الهوية والطبيعة

سامح عسكر Ýí 2014-11-10


في الخمسين سنة الأخيرة حدثت طفرة فكرية انتقل العرب والمسلمون فيها من حالة إلى حالة ، يمكن توصيف الحالة السابقة على أنها خمول واستكانة نتجت من عوامل الفقر والأمية، رغم أن بعض مجتمعات العرب-حينها-كانت تتميز بطبقة أرستقراطية غنية غاية في التسلط أو مثلما وصفها المفكر مراد وهبة..."بالبرجوازية الطفيلية".. أي التي لا همّ لها سوى العيش ولم يكن لها أدنى اهتمام بنشر الفكر والتوعية.

نتج عن ذلك أن حدث فراغ مجتمعي ارتدت فيه الأوساط الشعبية إلى أوحال ومستنقعات الصوفيين وخرافاتهم، وهي الأوحال الراسخة في الضمير العربي منذ انتصار العثمانيين ، حيث عملوا على ترسيخ مذهب الصوفية السائد منذ زمان المماليك، ولكن بنزعات جديدة واتجاهات يغلب عليها طابع التمني .

الطفرة التي أقصدها هي التي انتقل فيها العرب من ما أسميه.."بغموض الطبيعة"..إلى .. " وضوح الهوية"..وسنشرح ذلك بشئ من التفصيل.

فغموض الطبيعة -الكائن قبل حدوث الطفرة- هو جهل العرب بطبائعهم وسلوكياتهم باستسلام تام وبمنتهى الخنوع للشيوخ والدراويش، بمعنى أن الإنسان قد يشك في أفعاله وأقواله أو عدم ارتياحه لظاهرة ما أو لفعل ما، لكن لصدور هذا القول أو الفعل من الشيخ- وهو يعتقد مسبقاً بقداسته- فيقوم باستبدال شعوره الحقيقي بلاشعور مخزون في وعيه الباطن يُصدق أي مقدس ويربط بينه وبين مصلحته في دنياه وآخرته، فإذا ما حدث تصادم بين شعوره الحقيقي ولا شعوره المخزون يقوم بتفسيره على أنه قصور ذاتي، وهو التفسير الذي عمل على إشاعته الشيوخ باحتكارهم الحديث في الدين، أو ما يسمونه التخصص وأحقية أهل الذكر في الحديث حصراً عن الدين.

يعني الحالة العربية قبل 50 عاماً كانت تعني غموضاً طبائعياً لا يعلم العرب طريقهم بوضوح..

حدث بعد ذلك وبالتحديد في ستينات القرن الماضي أن ظهرت جوانب الهوية الإسلامية في أفكار وطرائق المتدينين، وإن كانت لها جذورعلى يد الإخوان وتأججت-على استحياء- في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكن ظهورها بشكل رسمي كان بظهور جماعة التكفير والهجرة المنبثقة عن جماعة الإخوان في منتصف الستينات.

نلاحظ ذلك في الأعمال الفنية التي رافقت هذه الحقبة، وكذلك دور المؤسسة الأزهرية الذي يعكس طبيعة الفكر حينها، كانت الصوفية هي كل مظاهر التدين من الأضرحة والأولياء والموالد، إلى نشر قيم الصوفية من التواضع إلى الإيثار إلى الكرم..ولكن مع كل ذلك يبقى العقل بعيداً محبوساً في قفص التقليد والتمذهب.

فعند ظهور جماعة الإخوان منذ عام 1928 إلى منتصف الستينات كان الشعور العام في مصر وفي العالَم العربي هو شعور صوفي يهتم بالتزكية والدعوة لمكارم الأخلاق ، ولأن هذا الشعور يُهمل العقل وحركة الفكر فقاموا بتفسير كل الظواهر الحضارية الجديدة من التلفزيون والسينما والصواريخ وعلوم الفيزياء والذرة على أنها من فتن وملاحم ومظاهر آخر الزمان، وهو التفسير الذي اعتمد عليه التيار السلفي-الهووي-بعد ذلك في رفض الحضارة الغربية واستعادة كل نصوص التاريخ بتمثيل عملي لها في الشارع.

بدأ هذا الجانب الهووي بالدعوة للإسلام كهوية، وليس للإسلام كسلوك، وهي الدعوة الشهيرة التي خرجت من السجون على يد جماعة التكفير والهجرة، والذي قلنا أن لها جذوراً في فكر الإخوان، وقد عملوا بها في حياة حسن البنا، ولكن ولأن الشعور العام صوفي والمجتمع يعج بصراعات الأيدلوجيات الليبرالية والشيوعية لم ينجح الإخوان في إصباغ المجتمعات بصبغة الهوية التي يدعون إليها.

ولزيادة في التعريف..نقصد بالهوية هي كل ما يُدرك بالحواس ويُشكل مجموعة صفات مشتركة، عن طريق هذه الصفات يجري تمييز أي شئ عن غيره في الذهن.

يعني ما قامت به جماعة التكفير والهجرة وقبلها جماعة الإخوان وحالياً كل الجماعات الدينية.. هو إصباغ جانب الهوية على الحياة العامة للمسلمين ككل، ومجموع الصفات المشتركة هي ما تخص الدين من شكل وملبس وعادات وشعائر ولغة ، ثم أضافت هذه الجماعات لما سبق جانب.."السلوك"..وخلطوا بينه وبين العادة، ولأن عادات الشعوب مختلفة فقد اختاروا عادات الأصل الشعبي للدين وهو شبه الجزيرة العربية، فانتشر السواك والحجاب والنقاب واللحية وسائر العادات التي يتمتع بها شعوب العرب في الصحراء.

فكان ما قاموا به يُشبه توصيف كائنات أخرى وصفاً هووياً بجمع الصفات المشتركة للكائن، كمن يبحث في فصيلة السنوريات أو الكلبيات أو الزواحف فيقوم بجمع الصفات المشتركة لكل فصيلة على حدا وإطلاقها على أي كائن يحمل هذه الصفات، ونُسمي ما قام به هؤلاء هو تعيين الهوية، فهذا الكائن لم يكن قرداً-مثلاً-قبل جمع صفاته المشتركة من الجمجمة إلى عظام الساقين إلى المفاصل إلى اليدين إلى سلوكياته ، بعدها نُطلق عليه قرداً كوصف هووي لا يُشاركه فيه كائناً آخر إلا لو تشابه معه في تلك الصفات.

هذا الجانب الهووي الذي نشرته الجماعات أُّثّر بشكلٍ واضح في فهمهم للمصطلحات، فمصطلح .."كالدولة الإسلامية "..لديهم هو مصلطح هووي صٍرف، أي لا تصح الدولة أن تكون إسلامية إلا لو اتصفت بالصفات التي أسبغوها على أنفسهم من شيوع النقاب إلى الحجاب إلى اللحية إلى السواك إلى الجلباب...إلخ.. بين شعوب هذه الدولة، ونراهم يتحدثون كثيراً في أدبياتهم عن الهوية وهم في اعتقادهم أن شرط الهوية هذا هو الصفة المُدركة بالحواس.

إن غاية ما حدث هو أن نجحت تلك الجماعات في فرض هويتهم على الشعب الفارغ ،والمستعد لقبول هذه الهوية كتفسير ربما يحل به بعض مشكلات العصر والفوارق الأخلاقية والبنيوية بينه وبين الحداثة.

ونُلاحظ أيضاً أنهم غفلوا عن جانب السلوك والأخلاقيات والحالة الإيمانية الخالصة والنظيفة للمؤمنين، وهذا طبيعي ، لأن هويتهم الإسلامية -بمجموع صفاتها المشتركة- لا تقبل أن تُنازعها هوية أخرى في نفس الصفات، و فهم يغضون الطرف عن أخلاق الصينيين واليابانيين مثلاً، أو عن تحضر ونُبل شعوب الغرب فيما بينهم، أو عن شجاعة اللاتينيين في إنصاف المظلوم، لأن اجتماع هذه الصفات في هويتهم الإسلامية تعني أن هذه الهوية ناقصة وبالتالي فلا معنى لادعائهم باحتكار الجنة والرضا الإلهي، فكانت الحاجة للتمييز عن هذه الشعوب ولم يظهر لهم سوى الشكل وبعض الصفات المدركة بالحواس والتي قد تخدع أي إنسان.

فمعلوم أن ما يُدرك بالحواس لا يُشترط كونه حقيقة

فهذا الرجل متصف بجمع صفات الهوية الإسلامية المزعومة ، لكن لديه خلل في طبيعته يحمله على السرقة والقتل والكذب.

أي أنهم حين اهتموا بالإسلام وقالوا بما أسموه.."صحوة إسلامية"..لم يكن سوى اهتمام شكلي عرضي له أبعاد اجتماعية عُرفية، قد أحدث فراغاً كبيراً بين الشكل والجوهر لديهم، فالجوهر عجزوا عن تعريفه كونه عندهم تابع للهوية ، وبالتالي أصبح الجوهر عرضاً لا فائدة منه على مستوى السلوك، فلا غرابة بعد ذلك أن نرى شيخاً أو متديناً يقتل وهو سعيد بجريمته أو يشتم أو يسرق أو يكذب وهو لا يُبالي بما يفعل بل يلجأ بكل أريحية للبحث عن تبرير لمعتقداته وأفعاله. 

أي أن السر في انتشار التطرف هو أن المتطرفين لم يهتموا بالإسلام ذاته أو بالتبعية له ، لأنهم لو فعلوا سيكشفون عن طبيعة الدين التي تتوافق مع طبيعتهم التي جهلوها في زمن انتشار الصوفية، هذا الزمن الذي عانى-ولا يزال- منه المسلمون من جهل تام بطبائعهم أو ما أسميته.."بغموض الطبيعة".

ولاختصار ما سبق نطرح هذه المعادلات

خرافات+ رغبات+ أخلاقيات= صوفية
صوفية+جهل عقلي= غموض الطبيعة
غموض الطبيعة+صدمة الحداثة= الهوية
الهوية+ الرغبات= التطرف والإرهاب

فالرغبة عن الهوية تعني اختصار الدين في الجانب السياسي، أي جانب المصالح وحصر كل مظاهر الدين في الدعوة للحُكم، وقد كان هذا هو الشغل الشاغل لأي جماعة دينية نشأت من رحم الإخوان بدءاً بالتكفير والهجرة مروراً بجماعة صالح سرية وتنظيم الجهاد ومؤخراً داعش وتنظيم القاعدة.

كل هذه الجماعات لم تهتم بالإسلام كونه دين وغاية، ولكن اهتمت بالإسلام كونه أداة ووسيلة لغاية أكبر وهي المُلك، وتبعاً لهذه الغاية سلكوا عدة طرق للدعوة إلى الحُكم منها تنمية الشعور المعادي للحضارة الغربية والناشئ كما قلنا من عجز العرب عن فهم طبائعهم الغامضة لديهم، والتي فسروا ظواهر الحضارة نتيجة لذلك بُقرب يوم القيامة واقتراب فتن وملاحم آخر الزمان، وقد رأينا ذلك واضحاً في دعوة جهيمان العتيبي حين اقتحم البيت الحرام وأعلن عن تنصيبه لأحد أقربائه على أنه المهدي المنتظر..!

إن ما سبق يدعونا إلى فهم طبائعنا الخاصة كحل أولي لمشكلة التطرف، فطبيعة الإنسان تعني تكوينه المادي والروحي والعقلي، وفهم هذا التكوين يعني ببساطة كراهية التقليد، حيث طبائع الإنسان مختلفة وصوره عن الحياة مختلفة، وثقافات الشعوب متباينة كذلك مصالحهم، كل هذا يعني ضرورة إنتاج فقه جديد وفكر جديد كل فترة يفهم بها الإنسان نفسه حسب الظروف المتغيرة، أي إنها إعادة تحكيم الثابت على المتغير باستمرار، وهي عملية ليست سهلة لأنها تهتم أولاً بالرصد، والرصد لن يكون إلا بأدوات وإرادة، فما بالنا والعرب لا زالوا يفتقدون لأدوات الرصد فضلاً عن الإرادة.

اجمالي القراءات 5483

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2012-09-25
مقالات منشورة : 788
اجمالي القراءات : 7,592,207
تعليقات له : 102
تعليقات عليه : 411
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : Egypt