التمهيد لكتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية ) :
تعريفات التصوف

آحمد صبحي منصور Ýí 2014-11-20


 التمهيد : التصوف عقيدة وتاريخاً

أولاً:  لمحة عن التصوف عقيدة : ماهية التصوف . تعريفات التصوف . -اشتقاقات التصوف. مصادر التصوف .- هل يمكن أن يكون .الإسلام مصدراً للتصوف عند المسلمين ؟

ثانياً :لمحة عن التصوف تاريخا : بداية التصوف وانتشاره في الدولة الإسلامية ــ بين الزهد والتصوف . - بداية التصوف . انتشار التصوف في العالم (الإسلامي).  سيطرة التصوف علي العصر المملوكي .

                التصوف عقيدة  

أولاً: ماهية التصوف :.

* تعريفات التصوف :

 1-  يقول القشيري ( تكلم الناس في التصوف ، ما معناه، وفى الصوفي من هو، فكلعبر عما وقع له ، واستقصاء جميعه يخرجنا عن المقصود من الإيجاز  وسنذكر بعض مقالاتهم فيه على التلويح .. سئل أبو محمد الحريري عن التصوف فقال : الدخول في كل خلق سني و الخروج من كل خلق دني، وقال أحدهم سمعت الجنيدي وقد سئل عنه فقال : هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به ، وقال الحسين بن منصور عن الصوفي : وحداني الذاتلا يقبله أحد، ولا يقبل أحداً) إلخ (1) .

فالقشيري يرى أن كل صوفي عرف التصوف تعريفاً ذاتياً ، أو بتعبيره ( فكل عبر بماوقع له)  ، ومعنى ذلك أن تتعدد تعريفات التصوف ، وتتكاثر بتكاثر الداخلين في ميدانالتصوف ، حتى أن القشيري أراح نفسه من ذكر تعريفات التصوف التي ذكرها الصوفية حتى العصر الذي عاشه فقال (واستقصاء جميعه يخرجنا عن المقصود من الإيجاز )، وقد مات  القشيري سنة 465 هجرية .

ومن الطبيعي أن تتعاظم تعريفات التصوف كثرة بعد زمن القشيري، وقد دخلالتصوف في دور  الانتشار، فيقول الحلبي  في القرن الحادي عشر ( في كلام بعض المشايخ في بيان ماهية التصوف أقوال تزيد عن ألف قول)(2). أي بلغت تعريفاته عند  بعضالمشايخ أكثر من ألف .. فكيف تبلغ عند كل المشايخ ، وردد  د./ عبد الحليم  محمود قولالحلبي في تعريفات التصوف ، وأنها (أربت عن الألف ، كما يقول مؤرخو التصوفالقدماء )(3).وأورد نيكلسون قائمة بتعريفات التصوف مرتبة ترتيباً زمنياً ، وذكر بعضها بالعربيةوالفارسية (4) . ولا يزال الباب مفتوحاً على مصراعيه لتعريف التصوف عند الصوفية فيقول صوفي معاصر هو أبو الوفا التفتازاني (التصوف فلسفة حياة تهدف إلى الترقي بالنفسأخلاقياً ، وتتحقق بواسطة رياضيات عملية تؤدى إلى الشعور في بعض الأحيان بالفناء فيالحقيقة الأسمى. والعرفان بها ذوقاً لا عقلاً، وثمرتها السعادة الروحية ، ويصعب التعبيرعن حقيقتها بألفاظ اللغة العادية لأنها وجدانية الطابع والذاتية)(5).

2ـ  وحاول دارسو التصوف أن يجدوا تعليلاً وتفسيراً لهذه الكثرة الكاثرة منالتعريفات الصوفية للتصوف ، والقشيري أسبق في الإشارة إلى أن كل صوفي يعبر عنذاته في تعريفه للتصوف .

وقد أوضح أبو العلا عفيفي ما أجمله القشيري ، فيقول عن تعريفات التصوف : ( قد يكون للصوفي الواحد أكثر من تعريف للتصوف من غير أن يربط بينها رابط وذلك لأن الصوفي " ابن وقته "  فهو ينطق في كل وقت بما يغلب عليه الحال في ذلك الوقت . نعم قديقال إن الغالب على تصوف ذي النون المصري الكلام في المعرفة ، وفى تصوف أبى يزيد البسطامي الكلام في الفناء، وفى تصوف رابعة العدوية الكلام في المحبة ، وفى تصوفشقيق البلخي الكلام في التوكل ، وفى تصوف الجنيد الكلام في التوحيد، ولكن ليس معنى هذا إن تصوف كل من هؤلاء كان منحصراً في المعرفة أو الفناء أو المحبة أو التواكل إلخ . زد على ذلك إن بين التعريفات تداخلاً جزئياً أو كلياً وبعضها يكرر معاني البعض الآخربعبارات مختلفة ، وهو ما يجعل خضوعها للتصنيف العلمي أمراً عسيراً)(6) .

وما ذكره أبو العلا عفيفي يلخصه الباحث الإيراني "قاسم غني"  القائل (التصوفأمر قلبي، وهو من مقولة الأحاسيس الشخصية ، وكل واحد يعتبر التصوف هو ذلك الشيءالذي أدركه وأحس به ، ولا يمكن وصف حقيقة التصوف بتعريف عام جامع مانع يتفق عليه الجميع ) (7).

ويخرج أبو الوفا التفتازاني بتعليل جديد لاختلاف الصوفية في تعريف مذهبهم الصوفي يقول ( .. على أن كلمة تصوف ـ وإن كانت من الكلمات الشائعة ـ إلا أنها في نفس الوقت من الكلمات الغامضة ، والتي تتعدد مفهوماتها وتتباين أحياناً ، والسبب فيذلك أن التصوف خط مشترك بين ديانات وفلسفات وحضارات متباينة في عصور مختلفة ، ومن الطبيعي أن يعبر كل صوفي عن تجربته في إطار ما يسود مجتمعه من عقائد  وأفكار، ويخضع أيضاً لما يسود حضارة عصره من اضمحلال وازدهار، وتبدو التجربة الصوفية واحدة من جوهرها، ولكن الاختلاف بين صوفي وآخر راجع أساساً إلى تفسير التجربة ذاتها المتأثرة بالحضارة التي ينتمي إليها كل واحد منهما ) (8).

 واستعراض شتى تعريفات التصوف وتحليلها يخرج بنا عن الالتزام بالاختصار، إذأنها جميعا لا تخرج عن الإطار الذي عرضنا له ، ثم أن القائلين في تعريفات التصوفوشرحها إما صوفية (يعتقدون شيئاً لا يتفقون على مجرد التعريف به )، وإما فلاسفةعلمانيون كأبي العلا عفيفي ، وقاسم غنى ـ لا يفهمون الإسلام كما ينبغي، ويخلطون بينالإسلام والمسلمين على نحو ما سنوضحه في مفهوم التصوف وحقيقة  علاقته بالإسلام .

المفهوم الحقيقي

1ـ وضح من العرض السابق أن تعريفات التصوف لا تنتهي كثرة وتناقضاً واختلافاً . وأن كل صوفي يأتي لا يلتزم بتعريف من سبقه للتصوف فيأتي بتعريف جديدحتى أن (أبو الوفا التفتازاني ) ( وهو حىٌّ يرزق ) [1]،  خرج بمفهوم يرى أنه ( أكثر انطباقاًإلى مختلف أنواع التصوف )(9)، مما جعله يعدل  في تعريفه المبدئي للتصوف(10). ويأتيبالمفهوم الجديد الذي ذكرناه.

 ويقيناً فان أشياخ التصوف الآخرين المعاصرين لن يوافقوا على تعريفه للتصوفحتى وإن كانوا أقل ثقافة ( أو تصوفاً) منه ، ذلك أن لكل صوفي  ( تجربته الخاصة )التي يعبر عنها كما يقول التفتازاني نفسه . أو بتعبير الصوفية لكل صوفي (ذوقه ) أو بتعبيرنا ( لكلمنهم هواه ) .

 فالهوى هو الأساس في اختلاف الصوفية في تعريف أهم الأشياء لديهم . وهو التصوف الذي به يدينون ويوصفون . وقد يسمون الهوى (ذوقاً) عند الأقدمين أو ( تجربة ) كما عند المحدثين ، إلا أن الهوىهو المعيار الذي نفسر به حقيقة التصوف ، ولنا في ذلك دليلنا العقلي و النقلي :

 أولاً : فالتصوف ( عاطفة ووجدان ، وليس من قبيل المعرفة البرهانية ، وهو حالة سريعةالزوال ) ، وتلك سمات التصوف عند التفتازانى"11"، وقد أدخلها في مفهومه للتصوف حيثقال (.. والعرفان بها ذوقاً لا عقلاً .. لأنها وجدانية وذاتية ) . فالعقل خارج دائرة التصوف .وعداء الصوفية للعقل أمر مقرر .. وإذا غلبت العاطفة ( والوجدان والذوق والإحساس )،وحورب العقل تسلط الهوى وتناقض الإنسان مع نفسه حتى ( يكون للصوفي الواحد أكثرمن تعريف للتصوف ، من غير أن يربط بينهما رابط ، وذلك لأن الصوفي ابن وقته ، فهوينطق في كل وقت بما يغلب عليه الحال في ذلك الوقت ) ، على حد قول أبى العلا عفيفيالذي أوردناه . ولأنه "هوى" فكل صوفي يتعصب لهواه الذي يحس به في قلبه ، أو بتعبيرقاسم غنى فالتصوف (أمر قلبي وهو من مقولة الأحاسيس الشخصية، وكل واحد يعتبرالتصوف هو ذلك الشيء الذي أدركه وأحس به ، ولا يمكن وصف حقيقة التصوف بتعريفعام جامع مانع يتفق عليه الجميع ).

ثانياً : وقد جعل القرآن الكريم ( الهوى) نقيضاً للعقل ، ودعا لاستعمال العقل للوصولبه للإيمان الخالص بالله وحده ، وتكرر في القرآن الكريم (أفلا تعقلون ) (لعلكم تعقلون )،ووصف المشركين بأنهم (لا يعقلون ) وبأنهم يتبعون الهوى بلا عقل ({أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً  ؟. أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً }الفرقان 43 ،44 .ولأن كل منهم يعبد هواه وينكر عقله فقد تفرقوا شيعاً وأحزاباً وطرقاً ، ومن الملاحظأن الاختلاف سمة أساسية للتصوف يشمل كل شيء من تعريفه إلى اشتقاقاته ورسومهوشكلياته ، حتى يحتسب عمر الشقاق بين الصوفية  بعمر التصوف نفسه ، بل ومرتبطاًبعقيدة التصوف نفسها، حتى أن رويم الصوفي يقول ما تزال الصوفية بخير ما تنافروا فإذا اصطلحوا فلا خير فيهم )"12".

2 ـ وما معنى سيطرة الهوى( أو الذوق أو الحال ) على فكرة الصوفي وعقيدته ؟إن التصوف كما يقول التفتازاني : ( نوعان أحدهما ديني والأخر فلسفي ، فالتصوفالديني ظاهرة مشتركة بين الأديان جميعا)"13".. ومعناه أن التصوف الديني  إذا سيطرعليه الهوى خالف الإسلام تبعاً لمفهوم القرآن الذي لا تقديس فيه إلا لله وحده ، ولا مكانفيه للاعتقاد  في الخرافات و الآلهة الأخرى وأنصاف الآلة . فالقرآن يجعل الدين إما إخلاصاً في الإيمانبالله وحده على أساس من العقل والعلم ، وإما شركاً قائماً على الهوى والتقليد والجهلوالعمى ، ولا وسطية هنا ، والعاقل بعد أن يصل بعقله وهداية ربه إلى الإيمان الخالص باللهوحده ولياً وشفيعاً ومشرعاً . فلن يكون هناك مجال للاختلاف بينه وبين إخوانه المؤمنين ،طالما يتحاكمون إلى كتاب الله ، ويرتضون حكم الله { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ) الشورى10 )، أما أصحاب الهوى  فهم في اختلاف  وشقاق يتكاثر بتكاثر الآلهة والأولياء والمشرعين الذين يشرعون ذلك الدين  بالهوى والعاطفة فتتشابك  الأهواء ويكون الاختلافوالتنازع هو الخير عند أصحاب ذلك الدين ،  كما يقول رويم ( ما تزال الصوفية بخير ماتنافروا فإذا اصطلحوا فلا خير فيهم ).

 ويقرر التفتازاني  أن التصوف الديني  ظاهرة مشتركة بين الأديان جميعاً سواء فيذلك الأديان السماوية أوالأديان الشرقية القديمة .. أي أن التصوف وجد إلى جانباليهودية والنصرانية وأديان الفرس والهنود والصينيين، وتلك حقيقة تاريخية نجد صدىلها في القرآن الكريم في حديثه عن بعض أهل الكتاب ممن حادوا عن الطريق  وارتدوا منبعد ما جاءتهم البينان ، فاشتد  بينهم الاختلاف( وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ  :البينة:4) ويقول عن اليهود من بعد موسى (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ  هود 110 . فصلت 45 ) ، ولمحو هذا الخلاف  جاء عيسى (قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ: الزخرف63 ) ثم اختلفوا من بعد عيسى (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ: مريم 37 )، ثم جاءت الرسالة الخاتمة  بالقرآن لتدعو إلى الإيمان الخالص بالله وحده وإلى نبذ الخلافات والأهواء حتى بينأصحاب الكتب السابقة ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ :النمل 76 ). ووقع المسلمون فيما وقع فيه أهل الكتاب .

 والتصوف اليهودي والتصوف المسيحي كلاهما مسئول عن الزيغ الذي وقع فيه أهلالكتب ، فجاء القرآن ليوضح الطريق ، إلا إن أحفاد أهل الكتاب في العصر الإسلامي أبو إلا الرجوع إلى سنن الآباء، فعاد التصوف يطل برأسه يعززه الهوى وحب التراثوالمأثورات الوطنية والشعبية.  وقد تنهزم العقائد الشعبية وتنحسر مؤقتاً، إلا أن الضمير الشعبي يحافظ عليها مستورة حتى تعود إلى الظهور تحت رداء جديد لتحمل عنوان الدينالسائد وتجد من يدافع عنها ويربطها بالإسلام ، وهكذا كان مولد التصوف في الشاموالعراق ومصر في القرن الثالث الهجري.

ولعل من المفيد أن نسترجع كلمات التفتازاني ( إن التصوف خط مشترك بين دياناتوفلسفات وحضارات متباينة في عصور مختلفة ، ومن الطبيعي أن يعبر عن تجربته فيإطار ما يسود مجتمعه من أفكار).

 

 

التمهيد : إشتقاقات التصوف ومصادره.

 التمهيد لكتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

 التمهيد : التصوف عقيدة وتاريخاً

اشتقاقات التصوف

*  الاختلاف قائم هنا أيضاً في اشتقاقات لفظ التصوف .

يقول القشيري ( وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ، والاشتقاق والأظهرفيه أنه كاللقب ، فأما قول من قال إنه من الصوف وتصوف إذا لبس الصوف كما يقالتقمص إذا لبس القميص فذلك وجه ، ولكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف ،ومن قال أنهممنسبون إلى صفة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فالنسبة إلى الصفة لا تجيءعلى نحو الصوفي، ومن قال أنه من الصفاء فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد في مقتضى اللغة ، وقول من قال أنه مشتق من الصف فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم منحيث المحاضرة من الله تعالى فالمعنى صحيح ولكن اللغة لا تقتضى هذه النسبة إلى الصف . ثم أن هذه الطائفة أشهر من أن تحتاج في تعيينهم  إلي قياس لفظواستحقاق اشتقاق )(15) . القشيري أراح نفسه من الترجيح بين الآراء مع إثباته فضل الصوفية المراد بين هذه الاشتقاقات . وفى نفس الوقت نفى صحة هذه الاشتقاقات من حيث اللغة.

وناقش ابن الجوزي الآراء المختلفة في اشتقاقات التصوف ، ورجح أن تكون النسبةإلى رجل جاهلي أسمه صوفة اعتكف في البيت الحرام(16). وممن ارجع التصوف إلىالصوف ( لباس الزاهدين ) : ابن تيمية (7ا) في العصر المملوكي، ثم زكي مبارك (8ا).ونيكلسون (9ا)، و التفتازاني (20) في العصر الحديث .

ويقول باحث ( لا نجد علما يشغل البحث في اشتقاق اسمه ومعناه بمثل ما يشغلهالتصوف . هل يرد اللفظ إلى الصفاء، أو إلى الصف ، أو أهل الصفة ، أو إلى شخصجاهلي اسمه صوفة ، أو إلى نبتة صحراوية تسمى صوفانا ، أو إلى الصوف ، أو إلى اللفظاليوناني صوفيا الذي يعني الحكمة )(21).

وأقول أن اشتقاق كلمة التصوف أتى من الكلمة اليونانية ((sophy، ومن يقرأ كتاب( آباء مدرسة الإسكندرية الأوائل ) يجد الدليل على أن تصوف المسلمين  كان متأثر أشد التأثر بالتصوف اليوناني المسيحي قبل الإسلام ، وفى هذا الكتاب الذي أصدرته الكليةاللاهوتية بالإسكندرية توضيح  ـــــ بدون قصد ـــــ  للجذور التي استقى منها الغزالي وابن عربي والرواد الصوفية عناصر فلسفتهم ، وفي أن كلمة غنوص تعني العارف وغنوصية تعنى المعرفة ، وقد ترجمت الكلمتان وأطلقتا على الولي العارف ، وعلى ( علم التصوف) . أو المعرفة الصوفية ، بينما بقيت الكلمة اليونانية (sophy) صوفي كما هي بنفس اللفظ والمعنى القريب من غنوصي.

ويعنينا من هذا كله أن التصوف منذ ظهوره في تاريخ المسلمين في  القرن الثالثالهجري وحتى الآن ، لم يجد اتفاقاً حول اشتقاقه اللغوي في لغة عربية تمتاز بأنها قياسيةفي قواعدها النحوية والصرفية ، وهذا منطقي في دين  جديد يحاول أن يصل نفسه بالدين الرسمى المعلن ،  ويعانى من خلاف مستحكم بين أتباعه  في الداخل، دين يقوم على الهوى وذوقالأشياخ .

مصادر التصوف

انتقلت عدوى الاختلاف إلى دارسي التصوف من المستشرقين في تحديد مصادر التصوف .

 1ـ فمنهم من ردّ التصوف إلي مصدر فارسي مجوسي مثل ثولك ، ودليله أن كثيراً من المجوس بقى على دينه بعد الفتح الإسلامي، وظهر من أبنائهم كبار الصوفية الأوائلمثل معروف الكرخي و البسطامي، وقد رد التفتازاني على هذا الرأى بأن ( ازدهارالتصوف لم يكن ثمرة لجهود أولئك فحسب ، وإنما أعان على ازدهار التصوف كذلك عددليس بالقليل من الصوفية العرب ، نذكر منهم الداراني وذا النون المصري ومحيي الدين بنعربي وعمر بن الفارض وابن عطاء السكندري)(22). و التفتازاني يغالط في رده ، فالحديث هنا عن مصدر التصوف وبدايته لا عن ازدهارهوتطوره، ثم إن ذا النون المصري لم يكن عربياً وليس له نسب أو ولاء في العرب وإنما هونوبي قبطي، أما ابن عربي وابن الفارض وابن عطاء فقد جاءوا في القرنين السابع والثامن للهجرة ، حيث اختلطت الأنساب وشاع انتساب الأولياء الصوفية لآل البيت ليكونوا أشرافاذوى نسب يصلهم بعلي ومحمد عليه السلام ، ثم أنهم ليسوا مصدرا وروادا للتصوف فقد بدأالتصوف قبلهم بأربعة قرون .

2 - ومنهم من أرجع التصوف إلى مصدر مسيحي، بحجة وجود الصلة بينالنصارى والعرب قبل وبعد ظهور الإسلام ووجود الشبه بين الصوفية والرهبان ، ومنأصحاب هذا الرأي : ( فون كريمر، و جولد زيهر، ونيكلسون وبلاتيوس ، وأوليرى)، ويقولالتفتازاني معلقا ( ونحن وإن كنا لا ننكر تأثر بعض الصوفية المتفلسفين بالمسيحية ، علىنحو ما نجد عند الحلاج الذي استخدم في تصوفه اصطلاحات مسيحية كالكلمة واللاهوتو الناسوت وما إليها ، ولكن هذا لم يظهر إلا في وقت متأخر، أواخر القرن الثالث الهجري) (23).

ومع أن التفتازاني يسلم بالتأثر بالمسيحية إلا أنه يستمر في مغالطته ، حين يستشهدباصطلاحات الحلاج المسيحية ويقول أنها لم تظهر إلا في وقت متأخر أواخر القرن الثالثالهجري، مع أن بداية التصوف هي في القرن الثالث الهجري نفسه فكيف يعتبره وقتاً متأخراً ؟ !!.. بل إنه يقول ( شهد القرن الثالث بداية تكون علم التصوف بمعناه الدقيق )(24)!!وتكمن الطرافة في أن التفتازاني جعل أبن عربي وابن الفارض وابن عطاء مصادر للتصوف وهم عاشوا في القرنين السابع والثامن ثم يجعل الحلاج المقتول 301 هجرية يظهر في وقت متأخر وليس من متقدمي الصوفية !!

3- ومنهم من قال بالمصدر الهندي مثل هورتن وهارتمان وكانت لهم أسانيدهم ،يقول التفتازاني (ومما هو جدير بالذكر إنني لم أعثر على نصوص صريحة تدل علىمعرفة صوفية المسلمين بعقائد الهنود ورياضتهم إلا عند الصوفي المتفلسف عبد الحق ابنسبعين )(25).

 4 - وقال بالمصدر اليوناني كثرة من المستشرقين ، يقول التفتازاني (ونحن لا نذكر الأثر اليوناني على التصوف الإسلامي، فقد وصلت الفلسفة اليونانية عامة والأفلاطونية المحدثة خاصة إلى صوفية الإسلام عن طريق الترجمة والنقل أو الاختلاط مع رهبان النصارى .. وليس من شك في أن فلسفة أفلوطين السكندري التي تعتبر أن المعرفة مدركةبالمشاهدة في حالة الغيبة عن النفس وعن العالم المحسوس كان لها أثرها في التصوف الإسلامي، فيما نجده من كلام متفلسفي الصوفية عن المعرفة.  وكذلك كان لنظرية أفلوطينالسكندري في الفيض وترتيب الموجودات، عن الواحد أو الأول أثرها على الصوفيةالمتفلسفين من أصحاب وحدة الوجود كالسهروردي المقتول ، ومحيى الدين بن عربي وابنالفارض وعبد الحق بن سبعين وعبد الكريم الجيلي ومن نحا نحوهم ، ونلاحظ بعد ذلك أنأولئك المتفلسفة من الصوفية نتيجة اطلاعهم علي الفلسفة اليونانية قد اصطنعوا كثيرا منمصطلحات هذه الفلسفة مثل : الكلمة ، الواحد، العقل الأول ، العقل الكلى، العلة والمعلول الكلى..(26). وحسنا إذ اعترف التفتازاني بالمصدر اليوناني بالتصوف عند المسلمين  إذ أنه بذلكيثبت المصدر المسيحي الذي حاول إنكاره من قبل ، إذ أن مدرسة أفلوطين السكندري تمثلالمسيحية كما تمثل اليونانية .

ونقول : إنّ من الخطأ إرجاع التصوف إلي مصدر بعينه ، فكل صوفي تأثر بنشأتهوثقافته ، وعليه يمكن القول بأن مصادر التصوف لدى المسلمين تتعدد بتعدد ثقافاتهم وبيئاتهم ، وعندي أنه يمكن اعتبار الفرعونية مصدرا للتصوف للمسلمين المصريين خاصة ، فقد كان لذي النون المصري اهتمامات و تطواف بالبراري والمعابد الفرعونية أشار إليها المقريزي (27)  والمسعودي (28)..

 



[1]
كان حيا وقت تأليف هذا الكتاب ، ثم مات 1994.

اجمالي القراءات 23620

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 4981
اجمالي القراءات : 53,368,628
تعليقات له : 5,324
تعليقات عليه : 14,623
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي