول مثلاً عن المؤرخ جمال الدين أبى المحاسن "( وأوقفته أيضاً على تأليفي للسيرة النبوية الشريفة فكاد أن يتجنن.) (الهصر 181.) ، ويقول عن إحدي النساء( وطلقها فكادت تتجنن")(الهصر 132.) ، ويقول عن المحتسب يشبك:(مع أنّ جماعة كثيرين ممن فعل بهم ذلك عميوا أوطرشوا وأما أحكامه فالبخت والنصيب.)( الهصر 42.)  ويقول عن إحدي النسوة ومشاكلها مع زوجها : (  وإنها كلما طالبته بذلك يأسى عليها") (الهصر366) ، أى يقسو عليها. 

3 ـ وأحياناً يأتى ابن الصيرفي بباء قبل الفعل المضارع على عادة اللهجة المصرية كأن يقول "وغير ذلك أن غالب جميع أرباب الدولة....بيقدموا لعظيم الدولة ).( الهصر 262.) ، ويقول عن مقتل بعض الناس "وبيفصحوا عن قاتله .)(الهصر 238.).

4 ـ وقد يأتى التعبير العامى المصري شديد الخصوصية شأن الأمثلة الشعبية والتعبيرات الدارجة التى يسود استعمالها في عصر معين كقوله "وتكرر ركوب السلطان جداً وهذا من ضيق الحصيرة"). (الهصر 225.) ، والتعبير الأخير يدل على شدة الضيق ولم يعد منتشراً في عصرنا.وقد يحاول ابن الصيرفي تحسين لغته العامية ليكتب بلغة وسطى هى ما يعرف بفصحى العامية أو عامية الفصحى، وكان لا يخلو أسلوبه هذا من أخطاء لغوية كقوله "وكان يتسلط على الوزير والاستادار ... فيكتبوا له).( الهصر 300.) ، ويقول عن علاقته ببعض أصدقائه ".. حتى لما يريد يتنزه لا يفارقنى.)( الهصر 94.).

5 ـ وابن اياس كان قريناً لابن الصيرفي في استعمال الأسلوب العامي إلا أن ابن اياس امتاز عن مؤرخنا بأنه جمع بين العامية وسهولة الأسلوب فقلما كان يقع في الغموض والإلتواء كشأن ابن الصيرفي.

6 ـ والواقع أن المنتظر من صاحب الأسلوب الشعبي أن يتميز بالبساطة والسهولة في التعبير. ولعل غموض الأسلوب لدى ابن الصيرفي يرجع إلى تكلفة أحياناً ومحاولته التمسك بأهداب اللغة الفصحى التى لا يجيدها، وكأنه وقف محتاراً بين عاميته التى تشربها منذ كان يعمل في الأسواق صيرفياً وجوهرياً وبين تتلمذه على أساتذة عصره مثل الكافيجي وابن حجر العسقلانى.وقد حاول أن يوازن بين عاميته التى تعودها لسانه وقلمه وبين تأثره وإعجابه بشيخه ابن حجر خصوصاً في تاريخه "إنباء الغمر بأبناء العمر" فحاول أن يقلده في "إنباء الهصر بأبناء العصر" فوقع في العامية وفي الغموض معاً.أما ابن اياس سار على سجيته أسلوبه عامياً سهلاً بسيطاً مباشراً.

7 ـ ويزيد في مأساة ابن الصيرفي في أسلوبه الغامض أن أساتذته الذين كتبوا بالفصحى الراقية كابن حجر لم يقعوا في الغموض وجاء أسلوبهم فصيحاً بسيطاً، وجاء أقران ابن الصيرفي كالسخاوى وابى المحاسن بنفس المستوى في السهولة والفصاحة تقريباً. وعندى أنه يغتفر للمؤرخ كل شيء في كتابته عدا الكذب وغموض الأسلوب ، فكلاهما حائل دون الوصول للحقيقة التاريخية للقارئ. والأمثلة كثيرة على غموض الأسلوب في الهصر،منها قوله "وأما قضية الصندوق التى تقدمت وأن الورثة تقاسموا المال انتقض عليهم وأخذ منهم ورسم على أمين الحكم وطلب منه حساب الأيتام ولولا العناية ما حصل له خير ولا شر قليل).(الهصر 222.)، فصاحبنا يفترض أن القارئ على علم تام بالصندوق وموضوعه، مع أن القارئ المسكين لا يعرف من هو الذى "انتقص عليهم وأخذ منهم.. ورسم... وطلب...".

8 ـ والباحث التاريخى فى تاريخ الهصر قد يفقد هدوء أعصابه حنقا وغيظاً من ابن الصيرفي وهو يحكي بأسلوبه الغامض قصة طويلة كان للأسف شاهد عيان لها ، ومع ذلك فالغموض يغلف القصة ويفقدها روعة المعاصرة لأن المؤرخ وهو الذى عاصر الحدث وكتب عنه قد فشل في توصيل الحقائق للقارئ وربماً كان يفترض أن القارئ كان حاضراً معه أو كان لديه طرف علم بالموضوع لذا نراه يتحدث إلى من يفترض أنه يعلم ملابسات الحدث الذى يحكى عنه. والذى يبعث على الغيظ حقاً أن بعض تلك الأحداث التى رواها بهذا الشكل ملأ بها صفحات. كتابه وبالطبع فإننا لن نرهق القارئ بقصة طويلة من إحدى المجالس التى حكاها ابن الصيرفي.

9 ـ وإذا كان غموض أسلوبه باعثاً على الضيق فإن بعض سقطاته الأخرى في الأسلوب تفلح في رسم ابتسامة على وجه القارئ كقوله "وكان القاضى الحنفي الأمشاطى ضعف- أى مرض- بعد موته ولزم الوسادة وكان يترجى العافية فقُبض ) (الهصر 492.  )، أى مات. والشاهد هنا قوله "ضعف بعد موته..." هل يمرض الإنسان بعد الموت؟

 

طريقة ابن الصيرفى فى عرض المادة التاريخية فى كتاب ( الهصر ):

 

1 ـ سار ابن الصيرفي على الطريقة التقليدية في الحوليات التاريخية، حتى لا نجد فارقاً في طريقة العرض بينه وبين المقريزى في السلوك. كان يبدأ أحداث كل عام بافتتاحية فيها توزيع المناصب الرسمية في الدولة من الخليفة العباسي الذى ليس له من الخلافة إلى الاسم والذى كان تابعا مطيعا للسلطان المملوكى الحاكم الفعلى المستبد بالأمر ، ثم السلطان- وهو قايتباى ، ثم أسماء القضاة الأربعة والأمراء المماليك حسب درجاتهم وباقى الوظائف في مصر والشام وملوك الحجاز والمشرق. وإذا كان هناك تغيير جدّ في بعض المناصب يذكره في السنة التالية وإذا لم يكن ثمة تغيير يقول، "وقضاة القضاة والأمراء والمباشرون والنواب على حالهم خلا ما ذكر في حوادث السنة الماضية فلا فائدة إلى إعادتهم وذكرهم .(الهصر 316.  )، ويحرص في ذكر المناصب على تقرير الألقاب الرسمية المصاحبة لكل منصب. وبعد الافتتاحية تأتى حوادث كل شهر بالشهور العربية حسب ترتيبها ؛ محرم ثم صفر ... هكذا ..وفي داخل كل شهر يذكر الأحداث مرتبة حسب وقتها وباليوم وبالترتيب، يقول مثلاً تحت عنوان "المحرم": "أهل بالخميس وفيه –أى في أوله- صعد قضاة القضاة للقلعة لتهنئة السلطان بالشهر على العادة". واليوم الذى لا حوادث فيه لا يذكره، فاليوم الثانى من شهر المحرم السابق ليس مذكوراَ وإنما يقول بعد ذكره لحوادث أول محرم: ( وفي ثالثة الذى هو السبت خلع على عبد الكريم.. إلخ) ، (الهصر 7، 8) ويتوالى ذكر الحوادث،  وهكذا باقى أيام الشهر والشهور التالية. وبعد انتهاء حوادث العام يأتى ذكر الوفيات، أو ترجمته لمن توفي في ذلك العام تحت عنوان "ذكر من بلغتنا وفاته في هذه السنة من الأعيان" ويذكرهم حسب ترتيب حروف الهجاء لا حسب الترتيب الزمني في وقت الوفاة. وبعد الوفيات يبدأ السنة التالية بالإفتتاحية ثم بالحوادث ثم بالوفيات وهكذا. وأحياناً يذكر في الحوادث بعض الوفيات الهامة ثم يعيد ما ذكره في الوفيات). (الهصر: أمثلة 197، 302، ثم 20، 305 ثم 193، 295.) ،وأحياناً يكتفي بتلك الوفيات المذكورة في الحوادث فلا يذكره ضمن الوفيات).(الهصر 276، 2 51، 230.  ) .

2 ـ وسار ابن الصيرفى أيضا على الطريقة التقليدية للمؤرخ الذى يعيش عصره يسجل أحداث عصره منفعلا ومتأثرا بما يستجدّ فيها من أحداث تستحق الذكر . ففيما عدا أخبار السلطان وأرباب الحكم فإن المؤرخ لا يسجل من أخبار وأحداث المجتمع إلا ما يستحق الاهتمام ، ثم إنه ليس ممكنا أن يسجل هذا المؤرخ المعاصر كل الأحداث التى تجرى ، حتى ما كان يقع منها أمام عينيه ،هو هنا أشبه بالصحفى الذى لا يسجل أن كلبا قام بعض الاستاذ فلان، ولكنه يسجل الخبر لو كان الاستاذ فلان هو الذى قام بعض الكلب . أى لا بد للخبر أن يكون مهما وغريبا حتى يستحق التسجيل . هذه قاعدة حاكمة فى التأريخ تسرى على كل المؤرخين ، وتسرى بالتالى على مؤرخنا الصيرفى . وقد تأثر بهذا تسجيل دقائق الحياة الاجتماعية وحركة المجتمع وعاداته ، وكان يحدث أن تسود ظاهرة اجتماعية معينة فى السلوك والحياة الدينية وتظل سائدة تغلّف حياة الناس وتصبح ضمن العادات والتقاليد الى يعايشها الناس ويتنفسها المجتمع ، ويأتى المؤرخ ( الحولى ) الذى يسجل أحداث عصره بالعام والحول فلا يجد هذه العادة تستحق التسجيل لأنه عادة ولأنها ( ما وجدنا عليه آباءنا ) ولأنها ـ فى إعتقاده ـ معروفة للكافة . وبإهماله تسجيل تلك العادات والسلوكيات يرتكب خطأ فادحا لو جاء وقت وانتهت تلك العادة وانصرف عنها الناس . بهذا ضاعت حقائق تاريخية إجتماعية كثيرة سادت ثم بادت إزدهرت ثم اندثرت لأن المؤرخين رأوا أنها لا تستحق التسجيل .

3 ـ وهنا نذكر بالشكر والتقدير شيخ مؤرخى العصر المملوكى المقريزى الذى أوسع ( لبعض وليس كل ) ملامح الحياة الاجتماعية المصرية فى كتابه (الخطط) وفى تأريخه ( السلوك ) وبعض رسائله الصغيرة . ولسنا فى مقام التوسع فى هذا الموضوع فهو يستحق بحثا قائما بذاته لما سجله المقريزى من ملامح اجتماعية مصرية سادت ثم بادت وازدهرت ثم اندثرت ولم يبق منها إلا ما سجله المقريزى فى كتاباته . ونتمنى أن يتفرغ لهذا البحث أحد طلاب الدكتوراه ليوفيه حقه . وعلى أى حال ، فبهذا التميز ( المقريزى ) ينفرد (المقريزى) . ولا نتصور من مؤرخ فى مستوى ابن الصيرفى أن يصل الى هذا المستوى .

4 ـ على أن ما أهمله المؤرخون الحوليون ( المحليون ) قامت بتعويضه بعض الشىء كتابات أخرى ، لم يكن القصد منها أن تكون تأريخا لعصرها ، ولكن أوردت بعض الحقائق الاجتماعية ضمن تخصصها بدون هدف التأريخ ، ولكن الباحث التاريخى يستنطق هذه الكتابات ليستشفّ منها حقائق تاريخية اجتماعية مسكوتا عنها من جانب المؤرخين المعاصرين لها . وقد أوسعنا فى بحث هذا فى كتابنا ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية ) والذى كان مقررا على طلبة قسم التاريخ فى جامعة الأزهر عام 1984 . وسننشره هنا بعونه جل وعلا . ولكننا فى هذه العجالة ونحن ننهى هذا الفصل التمهيدى عن هذا المؤرخ المجهول ابن الصيرفى وكتابه : ( إنباء الهصر فى أنباء العصر ). نعطى لمحة سريعة عمّا أهمله الصيرفى وهو يؤرخ للحياة اليومية المصرية تحت ظل تطبيق الشريعة فى عصر السلطان قايتباى .

5 ـ أهمل ابن الصيرفى فى تسجيله اليومى أخبار الانحلال الخلقى المتستر بالدين وبالنقاب الذى كان عادة اجتماعية دينية أتاحت للمرأة فى هذا العصر أن تمارس الانحلال الخلقى ما شاءت ( وما شاء لها الهوى ) على حد قول أبى فراس الحمدانى فى قصيدته ( أراك عصىّ الدمع ). المقريزى بعبقريته المتفردة خرج عن المألوف وسجّل لمحات فى ( الخطط ). يقول فيه عن المصريين فى ذلك العصر: ( ومن أخلاقهم الانهماك فى الشهوات والامعان فى الملاذ وكثرة الاستهتار وعدم المبالاة ، وقال لى شيخنا عبدالرحمن بن خلدون ان أهل مصر كأنما فرغوا من الحساب " . أى فرغ حسابهم فى الآخرة وضمنوا الجنة ولم يعودوا ملتزمين بأى التزام خلقى أو دينى. وسجل المقريزى تعجب شيخه ابن خلدون حين فوجىء بمظاهر الانحلال المعتاد و الطاغى فى شوارع القاهرة دون ان يستنكره أحد من علماء الشرع وقتها، فقال متعجبا عن القاهرة " ولا ينكر فيها اظهار أوانى الخمر ولا آلات الطرب..ولا تبرج النساء العواهر ولا غير ذلك مما ينكر فى بلاد المغرب).    

تأثر المقريزى بتلك الملاحظة التى قالها شيخه عبد الرحمن بن خلدون فحكى بعض عجائب الانحلال الخلقى فى ( الخطط المقريزية ) وقت أن كان النقاب هو الرداء الشرعى للمرأة ، ولا سبيل لخروجها بدونه، وتحت  النقاب كان فجور المرأة علنا فى الشوارع طالما لا يتعرف عليها أحد. يقول المقريزى فى الخطط : ولقد كنا نسمع ان من الناس من يقوم خلف الشاب أو المرأة عند التمشى بعد العشاء بين القصرين ، ويجامع ( أى يمارس الجنس مع المرأة أو الشذوذ الجنسى مع الشاب ) حتى يقضى وطره وهما ماشيان من غير أن يدركهما أحد لشدة الزحام واشتغال كل أحد بلهوه ..).

6 ـ وهنا ندخل على نوع آخر من الكتابة التى لم يقصد منها أن تكون تاريخا ولكن سجلت بدون قصد ملامح لحياة اجتماعية لم يهتم بتسجيل دقائقها المؤرخون المحليون مثل ابن الصيرفى .قبل مجىء ابن خلدون جاء لمصر فقيه مغربى آخر هو ( ابن الحاج العبدرى ) ( ت سنة 737 ) وكتب فيها أروع الكتب الفقهيه وهو ( المدخل ) فى ثلاثة أجزاء ، واتبع فيه ما أسميته بالفقه الوعظى, أى ان الفقيه لا يتكلم فى الفقه بالمنهج التصورى والتخيلى مثل ( من فعل كذا فحكمه كذا ) ولكن بالمنهج الواقعى ، حيث ينظر الفقيه الى ما يجرى فى الواقع ويذكره ويعلق عليه منبها على خروجه عن الشرع مستخدما لغة الوعظ والارشاد. والفقه الوعظى بهذه الطريقة سجل الكثير من خفايا الحياة الاجتماعية التى اعتاد تجاهلها المؤرخون المتخصصون. ولذلك فان كتاب ( المدخل ) فى الفقه لابن الحاج يحوى بين سطوره معلومات تاريخية ثمينة عن الحياة الاجتماعية والدينية والاقتصادية فى مصر المملوكية. ومنها مظاهر الانحلال الاخلاقى الذى كان يجرى تحت النقاب وهو الزى الرسمى والشعبى للمرأة فى العصرالمملوكى فى مصر وخارجها. وطبقا لما ذكره فى معرض الاحتجاج والوعظ فإن المرأة فى القاهرة المملوكية كانت لها حرية الخروج من بيتها كل أيام الاسبوع عدا يوم واحد ، وانها كانت تخرج من بيتها متنقبة فاذا ابتعدت عنه أسفرت عن وجهها وخالطت،اى صاحبت الرجال حيث لايعرفها أحد، فاذا عادت واقتربت من بيتها تنقبت .وأقول إنه من هذه الحال الفريدة جاء التعبير المصرى عن المرأة الفاجرة ( دايرة على حل شعرها ) أى طالما هى فى المجتمع الذى يعرفها فهى متنقبة ، فاذا خرجت من نطاقه خلعت النقاب ودارت هنا وهناك تبحث عن صيد من الرجال و حلّت شعرها لدى أول طالب لها. وكان هذا حال معظم النساء التى تحدث عنهن ابن الحاج وغيره فى العصر المملوكى، وبالنقاب كانت المراة تخرج الى الموالد والافراح والى القرافة ( أى مدافن القاهرة ) وحفلات الأذكار الموسيقية التى يختلط فيها الذكر الصوفى بالرقص والطرب وتناول الحشيش و ممارسة الفواحش العادية والشاذة. وكانت تلك مفردات الحياة الاجتماعية المملوكية ، ظاهرها التدين باقامة الموالد والأذكار وزيارة الأولياء الأحياء وأضرحة الموتى منهم وقبورهم المقدسة، وباطنها الانحلال الخلقى . وفى هذه المسرحية العبثية كان البطل الأعظم هو النقاب الذى يعلن الفضيلة ويخفى الرذيلة..

وندخل بهذا الى دور المؤسسات الدينية الصوفية فى نشر الانحلال الخلقى حيث كانوا يتخذونها وكرا للتلاقى ، والمصدر الذى يؤكد هذا هو وثائق الوقف على تلك المؤسسات التى لم تقصد التسجيل التاريخى ، ولكن بسبب شهرة إتخاذ تلك المؤسسات الدينية الصوفية وكرا للإنحلال الخلقى فقد كانت وثاق الوقف عليها   تشترط تعيين خفراء لطرد راغبى المتعة الحرام منها !!!

ثم نأتى لأهم مصدر لتسجيل الحياة الاجتماعية التى أهملها المؤرخون المحليون ومنهم ابن الصيرفى . وهو كتابات الرحالة. فالرحالة يأتى يحمل ثقافته ووطنه فى داخله ، ويدخل البلد الجديد بعقل مفتوح وعين ترصد كل شىء واستعداد لتسجيل كل ما يراه مخالفا لثقافته، وهو يركز على الشارع والمجتمع وليس على السلطان.  ومع أنه لا يقصد أن يكتب تأريخا لهذا البلد بل مجرد تسجيل لرحلته ، فإنّ كتابات الرحالة زاد ثمين فى التاريخ الاجتماعى يعوّض نقص تاريخ ابن الصيرفى وغيره. من الظواهر الاجتماعية فى الانحلال الخلقى فى المجتمعات الشرقية والتى نتجت عن عادة النقاب للمرأة أنه ترسب فى شعور الشرقيات أن أهم الالتزامات الخلقية هو إخفاء الوجه دون تقيد كبير بعفة الجسد أو حتى بتغطيته، وظل ذلك سائدا حتى العصر العثمانى وسجله الرحالة كارستن نيبور الذى زار مصر فى القرن الثانى عشر الهجرى وسجل ملاحظاته يقول ( ويبدو أن النساء المسلمات لايعلقن على قطعة أخرى من ملابسهن أهمية أكثر من تلك التى يعلقنها على القطعة التى يغطين بها وجوههن إذا اقترب منهن رجل ، وقد فاجأ أحد الإنجليز ذات مرة امرأة كانت تستحم فى الفرات قرب البصرة فوضعت يدها على وجهها ولم تهتم بغيره مما أتيح للغريب رؤيته.. وقد حكت لى إحدى الآنسات الأجنبيات فى القسطنطنية أنها كانت بباب حجرة الاستقبال فى الحمام وأتت صاحبة الحمام لاستقبالها وإذا برجل يظهر فجأة فما كان من المرأة التركية إلا أن أخفت وجهها بالإحرام ، والفلاحون فى مصر نادرا مايلبسون بناتهم قبل السابعة أو الثامنة من عمرهن قميصا ولكنهم يعطونهن دائما منديلا طويلا ضيقا يلففنه حول رؤوسهن ويسحبنه على وجوههن إذا اقترب منهن رجل غريب، ولقد رأيت بنفسى فى مصر بنات فلاحات أقبلن نحونا ليروننا وكن عاريات تماما ، ولكنهن غطين وجوههن قبل أن يأتين) إذن فالمهم هو تغطية الوجه وإخفاء الشخصية وتعرية الجسد!!)(رحلة كارستن نيبور إلى مصر . ترجمة مصطفى ماهر. ط 1977 ، 297 : 298  ).

بالتأكيد كان هناك الكثير من مظاهر الحياة الاجتماعية التى غفل عن تسجيلها ابن الصيرفى فى تاريخ ( الهصر ) . ولا ننتظر منه أن يكون كالمقريزى .
 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة السّنية فى عصر السلطان قايتباى):
كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة السّنية فى عصر السلطان قايتباى):در اسة فى كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ القاضى ابن الصيرفى .

قراءة متخصصة نقدية لكتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ إبن الصيرفى لاستخلاص ما جاء فى هذا الكتاب عن أحوال المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى . لقد كتب ابن الصيرفى ( تاريخ الهصر) ليعطى أحداث عصره باليوم لكل عام وحول . لم يقصد أن يسجل الأحوال الاجتماعية ، بل مجرد تسجيل الأحداث اليومية المتنوعة والتى يراها هامة تستحق التسجيل . ووظيفتنا فى هذا البحث هو إستنطاق تاريخ الهصر لنتعرف منه على حال المصريين فى ظل تطبيق الشريعة السّنية من خلال
more