أسلوب ( الإلتفات ) فى خطاب التنزيل المدنى فى سورة الاحزاب ( 1 من 2 )

آحمد صبحي منصور Ýí 2015-12-07


أسلوب ( الإلتفات ) فى خطاب التنزيل المدنى فى سورة الاحزاب ( 1 من 2 )

تميزت سورة الأحزاب ـ على قصرها النسبى ـ بتعدد موضوعاتها التشريعية العامة والخاصة والتاريخية المعاصرة لوقتها والتى تشى بأمور مستقبلية  حدثت فيما بعد ، وتخللها اسلوب الالتفات ، على النحو التالى :

المزيد مثل هذا المقال :

أولا : التشريع العام :

1 ـ  نزل تحريم الظهار ( أى أن يحرم الزوج زوجته كتحريم أمه عليه ، وكان هذا عادة سيئة فى العرب وقتها أن يقول الرجل لزوجته : أنت حرام علىّ كظهر أُمّى ) كما نزل تحريم التبنى ، فى قول رب العزة جل وعلا فى هذه الآية : ( مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) هنا حديث عن رب العزة جل وعلا الذى جعل ( قلبا ) واحدا أى نفسا واحدة فى ( القالب ) وهو الجسد البشرى . والتعبير برجل هنا لا تعنى الرجل الذكر ولكن تعنى ( المترجل بجسده ) من الذكور والاناث  . وقد أوضحنا معنى (رجل / رجال ) فى القاموس القرآنى . ثم الالتفات المركب الى المخاطب وهم المؤمنون فى إشارة الى الأزواج ( الزوجات ) فى موضوع الظهار ، والأدعياء فى موضوع التبنى  فى: ( وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ ) ثم إلتفات الى الحديث عن رب العزة جل وعلا فى : ( وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ثم نفس التفات المركب الى المخاطب نفسه مع الاشارة الى الأدعياء فى : ( ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ) ثم الحديث عن رب العزة جل وعلا فى : ( وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5).  

2 ـ فى تحريم التبنى وكان شائعا وقتها ـ ولا يزال :

2 / 1 . والتبنى يخالف الشريعة الاسلامية التى يترتب فيها حقوق من ميراث وحُرمة فى النكاح فى موضوع النسب من ألاباء والأمهات . وكان صعبا وقتها منع التبنى ، بل كان للنبى نفسه أبن بالتبنى هو زيد بن حارثة .

2/ 2 : وننبه هنا على وجود وحى توجيهى نزلت إشارات عنه فى قصص القرآن عن نوح وموسى . وفى التاريخ المعاصر للنبى محمد عليه السلام المذكور فى القرآن الكريم نجد لهذا الوحى التوجيهى إشارات، كما فى سورة التحريم وفى الوعد بالقافلة أو النصر فى ( بدر ) . ومن خلال الايمان بالقرآن نؤمن بما اشار اليه القرآن فى هذا الوحى الشفهى ، ولا إيمان بوحى شفهى  لم ترد فيه إشارة فى القرآن الذى هو الذى نحتكم اليه والذى هو المرجعية الوحيدة فى دين رب العزة جل وعلا . وسبق أن كتبنا فى هذا الوحى التوجيهى من قبل . ومن هذا الوحى التوجيهى ما يخص تحريم التبنى الذى كان عادة راسخة ، إستلزم تحريمها أن يكون النبى نفسه أول من يطبق هذا التشريع على نفسه . إذ كان للإبن بالتبنى نفس حقوق الابن من الصُّلب ، من الميراث وألا يتزوج من تزوجها الأب ، وألا يتزوج الأب من تزوجها الابن .

2 / 3 : جاء الأمر أولا صريحا بإنتساب الابن بالتبنى الى أبيه الحقيقى ، فصار ( زيد بن محمد ) ( زيد بن حارثة ) تنفيذا لقوله جل وعلا : ( ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ). ثم كانت الخطوة الأصعب فى قطع الصلة الأبوية ، وهى أن يطلق زيد بن حارثة زوجه ( زينب بنت جحش ) ليتزوجها النبى ليكون النبى نفسه قدوة فى تكسير هذا التشريع الجاهلى فى موضوع التبنى . كان زيد يعانى من خلافات مع زوجته ، ونزل التوجيه بالوحى للنبى أن يجعل زيدا يطلق زوجته ثم بعد عدتها يتزوجها النبى ليؤكد بنفسه أنه ليس للدعى أى ( الابن بالتبنى سابقا ) أى حقوق الابن للصلب . هذا الوحى التوجيهى أحرج النبى فما كان يتوقعه ، وكان صعبا أن ينفذه خشية إنتقاد الناس وإحتمالات تقولاتهم عليه ، خصوصا وهو يعايش المنافقين الذين لا يتركون فرصة للنيل منه عليه السلام .

ونتوقف مع الآيات من خلال اسلوب الالتفات :

2 / 4 : فى البداية يقول جل وعلا حكما عاما باسلوب الغائب أنه لا يصح ولا يليق بمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله جل وعلا أمرا أن يختار العصيان لأن من يعصى الله ورسوله فقد ضل ضلالا بعيدا : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) الحديث هنا بالغائب ، وهو تعريض بالنبى الذى تردد وتحرّج وعصى الأمر الوارد اليه ، لذا ينتقل الخطاب من الغائب الى النيى ، أى المخاطب فيقول له ربه جل وعلا يذكره بالعصيان الذى وقع فيه ، فقد أمره ربه أن يجعل زيدا يطلق زوجته ففعل العكس وهو أن يأمر زيدا أن يصلح ما بينه وبين زوجته وأن يتمسك بها ، يقول جل وعلا للنبى :( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ ) وتأنيبا للنبى يخاطبه ربه فيقول باسلوب لاذع ( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ) . بعد الخطاب المباشر إلتفات الى الغائب وهو زيد وزوجته : ( فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً ) ثم إلتفات مركب الى المتكلم وهو رب العزة فى إشارة الى المخاطب وهو النبى والى زينب فى كلمة واحدة هى : ( زَوَّجْنَاكَهَا ) والسبب  جاء باسلوب الغائب : ( لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً ) أى لمنع التحرج بين المؤمنين من زواج زوجة سابقة لأدعيائهم، ثم إلتفات الى الحديث عن رب العزة جل وعلا  : ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) . ثم عودة بالحديث عن النبى باسلوب الغائب كما جاء فى الآية 36 ، يقول جل وعلا يرفع عنه الحرج ( مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ) ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38)، ثم حديث بالغائب فيه تعريض بعصيان النبى وخشيته من الناس دون رب الناس جل وعلا : ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ ) ثم إلتفات بحديث عن رب العزة جل وعلا ( وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) أى فالناس لا يملكون لك حسابا ، لأنه كفى برب العزة حسيبا . ثم إلتفات مركب بتوجيه الخطاب للمؤمنين مع إشارة للنبى محمد عليه السلام : ( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) )

3 : ونضع بعض الملاحظات الإضافية  :

3 / 1  ـ  بعض أعداء النبى من أئمة المحمديين وجدوا فى هذا الموضوع فرصة لاتهام النبى بأنه كان مفتونا بزوجة زيد ، وأن هذا هو سبب تطليق زيد زوجته ليتزوجها النبى ، وقرأنا روايات حقيرة عن هذا فى تفسير النسفى الذى كان مقررا علينا فى الثانوى الأزهرى . وأولئك المفترون لم يقرأوا الآيات واضحة الدلالة وفيها التأنيب للنبى لأنه تحرج وكان يخشى ردّ الفعل من الناس .

3 / 2  ـ قوله جل وعلا : ( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ ) يتحدث عن ( محمد ) الرجل والأبُّ ، يؤكد فيه رب العزة مقدما أنه لن يعيش لمحمد ولد من صُلبه يبلغ مبلغ الرجال . أى لن يكون أبا لرجل أبدا سواء كان من صلبه أو بالتبنى لأن التبنى مُحرّم . ولنتخيل لو أنه عليه السلام كان له ذرية من الأبناء ، أى عاش أولاده الذكور فماذا كان سيفعل بهم المحمديون ، وهم الذين عبدوا بنته فاطمة وزوجها والحسن والحسين وذريتهم ؟

3 / 3 ـ  فى القرآن الكريم فالوحيد المذكور بالاسم من بين ( الصحابة ) المؤمنين هو ( زيد )، وقلنا أن القصص القرآنى لا يركز على أسماء الأشخاص . ومن عجب أن إسم ( زيد ) تحول الى رمز فى علم النحو ، فى المثال المشهور ( ضرب زيد عمرا ) ، وحين يقال عن شخص مثالا فى علوم البلاغة واللغة يقال ( زيد )  أى ( زيد من الناس ) أى تحول من إسم (علم ) الى ( نكرة ) .!

3 / 4  ـ وضح أن العتاب واللوم جاء  صراحة و تعريضا  للنبى  الذى كان يتصرف بطبيعته كأى إنسان شريف يخشى على سُمعته من أعدائه المتربصين به . ومات النبى ولا يزال أعداؤه يزيدون على عدة بلايين (فقط ) فى عصرنا هذا .!. منهم من يزعم حب النبى كالمحمديين الذين يتبعون ( لهو الحديث ) ، ومنهم من يكرهه من أصحاب الديانات الأرضية الأخرى، لأن أعدى أعداء خاتم النبيين ينسبون جرائمهم وإرهابهم الى الاسلام ورسول الاسلام عليه السلام  .  

3 / 5 : كما قلنا فى بحث الاسناد ، فإن ( السُّنّة ) هى الشرع الالهى والمنهاج . وجاءت بمعنى الشرع الالهى حتى فيما يخص النبى محمدا نفسه فى قوله جل وعلا : ( مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38)) أى إن فرض الله / أمر الله / سُنة الله هى مترادفات . أما الرسول محمد فهو الأسوة الحسنة فى تطبيق السُّنة ،وهذا ما جاء فى نفس سورة الأحزاب : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21)) لم يقل ( سنة حسنة ) بل ( أسوة حسنة ) .

3 / 6 : نلاحظ وصف الابناء بالتبنى بالأدعياء تأكيدا على نفى صلة الأبوة والبنوة بين الدعى ومن تبناه . وليس فى هذا لوم أو تقريع لهذا ( الدعى ) لأن المقصود هو وصف إنتمائه المزعوم لمن ليس أبا له . بل هو الحرص على إنتسابه لأبيه ، فإن لم يكن أبوه معلوما معروفا فهو ( أخ ) فى الدين ومولى حليف، يقول جل وعلا : (( ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ )

3 / 7 : مع أنه موضوع خاص بالنبى وكان مبعث تحرج له عليه السلام إلا إنه تشريع عام ، كان النبى فيه مثالا حتى لا يتحرج المؤمنون من تطبيق هذا الشرع . لذا قال جل وعلا من البداية : ( ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ).

3 / 8 :  والخطاب هنا للمؤمنين فى كل زمان ومكان حتى عصرنا ، ولقد جاءتنا أسئلة كثيرة فى موضوع التبنى وأجبنا عليه بالتاكيد على تحريم التبنى ، مع الاحسان للشخص دون إلحاقه بنسب مزور . ولم يكن معروفا وقت نزول هذا التشريع التأكد من نسبة فلان الى فلان ، وأصبح هذا ميسورا الآن بالحامض الوراثى( الدى إن إيه ) .

3 / 9 : معاوية هو أول من عصى هذا التشريع فى خلافته وهذا لغرض سياسى ، حين ألحق ( زياد بن أبيه ) بأبى سفيان وجعل إسمه الرسمى ( زياد بن أبى سفيان )، بعد موت أبى سفيان .. وقد تعرضنا لهذا بالتفصيل فى سلسلة مقالات ( وعظ السلاطين ) وسننشرها فى كتاب قادم بعون الله جل وعلا.

ونستكمل غدا بعون الله جل وعلا .

اجمالي القراءات 7788

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 4981
اجمالي القراءات : 53,343,522
تعليقات له : 5,323
تعليقات عليه : 14,622
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي