المتحولون عن التنوير (4)

سامح عسكر Ýí 2019-03-11


 

كانت وتظل أزمة المثقفين في (هويتهم) فعندما يبحث أحدهم عن طابع وخصوصية له يجد في العادة رغباته السياسية والشخصية تدفعه ناحية هوية أخرى مختلفة عن طابعه، فيتبناها بإيجاد التبريرات المناسبة، وعند هذه اللحظة يبدأ المفكر في الانسلاخ عن طاقته الإبداعية الصادرة من طابعه الخاص واستقلاله، لذا فمنذ أن كتبت في التنوير والثقافة وأنا أربط بين الهوية والفكر والاستقلال.

فالمفكر المستقل يمكنه البحث بشجاعة وإعلان نتائج بحوثه على الملأ مهما كانت صادمة للمجتمع، أما المثقف التابع أو الموالي أو المُحالِف يفقد الأجواء المشجعة على البحث فيتكلس عقله دون أن يدري..حتى عندما يظهر بين قراءه كثير الأخطاء قليل العمق مختلف عن الصور السابقة وأضعف مما مضى لا يراجع نفسه ويصر أن العيب في الآخرين الذين لا يفهموه، ولو صدق لقال أن ما دفعه للتغيير ليس الفكر والثقافة..بل مصالح أوقفته مكانه، فلم يعد متحركا ليعرف، ذلك أن من أدنى شروط المعرفة هي الحركة والاختلاط والانفتاح، بينما المثقف من هؤلاء يعيش بصورته القديمة وسمعته الجيدة بين الناس ويظن أنها أزلية..

إنما للبعض عُذره الخاص بالخديعة إذ يبرر ضعفه بالاختلاط الشائن بين الهوية المحلية والعرقية وبين هوية الدين، فعندما يأتي أحدهم بهوية دينية جديدة يعجز عن إيقافها أو حتى مقاومتها لشيوعها بين العامة، وهذه الجزئية تظل أحد أكبر مساوئ السلطات الرجعية التي تضطر لقبول أي دين ومذهب يألفه العامة لبقاء سلطانهم، ثم يتزلفون إلى الجماهير بالتقرب أكثر من هذا الدين ..بل تصل الأمور لتمييز كهنته ورواده وإشاعة مظاهره في عقر البلاط ومؤسسات الدولة، هنا تصبح مهمة المثقف مستحيلة لوجود حاجز آخر سلطوي إضافة لحاجزيّ العامة والجهل.

فنكون قد كشفنا موضع الداء وهو "السلطات السياسية" لأن الكاهن أيا كانت قوته لن يستمر بدون دعم سياسي، فلو لم يجده أو على الأقل وقفت السلطات موقف الحياد معه سيضطر لقبول مخالفيه ونقاشهم بالحُسنى، لكن دعم الحكومات للكهنة يشجعهم على الإقصاء والتكفير والتهميش..حتى تصل الأمور للاضطهاد الطائفي والعرقي، وما جريمة قتل رؤساء شيعة مصر في زمن د. مرسي إلا انعكاسا للدعم الذي تلقاه الوهّابيون من الرئاسة حتى وصلت للتحريض العلني عليهم في مؤتمر الاستاد الشهير من قِبل الشيوخ، وقتها تحدثت مع إخواني محسوب على الثقافة قلت له لو لم يجد "محمد حسان" دعما رئاسيا وقبولا مجتمعيا ما تشجع للتحريض العلني بين الجماهير وترجمة آلاف الكتب والملجدات العنصرية في ثلاثة دقائق.

نفس الشئ يحدث الآن في صعيد مصر حيث عشرات الحوادث الطائفية والتهجير والقتل ضد المسيحيين، فلو لم يجد المسلمون تشجيعا من الرئاسة والدستور بتميزهم وعلوّ كعبهم على شركاء الوطن ما بادروا بطرد الأسر المسيحية لمجرد صلاتهم، إن المعنى المقدس للصلاه والروحاني للعبادة لا يصل للعامي وقتها، إنه يدخل معركة هوية بالأصل ضد مسيحي يعتقد أنه خطر على المسجد، رغم أن القساوسة لا يقربون المساجد..إنما بمجرد صلاة القسيس في بيته تعني تحويل هذا المنزل لكنيسة يحج إليها الراغبون، وبالتالي لم تصبح صلاة المسيحي في بيته مجرد صلاه بدون تأثير، بل ينظر إليها كشوك التين يظهر ويتمدد داخل بيوت الجيران، ويتضخم ككرة الثلج حتى يصبح المنزل مكانا شعبيا لا يقنع المسلم أنه على صواب.

وهذا ما يدفع المسلمين للاعتداء على جيرانهم المسيحيين..فالمطلوب أن يظل المسيحي ضعيفا لا شوكة له حتى يطمئن المسلم لدينه، وأن كل صلواته والأموال التي يدفعها في الزكوات والصدقات لن تذهب هباءً.

هذا ملخص الأزمة..وعنوانها الوحيد هو (السلطة) فالرئيس يعمل على تعديل الدستور ليبقى في الرئاسة عشرات الأعوام، بينما يخشى تغيير مواد التمييز الإسلامي ضد الأٌقباط لانعكاسها السلبي على حلفائه في الأزهر، ولأنها تعني حقيقة يؤكدها الإخوان ويعلمونها لأولادهم أن ثورة يونيو كانت ثورة على الإسلام وانقلابا ضد الفضيلة، والسيسي يعي تلك الحقيقة لذا فهو لم يجرؤ بعد خمس سنوات رئاسة أن يغير شئ من أوضاع الفكر والمواطنة، أو أن يعالج خللا واحدا في مواد الدستور الخاصة بالحريات وحقوق الإنسان، فالدستور كما هو الآن يقبل الشئ ونقيضه، فمثلما يقول بالحرية المطلقة يقول أن دين الدولة إسلامي وأن الأزهر هو الوحيد من له حق الإفتاء الديني، فكيف يجمع الحرية مع احتكار الفتوى لا أعلم..!.. وكيف يقول بالمواطنة وحق الإنسان بينما المسلم هو الأفضل في كل الحقوق لتضمين دينه في الدستور أعلى من كل الأديان الأخرى.

كذلك في مادة ازدراء الأديان المعيبة التي تسجن المثقفين والإصلاحيين الآن أكبر من أي معدل في تاريخها منذ الثمانينات، هذه أيضا لم يُطرح إلغائها أو تعديلها لقصور تشريعي يتطلب موافقة لجنة التشريع في البرلمان على طرحها للمناقشة أولا، وطبيعي لجنة التشريع ترفض إلغائها لطبيعة عناصرها المكونين من فقهاء ورجال دين، فبالتالي أصبح رجل الدين هو القاضي والمتهم معا، المادة تتهم رجال الدين وتقدم لهم في الأخير ليبدوا رأيا ملزِماً..وهذا غريب، لكنه ليس غريبا على مصر، فلو لم يرَ رجال الدين وشيوخ المسلمين بالذات أن الرئيس ينصرهم ويتكلم بلسانهم ما أوغلوا في تقييد الحريات وازدراء المفكرين وتكفيرهم إذا لزم الأمر.

قديما قلت أن الرئيس لو أراد إلغاء تلك المادة سيفعل ، مجرد قانون يُطرح للبرلمان، وللمعنى الصادر من ورائه برغبة الرئيس في التغيير سيوافقون، أو على الأقل تظهر خلافات لجنة التشريع موائمة للحكومة..هذا بافتراض صدق المشروع ونوايا السلطة الحقيقية بالتغيير، لكن الآن وبعد مرور خمس سنوات في نفس الأوضاع بدون حركة واحدة يُفهم منها أن السلطة داعمة للتنوير أقلها بملء الفم..أن هذا النظام خطر على الاستنارة ليس لتقاعسه وإفشاله كل محاولات التغيير الفكرية بعد يونيو فحسب، ولكن لأنه يعلن بلسانه ويُكثِر من خُطَبه الداعمة للتنوير، إنما لا يفعل شئ..قول بلا عمل، مجرد قرار ولو حبر على ورق يُعلن في الصحف القومية يثبت أن السلطة تفهم ماذا تعني الحداثة والتقدمية، ونظام القول بلا عمل في ظل القهر والمنع يضر أصحاب المبادرة والمطالبون بالتغيير ليس فقط السياسي ولكن الديني والفكري..

لذا أعد أنصار هذا النظام من المثقفين مجرد مدعين، أو بارعين في مجال واحد فقط ولديهم طاقة واحدة يتحدثون عن التغيير بشأنها..لكن التنوير كمظلة عليا وسماء تجمع الجميع هم لا يفهموه، بل بعضهم يمثل خنجر مسموم ضد الاستنارة كما أوضحنا بعض نماذجهم في الحلقات السابقة، حيث يتحدث كعلماني لكن عندما يختلف يتحدث كأصولي فيزدري ويكره ويُكثِر من هجماته العبثية ضد المخالفين حتى لو كانوا رواد ثقافة..

لم أكن أتصور أن يصل الوضع لهذا الحد المفجع، لكنه وصل ولم تفلح تحذيرات المخلصين قبل أعوام أن التغيير الفكري لن يحدث بدون تغيير سياسي، وأن الديمقراطية وحدها كفيلة بالتغيير وإصلاح العيوب، فالديمقراطية كما جاءت بمرسي في الصندوق طردته في الشوارع، نعم يخطئ الديمقراطيون لكن منهجهم لديه من الديناميكية والمرونة بالإفاقة السريعة وكشف العيوب وإصلاحها سريعا، وهذا سر تقدم كل الدول الديمقراطية ..وربما يشهد الألف الثالث عملاق أفريقي – كنظيره الأسيوي – بعد تخلص دول أفريقيا من الاستبداد ووضع أقدامهم على طُرق التغيير الديمقراطي حتى ظهرت نتائج ذلك سريعا بنمو اقتصادي واستقرار وحقوق إنسان باتت تميز بعض دول أفريقيا كرواندا وكينيا والباقي في الطريق.

أختم بضرورة فهم العلاقة بين شخصين على أنها في الحقيقة خلاف قد يكون في طبيعة التعامل بينهما وليس للفكر أي دور، فالخلافات تبدأ شخصية في الغالب ثم تتطور، والتاريخ يشهد أن كل الفرق والطوائف نشأت بخلاف بين أشخاص ثم ظل يتطور ليصبح دين أو مذهب.

فعلى كل من يختلف مع آخر بسلوك شخصي أو قول أن يركز على موضوع خلافه أولا، لا أن يتجنى ويُلبِس هذا الخلاف ثوب الاستنارة، نحن في الحقيقة ندافع عن مصالحنا في الغالب لا عن أفكارنا، وما دامت طريقة المخالف سلمية فما الضير إذن ؟!..حتى مع استخدام العنف لا يُرد عليه بتصفية جسدية ودعوات للقتل، فالعنف درجات منه الإساءة والتجني الذي قد يكون فاحشا ليس جزاؤه الموت، فقد قرأت من يحرض ضد الكاتبة وغيرها بالقتل أن أسبابه المعلنة في الحقيقة ثانوية وليست أصيلة، فجوهر أي فعل عنيف يعني وجود شئ ما غير معلن ، لأن أسباب ودوافع العنف الحقيقية لا يقبلها المجتمع كالحقد والحسد والكيد والانتقام..إلخ، إنما قد يقبله بصور أخرى شريفة كالدفاع عن الدين والوطن والمذهب والثقافة.

وإني لأرى أن دوافع انتهاج بعض العلمانيين طُرقا عنيفة في التعبير عن آرائهم لا يمثل فقط خللا في منظومتهم الفكرية، بل سقوطا نفسيا وضعفا لا يعلنوه ، فالمأزق الإنساني الذي وقعت فيه جماعات التطرف والدعشنة لن يكون غريبا أو بعيدا عن مأزق العلمانيين، الفعل واحد بأشكال مختلفة، والسر في عزوف المثقفين عن المناقشة والمواجهة الصريحة المتخلقة بأدب الحوار، في حين استبدلوا ذلك بالتشويه والاتهام وأحيانا التخوين ، فمن يدعي لنفسه فكراً عليه أن ينقذ نفسه أولا به، لا أن يبحث عن آخرين لإنقاذهم في حين لا يستفيد منه شيئا، ويقع في وحل كل ما ينتقده ويعيبه على الآخرين.
اجمالي القراءات 4041

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2012-09-25
مقالات منشورة : 788
اجمالي القراءات : 7,598,882
تعليقات له : 102
تعليقات عليه : 411
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : Egypt