رقم ( 1 ) : الكتاب كله
التفريق بين الرسل والتفضيل بينهم وشهادة الاسلام الواحدة

التفريق بين الرسل والتفضيل بينهم وشهادة الاسلام الواحدة

 

تقديم

1 ـ ينتابنى الرعب حين أقرأ مؤلفاتى القديمة والتى كتبتها حين كنت فى جامعة الأزهر. كنت لا أرى بأسا من الاستشهاد بأحاديث أراها تتفق مع القرآن الكريم ، وكنت غافلا عن قوله جل وعلا : (أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّـهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ۖفَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴿١٨٥﴾ الاعراف ) (  فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴿٥٠﴾) (  تِلْكَ آيَاتُ اللَّـهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّـهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴿٦﴾ الجاثية )(  وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ۚ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴿٦﴾ لقمان ) .

2 ـ بعدها كانت نقلة فى التفكير وفى الدين ، بدأت الاحتكام الى القرآن الكريم فى السنة كلها ونشرت ( القرآن وكفى ) و ( الاسناد فى الحديث ) و( التأويل ) و ( حد الردة ) و ( عذاب القبر والثعبان ).

3 ـ ولكن كنت أيضا غافلا عن الاحتكام للقرآن الكريم فيما فعله الصحابة و ( الخلفاء الراشدون ) بعد موت خاتم النبيين ، رجعت الى القرآن بعد دراسة جادة لتاريخ الخلفاء ( الراشدين ) فايقنت أنهم الخلفاء الفاسقون . وكالعادة فكل ما أعتنقه أبادر بنشره . وفى خضم هذا التحول والمعايشة القرآنية أيقنت أن من الكفر جعل شهادة الاسلام الواحدة ( لا إله إلا الله ) شهادتين ، وكنت قد تركت جامعة الأزهر  بسبب إنكار الشفاعة وتتفضيل النبى محمد عمّن سبقه من الأنبياء وإنكار عصمته الشخصية ، لذا كان لا بد من إكتمال الأمر برفض أن تكون شهادة الاسلام شهادتين لأنه تعنى التفريق بين الرسل وتفضيل خاتم النبيين عمّن سبقه من الأنبياء عليهم جميعا السلام. أشرت الى شهادة الاسلام الواحدة فى مقال عن التقوى فثار جدل فى الموقع ترتب عليه مقالات لاحقة. رأيت أن انشرها فى كتاب ، ونسيت الموضوع ثم تذكرته ، والآن أنشر هذا الكتاب بالمقدمة التى كتبتها يومئذ .

والله جل وعلا هو المستعان.

أحمد صبحى منصور

فى 22 نوفمبر 2018  

 

المقال الاول:

(لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ)

 

بقلم: آحمد صبحي منصور 

تاريخ النشر: 2008-11-09

 

أمر الله جل وعلا المسلمين أن يقولوا (لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ).. فقال المحمديون (سمعنا وعصينا )

 

مقدمة

1 ـ دارت مناقشات حامية فى موقعنا (اهل القرآن ) بعد نشر مقال (التقوى جوهر الاسلام ). النقاش انصب حول مقدمة المقال وعنوانها (التقوى نقطة الفصل بين الاسلام والمحمديين) وخاصة قولى فيها :( فشهادة الاسلام واحدة وليست إثنتين ، فهى شهادة أنه لا اله الا الله فقط. ومن شهد بهذا فقد آمن بكل الأنبياء دون أن يفرق بينهم ، أو أن يرفع واحدا من بينهم فوق الآخرين. حين يضاف الشهادة بمحمد رسولا فهنا تفضيل له على غيره من الأنبياء وتمييز له عنهم ، وهذا كفر بالاسلام وفقا لما أكده الله تعالى فى القرآن ( البقرة 136 ، 285 ) (آل عمران 84) (النساء 150 : 152) (الأحقاف 9). ولكن العقيدة الأساسية لديهم إنهم أمة محمد،وأن محمدا هو سيد المرسلين ، وهذا تأليه للنبى محمد يؤكده قيامهم بالحج الى قبره و الصلاة اليه بزعم الصلاة عليه ووضع اسمه الى جانب اسم الله تعالى فى المساجد وفى الأذان للصلاة قبل الصلاة و فى التحيات أثناء الصلاة ،وفى صلاة ركعات السنة له بعد الصلاة، وفى قراءة الفاتحة له ، وفى الاعتقاد الجازم فى شفاعته كأنه المالك ليوم الدين . وكل ذلك كفر عقيدى بالاسلام.)

اعترض بعض الأحبة واتهمنى بتكفير أغلبية المسلمين ، متخذا من وجود أكثرية حجة على كلام الله جل وعلا ، مع أن الله تعالى يؤكد أن الأكثرية دائما ضد الحق ، وأن النبى محمدا عليه السلام لو أطاعها فستضله عن سبيل الله.( الأنعام 112 : 116 ) .

2 ـ ولقد قلت إنه ( كفر عقيدى ) وليس بالكفر السلوكى الذى يعنى الاعتداء. وقد سبق توضيح أن الاسلام فى العقيدة هو التسليم والاعتقاد فى الله تعالى وحده الاها لا شريك له، وفى معناه السلوكى هو السلام و المسالمة ، فكل من كان مسالما فهو مسلم حسب سلوكه ، ينطبق هذا على الأغلبية الساحقة من البشر غير الارهابيين سواء كانوا من المسلمين أوالمسيحيين أو البوذيين أو الاسرائيليين لأن الارهابى كافر بسلوكه مهما كان انتماؤه وشعاراته ، ولا دخل لنا بمعتقده لأن حساب العقائد عند رب العزة يوم القيامة ، فمن مات مشركا استحق الخلود فى النار مهما كان الشعار الذى يرفعه فى الدنيا، يقول جل وعلا (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) ( المائدة 72 ) .

ورغبة فى اصلاح عقائد المسلمين بالقرآن الكريم ،وخوفا عليهم من الخلود فى النار وتضييع أعمالهم الصالحة فلا بد من عرض تلك العقائد على القرآن الكريم .

وأعلم ان الدخول فى هذا المجال سيجلب غضب الكثيرين من الأحبة ، وسيجلب المزيد من الاضطهاد لى ولأسرتى التى يؤاخذها المجرمون بماليس لهم فيه دخل ، ولكن كتم الحق يعنى لعنة الله والملائكة و الناس اجمعين( البقرة 159 ـ ) . ولهذا أقول الحق القرآنى ولا أفرضه على أحد ، وبعدها فلكل إنسان حرية الاختيار .. وسنلتقى أمام الواحد القهار يوم القيامة ليحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون .

3 ـ إن الكفر العقيدى أوالشرك فى العقيدة يبدأ عند البشر بتمييز نبى على غيره من الأنبياء ورفعه فوقهم توطئة لتأليهه ،ثم يتلوه تقديس وتأليه أصحاب ذلك النبى وحوارييه، ثم تتسع دائرة التقديس والتأليه (للصالحين ) لتصل الى التبرك بالمتخلفين عقليا كالمجاذيب . ويتجسد التقديس القلبى أوالشرك القلبى أوالكفر القلبى فى عبادات عملية تتمثل فى التبرك والتوسل بأحجار القبور المنسوبة لأولئك الأشخاص و بالحج اليهم وتقديم القرابين لسدنة تلك المعابد .

وهذا المرض لم ينج منه المسلمون مع وجود القرآن الكريم معهم ، فمع تكرار قولهم شفهيا ( لا اله إلا الله ) إلا إن حياتهم الدينية متخمة بتقديس وعبادة القبور ، وأهمها القبر المنسوب للنبى محمد عليه السلام.

ويبدأ تناقضهم مع الاسلام باضافة اسم النبى محمد الى الله تعالى فى الشهادة ، أى بتمييزه عن الرسل ، والتفريق بينه وبين الرسل ، وتحويل شهادة التوحيد من شهادة واحدة الى شهادتين ، ثم التوسع كيفا بجعل النبى محمد شريكا لله تعالى فى الأذان و الصلاة والحج ،مع التوسع فى (الكم ) بتقديس غير النبى من الصحابة والأئمة والأولياء ، وقيام عبادات عملية كالحج الى قبورهم وتقديم القرابين لهم.

ولأن الشرك يبدأ بتقديس النبى فلا بد من بدء العلاج بمواجهة أول خطوة فى عقائد الشرك وهى رفع النبى محمد عليه السلام فوق مستوى الرسل بالتفرقة بينه وبين الرسل . وقد أكّد رب العزة مقدما ـ ومرارا ـ على النهى عنها و التحذير منها ، وجعلها إختبارا حيا وعمليا لصحة العقيدة ، فالمؤمن الحق يقول ( سمعنا وأطعنا ) أما المحمدى فلسان حاله يقول ( سمعنا وعصينا ). وذلك المحمدى يجعل نفسه عدوا لمحمد ولعقيدته (لا اله إلا الله ) التى عاش من أجلها مجاهدا رسول الله عليه السلام .

4 ـ وجاء ضمن ردى عليهم : (أننى لا أكفّر أشخاصا وانما معتقدات تخالف القرآن الكريم ، وهذا بهدف الوعظ والتحذير وليس التكفير ، وكررت حتى مللت من التكرار حق كل انسان فى معتقده طالما لا يفرضه على الغير ، ) وهانذا أؤكد مجددا أنه ليس القصد فى كل ما أكتب تكفير أحد ، وانما توضيح حقائق الاسلام المنسية فى القرآن الكريم أملا فى هداية المسلمين من عذاب يوم الدين.

كما أننى أخاطب الأحياء وليس الأموات الذين تحددت مصائرهم حسب ما قدموه من ايمان وعمل ، وعلم ذلك عند الله تعالى وحده .أخاطب الأحياء ،ولديهم متسع من الوقت للتفكير ، وكل ما أطلبه أن يخلو كل انسان الى ضميره ويقرأ بموضوعية وتعقل ، ويختار ما يشاء لنفسه ، لأن كل انسان مسئول عن نفسه وعن مستقبله يوم الدين .

وأعترف أنها مشكلة حقيقية . فمن يعمل فى إصلاح المسلمين بالقرآن الكريم لا بد أن يستشهد بالقرآن الكريم الذى أوضح كل معالم الشرك وتناقضها مع حقائق الاسلام . ومشكلة الاصلاح فى أن كل ما حذر منه رب العزة فى تفصيلاته لعقائد المشركين قد وقع فيها (المسلمون )، وبالتالى فإن أمانة البحث تستوجب توضيح هذا التناقض بين حقائق الاسلام فى القرآن الكريم والمعتقدات السائدة لدى المسلمين بهدف الاصلاح والتذكير والتحذير وليس للتكفير والتحقير.

5 ـ وقد سبق معالجة هذا الموضوع فى كتابى ( الأنبياء فى القرآن الكريم ) الذى قررته ـ مع أربعة كتب أخرى ـ على طلبتى فى جامعة الأزهر عام 1985 ، وبسب تلك الكتب صدرت قرارات رئيس الجامعة فى 5/5 / 1985 بوقفى عن العمل ومصادرة مستحقاتى المالية ومنعى من الترقية لآستاذ مساعد ومنعنى من السفر وإحالتى للتحقيق الذى تولاه وقتها د. محمد سيد طنطاوى عميد كلية أصول الدين فى أسيوط. وبسبب تصميمى على ما كتبت صدر قرار الاتهام رسميا باحالتى لمجلس التأديب متهما بانكار شفاعة النبى محمد وانكار عصمته ( المطلقة ) وأنكار تفضيله على الأنبياء.

وكانت التهمة الأخيرة بسبب بحث (التفضيل بين الأنبياء )فى كتاب ( الأنبياء فى القرآن الكريم) والذى أثبت أن تفضيل المسلمين للنبى محمد على غيره من الرسل يتناقض مع الاسلام .

وبعد مرور 23 عاما أنشر ذلك البحث مع تفصيل استلزم أن أكتبه فى ثلاثة مقالات بحثية، أولها هذا المقال الذى يناقش قضية التفريق بين رسل الله ، ثم يناقش المقال الثانى قضية التفضيل بين الرسل ، ونختم بالمقال الثالث عن شهادة الاسلام :هل هى واحدة أم أكثر.

والله جل وعلا هو المستعان..

 

المقال الأول :

قضية التفريق بين الرسل:

 

أولا: (لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ)(البقرة 285)

1 ـ الايمان بالرسول هو الايمان بما أنزل الله تعالى عليه وعلى كل الرسل ، أى ليس ايمانا بشخص الرسول واسمه ولكن بما أنزله الله تعالى على ذلك الرسول أى الرسالة أو الكتاب السماوى.

ولأن ما أنزله الله تعالى على أى رسول هو نفس الجوهر الذى نزل على كل رسول مع اختلاف اللغات والزمان والمكان، فان الايمان الحقيقى بالرسل يعنى أن تؤمن بهم جميعا دون ان تفرق بين احد منهم.

ولأن الخروج عن ذلك مدخل للشرك فان الله تعالى ألزم المؤمنين ان يقولوا: سمعنا وأطعنا فى عدم التفريق بين الرسل ،ومن لم يقلها باقتناع يكون كافرا عاصيا. وهو إختبار يعرف به كل مسلم حقيقة عقيدته ،وهو بصير على نفسه (بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)(القيامة 14: 15). قد يعترف فى نفسه بأنه فعلا يفرّق بين الرسل ويتمسك بذلك ، وقد يعترف بالخطأ ويصلح عقيدته ، وهذا فى إطار الممكن الذى يقدر عليه ، وقد يتمسك بعقيدة التفريق بين الرسل ويحاول ان يتعسف لها تأويلا فى القرآن الكريم ليضل الآخرين. وكل إنسان وما يختاره لنفسه ، وهو على نفسه بصيره مهما تحجج بالأعذار .

2 ـ ولمزيد من التوضيح نتوقف بالتدبر مع قوله تعالى : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ )( البقرة 285 ـ ).

(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ) أى أن الرسول نفسه آمن ـ ليس بشخصه ونفسه ولكن ـ بما أنزله الله تعالى عليه فى الكتاب السماوى. وبنفس الايمان ونوعيته آمن المؤمنون :(وَالْمُؤْمِنُونَ ) أى آمن المؤمنون بما أنزله الله تعالى على الرسول ، وليس ايمانهم متعلقا بشخص الرسول واسمه وتاريخه . كان ممكنا الاكتفاء بهذا التوضيح فى معنى الايمان بالرسل يعنى الرسالة ،ولكن يأتى التأكيد والمزيد من التوضيح بأن الايمان بالرسل يتضمن الآتى :

(ا )( كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) أى الايمان بالله جل وعلا وملائكته وكتبه ورسله، وقوله تعالى (كُلٌّ ) تشمل كل الرسل وكل المؤمنين حق الايمان، أىكلهم آمنوا بالله جل وعلا وملائكته وكتبه ورسله.

وهنا سؤال : هل الايمان بالله جل وعلا وملائكته وكتبه ورسله هو ايمان متعدد ؟ أى هل هو ايمان بالله جل وعلا الاها وحده ؟أم ايمان متعدد بكيانات مستقلة مع الله تعالى؟ أى هل يكون الايمان بالملائكة والكتب السماوية والرسل منفصلا عن الايمان بالله جل وعلا؟

الاجابة واضحه فى أنه الايمان بالله تعالى وحده الاها نزلت به الملائكة فى الوحى الذى جاء كتابا سماويا على كل الرسل ، ولذلك جاء التعبير ينسب الملائكة والكتب السماوية والرسل لله تعالى كأدوات له جل وعلا فى توصيل الرسالة للبشر، فيقول جل وعلا (كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ) فالملائكة والكتب والرسل جاءت مضافة الى ضمير يرجع الى رب العزة باعتبار أنه جل وعلا يملكهم جميعا فى أنهم أدواته فى تبليغ رسالة (لا اله إلا الله ) للبشر.

وحتى لا يقع أحد فى تفضيل أداة على أخرى وبالتالى رفعها الى مستوى الله تعالى المالك لكل هذه الأدوات قال تعالى أن من ضرورات الايمان قول الرسول والمؤمنين معه:(لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) وكلمة رسله بالعموم وبرجوع الضمير (رسله ) الى الله تعالى مما يؤكد تحريم التفريق بينهم ، فكلهم داخل فى كلمة (رسله ) دون تمييز لأحد منهم بالاسم أو الشخص .

وحتى يؤكد رب العزة أنها قضية ايمان أو كفر أوجب فيها اعلان السمع والطاعة فقال بعدها " (وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) والسمع والطاعة ليس مجرد كلمة تقال ، بل هو عهد وموقف ، على أساسه سيتحدد موقفك أنت يوم القيامة بين الجنة أو النار.

فالايمان بالله تعالى هو الأصل وهو الذى يتبعه ويدخل فيه الايمان بملائكته وكتبه ورسله ، وهو شرح لمعنى الايمان بالرسالة ،أو ايمان الرسول بما أنزل اليه من ربه ، فذلك الذى (أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ) نزلت به الملائكة وتحدث فيه رب العزة عن الملائكة ، وهذا الذى (أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) هو الكتاب السماوى، أى إن الايمان هنا فى حقيقته ايمان بالواحد الأحد كما جاء فى كل رسالة سماوية.

وحتى لا يكون هناك أدنى شك فأن التعبير بالايجاب والاثبات فى (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ) لا بد أن يتبعه تأكيد آخر بالنفى وهو قوله تعالى (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ )،وهو اسلوب القصر المتبع فى عقيدة الاسلام ،أى الايمان بالله تعالى وحده والكفر بما عداه ، وشهادة الاسلام ( لا اله إلا الله ) تبدأ بنفى أى اله والكفر بأى اله ( لا اله ) وتنتهى بالاستثناء ( إلا الله ) . ونفس الحال هنا فى الآية الكريمة ؛ تبدأ باثبات حقيقة الايمان بالرسل وهو انه ايمان بالرسالة وما تحتويه وجوهرها (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) ثم تؤكد هذا الاثبات بالنفى الذى لا بد ان يعلنه المؤمنون ، وهو أن يقولوا (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ )

(ب ) (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ): إذن عدم التفريق بين الرسل هنا هو الوجه الآخر للعملة فى عقيدة الاسلام ،فيجب أن يكون الايمان بكل الرسل جميعا بلا تفرقة وبلا تمييز لرسول على آخر وبدون ذكر لاسم رسول دون الآخر لأن الايمان هو بالرسالة وما أنزل الله جل وعلا ،وليس بشخص الرسول . ولأنها قضية ايمان وكفر فقد جاءت فى مفتتح سورة (محمد ) : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ) فلم يقل ( آمنوا بمحمد ) ولكن قال (وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ). ولأنها أساس العقيدة وتعنى الايمان أو الكفر فلا بد فيها من الاقرار وإعلان الشهادة والتسليم بها سمعا وطاعة ، نطقا باللسان و إذعانا بالجنان ، لذا تأتى المرحلة التالية :

(ج ) (وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أى إعلان الطاعة والالتزام بعدم التفريق بأن يقول المؤمن (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) وأن يستغفر الله جل وعلا عما كان يقع فيه من قبل من تفريق بين الرسل بأن يقول (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).

(د ) (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) هذا التكليف العقيدى بعدم التفريق بين رسل الله عليهم السلام يقع فى نطاق الممكن المستطاع، وكل انسان يستطيع بعقله المجرد أن يرفض وضع أى إنسان مخلوق الى جانب الخالق .

وكل مؤمن قارىء للقرآن يعرف أن الله جل وعلا قد أمر خاتم الأنبياء أن يعلن أنه بشر مثلنا مع أنه يوحى اليه ، وأن من كان يرجو النجاة يوم القيامة فعليه أن يعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ( الكهف 110 ) فهل يصح أن نجعله هو عليه السلام شريكا مع الله جل وعلا؟. والمؤمن القارىء للقرآن يعلم أن الله جل وعلا قد أمر رسوله محمدا عليه السلام بأن يعلن أنه متبع لملة ابراهيم حنيفا , وإنه أول المسلمين بمعنى إنه أول الناس خضوعا للرحمن فقد أسلم لله رب العالمين صلاته ونسكه وحياه ومماته ، وأنه لا رب له سوى رب العالمين ( الأنعام 161 ـ ) فهل يصح بعدها أن نتجاهل عبوديته لله تعالى وأن نعتقد العكس فنجعله قرينا لله تعالى فى شهادة الاسلام وفى الصلاة و الحج والذكر و الأذان ؟.

العقل السليم يرفض جعل محمد عليه السلام الذى كان متبعا لملة ابراهيم متميزا على ابراهيم وكل من سبق من الأنبياء، ليس فقط لأن الله تعالى هو الذى نهى عن ذلك ، ولكن أيضا لأن العقل السليم يقرّ بجهله بالغيب ، ويدخل ضمن الغيب أحوال الأنبياء السابقين ـ بل وعددهم ـ وما حققوه من منزلة عند الله. وبالتالى فالعقل السليم لا يخوض فيما لا يعرف ، ثم إذا اهتدى هذا العقل بالقرآن فلا بد أن يقول سمعنا وأطعنا ، ولا يمكن أن يقول سمعنا وعصينا.

وبالتالى فان الأمر بعدم التفريق بين الرسل هو فى وسع النفس البشرية ، فلم يكلفها الله جل وعلا فوق طاقتها ، ، وعليه فلو التزم المؤمن بهذا الذى يستطيع فعله فإن من حقه أن يدعو الله جل وعلا بألا يؤاخذه على ما سلف من خطأ أو نسيان:(لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ).

3 ـ ونتساءل : إذا كان تنفيذالأمر فى قوله تعالى (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) فى مقدور الانسان فلماذا تقع أغلبية البشر فى تقديس وعبادة الأنبياء ؟ الجواب فى كلمة واحدة هى ( الهوى ). الهوى نقيض العقل ، وهو الذى يغيب العقل ،بل هو الذى يجعل العالم بالدين يستخدم ذكاءه المعرفى فى تأويل وتغييب الحق الذى أنزله الله تعالى ليضل الناس بما أوتى من علم ، وفيه يقول رب العزة (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(الجاثية 23 ). فذلك شخص أوتى العلم والمعرفة ولكن اتبع هواه فاستخدم علمه فى الاضلال فزاده الله تعالى ضلالا على ضلال .. ويسألنا ربنا جل وعلا (أَفَلا تَذَكَّرُونَ ؟ ) وهو تساؤل يجرى مع كل زمان ومكان وفوق الزمان والمكان لأن أولئك ( العلماء ) هم فى كل زمان ومكان سدنة الديانات الأرضية التى تنشأ على أنقاض الدين السماوى، وقام ويقوم أولئك ( العلماء ) بتحريف وتشويه وتأويل الحق الالهى اتباعا للهوى ،والهوى ( يهوى )المال والجاه ، ولا (يهوى) الاضطهاد الذى يصاحب من يعلن الحق ويتمسك به فى وجه الأغلبية التى تتبع الباطل المتوارث مما وجدت عليه آباءها . ولمزيد من التأكيد ندعو لتدبر قوله تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ ) ( الأعراف 175 ـ )

ثانيا :( لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ( البقرة 136 )

التفريق بين الرسل هو بداية التأليه للرسول الذى يميزه الناس على غيره من الرسل ،وهو أيضا هدم للدين الالهى الواحد الذى نزلت به كل الرسالات السماوية بمختلف اللغات، والذى يعنى باللغة العربية (الاسلام ) أى الاستسلام لله تعالى وحده الاها لا شريك له فى العقيدة والعبادة والسلام مع الناس فى السلوك والأخلاق.التفريق بين الرسل يعنى الخروج من هذا الدين العالمى الالهى الواحد والدخول فى أديان أرضية متفرقة مختلفة متنازعة تحت أسماء مختلفة .وهذا ما حدث فى الرسالات السماوية التى حملت الاسلام قبل نزول القرآن الكريم.

وحين نزل القرآن الكريم على محمد خاتم الأنبياء الذى ينتمى الى ذرية اسماعيل بن ابراهيم عليهم جميعا السلام ، كان أهل الكتاب وقتها قد أهملوا اسم الاسلام ،واتبعوا أسماء جديدة، وثار الجدل بين المسلمين وأهل الكتاب حول إسم الاسلام وحول الأنبياء السابقين من ابراهيم واسحاق ويعقوب هل كانوا مسلمين أم كانوا هودا أو نصارى طبقا للمسميات المستحدثة عند أهل الكتاب بعد إهمال وتضييع اسم الاسلام ؟. وفى الرد عليهم أكّد رب العزة أن ابراهيم أسلم لرب العالمين ، وأن ابراهيم ثم يعقوب أوصى كل منهما بنيه بالتمسك بدين الاسلام ، ثم ذكر رب العزة قول اليهود والنصارى للمسلمين فى عهد نزول القرآن وردّ عليهم : (وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ( البقرة 135 ).

بعدها قال جل وعلا ::(قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(البقرة 136 ).كلمة (قُولُوا ) مأموربها المسلمون ، ومقصود بها أهل الكتاب أيضا .

(قُولُوا ) بالنسبة لأهل الكتاب هى توجيه نفس الدعوة لهم بالايمان بكل ما أنزل الله جل وعلا فى الكتب السماوية السابقة التى نزلت على ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى وكل الأنبياء ، مع عدم التفريق بين أحد من الرسل ، وأن يسلموا لله جل وعلا وحده قلوبهم وعقيدتهم وعبادتهم. ليس هنا إيمان بشخص أى نبى و لكن بما نزل عليه ، فكل مسلم مأمور بالايمان بكل الكتب السماوية ومنهى عن التفرقة بين الرسل ،

(قُولُوا) بالنسبة للمسلمين تعنى أن الله جل وعلا أمرهم بأن يعلنوا لأهل الكتاب أنهم يؤمنون بكل ما أنزل على الأنبياء السابقين دون تفرقة بينهم ، وأنهم لله جل وعلا مسلمون ، وبالتالى يجب أن نكون دعاة لأهل الكتاب نأمرهم بعدم التفريق بين الله والرسل ، وننصحهم ـ مثلا ـ ألا يرفعوا عيسى فوق الأنبياء، وألاّ يفاضلوا بينهم . والملاحظ ختم الاية بأن يقول المسلمون وأهل الكتاب: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فالاسلام من معانيه ومستلزماته عدم التفريق بين رسل الله ليسلم المسلم نفسه لله تعالى وحده، وهذا ما كان عليه المسلمون فى عهد النبى محمد عليه السلام .

ولكن من دخل فى الاسلام من أبناء أهل الكتاب تابعوا أسلافهم فى موضوع التفريق بين الرسل ، بأن ميّزوا خاتم النبيين على من سبقه من الرسل ،أى إن أولئك المسلمين ـ بدلا من اصلاح معاصريهم من أهل الكتاب ـ تابعوهم فى نفس الخطأ ورفعوا محمدا فوق الأنبياء، وبعد أن كانوا مسلمين لله وحده أصبحوا (محمديين) فى مواجهة (المسيحيين)، إذ أضاف المحمديون لمحمد نفس ما أضافه المسيحيون للمسيح ، مع بعض اختلافات شكلية لفظية لا محل للتوسع فيها الآن.

وإذا كان المسيحيون قد اختلفوا فى طبيعة المسيح الى أديان أرضية مختلفة فان المحمديين بعد اتفاقهم على رفع محمد فوق السابقين من الأنبياء مالبث أن أختلفوا حول أصحاب محمد الى سنة وشيعة ، وكان ممكنا أن يظل هذا الاختلاف محصورا داخل دائرة الفكر والفلسفة ،أى مجرد فكر بشرى منسوب لأصحابه ، ولكن المسلمين نسبوا أفكارهم للنبى محمد ولله تعالى فى شكل أحاديث بزعم أنها وحى الاهى ، وبذلك أقاموا أديانا أرضية بوحى مزور يخالف القرآن الكريم ، ويزعم أن النبى محمدا قال ( أنا خير ولد آدم ولا فخر ) و ( فضّلت على الأنبياء بسبع ..) ( كنت نبيا وآدم بين الماء و الطين ) و( كنت نبيا وآدم لا ماء ولا طين ) ( أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر) ...الخ ..وأصبح من افتتاحيات الخطب و المقالات إفراد محمد وحده بالشهادة مع الله و بالصلاة عليه والتسليم ، ووصفه بأنه (اشرف المرسلين ) و( سيد الأنبياء والمرسلين ).و( سيد الكونين ).الخ .

إنقسم المسلمون كما انقسم أهل الكتاب ، وهم يتنافسون حتى الآن فيما بينهم ،أى يتنافس المحمديون مع المسيحيين ، وفى كل ذلك جعلوا الأنبياء لعبة للتنافس والتعصب ، كل فريق يوالى نبيا ويرفعه فوق الآخرين ـ أى يفرق بين الله تعالى ورسله.

ونعود الى السياق القرآنى فى قوله تعالى (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)( البقرة 136 ) فقد أمر الله جل وعلا المسلمين هنا بأن يدعو أهل الكتاب الى الايمان بكل ما أنزله على كل الرسل ونهاهم عن التفريق بين الرسل ، وأن يسلموا لله جل وعلا قلوبهم .

وغريب أن يقع المسلمون بعدها فى نفس الخطأ ،وهم المأمورون بنصح أهل الكتاب حين فرقوا بين رسل الله، ولكن الأغرب أن الآية التالية تجعل من موضوع "عدم التفريق بين الرسل" قضية ايمانية فارقة يتبين فيها موقع كل انسان ؛إما أن يكون مهتديا أو يكون مشركا فى عقيدته ، وما يتبع الاشراك بالله تعالى من تفرق فى الدين وانقسامات مذهبية وطائفية ، وقع فيها أهل الكتاب ، ووقع فيها المسلمون بعدهم بمجرد أن رفعوا محمدا فوق الأنبياء عليهم جميعا سلام الله تعالى . إقرأ الآية التالية بتمعن وتحسر على تفرق المسلمين منذ أن خالفوا الاسلام ورفعوا محمدا فوق الأنبياء والرسل : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (البقرة 137 ). نحن الآن فى شقاق عقيدى بين السّنة والشيعة والصوفية ، ثم تشعب الشقاق الى انقسامات مذهبية داخل كل طائفة؛ فهناك مذاهب فقهية سنية ، وهناك طوائف مختلفة داخل التشيع ، وهناك طرق متكاثرة داخل التصوف، وفى كل عصرتتزايد الانقسامات , ولكن يبقى أصل الشقاق باقيا لا خلاف حوله لأنه سبب المصائب ، وهو أن الجميع يقدس محمدا ويصلى عليه أو له ـ صلات تقديس ، ويحج الى قبره فى ابتداع فى الدين لم يعرفه النبى محمد فى حياته، بل لم يعرفه عصر الخلفاء الراشدين . لو عاملنا محمدا عليه السلام فى عقائدنا وفقا لأوامر الله تعالى ما وقعنا فى شقاق وخلاف، لأننا سنؤمن بالرسل كلهم سواءا بسواء دون تفريق لأن الايمان سيكون فقط بما أنزل الله جل وعلا عليهم ، بأنه لا اله إلا الله تعالى الواحد القهّار.

 

ثالثا :( لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)

الجدل بين المسلمين وأهل الكتاب المشار اليه آنفا فى سورة البقرة ( 130 : 141 ) فى تأكيد أن الاسلام هو دين ابراهيم قد تكرر في سورة آل عمران ،وفيه يقول تعالى لأهل الكتاب (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِين )( آل عمران 65 ـ ) ويستمر الى ان يقول جل وعلا لهم ليبرىء الأنبياء من أكاذيب التأليه التى ألصقها بهم من جاء بعدهم :(مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ )( آل عمران 79 ) أى لا يصح ولا يجوز ولا ينبغى لرسول من رسل الله أن يدعو الناس الى جعله الاها مع الله ،وهو الذى تتمحور رسالته حول ( لا اله إلا الله) . وبالتالى فليس فى الاسلام تأليه للملائكة و الأنبياء لأن ذلك هو الكفر و الخروج عن الاسلام الذى هو دين الله جل وعلا (وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) ( آل عمران 80 )ثم يقول جل وعلا يؤكد على ان الاسلام ليس فقط دين الله جل وعلا للبشر جميعا بل هو أمره جل وعلا لكل ما خلق من الكائنات التى تخضع لنواميسه فى الكون و الحياة والحركة طوعا أو كرها:(أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)( آل عمران 83 ) .

وإذا كان هذا الدين الاسلامى هو الدين لكل الكون من جمادات و كائنات و مخلوقات وبشر فكيف يبدأ الانحراف عنه وكيف يبدأ الناس بإقامة أديان أرضية على أطلاله ؟

البداية فى جريمة التفريق بين الرسل فيتبعها تقسيم الدين الواحد الى ملل ونحل ، كل ملة ترتفع بالنبى الذى تتبعه فوق الأنبياء الآخرين . ولهذا فان الحل هو الايمان بالرسالات السماوية كلها بلا تفريق بين الرسل ، وهذا ما أمر الله تعالى محمدا رسوله الخاتم لكى يقوله ويعلنه لأهل الكتاب فى سياق هذا الحوار معهم : (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(آل عمران 84 ) هنا يأتى الأمر للنبى محمد نفسه أن يقول نفس ما أمر الله تعالى المسلمين واهل الكتاب بقوله ، وأن ينهاهم عن التفريق بين الرسل :(قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.)(آل عمران 84 ) ونلاحظ هنا تكرار لنفس آية سورة البقرة (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)( البقرة 136 ) وهو تكرار يكاد تتطابق فيه الكلمات ، وهذا التكرار ليس مجرد التاكيد فقط ، ولكن فيه ردا مسبقا على من سيأتى فيما بعد ليرفع محمدا نفسه فوق الأنبياء والرسل ، وهو تأكيد مسبق بأنه اذا كان النبى محمدا مأمورا بهذا فانه يكون عدوا لكل من يخالف هذا الأمر .

ويلاحظ أيضا تكرار قوله تعالى (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) للتأكيد على أن الاسلام من مستلزماته عدم التفريق بين الرسل .

ولمزيد من التأكيد على أن عقيدة الاسلام تأبى التفريق بين الرسل، وأن من يفرق بين الرسل لا يمكن أن يكون عند الله تعالى مسلما قالت الآية التالية : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (آل عمران 84 : 85 ) لأن المسلم الحق عند الله تعالى هو الذى لا يفرق بين الله تعالى ورسله . لماذا ؟

فالايمان بجميع الرسل والأنبياء بلا استثناء وعدم تفضيل بعضهم على بعض هو جوهر الاسلام. لأن الاسلام هو أن تسلم وجهك وقلبك لله تعالى وحده بدون شريك، فاذا جعلت رسولا مميزا فوق بقية الرسل والأنبياء فلا بد أن تأخذ مساحة من التقديس القلبى الواجب لله تعالى وحده وتعطيه للنبى المفضل لديك ، أى تجعل التقديس شركة بينه وبين الله تعالى ، وهذا هو الشرك. ثم لا تلبث ان تعطيه فى قلبك وعقيدتك شيئا من قدرة الله تعالى ، فتجعله حيا بعد موته فى الدنيا و شفيعا فى الآخرة ، ومن ثم تلوذ به وتتمسح بالجاه المزعزم الذى أضفته اليه، وهذا ما تدور عليه حياتنا الدينية ، نعتقد فى " جاه النبى" وأنه "حىّ فى قبره " تعرض عليه أعمالنا ليراجعها ويتشفع فيها مقدما ، ثم له الشفاعة يوم القيامة حيث يكون هو مالك يوم الدين ، اذا أمر الله تعالى بدخول احدهم الى النار فان شفاعته تردّ أمر الله تعالى كما لوكان رب العزة يبدل القول ويتراجع فيه !! ولذلك لا بد أن تصلى للنبى محمد وأن تحج الى قبره حتى تضمن شفاعته لأنه شريك لله تعالى فى الملك، بل اننا حين نقول كلمة " النبى " فلا تعنى عندنا الا محمدا فقط ، وبقية الأنبياء لا وجود لهم فى بؤرة الشعور لدينا. بهذا يضيع الاسلام ، اى اسلام الانسان قلبه وعقله وجوارحه ووجهه لله تعالى وحده ، وهذا ما يؤكده واقع الحياة الدينية لمعظم المسلمين الذين أسلموا عقولهم وقلوبهم الى محمد وليس لله تعالى، ويتوسلون (بجاه النبى) وليس فى بؤرة الشعور عندهم فى معنى النبى و الرسول سوى محمد ، لذلك فقد صدق الغرب حين سماهم ( محمديون ).

العادة فى الشرك أن يتكاثر ؛يبدأ بتأليه النبى ، ثم يمتد الى أهله ، واصحابه ، وهنا يقع الاختلاف بين من نؤثره من الأهل والأصحاب والأصدقاء، وهنا يختلفون كما فعل السّنة والشيعة ، ويبرز فى كل طائفة علماء وكهنة وأحبار يدعمون الخلافات بأحاديث كاذبة وافتراءات منسوبة لله تعالى ورسوله عليه السلام ، وتقوم كل طائفة بتقديس أحبارها ورهبانه وأئمتها وشيوخها الى درجة أن يرفعوهم فوق رب العزة جل وعلا ، ويصبح كلامهم متحكما فى كلام الله تعالى فى القرآن الكريم ،وعلى سبيل المثال فاننا حين نناقش أحاديث البخارى التى تؤله النبى محمدا وحتى تلك التى تطعن فيه تجد الأغلبية تدافع عن البخارى بالسليقة مع وضوح الطعن فى الاسلام ونبى الاسلام عليه السلام، أى تتكاثر الآلهة، فلا يصبح من تقديس باق لله تعالى الا اقل القليل

إن التقديس كله يجب أن يكون لله تعالى وحده فى كل قلب مؤمن مسلم ، فاذا أخذت جزءا من هذا التقديس وجعلته لبشر فأنت لم تقدر الله جل وعلا حق قدره ، بل جعلت ذلك البشر شريكا مع الله تعالى فى التقديس والعبادة، ولا يستطيع كل البشر المقدسين أن يخلقوا ذبابة واحدة ، ولو اجتمعوا لذلك (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ( الحج 74 ).

وكل التفصيلات السابقة أوجزها رب العزة فى الآيات التالية من سورة النساء .

رابعا : تكفير من يفرق بين الرسل :(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) النساء 150 : 152 ):

بالتدبر فى الآيات الكريمة يتضح الآتى :

1 ـ هنا قسمة قاطعة بين الايمان والكفر فى موضوع التفريق بين الرسل .فالمؤمنون هم (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) ويقابلهم الكافرون وهم (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا )

2 ـ أى أن التفريق بين الرسل يعنى التفريق بين الله ورسله ، ولهذا جاء وصف المؤمنين بأنهم (وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ) يعنى عكس ما يرتكبه (الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ).

وسبق أن قلنا ( الايمان بالله تعالى وحده الاها نزلت به الملائكة فى الوحى الذى جاء كتابا سماويا على كل الرسل ، ولذلك جاء التعبير ينسب الملائكة والكتب السماوية والرسل لله تعالى كأدوات له جل وعلا فى توصيل الرسالة للبشر، فيقول جل وعلا (كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ) فالملائكة والكتب والرسل جاءت مضافة الى ضمير يرجع الى رب العزة باعتبار أنه جل وعلا يملكهم جميعا فى أنهم أدواته فى تبليغ رسالة (لا اله إلا الله ) للبشر.

وحتى لا يقع أحد فى تفضيل أداة على أخرى وبالتالى رفعها الى مستوى الله تعالى المالك لكل هذه الأدوات قال تعالى أن من ضرورات الايمان قول الرسول والمؤمنين معه:(لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) وكلمة رسله بالعموم وبرجوع الضمير (رسله ) الى الله تعالى مما يؤكد تحريم التفريق بينهم ، فكلهم داخل فى كلمة (رسله ) دون تمييز لأحد منهم بالاسم أو الشخص )

3 ـ وقد تكرر من قبل وصف المؤمنين المسلمين الحقيقيين (....... لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)( البقرة 285 ) أى أمرهم الله تعالى بعدم التفريق فقالوا (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا). و(سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) تعنى التسليم والطاعة أى الاسلام لله تعالى وحده دليلا على عدم التفريق بين الرسل لذا قالوا فى الآية الأخرى (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) لتساوى (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) ، كما جاء فى ( لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) ( البقرة 136 ) و: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) ( آل عمران 84 ).

وعليه فان عدم التفريق بين الرسل هو الاسلام ، وعكسه التفريق بينهم الذى يكون كفرا ، كما جاء فى سورة النساء (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ)( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ )

4 ـ بل إن الكافرين هنا هم كافرون حقا ، وهذا وصف الله تعالى لهم (أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا) وينتظرهم عذاب هائل يوم القيامة (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ). ويلاحظ أنها المرة الوحيدة فى القرآن الكريم كله أن يوصف ملمح من ملامح الكفر بأن أصحابه من الكافرين حقا (أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ) .

5 ـ من معانى التفريق بين الرسل : الكفر بالله ورسله،والقول بالايمان ببعض الرسل والكفر ببعض ، والبحث عن تأويل فاسد يحقق لهم مرادهم ، وهذا ما جاء فى قوله تعالى :(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا) .والخطاب هنا للمستقبل ،اى بعد نزول القرآن الكريم الى قيام الساعة ، وهو مختلف عن الخطاب فى الآيات السابقة التى جاء الخطاب فيها بالماضى فى آية (285 ) فى البقرة إخبارا عن ايمان الرسول و المؤمنين وقولهم بعدم التفريق بين الرسل وأنهم سمعوا وأطاعوا ، وهو أيضا مختلف عن أيتى سورة البقرة (136 ) وآل عمران ( 84 ) حيث أمر الله تعالى الرسول و المؤمنين بأن يقولوا لأهل الكتاب (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) .

جاءت آيات سورة النساء ( 150 : 152 ) لتتكلم بالمضارع توجه الخطاب لمن سيأتى بعد نزول القرآن الكريم ،فلا تقول (الذين كفروا ) عن الماضين والسابقين بل (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ) أى تجعلها حكما عاما مؤكدا ( بإن )وساريا فوق ما سيأتى من الزمان على كل من (يكفر ). بل أكثر من هذا تجعل من الارادة القلبية جريمة ، وهى جريمة عند الله تعالى لأنها تتعلق بالشرك العقيدى و الكفر العقيدى ، فالآية الكريمة تجعل من الجرائم العقيدية أنهم (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ ) فهنا عقاب على مجرد (الارادة) ، لأن تلك الارادة هى التى تحرك صاحبها لأن يقول ولأن يفعل ، أى لأن يقول صراحة أو ضمنا (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ) ويفعل أى يقوم بتأويل الآيات ليتخذ منها سبيلا لاقناع الناس بأن فلانا من الرسل أفضل من غيره.( وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا).

إن الايمان الحق هو كما قال رب العزة (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) فالايمان بالله تعالى هو الأصل وهو الذى يتبعه ويدخل فيه الايمان بملائكته وكتبه ورسله بدون تفريق بين الرسل. حين يحدث التفريق بين الرسل يتبدل الوضع ، فالتقديس الذى يجب أن يكون لله تعالى وحده يتم إقتطاع جزء منه ليضاف للرسول المميز ، ويصبح الايمان بذلك الرسول المميز إيمان تأليه وتقديس ومختلفا عن الايمان العادى ببقية الرسل ، أى يتحول الى كفر بالله جل وعلا حيث جعل ذلك الرسول شريكا مع الله فى التقديس ، بينما يحرم بقية الرسل من تلك الميزة ، وبالتالى فانه لا يكفر فقط بالله ، ولكن يؤمن بالأوهية رسول ويكفر بالوهية الرسل الآخرين ، وفى كل الأحوال يقوم بالتفريق بين الله ورسله ، فبعد أن كانوا جميعا رسلا لله بدون تمييز لأحدهم على الآخر أصبح أحدهم مذكورا بالاسم الى جانب الله جل وعلا. ولأنهم سيفعلون هذا بعد انتهاء القرآن الكريم نزولا فلا بد أن يقوموا بتأويل الآيات واختراع الأكاذيب ليؤسسوا سندا لمزاعمهم التى تخالف القرآن الكريم . ولأنه لا حجة لهم ولا عذر بعد وضوح القرآن الكريم فان الله جل وعلا اعتبرهم كفرة حقا واعدّ لهم عذابا عظيما . كل هذا أوجزه رب العزة فقال (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ). ثم جاء الالتفات الى المؤمنين (حقا ) فقال تعالى فيهم بصيغة المضارع ايضا يخاطبهم فوق الزمان (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) .

إنها آية من آيات القرآن الكريم وإحدى إعجازاته حين ينبىء بما سيحدث مقدما ويحذر منه .

ومع ذلك فسيظل بعضهم متمسكا بما وجد عليه آباءه راضيا بأن ينطبق عليه قوله تعالى (أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا)

أخيرا :

ويبقى أن نتساءل :

1 ـ إن تصحيح عقائدنا ممكن لو أردنا الهداية بصدق . وتصحيح عقائدنا يدخل فى دائرة الاستطاعة فلماذا لا نفعل ما هو ممكن ، وقبل فوات الأوان ؟

2 ـ هب إننى أتعسف القول وأبالغ .. فلماذا لا تتدبر الآيات وتخلو بنفسك متفكرا طالبا الهداية ؟

3 ـ فى النهاية فهذا أمر يخص الآخرة , ولا شأن له بمطامع الدنيا وصراعاتها ..ومعظم المسلمين ضحايا للاستبداد والاستعباد و الفساد ، وقد خسروا الدنيا ، فهل يخسرون الآخرة أيضا ؟

4 ـ إذا كان النضال فى سبيل اصلاح هذه الحياة الدنيا تحول دونه جيوش المستبدين مما يجعل الاصلاح مستحيلا فى المدى المنظور ، اليس من الأفضل أن نصلح عقائدنا وهو فى إطار الممكن ؟ أم أنه مكتوب على المسلمين منذ قرون أن يخسروا الدنيا والآخرة معا؟

5 ـ على الأقل فان دخول الجنة أقل تكلفة من دخول النار ..

أليس كذلك ؟ أم هو كذلك ؟

 

المقال القادم (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ )

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المقال الثاني:

فى التفريق والتفضيل بين الأنبياء وشهادة الاسلام

(تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض )

 

 

مقدمة :

1 ـ هذا البحث كان من قبل خطبة جمعة ألقيتها فى مساجد جماعة دعوة الحق التى كنت مشرفا عليه وقت غياب صاحبها (د. سيدرزق الطويل) فى السعودية، وثار علىّ وقتها شيوخ الأزهر فى كلية أصول الدين فى طنطا حيث كنت أذهب الى هناك مرة فى الشهر لألقى خطبة الجمعة ، وتحديا لهم نشرت البحث فى مجلة الجمعية ( الهدى النبوى )، فتعاظمت ثورتهم وأهدروا دمى لو ذهبت الى طنطا ، فتحديتهم وصممت على أن أكون منتدبا للتدريس يوما اسبوعيا فى كلية أصول الدين فى طنطا عقر دارهم لأدرس للطلبة ما ينكره أولئك الشيوخ ، ولم أنقطع عن خطبتى أول كل شهر فى مسجد دعوة الحق فى طنطا ، وخطبت فى إنكار الشفاعة وعصمة الأنبياء والتناقض بين البخارى و القرآن .

دبروا مؤامرة لقتلى فى مشاجرة ـ حتى يضيع دمى بين القبائل ـ، فطلبوا مناظرتى ، وقبلت ، وتحدد موعدها ومكانها فى مسجد دعوة الحق يوم شم النسيم عام 1984 ـ أى منذ ربع قرن ـ سافرت كالعادة من القاهرة الى طنطا وحدى.دخلت المسجد فوجدتهم قد تجمعوا فيه ، تكلمت بالقرآن ، ثم بدأت كلامى عن البخارى بقولى : ( البخارى بشر غير معصوم ، ومن اعتقد العصمة فى البخارى فقد كفر بما أنزل على محمد ). عندها وقف شيوخ كلية أصول الدين وغادروا المكان ، وكأنها إشارة البدء إذ هجم علىّ كثيرون يريدون الفتك بى ، فأحاطنى أهل المسجد يحموننى وحملونى الى غرفة داخلية، وطردوا البغاة. صمم أهل المسجد على أن أتم محاضرتى ، وعادت أجهزة التسجيل ، وانطلق صوتى بالميكروفون أكمل كلامى ، وبدأ الذين تركوا المسجد ـ ومنهم المهاجمون الغاضبون ـ يعودون شيئا فشيئا، وبهدوء الى ان تكامل العدد كما كان ،واستمعوا لى بهدوء وتأثر وأنا أقرأ لهم من كتاب البخارى وأسألهم هل يرضون بهذا الطعن فى الله تعالى ورسوله ، وأحيانا كانت تغلبنى دموعى مؤكدا لهم أنه ليست لى مصلحة شخصية سوى الدفاع عن دين الله جل وعلا ،وفى سبيله أتحمل الأذى منهم ومن الآخرين .

كانت هزيمة قاصمة لشيوخ الأزهر فى فرع طنطا التابع لجامعة الأزهر ، فطلبوا من الجامعة ومن أمن الدولة عدم السماح لى بالتدريس منتدبا فى كلية أصول الدين فرع طنطا ، وتم لهم ما أرادوا .

وردا عليهم جميعا أدخلت البحث وأبحاثا أخرى فى كتبى التى قررتها على الطلبة فى جامعة الأزهر عام 1985، وخصوصا كتاب (الأنبياء فى القرآن الكريم: دراسة تحليلية).

وتحركت السفارة السعودية فى القاهرة بنفوذها وريالاتها ، وفى الخامس من شهر مايو عام 1985 تمت إحالتى الى التحقيق داخل جامعة الأزهر متهما بأننى فى كتاب ( الأنبياء فى القرآن الكريم ) وفى اربعة كتب أخرى أنكرت عصمة الأنبياء ( المطلقة ) و شفاعة النبى ، وأننى رفضت تفضيل النبى محمد على الأنبياء السابقين . والقصة معروفة وانتهت بتركى جامعة الأزهر عام 1987 ، ودخول السجن فى نفس العام ،وتحقق أكبر نصر للنفوذ السعودى و الريال السعودى.

ويوم اعلان القبض علينا قام السنيون بتعليق لافتات على مساجدهم فى طنطا تقول ( الحمد لله قبضوا على منكر السنة ).

أى إن بحث ( التفضيل بين الأنبياء ) يحتل موقعا هاما فى سيرة حياتى و تاريخ الأزهر.

 

2 ـ وفى هذا البحث تعرضت إجمالا للعناصر الثلاثة: التفريق بين الرسل وتحليل لموضوع التفضيل بين الرسل وتناقض تفضيل النبى محمد على الأنبياء السابقين مع الاسلام .

وسبق نشر موضوع النهى عن التفريق بين الرسل ، ونتوقف الان مع الموضوع التالى وهو تحليل التفضيل بين الرسل فى رؤية قرآنية .

 

 

أولا : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ )

1ـ العادة انك لو قلت لأحدهم إنه لا يصح تفضيل النبى محمد على من سبقه من الأنبياء فإنه يرد كالببغاء قوله تعالى (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ).

نقول( كالببغاء ) ولا نعتذر عن هذا التشبيه لأنه حقيقى ، فصاحبنا الببغاء هذا يردد ـ دون أن يعقل ـ ما اعتاده السابقون قوله دون عقل ، إنه مجرد اقتطاع جزء من آية قرآنية من سياقها والاستشهاد بها خلاف ما تدل عليه .ولو تدبر فى الآية الكريمة ما فعل .

2 ـ الاية الكريمة تقول : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) وتبدأ بكلمة (تِلْكَ ) وهى إشارة الى رسل سابقين ورد ذكرهم قبل تلك الآية الكريمة، منهم داود الذى ورد ذكره فى قوله جل وعلا :( فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) ( البقرة 251 : 252 ) بعدها قال تعالى : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ). أى يشير رب العزة الى أنبياء محددين هم داود والنبى الآخر الذى أشار على بنى اسرائيل بأن طالوت قد بعثه الله تعالى عليهم ملكا ، بعد موت موسى عليهم جميعا السلام فى قصة سبقت موضوع التفضيل ( البقرة 246 : 252 ) وبالتحديد فالاشارة الى ثلاثة من رسل الله هم موسى و ذلك النبى الذى لم يذكر الله تعالى اسمه ( اسمه فى التوراة صموئيل )، وداود ، عليهم السلام.

3 ـ ثم تأتى الآية الكريمة تقول عنهم (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) ويأتى التفصيل فى نفس الآية ، فيقول رب العزة : ( مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ) وواضح هنا أن الكلام عن تفضيل موسى عليه السلام بالتحديد ، أى إن الله جل وعلا رفعه درجات . ويقول رب العزة عن عيسى عليه السلام فى سياق التفضيل و التميز : (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) ثم يقول جل وعلا عن أتباعهم واختلافاتهم : (وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ) ( البقرة 251 : 253 ). أى لا توجد أدنى إشارة لمحمد خاتم النبيين هنا على الاطلاق لأن الحديث عن جماعة من رسل الله تعالى لبنى اسرائيل تعقيبا على قصة من قصصهم فى القرآن الكريم.

3 ـ الأهم من هذا هو قوله تعالى (فَضَّلْنَا) فى (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) وهى واضحة لكل من يبصر فى أن التفضيل حق الاهى لله تعالى وحده ، فالله وحده هو الذى يملك حق التفضيل، وهو وحده الذى يملك رفع بعضهم فوق بعضهم درجات:(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) وهو وحده جل وعلا الذى آتى عيسى عليه السلام البينات وأيده بروح القدس: ( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) وهو وحده جل وعلا الذى يفعل ما يريد (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ).

الله جل وعلا وحده هو الأعلم بمن خلق ، هو أعلم بنا من أنفسنا: (رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً )، وهو الأعلم وحده بحياة كل نبى وسريرته ومدى طاعته وجهاده، وعلى أساس علمه بهم يأتى تفضيله لبعضهم على بعض، ولهذا تقول الآية التالية: (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) (الاسراء 54: 55).

أما نحن البشر فليس فى علمنا هذا ، لم نر نبيا من الأنبياء ، ولا نعرف عددهم الحقيقى ، بل حتى لا يعرف ذلك خاتم النبيين محمد عليه وعليهم السلام : ( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) ( النساء 164) وبالتالى فإن من يفاضل بين الأنبياء إنما يضع نفسه فى موضع رب العزة جل وعلا ، وليس هذا مجرد استنتاج من القرآن الكريم ، ولكنه استنتاج عقلى أيضا فالمدرس هو الذى من حقه أن يفاضل بين تلاميذه حسب اجتهادهم الذى يراه ويحكم عليه ، وهو له منزلة تتيح له هذا وترفعه فوق مستوى تلاميذه.وذلك الذى يقوم بالتفضيل بين الأنبياء إنما يتربع فوق كرسى وينظر من أعلى للأنبياء ليقرر من هو الأفضل ، اى يرفع نفسه فوقهم ، وبالتالى يزعم لنفسه ـ دون أن يدرى ـ الألوهية .

أما المؤمن الحق فلا يعطى نفسه هذا ، يكتفى بتدبر القرآن الكريم والالتزام بما جاء فيه من عدم التفريق بين الرسل ووجوب الايمان بهم جميعا دون تفرقة بين هذا أو ذاك : ( البقرة 135 : 138 ، 285 )( آل عمران 83 : 85 )، وان من يفرق بين الرسل فهو عند الله تعالى كافر ( النساء 150 : 152 ) وأن الايمان ليس بشخص النبى وإنما بالرسالة والكتاب :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا ) ( النساء 163 ).

ثانيا : ملامح قرآنية فى مدح بعض الأنبياء والرسل السابقين بعد موتهم:

نحن هنا لا نحكم بتفضيل نبى على آخر ، ولكن نتدبر ما قاله رب العزة فى مدح بعض رسله ، وهو جل وعلا وحده صاحب الحق فى التفضيل بين عباده من الأنبياء.

مدح ابراهيم عليه السلام

1 ـ ابراهيم عليه السلام هو النبى الوحيد ـ فى القرآن الكريم ـ الذى تتابعت فيه صفات المدح الآتية : (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل 120: 123). مدحه الله جل وعلا بأنه كان (أمة ) من الأخلاق الحميدة ، قانتا عابدا لله تعالى ، لم يقع فى الشرك ، وشاكرا لأنعم ربه ، وقد إجتباه ربه وهداه للصراط المستقيم ، وأنعم عليه فى الدنيا بحسنة ، وأعد له درجة الصلاح فى الاخرة ، ثم فى النهاية يأتى الأمر للنبى محمد ـ وهو حىّ يرزق ـ بأن يتبع ملة ابراهيم .

2 ـ ابراهيم عليه السلام هو النبى الوحيد ـ فى القرآن الكريم ـ الذى جعله الله تعالى إماما للناس ، بسبب نجاحه فى الاختبارات التى أدخله الله تعالى فيها ، ونجح فى تنفيذ الأوامر بالتمام والكمال ، فقال عنه ربه جل وعلا : (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) ( البقرة 124 ) أو بالتعبير القرآنى (وفّى ) أى قام بما عليه بالتوفية الحقة : (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) ( النجم 37 ).

3 ـ وهو النبى الوحيد الذى عندما أنّبه الله تعالى مدحه ،اى مدحه فى معرض اللوم ، إقرأ قوله تعالى : (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ )( هود 69 : 76 )

أخطأ ابراهيم هنا حين أخذ يجادل الملائكة فى رفع العذاب عن قوم لوط ، وجاءه اللوم هينا رفيقا ومقترنا بالمدح (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ).

جدير بالذكر أن الله تعالى حين كان يعاتب خاتم الأنبياء فلم تكن فيها هذه النغمة الحانية بل كان العتاب قاسيا كقوله تعالى فى خطاب مباشر (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ) ( الأحزاب 37 ). التأنيب هنا شديد فى قوله تعالى له (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ) أو كقوله تعالى له فى خطاب مباشر أيضا(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ) ( التحريم 1 ) التأنيب هنا قاس فى قوله تعالى له (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ).

4 ـ وابراهيم عليه السلام هو النبى الوحيد المذكور بالاسم الذى امر الله تعالى رسوله محمدا خاتم النبيين بأن يعلن أنه متبع لملته : (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ( الأنعام 161 ).

5 ـ وملة ابراهيم هى المقياس الصحيح للفلاح ، ومن يرغب عنها ويعرض عنها فهو السفيه الغافل ، يقول جل وعلا : (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) ( البقرة 130 ). ويلاحظ هنا أن الآية الكريمة قسمان ، تحدث القسم الأول عن تسفيه من يعرض عن ملة ابراهيم، ومدح القسم الثانى ابراهيم هليه السلام بان الله تعالى اصطفاه فى الدنيا ، وأنه فى الاخرة سيكون من الصالحين.

6 ـ جدير بالذكر أيضا أن المقياس الالهى الذى تركز حول ابراهيم وملته قد فضح الظالمين من ذرية ابراهيم الذين جاءوا بعده ، من العرب وبنى اسرائيل .

ونتذكر هنا حرص ابراهيم على هذه الذرية وخوفه المستقبلى عليهم حين كان يدعو ربه (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء ) ( ابراهيم 40 ) ،بل أنه عندما كافأه ربه بأن جعله إماما للناس الصالحين فى كل زمان ومكان تمنى أن يكونوا ذريته فجاء الرد من الله تعالى بما يشير الى إن من ذريته من سيكون ظالما لا يصلح لهذا الشرف:(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(البقرة 124).

من هذه الذرية من رغب عن ملة ابراهيم ، ومنهم من جعلها تجارة ، ومنهم من كفر وقام بتحرف الملة الابراهيمية ، وعندما نزل القرآن الكريم بالحق كان أولئك يباشرون نشاطهم فى تحريف ملة ابراهيم ، فثار جدل ونقاش تردد صداه فى القرآن الكريم ، ورد الله تعالى عليهم يدعوهم الى ملة ابراهيم التى تركوها مع انتحالهم اسم ابراهيم وجعله يهوديا أو نصرانيا :(وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ) (البقرة 135 ، 140 ) ويؤكد رب العزة أن أولى الناس بابراهيم هم النبى محمد عليه السلام ومن يتبع القرآن الكريم الذى أبان ملة ابراهيم على حقيقتها : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران 65 : 68 ) .

وبعد موت النبى محمد عليه السلام دخل فى الفتوحات العربية ـ المناقضة لتشريع الاسلام ـ كثيرون من أهل الكتاب ، ودخل معظمهم فى الاسلام ،فأرجعوا نفس التحريف القديم فى ملة ابراهيم فى صورة أحاديث . وسبقت الاشارة الى أن الله تعالى جعل ابراهيم وملته مقياسا ، ومن يرغب عن ملته فقد سفه نفسه. وبهذا المقياس فضح الله تعالى كثيرين من أهل الكتاب ورد عليهم . وبعد نزول القرآن الكريم وموت النبى محمد تردد نفس التزوير فى أحاديث زورها مبتدعو الديانة السنية ، وانصب بعض هذا التزوير على سيرة ابراهيم العطرة . أى أن ذلك المقياس المشار اليه القرآن الكريم يحكم علي من يرغب عن ملة ابراهيم حتى فى المستقبل ، فى صورة من صور الاعجاز فى القرآن الكريم .

وللتدليل على ذلك نتذكر مدح الله جل وعلا للخليل ابراهيم بأنه كان صديقا نبيا(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا) ( مريم 41 ) . أى لم يكن فقط (صادقا ) بل (صديقا ) وهى صيغة مبالغة من الصدق تعنى أنه لم يكذب أبدا ، حتى لقد تعرض للتحريق بالنار دون أن يتراجع أو يمالىء . ثم جاء وصفه بالصديق قبل وصفه بالنبوة ، فلم يقل تعالى : كان نبيا صديقا ، أى تعلم الصدق بعد أن صار نبيا ، ولكن جعل صفة المبالغة فى الصدق سابقة لنبوته ،أى التزم الصدق مذ كان صبيا ، أى إن الصدق صفة أساس فيه من بدايته الى نهايته ، ولكن حديث أبى هريرة فى البخارى يبالغ فى وصف ابراهيم بالكذب فزعم أن ابراهيم كذب ثلاث كذبات.

هنا يصدق عليهم المقياس الالهى ، فهم قد حرفوا سيرة ابراهيم ، وإذا كان رب العزة قد جعله صديقا نبيا فقد جعلوه كذابا .

وقد يتساءل بعضهم : وما صلة هذا بموضوع التفضيل ؟ وأقول إن هذا الافتراء هو تدليل زائف لجعلهم محمدا أفضل الأنبياء ،أى أفضل من أبيه ابراهيم ، ويستدلون بأن ابراهيم كان كذابا ، وبالتالى فمحمد الصادق الأمين أفضل منه.

مدح موسى عليه السلام :

1 ـ يقول تعالى :(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا) (مريم51: 53) هنا يمدح الله تعالى موسى عليه السلام بأنه كان (مُخْلَصًا) ـ بفتح اللام ـ أى خلاصة الخير ، وأن ربه جل وعلا هو الذى ناداه وكلمه ، بل أكثر من ذلك قرّبه اليه يناجيه (وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا)، وهو تعبير هائل فى مدح موسى ، ثم من أجله جعل هارون أخاه وزيرا ونبيا معه .

2 ـ وورد أول حديث لله تعالى مع موسى فى سورة (طه ) حين جاءه التكليف بالرسالة ، خاف موسى من فرعون وطغيانه وطلب أن يكون معه أخوه هارون ، ولم يرد الله تعالى عليه بالتأنيب ولكن ذكّره بالنعم التى احاطه بها، ومنها:( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي )،(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي )(طه 9 : 41 ) ولا يستطيع القلم وصف ما فى الآيتين من مدح لموسى عليه السلام.

مدح داود عليه السلام :

1 ـ يقول جل وعلا عن داود عليه السلام فى معرض مدحه لداود عليه السلام يخاطب خاتم الأنبياء عليهم السلام: (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ). وهذه النعم لم يزدد بها داود عليه السلام إلا ورعا وخشوعا لله تعالى .والابتلاء بالنعمة أعظم من الابتلاء بالمحنة .

وفى سياق المدح وللتدليل على خشوع داود لربه عز وجل يقص الله تعالى قصة الخصوم الذين تسوروا المحراب على داود وهو يصلى ففزع منهم وظن أنها فتنة من الله ، وعندما تبين له الأمر وأنهم خصوم عاديون بادر بالاستغفار والتوبة من الظن الذى ألمّ به : (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ )( ص 17 : 24 ).

2 ـ على خلاف ذلك تقرأ فى تراث الدين السّنى روايات تطعن النبى داود عليه السلام ، وننقل عن القرطبى فى ( تفسيره ) قوله (قال سفيان الثوري وغيره‏.‏ وسبب ذلك ما حكاه ابن عباس أن داود عليه السلام حدث نفسه إن ابتلي أن يعتصم‏.‏ فقيل له‏:‏ انك ستبتلى وتعلم اليوم الذي تبتلى فيه فخذ حذرك‏.‏ فأخذ الزبور ودخل المحراب ومنع من الدخول عليه، فبينا هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر كأحسن ما يكون من الطير، فجعل يدرج بين يديه‏.‏ فهم أن يتناوله بيده، فاستدرج حتى وقع في كوة المحراب، فدنا منه ليأخذه فطار، فاطلع ليبصره فأشرف على امرأة تغتسل، فلما رأته غطت جسدها بشعرها‏.‏ قال السدي‏:‏ فوقعت في قلبه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وكان زوجها غازيا في سبيل الله وهو أوريا بن حنان، فكتب داود إلى أمير الغزاة أن يجعل زوجها في حملة التابوت، وكان حملة التابوت إما أن يفتح الله عليهم أو يقتلوا، فقدمه فيهم فقتل، فلما انقضت عدتها خطبها داود، واشترطت عليه إن ولدت غلاما أن يكون الخليفة بعده، وكتبت عليه بذلك كتابا، وأشهدت عليه خمسين رجلا من بني إسرائيل، فلم تستقر نفسه حتى ولدت سليمان وشب، وتسور الملكان وكان من شأنهما ما قص الله في كتابه‏.‏ ذكره الماوردي وغيره‏.‏ ولا يصح‏.‏ قال ابن لعربي‏:‏ وهو أمثل ما روي في ذلك‏.‏ قلت‏:‏ ورواه مرفوعا بمعناه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول عن يزيد الرقاشي، سمع أنس بن مالك يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن داود النبي عليه السلام حين نظر إلى المرأة فهم بها قطع على بني إسرائيل بعثا وأوصى صاحب البعث فقال‏:‏ إذا حضر العدو قرب فلانا وسماه، قال فقربه بين يدي التابوت - قال - وكان ذلك التابوت في ذلك الزمان يستنصر به فمن قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو ينهزم عنه الجيش الذي يقاتله فقدم فقتل زوج المرأة ونزل الملكان على داود فقصا عليه القصة )‏‏

وبهذه الروايات تم تشويه سيرة ذلك النبى العظيم الذى قال عنه رب العزة فى سياق التفضيل (وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء ) ( البقرة 251) وأفرده بالذكر من بين جميع الأنبياء فى موضوع الوحى فقال تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) ( النساء163 ) وأفرده من بينهم فى معرض التفضيل (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا)( الاسراء 55 )

اولو العزم من الرسل :

وقد أمر الله تعالى خاتم الأنبياء بأن يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ، فقال : (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) ( الأحقاف 53)، أى هناك من الرسل من تفوق فى التحمل والصبر ، وقد أشار الله تعالى بعضهم فقال فى معرض مدح ابراهيم واسحاق ويعقوب مخاطبا خاتم الأنبياء بأن يذكرهم : (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ )( ص 45 : 47 ) . أى مدحهم الله تعالى بأنهم كانوا يتذكرون الآخرة دائما ، وأنهم ممن اصطفاهم الله تعالى وكانوا أخيارا . الشاهد هنا هو قوله تعالى عنهم (أُولِي الأَيْدِي) أى أولى العزم . ويضاف اليه (وَالأَبْصَارِ) أى أولو البصيرة الصادقة .

وفى التراث السنى يزعمون أن أولى العزم من الرسل هم محمد ونوح وابراهيم وموسى وابراهيم وعيسى .. أى يتدخلون فى علم الله تعالى وغيبه ويهرفون بما لا يعرفون.

 

ثالثا : موقف النبى محمد من الأنبياء السابقين :

1 ـ مرّ فيما سبق أن الله تعالى أمر خاتم النبيين أن يتبع ملة ابراهيم بالتحديد ، أى اتباع للدين الحق الذى جاءت به ملة ابراهيم ، ونزل القرآن لتجديدها بعد أن أفسدها العرب واهل الكتاب . ومن هنا نفهم ان محمدا عليه السلام لم يأت بدين جديد بل هو متبع للدين الالهى الحق الذى جاء به كل أنبياء الله ، وكان جده الأعلى ابراهيم هو صاحب هذه الملة ، ومنها تعلم العرب وأهل الكتاب من ذرية ابراهيم الصلاة والزكاة والحج وصيام رمضان مع اخلاص الدين لله تعالى رب العالمين. وبالتالى فليس محمد مبتدعا لشىء جديد أو ليس ( بدعا من الرسل ) ، وبهذا أمره ربه جل وعلا فى آية واحدة أن يعلن أربعة أشياء : أنه ليس متميزا عن الرسل أو ليس بدعا من الرسل ، وأنه لا يعلم الغيب ولا يدرى ماذا سيحدث له أو للآخرين ، وأنه متبع فقط للوحى ، وأنه فقط نذير مبين ، جاء هذا فى قوله جل وعلا : (قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) ( الأحقاف 9 ).

ولأنه آخر الأنبياء فهو مأمور من الله تعالى بأن يتبع الهدى الذى جاءوا به ، وقد قال الله تعالى عن الأنبياء السابقين (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)(الأنعام 89)، أى أمره ربه بالاقتداء ليس بالأنبياء السابقين أى ليس بأشخاصهم ولكن بالهدى الذى نزل عليهم، أى بالكتاب السماوى، والذى جاء توثيقه وحفظه فى القرآن الكريم خاتم الرسالات السماوية.

وهو أيضا مأمور بأن يتعلم من مواقفهم الايجابية ، وحين وقع النبى محمد وأصحابه فى خطأ الاستغفار لأهلهم المشركين فجاء التعليم من الله تعالى له ولهم بأن يقتدوا بابراهيم عليه السلام حين تبرأ من أبيه المشرك : (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُولِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) ( التوبة 113 : 114 ) ونفس الحال أمر الله تعالى المهاجرين بالاقتداء بابراهيم والمؤمنين معه حين تبرءوا من قومهم السابقين ، أى هنا إقتداء بالموقف المحدد:(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) ( الممتحنة 4 : 6 )

2 ـ وفى نفس الوقت فخاتم الأنبياء منهى عن الوقوع فى الأخطاء التى وقع فيه بعض الأنبياء من قبل ، فقد أمره الله تعالى أن يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ )(الأحقاف 53)، وأمره أيضا بالصبر ونهاه أن يكون مثل النبى يونس الذى لم يستطع الصبر على قومه فعوقب بالتهام الحوت له ، ثم عفا عنه ربه : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) ( القلم 48 : 50 ) و ( الصافات 139 : 148 ).

أى أمره ربه بأن يتعلم من ايجابيات الأنبياء السابقين وألا يقع فيما وقع فيه بعضهم من أخطاء.

أخيرا :

1 ـ والله تعالى حين كان ينزل القرآن على خاتم النبيين متحدثا عن الأنبياء السابقين فانما كان يتحدث عن أنبياء ماتوا وتحددت درجة كل منهم ، فى وقت كان فيه خاتم النبيين حيا يرزق يناضل ويجاهد ويتعلم ويخطىء ويصيب ، ويأتيه الوحى بالتوجيه ، يمدحه أحيانا ويلومه أحيانا.

ثم تم القرآن الكريم نزولا ومات النبى محمد عليه السلام ، وتحددت درجته بين الأنبياء ، ولم يعد هناك وحى ، وبالتالى لا نعرف درجة النبى محمد بين من سبقه من الأنبياء ، هل تفوق على كثيرين أم تفوق عليه كثيرون. علم ذلك عند الله تعالى وحده ،وليس لنا أن نعتدى على غيب الله تعالى ونهرف بما لا نعرف، ونكذب على الله تعالى ورسوله.علينا أن نتمسك بعدم التفرقة بين رسل الله ، وأن نتمسك بالايمان بالكتاب السماوى الذى نزل عليهم.

2 ـ والايمان بالقرآن يحتم علينا أن ننكر تلك الأحاديث الكاذبة التى تفضل خاتم النبيين على من سبقه من رسل الله مثل حديث (أنا خير ولد آدم ولا فخر ) وحديث ( فضلت على الأنبياء بسبع ...) ،وتلك الخرافات التى تقول ( كنت نبيا وآدم بين الماء و الطين ، وكنت نبيا وآدم لا ماء ولا طين ) (أول من خلق الله نور نبيك يا جابر ) .

ويجب أن نتوقف عن قولنا ( اشرف المرسلين ) فكل الأنبياء والمرسلين أشراف، وأن نتوقف عن قول (سيد المرسلين) لأن سيد المرسلين هو رب العالمين وحده لا شريك له.

كما يجب أن نتوقف عن كل ملامح تفضيل النبى محمد على من سبقه من الأنبياء بأن نجعله ـ دون الأنبياء كلهم ـ قرينا لله جل وعلا فى موضوع الصلاة والأذان والحج و(الفاتحة للنبى ) وفى جعل شهادة الاسلام قسمة بينه وبين الله جل وعلا .. ثم نناقض أنفسنا ، ونقول ( الله أكبر) فكيف يكون (الله أكبر ) فى عقيدتنا وصلاتنا ونحن نجعل واحدا من البشر قرينا لله وشريكا له ؟

وفى الحلقة القادمة نتوقف مع (شهادة الاسلام.. واحدة (لا اله إلا الله) وليست مثناة)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

المقال الثالث:

فى التفريق والتفضيل بين الرسل

شهادة الاسلام هى ( لا إله إلا الله ) فقط!!

 

مقدمة

1 ـ سبق التأكيد على نهى الله جل وعلا عن التفريق بين الرسل ، وأن من يصمم على هذا ويموت عليه هذا يلقى الله تعالى كافرا طبقا لما جاء فى القرآن الكريم: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا )، أما المؤمنون حقا فقد قال تعالى عنهم :(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا )( النساء 150 : 152 ) أى هى قضية (فارقة ) بين المؤمن حقا والكافر فعلا عند الله جل وعلا حسبما جاء فى القرآن الكريم. وقلنا إن التفريق بين الرسل يعنى تفضل رسول على آخر بما يمهد لرفعه الى مستوى الالوهية مع الله جل وعلا ، وهذا ما يقع فيه معظم المسلمين من أصحاب الديانات الأرضية حين يجعلون محمدا عليه السلام قرينا لله تعالى فى الذكر والتسبيح والأذان والصلاة و التشهد و الحج .. وفى شهادة الاسلام.

2 ـ شهادة الاسلام هى أصلا شهادة توحيد أى شهادة واحدة ، ولكنهم يجعلوها شهادتين ، يقسمونها بالتساوى بين ذكر الله تعالى وذكر محمد ، ولا يخلو ذكر لله تعالى من وجود محمد معه كأنما يستكثرون ذكر اسم الله تعالى وحده .

3 ـ والغريب أنهم يهتفون دائما ( الله أكبر ) ويفتتحون الصلاة ب ( الله أكبر ) أى (أكبر) مطلقا من أن يكون الى جانبه مخلوق آخر ،أو (أكبر) من أن (نذكر) معه شيئا آخر، ثم يناقضون مفهوم (الله أكبر ) حين يضيفون للأكبر جل وعلا واحدا من مخلوقاته،وهم بذلك ما قدروا الله تعالى حق قدره .

4 ـ تمييزهم (محمدا ) وحده بذكر اسمه مع الله تعالى فى شهادة الاسلام يتجلى فيه التفريق بين الرسل ، فلماذا نذكر محمدا دون عيسى أو موسى أو لوط أو ابراهيم أواسحق أو يونس ..الخ .

5 ـ وتميز (محمد) بذكره وحده الى جانب الله تعالى فى شهادة الاسلام فيه تفضيل صريح لمحمد على من سبقه من الأنبياء و المرسلين ،وليس من حق أى مخلوق أن يفاضل بين الأنبياء ، ومن يفعل ذلك لا يكون فقط كافرا بالله تعالى ورسوله ولكن يكون أيضا مدعيا للالوهية دون أن يعلم.

6 ـ وتميز (محمد) بذكره الى جانب الله تعالى فى شهادة الاسلام يجعل الاسلام دين محمد وحده دون بقية الأنبياء ، وهذا تناقض مع القرآن الكريم الذى يؤكد أن الاسلام هو دين الله تعالى الذى نزلت به كل الرسالات السماوية ، كل منها ينطق بلسان القوم الذين جاء منهم واليهم النبى أو الرسول ،الى أن نزل القرآن الكريم خاتما للرسالات السماوية بلسان عربى مبين .

7 ـ وتقديس اى نبى هو البداية التى تفتح المجال لتقديس البشر ممن يطلق عليهم الصالحين والأولياء و( القديسين )ثم ينفتح الباب على مصراعية لتقديس العصاة

التفريق بين الرسل والتفضيل بينهم وشهادة الاسلام الواحدة
يؤكد جوهر الاسلام فى العقيدة والايمان ، ومعنى أنه لا إله إلا الله جل وعلا.
more