رقم ( 2 ) : الفصل الأول الجذور
الفصل الأول

الفصل الأول  الجذور

المقال الأول : القسم بالله جل وعلاعند المشركين والمنافقين

المقال الثانى : المقال الثانى : الحلف بالله جل وعلا بين الاسلام والشرك

 المقال الثالث : عبادة للمال كبداية استغلال الدين فى السياسة

مقالات متعلقة :

 المقال الرابع: من قريش الى الوهابيين في خلط السياسة بالدين

المقال الخامس: الجاهلية الوهابية

المقال السادس : شجرة الاخوان المسلمين زرعها السعوديون فى مصر

 

 

 

 
 

 

المقال الأول : القسم بالله جل وعلا عند المشركين والمنافقين

هو خصم لله جل وعلا من يستخدم الدين فى طموحه الدنيوى

أولا : بكسر القاف ( قسمة ) تأتى بمعنى القسمة وتوزيع الأنصبة :

1 ـ ففى قسمة الميراث يقول جل وعلا : (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ) ( النساء 8)

2 ـ وجاءت فى تشريع الوصية فى السفر عند الموت ، يقول جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) ( المائدة 106 : 107 : 108)

3 ـ وفى قصة ثمود والنبى صالح عليه السلام طلبوا منه آية ، فكانت الآية ناقة خلقها الله لهم من الصخر،يشربون من لبنها كلهم مقابل أن تشرب من الماء مقدار ما يشربون ، أى تقسيم الماء بينهم وبينها مقابل ما يشربون من لبنها :(إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ) ( القمر 27 : 28  )

4 ـ وفى عقائد الشرك حيث جعلوا الالوهية شركة وقسموها بين الله جل وعلا وغيره ونسبوا له الملائكة بناتا بينما يرفضون لأنفسهم البنات ، يقول جل وعلا :( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ) ( النجم  21 : 22 )،أى هى قسمة ظالمة .

5ـ للمشركين مقياس خاص فى العظمة الانسانية يقوم على الثروة والسلطة والظلم والطغيان والاستكبار وليس على القيم العليا.وأكرم الناس عنده جل وعلا هو أتقاهم وليس أقواهم:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات 13). ولقد احتج المشركون على أن الله جل وعلا إختار محمدا من بينهم ليكون رسولا،لأنهم يرون أنفسهم أفضل منه بمقاييسهم فى الثروة والسلطة، وهى عادة سيئة لدى مجرمى البشر،أو ( زعمائهم وقادتهم ) ،يقول جل وعلا:(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ )(الأنعام 123: 124 ).وخاتم النبيين لم يكن أثراهم وأقواهم بل كان رجلا عادى المظهر يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق . رأوا إن الرسول يجب أن يكون أحد إثنين من العظماء بين العرب،فتدخلوا فى مشيئة الرحمن وإختياره ورحمته جل وعلا ، فقال جل وعلا يرد عليهم بأنه جل وعلا هو الذى شاء أن يكون هذا غنيا بسط الله له الرزق وأن يكون هذا فقيرا قد قدر الله جل وعلا رزقه ، وليس هذا مقياس العظمة بأى حال ـ برغم إنه لا يزال المقياس الظالم فى عصرنا ، يقول جل وعلا : (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)( الزخرف31 : 32 )

ثانيا : القسم بفتح القاف ، بمعنى الحلف :

 قسم المشركين فى مكة :

1 ـ سكان الجزيرة العربية وقت نزول القرآن كانوا من أهل الكتاب ـ اسرائيليين ونصارى ـ ومن العرب من ذرية اسماعيل وبنى قحطان الذين لم يأتهم رسول لعدة قرون . وكان لقب العرب وقتها ( الأميون ) مقابل أهل الكتاب :(وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ )( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) ( آل عمران 20 ،  75 ). وكان العرب الأميون يشعرون بالنقص بسبب عدم مجىء رسول لهم ، ويتمنون ذلك ، ويزعمون لو جاءهم رسول ليكونن أهدى من اليهود  والنصارى ، بل كانوا يقسمون على ذلك بالله جل وعلا جهد أيمانهم ، فلما جاءهم خاتم النبيين بالقرآن كفروا به،يقول جل وعلا:( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورًا)(فاطر 42 )،ويقول:(أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ)(الأنعام 156: 157 )

2 ـ وكانت كراهيتهم للقرآن الكريم هائلة لأنه فضح عقائدهم وأوضح زيفها ، فاشترطوا لكى يؤمنوا أن يأتيهم الرسول بقرآن آخر أو يبدل هذا القرآن ، وردّ عليهم رب العزة : (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُل لَّوْ شَاء اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ)( يونس 15 : 17 ). وبعد نزول هذه الآية بقرنين عادت الكراهية للقرآن ، وظهرت فى أكذوبة النسخ أو تبديل وحذف تشريعات القرآن،وصناعة الأحاديث،أى الكذب على الله وتكذيب آياته . وكذلك يفعل المجرمون  بداية من مالك والشافعى والبخارى الى ابن تيمية وابن عبد الوهاب .

ومشركو قريش بالأمس مثلهم مثل مشركى اليوم ليس فقط فى عدائهم للقرآن ولكن ايضا فى إعتقادهم أنهم على الحق  الى درجة أنهم دعوا الله جل وعلا إن كان هذا القرآن هو الحق من عنده فليسقط عليهم حجارة من السماء أو يأتيهم بعذاب أليم :( وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ  )(الانفال 32 ). ومعنى قسمهم بالله ودعائهم لله جل وعلا أنهم يؤمنون به،ولكن يتخذون معه شركاء من أولياء وأئمة وقبور مقدسة ، يعبدونها لتقربهم الى زلفى،ولذك كرهوا القرآن لأنه فضح خرافاتهم.    3 ـ ومن هنا انتقل عنادهم الى مرحلة جديدة فى رفض القرآن ـ ليس فى الاتيان بقرآن بديل بل الاتيان بمعجزة أو آية حسية كما كان للأنبياء السابقين ، وهنا أيضا كانوا يقسمون بالله جل وعلا ( جهد أيمانهم ):(وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ) ( الانعام 109 )،أى مهما جاءتهم من آيات حسية فلن يؤمنوا إلاّ إذا أرغمهم الله جل وعلا بمشيئته وحده أن يؤمنوا : (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) ( الأنعام 111 )لأن الآيات الحسية لم تنفع فى هداية الأمم السابقة، حتى لقد قتلت ثمود الناقة الآية التى رأوها رؤية العين (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا ) ( الاسراء 59 )

4 ـ ومن كراهيتهم للقرآن تركيزه على اليوم الآخر ويوم الحساب وما يعنيه من بعث ونشور، لذلك كذبوا بالبعث، بل جادلوا خاتم النبيين : كيف يحيى الله العظام الميتة ،ولم يرد عليهم خاتم النبيين لأن وظيفته التبليغ وليس أن يتكلم فى الدين من عنده ،فانتظر الى أن جاء الرد عليهم : (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ  ) ( يس 78 ـ ). وفى كراهيتهم لعقيدة البعث كانوا أيضا يقسمون بالله جل وعلا ( جهد أيمانهم ) : (وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) (النحل 38 ).وهم فى جهنم سيؤنبهم الله جل وعلا وكل من ينكر البعث بذلك القسم بالله على إنكار البعث :(وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ) ( ابراهيم 44 : 45).

5 ـ وعند الأعراف ستذكرهم ملائكة الأعراف بشىء آخر هو إحتقارهم للمؤمنين الفقراء البسطاء فى الدنيا ، والذين سيكونون أصحاب الجنة :(وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ )(الاعراف   48 : 49 ). وهذا يذكّرنا بقوله جل وعلا عن سخرية الملأ المستكبر من المؤمنين فى مكة ـ وغيرها ـ يقول جل وعلا (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) ( المطففين 29 ـ )

6 ـ ويقع الانسان فى القسم على العصيان ، وضرب الله جل وعلا لهذا مثلا :( إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ) ( القلم 17 ـ )

قسم المنافقين فى المدينة :

1 ـ وواجه خاتم النبيين عليهم السلام نوعا آخر من المشركين أكثر عداءا وأشدّ خطورة هم المنافقون الذين إتخذوا أيمانهم وقاية لهم وطريقة للخداع : (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) ( المنافقون 1 ـ ). وسنعرض لهم بتفصيل فى القاموس القرآنى الخاص بكلمة(حلف)، ولكن نستشهد هنا بما جاء خاصا بهم فى ( أقسم ) ومشتقاتها.

2 ـ إذ كانوا يتطرفون فى إظهار ولائهم الى درجة أن يقسموا بالله جل وعلا ( جهد أيمانهم ) أن النبى لو أمرهم بالخروج من المدينة ليخرجنّ،ولا يرد النبى على هذا،وينتظر الى أن يأتى التعليق من رب العزة،يقول جل وعلا:(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )(النور 53 ). وهو تعبير ساخر (قُل لّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ). وهم يستحقون هذه السخرية لأنهم أقسموا بالله جل وعلا ( جهد أيمانهم ) بالباطل وهم يعلمون ، والله جل وعلا خبير بما كانوا يعملون.

3 ـ ومن شأن الكاذب الذى يدم الحلف بالباطل أن تفضحه أعماله مهما أقسم من أيمان مغلظة. وهكذا كانت أفعال المنافقين تفضحهم،ويتخذ منها المؤمنون حجة على كذبهم : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ ) ( المائدة 53 ـ  )

القسم فى اليوم الآخر :

1 ـ والذى يموت بعقيدة باطلة سيلقى الله جل وعلا بهذه العقيدة ، والذى أدمن القسم كذبا سيواصل هذه العادة السيئة فى الآخرة . وبمجرد قيام الساعة سيقسم المجرمون مالبثوا غير ساعة:(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ)(الروم 55 ). ومنافقو المدينة الذين أدمنوا القسم بالله جل وعلا كذبا وخداعا للمؤمنين وهم يعلمون بكذبهم وخداعهم ، سيأتون يوم القيامة ليواصلوا كذبهم أمام رب العزة وبنفس الطريقة : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) (المجادلة 14 : 18 ).

2 ـ وينطبق هذا على كل الكفرة يوم القيامة،فسيأتى كل منهم يوم الحساب يقسم بالله جل وعلا  أنه لم يكن من المشركين:(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ  )( الأنعام22 : 24 ). بعد هذا ..أنتنظر من أصحاب الأديان الأرضية أن يعترفوا بضلالهم؟إذا كانوا سيكذبون على ربهم جل وعلا يوم الحساب فكيف بهم فى هذه الدنيا ، وهم أصحاب سلطة وجاه .؟

ثالثا : الله جل وعلا يقسم بذاته ولا يقسم بمخلوقاته :

1 ـ الله جل وعلا لا يحتاج الى القسم بمخلوقاته،ولكن يذكرها لبيان آلائه جل وعلا فى الخلق. ـ 1/1 ـ ومن آلائه جل وعلا مواقع النجوم،ويذكرها فى معرض عظمة القرآن الكريم :( فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)( الواقعة 75 : ـ ).

1/2 ـ ومثل ذلك فى النجوم والليل والصبح على عظمة الوحى القرآنى : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ   الْجَوَارِي الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ )(التكوير 15 ـ ).

1/ 3 ـ ونفس الحال فيما نبصر وما لا نبصر:( فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) ( الحاقة 38 : ـ )

1/ 4 ـ وعن يوم القيامة والنفس اللوامة والبعث يقول جل وعلا:(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ) (القيامة 1 ـ  )

1 /5 :وعن الشفق والليل والقمر وتتابع الأجيال يقول جل وعلا :(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ )(الانشقاق 16ـ )

1/ 6 ـ وعن مكة والوالد والولد والانسان المخلوق فى تعب ونضال :(لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ   وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ) ( البلد 1 ـ  )

2 ـ الله جل وعلا يقسم بذاته للرسول ،يقول له ( وربّك )، وفى هذا تكريم هائل له عليه السلام  . ويأتى هذا فى سياق مواقف تعرض فيها لعناد المشركين :

2/ 1 :ففى مكة واجهوه بإنكار القرآن فقال له رب العزّة :( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) ( الحجر: ـ 92 ـ ). الشاهد هنا : (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ  ).

2/2 : وفى مكة واجهوه بإنكارالبعث فقال له رب العزة : ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا ) (مريم : ـ 68 ـ  ). الشاهد هنا (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) .

2/ 3 : وفى المدينة تعرض لخداع المنافقين ومكائدهم ، فقال له رب العزة جل وعلا :( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا )( النساء 64 : 65 ). الشاهد هنا (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)

هذا ... ويقسم رب العزة بذاته باعتباره رب السماوات والأرض على أن القرآن حق ملموس مثل حقيقة أننا ننطق :(فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ)(الذاريات 23 )

 

المقال الثانى : الحلف بالله جل وعلا بين الاسلام والشرك

هو خصم لله جل وعلا من يستخدم الدين فى طموحه الدنيوى

مقدمة : طبقا للشريعة السّنية السلفية فالحاكم المستبد هو الذى يحكم باسم الله زورا وبهتانا ولذا فله أن يتحكم فى الناس فى مجالات العقيدة والعبادات والمعاملات فيما بينهم ، أى إكراه الناس فى الدين . وهذا منهى عنه فى الاسلام وشريعته، وفى أكثر من ألف آية قرآنية تأكدت حرية الرأى والفكر والعقيدة والدين فى العقائد والعبادات . وخلافا للدين السّنى وشريعته فإن معظم تطبيق الشريعة الاسلامية ينصبّ فى العقائد والعبادات ـ أى حقوق الله جلّ وعلا ، وهو شأن فردى ، لا يجوز للمجتمع أو السلطة السياسية التدخل فيه . السلطة السياسية فى الدولة الاسلامية مجالها محدود فى تطبيق الشريعة الاسلامية الحقيقية،وهوفيما يخص حقوق الأفراد والمجتمع ، مثل عقوبات القتل والسرقة و القذف للمحصنات والارهاب ـ اى قطع الطريق . والتطبيق هنا يخضع لعوامل أساس هى العدل وكفالة الحقوق وإسقاط العقوبة عند التوبة . وسيأتى التفصيل فى كتاب لنا قادم عن تطبيق الشريعة الاسلامية ، ولكن نتوقف هنا مع مثال بسيط للتطبيق الفردى للشريعة الاسلامية الحقيقية، وهو الحلف بالله جل وعلا.

أولا : حكم الحلف بالله جل وعلا بالنسبة للمؤمن المسلم  

 1 ـ المؤمن الحق هو الذى يخشع قلبه عند ذكر إسم الله جل وعلا:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) ( الأنفال 2 )، وبالتالى فهو لا يستخدم إسم الله فى الحلف به فى كل صغيرة أو كبيرة ، لذا يقول جل وعلا فى سورة البقرة:(وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )( البقرة 224 )هنا نهى عن إدمان الحلف بالله جل وعلا.

2 ـ إدمان الحلف بالله جل وعلا عادة سيئة تسود فى المجتمعات التى يسيطر عليها النفاق الاجتماعى وتتحكم فيها ثقافة الأديان الأرضية ، إذ تجد الناس يقسمون باسم الله جل وعلا فى الصغيرة والكبيرة ، فى الحق وفى الباطل ، بل فى الباطل  أكثر حيث يشيع استخدام الحلف بالله وسيلة للتجارة بالدين وتحقيق الطموحات السياسية والحطام الدنيوى ، ويكون (الزعيم ) هو من يتطرف ويدمن ( الزعم ) أو الادعاء بالباطل ، وهو أكثرهم  مهارة فى سبك الباطل حيث يؤكده بالحلف بالله جل وعلا، أى يستخدم إسم الله جل وعلا فى خدمة طموحه السياسى. ويعتلى هذا ( الحلاّف المهين ) ظهر المجتمع متحكما فيه ، ولكى يستمر سلطانه فهو يصدّ عن الحق مكذّبا به ساخرا بكلام رب العزّة ، حتى لو كان قائل الحق رسولا كريما فى قامة خاتم النبيين محمد عليه السلام . والله جل وعلا فى بداية ما نزل من القرآن الكريم نهى رسوله الكريم عن طاعة هذا الحلاف المهين ووصفه بأسوأ مساوىء البشر،يقول جل وعلا : ( فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)(القلم 8 ـ ). وتنتهى مصداقية الحلف بالله بشيوع الحلف باسم الله فى المجتمعات والدول التى يستبد بأمورها ( الزعماء ) من السياسيين ورجال الدين الأرضى المتخصصين فى التكذيب بآيات الله والافتراء عليه جل وعلا كذبا ،ولا تصبح له  قيمة أو تأثير حيث تعود الناس الكذب ، وتعودوا تسويغ الكذب باستعمال إسم الله جل وعلا.

3 ـ وهنا يأتى النهى من البداية تحريم جعل إسم الله عرضة للحلف والأيمان: (وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ )، أى لايكون الحلف والقسم باسم الله إلا فى الأمور الخطيرة والهامة حتى يكون لاسم الله جل وعلا قدسيته وحتى يكون لاستعماله فى الحلف والقسم هيبته ومصداقيته ، وحتى يتم تأسيس العلاقات بين الأفراد على الثقة المتبادلة والاصلاح وليس الفساد ، وهذا معنى قوله جل وعلا:(أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ).  ولأن التطبيق لهذا النهى هو شأن خاص بين الفرد وربه جل وعلا فإن الله هو الذى يتولى حساب الفرد والناس ، لذا يأتى ختم الآية بقوله جل وعلا : (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ). والمتقى هو الذى يؤمن بأن الله جل وعلا رقيب عليه يسمع ويعلم أفعاله وحركاته.

4 ـ وتأتى الآية التالية لتعطى الحكم فى الحلف بالله جل وعلا:( لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ )(البقرة :225 ). فالأيمان قسمان ، قسم يأتى بلا قصد وبلا تعمد، أو يمين اللغو ، وهذا يعفو الله جل وعلا عنه طبقا للقاعدة القرآنية فى عدم المؤاخذة عند النسيان والخطأ غير المقصود وعند الاكراه :( لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ )،ولكن يؤاخذنا باليمين المتعمد الذى يعيه القلب:(وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ).ولأن التعامل هنا مباشر بين الفرد وربه جل وعلا فإن المؤمن يعلم إن الله غفور حليم ، أى عليه أن يسارع بالتوبة لو حنث فى يمين تعمد فيه الحلف بالله جل وعلا. وواضح هنا أن التطبيق البشرى لهذا التشريع داخل فى النطاق ( القلبى ) للفرد فى علاقته مع ربه جل وعلا بلا واسطة، فالفرد هو الذى يتحكم فى لسانه ، وهو الذى يحدد بينه وبين نفسه ما هو اللغو وما هو اليمين المتعمد ، وبالتالى هو الذى يقرر بينه وبين نفسه أن يتوب أو أن يحترف الخداع باسم الله عزوجل. لا مجال هنا لسلطة بشرية فى تطبيق هذا الشرع على الفرد .

5 ـ كان هذا فى سورة البقرة ، وهى من أوائل ما نزل فى المدينة . بعدها فى أواخر ما نزل من القرآن جاءت تفصيلات فى موضوع الحلف أو القسم بالله ، يقول جل وعلا فى سورة المائدة :( لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ ) وهو تأكيد على ما جاء من قبل فى سورة البقرة . ولكن الجديد هنا هو الإتيان بحكم لذلك الذى عقد بقلبه يمينا قاله متعمدا ثم حنث فيه ، ماذا عليه ؟ الجواب أن يدفع كفّارة تكون دليلا على توبته. و(الكفّارة ) من ( كفر ) أى (غطى ) وهو نفس معنى (غفر ) أى غطى ايضا ، وبالتالى فإن هذه الكفارة ستغطى يوم الحساب على سيئة الحنث فى اليمين. يقول جل وعلا :( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(المائدة 98 ).فالكفارة هى إطعام عشرة مساكين من نفس نوعية الطعام المعتاد لأهله ، أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة ـ لو كان هناك رقيق ـ وعند عدم الاستطاعة فصيام ثلاثة أيام،. ثم يأمرنا رب العزة بأن نحافظ على أيماننا ،أى لا نحنث بها،ولا نلغو بها ولا نتخذ اسم الله عرضة لأيماننا.

6 ـ ويختم رب العزة الآية بالتنويه على البيان القرآنى ، أو تبيين الله جل وعلا لنا أحكامه فى القرآن حتى نشكره جل وعلا:( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ). فبيان القرآن داخل القرآن الذى يفسّر بعضه بعضا ويفصّل بعضه بعضا ويبين بعضه بعضا ، وهذا تكرر كثيرا فى القرآن،والله جل وعلا هو الذى أكّد أن  عليه مسئولية البيان:(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)(القيامة 19 ). فبيان القرآن هو من الله جل وعلا الذى أنزل القرآن وجعله كتابا مبينا ، وسمّى آياته بينات ، وليس بيان القرآن خارجا عنه من مصدر بشرى،كما يزعم أرباب الدين السّنى الذين يؤمنون بأن الله جل وعلا أنزل كتابا غامضا مبهما محتاجا للبشر فى تفسيره ومحتاجا لأقوالهم والى سنتهم المخبولة فى بيانه.

ثانيا : لمحة عامة عن الحلف عند المشركين 

1 ـ من ملامح الشرك تقديس البشر من أولياء وأئمة ، ومن ملامح تقديس البشر لآلهتهم وأوليائهم وأئمتهم الحلف بأسمائهم كما يحلف المؤمن المسلم باسم الله ربه جل وعلا. ويلاحظ مما سبق أنه لم يرد حكم شرعى لمن يحلف بالآلهة والأولياء لأن هذا خارج نطاق الاسلام، فأحكام الاسلام خاصة بمن يؤمن به قلبيا فلا يقسم إلا بالله ولا يتوسّل إلا به جل وعلا. أما المشرك الذى يقسم بآلهته وأوليائه فلا فائدة من التشريع له لأن علاقته بالاسلام والتقوى مقطوعة فى الأساس. والمعهود أن المشرك حين يتوسل بالضريح أو القبر المقدس يكون حاضر الذهن خاشعا متبتلا ، أما عندما يصلى لله فذهنه مشغول بكل شىء سوى الخشوع لله جل وعلا. ونفس الحال فى الحلف بالله جل وعلا ، فهو يستسهل الحلف بالله لغوا وعرضا وفى الصغيرة والكبيرة ، أما عندما يقسم بالولى الذى يقدسه فهو يخشى من غضبه فلا يقسم به إلا صادقا خاشعا .

2 ـ والمشرك عندما يقسم بالله جل وعلا وهو جاد وواع بما يقول فلا يفعل ذلك عن خشوع وتقوى، بل يهدف للتلاعب وتحقيق غرض دنيوى يتنوع حسب وضعه: فإن كان مستضعفا خائفا فهو يحلف باسم الله كذبا ليغطى على خطأ وقع فيه يستحق المساءلة ، أو ليبرر تقاعسه عن واجب . وهذا ما إعتاده المنافقون فى المدينة . وإن كان المشرك صاحب جاه أو سلطان فليس محتاجا فى الأصل للحلف بالله ليقنع غيره بشىء، فمعه الجاه والسلطان .وفى الدولة الدينية المعتدية ـ  أوالتى يسيطر عليها المشركون المعتدون ـ تراهم يستسهلون نقض العهود والمواثيق التى تم توثيقها باسم الله جل وعلا . وقد يكون هذا المشرك أو أولئك المشركون خارج السلطة ولكن يسعون لامتلاك الجاه والسلطان ، وعندها يقومون باستغلال اسم الله جل وعلا ، يخدعون به الناس ليركبوا ظهورهم باسم دين الله ، وهو براء منهم.

3 ـ وهذا الخلط بين الدين ( الأرضى ) والطموح السياسى رذيلة سادت فى العصور الوسطى فى الشرق والغرب ، وفى أوربا وبلاد المسلمين ، ثم تحررت منها أوربا البرجوازية ولعنتها الشيوعية التى اعتبرت الدين ( الأرضى ) أفيون الشعوب . وكان المسلمون على وشك اللحاق بالعلمانية الغربية التى تتفق مع الاسلام ، فتمنع استغلال الدين فى السياسة و تجعل الهداية والضلال فى الدين شأنا فرديا شخصيا وعلاقة خاصة بين الفرد وربه ، ولا تجعل من أهداف الدولة إدخال الناس الى الجنة لأن من اهتدى فقد اهتدى لنفسه ومن ضلّ فإنما يضل على نفسه. ولكن المسلمين مالبث أن عادوا الى التخلف واستخدام اسم الله جل وعلا فى السياسة، وقام بهذا الوزرالوهابيون السعوديون واستمر عليه السلفيون والاخوان المسلمون .

 

المقال الثالث : عبادة للمال كبداية استغلال الدين فى السياسة

 هو خصم لله جل وعلا من يستخدم الدين فى طموحه الدنيوى

مقدمة

1 ـ قلنا إن المشرك الكافر عندما يقسم بالله جل وعلا وهو جاد وواع بما يقول فلا يفعل ذلك عن خشوع وتقوى، بل يهدف للتلاعب وتحقيق غرض دنيوى يتنوع حسب وضعه: فإن كان مستضعفا خائفا فهو يحلف باسم الله كذبا ليغطى على خطأ وقع فيه يستحق المساءلة ، أو ليبرر تقاعسه عن واجب . وهذا ما إعتاده المنافقون فى المدينة . وإن كان المشرك صاحب جاه أو سلطان فليس محتاجا فى الأصل للحلف بالله ليقنع غيره بشىء، فمعه الجاه والسلطان .وفى الدولة الدينية المعتدية ـ  أوالتى يسيطر عليها المشركون المعتدون ـ تراهم يستسهلون نقض العهود والمواثيق التى تم توثيقها باسم الله جل وعلا . وقد يكون هذا المشرك أو أولئك المشركون خارج السلطة ولكن يسعون لامتلاك الجاه والسلطان ، وعندها يقومون باستغلال اسم الله جل وعلا ، يخدعون به الناس ليركبوا ظهورهم باسم دين الله ، وهو براء منهم، ولكن استخدامهم الدين ضد المستبد القائم يدفعه هو الآخر لاستعمال نفس السلاح ضدهم ،فيستخدم   شيوخه الرسميين فى تبرير الظلم وتأسيس الخنوع باسم الدين ، وهنا ترى نوعين متناقضين من استخدام الدين : نوع يوجب ( الجهاد ) ضد السلطان والقتل العشوائى للأبرياء للوصول الى السلطة ، ونوع آخر نقيض يؤسس طاعة الحاكم ويحرّم ويجرّم التأليب على ولى الأمر ، ويعتبر نصحه جريمة سياسية. والبداية فى هذا كله هو استغلال الحلف بالله جل وعلا تحقيقا لغرض دنيوى أو سياسى ، يستوى فى ذلك البائع الذى يحلف كذبا فى السوق ليخدع المشترى مع الناخب الذى يصلّى إماما بالناس ـ بغير وضوء ـ وهو فاسق عريق ، أو من يطلق على الناس لحيته ويواجههم بزبيبته يطالبهم بدفع ثمن تدينه طاعة له ليركب مؤخراتهم باسم الدين ، ومن يمانع فهو كافر يستحق القتل بزعم حدّ الردة..!!

2 ـ وفى سبيل الجاه والمال يبذل الانسان نفسه ، يقتل ويقاتل الغير فى الصراع حول الثروة والسلطة ، وعندما يصل الى الثروة يتمسك بها وينميها بامتلاك السلطة ، كما أن من يصل الى السلطة لا بد أن تمتد نفسه لاقتناص الثروة، فالثروة والسلطة وجهان لعملة واحدة لا يستغنى أحدهما عن الآخر، فى دولة الاستبداد تجد ذلك فى أبسط صورها فى التاجر صاحب المال وضابط البوليس صاحب النفوذ ، لا بد للتاجر من توثيق سلطته بصاحب النفوذ فى محيطه ليؤمن نفسه ويزيد من ثروته ، كما أن صاحب النفوذ وهو الضابط يحتاج الى المال ليزداد نفوذا ووجاهة . وفى الدول الديمقراطية توضع القوانين لتجعل العلاقة بين الثروة والسلطة قانونية وفى إطار الشفافية والعلانية والمساءلة، فالرئيس الأمريكى تؤخذ منه ثروته ليديرها له آخرون تحت الرقابة وقت توليه السلطة، ثم تعود اليه بعد تركه الرئاسة ، ولو جاءت هدية  للرئيس الأمريكى أو أى موظف حكومى فلا بد من التنازل عنها للدولة  طالما تزيد قيمتها عن عدة دولارات . وممنوع منعا باتا تدخل الكنيسة فى السياسة كما هو ممنوع ومحظور تدخل السياسة والساسة والكونجرس فى الشئون الدينية للأفراد والجماعات.

3 ـ ولكن فى بلاد المسلمين المسكونة بالفساد والالحاد والطغاة والبغاة تجد الاستبداد يستعين بإلحاد شيوخ الدين الأرضى ، ولا يكتفى هؤلاء وأولئك بالظلم العادى الصريح الذى لا يتمسح بالدين ، بل يؤثرون تبرير ظلمهم بالدين الأرضى ، فتجد من أتباعهم من يحذّر من الخروج على السلطان ، ومن يدعو الى الرضا بالظلم ، ويستخدم فى كل هذا الهراء إسم الله جل وعلا يقسم به ( جهد أيمانهم ) مستخدما آيات القرآن الكريم يتلاعب بها ، ويجترّ أحاديث شيطانية جعلوها أحاديث نبوية . الأفظع من هذا أن من يطمح الى أن يكون هو السلطان وليس خادما للسلطان يستحل القتل للجميع باسم الله جل وعلا وتحت راية الجهاد ، ويستحل السلب والنهب والسرقة باسم رب العزة ، تحت شعار (الاسلام هو الحل )،وهو فى الواقع يريد (حلّ ) مشكلته وهوسه بالزعامة والحكم ، ويرفع راية ( تطبيق الشريعة ) وهى إفك ما أنزل الله تعالى به من سلطان ، هى مجرد أقاويل لفقهاء افتروا على الله جل وعلا كذبا وكذّبوا بآياته .هنا يكون الظلم صريحا للناس ولرب الناس لأن أولئك البغاة هم الطاغوت طبقا للمصطلح القرآنى ، فالطاغوت هو الطغيان المتطرف بالكذب على الله تعالى وتكذيب آياته ، وأفظع الظلم أن تظلم رب العزة ، وأن تتلاعب باسمه وبكتابه ودينه لتحقق الثروة والسلطة.وكما يقال: معظم النار من مستصغر الشّرر، فإن البداية بسيطة : الحلف كذبا باسم الله لخداع الناس .

4 ـ وهنا يتضح التناقض بين الاسلام وأديان المسلمين الأرضية . ففى الاسلام مفروض على المسلم ان يجاهد فى سبيل الله جل وعلا بنفسه ،أى أن يبذل حياته فى سبيل الله دفاعا عن دينه جل وعلا القائم على الحرية المطلقة للبشر فى حريتهم الدينية وعلى أنه ( لا إكراه فى الدين)، ليكونوا مسئولين أمام رب العزة يوم الدين. ومن أكبر الكبائر فى شريعة الاسلام قتل المؤمن البرىء المسالم : (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء 93 )، وذلك المؤمن البرىء هو من يقول ( السلام عليكم ) والآية التالية يقول فيها ربالعزّة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ( النساء 94 )، أى يؤكّد رب العزة أن جندى العدو  فى حالة الاشتباك الحربى  إذا ألقى السلام وجب حقن دمه ، فكيف بالأبرياء فى الشارع ووسائل المواصلات والحدائق والأسواق وفى المساجد والكنائس والمدارس ؟ وكيف بمن يقتل الناس عشوائيا مستخدما إسم الله فى عصيان الله من أجل الجاه والحكم والسيطرة؟ . ومفروض على المسلم أن يجاهد فى سبيل الله جل وعلا بماله ، أى أن يدفع أمواله متنازلا عنها إبتغاء مرضاة الله ودفاعا عن دينه القائم على القيم الأخلاقية العليا من الحرية والعدل والسلام وكرامة الانسان ، والدعاة فى الاسلام متطوعون لا يطلبون من الناس أجرا ، لأنّ أجرهم عند الله جل وعلا . وهكذا فالسلطة والثروة والحياة نفسها يتبرع بها المسلم إبتغاء وجه الله جل وعلا. أما فى الدين الأرضى فدعاته يأكلون أموال الناس بالباطل ، وأصحاب السلطان فيه يسترقون الناس ، ومن يطمح للوصول الى السلطان يخدع الناس بدين الله ليبذلوا له أموالهم وحياتهم ويموتون فى سبيل أن يصل سيادته الى التحكم فى رقاب الناس ويركب ظهورهم باسم الله جل وعلا. وهو لا يستحى من الحلف كذبا باسم الله ، يقسم باسم الله العظيم حهد أيمانه لكى يخدع الناس السذج البلهاء بأنه المبعوث من لدن الله والمتحدث باسم الله والممثل لشريعة الله جل وعلا. يفعل هذا وعينه على المال والجاه والسلطة والثروة. وهذا كفر وشرك عظيم . ونتوقف هنا مع جذور هذا الإفك السّام .

 أولا : أنواع الشرك بالله جل وعلا:

أغلبية المسلمين يجهلون مصطلحات القرآن، ومنها مصطلح الكفروالشرك ،ونوضحها:.   1 ـ 1:الشرك والكفر مترادفان:(التوبة 1 : 3 ، 17)(الزمر1 : 3)(غافر 42).

2ـ  :هما معا ينقسمان الى :

2/1 : كفر أوشرك سلوكى بالعدوان: ،:(التوبة : 10، 12 : 13)(البقرة 190، 286 ) (الحج 38 : 40) ولأنه كفر بالسلوك فلو تخلى عن العدوان سقط عنه الاتهام بالكفر:(الأنفال  38 : 39)(البقرة 192 ، 193 )(التوبة 5 ،11 )(الممتحنة 2 ، 9).

2 / 2 :شرك أوكفر فى العقيدة ، قد يكون صاحبه مسالما لا يعتدى يجب التعامل معه بالبر والقسط ( الممتحنة 8 ) ( سورة الكافرون ). وقد يجتمع الكفر أو الشرك العقيدى بالسلوكى ، وهو الذى ساد فى العرب وقت نزول القرآن ، وتمثل فى قريش بالذات ، وهى التى اضطهدت المسلمين واخرجتهم من ديارهم مع التكذيب بالقرآن : ( الممتنحنة 1 ).

3 ـ ينقسم الكفر أوالشرك فى العقيدة الى نوعين :

3 / 1 : كفر أوشرك عقيدى علمى بالكذب على الله جل وعلا وتكذيب آياته بزعم النسخ والتأويل كما يفعل السنيون،وهم موصوفون فى القرآن بأنهم أظلم البشر:(الانعام 21 ، 93 ، 144 ، 157)( يونس 17)(هود 18)( العنكبوت 68)(الزمر 32 ).

3/ 2 : كفر أوشرك عقيدى عملى بعبادة القبور وتقديس البشر والحجر ، وقد فضحه رب العزة:(الاعراف 194 : 198)( النحل  20 : 22) )(فاطر 14) (الزمر 3 ). وغالبا ما يجتمع الشرك العلمى والشرك العملى كما يتجلى لدى الصوفية والشيعة.وأغلبية المسلمين  الصامتة ينتمون للتصوف السّنى  وهم يتبعون الشرك العلمى فى الشريعة السّنية مع تقديسهم القبور واعتقاداتهم فى شفاعة البشر ( يونس 17 : 18 ).

4 ـ وفى كل الأحوال فالمشرك الكافر ينكر وقوعه فى الشرك والكفر،حتى سيحلف أمام الله تعالى كذبا يوم الحساب بأنه ما كان مشركا ،يقول جل وعلا :(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) (الأنعام  21 : 24 )، فقد زين له الشيطان سوء عمله فرآه حسنا :(أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)(فاطر8)، ويظل هكذا معتقدا أنه على صواب ، وأنه يكفيه أن يعترف بوجود الله وكونه الاها  ولا يلزم ان يكون الله وحده الاها إذ لا بد لديه من وجود آلهة أخرى مع الله ، فلا يؤمنون بالله جل وعلا إلا إذا كان معه آلهة أخرى .وسيقال لهم وهو فى النار:(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ) ( غافر 10 : 12 ). كرّرنا هذا كثيرا . ولا نملّ من التذكرة به .

5 ـ ونضيف هنا أن الشرك والكفر العقيدى له أيضا مظاهر من حيث تنوع المعبود،ففيه تقديس  الله جل وعلا مع تقديس الملائكة والبشر والحجر،وأحيانا تقديس الحيوانات كما كان فى العصر المملوكى ،ولكن أغلبية البشر تعبد المال والثروة،وهذا هو موضوعنا اليوم.

ثانيا : عبادة المال شرك بالله وكفر به جلّ وعلا : 

1 ـ  معنى عبادة المال : هو الكفران بنعمة المال :فالمال من نعم الله جل وعلا ، ومفروض مقابلتها بالشكران وليس بالكفران . وشكر النعمة المالية هو فى زكاة المال بالانفاق فى سبيل الله جل وعلا ونصرة دينه ، وفى تقديم الصدقة الفردية و الرسمية ـ فى دولة ديمقراطية حقوقية ـ وليس دول الاستبداد ، على نحو ما جاء فى سلسلة الزكاة. وكفران النعمة المالية يتداخل مع الكفر بالنعمة الكبرى وهى القرآن الكريم. ووصف القرآن بالنعمة جاء فى سور :   ( القلم 2 )( الضحى 11 )( العنكبوت 67 ) ( المائدة 3 )، كما يتداخل مع وصف الهداية بالنعمة ( البقرة 103 ، ابراهيم 28 ، الصافات 57 ، الأحقاف 15 ). أى إن لكفران النعمة جانبا عقيديا يتجاوز نعمة المال فقط ، ففى النهاية هو جحود لفضل المنعم جل وعلا. هذا من الناحية العقيدية .

2ـ ومن الناحية التعبدية الناتجة عن العقيدة ، فهى تتنوع الى :

2/ 1 : تقديس للمال يبلغ درجة إنكار اليوم الآخر ، كما جاء فى قصة الرجل صاحب الجنتين أو الحديقتين الذى اصطحب صاحبه  وسار معه  يتفقد الحدائق ويفتخر بها ، يقول جل وعلا :(وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالا وَوَلَدًا فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا) ( الكهف 32 : 44 ). ونستخلص من الآيات الكريمة ما يلى :

2/1/ 1 : صاحب الجنتين كان يؤمن بالله جل وعلا ،فهو يقول مفتخرا (وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا ) أى يعترف بالله جل وعلا ربا له. وحين تدمرت جنته ندم واعترف بكفره قائلا (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ) ، أى إنه كان يؤمن بالله جل وعلا ربا ، ولكن اتخذ معه الاها ىخر هو تلك الجنة التى أنسته رب العزة ، لذا قال عنه رب العزة (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ )، فهو حين دخل جنته دخلها بكفران النعمة ، فظلم نفسه . وفهم صاحبه المؤمن ذلك فقال له موبخا : (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا )، ونصحه بشكران النعمة :( وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ ). إذن هو حين وقع فى كفران النعمة فقد كفر بالله جل وعلا المنعم . وجزاؤه فى الدنا تدمير نعمته ، وفى الآخرة عذاب أبدى ، يقول جل وعلا فى نهاية القصة :(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًاهُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا)، فالذى يوالى الله جل وعلا حقا ويخلص فى موالاته لربه ولا يتخذ غيره وليا ولا نصيرا هو الذى يستحق الثواب الحسن فى الدنيا وفى الآخرة. أما الذى يبدل نعمة الله جل وعلا كفرا ، فمصيره البوار والدمار فى الدنيا ، والخلود فى العذاب فى اليوم الآخر : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ) ( ابراهيم 28 )

2/ 1 / 2 : صاحب الجنتين وصل به كفران النعمة الى درجة الكفر باليوم الآخر ، وهذه عادة سيئة يقع فيها معظم البشر إذ يعتقدون كما يقول المثل الشعبى المصرى البائس :( سعيد الدنيا سعيد الآخرة ) أى إن ذلك الثرى الذى يتمتع بالثراء فى الدنيا سينال نفس النعيم فى الآخرة ، وليذهب الفقراء الى الجحيم ..يقول جل وعلا عن كفر أولئك الأثرياء : (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) ( سبأ  35)، وتحدى بعضهم خاتم النبيين فزعم أنه فى الآخرة سيكون كمثل حاله فى الدنيا صاحب مال وولد ، ولم يرد عليه خاتم النبيين ، ونزل قوله جل وعلا يردّ عليه : (  أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ) ( مريم 77 : 80 ). هى مجرد كلمة قالها فرد ، ولكن جاء الردّ عليها من رب العزة ليؤكّد أن هناك من يغويه المال فيقع فى الكفر العقيدى واتخاذ المال الاها مع الله جل وعلا ، ويجعله يكفر باليوم الآخر أو يصطنع يوما للآخرة حسب هواه . وهى عادة سيئة للانسان ، إذا إبتلاه ربه يأس،وإن أنعم الله جل وعلا عليه كفر:(لا يَسْأَمُ الإِنسَانُ مِن دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ) ( فصلت 49 : 50 ). وهو نفس منطق صاحب الجنتين ، فهو لا يؤمن أن هناك يوم آخر ، وحتى لو كان فسيتمتع بالنعيم : (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا ). أى هو بين أن ينكر اليوم الآخر أوأن يصطنع يوما آخر يفتريه كذبا تتحقق له فيه كل أمانيه ويمتلىء بشفاعات البشر. والسبب الذى أوقعه فى هذا الكفر بالله جل وعلا واليوم الآخر هو انبهاره بجنه وتقديسه لها إلى درجة أن ظنّ أنها خالدة لن تبيد أبدا:(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا ).

2 / 2 : أن يتطرف فى تقديس المال ليس فقط الى درجة البخل بل الى الدعوة الى البخل والأمر بالبخل . أى لا يبخل فقط بل يدعو الى رذيلة البخل ، وهو بذلك ينحط بكفره الى العذاب المهين فى الآخرة،يقول جل وعلا : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا)(النساء37 )

2 / 3 : أن يصل تقديسه للمال الى درجة اعتقاده ان ماله سيهبه الخلد ، بمعنى أن ينسى الموت ، ويظل محموما بجمع المال وكنزه ،إلى أن يستيقظ عند الاحتضار فيطلب فرصة أخرى بعد أن تبين له أنه أضاع عمره فى تحصيل شىء لا بد أن يتركه لغيره ، يقول جل وعلا محذرا المؤمنين : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )(المنافقون 9 ـ ). وفى هذا الصنف عابد المال أنزل الله جل وعلا سورة كاملة يتوعده فيها، هى سورة الهمزة :(وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ ).

ثالثا : أنواع عبادة المال :

1 ـ البخل السلبى : وهو عبادة سلبية فردية ، هنا فرد يقدّس المال ، فيكنزه ولا يتصدق منه. ومصيره أن يتعذب بماله فى الدنيا (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ )(وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)(التوبة 55 ،85 )،وان يتعذّب به فى الآخرة : (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)( آل عمران 180) (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) ( التوبة 34 ـ ) .

2 ـ عبادة نشطة معتدية على الناس : مثل ذلك البخيل الذى يأمر الناس بالبخل : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا)(النساء37 ). أو ذلك الذى يتسلط على الناس يسلبهم أموالهم علنا أو ضمنا ورسميا بالضرائب المجحفة ، أو سلب المال ضمنا برفع الدولة للاسعار بلا استحقاق ، وبالتطفيف فى الكيل والموازين، ولنتذكر هنا سورة ( المطففين )( وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ).وإذا كان هذا على مجرد التطفيف فى الميزان فكيف بمصادرة الأموال و الممتلكات ، وهى عادة سيئة للمستبد العربى والمسلم ، أدمنها منذ العصر الأموى ..ولا يزال ؟

3 ـ كل هذا شنيع وفظيع ، ولكن الأشنع أن تفعل ذلك باسم الله منتحلا دينه ،أى أن تسرق باسم الله ، وتحلف كذبا فى البيع لتخدع المشترى ، وفى النهاية أن تصل الى  الحكم مستغلا إسم الله ، وعندها تحتكر لنفسك السلطة والثروة وتمتلك الأرض ومن عليها . هنا تكون عبادة المال  تعديا على الناس وعلى رب الناس. وهذه حرفة الملاعين الذين يكتمون الحق الذى بيّنه رب العزة فى القرآن الكريم الكتاب المبين :(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )(البقرة 159 : 160 )،ومنهم الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، وسيتعجب ربّ العزة من صبرهم على النار(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ )(البقرة 174 : 175 ). وهناك فرق بين هذه السرقة باستغلال الدين ، والسرقة العادية ( العلمانية ) التى لا تستغل الدين ولكن تستغل النفوذ السياسى والصلة بالحاكم ، وهذا منهى عنه فى قوله جل وعلا : (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة 188 ).

أخيرا : صلة ذلك بالحلف باسم الله تعالى كذبا :

1 ـ لم نبتعد عن موضوعنا الأصلى ، وهو حلف المشركين كذبا بالله جل وعلا . قمنا فقط برصد تطورات هذا الحلف التى تصل الى استغلال الحلف بالله جل وعلا وإسمه ودينه فى السياسة للوصول الى التحكم فى الثروة والسلطة، وعرضنا لجذور ذلك ، وهو الكفر وكفران النعمة وعبادة المال. ونرجع الى البداية البسيطة ، وهى الحلف بالله جل وعلا وارتباطها بالكفر وتكذيب القرآن وعبادة المال . وهنا نستعرض سورة القلم ، وهى من أوائل التنزيل .

2 ـ بنظرة سريعة نجد السورة الكريمة فى بدايتها وفى نهايتها وفى وسطها تركز على القرآن الكريم ، وموقف الملأ القرشى (الرأسمالى ) منه ومن خاتم النبيين .

3 ـ فى البداية يقول جل وعلا (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) ( القلم 1 : 7).هنا القسم بالقلم وبما يسطره القلم ، والمستفاد منه ان رب العزة يخاطب قوما يكتبون ويعرفون القلم ، وبالتالى فإن وصف العرب بالأمية لا يعنى الجهل  بالقراءة والكتابة، بل لأنهم لم يأتهم كتاب سماوى منذ عهد اسماعيل عليه السلام ، مقابل (أهل الكتاب )( آل عمران 20 ، 75 ). وحين جاءهم خاتم النبيين بالقرآن اتهموه بالجنون ، فأقسم رب العزة لرسوله إنه بنعمة ربه ـ أى القرآن ـ ليس مجنونا ، بل هو على (خلق ) أى ( دين ) عظيم ، وهو القرآن الكريم . واتهموه عليه السلام بالضلال بسبب نزول القرآن عليه ، وردّ رب العزة على ذلك فى مفتتح سورة ( النجم ) ، وردّ هنا أيضا فى سورة القلم:( فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )..

4 ـ وفى وسط السورة نقاش مع الملأ القرشى (البرجوازى الرأسمالى ) فى تكذيبه للقرآن ، جاء فيه قوله جل وعلا لهم  مهددا: (فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ )( القلم 44 : 47 )،مع نصائح للنبى بالصبر،الى أن يقول جل وعلا فى خاتمة السورة يصف كراهية الملأ القرشى للنبى عند سماعهم تلاوة القرآن :(وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ).

 5 ـ نترك بداية السورة ووسطها ونهايتها لنتوقف مع الآيات الكريمة التى تربط الحلف بالله جل وعلا بتكذيب القرآن وعبادة المال. يقول جل وعلا:( فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) أى المكذبين للقرآن الكريم ، أى نهى للنبى عن طاعة المكذبين للقرآن . والنهى يعنى أن شيئا وقع وجاء النهى عنه . وهذا أمر خطير أن يقع النبى فى طاعة الكفار ( وقد تكرر هذا النهى فى سورة الاحزاب 1 ، 48 والكهف 28 ). والحقيقة إن مكرهم بالنبى كان شديدا ، فقد وزعوا بينهم الأدوار . منهم من يجهر باتهام النبى بالجنون ، وسبق فى بداية السورة دفاع رب العزة عنه ، ومنهم من يداهنه وينافقه خداعا ، وينتظرون منه أن يستجيب لهم بالمثل ،أى أن يداهنهم كما يداهنونه:( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ).وهذا المداهن هو خبير بالخداع وفى إقناع الناس بالباطل  ، وفى حالة رجل مؤمن مستقيم سليم القلب فالطريقة المثلى أن ينفذ الى قلبه بالقسم والحلف بالله جل وعلا.وهنا يتكرر النهى عن طاعة ذلك الذى أدمن واحترف الحلف كذبا بالله جل وعلا  أو بالتعبير القرآنى (حلاّف )، يقول ربى جل وعلا :( وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ). وتتوالى صفاته السيئة المشينة :(هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ ) وهذا يذكرنا بالبخيل الهمزة اللمزة الذى جمع مالا وعده يحسب أن ماله أخلده. وهذا البخيل هو منّاع للخير يمسك يده عن الصدقة مع تسلطه على الغير بالعدوان:(مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ )، ثم يوضح رب العزة أن هذا الحلاف المهين يكذب بالقرآن لأنه صاحب مال وجاه،ويخشى على ماله وجاهه من الاصلاح الذى نزل به القرآن الكريم ، يقول جل وعلا :( أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ) ثم يشير رب العزة الى جانب من تعذيبه وإهانته يوم القيامة فيقول :( سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ).

ثم يضرب رب العزة لهم مثلا بجماعة ورثوا، وطمعوا فى احتكار ثمرها لأنفسهم ، فأقسموا بالله جل وعلا أن يحرموا من ثمارها المساكين الذين اعتاد أبوهم أن يتصدق عليهم من ثمر الحديقة. فاتفقوا على أن يتسللوا مبكرا لجنى ثمارها قبل أن يأتى المساكين لأخذ صدقاتهم . وذهبوا عازمين فوجدوا حديقتهم قد تدمرت . فندموا ، والله جل وعلا يتوعدهم بعذاب آخر يوم القيامة . يقول جل وعلا عن القرشيين الكفرة:( إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ) ثم يقصّ قصة أصحاب الجنة: ( إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَن لّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) ( القلم 8 : 33 ). نحن هنا أمام أناس يعرفون الله جل وعلا ويسبحونه ، ويعترفون بالخطأ ، ولكنهم وقعوا فى تقديس المال ، فأقسموا على منع الخير أو حجب حق النعمة أو كفران النعمة . فهنا ( قسم بالله ) على فعل معصية ، وسببه البخل وكفران بالنعمة. وجاءت القصة تحذيرا لمشركى قريش المكذبين للقرآن ، وزعيمهم الحلاّف المهين صاحب المال والبنين ..

أليس فى هذا عبرة لمن يخشى ؟ 

المقال الرابع: من قريش الى الوهابيين في خلط السياسة بالدين

هو خصم لله رب العالمين من يخلط السياسة بالدين

 أولا : قريش حرّفت الاسلام مرتين

 1 ـ عاون اسماعيل  أباه ابراهيم فى إعادة بناء الكعبة وتطهير البيت الحرام والدعوة الى الحج اليه كأول بيت وضعه الله جل وعلا للناس . وأوصى ابراهيم أبناءه بالتمسك بالاسلام ، وكذلك فعل حفيده يعقوب ( البقرة 125 : 133)، وكذلك فعل اسماعيل الذى كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا ، وتوالت أجيال أبناء ابراهيم ، وهم بنواسرائيل ( يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم ) ومن ذرية اسماعيل وهم قبائل العرب المستعربة الشمالية من مضر وربيعة . ومن قبائل مضر جاءت قريش . وخلال هذه الأجيال من ذرية الأنبياء جاء صالحون من ذرية ابراهيم واسرائيل واسماعيل ، كما خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات:(مريم  54 : 55 ، 58 : 59).

2 ـ كان البيت الحرام تحت سيطرة قبيلة جرهم القديمة التى تنتمى للعرب اليمنيين القحطانيين ، والذين تزوج منهم اسماعيل وعاش بينهم فأصبحوا أخوال القبائل من ذرية اسماعيل . ثم آلت السيطرة على البيت الحرام الى قبيلة خزاعة اليمنية ، بينما عاش فى مكة وحولها فرع من قبائل مضر ينتمى الى النضر بن كنانة ، أصبح اسمه فيما بعد قريش. تمكن فرع قريش هذا من طرد خزاعة والسيطرة على مكة والمسجد الحرام وفريضة الحج بزعامة قصى بن كلاب (400 : 480 )، وهو الجد الرابع للنبى محمد عليه السلام . وعبد مناف بن قصى أنجب توأمين ؛هاشم وعبدشمس ، وأنجب هاشم عبد المطلب جد النبى بينما أنجب عبد شمس أمية . فالأمويون والهاشميون يجمعهم جد واحد هو عبد مناف بن قصى . وتولى الهاشميون رعاية البيت الحرام والاشراف على شئون الحج ، وتولى الأمويون قيادة رحلتى الشتاء والصيف .

 3 ـ وضع قصى أسس السيطرة لقريش فى مكة وخارجها، قام بتجميعهم فى مكة وبنى دار الندوة وأعاد بناء الكعبة وتنظيم الاشراف على االحج واستخدامه تجاريا فى إثراء قريش بمنع الحجاج من حمل طعام معهم الى مكة حتى يشتروا الزاد من متاجر قريش، ومنع الحجاج من تأدية المناسك فى الحج إلا بأثواب خاصة ( هى ملابس الاحرام)يشترونها من قريش.( ولا يزال هذا سائدا حتى اليوم تحت إسم الاحرام ، والتفاصيل ستأتى فى كتاب قادم عن الحج بين الاسلام والمسلمين) . ولأنّ قصى شطرا من عمره فى الشام فقد بدأ رحلة الشتاء والصيف من الشام الى اليمن ومن اليمن الى الشام عبر الجمال التى أمكن تطويعها لقطع صحراء العرب من الشام الى اليمن لتصل التجارة الشرقية بين الهند والصين شرقا وأوربا وينزنطة غربا .  حل الطريق الجديد محل طريق الحرير الوعر الذى كان يشق وسط آسيا من غرب الصين الى شرق أوربا . بالطريق الجديد كانت السفن تأتى بالتجارة الشرقية من الهند والصين الى اليمن ثم تحملها قوافل قريش من اليمن الى الشام الذى كان تابعا للبيزنطيين ، ومن الشام الى أوربا ، وتعود القوافل ببضائع أوربا من الشام الى اليمن لتحملها السفن الى الهند والصين. خشيت قريش على قوافلها من إحتمال نهب القبائل العربية لها ، ورأت أن تقيدها بعهد تستخدم فيه حرمة البيت الحرام ومكانته لدى تلك القبائل . فأقنعتها بتكريم أصنامها وأنصابها بزرعها فى الحرم ليكون لهم جانب من التقديس فى شعائر الحج ، وأن تضمن قريش رعاية وصيانة هذه الأصنام مقابل ضمان القبائل لأمن القوافل القرشية . وهذا هو الايلاف. والايلاف فى داخل قريش كان يعنى توزيع رأسمال التجارة القرشية أسهما ،وتفرقة الارباح فى نهاية كل رحلة على اصحاب الأسهم . ومن هنا فإن رسول الله عليه السلام حين اعترض قوافل قريش فى معركة بدر كان صاحب حق ، لأن قريشا صادرت أموال المسلمين وممتلكاتهم واستثمرتها فى تلك التجارة .عاشت قريش فى نعمة الايلاف تتنعم بالأمن والترف بينما يعيش العرب فى جوع وخوف وتقاتل مستمر بينهم،يقول جل وعلا:(أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا )(القصص 57)،فثمرات العالم من الصين والهند وأوربا مع ارباح هائلة كانت تجبيها قريش وهى تعيش آمنة حول البيت الحرام . وقال جل وعلا فى سورة قريش: (لإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ). كسبت قريش الجاه والثروة ، ولكن على حساب ملة ابراهيم . أضاعت ملة ابراهيم حرصا على تجارتها وجاهها بين العرب.  

4 ـ كان ممكنا الحفاظ على ملة ابراهيم دون تحريف ولو فى داخل مكة ؛ فالعرب المتقاتلون فيما بينهم حافظوا بنسبة كبيرة على منع القتال فى الأشهر الحرم ، لم يرتكبوا سوى النسىء الذى اعتبره رب العزة زيادة فى الكفر ، بينما نجد العرب بعد موت النبى عليه السلام ببضعة عقود قد انتهكوا كل الأشهر الحرام ، ثم تناسوها بالجملة. والعرب فى الجاهلية كانوا يصونون حرمة الحرم فلم يحدث قتال فيه ،ثم أصبح الحرم ساحة قتال بعد عدة عقود من موت النبى عليه السلام . كان يمكن لقريش أن تؤمن قوافلها عسكريا ، وسياسيا ودعائيا بإقناع القبائل فى موسم الحج بعدم التعرض لقوافلها لأنها تنفق من ريع التجارة على عمارة البيت الحرام ، ومعروف لدى العرب وقتها حرمة كل ما يمتّ للبيت الحرام من هدى وقلائد . بل أقنعت قريش وهى القائد الدينى للعرب أن تجعل الحجاج يشترون الطعام واللباس من متاجرها على ان ذلك ضمن مناسك الحج ،بل وفرضت على من لا يشترى ملابس الاحرام منهم أن يطوف بالبيت عاريا حتى لو كان من النساء . أى كان ممكنا فى ظلّ قوتهم العسكرية وسيطرتهم الدينية أن يقنعوا القبائل بعدم التعرض لقوافلهم ولكن إختارت قريش الحلّ الأسهل وهو تدنيس البيت الحرام برجس الأنصاب والأصنام لتضمن أمن قوافلها .

5 ـ بتدنيس البيت الحرام بالأصنام تكون قريش من أعرق من استخدم الدين مطية لمصالحه السياسية والاقتصادية ، إذ ضحّت قريش بملة ابراهيم أوالاسلام الحنيف القائم على أنه لا اله الا الله ، وأنه جل وعلا هو وحده الولى والشفيع والمستحق وحده للتقديس والعبادة ، وأنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. ومن ملة ابراهيم توارثت قريش الصلاة والصوم والحج والصدقات. حافظت قريش على شكل الصلاة لله جل وعلا فى الفرائض الخمس، ولكن حرفوا ملة ابراهيم فى العبادات لتتصالح مع عبادة الأولياء والقبور فأضافوا الصلاة للأولياء وحرفوا الحج وتلاعبوا بالشهر الحرم ، وأصبحوا حماة لأضرحة الأولياء وأصنامهم فى جوف الكعبة ليستخدموا قبائل العرب فى حماية رحلتى الشتاء والصيف. وهذا هو التحريف القرشى الأول للاسلام وملة ابراهيم .

6 ـ لإصلاح هذا التحريف المحلى والعالمى أرسل الله خاتم النبيين محمدا عليه السلام من فرع اسماعيل بن ابراهيم ، استجابة لدعائهما حين كانا يقيمان قواعد البيت: (البقرة 129)،ونزل القرآن يؤكد على أن محمدا متبع لملة ابراهيم:( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ )(النحل  123). وفى نفس السورة ضرب رب العزة مثلا لقريش يحذرها   : ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ)(النحل 112 : 113). ولم تتعظ قريش فأخذهم عذاب الفتنة الكبرى.

7 ـ بتأثير القرآن تطهرت عقائد العرب من تقديس القبور وعبادة الأولياء والشفعاء ، ودخل الناس فى دين الله أفواجا. ولكن هذا الدخول السريع فى الاسلام أتاح لخروج سريع منه تجلى فى الفتوحات العربية . إن الاسلام يقوم على العدل والقسط فى التعامل مع الله جل وعلا وفى التعامل مع البشر . فالعدل مع الله يعنى ألاّ تشرك به شيئا ، فمن الظلم لرب العزة الخالق أن تجعل له من مخلوقاته شريكا له ، ومن هنا فالشرك ظلم عظيم ( لقمان  13). ولقد ركّز القرآن على فضح عقائد الشرك خصوصا فى الوحى المكّى ، وجاء بالحوار والقصص بما أقنع العرب بمهزلة تقديسهم للموتى والأحجار والقبور. وقريش نفسها أول من إقتنع بأن القرآن هدى ( القصص 57 ) فهم تجار ماكرون يحترفون الضحك على الذقون. لم تكن هناك صعوبة فى إقناع العرب بالتخلى عن تقديس البشر والحجر ، خصوصا مع رؤيتهم لرسول الله الذى كان يأتيه الوحى ويقود أمة ويقيم دولة ، وهو شخص عادى يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق. أى تحقق العدل فى التعامل مع الله جل وعلا وتقديسه وحده ، ولكن العدل فى التعامل مع الناس كان مناقضا لطبع أصيل لدى العرب فى صحرائهم، فقد اعتادوا على التقاتل فيما بينهم ونصرة أخيهم ظالما أو مظلوما،بل كان الظلم مع السلب والنهب والسبى من سمات العزّة والمنعة والشجاعة فى الثقافة العربية، فلا يسلم الشرف الرفيع عندهم من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم . تعمقت هذه الثقافة وتجذّرت وتطبّقت قرونا فى العقلية العربية بحيث يصبح من المتعذر أن تغيرها سنوات البعثة ونزول القرآن وعهد خاتم النبيين الذى لم يكمل ربع قرن. ومن هنا كان سهلا على العرب عصيان أوامر الله جل وعلا بالعدل والسلام والاحسان فى مستوى التعامل البشرى . خصوصا إذا جرى تحريف المفاهيم والتلاعب بها لتوافق ثقافة العرب فى الغارات والغزوات والسلب والنهب والسبى .ومثلا ، فالاسلام له معنى ظاهرى سلوكى هو السلام ، والمسلم سلوكيا هم المسالم بغض النظر عن عقيدته . والاسلام فى عقيدته هو الاذعان والاستسلام والطاعة والانقياد لله جل وعلا وحده . تم تحريف معنى المسلم ليكون بالعقيدة فقط ،أى من العرب الذين أسلموا ولو حتى باللسان كالمنافقين، وبالتالى أصبح غير العرب من الأمم المجاورة غير مسلمين حتى لو كانوا مسالمين لم يعتدوا على العرب المسلمين . ومفهوم الكفر السلوكى وهو الاعتداء والظلم باستغلال الدين تحول لكى ينطبق على غير العرب الذين لا شأن لهم بالقرآن أو بالرسول عليه السلام. وتبع هذا التحريف فى مفاهيم الاسلام والشرك والكفر تجاهل لتشريع القتال فى الاسلام فتناسى كبار الصحابة قوله جل وعلا (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(البقرة 190) وما بعدها فى تشريعات القتال الدفاعى فى الاسلام وتحريم الاعتداء على الغير، وتجاهلوا قوله جل وعلا (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ )(الممتحنة 8 : 9). تنوسى ذلك كله فى خلافة أبى بكر التى سيطرت عليها قريش والأمويون من خلف ستار ، وجىء بصيغة سامّة تجيز الاعتداء على الدول والأمم ، هى أن يحاصر جيش العرب المدينة ثم يخيّر أهلها بين واحد من ثلاث : إما الاسلام أو الجزية أو القتال . ليس هنا تخيير ولكن إرغام وإكراه فى الدين ، فماذا يعنى أن تحاصر قوما مسالمين معتديا عليهم ثم تخيرهم بين الحرب إو إكراههم على الاسلام أو دفع الجزية ؟

8 ـ على أن هذه الصيغة السّامة أفلحت مع العرب وقتها ، ليس فقط فى أنها تتصالح مع ثقافتهم فى السلب والنهب والسبى والاعتداء والغزو ، وليس فقط فى أنها تعطى مسوغا شرعيا لاستمرار ثقافتهم تلك تحت شعار الاسلام ، ولكنّ الأفظع هى أنهم من خلالها تلونت قراءتهم للقرآن بما يتماشى مع هذه الثقافة ، بمعنى أنهم قرءوا تشريعات القرآن فى الحضّ على الجهاد والقتال وفى ثواب الجنة والنصر أو الشهادة ـ على أنه حثّ وتحريض على تلك الفتوحات ، وتناسوا تشريعات الاسلام القرآنية فى تحريم الاعتداء وقصر القتال على الدفاع فقط ، والكفّ عن القتال بمجرد أن يكفّ المعتدى عن عدوانه. وهكذا تمت صياغة عقل الجندى البدوى على أساس جديد ومفزع، فهذا البدوى الاعرابى كان يعايش الحرمان فى الصحراء ومضطر للقتال ليأكل ويعيش ، أصبح المجال مفتوحا أمامه كى يقاتل ( الكفار ) فى الخارج يقتل ويسلب وينهب ويسبى ويغتصب ـ اى نفس ما كان يفعله فى ( الجاهلية ) ولكن تحت شعار الجهاد الاسلامى وهو يضمن إحدى الحسنيين ،إمّا النصر وإما الشهادة. وهو فى كل الأحوال سيخرج من كونه راعى إبل وشاة فى جفاء الصحراء ليصبح سيّدا عالى الشأن فى مصر والشام والعراق وفارس ، يتمتع بالثروة والنساء والجاه.

ثانيا : قريش تتزعم العالم عدة قرون

1ـ هذه الصيغة القرشية السّامة مكّنت العرب فى خلال جيلين وحوالى ثمانين عاما  من احتلال بلاد وأمم من تخوم الهند والصين شرقا الى جنوب فرنسا غربا،مع جزر البحرالمتوسط وجنوب إيطاليا . ومن جنوب  القسطنطينية شمالا شمالا الى الصحراء الأفريقية الكبرى جنوبا. هذه الصيغة السامة هى التى غيّرت تاريخ العالم ، وأظهرت قريش والعرب قادة فى القرون الوسطى،وهى التى جعلت قريش تحكم معظم العالم فى الخلافة ( الراشدة ) والأموية والعباسية والفاطمية. ولا تزال عائلات من قريش تحكم الاردن والمغرب . هذه الصيغة السامة التى أضاعت الاسلام هى نفسها التى رفعت قريش كأشهر قبيلة فى العالم. قبل  هذه الفتوحات العربية القرشية كان العالم ينقسم الى قوتين متصارعتين ، الامبراطورية الفارسية الكسروية والامبراطورية الرومانية البيزنطية. دمرت الفتوحات امبراطورية الفرس بل وتجاوزتها شرقا الى آسيا الوسطى وحدود الصين ، وهزمت الروم وحاصرت عاصمتهم القسطنطينية واحتلت مستعمراتهم فى الشام ومصر وشمال أفريقيا.

2 ـ أدّت هذه الفتوحات الى تغييرات عالمية سياسية ودينية . فقد انقسم العالم الى معسكرين متصارعين : معسكر قريش الذى يحمل اسم الاسلام ، ومعسكر أوربا الذى يحمل الصليب المسيحى ، واستمر الصراع بين المعسكرين ..ولا زلنا نعيش بعض آثاره. ومع هذا الصراع الخارجى دار صراع داخل معسكر قريش ، إذ نمت وتطورت  الانقسامات والنزاعات والحروب ليس فقط بين قريش والأعراب فى الفتنة الكبرى بل بين قريش الأمويين وأبناء الأمم المحتلة الذين تحولوا الى رعايا لقريش من الدرجة الثانية مثل (موالى الفرس)وأقباط مصر وبربر  شمال أفريقيا . وكانت قريش الأموية تحارب بقوة بفتوحاتها شرقا وغربا ، وتحارب باستماتة فى الداخل الأعراب الخوارج وتواجه ثورات الشيعة وآل البيت والموالى والأقباط وقلاقل البربر فى شمال أفريقيا والاندلس .

3 ـ وكالعادة تم توظيف الدين فى هذه الصراعات . خارجيا ، أصبح الصراع الحربى بين قريش والروم صراعا بين الاسلام والمسيحية ، كما تحولت الصراعات السياسية الحربية الى تأليف أيدلوجيات دينية لها،فتأسّس دين السّنة الأرضى معبرا عن الهيمنة العربية القرشية فى العصرين الأموى والعباسى، وقام مناهضا له الدين الشيعى يحمل كراهية الفرس المقدسة  لأبى بكر وعمر وعثمان والأمويين لأنهم دمّروا الامبراطورية الفارسية، ويجعلهم ممثلين لآلهة الشّر والظلام فى العقائد الفارسية ، ويوجب التبرى منهم وموالاة آلهة النور والخير :(على ) وآل البيت. وأسفرت ثورات الأقباط المصريين فى النهاية عن عودة الدين الأرضى المصرى العتيد تحت إسم التصوف، وكان الرائد الأكبر للتصوف هو ذو النون المصرى. حتى الخوارج البدو مع انتهائهم سياسيا وحربيا مع خصومهم الأمويين فقد نمت لهم ايدلوجيات دينية وفرقا تعبر عن دين أرضى ينتمى للخوارج.

 4 ـ وبالفتوحات العربية تحكمت قريش تماما فى التجارة الشرقية،فهى التى تسيطر على قلب آسيا والبحر المتوسط والبحر الأحمر وبحر(العرب ) والمحيط الهندى، أى تسيطر على كل الطرق البحرية والبرية معا ، وتقف حاجزا بين أوربا والصين والهند. وليس أمام معسكر الصليب إلاّ أن يستجدى التجارة الشرقية من عدوه العربى القرشى ويدفع أعتى الضرائب.

ثالثا : تدهور معسكر قريش امام معسكر أوربا

1 ـ وما لبث أن تراجعت قوة العرب العسكرية فى المعسكر القرشى ،واكتفت قريش فى الخلافة العباسية بالسيطرة الاسمية المظهرية بينما يتحكم فى الدولة العباسية عناصر مسلحة آتية من الشرق الآسيوى كالأتراك والبويهيين والسلاجقة والفراغنة. وبدأ إنحسار النفوذ القرشى من بغداد العباسية الى القاهرة الفاطمية والأندلس الأموية ، وارتبط هذا الانحسار بقيام حركات استرداد أوربية حملت راية الصليب الدينية فى الحرب الصليبية التى تمكنت من إقامة دول لها فى الشام وآسيا الصغرى.

2 ـ وبعد تدميرغرناطة آخر معاقل الأندلس وتوحيد الأندلس تحت حكم فريدناند وايزابيلا قامت حركة الكشوف الجغرافية تحمل راية الصليب ، وتهدف الى الوصول الى الهند والتسلل الى التحكم فى التجارة الشرقية بعيدا عن سيطرة المسلمين ، والاتصال بمملكة الحبشة المسيحية والتحالف معها لغزو قريش فى عقر دارها فى مكة والمدينة . أى هو نفس الاستخدام القرشى للدين استعملته إسبانيا ضد قريش.

3 ـ وأسفرت الكشوف الجغرافية عن إكتشاف العالم الجديد  واستعماره مع جزر ودول فى آسيا وأفريقيا .وبالسيطرة على التجارة الشرقية نمت فى أوربا طبقة البرجوازية وفكرها العلمانى لتحلّ محل سيطرة الكنسية والملكيات الاقطاعية والفرسان والنبلاء، وقيام شركات تجارية تمثل بريطانيا تضاهى رحلة الشتاء والصيف القرشية، مع الدخول فى عصر العلم والمكتشفات العلمية وتطبيقاته التكنولوجية ، ومنها السفن البخارية التى تحولت  بها البرجوازية الأوربية المحلية الى رأسمالية عالمية تنشىء مستعمرات لها لتكون ركيزة لاحتلال قادم .

4 ـ وشهدت هذه المرحلة ضعف الدولة العثمانية التى حلّت محل قريش وحملت شعار الخلافة بعدها . ثم أصبح العثمانيون ( رجل أوربا المريض) الذى كان لا يزال يستخدم ثقافة العصور الوسطى فى النظم الحربية الاقطاعية وخلط الدين بالسياسة. وبسبب التنافس على أملاك العثمانيين وبقية المستعمرات وعوامل أخرى انقسمت أوربا الى تكتلات مسلحة أدت الى قيام الحربين العالميتين ووقوع معظم بلاد المسلمين تحت الاستعمار الأوربى.

رابعا : السلفيون الوهابيون على سنّة قريش

1 ـ ضعف المسلمين أمام التسلط الأوربى دفع بهم للبحث عن حلول . جاء الحلّ المصرى على يد محمد على باشا بالانفتاح على الغرب العلمانى والتعلم منه . وقبله جاء الحل الوهابى بالرجوع للسلف القرشى واستعادة ثقافة العصور الوسطى من تقسيم العالم الى معسكرين ، وتزعم الوهابية السلفية معسكر المسلمين لتقاتل معسكر الكفر الأوربى .

2 ـ أى قامت الدولة السعودية لتجدد السّنة القرشية مع فارق يتجلى فى ملمحين :الأول أن القائمين على الوهابية السنيّة ليسوا من قريش ،بل هم أعراب نجد الأعداء التقليديون للقرشيين وهيمنتهم . أى حلّت الأسرة السعودية محل قريش، بل أن منشىء الدولة السعودية الثالثة الراهنة هو الذى أطاح بالشريف حسين ( القرشى )واستولى على الحجاز . الثانى ، أن قريش فى خلطها السياسة بالدين وتكوينها دولا دينية كانت متسقة مع ثقافة عصرها ، فى القرون الوسطى ، وهذا عكس السعوديين والوهابيين الذين استخدموا سنّة قريش القرن أوسطية  فى عصرنا الحديث وهو عصر العلمانية وفصل الدين عن الدولة وحقوق الانسان وكرامته والديمقراطية والعدل الاجتماعى.

3 ـ وبتأثير الوهابية قامت نظم حكم عسكرية مستبدة فى مصر وغيرها أجهضت التحول الديمقراطى للعرب عقودا من الزمن . وحين ظهر الربيع العربى يحقق أملنا فى الديمقراطية وحقوق الانسان تباعد الحلم بسبب السلفية الوهابية وفلول الاستبداد .

أخيرا :

1 ـ  ضاع الاسلام الحق فى كل هذا الصراع . القرآن مهجور وقد حلّت محله أديان المسلمين الأرضية التى لا تزال اليوم تتقاتل فى العراق واليمن والسودان ، وربما ستتقاتل غدا فى سوريا والأردن ومصر وغيرها. وهى تفعل كل تلك المخازى باسم الاسلام .!!

2 ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم .!! 

المقال الخامس: الجاهلية الوهابية

 هو خصم لله رب العالمين من يخلط السياسة بالدين

مقدمة :

1 ـ من الأخطاء الذائعة قولنا عن العرب قبل الاسلام ( الجاهلية ) و ( العصر الجاهلى ) فى التفرقة بينهم قبل وبعد الاسلام ، ونفهم (الجاهلية ) مقترنة عكسيا بالعلم ، وبالتالى نرمى العرب قبل الاسلام بالجهل العلمى والجاهلية العلمية والحضارية.

2 ـ بالرجوع الى القرآن الكريم نرى مصطلح ( الجاهلية ) تكرر أربع مرات ليدلّ على ثقافة الأديان الأرضية وملامحها فى العقيدة (آل عمران 154 ) وفى التشريع ( المائدة 50 ) وفى الزى والزينة للمرأة ( الأحزاب 33 ) وفى حمية الاعتداء (الفتح26.).أى إن (الجاهلية)هى وصف لأى مجتمع تتحكم فيه ثقافة الأديان الأرضية التى تناقض الاسلام وثقافته المؤمنة.

3 ـ يؤكد هذا إن ما نزل عن قريش فيما نسميه بالشرك والكفر العلمى العقيدى كان ينطبق على عصور الخلفاء الأمويين والعباسيين ولا يزال ينطبق على عصرنا الذى سيطرت عليه ثقافة السلف الوهابية السّنية ـ هذا برغم اختلاف الظروف عن عصر قريش قبل وأبّان نزول القرآن . ولنقرأ مثلا قوله جل وعلا :(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(الانعام 144)،هذه الآية الكريمة ـ  التى  تكرر معناها فى آيات أخرى كثيرة ـ تتحدث عن جهود قريش وغيرهم فى إختراع أحاديث تنسبها كذبا للوحى الالهى ، وفى نفس الوقت تكذّب بالقرآن ، كل هذا لتضل الناس عن الحق . قريش فى العصر الجاهلى وفى ثقافتها ( الجاهلية ) كانت تفعل ذلك برعاية وزعامة الأمويين فى مكة . ثم عادت قريش من خلال الأمويين فى دولتهم الى استعمال نفس الاسلوب فيما كان يسمى بالقصص أو القصّاص ، أو الرواية الشفهية لأكاذيب منسوبة للوحى الالهى على أنها أحاديث نبوية وسيرة نبوية وقصص أنبياء ، ثم أتيح لهذا الافتراء التدوين فى العصر الذى حكم فيه العباسيون القرشيون ، والفاطميون القرشيون . بل تم التوسع فيه وجعله علما ( علم الحديث ) و ( علم الجرح والتعديل ) ، وفى نفس الوقت تأسس تكذيب القرآن والتشكيك فيه فيما يسمى بعلوم القرآن ، ومنها النسخ وأسباب النزول .

4 ـ كانت تلك الجاهلية هى ثقافة العصور الوسطى فى بلاد المسلمين وفى اوربا معا ، ثم تحررت أوربا من سيطرة الكنيسة ودينها الأرضى الذى سيطر على الناس وأذاقهم الويل والنّكال ، وتأسست العلمانية الأوربية ، وحاولت مصر اللحاق بالعلمانية الغربية ولكن قيام الوهابية السلفية وتطورها وإنتشارها وسيطرتها أعاد مصرالى ثقافة السلف وجاهلية السلف، ويريد السلفيون إقامة دولة دينية فى مصر تتبع الأسرة السعودية فى تطبيق الجاهلية القرشية التى تتخفّى تحت مسمى السّنة النبوية والاسلام والجهاد الاسلامى .    

5ـ  وهذا يؤكد أن (الجاهلية ) هى ملامح ثقافية يمكن أن توجد فى أى زمان وأى مكان ، ولا يصح إرتباطها بعصر معين لا تتعداه .ويكفى أن هذه الجاهلية فى عصرنا قد أقامت دولا فى الجزيرة العربية ( السعودية ) وفى أفغانستان ، ولها تيارت سياسية تسعى للحكم فى مصر أو تمارسه خلف ستار كما فى السودان وباكستان ..ونأتى للتوضيح .

أوّلا : ملامح الجاهلية

 جاهلية الاعتقاد الشركى الكفرى:

1: وهو بالمصطلح القرآنى ( ظنّ الجاهلية المخالف للحق). والظّن هو الاعتقاد القابل للشك ، وقد جاء ( الظّن ) وصفا للمنافقين ـ وليس فى معرض الحديث عن العرب قبل الاسلام ـ يقول جل وعلاعن المنافقين (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ)( آل عمران 154). هنا ( ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ) بالله جل وعلا ،وهو طبقا للتوصيف القرآنى (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ) .

2 ـ لم يرد فى القرآن الكريم مصطلح الاعتقاد فى الله جل وعلا ، ولكن ورد مصطلح الايمان به. ولا يخلو أى إنسان من إيمان بالله، فمهما بلغ كفره فبقايا الفطرة فى داخله كامنة ، وهى تظهر عند الأزمات كالغرق مثلا فيدعو الكافر الملحد ربه مخلصا متضرعا .والكفر من (كفر) أى غطّى ، فالكافر يغطّى فطرته فى الايمان بالله جل وعلا وحده بالايمان بآلهة وأولياء يجعلهم شركاء لله جل وعلا فى الالوهيةوالتقديس. وبهذا يلتقى الكفر والشرك فى معناهما القلبى العقيدى . وبالتالى ففى الكفر إيمان ولكنه إيمان قليل لأنه إيمان بالله وشركاء له فى الالوهية،وهذا الايمان القليل لا يجدى فى نجاة صاحبه ، بل يستحق به الكافر لعنة الله جل وعلا: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ)(البقرة88)(قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ)(السجدة 29 ).

3 ـ الله جل وعلا يريد ان يكون الايمان به خالصا لاشائبة فيه بأى نسبة تقديس لغيره ،ولا وجود لشريك معه لأن الاخلاص يعنى الايمان بالله الواحد الأحد بنسبة مائة فى المائة، فلو كان هناك واحد فى المائة تقديس لنبى أو ولى فهو شرك وهو كفر،وهو ( ظنّ سىء بالله ) جلّ وعلا. وهذا الظّن السىء بالله جل وعلا هو ( ظنّ الجاهلية) الذى جاء وصفا للمنافقين، يقول جل وعلا عن المنافقين والمشركين : (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ً)( الفتح 6 ).

4 ـ : و( ظنّ الجاهلية ) هذا لا ينطبق على العرب فقط قبل وأبّان نزول القرآن الكريم، فالشائع قبلهم وبعدهم تقديس البشر والحجر لدى المصريين والفرس والروم والأوربيين والصينيين والهنود والأفريقيين وسائر البشر أجمعين. لا خلاف بين من يقدس الأنبياء ومن يقدس البقر والحجر. وهناك ورثة الكتاب السماوى الذين حوّلوه الى أديان أرضية تؤسس تقديس النبى والأحبار والرهبان والبابوات والأئمة والصحابة والسلاطين وحتى قطّاع الطرق ورءوس العصابات الذين أفلحوا فى إقامة دول .

 جاهلية التشريع:

1 ـ ينتج عن جاهلية الاعتقاد و(ظن الجاهلية ) جاهلية التشريع، إذ لا يكون الحكم لكتاب الله جل وعلا وشرعه ولكن للهوى،فالبشر حين يفرضون أهواءهم فى الاعتقاد بتقديس المخلوقات وتأليهها لا يلبثون أن يفرضوا أهواءهم فى التشريع بدلا من تشريع الكتاب الالهى. وقد طلب بعض أهل الكتاب من النبى أن يحكم بينهم فأمر الله رسوله أن يحكم بينهم بالقرآن الذى نزل مصدقا لكتبهم السماوية ومهينما عليها،ونهاه رب العزة عن إتّباع أهوائهم التشريعية، وحذّره من ألاعيبهم فقال :( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ )،وقال :( وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ)،الى أن يقول جل وعلا عن تشريعاتهم يصفها بالجاهلية: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)( المائدة ـ 50 ). الحديث هنا ليس عن عرب الجاهلية ولكن عن بعض أهل الكتاب.

2ـ ومن الأهواء التشريعية فى تشريع الجاهلية إستحلال الحرام وتحريم الحلال . سفك الدماء البريئة من أفظع المحرمات ولقد إعتادها العرب قبل الاسلام دون أن يفتروا لها تشريعا، ثم تكفّل الدين السّنى فيما بعد بافتراء تشريعات جاهلية يتم بها استحلال قتل الأبرياء مثل الرجم وقتل المرتد وقتل تارك الصلاة، وحق الأمام فى قتل ثلث الرعية لاصلاح الثلثين.كل هذا طاعة لهوى الخليفة المستبد. وموضوع الطعام أبرز مظاهر تدخل الهوى فى التشريع . فقد حدّد رب العزة المحرّمات فى الطعام وكررها،ومنها قوله جل وعلا( قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )( الانعام 145 ). والله جل وعلا جعل الاباحة والحلال هو الأصل فقال :(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ )، ثم جعل المحرم من الطعام هو الاستثناء المحدد فقال فى الآية التالية:(إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )، وفى الآية التالية منع رب العزة من تحريم الحلال فى الطعام: ( وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) ( النحل 114: 116) ، وتكرر هذا المنع من تحريم الحلال فى الطعام بنفس الاسلوب الاستنكارى فى قوله جل وعلا :(قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ)( يونس 59 ). ومع هذا التحديد الواضح الجازم البّات فإن الهوى تلاعب بمشرّعى الدين الّسنى فحرموا الحلال فى الطعام. وهى عادة سيئة لدى البشر فى موضوع الطعام بالذات . فالانسان يهوى طعاما ولا يهوى نوعا آخر من الطعام ، وكل إنسان يحب أن يأكل كذا ، ويكره أو يستقذر أن يأكل كذا ، هناك فى اوربا من يأكل أطراف الضفادع ، وهناك منى يستلذ أكل السحالى بل والكلاب والخيول ، وهناك من يستفظع هذا. الذى يجعل هواه مصدرا للتشريع يسارع بتحريم ما لايهواه من الطعام ،أما المؤمن فهو يكتفى بالاعراض عما لايحب دون أن يحرمه لأنه من الاعتداء على حق الله جل وعلا فى التشريع أن تحرّم ما أحلّ الله .

فى موضوع الحرام والحلال ينقسم الطعام الى قسمين: الأغلب والأعمّ وهو المباح الحلال ،او بالتعبير القرآنى المذكور عليه إسم الله. والحرام هو الاستثناء الذى لم يذكر عليه إسم الله ، يقول جل وعلا عن الطعام الحلال :(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ) ويقول عن المحرم فى الطعام  (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ) ويشير رب العزة الى دور الهوى فى تحريم الحلال معتدين على حق الله جل وعلا فى التشريع ، فيقول :(وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ)(الانعام 118 :119، 121).

الهوى هو الأساس فى عقيدة الجاهلية وتشريعاتها:(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً )( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى )( النجم 23 : 24 ، 28). والهوى هو الاله الذى يعبده الجاهليون فى كل زمان ومكان فيهبطون بهواهم الى مستوى الأنعام : (أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)  ) ( الفرقان 43 : 44 ).

حمية الجاهلية : الاعتداء على الغير

أخذت حمية الجاهلية قريشا فمنعت النبى والمسلمين من دخول مكة حين توجهوا مسالمين لأداء فريضة الحج :(هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ )، كان الكفار قد أخذتهم حمية الجاهلية، كما قال جل وعلا:(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) فى مقابل هذه الحمية الجاهلية المعتدية التزم النبى والمؤمنون بالتقوى والسكينة :(فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(الفتح 25: 26).

تلك الحمية الجاهلية لا تعنى العزة الصادقة، فهى لله جل وعلا ولرسوله وللمؤمنين: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)(المنافقون 8 ). حمية الجاهلية هى العزّة بالاثم المنافية للتقوى، وهى للمستكبرين المتعالين بالباطل:( وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ )(البقرة 206). هى حمية معتدية لا تحترم تشريع الله جل وعلا القائل:(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)( البقرة 190)، والكفر السلوكى هو الاعتداء على الغير مستخدما الدين فى تبرير الاعتداء. الحمية الجاهلية هى غرور القوة لأى دولة ولأى نظام حكم،فى فرض الهيبة وطغيان الهوى. تبرج الجاهلية : (الزى والزينة للنساء )

جاء هذا فى سياق تشريع خاص لآمهات المؤمنين :(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى)(الأحزاب 33 ). ويظهر منه نوعان من التبرج فى الزى والزينة ، تبرج عادى مباح وتبرج متطرف مبالغ فيه نزل فيه نهى أمهات المؤمنين عنه فى تشريع خاص لهنّ دون بقية المؤمنات. وبالتالى فالتبرج العادى كان مباحا لهنّ ولبقية المؤمنات . وليس هنا مجال التفصيل فى تشريعات الزى فسنتحدث عنه فى حلقات خاصة فى برنامج فضح السلفية . ولكن الذى نؤكده هنا أن التبرج المنهى عنه موجود فى كل مجتمع ، وحتى لو إحترف هذا المجتمع شريعة التزمت والنقاب فإن نساءه فى أى فرصة ينطلقن فى سباق زى محموم يتبرجن فيه تبرج الجاهلية الأولى وما هو أفظع منها.

أخيرا :

1ـ  ( فى أمريكا والدول المتقدمة ) لو كذب المسئول السياسى فى تصريح له فنهايته العزل وبئس المصير. فى دول الاستبداد العسكرى فى عالمنا العربى ، لو أفصح المسئول بالصدق فنهايته العزل وبئس المصير . فى الدول الدينية المذهبية ( ايران والسعودية ) يعتبر الكذب والافتراء شريعة واجبة التطبيق. أمّا الاخوان المسلمون فلا يكذب أحدهم أبدا إلا إذا تكلم.!

2ـ الوهابيون الحنبليون السّنيون بالذات هم أشد الناس تمسكا بدين الكذب ؛ ترى ملامحه فى سياستهم وفى شعاراتهم وفى شريعتهم . يؤسسون الكذب على الله جل وعلا أولا،ثم يقيمونه على الناس بعدها. يصدرون قرارا من أنفسهم بأنهم وحدهم المختارون والمخولون من الله جل وعلا لحكم الناس باسم الاسلام ، وهذا كذب ، ثم يجاهدون فى تطبيق هذا الكذب على الناس فى خطوات تبدأ بفترة التربية وغسيل المخ عبر المساجد والاعلام والتعليم ، وبعد إقناع الأغلبية الصامتة بأكاذيبهم يدخلون مرحلة التمكين وركوب الشعب باسم الدين.

3 ـ فى مصر وصلوا الى السيطرة على مجلس الشعب عبر حزبين أسموهما كذبا ( العدالة والحرية )و (النور). أعلنوا الآن أنهم سيتولون وزارتى الداخلية والتعليم . بالشرطة يتحكمون فى الناس ويظلمونهم باسم الاسلام ، يجلدون الناس ويسلبون حريتهم الشخصية وكرامتهم بشعار الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وبوزارة التعليم يتحكمون فى عقلية التلاميذ والطلبة لتتكون منهم فى المستقبل القريب دولة طالبان المصرية. قبلها اتفقوا مع المجلس العسكرى على أن تكون لهم نسبة كبرى فى القبول فى الكليات الحربية والشرطة ضمانا للتحكم فى القوة . وما خفى من بنود الاتفاق بين الاخوان والعسكرى هو أعظم وأفظع .

4 ـ جحوا فى جعل الناس يصدقون أن شريعتهم إسلامية وأنها شرع الله الواجب التطبيق ، واستخدموا قوله جل وعلا فى سورة المائدة : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ (44)(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (45)(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (47)،يتهمون المستبد العادى بالكفر والظلم والفسق لأنه لايحكم بما أنزل الله، ونجحوا فى إبتزازه بهذه الآيات الكريمة. مع أن هذه الآيات الكريمة  تنطبق أولا عليهم هم قبل الجميع . فالمستبد العادى لا يزعم انه يحكم بما أنزل الله ، لأنه يحكم بقانون مدنى متأثر بالتشريع الغربى ـ وهو فى إعتقادنا أقرب الى ما أنزل الله طالما راعى العدل وحرية الدين وحقوق الانسان.

5 ـ الوهابيون والأخوان والسلفيون هم الذين يحكمون بغير ما أنزل الله جل وعلا ، هم الذين يحكمون بحكم الجاهلية وبشريعة بشرية ظالمة ولكن ينسبونها زورا وكذبا لله جل وعلا. هم الذين ينطبق عليهم قوله جل وعلا :( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50).شريعتهم البشرية صاغها أئمة الزور والبهتان من مالك والشافعى وابن حنبل والبخارى ومسلم فى العصر العباسى الى ابن تيمية وابن القيم فى العصر المملوكى الى ابن عبد الوهاب فى العصر العثمانى ، ثم أخيرا (سيد سابق ).

6 ـ سيد سابق هو فقيه الاخوان المسلمين ومؤلف كتاب ( فقه السّنة) الذى كتب حسن البنا مقدمة له.وزع الاخوان والسلفيون مئات الالوف منه على الطلبة منذ السبعينيات . وحاول سيد سابق فى هذا الكتاب تجميل الشريعة السنية وجعلها بقدرالامكان فى تصالح مع ثقافة عصرنا،فتجنب الكثير مما لا يستسيغه عصرنا،مثل قتل تارك الصلاة وحق الامام فى قتل من يشاء من الرعية وتحريم زواج المسلم من غير المسلمة ، وأتى بفقه معتدل بالمفهوم السّنى وبصورة مبسطة تخلو من الحشو متبعا منهج الشيخ شلتوت فى كتابه ( الفتاوى) ، ولكن شتان بين العالم المجتهد شيخ الأزهر شلتوت وسيد سابق السّنى ، لذا فقد احتوى كتاب ( فقه السّنة ) للشيخ سيد سابق أسس الشريعة السّنية من قتل المرتد ورجم الزانى والزانية وقتل المخالف لهم فى الرأى وجلد شارب الخمر وتطبيق الجزية على المصريين الأقباط وتحريم التصوير والتماثيل والذهب والفضة..الخ .

7 ـ إذن نحن لسنا أمام شريعة الله جل وعلا بل أمام شريعة سيدسابق وابن عبد الوهاب وابن تيمية وابن القيم الجوزية ومسلم والبخارى وابن حنبل والشافعى ومالك . نحن أمام شريعة تتعامل مع كتاب الله وشرع الله الحق بالالغاء والإبطال بزعم ( النسخ ) ، وتفترى على الله جل وعلا كذبا حين تضع على لسان النبى أحداديث مفتراة تناقض شرعه ودينه ، وتجعلها وحيا الاهيا . ثم بالكذب والافتراء يقنعون الناس بأن هذا هو شرع الله ودينه ، وأنهم المختارون لركوب ظهورنا لتطبيق هذه الشريعة الشيطانية .. ليس هناك كذب وافتراء أفظع من ذلك .

8ـ  ليس هذا بغريب . ولكن الغريب فعلا أن تنجح الجاهلية الوهابية السلفية فى الوصول الى مجلس الشعب المصرى ..هى محنة كبرى سيدفع المصريون ثمنها هائلا إن لم يهبوا لتحرير أنفسهم ووطنهم من إستبداد دينى قادم يهون معه إستبداد مبارك.

المقال السادس : شجرة الاخوان المسلمين زرعها السعوديون فى مصر

هو خصم لله رب العالمين من يخلط السياسة بالدين

مقدمة  

السائد فى تحليل الحركة الإسلامية هو النموذج الغربى فى التحليل على أنها من أشكال الحركات الاجتماعية السياسية. وقد يجدى هذا النمط التحليلى فى بحث الظواهر الاجتماعية والسياسية الآنية التى تفتقر إلى جذور تاريخية وأصولية، وقد يجدى أكثر فى بحث الظواهر الاجتماعية والسياسية فى الغرب حتى ما كان منها متصلاً بالشئون الدينية لأن الشأن الدينى هناك جرى عزله فى الكنائس بعيداً عن التأثير الفعال فى المجتمع، علاوة على أن المسيحية ليست كالإسلام فى تشابكه السياسى والاجتماعى مع الحياة اليومية للمسلمين. ولذلك فإن المنهج الغربى فى التحليل يكون أصدق فى التعبير عن ظروف المجتمع الغربى بقدر كونه أبعد عن ظروفنا كمجتمعات تراثية، خصوصاً حين نبحث ظاهرة دينية لها جذورها التاريخية ولها طبيعتها الفكرية التى جرى استدعاؤها من أعماق الماضى لتصبح حية مؤثرة فى الواقع الراهن، وبالتالى فإن من الضرورى إجراء التحليل الجذرى دينياً وفكرياً وتاريخياً قبل بحث تجلياتها الراهنة وتشابكها مع الواقع السياسى والاجتماعى.
ومن الصعب هنا الإحاطة التاريخية والأصولية بجذور الحركة الإسلامية المعاصرة بشقيها الإصلاحى الإسلامى والثورى السلفى، كما أن من الصعب أيضاً مناقشة أفكارها فى ضوء القرآن وما كان عليه رسول الإسلام عليه السلام. ولذلك نكتفى بإعطاء فكرة سريعة تتمحور حول الجذور التاريخية والملامح الفكرية.*

الجزء الأول:
الجذور التاريخية للحركة الإسلامية المعاصرة بين "مصر" و"نجد":
أولاً: التدين المصرى الإسلامى بين الماضى والحاضر:
في البداية لا بد أن نفرق بين الدين والتدين . الدين لدينا هو الاسلام فى كتابه السماوى المنزه عن التحريف والمحفوظ بقدرة الله تعالى الى يوم القيامة. التدين هو موقف الناس من دين الله تعالى وتعاملهم معه ومدى تطبيقهم له والتزامهم به . الخلط بين الدين والتدين يوقع في أخطاء منهجية وخطايا دينية اذ تحمل الدين السماوى ـ وهو في الأصل وصايا ومبادىء عالية سامية ـ خطايا البشروأخطاءهم. بيد أن المسئول عن هذا الخلط بين الدين والتدين والمسئول أيضا عن الاساءة للاسلام وتحميله أوزار المسلمين هم أولئك الأئمة المسلمون فى القرون الوسطى الذين نسبوا آراءهم ورؤاهم البشرية الى الله تعالى ـ مدعين أنها أحاديث قدسية ـ أو نسبوها الى النبى محمد عليه السلام ـ زاعمين أنها أحاديث نبوية , وزعموا أن ذلك التدين البشرى ـ المكتوب بعد موت النبى محمد بعدة قرون ـ جزء من الدين الآلهى متهمين بذلك النبى محمدا بأنه ترك جزءا من الدين لم يبلغه ولم يدونه, بل نهى عن كتابته كما يروى أئمة ذلك التدين أنفسهم. الواقع العلمى المنهجى يؤكد أن ما يعرف بالسنة وبقية التراث الذى يعتبره الشيعة والصوفية مقدسا ليس الا كلاما بشريا منسوبا كذبا للوحى الآلهى ، وليس لله تعالى أى علاقة به الا علاقة المخالفة والتناقض. وقد كان اولى تنزيه الله تعالى ورسوله الكريم عن هذا التراث البشرى الذى يعبر عن أصحابه وعقلياتهم ومستواهم الفكرى والحضارى ولا يخلو من جهل وخبل وخرافات يضحك منها الحزين.هذا التدين السنى هو الأصل الذى نبتت فيه شجرة الحركة السلفية التى تحمل اسم الاسلام زورا وبهتانا فى عصرنا الراهن , وبسببها أصبح الاسلام متهما بالارهاب والتطرف .
ان ما اصطلح على تسميته إعلامياً بالتطرف الدينى وتجلياته من التعصب والإرهاب كان هو النوعية السائدة فى تدين العصور الوسطى لدى العالم الإسلامى والعالم الغربى المسيحى ماعدا مصر.
منطق التدين فى العصور الوسطى كان الحروب الدينية بين العالم الإسلامى والعالم المسيحى الغربى على المستوى الخارجى، والاضطهاد الدينى والمذهبى ومحاكم التفتيش على المستوى الداخلى، وتبادل الاتهام بالكفر على المستويين الداخلى والخارجى، بالإضافة للثورات والمظالم والاستبداد، ولكنها ترتدى زى الدين وتلتمس منه –بالتأويل والتزييف- شتى الأدلة والبراهين على مشروعية ما تذهب إليه من ثورة أو حرب أو قمع أو اضطهاد دينى أو مذهبى.
"مصر" وحدها التى كانت استثناء فى ذلك التدين فى العصور الوسطى، إذ قامت نوعية التدين المصرى على أساسين هما: الصبر والتسامح، الصبر على جور الحاكم والتسامح مع الآخر، صحيح أنه كانت هناك بعض حركات تعصب ضد أهل الكتاب، ولكنها كانت جملة اعتراضية فى التاريخ المصرى الإسلامى، علاوة على أنها كانت فى الأغلب- بفعل عامل خارجى-، مثل حاكم متعصب أو فقيه متعصب زائر، وسرعان ما تمر الأزمة ويعود الوئام، ويعود المصرى لما تعود عليه خلال تاريخه الطويل، إلى الصبر والتسامح والتندر على الظالمين وصراعاتهم وتقلب الزمن بهم صعوداً وهبوطاً.
وهذا التسامح المصرى فى العصور الوسطى كان مبعث الدهشة للرحالة والفقهاء الزائرين، خصوصاً من أتى منهم من مناطق تموج بالتعصب، وكل منهم كان يعبر عن دهشته من انصراف العابد إلى عبادته، والماجن إلى مجونه، وكيف تمتلئ المساجد بروادها والحانات بمرتاديها، ولا ينكر هذا على ذلك، وكل منهم مشغول بما هو فيه، نقرأ هذا الكلام فيما كتبه المقريزى فى الخطط عن شيخه العلامة ابن خلدون، وفيما كتبه الفقيه المغربى ابن الحاج فى "المدخل" عن شيخه العراقى، وفيما كتبه الرحالة المغربى ابن ظهيرة فى كتابه "الفضائل الباهرة فى محاسن مصر والقاهرة".(1)

ولذلك فإن المصريين فى العصر المملوكى لم يستجيبوا لدعوة ابن تيمية الذى لاقى رواجاً فى الشام حيث تسود الطائفية والتعصب، بل إن المذهب الحنبلى المتشدد الذى كان عالى الصوت فى الشام والعراق اختلف وضعه فى مصر، حيث تأثر بالتسامح المصرى فترك تشدده . ومن العجيب أنه فى الوقت الذى احتدم فيه الصراع المذهبى الفقهى فى الحجاز والشام والعراق فإنه كان من السهل فى مصر أن ينتقل فقيه من مذهب إلى آخر حسب أطماعه الوظيفية(2) وتلك الحالة عجيبة لم نر مثيلاً لها خارج مصر فى العصور الوسطى.
ولذلك فإن التصوف كان الأقرب إلى طبيعة التدين المصرى، لذا انتشر فيها وساد منذ القرن الخامس الهجرى . فقد احتوى التصوف كل العقائد المصرية القديمة وصاغها فى أشكال تحمل رموزاً إسلامية. واشترك المصريون جميعاً من أقباط ومسلمين فى تأدية نفس الطقوس وفى نفس المناسبات، كالموالد والقبور المقدسة والاعتقاد فى الأولياء والقديسين، وقد فصلنا الحديث فى ذلك فى كتابنا "شخصية مصر بعد الفتح الإسلامى"(3) وفى هذا الإطار كان التسامح مع الآخر، و"التسليم بحالته وطريقته" هو دستور التعامل فى مصر ، بينما كان "تغيير المنكر"بالقوة هو الدستور الآخر خارج مصر، حيث كان تغيير المنكر يتحول إلى ثورات عارمة فيما بين إيران والشام.
والخلاصة: أن مصر كانت متفردة فى العصور الوسطى بتدينها السمح وصبرها على جور الحكام، والغريب أن يدخل العالم إلى العصر الحديث ويخفت التعصب الدينى وتنتهى الحروب الدينية وتنحسر مفاهيم العصور الوسطى ولكنها تعود إلى مصر فى القرن العشرين الميلادى وهى تحمل معها نفس الملامح التى كانت رائجة خارج مصر فى القرون الوسطى، ومن الطبيعى أن نسأل عن السبب، والسبب هناك، فى منطقة "نجد" والدولة السعودية.
ثانياً: التدين فى نجد بين الماضى والحاضر:
منطقة "نجد" فى الجزيرة العربية هى نقيض مصر الثرية بمواردها، المنفتحة على العالم بموقعها، المعتدلة بمناخها، المتسامحة بشعبها . منطقة "نجد" متطرفة فى مناخها شحيحة فى مواردها منعزلة فى صحرائها لا يرى أهلها إلا أنفسهم، ولا يرون فى الأغراب إلا مجرد ضحايا للسلب والنهب حين يمرون على صحراء نجد من العراق إلى الحجاز. فى صحراء نجد القاحلة والواسعة عاش الأعراب على قطع الطريق، وكانت تأتيهم الفرصة الكبرى حين تنشأ فيهم أو تنتشر بينهم دعوة دينية تبرر وتبيح لهم القتل والسلب للآخرين على أنه جهاد. ولذلك كان استحلال الأعراب النجديين لدماء المسلمين المسالمين وأموالهم وأعراضهم فى التاريخ الاسلامى مرتبطا بثوراة نجد الدينية، تلك الثورات التى تخصصت فى التدمير وسفك الدماء. وما عدا الثورات ومشروعات الدول الدموية فإن تاريخ نجد العادى مجرد غارات داخلية فيما بينهم أو غارات سنوية عادية على قوافل الحجاج , أى مجرد غارات "علمانية" بدون شعارات دينية. ولكن تلك الغارات المعتادة استلزمت أن تسير قوافل الحجاج فى حماية جيش كامل، ويمكن التأكد من ذلك خلال الحوليات التاريخية العراقية للعصور الوسطى خصوصاً تاريخ المنتظم لابن الجوزى ت 597 هـ(4). ولقد تأثر ابن خلدون بتاريخهم الدموى فقرر فى مقدمته الشهيرة أن الأعراب هم أسرع الناس للخراب، وأنهم يحتاجون إلى دعوة دينية يستطيعون من خلالها استحلال الدماء والأموال والأعراض وإسباغ الشرعية على ثوراتهم واعتدائهم.(5)
وكما كانت لمصر خصوصيتها فى العصور الوسطى بتسامحها وصبرها وتأثيرها الإيجابى فى التاريخ الإسلامى، كذلك كانت لمنطقة نجد خصوصيتها فى العصور الوسطى بتطرفها ودمويتها وثوريتها وتأثيرها السلبى فى التاريخ الإسلامى.
وهنا نعطى محطات سريعة نقرأ فيها التاريخ الإسلامى بايجاز "قراءة جغرافية" أو "قراءة نجدية ":
1- فى "نجد" بدأ التطرف مبكراً حين كانت المركز الأساسى لحركة الردة، ففى سهل حنيفة ظهر مسيلمة الكذاب وتحالفت معه سجاح التميمية، ولنتذكر أنه فى نفس سهل حنيفة ولد وعاش محمد بن عبد الوهاب صاحب الدعوة الوهابية فيما بعد. ولقد وصف القرآن الكريم معظم الأعراب بأنهم أشد كفراً ونفاقاً (التوبة: 97) وقد خضع الأعراب لقوة المسلمين وسالموها، مع أن الإسلام لم يدخل قلوبهم بعد (الحجرات: 14) فلما توفى النبى عليه السلام وتولى أبو بكر تمردوا على الدولة فى حركة حربية هادرة مركزها "نجد" وهاجموا المدينة، فليس صحيحاً أن أبا بكر حارب المرتدين، وإنما الصحيح أن المرتدين هم الذين حاربوا أبا بكر والمسلمين. وبعد إخماد حركة الردة بصعوبة بالغة رأى أبو بكر أن يتخلص من بأس الأعراب النجديين بتصدير قوتهم الحربية إلى الخارج شمال نجد , فكانت حركة الفتوحات العربية إلى شمال نجد فى العراق أولاً، ثم الشام وإيران . وتكونت جيوش الفتوحات من أغلبية من الأعراب (المرتدين سابقاً) وقيادة من الأمويين القرشيين (المعاندين سابقاً) ذلك أن الأمويين رأوا أن مصلحتهم السياسية والاجتماعية تحتم عليهم الدخول فى الدين الجديد، وسارعوا بتقدم الصفوف الأولى فى الفتوحات بما لديهم من خبرة حربية ومعرفة بطرق التجارة وصلات وثيقة بالقبائل العربية فى الشام وعلى الطرق التجارية. وانتهت الفتوحات وقد أصبح الأمويون يحكمون الشام والعراق ومصر وشمال أفريقيا باسم الإسلام، وفى خلافة عثمان سيطروا عليه، ومن خلاله انتقموا من أعدائهم السابقين فى الإسلام، مثل عمار وابن مسعود، وكان من السهل أن يمر ذلك كله عادياً لولا أن الأمويين فى خلافة عثمان اصطدموا بأعراب نجد فكانت الفتنة الكبرى، تلك الفتنة التى لازلنا نسيرفى نفقها المظلم حتى الآن.
2- كانت قضية "السواد" هى بداية الفتنة الكبرى . والسواد هى الأرض الزراعية الواقعة بين نجد والعراق، وكان أعراب نجد يتطلعون إلى امتلاك "السواد" لأنها الأقرب إلى موطنهم وحيث كانوا يغيرون عليه قبل الإسلام ويحلمون بامتلاكه، ولكن الأمويين لم يسمحوا لهم بذلك واعتبروا "السواد" "بستان قريش"، فاشتعلت الثورة، وقتل ثوار نجد عثمان بعد أن حاصروه، ونصبوا "علياً" خليفة، واشتعلت الحروب الأهلية، وفيها كان أعراب نجد هم عماد جيش على، ثم ما لبثوا أن خرجوا عليه وقتلوه وأصبح اسمهم الخوارج، وتفرقوا يرفعون لواء الحاكمية "لا حكم إلا لله" ويقتلون المسلمين المسالمين فى العراق وإيران، وأرهقوا الدولة الأموية بثوراتهم مما ساعد فى سقوط الأمويين سريعاً أمام العباسيين، وخفت صوت الخوارج بعدهم.ولكن بعد أن أرسوا عمليا مبدأ الحاكمية. صحيح ان ثقافتهم البسيطة لم تسمح لهم بتقعيده وتنظيره ولكنهم طبقوه عمليا ودمويا على المسلمين غير المحاربين فى الأسواق والتجمعات السكنية بعد اصدار قرار نجدى باستحلال دماء كل المخالفين لهم فى المذهب والعقيدة. والاستحلال هو المبدأ النجدى الأصيل فى التعامل مع الاخر ، فهم يستحلون دمه وماله وعرضه حين يغيرون عليه فى غاراتهم العادية – العلمانية – بدون الحاجة لفتوى أو مسوغ دينى، أما حين تقوم فيهم دعوة دينية فانه يجرى تبريرنفس الاستحلال وانواعه بفتاوى وأحاديث منها " جعل رزقى تحت ظل رمحى"
3- وعاد عرب نجد للثورة مرة أخرى فى العصر العباسى بعد أن ملوا من الإغارة الروتينية على الحجاج، ووجدوا الغطاء الدينى فى دعوة المغامر على بن محمد فاتبعوه، مع أغلبية من الرقيق الزنوج فيما عرف بثورة الزنج التى خربت جنوب العراق طوال خمس عشر سنة (255-270) هـ الى أن تم اخمادها بصعوبة بالغة. ثم ما لبث أعراب نجد أن اشتعلت ثورتهم هادرة تحت اسم القرامطة، وامتدت غاراتهم إلى العراق والشام والحدود المصرية، ولم تنج الكعبة من تدميرهم، وقد سبقوا المغول فى سياسة الأرض المحروقة، أو إبادة كل الأحياء فى المدن التى يستولون عليها، وقد شهد المؤرخ الطبرى جانباً من فظائعهم وسجلها فى الجزء العاشر والأخير من تاريخه فيما بين (286-302) هـ واستمرت فظائعهم بعد الطبرى بقرنين تقريباً حتى تغلب عليهم أعراب المنتفق.
4- وبعد القرامطة عاد أعراب نجد إلى ما اعتادوه من قطع الطريق على الحجاج والاقتتال فيما بينهم، إلى أن ظهر فيهم محمد بن عبد الوهاب بدعوته الدينية وتحالف مع ابن سعود، وكان أهم بند فى التحالف بينهما (الدم الدم، الهدم الهدم)، وأعطاه ابن عبد الوهاب تشريع الاستحلال بعد أن اتهم كل المسلمين الآخرين بالكفروجعل ذلك الاتهام مبررا دينياً للغزو والتوسع، وبذلك قامت الدولة السعودية الأولى، ونشرت السلب والنهب وسفك الدماء فى الجزيرة العربية وحول الخليج وفى العراق والشام، إلى أن اضطرت الدولة العثمانية للاستعانة بواليها على مصر" محمد على باشا" فقضى على الدولة السعودية ودمر عاصمتها "الدرعية" سنة 1818 م.
أى عدنا من "نجد" إلى "مصر" لنعثر على الجذور الحديثة للتطرف الدينى أو الحركة السلفية السياسية.

ثالثاً: الصراع بين التدين المصرى والتدين النجدى:
الظروف العالمية فى الصراع الإسلامى الغربى هى التى أدت إلى تلك المواجهة بين مدرستين مختلفتين فى التدين، مدرسة مصر، ومدرسة نجد.
بدأ هذا الصراع العالمى بالفتوحات العربية التى حملت راية الجهاد الإسلامية زورا وبهتانا ، ثم أعقبه الغرب بحركة استرداد امتدت من الأندلس إلى آسيا الصغرى وحملات بيزنطية كانت تصل إلى حلب ودمشق، ثم تطورت حركة الاسترداد الغربى لتصل إلى حركة استيطان صليبى فى الحروب الصليبية، ثم تطورت أكثر إلى حركة عالمية للكشوف الجغرافية، ثم الاستعمار الحديث.
ومرحلة المواجهة بين نجد ومصر تقع ضمن توابع الزلزال الذى أحدثته الحملة الفرنسية على مصر والشام، تلك الحملة التى أفاق منها المسلمون المصريون على تقدم العدو الأوروبى {الكافر} الذى اقتحم على المسلمين ديارهم، وللرد على ذلك التحدى ظهر الاتجاه المصرى لليقظة والاصلاح بعد الحملة الفرنسية ، وقبلها ظهر الاتجاه "الاصلاحى" الآخر فى نجد فى الحركة الوهابية يريد الاصلاح بالعودة للسلف الصالح. ثم اصطدم الاتجاهان فيما بعد.
مصر حسب شخصيتها اختارت اتجاهها مع الوالى محمد على بالانفتاح على الحضارة الحديثة والاستنارة الدينية التى بدأها الطهطاوى، ثم تطورت على يد محمد عبده إلى رؤية إصلاحية إسلامية فوق المذهبية وفوق التراث الصوفى والتراث الفقهى أيضاً، رؤية تحتكم إلى القرآن الكريم فى إيجاد أيديولوجية إسلامية للدولة المدنية تلائم العصر ومنجزاته. ومصر بشخصيتها تتيح للعلماء حتى الوافدين منهم مناخ الاجتهاد والعبقرية، فعلت ذلك مع الشافعى والقرطبى والشاطبى وغيرهم من العلماء المصريين الآخرين بالمولد والنشأة، ولذلك كان طبيعياً أن تكون الاستجابة المصرية للتحدى الغربى انفتاحاً على التقدم الآتى من العدو الغربى على قاعدة التسامح، واجتهاداً فى الفكر الدينى يوثق الصلة بين الثوابت الدينية وثقافة البحر المتوسط على نفس قاعدة التسامح.
ولذلك لم يجد الوالى الطموح "محمد على" مشقة فى القضاء على أعمدة النظام القديم، من المماليك والحامية العثمانية وشيوخ الأزهر، وكان طبيعياً أن يرحب بالقضاء على الدولةالوهابية السعودية الوليدة فى نجد لأن دعوتها التراثية الماضوية الرجعية لا تختلف عن خصوم محمد على داخل مصر، ولذلك استجاب سريعاً للسلطان العثمانى وأرسل الحامية العثمانية بتقاليدها العسكرية البالية لتحارب الوهابيين السعوديين فى نجد ويتخلص من غبائها وهمجيتها وفوضويتها، وليضرب عصفورين بحجر واحد، حتى ينشئ جيشاً حديثاً يكون قوام الإصلاح والتحديث فى مصر.
ولم يهتم محمد على بأكثر من القضاء العسكرى على الدولة السعودية، ثم انشغل بمشروعه الطموح فى مصر، ولم يدرك أن دولة دينية أيديولوجية مثل الدولة السعودية لا يكفى مجرد القضاء عليها عسكرياً بل لابد من مواجهتها فكرياً وثقافياً، ولم يعرف أن تلك الدولة التى قضى عليها عسكرياً سيأتى الوقت الذى تغزو فيه مصر فكرياً ومذهبياً.
لقد عاشت الدولة السعودية الأولى حوالى قرن من الزمان (1745-1818)م، وقد بدأت فيها مبكراً الاستجابة للتحدى الغربى ، قبل حملة نابليون بنصف قرن تقريباً، لأن النفوذ الإنجليزى فى الخليج وجنوب العراق وتخاذل العثمانيين أمامه كان يجرى أمام أعين أهل نجد، وهم بطبيعتهم يكرهون الغرب والغريب ولا يخضعون للأتراك إلا مكرهين، وإذا كان أسلافهم قد ثاروا على الخلفاء العرب من قريش تحت شعارات دينية فإنهم فى مواجهة الخلفاء العثمانيين وتخاذلهم أمام الغرب الكافر مستعدون للثورة بشرط أن توجد لهم أيديولوجية دينية، وهكذا كان الجو مستعداً لقيام الدولة الوهابية السعودية، كما كانت الظروف مهيأة لقبول الدعوة خصوصاً بعد تعاظم التدخل الغربى بالحملة الفرنسية ومناهضة انجلترا لها.
ولذلك فإنه لم يكن منتظراً أن تنتهى الدعوة الوهابية بعد سقوط دولتها السعودية الأولى وتدمير عاصمتها الدرعية، وقتل حاكمها فى الأستانة. فقد استطاع زخم هذه الدعوة أن يعطى لأهل نجد تميزاً على غيرهم، إذ اعتبروا غيرهم من المسلمين كفاراً يعبدون الأضرحة والأوثان، لذا كان سهلاً أن تستطيع الدعوة الوهابية أن تقيم الدولة السعودية الثانية سريعاً (1821-1889)م، ولكن تصارع الأمراء السعوديين جعل هذه الدولة الثانية محدودة الأثر وأسقطها فى النهاية.
وأخيراً قامت الدولة السعودية الثالثة بقيادة عبد العزيز بن عبد الرحمن فيما بين (1902-1932)م، وخلال سنوات التأسيس هذه كانت لعبد العزيز رؤيته الواضحة فى إرساء دعائم الدولة الثالثة حتى تستمر ولا تسقط مثل الدولتين السابقتين . وتتلخص هذه الرؤية فى التمسك بالأيديولوجية الوهابية والتسلل بها إلى مصر لتكون مصر عمقاً استراتيجياً للدولة السعودية، وتستطيع من خلالها السيطرة على العالم الإسلامى. وكانت النتيجة نجاح عبد العزيز آل سعود فى تحويل التدين المصرى القائم على التسامح حتى فى العصور الوسطى إلى تدين وهابى متشدد فى عصر حقوق الإنسان. ونأتى للسؤال التالى، وهو: كيف؟ كيف تم هذا التحول؟
فى الوقت الذى كان فيه عبد العزيز وآله لاجئين تحت رعاية آل الصباح فى الكويت كان الإمام محمد عبده فى مصر يعلن تطليقه للسياسة والثورة وتفرغه للإصلاح الدينى والفكرى، واعتبر التصوف خرافة كما وقف موقفاً حازماً من الفقه والأحاديث، واعتبر الأحاديث كلها أحاديث آحاد، وأعاد للأذهان ما قاله الأئمة المجتهدون فى عصر الازدهار الفكرى. وكان محمد عبده يأمل فى تأسيس مدرسة فكرية للاجتهاد الدينى تقوم بإصلاح عقائد المسلمين وتسهم فى تطورهم العقلى والعصرى، وكان هذا اقتناعه بعد تطليق السياسة ولعنها.
ولم يكن محمد عبده يدرى أن حركته سيقوم بإجهاضها تلميذه رشيد رضا لصالح السعوديين وأيديولوجيتهم السلفية الثورية.
مات محمد عبده سنة 1905، وفى ذلك الوقت كان عبد العزيز قد هرب من الكويت بأربعين من "إخوانه" وبهم استولى على الرياض سنة 1902 ثم سيطر على أواسط نجد سنة 1904. وبعد موت محمد عبده فى مصر ورثه رشيد رضا. وكانت الأنباء تأتى إلى مصر بانتصارات الشاب ابن سعود ونجاحه فى ضم الإحساء والمنطقة الشرقية، ثم نجح بعدها فى ضم عسير، وحاصر الشريف حسين فى الحجاز، ثم انتزع منه الحجاز سنة 1926 ليحتل ابن سعود بعدها موقعاً متميزاً جفف به دموع الملايين الذين حزنوا على إلغاء الخلافة العثمانية. ثم قام ابن سعود بإعطاء مملكته الوليدة اسم أسرته السعودية سنة 1932 بنفس المنهج السائد فى العصور الوسطى حين يطلق الحاكم على دولته اسمه أو اسم أسرته، كالدولة الأخشيدية والطولونية والفاطمية والعباسية.
ومع هذا النجاح لابن سعود فقد كان يدرك أن توسعه فى شبه الجزيرة العربية قد أضاف ألغاماً كثيرة تحت عباءته، فأعدى أعدائه وهم الشيعة يرتكزون فى المنطقة الشرقية، كما أن الأشراف والصوفية فى الحجاز لا ينسون ثأرهم عنده بعد ما فعله بالحجاز وأسرة الشريف حسين، وفى الخارج يقف أعداؤه الشيعة الزيدية فى اليمن بعد أن استولى على عسير، وهناك شيعة إيران والعراق والخليج وهم لا ينسون ما فعله وما سيفعله بالمشاهد الشيعية فى العراق، علاوة على أن أبناء خصمه الشريف حسين كانوا يحكمون العراق والأردن، أى أن أعدءه يطوقونه من كل الاتجاهات، ولهم جماهير فى أهم منطقتين فى مملكته، المنطقة الشرقية بجوار نجد، والحجاز، وهم لا يغفرون له أنه محا وجودهم حين جعلهم سعوديين، أى موالى وعبيداً لأسرته . وهكذا لم يعد أمام ابن سعود إلا مصر يتكئ عليها فى صراع البقاء وفى أمل الاستقرار والاستمرار أيضاً. فمن مصر جاء الخطر الذى دمر الدولة السعودية الأولى، ومنها يمكن أن يأتى الخطر الذى سيقضى على الدولة السعودية الثالثة، خصوصاً وأن التصوف هو التدين المصرى الأساسى والدعاية ضد الوهابيين على أشدها فى مصر، ومن الممكن أن تتطور ثقافة الكراهية ضد الوهابية إلى تحالف عسكرى أو سياسى خصوصاً مع طموح ابن سعود للسيطرة على الحجاز والذى كان دائماً تحت السيطرة المصرية.
ومن الممكن أن يتفادى ابن سعود هذا الخطر المصرى، بل يستغل مصر إلى جانبه إذا تحول التدين السنى الصوفى المصرى المعتدل إلى تدين سنى وهابى متطرف. وليس ذلك مستحيلاً، فالمهم هو العثور على الشخصية المناسبة التى تقوم بخلق هذا التحول، وكان سهلاً العثور على هذه الشخصية، وهنا بدأ دور الشيخ رشيد رضا.
جاء الشيخ رضا إلى مصر يحمل بين جوانحه الفكر السلفى مع كراهية موروثة للمسيحيين استقاها من بيئته الشامية، ولكنه كتم هذه الثقافة الشامية داخله أثناء تبعيته لشيخه الإمام محمد عبده. وبعد موت الإمام لم يكن رشيد رضا مؤهلاً للسير فى طريق شيخه فى معاداته لشيوخ الأزهر، إذا كان محمد عبده بفكره ومصريته وأزهريته وتاريخه ومكانته وشخصيته أقدر على الصدام مع شيوخ الأزهر، فهو منهم وهم منه، وهو أعلاهم قدراً وأرجحهم عقلاً وأكبرهم علماً وأكثرهم شهرة، ومع ذلك فقد عانى منهم ما عانى فى جهاده الإصلاحى، فكيف بتلميذه الوافد من الشام إذا كان فعلاً يريد السير فى طريق شيخه الإمام؟
على أن رشيد رضا قد يوافق فكر الإمام محمد عبده فى الهجوم على التصوف وأوليائه إلا أنه لا يوافقه فى انتقاد الأحاديث وفى انتقاده لتحجر الفكر الوهابى . وعندما مات شيخه الإمام وجد فرصته فى الزعامة ميسورة إذا تحالف مع ابن سعود، خصوصاً وقد جرت مياه كثيرة فى النهر، إذا علا نفوذ ابن سعود فى شبه الجزيرة العربية وبدأت الأحلام تتجمع حوله خصوصاً مع استقلاليته وشبابه ومقدرته، ثم بدأ تيار الشيوخ يميل إلى التعصب بعد إلغاء الخلافة وشدة التيار العلمانى فى تركيا ثم فى مصر والشام، وارتفع صوت الإلحاد متشجعاً بالليبرالية الفكرية والنفوذ الاستعمارى، وكل ذلك أثار حفيظة الشيوخ العاديين والصوفيين والسلفيين وقرب المسافة بينهم . خصوصاً وقد كان أئمة العلمانيين فى مصر من مثقفى الشوام المسيحيين والذين هاجروا لمصر بعد المذابح الطائفية في لبنان . وكان لابد أن تشتعل المعركة بين رشيد رضا وبينهم، وفى هذا الجو أتيح لرشيد رضا أن يثمر تحالفه مع ابن سعود فى نشر الفكر الوهابى بعد أن سيطر عبد العزيز على الحجاز وجعل من مناسبة الحج منبراً لنشر الدعوة وتجميع الأمصار وإعداد الكوادر وإعداد الخطط وتنفيذها. ودليلنا على ذلك أن عام 1926 الذى شهد أول موسم للحج بعد سقوط الحجاز هو أنشط الأعوام فى نشر الفكر السلفى فى مصر وخارجها. وكان رشيد رضا هو مهندس التسلل الوهابى للجمعيات الدينية، ومهندس إنشائها لصالح السعوديين، وعن طريق تلك الجمعيات أمكن تحول التدين المصرى عن الصوفية السنية إلى الوهابية السنية.
ونتتبع هذا الجهد على النحو الآتى: (6)
1- الجمعية الشرعية، أسسها الشيخ محمود خطاب السبكى سنة 1913 على أساس الولاء المطلق للتصوف، وفى إخضاع الفقه للتصوف كتب الشيخ محمود السبكى أولى مؤلفاته: أغلب المسالك المحمودية فى التصوف والأحكام الفقهية. فى أربعة أجزاء. ولكن فى عام 1926 اتخذت مؤلفاته طابعاً جديداً تحت شعار الدفاع عن السنة، وبالطريقة الوهابية أخذ يهاجم التصوف تحت هذا الشعار، وفى هذا الاتجاه الجديد كتب (26) كتاباً إلى أن مات سنة 1931. وعلى طريقه سار ابنه أمين السبكى وقد كتب فى الدعوة الوهابية تسعة من الكتب وتوفى سنة 1968، وهكذا.
وبالنفوذ السعودى الذى أرساه رشيد رضا انتشرت مساجد الجمعية الشرعية، وهى الآن أضخم جمعية فى مصر، تسيطر على أكثر من ألفى مسجد وألوف الأئمة الوعاظ وملايين الأتباع، وكانت ولا تزال الاحتياطى الاستراتيجى للإخوان المسلمين، وهم – أى الجمعية الشرعية والإخوان المسلمون- هم الآن مادة الفكر السلفى وحركته فى المجتمع المصرى.
2- جمعية أنصار السنة، فى نفس العام 1926 أقامها الشيخ حامد الفقى أحد الأزهريين، وقد أنشأ له عبد العزيز آل سعود منزلاً فى حى عابدين كان مقراً للدعوة الوهابية، وتخصصت هذه الجمعية فى نشر الفكر الوهابى ومؤلفات ابن تيمية وبان القيم، كما أنشأ مجلة الهدى النبوى سنة 1936 ولا تزال تصدر.
3- جمعية الشبان المسلمين: أنشأت سنة 1927 بتخطيط محى الدين الخطيب رفيق الشيخ رشيد رضا الشامى فى الدعوة السلفية، وتولى رئاستها الدكتور عبد الحميد سعيد، والاتجاه الحركى يغلب على هذه الجمعية وانتشرت وسط الشباب، وكان أهم الشباب فيها هو حسن البنا، ومع أنه أنشأ الإخوان المسلمين على غرار جماعة الإخوان التى أنشأها عبد العزيز آل سعود، إلا أن حسن البنا كان دائم التردد على جمعية الشبان المسلمين، وقد لقى حتفه أمام أبوابها سنة 1948.
4- جماعة الإخوان المسلمين: سنة 1928 وهى الاتجاه الحركى السياسى المسلح، وكان إنشاؤها برعاية رشيد رضا وتوجيهاته. ورشيد رضا هو الذى قام بتقديم الشاب حسن البنا إلى أعيان السعودية وأعمدة الدعوة الوهابية، ومنهم حافظ وهبة مستشار الملك عبد العزيز، ومحمد نصيف أشهر أعيان جدة. وابنه عبد الله نصيف هو الذى كانس يتزعم رابطة العالم الإسلامى، والتى يتغلغل من خلالها النفوذ السعودى إلى العالم الإسلامى حتى اليوم، وهى التى لعبت دوراً فى تجنيد الشبان للذهاب إلى أفغانستان وتدريبهم على التخريب.
ونعود إلى الشيخ رشيد رضا وجنوده خارج نطاق الجمعيات لنلمح إلى تأسيسه مدرسة الدعوة والإرشاد لتخريج الدعاة فى جزيرة الروضة سنة 1912، وكانت تجاورها مؤسسة الزهراء للسلفى الشامى محيى الدين الخطيب، فى نفس المنطقة، كما كانت مجلته "المنار" ذائعة الصيت متخصصة فى الدعوة الوهابية والسعودية، هذا بالإضافة إلى مؤلفاته المتخصصة كـ"الخلافة" والسنة والشيعة، وفيها كان يدعو إلى الخلافة الإسلامية ويرى فى ابن سعود المؤهل الوحيد للخلافة. وعن طريق مطبعة المنار نشر رشيد رضا الكثير من مؤلفات ابن حنبل وابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب. وتوفى رشيد رضا بعد أن قام بتوديع الأمير سعود ولى العهد فى ميناء السويس سنة 1935(7) وترك الراية يحملها من بعده تليمذه حسن البنا مؤسس الإخوان.
والشيخ حسن البنا اعترف فى مذكراته "الدعوة والداعية"، بصلته بالشيخ حافظ وهبة والدوائر السعودية، والأستاذ جمال البنا شقيق حسن البنا يعترف بتلك الصلة بين شقيقه الأكبر، ووالده والسلطات السعودية فى كتابه "خطابات حسن البنا الشاب إلى أبيه"(8) والدكتور محمد حسين هيكل فى مذكراته عن السياسة المصرية يشير إلى معرفته بالشاب حسن البنا فى موسم الحج سنة 1936، وكيف أن حسن البنا وثيق الصلة بالسعودية ويتلقى منها المعونة، وكان البنا يمسك بيد من حديد بميزانية الجماعة، ولذلك فإن الانشقاقات عن الإخوان ارتبطت باتهام الشيخ حسن البنا بالتلاعب المالى وإخفاء مصادر تمويل الجماعة عن الأعضاء الكبار فى مجلس الإرشاد(8) وعن طريق الدعم السعودى استطاع البنا، وهو المدرس الإلزامى البسيط، أن ينشئ خمسين ألف شعبة للإخوان فى العمران المصرى من الإسكندرية إلى أسوان، واستطاع ألى جانب ذلك أن ينشئ التنظيم الدولى للإخوان عن طريق الفضيل الورتلانى الجزائرى المساعد الغامض لحسن البنا، وهو الذى فجر ثورة الميثاق فى اليمن لقلب الموازين فيها لصالح السعودية، وقد نجحت الثورة فى قتل الإمام يحيى، ولكن سرعان ما فشلت وتنصلت منها السعودية، ورفضت استقبال الفضيل الورتلانى بعد هربه من اليمن وظل الورتلانى فى سفينة فى البحر ترفض الموانئ العربية استقباله كراهية لدوره فى اليمن، إلى أن استطاع بعض الإخوان تهريبه فى أحد موانى لبنان، وانتقل منها إلى تركيا، ثم ظهر بعد ذلك كالرجل الثانى فى قائمة جبهة التحرير الجزائرية حين توقيع ميثاقها فى القاهرة سنة 1955 وكان بن بيلا فى ذيل القائمة.(9)
واكتشفت الحكومة المصرية بعد ما حدث فى ثورة اليمن سنة 1948 خطورة حسن البنا وتنظيمه السرى وكيف استطاع حسن البنا إجراء ثورة فى اليمن بالريموت كنترول. ولذلك كان التخلص من حسن البنا سياسياً بكشف أسرار التنظيم وما جرى إبان ذلك من حوادث عنف متبادلة.
ومعروف بعدها موقف الإخوان من تعضيد الثورة والخلاف بينهم وبين عبد الناصر، وتحالف السادات مع الإخوان، وعودة التيار الدينى السياسى للسيطرة على أجهزة الدولة فى التعليم والثقافة والإعلام مع عصر الثورة النفطية، ثم خلافهم مع السادات، وقتلهم له، واستمرار سيطرتهم فى عصر مبارك الذى آثر مطاردة الإرهاب المسلح مع التصالح مع الفكر السلفى الذى أصبح يقدم نفسه على أنه الإسلام.
وهنا ندخل على طبيعة الفكر السلفى التى أجهضت الاجتهاد المصرى فى الإصلاح الدينى لصالح الثورة السلفية.
الجزء الثانى : الطبيعة الفكرية للحركة السلفية السياسية
1 - حركة تعتمد على شعارات:
عن طريق مصر انتقلت الوهابية والنفوذ السعودى إلى شمال أفريقيا غرباً وإلى الشام واليمن والهند شرقا، ولا ينبغى هنا نسيان دور الحج بطبيعة الحال، وعزز من هذا الانتشار أن حجة الوهابيين قوية وحقيقية فى الهجوم على عبادة الأنصاب والقبور، وأن منهجهم يعتمد أساساً على الأحاديث المنسوبة للنبى عليه السلام، وأنه يقوم على عموميات لا يختلف عليها اثنان مثل صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان وإخلاص العقيدة لله تعالى.
وبانتقال الدعوة الوهابية إلى مصر وإجهاضها المشروع الإصلاحى التنويرى لمحمد عبده فقد تم قطع خط الرجعة على الدعوة، بحيث كان عليها أن تسير فى اتجاه واحد يمحو الاتجاه القديم للإصلاح والتنوير وبدلا منه يقوم بتجميع المسلمين نحو هدف واحد هو الحكم الاسلامى – فى الظاهر – والوهابى فى الواقع. وبدأ حسن البنا فى رفع لواء التجميع لكل المسلمين من صوفية وسنيين وقال كلمته المشهورة "هى رسالة سلفية وطرق سنية صوفية" وإذا كان مستحيلاً الجمع بين عقائد السنة والصوفية فإن البنا خرج من هذا المأزق بتأجيل البحث فى الخلافات على أساس تربية القيادات على المنهج السنى الوهابى وأثناء ذلك تظل الرايات مرفوعة عن شمولية الدعوة لكل الطوائف فى اتجاه هدف واحد هو الحكم بطبيعة الحال.
ومن طبيعة الحركات الدينية السياسية التقية، وأهم وسائل التقية رفع الشعارات المقدسة، فكذلك فعلت الدعوة الدينية السياسية التى تمخضت عن قيام الدولة العباسية، إذ كان شعارها "الرضى من آل محمد" وكذلك فعل ويفعل الإخوان حين يرفعون شعارات سياسية مقدسة مثل "القرآن دستورنا والرسول زعيمنا" ومثل "تطبيق الشريعة" ثم "الإسلام هو الحل" وبعد هذه الشعارات التى لا خلاف عليها ليس لديهم اجتهاد فقهى يناسب العصر وليس لديهم منهج فكرى للحكم أو برنامج سياسى لعلاج المشاكل السياسية والاجتماعية لأنهم طالما أجهضوا حركة الاجتهاد الفكرى والإصلاح الدينى فى سبيل الوصول للحكم فلم يعد أمامهم إلا استرجاع الفقه التراثى ومحاولة إخضاع العصر لمقولاته، بينما ينبغى أن يكون العكس هو الصحيح،أى الاجتهاد الفقهى لمقتضيات العصر بمثل ما اجتهد الفقهاء السابقون لعصرهم. ولو كانت تلك الحركة الدينية السياسية مصرية فى جذورها لأثمرت اجتهاداً فقهياً يناسب العصر حتى مع تركيزها على الثورة والهدف السياسى، فتلك هى الطبيعة المصرية التى ترغم بعض العناصر فى الأزهر على الإتيان بجديد، مع كون الأزهر أعرق مدرسة فى الجمود العقلى.

ولكن لأن جذور تلك الحركة ترجع إلى نجد فإنه ليس أمامها إلا اتباع الفقه الحنبلى التيمى الذى لم يجد ابن عبد الوهاب غيره أقرب إلى منهجه وإلى طبيعته المتشددة . صحيح أن هناك بعض التعديلات بين السطور كالذى نراه لدى محمد الغزالى والقرضاوى والشعراوى، ولكن هذه التعديلات القشرية لا تصل إلى المنهج الفكرى نفسه. والمنهج الفكرى للدعوة السلفية وحركتها السياسية هو تحويل الفكر إلى دين عن طريق التأويل، وهذه هى أولى الملامح الفكرية للحركة السلفية بالإضافة إلى الملمح الآخر وهو الثورية العنيفة الدموية. وبذلك يمكن أن نوجز ملامح تلك الحركة فى كلمتين، إنها "حركة ثورية معصومة" أو هكذا يعتقدون. ونتوقف قليلاً مع التأويل الذى جعل الحركة معصومة وجعل إطارها الفكرى ديناً يعاقب من يخرج عليه أو يناقشه بالقتل.
التأويل: حين نقول التأويل نقصد تأويل النصوص القرآنية وتزوير أحاديث منسوبة للرسول عليه السلام تعزز ذلك التأويل، واختراع مصطلحات جديدة عن تلك المفاهيم تخالف مصطلحات القرآن وما كان عليه النبى عليه السلام.
وخطورة التأويل بهذا الشكل أنه يقوم بتحويل الفكر البشرى إلى النقيض للدين السماوى الحقيقى، وبعد أن يتحول ذلك الفكر البشرى إلى دين كامل عن طريق التأويل والتزوير والمصطلحات الدينية الجديدة، يتقمص ذلك الدين البشرى دور الدين السماوى الحقيقى فى عقائد الناس حتى يصبح الخروج عليه خروجاً على دين الله تعالى يستلزم عندهم الكفر والقتل.
وللتوضيح نقول: إن دين الله تعالى ينزل كتاباً سماوياً ليس مؤلفاً من بنى البشر وتكون وظيفة الرسول النبى صاحب الرسالة هى مجرد التبليغ للرسالة كما هى دون زيادة أو نقص، ويكون الرسول النبى نفسه قدوة للمؤمنين فى التمسك بالرسالة وتطبيقها طبقاً لظروف عصره. ثم يوم القيامة يقوم الله تعالى مالك الدين ومالك يوم الدين بمحاسبة النبى ومحاسبة خصومه وأتباعه والبشر جميعاً على مدى تمسكهم بالكتاب السماوى.
ولكى الذى حدث أنه بعد موت النبى أخذت الفجوة تتسع بين الناس وبين الرسالة السماوية، وبدأت تلك الفجوة تظهر أفكاراً بشرية تخالف الكتاب السماوى وتقوم بتبرير وتشريع وتسويغ التدين البشرى بكل ما فيه من نقائض وخروج على الدين الحقيقى، ونظراً لأن تلك الأفكار والفتاوى البشرية تقوم بتلبية الأغراض السياسية والرذائل الاجتماعية للناس فإنهم يقومون باختراع أصل مقدس مزيف لتلك الأقاويل والأفكار عن طريق نسبتها لله تعالى ولرسوله الكريم مع تطويع النصوص الإلهية لمفاهيمهم الجديدة، إذا عجزوا عن تحريفهم لفظياً.
والتأويل بهذا المعنى عرفه الشيعة والسنة والصوفية، كل منهم جعل منهجه الفكرى ديناً عن طريق نسبته لآل البيت والأئمة كما فعل الشيعة، أو نسبته للنبى والصحابة كما فعل السنة، أو عن طريق العلم اللدنى للأولياء كما فعل الصوفية، وفى كل الأحوال يتقمص ذلك الفكر البشرى شخصية الدين ويتحول الأئمة فيه إلى آلهة أو أنصاف آلهة تحظى بالتقديس ولا يجوز الاعتراض عليهم، ولذلك فإن القلوب تقشعر حين يعترض أحدهم على البخارى مثلاً لأنه أضحى معصوماً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذه مكانته الحقيقية فى معتقدات أهل السنة، وكذلك مكانة جعفر الصادق لدى الشيعة وأبو حامد الغزالى عند الصوفية. وفى كل الأحوال تحول الفكر إلى دين وتحول أئمة الفكر إلى مستوى فوق البشر وتحولت كتبهم إلى أسفار مقدسة، وكل ذلك عن طريق التأويل بالمفهوم الذى قررناه.
على أن هناك دليلاً آخر عقلياً نجده لدى المعتزلة لا يسمح بالتحريف والتزييف ولا يخترع له سنداً يصله بالنبى، وهذا التأويل العقلى مع أنه أروع، إلا أنه اندثر لأنه ظل مجرد فكر محصور بين النخبة المثقفة، ويخضع للجدال بين العقول ويتخذ له مشروعية عقلية بالحجة والمنطق ولذلك انتهى إلى زوال. أما الفكر الآخر فقد سرى إلى طبقات المجتمع على أساس أنه دين لأنه منسوب لله تعالى أو للرسول، فكيف تعترض على فكرة ما إذا صيغت فى حديث نبوى؟ أو قيلت فى حديث قدسى؟ من الطبيعى حينئذ يقدم العقل إجازة ويرفع لواء التسليم ويبتلعها المؤمن لأنها ارتفعت من دائرة العلم والنقاش إلى مستوى الدين والإيمان والتسليم، وبالتالى فإن من يعترض على ذلك الفكر أو يناقشه يصبح كافراً مرتداً مباح الدم. وبهذه الحصانة استمد الفكر السنى حصانته الدينية والثورية، وأصبح يجمع بين صفتى العصمة والثورية.
وهذه العصمة الثورية أنتجت تحت لواء الجهاد ثلاث نتائج خطيرة فى تاريخ المسلمين، الماضى والحاضر والمعاصر، وهى الثورة ضد أنظمة الحكم، استحلال الدماء والأعراض للعوام ومصادرة "الآخر" سياسياً وفكرياً وعقائدياً.
ونتوقف بالتأصيل التاريخى لكل منها.
2- من الثورية فى مواجهة الحكام إلى سفك دماء العوام: الجذور التاريخية:
الثورية المقصودة هنا هى الثورية التى تحركها الأحاديث المنسوبة للنبى والتأويل الدينى. واختراع الأحاديث فى مجالات الصراع السياسية بدأ من الفتنة الكبرى، ثم استفحل فى العصر الأموى حين اخترع الأمويون منصب القصاص الذى يقوم بدور وزير الإعلام فى عصرنا، ويعمل من أجل الدعاية فى المسجد للخليفة الأموى وتبرير أعمال الدولة، خصوصاً بعد المصائب الثلاث الكبرى التى ارتكبها الأمويون فى خلافة يزيد بن معاوية، وهى قتل الحسين وانتهاك حرمة الكعبة والمدينة . وخصوم الأمويين استخدموا نفس الأسلوب فى حرب الدولة، فإذا كان القصاص يستخدم الأحاديث فى الدفاع عن الدولة فإن القرّاء (جمع قارئ – وتعنى المثقفين الناقمين على الدولة) يستخدمون أحاديث أخرى فى الكيد للدولة، وهذه الحرب بين الفريقين كانت بالرواية الشفهية للأحاديث، والتى تم تدوينها وتطويرها فيما بعد.(10)
ولم يتخلف تزييف الأحاديث عن مرافقة الثورات ضد الأمويين، كان بعضها منسوباً للنبى، والبعض الآخر نسبوه لعلى بن أبى طالب، وعلى سبيل المثال ففى موقعة دير الجماجم بين الثوارعلى الأمويين والحجاج بن يوسف خطب فى الثوار الفقيه عبد الرحمن بن أبى ليلى فقال فى الثوار "يا معشر القّّرّاء إن الفرار ليس بأحد من الناس بأقبح منه بكم، إنى سمعت علياً يقول: أيها المؤمنون إنه من رأى منكم عدواناً يعمل به ومنكراً يدعى إليه فأنكره قلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد أُجر، وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف.. فذلك الذى أصاب سبيل الهدى.. فقاتلوا هؤلاء المحلّين المحدثين المبتدعين.." وكانت واقعة دير الجماجم سنة 83 هـ. ومع هزيمة الثوار الفقهاء إلا أن ثوراتهم لم تنقطع ضد الدولة الأموية ترفع لواء تغيير المنكر، وتدعمها أقوايل حماسية أصبحت تنسب للنبى وأصبحت الأحاديث تمثل الإطار الفكرى للثورات، وأسهمت فى تجميع الأنصار حول الدعوة الشيعية الغامضة للرضى من آل محمد، والتى أسست الدولة العباسية، ومن يراجع ما كتبه السيوطى فى "تاريخ الخلفاء"(11) يجد فصلاً فى الأحاديث التى كانت تبشر بخلافة بنى العباس وتجعل الخلافة فيهم إلى يوم القيامة، وبعضها ينص على أسماء الخلفاء(12)، أى أن "إدارة الإعلام" فى الدولة العباسية ظلت تصنع الأحاديث حتى بعد توطيد الدولة، وذلك لتبرير المظالم التى واكبت توطيد الملك العباسى خصوصاً فى عهد السفاح والمنصور.
وتلك المظالم العباسية، وسطوة الدولة العباسية على الفقهاء المثقفين الذين كانوا – من قبل -يستبشرون بها خيراً، أدت إلى إصابة المثقفين بخيبة أمل قوية فى الحلم الذى تحول إلى كابوس إذ كانوا بين نارين أو أكثر، تصديق تلك الأحاديث وتكذيب ما يرونه بأعينهم من مظالم . وبين خيبة الأمل والخوف من الثورة أصيب أولئك المثقفون بحالة مرضية فريدة، إذ أصبح اسمهم البكائين، فتخصصوا فى البكاء المفرط واتخاذه طريقاً للعبادة وإنفاق حياتهم فى بكاء لا ينقطع، وقد ذكر ابن الجوزى ترجمة لأعيان هذه الطائفة فى تاريخه المنتظم، ومع أنهم ظهروا قبل سقوط الدولة الأموية إلا أن تطورهم فى العبادة بالبكاء وتقعيد هذه العبادة كان فى عصر السفاح والمنصور، مما يجعل ذلك التطور من الزهد والحزن العادى إلى الصراخ المرضى مرتبطاً بخيبة أمل قوية فى حلم تحول إلى كابوس.(13)
واندثرت حركة البكائين وحل محلها اتجاه أكثر إيجابية فى المقاومة خصوصاً بعد محنة الإمام أحمد بن حنبل فى موضوع خلق القرآن (من 218: 237 هـ) وفى هذه الفترة ازداد التلاحم بين الفقهاء أصحاب الحديث مع الشارع العباسى، وأثناء الشقاق بينهم وبين السلطة العباسية اخترع الحنابلة حديث "من رأى منكم منكراً فليغيره.." على نسق الخطبة التى احتوت على مقالة منسوبة لعلى بن أبى طالب والتى ارتجلها الفقيه بن أبى ليلى فى موقعة دير الجماجم. وتزعم هذه المقاومة من مدرسة ابن حنبل الفقيه أحمد بن نصر الخزاعى، الذى أعد العدة للثورة باسم تغيير المنكر، وتحركت الدولة العباسية سريعاً فاعتقلت الفقيه ابن نصر وأقامت محكمة عاجلة له أمام الخليفة الواثق، وقتله الخليفة بيده سنة 231 هـ وعلق رأسه على أبواب بغداد. وقد قام الحنابلة بدعاية مركزة ضد الدولة العباسية أسندوا الكرامات إلى الفقيه المقتول، وأتت تلك الحملة الدعائية المغلفة بالأحاديث والمنامات أكلها فاقتنع بها فى النهاية الخليفة التالى وهو المتوكل فاعتنق المذهب السنى، وأفرج عن ابن حنبل وأصحاب ابن نصر، وأرسل كبار الدعاة لنشر الدعوة السنية فى الآفاق سنة 234 هـ وبتأثير الحنابلة اضطهدت الدولة العباسية خصوم الحنابلة، مثل الشيعة والصوفية وأهل الكتاب، وبدأ تحقير أهل الكتاب بإلزامهم بزى معين سنة 235 هـ.(14) وكما صادر الحنابلة "الآخر" من الصوفية والشيعة وأهل الكتاب أثناء نفوذهم فإن الإمام الطبرى لم ينج منهم فى أخريات حياته، حين خالفهم فى تفسير الاستواء على العرش، فحاصروه فى داره إلى أن مات داخل داره، ولم يشفع له عندهم أن يكتب لهم رسالة فى الاعتذار، كما لم تستطع الدولة العباسية حمايته منهم، فظلوا يرجمون داره حتى صارت الحجارة فوق داره كالتل العظيم وتحول بينه إلى قبر له.(15)
وهذا هو التراث الحنبلى الذى تحمله الدعوة الوهابية، ويضاف إليه تراث ابن تيمية الفقهى والحركى فى الهجوم على الصوفية والشيعة، مع أنهم كانوا فى عهده أصحاب سطوة ونفوذ، خصوصاً الصوفية. ومع ذلك فإن عنف ابن تيمية تجلى فى فتاويه التى تبيح قتل الزنديق بدون محاكمة، والزنديق ليس هو المرتد ولكنه المسلم الذى يؤمن بالله ورسوله والكتاب والسنة ولكنه يخالف المذهب السلفى فى بعض آرائه. وقد نقل هذه الآراء فقهاء الحركة السلفية المعاصرون مثل أبى بكر الجزائرى فى السعودية وسيد سابق فى مصر.(16) فكل من أنكر أو ناقش مقولة سلفية أو شعاراً أساسياً للحركة مثل تطبيق الشريعة أو الشعار الغامض "المعلوم من الدين بالضرورة" فجزاؤه القتل بدون محاكمة وبدون استتابة عندهم. وبالتالى فإن الحديث عن تداول السلطة إذا وصلوا للحكم ليس له محل من الإعراب.
ومن الطبيعى أن تتحول مصادرة الفكر إلى مصادرة للحق فى الحياة، وإذا كان أصحاب الحديث قد تقربوا للدولة العباسية باختراع حديث الردة لتقتل به الدولة العباسية خصومها السياسيين(17) فإن قتل الخصوم كان شريعة الثوار النجديين أسلاف الحركة الوهابية، وقد توسع أعراب نجد فى قتل الخصوم فى إطار الدعوة الدينية حين كانوا خوارج، وحين ثاروا فى حركة الزنج وفى ثورة القرامطة. وفى كل الأنهار الدموية التى فجروها كان لهم تأصيل فكرى وتأويل مذهبى فى إطار الدعوة التى يرفعونها، سواء، كانت خارجية أو شيعية.
فالخوارج استباحوا قتل المسلمين، يقول الملطى (377 هـ) عن الطائفة الأولى منهم، إنهم كانوا يخرجون بسيوفهم فى الأسواق حين يجتمع الناس على غفلة فينادون "لا حكم إلا لله"، ويقتلون الناس بلا تمييز(18) وهذا شبيه بما يفعله المتطرفون من تدمير المقاهى والشوارع لقتل الناس كيفما اتفق وحجتهم "الحاكمية" اى "لا حكم الا لله " نفس مقولة الحاكمية الأولى من الخوارج.
وفى حركة الزنج قتل الثائرون ثلاثين ألفاً حين استولوا على مدينة الأبلة فى العراق سنة 256 هـ، وفى العام التالى دخل البصرة زعيم الزنج بعد أن أعطى أهلها الأمان، ولكنه نكث بعهده فقتل أهلها وسبى نساءها وأطفالها وأحرق مسجدها الجامع، وكان من بين سباياه نساء من الأشراف، وقد فرقهن على عسكره من الزنوج، وكانت السبايا العلويات تباع الشريفة منهن فى معسكره بدرهمين وثلاثة، وحين استجارت به إحداهن ليعتقها أو ينقذها من ظلم سيدها الزنجى قال لها: "هو مولاك وأولى بك من غيره".(19)
وكان القرامطة أكثر وحشية فى استباحة الدماء والأعراض، ومن موقع المعاصرة والمشاهدة روى الطبرى بعض أخباره، منها أنه خصص غلاماً عنده لقتل الأسرى المسلمين، وأنه استأصل أهل حماة ومعرة النعمان وقتل فيهما النساء والأطفال، ثم سار بعلبك قتل عامة أهلها، وسار إلى سلمية وأعطاهم الأمان ففتحوا له الأبواب فقتل من بها من بنى هاشم ثم اختتم بقتل أهل البلد أجمعين بما فيهم صبيان الكتاتيب، ثم خرج عن المدينة وليس فيها عين تطرف، ونشر الخراب والدماء فى القرى المحيطة. أما ما فعله فى الكعبة وقتل الحجاج فيها وإلقاء الجثث فى زمزم، واقتلاع الحجر الأسود، فذلك ما استفاضت فيه الأخبار، وهذه الوحشية فى قتل الأبرياء كانت تقوم على منهج فكرى أشار إليه النويرى فى حديثه عن التربية الفكرية لشباب القرامطة، كما أشار إليها الطبرى فى قصة واقعية لشاب اقتنع بالدين القرامطى وهجر أمه وأسرته مقتنعاً بالدين الجديد معتقداً استحلال الدماء.(20)
ولا تختلف مذابح الخوارج والزنج والقرامطة – وقادتهم من أعراب نجد أساسا- عن المذابح التى قام بها النجديون الوهابيون السعوديون فى تأسيس الدولة السعودية الأولى ، والدولة السعودية الثالثة الحالية، وقد وصلت تلك المذابح الى العراق والشام والبيت الحرام وسائر مدن الحجاز ، وكان أكثر الضحايا من النساء والأطفال والشيوخ.
ولا تختلف هذه المدرسة الفكرية التى كان يعدها القرامطة لغسيل مخ الشباب عن الاعداد الفكرىالذى كان فقهاء الوهابية يعدونه لشباب الأعراب النجديين فى العقد الثانى من القرن العشرين والذى يتحول به الشاب الاعرابى الى مقاتل عنيد يرى الجهاد فى استحلال قتل كل من ليس وهابيا، وعن طريق هذا الاعداد الثقافى تكون "الاخوان " جنود عبد العزيز آل سعود الأشداء الذين أسسوا الدولة السعودية الحالية ، وكانت سمعتهم فى القتل والتدمير ترعب قرى الشام والعراق، كما لايختلف عن الاعداد الثقافى الذى تقوم به جماعات الاخوان وبقية التنظيمات العلنية والسرية فى تاريخنا المعاصر والذى يجعل الشاب المصرى المسالم يستسهل تفجير الشوارع والمبانى معتقداً أن ذلك جهاد فى سبيل الله. كما لا يختلف ذلك عن الوحشية الهائلة التى يتعامل بها المتطرفون فى الجزائر مع أبناء الشعب المسالم من نساء وأطفال، وما حركة طالبان عن ذلك ببعيدة، فهم الذين تشربوا الفكر السلفى.
الخاتمة:
وفى النهاية.. قد نختلف فى تأويل حركة التطرف والإرهاب، قد يرجعها بعضهم إلى الفقر والظلم والفساد السياسى والاقتصادى واليأس لدى الشباب، ولكن متى كان الشعب المصرى- وغيره من شعوب الشرق الإسلامى- متمتعاً بالعدل والرفاهية؟ إن الظلم فى عصرنا أخف كثيراً من ظلم المماليك والعثمانيين وغيرهم. ومع ذلك فإن ظلم العصور الوسطى مع قسوته المفرطة لم يفلح فى دفع المصريين للثورة لأن التدين المصرى كان قائماً على الصبر والتسامح، وكان المصرى وهو يكد فى إنتاج الخير للغير يلتقط أنفاسه لكى يسخر من الحاكم الظالم، فإذا شاهد الحاكم الظالم فى موكبه سارع بالهتاف له فى تسامح لا نظير له، فإذا مات ترحم عليه واستنكف من الشماتة فى موكبه فيه قائلاً: اذكروا محاسن موتاكم، وسارع بتعليق أخطائه وخطاياه على الحاشية وحدها.
وظل هذا المنطق المصرى والتدين المصرى إلى أن حدث ذلك التغيير فى الذهنية المصرية فانتشر الفكر السلفى الوهابى الذى يوجب مصادرة حقوق الآخرين تحت دعوى إزالة المنكر، خلافاً لتشريع القرآن، ويتوسع فى إزالة المنكر ليشمل إزالة الدولة نفسها، ويتوسع فى القتل إلى درجة قتل الأبرياء بعد الحكم بتكفيرهم، وبالتالى أصبح قتل الأبرياء جهاداً يتوجه نحو أبناء الوطن الواحد والدين الواحد.
وصحيح أنه لابد من إصلاح سياسى واقتصادى فللتدهور الاقتصادى والاستبداد السياسى دخل فى نشر التطرف وتغذية الحركة السلفية، ولكن الصحيح أيضاً أن الإصلاح الدينى هو الأساس. ونحن هنا لا نبدأ من فراغ بل لدينا تجربة الإمام محمد عبده، التى أجهضها المشروع السلفى السياسى.
ومن الغريب أن تنجح دولة وليدة هى السعودية فى غزو أقدم دولة فى العالم وهى مصر، تغزوها بفكرها الغريب عن الطبيعة المصرية، ومن الغريب أن هذه الدولة السعودية التى تعتبر أقصر عمراً من جريدة الأهرام وشركة عمر أفندى فى القاهرة - تستحوذ على تقديس المصريين بسبب سيادة مفهومها الدينى المخالف للإسلام وسماحته، فالحق يقال أنه إذا كان هناك فرق بين الإسلام والرؤى الفكرية البشرية للإسلام، فإن أقرب الرؤى للإسلام هى الرؤية المصرية الأصيلة المتسامحة، وأبعدها عنه هى الرؤية البدوية المتشددة.
ويبقى الحل فى الرجوع إلى القرآن، نحتكم إليه فى هذه القضية.. وصدق الله العظيم "أفغير الله أبتغى حكماً؟ وهو الذى أنزل إليكم الكتاب مفصلا؟".

الهوامش:
(1) المقريزى: الخطط 1، 90، 2، 55 ط. دار الشعب.
ابن الحاج العيدرى: المدخل 1، 270، دار الحديث.
ابن ظهيرة: 204.
(2) عن تحول القضاة إلى مذاهب مختلفة: اقرأ:
تاريخ ابن إياس: تحقيق محمد مصطفى 1، 2، 52.
ابن الصيرفى: نزهة النفوس والأبدان: 2، 68.
ابن حجر العسقلانى: أنباء العمر 3، 289.
أبو المحاسن: النجوم الزاهرة 13، 39، 40.
(3) أحمد صبحى منصور: شخصية مصر بعد الفتح الإسلامى: 159: 166 ط 1948.
(4) مجرد أمثلة على قطع الطريق على الحجاج من الجزء 14 من المنتظم:
9، 35، 174، 189، 202، 210، 234، 236، 337، 363، 369، 374.
(5) مقدمة ابن خلدون: 125: 127.
(6) المادة العلمية عن الجمعيات الدينية فى مصر مستقاه من: د. محمد عبد العزيز داود: الجمعيات الإسلامية فى مصر. الزهراء للإعلام: 123، 290.
(7) د. محمد أبو الإسعاد: السعودية والإخوان المسلمون: نشر مركز الدراسات والمعلومات القانونية: 27، 41.
(8) جمال البنا: خطابات حسن البنا الشاب إلى أبيه: 62، دار الفكر الإسلامى.
د. محمد أبو الأسعاد: السعودية الإخوان المسلمون 67: 79.
(9) عبد الكريم قاسم سعيد: الإخوان المسلمون والحركة الأصولية فى اليمن.
بحث فى مجلة قضايا فكرية: الأصوليات الإسلامية الكتاب 13، 14 أكتوبر 1993. 248: 258.
أمين المهدى: الجزائر بين العسكر والأصوليين: 20. الدار العربية للنشر.
(10) د. أحمد صبحى منصور: حرية الرأى بين الإسلام والمسلمين: بحث منشور فى كتاب المنظمة المصرية لحقوق الإنسان 1994، 81: 87.
(11) تاريخ الخلفاء للسيوطى: تحقيق ابو الفضل إبراهيم: 30: 37، 400، 409، 414، 434، 451، 454.
(12) تاريخ المنتظم لابن الجوزى جـ 6، 132، 291، جـ 7، 155، 85، 90، 136، 188، 197، 204، 218، 219، 227، 268، 279، 284، 291، 319، 323، 327، 80، 168، 150، 125، 119، 117، 109، 98، 97، 171، 172، 173، 186.
(13) تاريخ المنتظم 11، 165، 206.
خطط المقريزى 3، 539.
(14) الصفدى: الوافى بالوفيات: 2، 286: 287.
(15) ابو بكر الجزائرى: منهاج المسلم 537
سيد سابق: فقه السنة 2، 391.
(16) التفاصيل فى كتابنا: حد الردة: دراسة أصولية تاريخية.
(17) الملطى: التنبيه والرد: 47 تحقيق زاهد الكوثرى.
(18) تاريخ الطبرى: 9، 472، 481، والمسعودى: مروج الذهب 4، 146.
(19) أخبار القرامطة فى تاريخ الطبرى: 10، 71، 77، 86، 94، 99، 107، 115، 116، 121، 128، 130، 135، 148، وفى نهاية الأرب للنويرى 25، 195: 227 وما بعدها.

 

 

 

 

 

 
 

 

 

  

تحذير المسلمين من خلط السياسة بالدين
بدأت كتابة مقال عن (الحلف بالله ) جل وعلا ، والكفارة التى يجب أن يدفعها المسلم المؤمن حين يحنث فى الحلف ، ومقارنة بين هذا وإدمان المنافقين على الحلف كذبا ، وتعود المشركين على القسم بالله جهد أيمانهم ثم يحنثون ، ولا وجود للكفارة بشأنهم لأنهم خارجون عن الاسلام أصلا. تشعب المقال الى عدة مقالات ، ثم تواصل التشعب ليصل الى 17 مقالا فى فضح الاخوان المسلمين والسلفيين الوهابيين وكل من يخلط السياسة بالدين . وحافظت فى سلسلة المقالات على البدء بالعنوان الأصلى ( الحلف كذبا ) ثم وضع عنوان خاص لكل مقال طبقا لموضوعه . كان المفترض أن تكون من المقالات الأولى مقال يوضح تحريم استغلال اسم الله فى الحصول على حطام دنيوى . ولكن لما
more


فيديو مختار